يأتي هذا الكتاب في ظل النقاش المحتدم حول مفهوم التعافي المبكر ومدى ملائمة المرحلة التي تعيشها سورية لطرح هذا المفهوم والخوض فيه، في ظل غياب ظروف عدم الاستقرار اللازمة للبدء في التعافي المبكر بعد، وغياب خطة وطنية متكاملة له في ظل التقسيمات الحوكمية القائمة. إلى جانب تداول الفواعل الإقليمية والدولية ذات الصلة بالملف السوري لهذا المصطلح وتشميلها إياه في أجنداتها الحالية، وهو ما ظهر جلياً في خطوة الأمم المتحدة الأخيرة المتمثلة بإطلاق مكتبها لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) عما أسماها باستراتيجية التعافي المبكر في سورية للفترة بين 2024 - 2028.

وبالتالي تأتي أهمية تناول موضوع التعافي المبكر في سورية كونه يمثل أحد أبرز المتغيرات التي بدأت ترتسم ملامحها خلال الأعوام القليلة الماضية، مع ظهور مؤشرات تُدّلل على حركية متباينة للتعافي المبكر في مناطق النفوذ الحالية المتمايزة من حيث الفواعل المحلية والاحتياجات والموارد والإمكانيات التي تحوزها. وفي ضوء مخرجات المشهد الحالي الذي يمتاز بتعزيز مناطق النفوذ وتعثر العملية السياسية؛ بدأت سياسات الفواعل المحلية والإقليمية والدولية تتكيف مع هذا الواقع وتنفذ مشاريع تعافٍ مبكر في هذه المناطق، على الرغم من هشاشة الاستقرار السياسي والأمني، وتباين قدرات الفواعل المحليين على تنفيذ هذه المشاريع، وخصوصية الواقع المحلي في كل منها، والسياق السياسي المرتبط بعملية التعافي المبكر داخل هذه المناطق. وبالتالي فإن ما يميز مرحلة التعافي المبكر هو التداخل الكبير في المكونات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ بحيث يعتمد نجاح التعافي في كل مكون على نجاحه في المكونات الأخرى، إلى جانب تأثره بمجموعة من المتغيرات الداخلية والخارجية. مما يستلزم محاولة تفكيك المكونات الثلاثة للتعافي المبكر، ومحاولة الإحاطة بالمتغيرات ذات الصلة بهذه العملية وتحديد متطلباتها وشروطها والمعايير الضامنة لنجاحها، وصولاً إلى مرحلة إعادة الإعمار.

انطلاقاً مما سبق ونظراً لأهمية مرحلة التعافي المبكر كونها المرحلة التي من المفترض أن تنقل البلد من مرحلة النزاع إلى مرحلة السلم والاستقرار، ومن ثم تهيئة الأرضية اللازمة لمرحلة إعادة الإعمار مستقبلاً. فقد دأب مركز عمران للدراسات الاستراتيجية خلال الأعوام الماضية على تلمس حركية التعافي المبكر وتتبع أنشطته عبر مجموعة من المخرجات البحثية المتنوعة. ويأتي كتابنا هذا في سياق هذا الاهتمام المتراكم بالتعافي المبكر ومحاولة الإحاطة قدر الإمكان بجوانبه المتعددة، والكتاب هو حصيلة أوراق المؤتمر البحثي الثاني الذي نظمه مركز عمران بالتعاون مع جامعة ماردين ارتقلو بتاريخ 17 أيار/مايو، 2024. والذي حمل عنوان: التعافي المبكر في سورية – الواقع والمقاربات المستقبلية. وقد شارك فيه طيف واسع من الباحثين والأكاديميين السوريين والعرب بعروض تقديمية وأوراق بحثية لامست جوانب متعددة للتعافي المبكر في سورية. ولعل تركز جل المساهمات البحثية على دراسة مناطق شمال غرب سورية هو بسبب خلفية المشاركين واهتماماتهم البحثية والصعوبات التي اكتنفت المشاركات البحثية من المناطق السورية الأخرى. 

