مدخل
شكّل تدخّل موسكو العسكري في سورية أواخر 2015 نقطة تحوّل حاسمة، حالت دون سقوط نظام الأسد، ومكّنت روسيا من إبراز قدرتها على القتال والتدخل العسكري المباشر لأول مرة خارج حدود الاتحاد السوفيتي التقليدية منذ 1991. التدخل الذي استطاعت خلاله تثبيت حضور نوعي في الشرق الأوسط عبر البوابة السورية، وترسيخ تواجد عسكري "دائم" فيها عبر قاعدتي "حميميم وطرطوس" العسكريتين في الساحل السوري، إضافة إلى تواجد عسكري ضمن مطار القامشلي وعدة نقاط في شمال شرق البلاد.
غير أن اندلاع حرب أوكرانيا في شباط/فبراير 2022 وما تبعها من استنزاف طويل، قلّص قدرة روسيا على تخصيص موارد كافية للملف السوري، والذي اعتقدت أن بإمكانها الاستمرار في إدارته بـالتجميد وأقل الكلف، قبل أن يشهد بدوره تحوّلات دراماتيكية عقب عملية السابع من أكتوبر 2023، وما ترتب عليها من تغيّر في البيئة الاستراتيجية للمنطقة، انتهى بخروج طهران –الحليف البريّ لموسكو في سورية– من المشهد.
برز تراجع القدرة الروسية مع بدايات معركة "ردع العدوان" في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، حين بدا الدعم الروسي محدوداً للأسد. وسرعان ما تحوّل الموقف، تحت ضغط الواقع العسكري والتفاهمات السياسية، إلى انسحاب القوات الروسية من الخطوط الأمامية لا الخروج الكامل بعد سقوط النظام، مع الإبقاء على القواعد العسكرية. وذلك، إثر تفاهمات بين قوات المعارضة المهاجة بقيادة هيئة "تحرير الشام" وبين القيادة الروسية، "تخللها التزامات قدّمها الطرفان وأوفيا بها"، بحسب تصريحات الرئيس السوري أحمد الشرع.
ومع تولّي الحكومة السورية الجديدة السُلطة، انتقلت موسكو من حالة الارتباك واستيعاب الواقع الجديد إلى الصبر والمراقبة الحذرة لهوامش الانفتاح العربي والدولي على دمشق، لاختبار فرص عودة مدروسة إلى المشهد. في المقابل، ما تزال البلاد تواجه استعصاءً أمنياً داخلياً، خاصة بعد الأحداث الدامية في السويداء تموز/يوليو 2025. بالتوازي مع استمرار الانتهاكات الإسرائيلية للأراضي السورية عبر القصف الجوي المتكرّر والتوغلات البرية، وضمن سياق مفاوضات سورية-إسرائيلية بوساطة أمريكية تهدف إلى "خفض التصعيد" وإعادة إحياء اتفاق وقف إطلاق النار 1974 أو نسخة معدَّلة منه "تراعي هواجس إسرائيل ومصالحها".
أرسلت القيادة السورية الجديدة منذ وصولها دمشق إشارات إيجابية إلى موسكو، والتي بدورها تلقّفتها وبادرت بأخرى. وعقب أول اتصال هاتفي إثر سقوط النظام، بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس أحمد الشرع في 12 شباط/فبراير 2025، جاءت زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو في 31 تموز/يوليو 2025 كمؤشر عملي لإحياء القناة الروسية لا بوصفها شريكاً عسكرياً-اقتصادياً محتملاً فحسب، بل كموازن قوى ضمن معادلة أمن إقليمية قيد التشكُّل تتصدرها التهديدات الإسرائيلية([1]).
ضمّت الزيارة 20 مسؤولاً سورياً استُقبِلوا بحفاوة، بينهم وزيرا الخارجية والدفاع، ورئيس جهاز المخابرات، والأمين العام لرئاسة الجمهورية ماهر الشرع. وتخللها لقاء الشيباني بالرئيس بوتين في الكرملين، وسلسلة لقاءات مع وزير الخارجية وعدد من المسؤوليين الروس. وقد اتفق الجانبان على إعادة تفعيل اللجنة السورية–الروسية المشتركة لإعادة تقييم الاتفاقيات الموروثة من عهد الأسد وبحث آفاق التعاون الاقتصادي وغيره. واعتبرت وكالة الأنباء السورية "سانا" الزيارة بداية لمرحلة جديدة في العلاقات الثنائية([2]).
قابل الزيارة السورية في 9 أيلول/سبتمبر 2025 وصول وفد روسي رفيع برئاسة نائب رئيس الوزراء، ألكسندر نوفاك، إلى دمشق لبحث ملفات الطاقة والمساعدات والتعاون الأمني([3]). أعقبته في 2 تشرين الأول/أكتوبر 2025 زيارة لرئيس هيئة الأركان السورية الجديد، علي النعسان، برفقة وفد عسكري من وزارة الدفاع السورية إلى العاصمة الروسية موسك([4]). مقابل زيارة مرتقبة للرئيس أحمد الشرع إلى موسكو، بعد إعلان السفارة السورية في روسيا "أن الرئيس السوري سيترأس وفد البلاد إلى القمة الروسية العربية التي ستعقد في موسكو يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر2025([5]).
تواجه كُل من الساحتين السورية والروسية مُتغيرات عدة باتجاهات مختلفة، يبدو أنها تدفع الطرفين إلى إعادة اختبار قنوات الشراكة وفق أسس ومعطيات جديدة، ووسط ظروف وتطوّرات محلية وإقليمية ودولية متشابكة. وبينما قد تهيئ بعض تلك الظروف فُرصاً لتطور هذا المسار، فإن عقبات وعراقيل أخرى قد تعترضه وتقيّد مستقبله. وعليه، تسعى هذه الورقة إلى تحليل دوافع الطرفين في الانعطافة واستعادة العلاقات خلال المرحلة الراهنة، ورسم الملامح المتوقعة لتلك العلاقات ومحدّداتها. مقابل قراءة فرص تطورها، والتحديات والعراقيل التي قد تواجهها على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
التوجّه السوري الجديد نحو موسكو (الدوافع والمحدّدات)
مع بحث الحكومة السورية الجديدة مختلف خيارات ومتطلبات الاستقرار الداخلي والخارجي خلال الانتقال الحسّاس للسُلطة في البلاد، تبرز موسكو كخيار ووجهة -قديمة جديدة- رغم كل العداء الذي شاب العلاقة قبل سقوط الأسد. يعزّز هذا الخيار في المرحلة الراهنة مجموعة معطيات يبدو أنها تتعلق، من وجهة نظر الحكومة السورية، بقدرة روسيا على لعب أدوار محدّدة خلال المرحلة الحالية والمقبلة، استناداً إلى خبرتها الطويلة وحضورها العسكري في سورية وعلاقاتها المتشابكة مع مختلف أطراف الصراع. مقابل حاجة السُلطة السورية إلى تلك الأدوار.
