التقارير

شهد شهر تموز/يوليو 2025 قرارات وأحداثاً مهمة في المسار الاقتصادي السوري، اتسمت بتركيبة متشابكة بين مؤشرات استقرار نسبي في سعر صرف الليرة السورية، وتكثيف لإجراءات الإصلاح الحكومي، مقابل استمرار التحديات البنيوية والضغوط التضخمية. ورغم أن الواقع المعيشي لا يزال هشّاً؛ إلا أن كثافة القرارات الاقتصادية وتنوع الشراكات الإقليمية والدولية التي جرت خلال هذا الشهر، تُظهر اهتماماً حكومياً ومحاولات حثيثة لتخفيف آثار الأزمة الاقتصادية في البلاد.

تتناول هذه الإحاطة الشهرية أبرز التطورات النقدية والمالية والتنظيمية التي شهدتها البلاد، وتسلّط الضوء على محاولات الحكومة توسيع هوامش المناورة الاقتصادية عبر ثلاث مسارات متداخلة: معالجة الضغوط الاجتماعية وتوسيع مظلة الحماية الاقتصادية، إعادة هيكلة الإطار القانوني والمؤسسي لجذب الاستثمار وتعزيز الشفافية، والانخراط في دبلوماسية اقتصادية فاعلة تهدف إلى تأمين الموارد الحيوية وتنويع الشركاء الدوليين.

استقرار سعر صرف الليرة

شهدت الليرة السورية خلال شهر تموز 2025 استقراراً نسبياً مقابل الدولار الأمريكي في السوق الموازية، إذ تراوح سعر الصرف فيها ما بين 9,900 و10,100 ليرة سورية للدولار، بينما ظل السعر الرسمي ثابتاً عند 11,110 ليرة سورية للدولار. وقد عُزي هذا الاستقرار الأولي إلى التوقعات الإيجابية المرتبطة بتدفقات الاستثمار والتحويلات بعد قرارات رفع العقوبات الدولية. ومع ذلك، فإن الفجوة المستمرة بين السوق السوداء والأسعار الرسمية تشير إلى عدم كفاية الاحتياطيات الأجنبية واستمرار عدم الثقة في النظام المصرفي.

من جهته، حافظ مصرف سورية المركزي على سعر الصرف الرسمي، وعمل على تقييد أنشطة صرف العملات في الشركات المرخصة وملاحقة الصرّافين الجوالين في الشوارع، بهدف كبح المضاربة وتقليل التقلبات في السوق الموازية، لكن الأخيرة استمرت في تحديد القيمة الحقيقية لليرة السورية متأثرة بالتوترات السياسية الداخلية والمواجهات العسكرية، لا سيّما في محافظة السويداء، إذ انعكست تلك الأحداث على انخفاض الطلب على الليرة السورية وزيادة الطلب على العملات الأجنبية، مما دفع سعر الصرف في السوق السوداء إلى الارتفاع.

المشهد التنظيمي والمالي

خلال هذا الشهر، صدرت سلسلة من القرارات والإجراءات الاقتصادية والمالية، التي تهدف لتحقيق الاستقرار الداخلي وجذب الاستثمارات وتعزيز سيطرة الدولة على المفاصل الاقتصادية الرئيسية. ويمكن تصنيف تلك القرارات من حيث أهدافها ضمن ثلاثة محاور، كما يلي:

