ست سنوات؛ ولا يزال البحث عن تفاعل سياسي وطني يفرض نفسه على كل فعاليات قوى المعارضة والثورة السورية، ولم يفلح هذا البحث حتى الآن في إيجاد مقاربة تجمع كافة الفواعل ضمن مشروع وطني متسق وظيفياً وبنيوياً، ومرد ذلك؛ تظافر أمران، الأول: السياق السياسي للمشهد السوري وتطوراته والذي فرض -وفقاً لتدحرج الصراع وانتقاله لمستويات أكثر صلابة -انخراط معظم القوى ضمن علاقات وتحالفات دولية وإقليمية انتقلت تدريجياً لتستحوذ على كافة القرارات، وتضيق على تلك القوى حدودها وهوامش تحركها الوطني، والأمر الثاني كرسته حدود التنافس العسكري ونسب السيطرة واختلاف خصوصية الجبهات، التي باتت حركتها متسقةً مع مفاهيم "الضبط والتحكم" التي نجمت عن غرف الدعم وضغط "أصدقاء الشعب السوري"، الأمر الذي جعل "الطرح والجسد المركزي المرتجى" لقوى المعارضة والثورة أمراً لا يتوافق مع تعتريه الجغرافية السياسية والعسكرية والإدارية، والتي تدار وفق منطق جيوأمني يغلب شروط "أمن الدولة المجاورة".
"فيما يتعلق باتفاق المعابر؛ يمكن تسجيل الموقف السياسي ابتداءً على أنه مؤشر أولي للاتجاه نحو لملمة التشظي ووحدة القرار واتساقه الوظيفي مع متطلبات هذه المرحلة "
ومع تراكم الإخفاقات وانحسار خيارات القوى المحلية التي كانت مزهوة في الأمس غير القريب بوضعها العسكري وعلاقاتها السياسية، يعود الحديث مرة جديدة عن تلك الفاعلية وإن كان بإطار جزئي "كمرحلة ابتدائية لتصحح وتطور مسارها لتغدو عابرة للجبهات"، ولعل ليس أخر هذه المبادرات هو اتفاق المعابر الأخير الذي وقع بتاريخ 24/10/2017، وانطلاقاً من ضرورة التقييم الموضوعي الممزوج بالطموح الوطني سنتناول هذا الاتفاق لنكتشف ما الجديد به ولنختبر تموضع غاية السعي لامتلاك القرار الوطني ضمن سياق هذه المبادرة ومراحل تطورها.
فيما يتعلق باتفاق المعابر؛ يمكن تسجيل الموقف السياسي ابتداءً على أنه مؤشر أولي للاتجاه نحو لملمة التشظي ووحدة القرار واتساقه الوظيفي مع متطلبات هذه المرحلة وما أفرزته من تهميش كامل لقوى المعارضة والثورة السورية ولا سيما على الصعد السياسية والعسكرية؛ وهو بداية مهمة لما بات يعرف ب "سيناريو ادلب"، قَدْحٌ لسياسة استرداد المدينة من أصحاب المشاريع العابرة للوطنية، وقطع لأي طريق يرتجيه نظام الاجرام ومسانديه لعودة سيطرته على المعقل الأهم للمعارضة السورية في الشمال السوري، فملء الفراغ بتوحد سياسي وعسكري يخفف من أعباء المدينة واستحقاقاتها الصعبة.
"ما يعزز أن هذا الاتفاق لا يزال يفتقد لأسباب "المنتج الاستراتيجي"
ولكن ما يجعلنا نخفف من سقف التوقع من هذا الاتفاق هواجس عدة أهمها سياق الاتفاق والذي يأتي بالتزامن مع التدخل التركي في المحافظة بموجب تفاهمات الاستانة ومتطلبات مناطق خفض التصعيد، وهو ما يعزز فرضية "البحث التركي على مناخات ضبط المشهد" ريثما تكتمل شروط فاعلية هذا التدخل المرتبطة حاليا بموافقة الولايات المتحدة وهو ما يجعل هذا الاتفاق مرهونا بسياق سياسي لم يكتمل بعد، ولعل كثافة الحضور التركي الرسمي يعد مؤشر بالغ الأهمية في ذلك (والي عينتاب وكلس وقائد القوات الخاصة وممثلي الاستخبارات التركية) هذا من جهة، ومن جهة أخرى ولذات الاسباب عملت قوات التدخل التركي كمرحلة أولى على تخفيف كلفة التدخل السياسية والعسكرية، إذ عملت على خلق "ترتيب ما" مع تيار محدد من هيئة تحرير الشام (ذات نسب السيطرة الأكبر على المحافظة)، وهو ما يعزز أن هذا الاتفاق لا يزال يفتقد لأسباب "المنتج الاستراتيجي".
