التقارير

على الرغم من وضوح تمسك جل فواعل المنطقة بقواعد الاشتباك السائدة على مدار العقدين الماضيين، إلا أن توسيع هوامش تلك القواعد أفرز اضطراباً في شكل التفاعلات الأمنية قد ساهم في تعثر ديناميات إدارة الأزمات المتبعة عموماً، وفي هذا السياق يعد اغتيال حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني وما سبقه من ضرب الهيكلية وإحداث خلل في منظومة الاتصال والتواصل؛ حلقة مهمة  في تقويض قدرة الحزب التي توسعت وتضخمت أدواره الإقليمية والمحلية من جهة، وفي إعادة تشكيل المعادلة الأمنية في النظام الإقليمي الذي سيختبر قدرة ما يسمى محور "المقاومة" لا سيما في ظل مؤشرات التصعيد المتزايدة من جهة أخرى.

انتهاء صلاحية المعادلة الأمنية الإقليمية

منذ عام 2010 والهاجس الأمني هو السؤال الأكثر إلحاحاً لدى النظام الإقليمي والأزمات التي يشهدها من تونس إلى مصر مروراً بالسودان وليبا واليمن وسورية والعراق وليس انتهاءاً بفلسطين، نظامٌ أَلِفَ قواعد اشتباكٍ وتعاطٍ "منضبطة"، [1]وهو ما أدى لانشغال دول المنطقة في انتاج سياسات تعاطي مع مفرزات الربيع العربي (تهديدات لأنظمة حكم، بروز تيارات تطمح للتغيير، تحديات جمة للعقد الاجتماعي...إلخ) وتنوعت تلك السياسات ما بين "المواجهة" أو "صد الآثار" أو "إدارة الأزمة"، حاولت بمجموعها عودة عقارب الساعة وإيقافها في ذاك الزمن، عبر السياسات الآتية:

  • سياسات الاستثمار السياسي لورقة الجماعات الحركية الإسلامية لإعادة تعريف الصراع الحاصل وتسهيل نقله لمستويات أمنية.
  • سياسات التحكم بخيارات وقرارات الفواعل غير الدولتية ودعمها بما ينسجم والمصلحة الأمنية (الحرب بالوكالة).
  • سياسات التهجير والتجريف التي ستفرض إعادة هندسة اجتماعية من زاوية أمنية بحتة، ولم تنتهِ بسياسات التكيف والتطبيع مع واقع تدار الفوضى فيه وتتعزز مؤشرات استقرار هش محكوم بحلول ومقاربات سياسية لن ترى النور وفق المدخلات السائدة.

لم تقف "إسرائيل" متفرجة، وهي من توظف مؤسساتها ومجتمعها وعلاقاتها الدولية لصالح "أمن كيانها"، وهي التي تدري أن حسابات المصلحة الإقليمية والدولية كانت وستبقى تنطلق منها وإليها، إلا أن ذلك لم يمنعها من الحركة والتفاعل في الإقليم عبر ثلاث استراتيجيات:

  • إضعاف إيران وحزب الله وإنهاك واستنزاف جميع الفواعل الإقليمية والمحلية في الملف السوري، وهو ما استوجب عدم السماح بتغيير قواعد الاشتباك مع حزب الله أو تغيير قدراته القتالية، ومراقبة الحزب الذي كُشِف ظهره بتدخله في سورية دعماً لنظام الأسد. وإبعاد طهران عن حدودها الشمالية.
  • تعزيز التطبيع وتوسيع دائرته وخلق بيئة "صديقة" لها تنهي مرحلة التقوقع الجغرافي لتبدأ مرحلة تواصل وتفاعل مع المحيط بعد ضمان "تسيدها" هذا النظام.
  • مراقبة الجغرافيات العسكرية من غزة إلى لبنان إلى سورية إلى اليمن إلى العراق، واتباع منهجية إدارة الأزمة دون تغيير مع تثبيت حق التدخل متعاً لتغيير موازين القوى.