تضمنت حصيلة الأبحاث التي شملها هذا الكتاب إحدى عشرة ورقة بحثية تناولت موضوعات متنوعة ركزت على مجموعة من الأبعاد ذات الصلة بالتعافي المبكر في محاولة منها لتشخيص الواقع، ومحاولة الإضاءة عن قرب على أهم المشكلات التي تعاني منها مناطق شمال غرب سورية في سياق تناولنا لهذا الموضوع، والجهود المبذولة من قبل الأطراف المحلية والدولية للدفع بعجلة التعافي المبكر، ومحاولة وضع توصيات بما يخدم تذليل التحديات ومعالجة المشكلات التي تعوق التعافي المبكر في هذه المناطق.

يستهل الكتاب ورقته البحثية الأولى بموضوع على غاية من الأهمية في سياق تناول التعافي المبكر وهو موضوع الموارد المائية باعتبارها ركيزة أساسية من ركائز التعافي المبكر لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. إلى جانب التحديات الكبيرة التي تواجهها مناطق شمال وشمال غرب سورية في أمنها المائي بعد أعوام من النزاع وتدهور البنية التحتية في القطاع المائي. حيث تناولت الورقة بشكل معمق دور المياه في تعزيز التعافي المبكر وتشخيص المقومات والتحديات ذات الصلة في هذه المناطق. وقد استخدم فيها الباحث أسلوب التحليل النقدي لأدبيات التعاون الدولي ما بين المساعدات الطارئة والتعافي المبكر في القطاع المائي، وأظهر دور المياه ومنشئاتها في الانتقال من المساعدات الانسانية إلى مشاريع التعافي المبكر التي تساهم في تعزيز الأمن الغذائي كإستجابة طارئة، وتنشيط القطاعات الاقتصادية المرتبطة بالأنشطة الزراعية كتنمية على المدى المتوسط والطويل. مستعرضاً تجربته وفريقه البحثي في تحديد وإعادة تأهيل جزء من شبكة سهل الروج في شمال سورية كأحد مشاريع التعافي المبكر أثناء الصراع، والتي تمت استناداً إلى منهجية مركبة تمزج بين المنهجية البحثية والتطبيقية.  

تركز الورقة الثانية على واقع التعافي في قطاع الإسكان في ظل ما يُلاحظ من نشاط كبير في هذه القطاع في مناطق شمال غرب سورية نتيجة الطلب المرتفع على السكن. حيث تستهدف الورقة تحليل واقع حوكمة السكن الآمن في شمال غرب سورية، من خلال عرض حالة مبادرات المنظمات غير الحكومية لإسكان المهجرين في منطقة أعزاز. وتحاول الورقة تحليل واقع الإشكاليات الناتجة عن الاستجابة الهجينة لمبادرات الإسكان المنفذة من قبل المنظمات غير الحكومية في ظل النزاع المطول الذي تشهده المنطقة، في ظل ما يعاني منه قطاع الإسكان من تحديات ناتجة عن تعقيدات السياق السياسي والأمني واستهداف الشبكات الرسمية وغير الرسمية لسلطات الأمر الواقع لتحقيق بعض المكتسبات والامتيازات الاقتصادية في مشروعات الإسكان المنفذة. إلى جانب معاناة المشروعات المنفذة من نقص الخبرة والتخطيط الجيد، مما أدى إلى نشوء تجمعات سكنية غير مرتبطة بالبنية التحتية ومهددة بمخاطر بيئية. في وقت برز فيه كذلك غياب المشاركة المجتمعية في هذه المشروعات وتباين ملكية الأراضي والمساكن. وبالتالي تنذر مبادرات الإسكان الحالية بعدد من المشكلات التي قد تتطور مستقبلاً وتسهم في تعقيد النزاع وعرقلة عملية التعافي المبكر في هذا القطاع.