لعبت روسيا منذ وصول حزب البعث العربي الاشتراكي 1963، أدواراً مختلفة في سياق تشكُّل الدولة والسُلطة السورية. بدءاً من العلاقة الوثيقة والبُنيوية مع المؤسسات العسكرية والأمنية وتسليحها وتدريبها، مروراً بالتجربة الاشتراكية التي انعكست في الخطط الاقتصادية وشكل المؤسسات الحكومية وإدارتها، وصولاً إلى التموضع الخارجي للسياسة السورية ضمن حلف وشراكة استراتيجية مع موسكو استمرت إلى ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي 1991. ورغم تلك العلاقات الوثيقة، إلا أن بشار الأسد في بداية توليه الحكم، كان قد توجّه أولاً إلى الغرب (لندن، فرنسا)، مع الحفاظ على العلاقات الودية بروسيا. قبل أن تنطلق الثورة السورية 2011 ويصبح الطريق إلى موسكو "مسار إجباري" لمواجهة الاحتجاجات الداخلية وارتداداتها الدولية والإقليمية.
ساهم الانخراط الروسي التاريخي في تشكيل شبكة علاقات ونفوذ وخبرات متراكمة ضمن قطاعات وملفات ومؤسّسات سورية حسّاسة. زادها التدخل العسكري المباشر لصالح بشار الأسد، والانهماك لسنوات في التفاصيل الميدانية-العسكرية والسياسية والاقتصادية، والتحكُّم إلى درجة كبيرة بقرارات النظام السابق. إضافة إلى التموضُع الحالي للقوات الروسية في منطقتين (الساحل، "شرق الفرات") تشهدان إشكاليات أمنية مُركّبة، وتضمّان مكوّنات عرقية ودينية لا تزال علاقاتها السياسية مع الحكومة الجديدة متوترة وغير محسومة. في هذا السياق، يبدو أن السُلطة السورية تسعى بالدرجة الأولى إلى تحييد قدرة موسكو عن استخدام تلك الشبكات كأدوات في زعزعة الأمن أو تعطيل أي توافقات محلية. ثم السعي بالدرجة الثانية إلى محاولة توظيفها في تدعيم الأمن والاستقرار.
على الجانب الآخر، لا يبدو أن موسكو الساعية للحفاظ على الحد الأدنى من نفوذها تُمانع هذه الأدوار والتنسيق فيها، والذي بدأت تظهر مفاعيله في بعض المناطق والملفات. ففي الساحل السوري، حيث تتواجد القوات الروسية في قاعدتي "حميميم وطرطوس"، يُلحظ بحسب المصادر الميدانية تنسيق أمني أكبر بين القوات الروسية والحكومية لتأمين استقرار المنطقة التي شهدت في آذار/مارس 2025 أحداثاً دامية، كان خلالها الدور الروسي مُلتبساً في تغطية بعض عناصر النظام السابق ضمن المنطقة، أو على الأقل عدم مشاركة معلومات أمنية مع السُلطات الجديدة([6]).
أما بالنسبة للشمال الشرقي، حيث تتواجد القوات الروسية في مطار القامشلي، والذي عزّزته موسكو بعد سقوط النظام بنقل معدّات ثقيلة من قاعدة "حميميم" ونشر أنظمة دفاع جوي ووحدات حرب إلكترونية([7])، بتنسيق مع الأتراك وغض طرف أمريكي([8]). تَظهَر مؤشرات متزايدة حول محاولات موسكو استثمار تموضعها العسكري وعلاقتها بـقوات "سوريا الديمقراطية"/"قسد" باتجاهات تصب في مصلحة الحكومة السورية ضمن المنطقة، خاصة بعد انتشار دوريات روسية في القامشلي/الحسكة دون مشاركة "قسد"، الأمر الذي اعتبر تنسيقاً مباشراً بين موسكو ودمشق في تلك المنطقة، حاملاً رسائل لمختلف الأطراف([9]). وكانت موسكو قد عرضت سابقاً التوسّط بين الحكومة السورية و"قسد"، الأخيرة التي قد تجد في روسيا أيضاً هامشاً إضافياً للمناورة وسط احتماليات تراجع الدعم الأمريكي وتصاعد ضغط الحكومة المركزية في دمشق وتركيا على جانب الحدود.
تطرح تحركات موسكو شمال شرق سورية سؤالاً حول مستقبل قواعدها العسكرية هناك؟ خاصة مع تعدد اللاعبين الدوليين والإقليميين في المنطقة. على رأسهم تركيا، الشريك الأكثر تنسيقاً مع موسكو بعد تدخلها العسكري 2015 في سورية، والتي أخذت اليوم موقع روسيا السابق في دعم الحكومة السورية الحالية. وفي هذا السياق، لا يبدو أن أنقرة تمانع بقاء روسي عسكري مُنضبط على حدودها، خاصة إذا صبَّ في مصالحها الاستراتيجية، سواء على مستوى العلاقة مع سورية (تمكين السُلطة الجديدة، دعم وحدة البلاد، حلحلة ملف "قسد"، تدعيم الموقف من إسرائيل)، أو في باقي الملفات المشتركة خارج سورية (المحيط الأوراسي).
في المقابل، تبرز الولايات المتحدة الأمريكية التي ما يزال موقفها من البقاء الروسي في سورية خاضعاً لإمكانية الوصول إلى تفاهمات مُرضية ضمن ملفات أخرى، على رأسها أوكرانيا، والتي يبدو أن الرئيس بوتين رفض "عرض ترامب" الأخير للتسوية وإيقاف الحرب فيها، ما استدعى وفق مراقبين تصريحاً تصعيدياً من ترامب "شجّع فيه أوكرانيا على استعادة أراضيها بدعم الغرب، معتبراً روسيا "نمر من ورق". ناهيك عن حضور أوروبي غير مباشر، يبدو معنياً أكثر من الأمريكيين بتحجيم النفوذ الروسي. في مقدمتهم فرنسا وألمانيا، اللتان ركزتا أولى مطالبهما بعد سقوط الأسد حول نفوذ موسكو وإخراج قواعدها العسكرية من سورية([10]).
أما في الجنوب السوري، يبدو أن الحكومة تنظر أيضاً إلى إمكانية تفعيل أدوار روسية محتملة في سياق "خفض التوتر" وتدعيم مواقفها من إسرائيل، خاصة مع تأكيد الرئيس بوتين لنتينياهو على دعم روسيا لوحدة وسلامة الأراضي السورية([11]). إذ يشهد الجنوب وما يزال توترات مركّبة منذ سقوط الأسد، خاصة بعد إلغاء إسرائيل لاتفاق وقف إطلاق النار 1974 وفرضها حالة حرب أحادية، تخللتها مئات الضربات الجوية وتدخلات برية أفضت إلى احتلال أجزاء واسعة من درعا والقنيطرة. ناهيك عن الأحداث الدامية بين القوات الحكومية والمكوّن الدرزي خلال شهر تموز/يوليو 2025، وما رافقها من تدخلات إسرائيلية مباشرة. مقابل وساطة أمريكية ساعية لـ"خفض التصعيد" وإعادة صياغة الاتفاق بشكل جديد يراعي هواجس إسرائيل من السُلطات الجديدة في دمشق.