ومن جهة ثالثة؛ تُرشح تفاصيل هذا الاتفاق أنه أتى وفق توافق غلب منطق المحاصصة وهذا ما يمكن تلمسه في مكونات "الجيش النظامي" الثلاثية، واحتمالية عدم انصهار تلك القوى حتى في المرحلة الثانية كما يرتجيه الاتفاق، إذ أنه طالما لم ينص على إعداد نظم إدارية للعمل العسكري ستبقى العقيدة العسكرية سائلة وغير متبلورة وفي هذه الحالة لا يمكن تجاوز أثر الفصائلية وتداعياتها على هذا الجيش المتخيل. كما يظهر منطق المحاصصة من تفصيل توزيع دخل المعابر الذي ينبغي ان يتعامل كـ"مال عام" له سياسات وموازنات مبنية على دراسات وتقدير احتياجات تراعي متطلبات الإدارة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ناهيك أساساً عن أن مؤشر الاقتتال الاخير بين فصيلي السلطان مراد والجبهة الشامية بعد اتفاق حضرته الحكومة إنما ينذر بملامح عودة الخلاف وتدهور تلك التفاهمات.
وما يزيد هذه الهواجس هو مصير كافة المبادرات المشابهة، وعدم استيفائها لشروط التشكل الوطني وغاياته؛ إذ تفرض خطوات الانتقال من "الفصائلية" إلى مرحلة الضبط التنظيمي العديد من الخطوات التمهيدية الضرورية التي تسعى لعدم الوقوع بالخطأ الدائم لهكذا مبادرات والمتعلق بتركيب المبادرات على واقع سياسي معين يمتلك مؤشرات التغيير، فتفيدنا حركية قوى المعارضة وسجلها في هذا الإطار الى العديد من المبادرات التي تأتي كردات فعل أكثر مما هي استراتيجية؛ وكخيار لتحسين التموضع أكثر منه الإيمان الكامل بضرورة الانخراط بمشروع وطني جامع. حيث يفتقد هذا الاتفاق للإطار السياسي؛ والأهداف؛ والأدوار؛ والمسؤوليات؛ والتخلي التام عن فكرة الفصائلية لصالح الدفع باتجاه امتلاك زمام المبادرة وامتلاك عوامل الصلابة ومعطيات الديمومة والاستمرار.
ولكي لا يسير هذا الاتفاق باتجاه مصير المبادرات السابقة، وللاستفادة من الظرف الراهن، ومن أجل أن يستفيد العمل الوطني من الفرص المحتملة لهذا الاتفاق ،( والتي تتمثل في أربعة اتجاهات: امتلاك السبب الأولي لتفكيك هيئة تحرير الشام وتحقيق التمايز بين تياراتها؛ وحماية العمل المدني والحكومي وزيادة فعالياته؛ ووقف نزيف المعابر؛ وخطوة أولى باتجاه عمل منظم ببوصلة ينبغي لها مواجهة كل المشاريع العابرة للوطنية) ينبغي العمل على تحقيق مجموعة من الشروط الضامنة لتحويل هذا الاتفاق لقاعدة انطلاق أولى باتجاه تبلور مشروع وطني، أولها توسيع قاعدة المنتمين لهذا الاتفاق وعقد العديد من المشاورات الوطنية لدعمه وتمتينه؛ وثانيها ضرورة الانطلاق في قضية الجيش النظامي من مراعاة عدة عناصر أهمها إيلاء مهمة القيادة للضباط المنشقين وفق تسلسل الرتب وتبعية لوزارة الدفاع، وعقيدة عسكرية موحدة، واتساق الفعل العسكري مع طبيعة القرار السياسي؛ وثالثها بناء الشرعية الداعمة لهذا الاتفاق.
ولعل الخطوة الأهم هو تطوير هيكلية وبنى الحكومة المؤقتة ووظائفها؛ وأن تتصالح بنيوياً مع فكرة المشروع والأداء السياسي فلفرض واقع محوكم ينبغي العمل وفق بوصلة واضحة المحددات السياسية، فالاكتفاء في ترسيخ بنى تحتية وشبكة طرق ومدراس ومشاريع تنموية ومراكز بريد، إن لم يقترن بأسئلة سياسية تتعلق بتموضعها ضمن الوظائف الدولتية المتشكلة كالوظائف العسكرية والإدارية والأمنية والمالية، وبالمرجعية المفترضة؛ والحدود القانونية للعلاقة مع الفواعل المحلية؛ والسياسات العامة التنموية والاستثمارية...إلخ.
ولعلي أختم بالتأكيد على أن "نبل الطرح" لا يجعلنا نسلم بالشكل المطروح، بل يدفعنا باتجاه التحفيز والدفع لأن يكون مضمون الطرح وآليات تنفيذه واقعية وموضوعية ووطنية، وإلا نكون كمن يبيع الوهم، فالواقع الحالي للجغرافية السورية يعتريه العديد من الارتكاسات التي تتطلب حسماً وانتماء وطنياً لفعالية سياسية تُعلي من الشرط الاجتماعي والسياسي للمواطن السوري والمتمثل بالانتقال السياسي لدولة العدالة والقانون؛ فعالية تحارب كل المشاريع العابرة للوطنية ولا ترتجيها؛ فعالية بناءة تراعي السبل الموضوعية لظروف التشكل وسلامته. وهو ما ينتظر أن تقوم به، أو تخطو باتجاه القوى الموقعة على اتفاق المعابر، وإلا كان عبثاً ولا يساوي ثمن الحبر الذي كتب به.
المصدر موقع السورية نت: https://goo.gl/q28b8o