وفي لحظة "أمانٍ إسرائيلية" ومسارات "تطبيع متنامية" و"لا مبالاة أمريكية بشرقٍ ملتهب" أتت عملية طوفان الأقصى العابرة للعمليات التقليدية، لتؤكد عجز الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، وعودة طهران كطرفٍ رئيسي في طاولة التفاوض الإقليمية. الأمر الذي استوجب تغييراً في عقلية إدارة الحرب داخل إسرائيل التي استبعدت متغير الكلفة من الحسابات الأمنية الدقيقة، وهو ما تطلب نقل مستويات الصراع إلى مستويات عابرة للصراع التقليدي وتمتلك كل مؤشرات الانزلاق لمعارك خارج الحدود، فالهدف هو إنهاء صلاحية كل أوراق الضغط عليها. وتجلى تطبيقها العملي في تغيير الواقع العسكري والديمُغرافي في غزة وإخراجها سياسياً وعسكرياً وإدارياً من معادلات التأثير، وضرب الهيكل القيادي لـ"حزب الله" وتدمير شبكة الاتصالات والتواصل، وتدمير شبكات النقل والتخزين، وإعادة حوالي 60 ألف نازح إلى شمال إسرائيل وإقامة منطقة آمنة خالية من "حزب الله" وصواريخه. وبهذا تتعزز كل المؤشرات الدالة على دخول المنطقة مرحلة إعادة تشكل جديدة.

كسر المحور أم إعادة تعريف وظيفته

لعل التحليل الكمي للعملية الأمنية الإسرائيلية في جنوب لبنان والضاحية يُفيد بتلقي الحزب ضربة ثلاثية الأبعاد أعادته مبدئياً عقوداً إلى الخلف، كضرب البنية ضرباً متعدد الاتجاهات هزّ شبكاته وهيكليته الأمنية والاستخباراتية وأفقده عنصري المبادأة والتخطيط العسكريين. إلا أن التحليل النوعي والمراعي لهواجس إعادة التشكل للمعادلة الأمنية الناظمة؛ يَجعل النظر إلى هذه العملية باعتبارها "إعادة تعريف" وتغيير في سلم الأولويات للفواعل المناوئة لإسرائيل، وبالتالي تحجيم دور إيران وتجفيف منابع التهديد التي تستخدمها وذلك من خلال استراتيجية تأمين المحيط الحيوي وتفكيك ترابط الجبهات والفواعل التي تتحالف مع طهران بالمنطقة عبر:

  • اختبار الأسد الذي يركز كل اهتماماته على إعادة انتعاش شبكات حكمه وإجباره على "إدارة الظهر" لكافة العمليات التي تستهدف إيران والحزب في 214 موقعاً في الجغرافية السورية
  • تغير قواعد النزاع في فلسطين عبر استنزاف حماس الاستراتيجي وإفقادها عناصر النهوض عبر التدمير الجغرافي لعزة نقطة قوة حماس المركزية
  • تأمين الحدود الشمالية من خلال كسر حزب الله الذي توسعت وظائفه وأدواره بعد مقتل سليماني دون انهائه، ودفعه باتجاه تغيير فلسفة عمله الأمني وإجباره على التماهي مع أولويات "الدولة " اللبنانية المنهكة.

بالمقابل تتراوح خيارات إيران بين الصعب والأصعب، فإما التصعيد ويعني المزيد من استخدام أدوات المواجهة وهي إما مباشرة لمرة واحدة عبر رد عسكري يحمل صيغة "الجهوزية لأي خيار"  أو استخدام الجغرافية السورية من خلال فتح جبهات الجولان أمام الميليشيات الإيرانية وتعزيز الإسناد،  أو كلاهما، وفي هذا مغامرة إيرانية فهي تسير باتجاه تقويض أوراق قوتها كلياً، وبالتالي ستقع بالمزيد من المطبات والأخطاء الاستراتيجية،  فالمراهنة المطلقة على عدم عودة الولايات المتحدة الأمريكية للمنطقة وإيمانها بدور طهران الشرطي يبدو أنه رهان محفوف بالعديد من المتغيرات القلقة، ناهيك عن غياب النجاعة والقدرة لدى أدوات طهران الإقليمية. عموماً سيلقى خيار التصعيد ممانعة ومعارضة روسية فهذا أمر يهدد مكاسبها المتحصلة في سورية وينذر بالعودة إلى الميدان العسكري. لكن إن حصل فسيدخل الإقليم دوامة متعددة المتغيرات والتحولات.

أو الاحتواء والتماهي مع متطلبات إسرائيل وقد يستلزم هذا قبول المبادرة الدبلوماسية الأمريكية الفرنسية وتوجيه حزب الله لسحب وجوده العسكري إلى شمال نهر الليطاني. كما يعني هذا فصل جبهتي الحرب في لبنان وغزة وإنهاء معركة الاسناد. كل هذا من شأنه أن يوفر للحرس الثوري الإيراني الوقت والمساحة لإعادة بناء ترسانة حزب الله وإعادة هيكلة قيادته العسكرية، وهذا ما لن يُسمح به دولياً خاصة في ظل رفض الحزب نفسه الانخراط الإيجابي باللعبة السياسية اللبنانية وتحت "سيادة" الدولة.