ومع عزلها الحالي عن مسار المفاوضات السورية-الإسرائيلية لصالح إشراف أمريكي، إلا أن موسكو ما تزال تحتفظ بقدرات ونفوذ قد يتم توظيفه لاحقاً في الترتيبات الأمنية-التنفيذية لمستقبل المنطقة، خاصة مع احتمالية قبول إسرائيل بأدوار روسية مُعينة في ضمان أمن حدودها، ولا ترى تهديداً في بقاء قواعدها العسكرية في سورية، بل على العكس ربما تشجّعه كمعادل قوى محتمل "ضد النفوذ التركي المتصاعد"([12]). إضافة إلى أن الوجود الروسي في سورية، من وجهة نظر تل أبيب، يمكن أن يساهم في الإبقاء على البلاد مقسّمة إلى مناطق نفوذ([13]).
ولعلّ رؤية الجانب السوري للأدوار المحتملة لموسكو في الجنوب، تستند إلى فاعليتها السابقة في المنطقة بعد عام 2018، عبر الوساطة مع "دول الطوق السوري" ومنها "إسرائيل" والأردن وتنسيق اتفاقات تراعي هواجسها الأمنية على الحدود، خاصة تجاه إيران. إذ أنشأت موسكو نقاطاً روسية-إسرائيلية لمنع التصعيد، واعترفت ضمنياً بخطوط حمراء وضعتها تل أبيب في سورية، وبإصرارها على حقها في ضرب الأهداف الإيرانية فيها([14]). إضافة إلى مساهمتها في عملية "التسويات المحلية" و"إعادة دمج الفصائل المعارضة"، التجربة التي لم تنجح خلالها موسكو في تحويل "انتصارها العسكري" إلى سياسي خلال تلك الفترة، سواء في الجنوب أو عموم البلاد.
تبدو توقعات الحكومة السورية في توظيف خبرة وشبكات موسكو وتموضعها الداخلي، تتجاوز الملفات الأمنية -العسكرية فقط، لتصل إلى معادلات الاستقرار الداخلي عبر بعض المكوّنات الاجتماعية-الدينية التي نسجت روسيا مع نخبها ورموزها علاقات مختلفة. وربما جاءت في هذا السياق الزيارة التي قام بها الأمين العام لرئاسة الجمهورية، ماهر الشرع، في 14 آب/أغسطس 2025 للبطريارك يوحنا العاشر يازجي، رئيس بطرياركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذوكس، والتي تُعدّ روسيا الراعية لها في المشرق. إذ جاءت الزيارة بعد قرابة شهرين من تصعيد البطريراك ضد الحكومة على خلفية تفجير كنيسة "مار إلياس" في محيط العاصمة دمشق أواخر حزيران/يونيو 2025. وقد تمت الزيارة باسم واجب العزاء الذي جاء مُتأخراً، وبعد أسبوعين من زيارة الوفد السوري إلى موسكو في 31 تموز/يوليو2025. ويبدو أنها مهّدت بعد يومين للقاء وصف بالإيجابي بين الرئيس الشرع والبطريارك يوحنا العاشر([15]).
تتداخل الاحتياجات السورية من موسكو خلال هذه المرحلة، لتصل إلى محاولة الاستفادة من موقعها الدولي وصوتها في مجلس الأمن، والذي استخدمته روسيا وحليفتها الصين 16 مرة لدعم نظام الأسد سابقاً. إضافة إلى الاحتياج الاقتصادي خلال الفترة الحالية، سواء على مستوى أمن الطاقة (نفط) أو الأمن الغذائي (قمح) أو الدفاع (تسليح). ورغم إمكانية توفير أغلب هذه الاحتياجات من مصادر أخرى، خاصة في سياق الانفتاح الدولي والإقليمي على الحكومة السورية الجديدة؛ إلا أن الأخيرة تبدو ساعية إلى تنويع مصادرها وشراكاتها بما يوسّع هامش مناورتها السياسية، وينسجم مع تصريحاتها المُعلنة في بناء علاقات متوازنة مع الجميع، وإعطاء فرصة لموسكو في هذا الإطار لاستعادة علاقات تحقّق مكاسب للطرفين، بدل قطيعة لا يستفيد منها أحد.
مقابل تلك التوقعات، تضع السُلطة السورية أمام موسكو مُحدّدات واضحة لاستعادة العلاقات وتفعيلها، على رأسها إعادة تعريف الشراكة والتواجد على الأراضي السورية وفق أسس السيادة واستقلال القرار. إذ اعتبرت تصريحات وزارة الدفاع السورية الجديدة أن "جزءاً من إعادة السيادة السورية الكاملة يمرّ عبر ضبط الوجود الأجنبي على الأراضي السورية". وقد أوضح وزير الدفاع مرهف أبو قصرا أن "الحكومة لا تُغلق الباب أمام استمرار الوجود العسكري الروسي، ولكن بما يخدم مصالح البلاد ويُصاغ في إطار مصلحة سورية واضحة([16]).
وفي هذا الإطار، تربط الحكومة السورية استعادة العلاقات بـ "إعادة التفاوض" على كافة الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية السابقة وعقود التأجير طويلة الأمد، والتي توصف بكونها "مجحفة وغير شفافة"، وأبرزها عقد إدارة ميناء طرطوس، واتفاقيات التنقيب في البحر، وصفقات التسلّح ذات الكلفة الباهظة. تهدف دمشق من خلال ذلك إلى ضبط الوجود الأجنبي عبر قواعد جديدة تُحدّد سقف المدة والوظيفة، وهي ليست خطوة رفض أو طرد، بل تطويع لوجود أجنبي يُعاد صياغته في ضوء السيادة السورية([17]). وقد بدأ بالفعل مسار لإلغاء بعض هذه الاتفاقيات، أو تعليق العمل بها ريثما يتم إعادة التفاوض عليها. وتشترط دمشق أن تكون كافة العقود المستقبلية خاضعة لرقابة مؤسساتية، ومُعلنة، وتخدم أولويات الإعمار والتنمية لا إعادة التسلّح([18]).
تشدّد الحكومة السورية الجديدة علىاحترام القرار السوري المستقل والتحرّر من عقلية التبعية الجيوسياسية، وأن تتعامل موسكو مع دمشق بوصفها شريكاً سيادياً مستقلاً، لا تابعاً ضمن محور طهران-موسكو، أو منصة ضغط ضد الغرب، فالعقلية القديمة التي تعاملت مع سوريا كأداة أو واجهة لمصالح جيوسياسية روسية لم تعد مقبولة. إذ يبدو أن دمشق تسعى إلى وضع إطار عمل جديد يُعيد تعريف العلاقة كشراكة متوازنة، تقوم على المصالح المتبادلة لا الإملاء أو الاصطفاف المحوري. وفي هذا السياق، صرّح وزير الخارجية السورية، أسعد الشيباني، معبّراً عن رفضه لـ"أي شراكة تضعف علاقاتنا مع الخليج أو أوروبا"، مؤكداً أن "سوريا لن تكون ساحة صراع لأحد بعد الآن"([19]).