تناقش الورقة الثالثة البعد المجتمعي من خلال تناولها لأثر مشاريع التعافي المبكر على الاستقرار المجتمعي في المناطق المتأثرة بالنزاع. وتستمد الورقة أهميتها في محاولتها تقييم أثر هذه المشاريع في سياقات محددة وخاصة في سورية كما في مدينة عفرين التي تتمتع بسياق محلي معقد، بسبب الخصوصية التي تتمتع بها المدينة من حيث التكوين الإثني الذي سبق عام 2012، إلى جانب استقبالها لموجات نزوح كبيرة من مناطق عدة نتيجة عملية التهجير القسري؛ وبالتالي ظهور الحاجة إلى تنفيذ مشاريع تعافي مبكر تراعي الوضع الحالي للمدينة وتسهم في توفير احتياجات كل من السكان المحليين والنازحين. وقد أظهرت النتائج أن هذه المشاريع أسهمت في تحسين الظروف المعيشية للسكان وتعزيز التماسك الاجتماعي إلى حد ملحوظ، وتعزيز التفاعل الإيجابي بين السكان النازحين والمقيمين. لكن بالمقابل برزت جملة من التحديات التي أثرت على فاعلية هذه المشاريع يأتي في مقدمتها سيطرة جهات غير رسمية على الموارد المحلية وارتفاع تكلفة تنفيذ المشاريع، كذلك وجود صعوبات في تحديد حقوق الملكية وتقييمها وتفاقم النزاعات القانونية جراء ذلك مما أخر تنفيذ بعض المشاريع.  وكذا فإن التوترات الاجتماعية ما زالت تشكل تحدياً في بعض الحالات. الأمر الذي يتطلب تظافر جهود جميع الفواعل في المدينة لدعم مشاريع التعافي المبكر لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للسكان.

استكمالاً لتناول البعد الاجتماعي وارتباطه بالتعافي المبكر، تأتي الورقة الرابعة لتتناول دور رأس المال الاجتماعي في التعافي المبكر لقطاع التعليم في شمال غرب سورية. وتأتي أهمية الورقة انطلاقاً من أهمية رأس المال الاجتماعي باعتباره ضرورة طبيعية في مناطق الصراع وأحد العوامل الممكنة للتعافي المبكر في هذه المناطق. سواء من خلال دوره في تحقيق الفائدة الاقتصادية والاستثمارية وكذا دوره الوقائي والتمكيني في المجتمعات المحلية. تحاول الورقة تشخيص واقع التعليم العالي وما قبل الجامعي في هذه المناطق من حيث البنية المؤسسية والمناهج المقدمة، وتحلل واقع نجاح رأس المال الاجتماعي في هذه المناطق في قطاع التعليم. كما تتناول الورقة واقع التدخلات المقدمة من قبل المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية في سياق دعم قطاع التعليم، والتي لعبت دوراً كبيراً في تحقيق التعافي في بنية المجتمعات المحلية وساهمت بشكل حقيقي في محاربة انتشار الأمية. وبالتالي، ترى الورقة ضرورة البحث عن أسس أو مرتكزات لتطوير رأس المال الاجتماعي في هذه المناطق نتيجة للدور الكبير الذي يلعب هذه المصدر المهم في خلق حالة من التعافي المبكر بشكلٍ عام وفي قطاع التعليم بشكلٍ خاص.

في ذات السياق وارتباطاً بالبعد الاجتماعي، تأتي الورقة الخامسة لتتناول دور الوعي الاجتماعي في التعافي المبكر من آثار الحرب، ولتعرض واقع الوعي الاجتماعي في مناطق شمال غرب سورية وتعرض عدد من الأمثلة التي تؤشر لتواجد هذا الوعي لدى المجتمعات المحلية. وبالتالي تهدف الورقة البحثية لتسليط الضوء على عملية التعافي المبكر التي يَختبرها المجتمع النازح والمقيم في شمال غرب سورية، بعد مرور 13 عام من الثورة، والتداعيات الكبيرة للنزاع على هذه المناطق. وتعرض الورقة واقع التعافي المبكر في عدد من القطاعات الاجتماعية خلال الأعوام الماضية وما هي العقبات التي تواجهها. كذلك التعرف على الظروف الاجتماعية التي ساهمت بتشكيل الوعي الاجتماعي، وكيف استطاعت النُخب المساهَمة في إعادة تكيف وتوافق الجماعات بما يتناسب مع الواقع الحالي. إلى جانب التعرف على الكيانات الفاعلة في تشكيل الوعي الاجتماعي لتعزيز التعافي المبكر. حيث ترى الورقة أهمية العمل على تكوين مؤسسات مُنظمة تشكل أنساق اجتماعية واقعية للمساعدة في تحقيق حاجات المجتمعات المحلية في الوقت الحالي بالاعتماد على النُخب الأكاديمية والثورية والاجتماعية لتقييم الظروف وتحديد حاجات المجتمعات المحلية الجديدة، والمساعدة على التكيف مع الظروف الطارئة كمكون أساسي لنجاح عملية التعافي المبكر.