إذاً تواجه طهران مأزقاً بالغ الأهمية فهي تتعرض لتهديد أركان استراتيجيها الإقليمية القائمة على حصر الملعب الاستراتيجي خارج مركزها وعبر أدوات محلياتية.

تعزز تلك السياسات مقاربة "التحكم بوظائف المحور" من جهة، وإغراق المنطقة بموجبات "التعافي والصيانة الذاتية" وما يرافقها من أزمات إنسانية من جهة ثانية، وبالتالي إجبار كافة عناصر هذا المحور على الالتفات لاستحقاقاتها المحلية.

مسرح الجغرافية السورية تحت المجهر

فيما يرتبط بالتداعيات الأولية تتبلور عسكرياً في "خسارة السند" والحليف، إذ يمثّل استنزاف حزب الله بهذا الشكل إضعاف القوات البرية التي كان حزب الله رأس حربتها وأفضلها تدريباً وتخطيطاً وانضباطاً، ناهيك عن الخلل في عنصري القيادة والتخطيط، باعتبار أن الحزب هو المخطط العملياتي للعديد من القضايا العسكرية في سورية، وهذا سينعكس بدرجة ما على أداء قوات النظام وقدرته الدفاعية؛ إلا أنه وبحكم منطق وقف إطلاق النار غير المعلن في سورية سيجعل من التداعيات العسكرية رهينة التطورات الدافعة باتجاه الانزلاق إلى الميدان العسكري من جديد، وهذا ما لا تتوفر مؤشراته إلا في حال توسعت العملية الإسرائيلية لتشمل سورية أو في حال نجاح إيران باستخدام ورقتها الأخيرة والتي تتمثل بنظام الأسد.

أما سياسياً سيتراجع كثيراً الاهتمام الدولي والإقليمي في الملف السوري، وفي كل الأحوال يبدو أن مسار أستانة سيبقى مستيداً للتفاعلات الأمنية في سورية وسيتعزز أكثر مع سياسات مواجهة إيران وهو ما من شأنه الدفع باتجاه انجاز تفاهم أضنة المعدل من جهة، وتعزيز قواعد العمل المشترك بين النظام وتركيا (الأمنية والاقتصادية والسياسية) من جهة أخرى. وستجهد موسكو إلى ضبط إيران ضمن هذا المسار وعدم جعله منصة لتحسين شروطها الإقليمية في إطار النزاع مع إسرائيل.

كما تدلل المعطيات المتشكلة على احتمالية بروز الدور العربي مجدداً، وبالتالي عودة فعاليتها في الملف اللبناني والسوري، وهنا سيعزز النظام مؤشرات التماهي مع خطة التقارب التي يطرحها العرب وبالتالي سيبدي استجابة واضحة لا سيما فيما يتعلق بملف المخدرات، وبهذا يراهن النظام مرة أخرى على تقبله كفاعل "منضبط".

أيضاً؛ توحي عملية إعادة التشكل التي ستشهدها معادلات الأمن والاستقرار في الإقليم بتعزز مقاربة "إعلاء منطق سيادة الدولة" وعدم نجاعة التعاطي مع فواعل ما دون الدولة، فضرورة سيادتها (وفق منهجية الفواعل الإقليمية والدولية) حتى وإن كانت ضعيفة وفاشلة تبقى أقل الأخطار في ظل تعدد الفواعل وتباين المصالح المعقدة، وهذا يعلي من ضرورة إنجاز توافقات إقليمية حيال أزمات المنطقة لضمان عودة الاستقرار وإنهاء مرحلة السيولة الأمنية.

وبهذا الصدد، ينبغي على كافة القوى السورية الوطنية التركيز الاستراتيجي على الاهتمام بالمشروع والخطاب الوطني والعمل على انجاز تفاهمات مع كافة القوى حول المنظور السوري "للدولة" وأولوياتها وأدوارها المحلية والإقليمية، وإنجاز (وتصدير) رؤى وطنية حيال شكل الحكم في سورية بما يجعله ينسجم مع متطلبات التنمية والمشاركة ويتوافق مع الغاية الإقليمية في بناء الاستقرار وصيانته.


 

([1] ) يقصد بالمعادلة الأمنية الإقليمية: الصيغة المعبرة عن توازن القوى في الإقليم وما تستلزمه من تحالفات وتوافقات في إدارة الأزمات، وتتشكل عناصرها من فواعل مؤثرة + سياسات أمنية + قواعد تعاطٍ، وهي بطبيعة الحال تبقى انعكاساً لشكل النظام الدولي.