لا يبدو ملف بشار الأسد وحاشيته، رغم حساسيته البالغة، من بين المحددات الرئيسية التي قد تعيق استعادة مسار العلاقات السورية–الروسية. فالمعطيات المتاحة لا تشير إلى أن هذا الملف يشغل موقعاً متقدماً في أجندة الوفود السورية التي زارت موسكو خلال الأشهر الأخيرة. ويُلاحظ، في المقابل، أن القيادات الروسية تتعامل مع موضوع تسليم الأسد إلى دمشق بدرجة عالية من التحفظ والرفض المبدئي، مستندة في ذلك إلى ذرائع تتصل بمفاهيم "اللجوء السياسي" و"السيادة الوطنية" و"قدرة روسيا على حماية اللاجئين السياسيين على أراضيها".
إلا أن هذا الموقف الروسي لا ينفصل، في جوهره، عن حسابات أكثر عمقاً تتعلق بصورة موسكو لدى حلفائها حول العالم، إذ إن تسليم الأسد أو حتى التلويح بذلك، قد يُقوّض الثقة التي تسعى روسيا لترسيخها لدى شركائها من القادة الذين يعتمدون عليها كضامن أخير. وبذلك، يبدو تمسك الكرملين بالأسد لا يستند فقط إلى اعتبارات قانونية أو إنسانية شكلية، بل إلى منطق سياسي يرمي إلى طمأنة "نادي المستبدين" المقرّبين من بوتين بأن موسكو لا تتخلى عن حلفائها حتى في لحظات سقوطهم. ومع ذلك، فإن هذا الثبات في الموقف لا يستبعد إمكانية أن تصبح أملاك الأسد وعائلته وأصولهم داخل روسيا موضوعاً تفاوضياً محتملاً بين موسكو ودمشق، سواء في إطار تسويات مالية غير معلنة أو كجزء من ترتيبات أوسع لإعادة توزيع النفوذ والمصالح في سياق مسار استعادة العلاقات.
الانعطافة الروسية نحو سورية الجديدة (المُحرِّكات والعراقيل)
تُدرك موسكو حجم التغيير الذي طرأ في سورية بعد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، والخسارة الاستراتيجية التي لحقت بها إثر الإطاحة بحليفها الأسد وخروج إيران مهزومة، مقابل الانفتاح الغربي-العربي على السُلطة الجديدة في دمشق. وفي هذا الإطار، سعت موسكو لتجنُّب الخروج من المعادلة كحليفتها إيران، عبر إدارة الخسائر والبحث عن شكل جديد للتموضع في سورية يحافظ على حضورها الاستراتيجي شرق المتوسط بعد تراجع نفوذها الإقليمي والدولي، خاصة في ظل استمرار حرب أوكرانيا، ودورها غير المحسوم بعد في ليبيا.
تعتقد روسيا أن الحفاظ على هذا الوجود النوعي سيمكنها لاحقاً من البناء عليه في تعزيز حضورها ضمن الشرق الأوسط وإفريقيا، هناك حيث أنشأت موسكو تشكيل شبه عسكري "فيلق إفريقيا" يعمل على تعزيز وجوده غرب إفريقيا، وهي منطقة تراها الكرملين ذات أهمية استراتيجية، ومن شأن احتفاظ موسكو بمراكزها اللوجستية في سوريا أن يساعدها لاحقاً في توسيع نفوذها داخل القارة الإفريقية([20]).
من هنا، تنظر موسكو إلى مسار التقارب مع سورية الجديدة بوصفه استراتيجياً، وتروجّهُ كتبادل لاحتياجات عملية: ترتيبات أمنية-سياسية-اقتصادية قابلة للاستدامة لدمشق، مقابل بقاء روسي شرعي مُعاد تعريفه. إذ تحتاج موسكو إلى اعترافٍ عملي ورسمي من دمشق ودول الإقليم بدورها كطرف مساهم في ضبط الأمن والاستقرار في سورية، بما ينسجم مع حقيقة أن وجودها أضحى اليوم مشروطاً بقبول مؤسسي من الحكومة الجديدة، لا بافتراضات الحقبة السابقة. لذا، يبدو أن روسيا تسعى إلى ربط البقاء العسكري بخرائط طريق أمنية وسياسية تُظهر جدواها مقارنة بفاعلين إقليميين آخرين، وتُقلّص في الوقت نفسه كُلفة الانخراط في ظل تحوّل الموارد نحو ساحاتٍ أخرى.
إضافة إلى ماسبق، تعد انعطافة موسكو الحالية مدفوعة أيضاً بأسباب اقتصادية متعلقة بتحصيل ديونها التي تختلف عن طبيعة ديون إيران، إضافة إلى صون "الحقوق الاقتصادية" عبر تحويل الامتيازات القديمة إلى أطر استثمارية قابلة للاستدامة. فالانخراط الروسي في الاقتصاد السوري تمّ في أغلبه عبر امتيازات واستثمارات (لا قروض سيادية مباشرة) أبرزها عقد Stroytransgaz Logistic" " في فوسفات تدمر (50 عاماً مع حصة 70% من العائدات). وهو ما يجعل موسكو معنيّة اليوم بآلية مراجعةٍ تعاقدية تضمن إمّا استمرار هذه الأصول بشفافية أعلى، وإمّا التعويض عنها أو إعادة تدويرها في صيغ بديلة تراعي بيئة العقوبات. وقد رصدت تحقيقات أوروبية استقصائية هذه الصفقات وأثرها، كما رُبط بعضها بإجراءات عقابية لاحقة، ما يعني أن أي صفقة جديدة مع دمشق ستحتاج هندسة امتثال دقيقة إذا أريد لها أن تكون قابلة للتنفيذ مالياً([21]).
وتتطلع موسكو في هذا السياق إلى إعادة تأطير وجودها وفق ضمانات قانونية–عملية، وبصيغ مؤسسية قابلة للامتثال الدولي، تساعدها على تثبيت الوصول العسكري اللوجستي إلى قواعدها بشرعيةٍ محدّثة وضمن ترتيبات واضحة المدة والوظيفة والحصانات. كما تمكّنها من صون ديونها واستثمارتها الاستراتيجية، التي لا تنظر إليها كملف مالي فحسب، وإنما كرصيد وأداة لإعادة تشكيل النفوذ وتثبيت التمركز الاستراتيجي على المدى الطويل. إذ تعمل روسيا اليوم على دمج مسار مراجعة العقود وإعادة الجدولة مع مسار أوسع يرتبط بتثبيت نفوذها، بحيث تصبح كل خطوة في ملف الديون مرتبطة بخطوة موازية في العقود، والمرافئ، والقواعد العسكرية([22]).