في موضوع ذو صلة بالبنية المجتمعية، تركز الورقة البحثية السادسة على الشتات السوري في تركيا ودوره المتوقع في عملية التعافي المبكر في سورية. إذ تتناول أهمية المشاركة السياسية كجزء من عملية التعافي المبكر من خلال دراسة عينة منتقاة من السوريين الحاصلين على الجنسية التركية بعد عام 2012. وتحاول الدراسة طرح مقاربة تنموية سياسية للتعافي المبكر على الصعيد المجتمعي، ومدى تأثير المشاركة السياسية للسوريين على التنمية السياسية المجتمعية كجزء من عملية التعافي المبكر مستقبلاً. وتركز الهدف الرئيسي للدراسة إلى محاولة استكشاف وتحليل وفهم تجارب السوريين الحاصلين على الجنسية التركية بالمشاركة السياسية من مختلف الجوانب، ومدى تأثيرها على وعيهم السياسي، والدروس المستفادة من هذه التجربة، من حيث زيادة وعيهم بأهمية المشاركة السياسية وقيمة المواطنة، وكيف ستنعكس بالفائدة على المجتمع السوري في سياق عملية التعافي المبكر من خلال تسخير الخبرة المكتسبة في الحياة السياسية للمجتمعات المحلية في سورية.

تأتي الورقة السابعة في إطار تناول البعد الاقتصادي في عملية التعافي المبكر من خلال تناولها لواقع الاحتكار في مناطق إدلب وتأثيره على تعافي القطاع التجاري. هدفت الورقة إلى تشخيص واقع ظاهرة الاحتكار والسياسات والأدوات المتبعة في تعزيز وجودها من قبل سلطات الحكم المحلي، وتحليل تأثيرها على تعافي القطاع التجاري في هذه المناطق المضطربة سياسياً وعسكرياً، والتي تعاني أيضاً من تدهور ملحوظ ومضطرد في واقعها الاقتصادي. حيث تبرز هذه الظاهرة كأحد أبرز معوقات التعافي مع تجذرها وتفاقم تداعياتها على تعافي القطاع التجاري، إلى جانب ارتداداتها السلبية على المجتمعات المحلية من حيث تقلص فرص العمل والاستثمار وارتفاع معدلات البطالة والفقر. وقد خلصت الورقة إلى أن الاحتكار في إدلب تحول لأداة لدى سلطة الأمر الواقع للسيطرة وتأمين الموارد، وزيادة الهيمنة على مقدرات المنطقة، وربط مصيرها بوجود هذه السلطة. وقد تجسد هذا بشكل واضح من خلال مجموعة من الممارسات التي أثر بشكل كبير على الاقتصادات المحلية وأضعفت مقومات صمودها وأدت إلى تدهور مؤشرات الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي فيها، إلى جانب الإضرار بالسلم والأمن الأهلي. 