  1. تحقيق الاستقرار الاجتماعي ومعالجة الضغوط المعيشية، وذلك من خلال القرارات التالية:
  • زيادة الرواتب بنسبة 200%: تأتي هذه الزيادة كاستجابة مباشرة للضغوط الاجتماعية وتآكل القوة الشرائية، ورغم أنها تهدف إلى تحسين المستوى المعيشي؛ إلا أنها تحمل في طياتها تحدياً كبيراً يتمثل في خطر التضخم، فعدم وجود زيادة موازية في الإنتاج المحلي، قد يجعل هذه الكتلة النقدية الإضافية سبباً في ارتفاع سريع بالأسعار، مما يمتص أثر الزيادة على المدى المتوسط.
  • منع استيراد الخضروات والفواكه بقرار من وزارة الاقتصاد والصناعة: يهدف القرار إلى حماية المنتج المحلي من المنافسة الخارجية، والتشجيع على زيادة الإنتاج الزراعي، والحفاظ على القطع الأجنبي عبر تقليل فاتورة الاستيراد وتخفيف الضغط على الليرة السورية.
  • إلغاء ضريبة الإيجارات السكنية من قبل وزارة المالية: تهدف هذه الخطوة إلى تخفيف الأعباء عن المواطنين، سواء كانوا مؤجرين أو مستأجرين، وتساهم في استقرار سوق الإيجارات.
  1. إعادة هيكلة البيئة التنظيمية لجذب الاستثمار، عبر العمل على خلق بيئة قانونية ومالية أكثر جاذبية لرأس المال المحلي والأجنبي، مع تعزيز الشفافية والتحول الرقمي، وذلك من خلال القرارات التالية:
  • إحداث صندوق التنمية الاقتصادية والصندوق السيادي: يعد هذان الصندوقان الذراعين الاستثماريين المباشرين للرئاسة، مما يمنحهما قوة ونفوذاً لتجاوز البيروقراطية وتسريع مشاريع إعادة الإعمار والبنية التحتية.
  • تعديل قانون ضريبة البيوع العقارية من قبل وزارة المالية: يحظى هذا القرار بأهمية كبيرة في قطاع العقارات، إذ يزيل إلغاء "القيمة الرائجة" وشطب شرط الإيداع البنكي؛ عقبتين رئيسيتين كانتا تعيقان حركة السوق وتدفعان نحو التعاملات غير الرسمية، ومن شأن هذا التبسيط أن يشجع على تسجيل العقارات رسمياً، ويزيد من شفافية السوق، ويحفز الاستثمار العقاري.
  • تنظيم أسعار المقاسم الصناعية بالدولار من قبل وزارة الاقتصاد والصناعة: يوفر تحديد الأسعار بالدولار الأمريكي استقراراً ووضوحاً للمستثمر الصناعي في ظل تقلبات سعر الصرف، مما يسهل عليه التخطيط المالي لمشروعه ويقلل من المخاطر قدر الإمكان.
  • التحول الرقمي وتأسيس مركز تحكيم: عبر التعاون بين مصرف سورية المركزي ووزارة الاتصالات، والاتفاق مع اتحاد غرف التجارة، وهو ما يعكس توجهاً قوياً نحو تحديث البنية التحتية المالية والتجارية. فالتحول الرقمي يسرّع المعاملات، ومركز التحكيم يوفر آلية موثوقة لفض النزاعات، وكلاهما عنصران أساسيان لجذب الاستثمارات الدولية.
  1. تأكيد السيادة الاقتصادية وتنظيم العلاقات الخارجية، وذلك عبر القرارات التالية:
  • قرار فصل الصرافة عن الصياغة: يهدف هذا القرار إلى تشديد الرقابة على سوق الصرف ومكافحة المضاربة على الليرة. فمن خلال حصر الصرافة بالشركات المرخصة، يسهل على المصرف المركزي مراقبة تدفقات العملة والتأثير على سعر الصرف.
  • قرار المعاملة بالمثل مع الشاحنات المصرية والسعودية من قبل هيئة المنافذ البرية والبحرية: يرسل رسالة واضحة بأن العلاقات التجارية يجب أن تقوم على مبدأ "المعاملة بالمثل"، ويهدف إلى حماية قطاع النقل البري السوري الذي تضرر كثيراً خلال السنوات الماضية.
  • تسهيل التحويلات مع السعودية: يأتي هذا الإجراء لإبداء مرونة في التعامل مع دول محورية مثل السعودية، خاصة في الجانب المالي. ويستهدف تشجيع تدفق التحويلات والاستثمارات السعودية إلى الداخل السوري، مما يوفر سيولة نقدية بالقطع الأجنبي.

بيئة الاستثمار والتعاون الدولي

تتضافر الجهود التنظيمية مع التحركات الدبلوماسية والمشاريع الميدانية لخلق بيئة استثمارية جديدة كلياً، يمكن تحليلها ضمن ثلاث مسارات رئيسية كما يلي:

  1. إعادة هيكلة الإطار القانوني والمؤسسي للاستثمار بهدف بناء هيكل إداري وقانوني مركزي وفعال، قادر على حماية المستثمر وتجاوز العقبات البيروقراطية، وفي هذا الإطار اتخذت جملة القرارات التالية:
  • المرسوم 114 (تعديل قانون الاستثمار): أقر هذا المرسوم عدة تعديلات جوهرية على قانون الاستثمار، لتحقيق الأهداف التالية: معالجة أكبر مخاوف المستثمرين من حيث حماية الملكية، عبر تنظيم إجراءات الحجز الاحتياطي ونزع الملكية مما يمنح المستثمر شعوراً بالأمان بأن استثماره محصّن ضد الإجراءات التعسفية. وحماية الابتكار من خلال حماية الملكية الفكرية لجذب المشاريع الرائدة والشركات التكنولوجية. وكذلك تقديم حوافز مالية، من خلال تعديل الرسوم الجمركية والنظام الضريبي على الآلات وخطوط الإنتاج، مما يسهم في خفض التكلفة الأولية للمشاريع ويجعل الاستثمار في القطاع الصناعي أكثر جدوى.
  • إحداث هيئات مركزية: استُحدث المجلس الأعلى للتنمية الاقتصادية، برئاسة رئيس الجمهورية، ليصبح هذا أعلى سلطة اقتصادية في البلاد، مما يضمن تنسيقاً كاملاً بين الوزارات وسرعة في اتخاذ القرارات الاستراتيجية. وكما استحدثت هيئة الاستثمار السورية، ورُبطت مباشرة برئاسة الجمهورية، مما يمنحها استقلالية ونفوذاً لتكون أشبه بـ "النافذة الواحدة" للمستثمر، وقد ينهي ذلك حالة التشتت بين الوزارات المختلفة حول وضع الاستثمارات.