المشكلة تكمن في تشابك هذه الديون مع عقود استراتيجية طويلة الأمد، مثل امتياز تشغيل ميناء طرطوس أو اتفاقات استثمار الفوسفات. وهذا التشابك يجعل أي نقاش مالي مرتبطاً تلقائياً بمصالح سياسية واقتصادية عميقة. ورغم امتلاك الحكومة بعض الهوامش للمناورة في هذا الملف، إلا أن التفاوض حوله مع موسكو يتأثر بقدرة دمشق على التوصل لتفاهم ساسي معين أو إعادة النظر في بعض العقود أو إثبات إخلال الجانب الروسي بالتزاماته الاستثمارية، كما حدث مؤخراً في إلغاء عقد تشغيل ميناء طرطوس التجاري مع شركة روسية([23]). وهو مؤشر على حاجة موسكو اليوم إلى إطار قانوني محدّث يضمن استمرار عمل القاعدتين بمعزل عن تقلبات العقود التجارية([24]).
كما أن مستقبل القواعد يخضع لمفاوضات تسعى فيها دمشق لتحسين شروط الإيجار والوظائف، بما يعكس ضبطاً للوجود الأجنبي لا قطعه التام([25]) .وإن توجُّه دمشق في هذا السياق لبناء شبكة علاقات متوازنة مع الخليج وتركيا والغرب يضع روسيا ضمن منافسة على النفوذ، لا كشريك وحيد. تظهَر هذه النزعة في قرارات اقتصادية-جيوسياسية مثل إعادة تعريف دور الموانئ والربط التجاري، وفي مسارات دبلوماسية جديدة. هذه البيئة تجعل موسكو طرفاً بين أطراف، لا راعي حصري([26]). كما أن تزايد شرعية السُلطة الجديدة يعطي دمشق تدريجياً مزيداً من أوراق التفاوض والقدرة على إبعاد موسكو عن بعض الملفات، ما يفاقم معضلة "تقاسم الأدوار" إقليمياً ([27]).
ورغم مؤشرات إعادة الانخراط بين دمشق وموسكو، فإن مسار استعادة العلاقات وضبطها تعترضه معوّقات وعراقيل عدة، قد تُبطئ أو تُعيد تشكيل شروط الشراكة السورية-الروسية الجديدة. إذ يواجه المسار قيود قانونية-مالية دولية، وحساسيّات سيادية داخلية، وعراقيل دولية وإقليمية تنافسية على الأدوار، ناهيك عن إرث اجتماعي-أخلاقي ثقيل خلّفته سنوات الحرب وما ارتكبته خلالها روسيا من انتهاكات بحق المدنيين السوريين.
على المستوى الدولي والإقليمي، ومع بروز مؤشرات لعدة قوى إقليمية قد تقبل أو تشجّع أدوار روسية متقاطعة مع مصالحها الاستراتيجية وهواجسها في سورية والمنطقة، إلا أن الموقف الأمريكي غير المحسوم تجاه بقاء موسكو في سورية وحجم وطبيعة أدوارها المتوقعة، ما يزال أحد عقبات إعادة ضبط العلاقة بين موسكو ودمشق، خاصة وأن هذا الموقف مرهون بقابلية الوصول مع موسكو إلى تفاهمات في ملفات أخرى، على رأسها أوكرانيا، ومدى انسجام الموقف الأمريكي مع الأوروبي في هذا السياق.
من جهة أخرى، يمثل الموقف الأوروبي أحد أبرز مكابح تطوّر العلاقة السورية–الروسية في اللحظة الراهنة؛ فمع أنّ الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا في 20 و28 أيار/مايو 2025، فقد قرن ذلك بمنطق "انخراط مشروط" يؤكّد أن تكون "عملية إعادة الإعمار ضمن انتقال سلمي شامل وسورية حرّة من التدخّلات الأجنبية الضارّة"، وهي صياغة تُترجم عملياً بضغط لتقليص أدوار الفواعل العسكرية الخارجية، وفي مقدّمها روسيا([28]). على سبيل المثال، صرّح وزير الخارجية الهولندي كاسبر فِلدكامب بأن على الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات عن سوريا فقط إذا طردت روسيا من أراضيها، قائلاً: "نريد الروس خارج سورية"([29]).
ويبدو أن كُلفة الاقتراب من موسكو زادت بعد حادثة بولندا (9–10 أيلول/سبتمبر 2025) حين سجّلت خروقات مسيرات روسية لأجواء دولة عضو في الناتو. استدعت خلال الشهر ذاته قيام سلاح الجو الملكي البريطاني بطلعات دفاع جوية مضادة في سماء بولندا بهدف ردع التهديدات الجوية الروسية لحلف الأطلسي([30]). وهو سياق يجعل أيّ توسيع للتفاهمات مع روسيا أكثر حساسية لدمشق ويؤثر مباشرة في قنوات التمويل والامتثال .([31])بذلك، تتحوّل المعادلة الأوروبية إلى عائق مزدوج: تمويل وانفتاح مرهونان بتحييد النفوذ العسكري الخارجي، وبيئة أمن قاريّة أكثر تشدّداً بعد حوادث بولندا ورومانيا وأسيتونيا، وهو ما يضغط على مسار أي إعادة صياغة سورية–روسية، بما في ذلك مفاوضات تموضع القواعد الروسية.
في هذا السياق، فإن القدرة على تحييد سورية عن الخلافات الدولية وعدم استغلال حاجاتها وأراضيها كساحة تصفية حسابات. يرتبط بمدى قدرة الحكومة السورية والتزام موسكو، الأخيرة التي باتت تنظر إلى دول الشرق الأوسط كساحات بديلة لكسر العزلة الجيوسياسية، بعد حرب أوكرانيا. بالمقابل، فإن الحكومة الجديدة تُعلن بوضوح أنها ترفض هذا الدور، إذ لا يبدو أن الشرع مقبل على إعادة البلاد إلى المدار الروسي، بقدر ما يسعى إلى موازنة دقيقة بين موسكو وخصومها، ففي أيلول/سبتمبر الماضي أعادت سورية علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، كما التقى الشرع رئيسها زيلينسكي على هامش اجتماعات الأمم المتحدة([32]). كما أكد الوزير الشيباني خلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه بنظيره الروسي، سيرغي لافروف 31 تموز/يوليو 2025 في العاصمة موسكو، بأن "سورية لا تريد أن تكون منصة لنقل الرسائل أو لتصفية الحسابات، وأنها تستعيد مكانها ومكانتها في المسرح الدولي لا بالانحياز أو الاصطفاف لمحور بعينه، بل عبر شراكات سيادية متنوعة تخدم الشعب السوري أولاً وآخراً"([33]).