في ذات السياق وارتباطاً بالبعد الاقتصادي؛ تأتي الورقة الثامنة لتتناول واقع وتحديات التمويل الأصغر لمشروعات سبل العيش في سياق مرحلة التعافي المبكر في منطقة الباب في شمال غرب سورية.  هدفت الورقة إلى تسليط الضوء على التحديات والصعوبات التي تواجه تنفيذ برامج التمويل الأصغر لمشروعات سبل العيش في هذه المنطقة، وتقديم بعض الحلول التي يمكن أن تسهم في تحسين واقع تنفيذ هذه المشروعات. وقد خلصت في نهايتها أن هناك جملة من التحديات منها ما هو مرتبط بالبيئة المحيطة والسلطات المحلية، ومنها ما هو مرتبط بمنظمات المجتمع المدني المنفذة لبرامج التمويل الأصغر. في حين تبرز كذلك تحديات ذات صلة بالمستفيدين من هذه البرامج ضمن المجتمعات المحلية. واقترحت الورقة مجموعة من التوصيات ذات الصلة بالتخفيف من المعوقات التي تواجه الأطراف المرتبطة بتنفيذ هذه البرامج وتذليل التحديات التي تؤثر بشكل سلبي على مدى تحقيق الاستفادة المثلى من هذه البرامج لتنمية سبل العيش ضمن المنطقة.

في موضوع ذو صلة بالبعد الاقتصادي؛ تتناول الورقة التاسعة واقع التمويل الإنساني الدولي للتعافي المبكر في شمال غرب سورية من خلال دراسة حالة مؤسسة قطر الخيرية. حيث هدفت الورقة إلى إلقاء الضوء على أثر المساعدات المالية الإنسانية الدولية في تحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي، والجهود المبذولة من قبل هذه المؤسسة للتعافي المبكر في هذه المناطق مع حجم تمويل يقدر بملايين الدولارات الأمريكية. وبالتالي تكمن أهمية الورقة في التعرف على جهود المؤسسة وتدخلاتها الإغاثية والتنموية في هذه المناطق باعتبارها من أكبر الجهات المانحة للمنظمات السورية المنفذة للعديد من البرامج الإنسانية. وقد تم استعراض واقع بعض هذه التدخلات على مدار الأعوام الماضية في كل من قطاع التربية والتعليم وقطاع الإسكان والتعمير وقطاع وسبل العيش والأمن الغذائي وقطاع الصحة. وقد بينت الورقة الدور الهام لهذه التدخلات من ناحية التأثير الإيجابي على استقرار المجتمعات المحلية منذ عام 2011 حتى الوقت الحاضر، وإسهامها بشكل فاعل في سد جزء هام من الاحتياجات الكبيرة في مختلف القطاعات، مع كبر حجم الاحتياج المطلوب وتفاقم تداعيات استطالة أمد النزاع.  

في ذات السياق وارتباطاً بالمنظمات غير الحكومية المنفذة لبرامج التعافي المبكر في شمال غرب سورية، تتناول الورقة العاشرة تقييم نجاح مشاريع التعافي المبكر وسبل العيش من خلال دراسة حالة منظمة تكافل الشام العاملة في هذه المناطق. حيث هدفت الورقة إلى محاولة تقييم كيفية استخدام برامج التعافي المبكر وسبل العيش في شمال غرب سورية لأساليب القياس الفعالة، وتقييم نجاح التدخلات ضمنها في الحد من المعاناة الإنسانية وتلبية الاحتياجات الاقتصادية، والأثر المستدام لهذه التدخلات ومدى إسهامها في تنمية هذه المناطق تماشياً مع المعايير الدولية ذات الصلة. وقد خلصت الورقة إلى مجموعة من النتائج أهمها هو ضرورة تنويع مصادر التمويل وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص وإنشاء مراكز الخدمات المالية، ودعم النماذج التعاونية وتنويع التدخلات ضمن البرامج وذلك بهدف ضمان استدامة برامج سبل العيش والتعافي المبكر. كما نوهت الورقة بضرورة تبني استراتيجيات حماية الدخل للمستفيدين من هذه البرامج، ومنح الأولوية لإعادة تأهيل البنية التحتية وتطوير أطر التقييم المتوافقة مع أهداف التنمية المستدامة والمعايير الإنسانية الأساسية، والتي ستدعم بشكل أكبر التأثير الطويل الأجل والمراقبة الفاعلة للبرامج المنفذة في هذه المناطق.