كما يعتمد المقال التحليل الأمني باعتباره مدخلاً مهماً في فهم تفاعلات الدول من جهة، ومقارباتها حيال أزمات المنطقة من جهة ثانية، ويرتكز هذا التحليل على النظرية الواقعية التي ترى أن المخاطر العسكرية لا سيما الخارجية هي أبرز تهديد لأمن الدول، وترصد مؤشري التهديد واستخدام القوى والسيطرة عليها باعتبارها من ابرز مؤشرات فهم التفاعلات الأمنية التي تتم في بيئة فوضوية فيها صراعات مركبة تجعل من فكرة  الحرب احتمالية قائمة.

التصنيف مقالات الرأي

تمهيد

منذ أن أعلنت "الإدارة الذاتية" استعدادها لإجراء الانتخابات المحلية في مناطق سيطرتها لم تتوقف التهديدات التركية بشأن استهداف مشروعها، إذ ترى تركيا أن الانتخابات هي وسيلة لترسيخ الهياكل الحوكمية للإدارة بشكل يصعّب تقويضها في المستقبل. تزامناً مع ذلك، شهد مسار التقارب التركي مع نظام الأسد تطورات نوعية[1]، بمساعٍ حثيثة من موسكو لتسريع مسار التقارب بين الجانبين ورعاية لقاء ثنائي على المستوى الرئاسي يجمع أردوغان مع بشار الأسد، استعداداً لمرحلة ما بعد الانتخابات الأمريكية واحتمالية عودة ترامب للسلطة وتداعيات ذلك على المنطقة، إضافة إلى المخاوف الإقليمية المتعلقة باندلاع حرب جديدة في لبنان وامتداد تأثيراتها إلى الساحة السورية.

أثارت أجواء هذا التقارب مخاوف الإدارة، معتبرة ذلك "خطراً وجودياً" عليها واصفة هذا المسار بأنه "مؤامرة كبيرة ضد الشعب السوري"[2]. يتناول تقدير الموقف هذا دوافع تركيا للتقارب مع نظام الأسد، والسيناريوهات المتوقعة لكيفية تعاطي الإدارة الذاتية مع الواقع الجديد.

تحوّل تركي استراتيجي أم تكتيكي

مرَّت السياسة التركية تجاه سورية منذ 2011 بتحولات عديدة متأثرة بالمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، من دعم التحول الديمقراطي إلى استراتيجية أمنية-عسكرية تركز على حماية حدودها ومحاربة "الإرهاب" من خلال التدخل العسكري المباشر ودعم الجيش الوطني السوري.

وبعد دخول الملف السوري في حالة الاستعصاء السياسي وتجميد الصراع مما أدى إلى تثبيت الحدود الأمنية التي تفصل بين مناطق السيطرة، زاد العبء على تركيا من حيث استمرار وجود ملايين اللاجئين على أراضيها، واستمرار التهديد الأمني على حدودها، ووجود اتفاقات أمنية مع الولايات المتحدة وروسيا تعيق أي عمل عسكري جديد. وفي هذا السياق تأتي المحاولات التركية للتقارب مع نظام الأسد بدعم روسي بحثاً عن مسارات بديلة لتحقيق مصالح تركيا وحفظ أمنها القومي.

ويمكن قراءة الحماس التركي للتقارب مع النظام في بعدين أساسيين، أولهما مرتبط بالتطورات الإقليمية-الدولية ويتجلى في ثلاثة دوافع رئيسية:

  • عودة ترامب إلى السلطة: تطمح تركيا لاستعادة علاقات وثيقة وأكثر ودية مع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل إدارة جديدة يقودها ترامب، بناء على وجود تفاهمات خاصة بين الرئيسين حول عدد من القضايا الإقليمية خلال فترة رئاسة ترامب السابقة، حيث تتوقع أنقرة أن تكون سياسات ترامب الخارجية أكثر توافقاً مع مصالحها، بما في ذلك إمكانية إعادة النظر في وجود القوات الأمريكية في سورية وإدارة العلاقة مع روسيا والتعامل مع "قسد". ولذلك، تسعى تركيا للتقارب مع نظام الأسد استعداداً لأي تغييرات قد تأتي مع عودة ترامب.
  • تحسين العلاقة مع موسكو: في ظل التوترات مع الغرب، ترى تركيا علاقاتها مع روسيا استراتيجية تعزز موقفها الدولي وتوسع هامش المناورة في العديد من الملفات الإقليمية والدولية. وهنا يأتي التقارب مع نظام الأسد بدعم من موسكو، كجزء من جهود أنقرة لتعزيز علاقتها مع روسيا وتأمين مصالحها والتأكيد على استقلالية قرارها في القضايا الإقليمية.
  • الخوف من تطور الحرب في غزة إلى حرب إقليمية: تخشى تركيا من أن تؤدي حرب غزة المستمرة والعمليات العسكرية المتصاعدة في لبنان إلى حرب إقليمية شاملة قد تمتد إلى سورية. وفي هذا السياق، يعتبر التقارب مع دمشق وتعزيز العلاقة مع موسكو خطوة استراتيجية لتنسيق الجهود الإقليمية وضمان حماية مصالحها وأمنها القومي في حال تفاقم الأوضاع.