من أهم العقبات هو إرث الحرب وفجوة الثقة مع الرأي العام والنخب الجديدة. حيث أن الذاكرة الجمعية السورية مُثقلة بأثر الدور العسكري الروسي في سنوات الحرب، ما يخلق فجوة ثقة مع قطاع واسع من النخب الحاكمة، والجمهور المؤثّر عليها اليوم من مجموعات أهلية منظّمة أو شبكات حقوقية. وهو ما يجب أن تلحظهُ السُلطات السورية بجدية وتُحسن التعاطي معه، خاصة وأنه أحد أهم أدواتها في إعادة ضبط العلاقة والمكاسب مع روسيا. إذ من الممكن ربط المسار الحالي ببرنامج تعويضات لمتضرري وضحايا القصف والتدمير الروسي خلال سنوات دعمها للأسد، تسعى الحكومة للمطالبة فيه ضمن سياق مباحثاتها مع موسكو، مدعومة بآلاف الوثائق بحوزتها عن هذه الانتهاكات، كوثائق الدفاع المدني السوري-الخوذ البيضاء، وغيرها الكثير مما تم الحصول عليه من أجهزة المخابرات السورية السابقة، والتي تمثل نقطة مهمة في دعم مفاوضات استعادة مسار العلاقات وضبطه.
في المقابل، تحتاج روسيا بدورها أن تتبنى مقاربة مختلفة تبدي من خلالها استعداداً للاعتراف بالأخطاء السابقة وبما ارتكبته من انتهاكات خلال الحرب على سورية، أي الاعتراف بمتطلبات شرعية مختلفة تماماً عن الحقبة السابقة. هذا الشرط السياسي-الأخلاقي يحضر كمعوّق إن لم يُعالج بجدية. وقد أكد وزير الخارجية، الشيباني، على "التزام سوريا بتصحيح العلاقات مع روسيا على أسس جديدة تراعي مصالح الشعب السوري وتفتح آفاق شراكة متوازنة، مطالباً بمسار جديد ذو أساسات جديدة للعلاقة المستقبلية".
من ناحية أخرى، فإن تشابك نظام العقوبات واشتراطات رفعها يعد عقبة إضافية. حيث أن العقوبات المفروضة على سورية، ورغم بعض خطوات التخفيف الجزئي، إلا أنها ما تزال مشروطة بمسار سياسي شامل، وهو ما يقيد أي تعاون واسع مع دولة تخضع بدورها لعقوبات غربية مثل روسيا. مبعوث الأمم المتحدة السابق غير بيدرسن شدّد أمام مجلس الأمن (8 كانون الثاني/يناير 2025) على أن "الانتقال الشامل هو أفضل طريق لرفع العقوبات"، ما يعني أن أي اندفاعة روسية اقتصادياً أو مالياً ستصطدم بحاجز قانوني/مصرفي دولي صلب، حتى مع تغيير المزاج الدولي تجاه دمشق(([34]. إضافة إلى القيود البُنيوية-الموضوعية على القدرة الروسية اقتصادياً وعسكرياً، إذ أن انشغال موسكو بحرب مكلفة في أوكرانيا وعقوبات غربية قاسية، يحدّان من قدرتها على ضخ تمويل تنموي كبير أو ضمان مظلة أمنية موسّعة لسورية. تقديرات مستقلة تلاحظ أن مكانة روسيا الإقليمية بعد سقوط منظومة الأسد تراجعت نسبياً، وأن إعادة التموضع ممكنة لكنها تتم بأدواتٍ أضيق من قبل([35]).
مسار استعادة العلاقات الثنائية (فرص وتحديات)
تكشف القراءة لمسار استعادة العلاقة بين سورية الجديدة وروسيا أنّ الطرفين يقفان على عتبة إعادة ضبط حذر، تدفعه سورياً ضرورات الأمن الداخلي بعد "أزمة السويداء" وما يصحبها من تهديدات إقليمية باستمرار الضربات الإسرائيلية، وتغذيه مؤشرات سياسية كالزيارات المتبادلة رفيعة المستوى بين الطرفين، وأخرى عملياتية حول تنسيق نسبي متصاعد ضمن بعض المناطق والملفات. هذه الوقائع تُظهر أن نافذة الفرصة الأمنية مفتوحة، وأن دمشق تختبر موسكو مجدداً "بوصفها شريكاً وضامن توازن" لا راعياً حصرياً كما في الحقبة السابقة.
ومع ذلك، فإن سقف ما يمكن لروسيا أن تقدمه على جبهة الردع الجوي تجاه إسرائيل يظل محدوداً بحكم اعتبارات عدة، منها قواعد فض الاشتباك الروسي–الإسرائيلي المتوارثة منذ 2015، وهو ما يجعل أي شراكة أمنية واقعية مشروطة بتوقعات منضبطة لا تحمل موسكو ما لا تستطيع إنجازه عملياً. في المقابل، تمتلك روسيا رصيداً من الخبرة المؤسسية وقنوات اتصال واسعة مع أطراف متعارضة، ما يؤهلها للمساهمة في هندسة ترتيبات خفض التصعيد، على أن يجري ذلك ضمن إطار سيادي سوري وبآليات شفافة.
تشير ديناميات إعادة التفاوض إلى أن "اختبار الجدية" سيحسَم في بنود ملموسة: مراجعة عقود القواعد (حميميم/طرطوس) زمناً ووظيفةً وكلفةً، وتدقيق الامتيازات الاقتصادية الموروثة، وإعادة توجيه العلاقة نحو شراكات تنموية لا صفقات تسليح مثقلة فقط. إن قبول موسكو بمبدأ "المصلحة السورية أولًا" لا يُفهم كإقصاءٍ لها، بل كتحويل للشراكة من إرث الرعاية الأمنية إلى تعاقد مؤسسي متوازن، وهذا ما لمّحت إليه دمشق علناً، وأكدته تغطيات مستقلة عن استعدادها لتمكين بقاء القواعد الروسية "إذا خدم ذلك مصلحة سورية"، مقابل شروط محسنة وإطار رقابي واضح.
ولعلّ المسار الأكثر عقلانية يتمثّل في تقدم تدريجي حذر قائم على مؤشرات أداء قابلة للقياس. إن نجاح هذا المسار مرهون بقدرة الطرفين على إدارة معادلة دقيقة: سيادة سورية مصانة، حضور روسي معاد تعريفه، وشراكات متعددة لا تعيد إنتاج التبعية وتعود بمكاسب للطرفين. ضمن هذه الحدود، يمكن لدمشق وموسكو أن تنتقلا من ثقل الإرث إلى واقعية التحوّل، بحيث تقاس الشراكة بقدرتها على تثبيت الاستقرار المحلي وفتح حيز تنموي.
تبدو معادلة موسكو لإعادة التفعيل بسيطة في ظاهرها ومركّبة في تفاصيلها: اتفاق بقاءٍ عسكري مُعاد الصياغة يلبّي حاجات السيادة السورية ويضمن وصولاً روسياً مستقراً، اعتراف عملي بدور أمني محدّد الأهداف وقابل للقياس، وإطار استثماري شفاف يحفظ القيمة الاقتصادية للامتيازات السابقة أو يعيد تدويرها دون خرقٍ لقيود الامتثال. الإشارات العلنية الأخيرة من انفتاح دمشق على إبقاء القواعد بشروط جديدة، إلى مراجعة عقود المرافئ تُظهر أن هذه الصفقة ممكنة نظرياً، لكنها مشروطة بتحويل هذه الاحتياجات إلى نصوصٍ تعاقدية واضحة قابلة للتنفيذ( ([36].