 ختاماً وفي ذات السياق، هدفت الورقة الأخيرة لتقييم واقع الاستدامة المالية للمنظمات غير الحكومية العاملة في مناطق شمال غرب سورية في سياق مساهمتها في عملية التعافي المبكر، ومحاولة الإحاطة بجميع العوامل الداخلية والخارجية ذات الصلة بهذه الاستدامة. حيث تتجلى أهمية تشخيص واقع الاستدامة المالية في بناء تصور واضح لحاضر ومستقبل هذه المنظمات في سياق عملها في هذه المناطق بشكل عام وفي مرحلة التعافي المبكر بشكل خاص. وخلصت الورقة إلى أن هناك عدد من العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة على الاستدامة المالية لدى هذه المنظمات من أهمها سياسات التمويل للجهات المانحة، وارتباط التمويل بشكل غير مباشر بالجانب السياسي للملف السوري، إلى جانب التفاوت الواضح بين التمويل الخيري المتاح والاحتياجات الفعلية وكذلك تأثيرات البيئة المحلية. علاوة على ذلك، هناك عوامل أخرى تتعلق بالمنظمات نفسها مثل خصائص هذه المنظمات وعدم التزامها بقواعد الحوكمة المؤسسية، وانخفاض الكفاءة في إدارة التمويل والموارد البشرية، وانخفاض مستوى الإفصاح والشفافية وغيرها من العوامل الأخرى. وبالتالي كان للعوامل المذكورة أعلاه تأثير واضح على فاعلية برامج التعافي المبكر للمنظمات في مناطق الدراسة.

حاولت الأوراق البحثية التي شملها هذا الكتاب الإضاءة على بعض جوانب واقع التعافي المبكر في شمال غرب سورية. ولعل الإحاطة بجميع جوانب هذه العملية كان من الأهمية بمكان؛ لكن تم التّقيد فقط بإدراج الأوراق البحثية التي قُدمت ضمن المؤتمر بعد خضوعها للتحكيم العلمي وامتثالها للمعايير العلمية التي حددتها اللجنة العلمية في إعلان المؤتمر.  وعليه تُشكل العناوين المطروحة إضافة علمية قيمة للمهتمين بموضوع التعافي المبكر في سورية من حيث الإحاطة بجزئيات جديدة لم يسبق طرحها سابقاً في هذا السياق، بحيث حاولت تلَّمس الواقع الحقيقي لسيرورة عملية التعافي على أرض الواقع عاكسة مؤشرات مهمة يمكن البناء عليها من قبل جميع الأطراف ذات الصلة بهذه العملية، فيما يرتبط بالتصميم المناسب لتدخلات التعافي المبكر في القطاعات التي تم تناولها من قبل الباحثين. إلى جانب محاولتها وضع توصيات وحلول للمشكلات التي تعترض التنفيذ الفاعل لهذه التدخلات. أضف إلى ذلك أن أهمية هذا الكتاب تنبع من أهمية موضوع التعافي المبكر في سورية الذي بدأت تتعاظم أهمية البحث فيه مؤخراً تماشياً مع التوجه الإقليمي والدولي لتحريك عجلته بما يحقق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للسكان في عموم مناطق النفوذ داخل سورية.

أخيراً لا يسعني إلا التقدم بالشكر الجزيل للباحثين والباحثات الذين أسهموا في هذا المخرج البحثي الهام. كذلك الشكر موصول للمحكمين والمحكمات الذين كانت لملاحظاتهم العلمية على الأوراق دوراً هاماً في تصويبها بما يتسق والمعايير العلمية. ولا يفوتني هنا التقدم بالشكر والتقدير لفريق المؤتمر والذي ضم كوكبة من الأكاديميين والباحثين والإداريين من جامعة ماردين آرتقلو ومركز عمران للدراسات، وأخص منهم الدكتور مصطفى قداد والدكتور رشيد شيخو والدكتور عمار قحف والأستاذ سامر الأحمد، واللذين بذلوا جهوداً كبيرة في التحضير والإعداد للمؤتمر وصولاً لتقديم هذا الكتاب الذي هو ثمرة لاتفاقية التعاون بين مركز عمران وجامعة ماردين آرتقلو اللذين يسعيان جاهدين لبذل ما أمكن من جهود في سبيل النهوض بالواقع التعليمي والبحثي للسوريين وتوجيه جهودهم لخدمة القضية السورية.