تؤدي هذه الإجراءات إلى مركزة القرار الاستثماري في مؤسسة الرئاسة، مما يبعث برسالة قوية للمستثمرين مفادها أن الدولة جادة في حماية استثماراتهم وتسهيل أعمالهم، وأن قرارات الاستثمار ستكون سريعة ونافذة بعيداً عن الفساد والبيروقراطية. إلا أن ارتباط الصندوق بشكل مباشر مع الرئاسة يثير مخاوف كبيرة بشأن الشفافية والمساءلة وإمكانية التأثير السياسي والفساد. وقد يفضي تركز السلطة المالية والاقتصادية ضمن كيان واحد؛ إلى سلطة غير خاضعة للرقابة وسوء استخدام الموارد الوطنية، خاصة في غياب آليات رقابية واضحة.

  1. تفعيل المشاريع الاستراتيجية والانفتاح على الشركاء، وفي هذا الإطار أُبرمت عدة مذكرات تفاهم واتفاقيات:
  • مشاريع البنية التحتية والسياحة العملاقة: مثل مشاريع "بوابة دمشق" و"بوابة المشرق اللاذقية" (بقيمة 8 مليارات دولار)، إضافة إلى مشروع "مترو دمشق" مع مستثمرين إماراتيين والذي سيعالج مشكلة الازدحام المزمنة في دمشق. وتعكس هذه المشاريع عودة الثقة لدى المستثمرين الخليجيين بالمشاريع طويلة الأجل في سورية، لكنها بالمقابل تُظهر ابتعاداً عن المشاكل الرئيسية التي يعاني منها المواطن من قبيل؛ الأمن الغذائي والمائي، والمأوى والسكن الملائم، والقوة الشرائية، وفرص العمل، والفقر.
  • الانفتاح على الاستثمار السعودي: عُقد "المنتدى الاستثماري السوري السعودي" الذي شكّل منصة لإبرام صفقات ضخمة (بقيمة 6.4 مليارات دولار)، ويشير حجم الوفد وتنوع قطاعات الاتفاقيات (عقارات، طاقة، أمن سيبراني، طيران) إلى أن الانفتاح السعودي ليس سياسياً فقط، بل هو انفتاح اقتصادي استراتيجي.
  • إعادة بناء العلاقات التجارية الإقليمية: افتتح معرض آلات النسيج التركي، وهو ما يشير إلى رغبة في إعادة إحياء قطاع النسيج السوري، وتعميق أطر التعاون المتعلقة بالخبرات التركية واستخدام التكنولوجيا.
  1. التركيز على قطاع الطاقة كقاطرة للاقتصاد
  • إقامة معرض "سيربترو 2025" بمشاركة 100 شركة دولية وعربية، مما يعكس الاهتمام العالمي بفرص الاستثمار في قطاع الطاقة السوري، سواء في مجال النفط والغاز أو الطاقة المتجددة.
  • الشراكة الاستراتيجية مع السعودية في مجال الطاقة: زار وزير الطاقة السوري محمد البشير المملكة العربية السعودية ووقع عدداً من مذكرات التفاهم التي تتضمن التعاون في كافة جوانب الطاقة (نفط، غاز، كهرباء، طاقة متجددة)، الأمر الذي يفتح الباب أمام نقل الخبرات التكنولوجية وتطوير أداء الكوادر السورية.

التعاون الدولي: دبلوماسية اقتصادية لتنويع الشركاء وتأمين الموارد

شهد هذا الشهر تحركاً دبلوماسياً واقتصادياً مكثفاً على الساحة الدولية، يتجاوز الحلفاء التقليديين ويتجه نحو بناء شبكة واسعة من الشراكات، وتأمين موارد استراتيجية حيوية (الطاقة، الغذاء، المياه) وفتح قنوات جديدة للتعاون التقني والتجاري. ويمكن تصنيف تلك التحركات ضمن المسارات التالية:

  1. تأمين الموارد الاستراتيجية عبر دبلوماسية الطاقة والمياه، وذلك من خلال:
  • الاتفاقية الاستراتيجية مع أذربيجان (2 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً): تمثل هذه الاتفاقية "شريان حياة" طاقي لسورية، إذ توفر كمية ضخمة ومستقرة من الغاز عبر تركيا، مما سيؤدي إلى تحسن نسبي في توليد الكهرباء وتشغيل المصانع. كما تُدخل لاعباً جديداً إلى معادلة الطاقة السورية، لتقليل الاعتماد على مصدر واحد للطاقة وتعزيز أمن الطاقة الوطني. ويعزز مرور الخط عبر تركيا من واقعية العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
  • خط الغاز الإقليمي (أذربيجان-تركيا-سورية) بدعم قطري: يكمل هذا المشروع الاتفاقية السابقة ويترجمها إلى واقع ملموس. حيث يوفّر آلية تنفيذ سريعة لإيصال الغاز إلى حلب، مما يعد بإنعاش اقتصادي للمنطقة. ويُظهر وجود تنسيق إقليمي واسع (أذربيجان، تركيا، قطر) لدعم استقرار سورية في مجال الطاقة.
  • المباحثات مع الأردن: تركز على ملفين حيويين: الطاقة؛ لتعزيز تدفق الكهرباء عبر الأردن كحل سريع وفعال لتخفيف النقص في الجنوب السوري، والمياه؛ لمناقشة اتفاقيات المياه الاستراتيجية. ويظهر البلدان رغبة في حل الملفات العالقة لضمان الاستقرار على المدى الطويل.
  1. تنويع الشراكات الاقتصادية شرقاً وغرباً
  • الانفتاح على الغرب: من خلال لقاء جمع وزير الاقتصاد والصناعة نضال الشعّار بالسفير البلجيكي، ومباحثات مع شركة "نوفاتيرا" الأمريكية. وتحمل هذه اللقاءات أهمية رمزية وسياسية كبيرة، إذ تشير إلى رغبة سورية في إعادة بناء الجسور مع الغرب، واستعدادها للتعاون حتى مع الشركات الأمريكية في قطاع استراتيجي كالطاقة.
  • تأسيس "مجلس رجال الأعمال السوري الكندي"، ضمن إطار تفعيل دور الجاليات السورية في الخارج، ليكون المغتربون سفراء اقتصاديين وجسراً حيوياً لجذب الاستثمارات والخبرات من الدول الغربية.
  • تعميق العلاقات مع الشرق: تعكس زيارة وفد من مجموعة Wangkang الصينية إلى وزارة الاقتصاد السورية؛ الاهتمام الصيني المتزايد بالمشاركة في إعادة الإعمار.
  1. التعاون مع المنظمات الدولية والشركاء الإقليميين: لتحقيق أهداف تدعم الاستقرار الاجتماعي والتنمية المستدامة:
  • الشراكة مع برنامج الأغذية العالمي (WFP): وقعت وزارة الاقتصاد والصناعة السورية اتفاقية مع البرنامج لمعالجة قضية الأمن الغذائي بشكل مباشر، ضمن جهود التركيز على البنية التحتية الغذائية، وبهدف توفير الغذاء بأسعار معقولة من خلال مبادرة الخبز المدعوم.
  • التعاون مع منظمة العمل الدولية (ILO): يعتبر مشروع "حياكة الأمل" مثالاً على التعاون التنموي، إذ لا يقدم مساعدات فقط، بل يهدف لإحياء قطاع النسيج الحيوي، وتطوير مهارات العمال، لخلق فرص عمل مستدامة.
  • اللجنة المشتركة السورية الأردنية: وُقّع محضر تعاون في قطاعات متعددة (صناعة، زراعة، تحول رقمي)، بهدف تحقيق تكامل اقتصادي إقليمي يعود بالنفع على البلدين، ويعزز من حركة التجارة وتبادل الخبرات.
أيمن الدسوقي
ملخص تنفيذي في حزيران 2025، تم الإعلان عن اتفاق بين القيادتين السورية والتركية لدمج الشمال…
الخميس آب/أغسطس 14
نُشرت في  أوراق بحثية 
مناف قومان
مدخل بعد مرور ثمانية أشهر على إسقاط نظام الأسد وأربعة أشهر على بدء الحكومة الانتقالية…
الأربعاء آب/أغسطس 13
نُشرت في  أوراق بحثية 
محسن المصطفى
تمهيد تمثّل عملية بناء مؤسسات الدولة السورية، وفي مقدّمتها الأجهزة الأمنية والشرطية، مسؤولية وطنية جامعة…
الثلاثاء تموز/يوليو 22
نُشرت في  أوراق بحثية 
د.عمار القحف
مقدمة تشهد محافظة السويداء لحظة مفصلية تعكس طبيعة المرحلة الانتقالية في سورية بعد سقوط النظام…
الأحد تموز/يوليو 20
نُشرت في  مقالات الرأي