تراهن موسكو على بقاء بأقل الخسائر وإن كان محدود النفوذ، ولكن لا يستثنيها من الترتيبات الأمنية الناشئة في الإقليم، لتعيد من جديد مقاربة "الصبر الاستراتيجي" التي لم تؤت أُكلها مع النظام السابق، في انتظار حدوث مُتغيرات على الساحتين الدولية والإقليمية، وما قد تحمله من فرص لاستثمارها. وإلى ذلك الحين، لن تتوقف موسكو عن التمهيد لتلك الفرص بمختلف الوسائل، وإن بدا غير ذلك، مراهنة في المرحلة الحالية على الاحتياج المتبادل مع الحوكمة السورية، ومتطلبات الأخيرة في ظل مخاض انتقالي حسّاس، وسُلطة ناشئة، ودولة قيد التشكُّل وسط تهديدات مختلفة، وأن أي أخطاء إضافية وسط هذا المخاض قد توسّع هامش الحاجة أكثر إلى موسكو، وبالتالي فرصة لتمدد نفوذها من جديد.
من جهة أخرى، تراهن روسيا على تقاطع بعض مصالح القوى الإقليمية حول بقاء قواتها وقواعدها، مستندة في ذلك إلى خبرتها الطويلة في سورية، وتجربتها السابقة والمتنوّعة مع الإسلاميين، سواء في السُلطة أو خارجها، سلماً وشراكة وحرباً. والمفارقة في هذا السياق، بأن موسكو وهي تقوم بانعطافتها نحو السُلطات السورية الجديدة، تضيف هزيمة أخرى إلى سجلّها الحربي مع "الإسلاميين-الجهاديين" بعد أفغانستان، ولكن هذه المرة في سورية.
وضمن سياق رهانات موسكو على القوى الإقليمية الساعية إلى توظيف الوجود الروسي لخدمة أهدافها الخاصة في سورية، وهي أهداف متناقضة بطبيعتها. وبالنظر إلى براعة موسكو في المناورة السياسية خلال السنوات الماضية، فإن كل طرف من هذه الأطراف لديه ما يدفعه للاعتقاد بأن روسيا قد تدعم طموحاته الجزئية في نهاية المطاف([37])، وضمن تلك الاعتقادات؛ على القيادة السورية الجديدة أن تعي بأن تطور هذه الصيغ قد يكون مُضِّر على المدى الطويل، إذ أن وجود طرف غير الحكومة السورية يستجيب لاحتياجات القوى الدولية والإقليمية والمحلية ويتفاعل معها ويشكّل ضامن لها، سيأتي بالضرورة على حساب الدولة الناشئة وأدوارها، والمساحات التي يجب أن تحتكرها، وربما يعكس ضعفها. وهذا ما ينطبق على العلاقة مع موسكو وغيرها من القوى الفاعلة خلال هذه المرحلة.
في المقابل، ورغم حاجة السُلطات السورية إلى موسكو، إلا أن الظروف والمعطيات المحيطة بمسار استعادة العلاقات ومراجعتها، تشي بأن دمشق تمتلك أدوات متنوّعة في هذا السياق، تستطيع من خلالها إعادة تطويع تلك العلاقة ومراجعاتها الجارية بأكبر كم من المكاسب، خاصة وأن كل العراقيل والتحديات التي تواجه هذا المسار، هي فعلياً بجوهرها مساحات مناورة إضافية للسُلطة السورية، إن أُحسن إدارتها، وفرصة لتحصيل أكبر كم من المكاسب للشعب والدولة السورية.
وفي معرض العراقيل التي قد تعترض طريق هذا المسار، وفي مقدمتها الموقف الغربي المحتمل، فينبغي على الدول الغربية تجنُّب مقاربة عقابية للقيادة السورية الجديدة بسبب انخراطها مع روسيا في إطار سياسة خارجية "براغماتية" متعددة الاتجاهات، وربما عليهم أن يتقبلوا فكرة وجود روسي محدود في سورية، على الأقل في المدى القريب والمتوسط، وأن يتجنبوا إجبار الحكومة الجديدة على الاختيار بين دعمهم ودعم موسكو، بل الاتجاه نحو تبني مقاربة أكثر فاعلية لمنع عودة روسية طموحة إلى سورية، وهي المزيد من الانخراط وملأ الفراغ وتقديم دعم متأن ومنسق لحكومة البلاد وشعبها وتعافيها الاقتصادي.
ختاماً، ومع الأخذ بعين الاعتبار مساعي الحكومة السورية وتصريحات قادتها حول إبقاء الباب مفتوحاً أمام جميع الأطراف، بما فيها موسكو وبكين، لاحتمالية تطوير علاقات "استراتيجية"، بالتزامن مع زخم دبلوماسي كبير مع تركيا وبعض الدول العربية والأوروبية، وعلاقات مع الجانب الأمريكي؛ فإنَّ ذلك يطرح سؤالاً حول الخيارات الاستراتيجية لسورية؟ فرغم حاجة البلاد إلى "صفر أعداء"، إلا أنه لن يكون بوسعها أن تكون صديقاً استراتيجياً للجميع، ما يعني أنَّ تحديد بوصلة استراتيجية سيكون، عاجلاً أم آجلاً، استحقاقاً وليس خياراً.
لا شكَّ بأنَّ السياسة الخارجية وطبيعة تحالفاتها ستنعكس بشكل مباشر على ديناميات السياسة الداخلية ووحدة البلاد واستقرارها وأمنها وتعافيها. مثلما أنَّ إرساء قواعد نظام الحكم الجديد على عقد اجتماعي يصلح علاقة الدولة بالمجتمع ويأسس لشرعية داخلية متينة؛ سيعزز من قدرتها على الصمود أمام التحديات الخارجية. فالمضي نحو حوكمة رشيدة تشميلية ليس ضرورياً للاستجابة للمطالب الخارجية، بل هو عامل حاسم في إنشاء نظام حكم سياسي مستقر وقابل للاستدامة. علاوة على ذلك، فإنَّ التحالفات والعلاقات الخارجية يجدر أن تحقق قطيعة مع تجارب حوكمية واقتصادية استلهمها النظام السابق من المعسكر الشرقي، والتي كانت عاملاً محورياً في تأسيسه "الدولة المتوحِّشة"([38]).
([1]) بين الشرق والغرب..الشيباني في موسكو، DW، 31 تموز/يوليو 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/wOOZU
([2]) الشيباني في الكرملين... كيف تدشن دمشق وموسكو صفحة علاقات جديدة؟، الشرق، 2 آب/آغسطس 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/UNhiTe.
([3]) فلاديمير سولداتكين، روسيا ترسل فريقا رفيع المستوى إلى سوريا لمناقشة المساعدات والطاقة، رويترز، 9 أيلول/سبتمبر2025، متوافر على الرابط: https://bit.ly/3VF1Ngm
([4]) على رأس وفد من وزارة الدفاع.. رئيس هيئة الأركان السوري يصل موسكو، تلفزيون سوريا، 2 تشرين الأول/أكتوبر، متوافر على الرابط: https://2u.pw/irbe25
([5]) سوريا: الشرع يترأس وفد البلاد إلى القمة العربية الروسية في موسكو، العربية، 10 أيلول/سبتمبر 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/et4nD
([6]) مصادر ميدانية خاصة بمركز عمران للدراسات الاستراتيجية.
([7]) هانا نوت، روسيا لم تنتهي بعد من سوريا: كيف حافظت موسكو على نفوذها في مرحلة ما بعد الأسد، فورين أفيرز، 3 تشرين الأول/أكتوبر 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/FQA7xK
([8]) الشيباني في الكرملين... كيف تدشن دمشق وموسكو صفحة علاقات جديدة؟، الشرق، مرجع سبق ذكره.
([9])رائد جبر، دوريات روسية في القامشلي تتجاهل "قسد" وتعكس تفاهمات موسكو ودمشق،الشرق الآوسط،7 آب/أغسطس 2025، https://bit.ly/4gFzTKA
([10])وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا في دمشق..برلين تدعو روسيا لمغادرة قواعدها، التلفزيون العربي، 3 كانون الثاني/ يناير2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/aXNi3g
([11]) بوتين يؤكد لنتينياهو على أهمية وحدة وسلامة الأراضي السورية، الشرق الأوسط، 4 آب/أغسطس 2025، الرابط: https://2u.pw/wm2JLY
([12])روسيا تخاطر بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية في سوريا ما بعد الأسد،رويترز، 2 آذار/ مارس 2025، المصدر: https://bit.ly/4869EuQ
([13]) هانا نوت، روسيا لم تنتهي بعد من سوريا: كيف حافظت موسكو على نفوذها في مرحلة ما بعد الأسد، مصدر سبق ذكره.
([14]) ويللا: اتفاق ضمني بين إسرائيل وروسيا بشأن سوريا،الجزيرة، 4 كانون الأول/ديسمبر 2016،المصدر. https://bit.ly/4nXlQ5Q
([15])الرئيس الشرع يستقبل البطريارك يوحنا العاشر ويؤكد على الدور الوطني للكنيسة، سانا، 16 آب/آغسطس 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/NNxFur
([16]) وزير الدفاع السوري الجديد: سوريا قد تسمح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها، واشنطن بوست،6 شباط/فبراير 2025، المصد: https://bit.ly/46XiDgC
([17])روسيا تخاطر بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية في سوريا ما بعد الأسد،رويترز، 2 آذار/ مارس2025، المصدر: https://bit.ly/4869EuQ
([19])الشيباني من موسكو: سوريا لن تكون ساحة لصراعات دولية،شبكة شام الاخبارية،1 آب/أغسطس 2025، المصدر: https://bit.ly/4gKLkRr
([20])هانا نوت، روسيا لم تنتهي بعد من سوريا: كيف حافظت موسكو على نفوذها في مرحلة ما بعد الأسد، مصدر سبق ذكره.
([21]) لارا ديميس، عقوبات الاتحاد الأوروبي على أسماء شركات في تحقيق بشأن الفوسفات السوري، OCCRP، 27 نيسان/أبريل 2023، المصدر: https://bit.ly/4nsYTrg
([22]) سدرة الحريري، مافرص سوريا للتخلص من الديون الروسية، عنب بلدي، 25 آب/آغسطس 2025، الرابط: https://2u.pw/amaMGT
([24]) سوريا تلغي عقد إدارة الموانئ مع شركة روسية، رويترز، 24 كانون الثاني/يناير2025،المصدر: https://bit.ly/46Pc0fo
([25])سامية نخول وتيمور أزهاري، روسيا تراهن للإبقاء على القواعد العسكرية في سوريا ما بعد الأسد، رويترز، 2 آذار/مارس 2025،المصدر: https://bit.ly/46PDOQO
([26]) ليث العجلوني،جوزيف ديمبسي، ألبرت فيدال، ميناء طرطوس والاستراتيجية الجيواقتصادية الجديدة لسوريا، IISS، 3 حزيران/ يونيو 2025، المصدر: https://bit.ly/3InB1WO
([27]) نيكيتا سماجين، مع اكتساب النظام السوري الجديد الشرعية، فإنه يُبعد روسيا،كارنيغي،17 حزيران/يونيو 2025 ،المصدر: https://bit.ly/3KpxkjN
([28])سوريا: بيان المجلس حول رفع العقوبات الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي، الاتحاد الاوروبي،20 أيار/مايو 2025، المصدر: https://bit.ly/48znzJR
([29]) هانا نوت، روسيا لم تنتهي بعد من سوريا: كيف حافظت موسكو على نفوذها في مرحلة ما بعد الأسد، مصدر سبق ذكره.
([30])مقاتلات بريطانية تبدأ مهمة دفاع جوي لحلف الناتو فوق بولندا، الشرق، 21 سبتمبر 2025، المصدر: https://2u.pw/RxG6P4
([31]) توم بالمفورث،أوكرانيا تقول إن توغل الطائرات الروسية بدون طيار جزء من خطة الضغط على الغرب، رويترز، 26 أيلول/سبتمبر 2025، المصدر: https://bit.ly/42QiKbm
([32])زيلنسكي يلتقي الشرع ويلعن استئناف العلاقات بين البلدين، 25 أيلول/سبتمبر 2025، المصدر: https://2u.pw/HoSJmO
([33]) الشيباني: الحوار مع روسيا خطوة استراتيجية لصياغة شروط جديدة تحفظ سيادة سوريا، سانا، 31تموز/يوليو 2025، المصدر: https://2u.pw/3dW5KX
([34]) باتريك وينيتر،المبعوث الخاص للأمم المتحدة: الانتقال الشامل هو أفضل طريق لرفع العقوبات المفروضة على سوريا، صحيفة الغارديان، 8 كانون الثاني/يناير 2025،المصدر. https://bit.ly/42P6rfx
([35]) إميل أفدالياني، روسيا تعدل موقفها في الشرق الأوسط، منارة، 25 حزيران/يونيو 2025، المصدر. https://bit.ly/3W8Nsc6
([37]) هانا نوت، روسيا لم تنتهي بعد من سوريا: كيف حافظت موسكو على نفوذها في مرحلة ما بعد الأسد، مصدر سبق ذكره.
([38]) ساشا العلو وفاضل خانجي، تحديات السياسة السورية الجديدة: أسئلة البوصلة والخيارات الاستراتيجية، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 10 نيسان/أبريل 2025، مصدر: https://2u.pw/Jmcmnc