أما البعد الثاني فهو مرتبط بديناميات السياسة التركية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الملفات المطروحة على الطاولة معقدة وتفوق قدرات الجانبين على تحقيقها، حيث تتشابك مصالح الفواعل المحليين والإقليميين والدوليين في سورية، وليس من السهولة مناقشة كثير من الملفات بين تركيا ونظام الأسد بمعزل عن بقية الفاعلين. وهنا يمكن تحديد الدوافع التركية بأربع أولويات رئيسية:

  • قوننة الوجود العسكري التركي في سورية: تسعى تركيا لضمان استمرار "محاربة الإرهاب" حتى القضاء على مشروع "الإدارة الذاتية". وفي ظل فقدان الثقة بنظام الأسد والولايات المتحدة الأمريكية؛ تسعى لإبقاء جنودها على الأرض لتأمين حدودها وأمنها القومي. على المدى المتوسط والبعيد، تحتاج تركيا لشرعنة هذا الوجود من قبل النظام السياسي الحاكم في سورية، عبر اتفاق جديد يعطيها الحق بمحاربة "الإرهاب" داخل سورية أو تعديل اتفاق أضنة، وإن كان من غير المرجح أن يقبل النظام بشرعنة الوجود التركي دون الحصول على ضمانات كافية للانسحاب وتحقيق مكاسب في ملفات أخرى.
  • قطع الطريق أمام أي وجود مستقبلي للإدارة الذاتية على طاولة صناعة القرار في دمشق: تخشى تركيا من ترتيبات سياسية قد تفضي إلى إعطاء شرعية دستورية "للإدارة الذاتية" ووصول "حزب الاتحاد الديمقراطيPYD" إلى دوائر صنع القرار ضمن النظام السياسي المستقبلي في دمشق، مما سيزيد من تعقيد الملف ويهدد مستقبل العلاقة بين تركيا وسورية.
  • تخفيف عبء اللاجئين: تستقبل تركيا ما يزيد عن 5 مليون لاجئ سوري على أراضيها، كما تشرف على إدارة الخدمات لقرابة 5 ملايين بين نازح ومقيم في شمال غرب سورية. وفي السنوات الأخيرة، تم تحميل اللاجئين السوريين -من قبل بعض الأطراف السياسية التركية- مسؤولية الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها البلاد. ونتيجة الاستقطاب السياسي أُقحم ملف اللاجئين في دائرة التجاذبات السياسية الداخلية، الأمر الذي أثر في تحوّل مزاج الناخب التركي، وهو ما عكسته نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة التي أسفرت عن خسارة حزب العدالة والتنمية الحاكم لأهم معاقله في المدن الكبرى ومدن الأناضول[3]. وغدت قضية إعادة اللاجئين السوريين على رأس أولويات الحكومة، حيث ترغب تركيا بإعادة نسبة كبيرة من اللاجئين عبر "ضمانات روسية" بعدم تعرضهم للملاحقات الأمنية من قبل قوات النظام.
  • تشتيت قوة "قوات سوريا الديمقراطية": في ظل صعوبة القيام بعمليات عسكرية جديدة، تسعى تركيا لدفع النظام للعب دور أكبر في شرق سورية بمساعدة العشائر العربية، لإنهاء سيطرة قسد على المنطقة وتشتيت قوتها العسكرية والاقتصادية، من خلال حرمانها من الاستفادة من موارد النفط والغاز، إذ تعتقد تركيا أن جزءاً كبيراً من عائدات تلك الثروات تصل إلى حزب العمال الكردستاني PKK وتستخدم في تمويل صراعه مع الدولة التركية.

مخاوف الإدارة الذاتية وخياراتها المتاحة

لا شك أن مسار التقارب التركي مع النظام طويل الأمد، وقد يستغرق الكثير من الوقت لتحقيق النتائج التي يرجوها الطرفان، إلا أن "الإدارة الذاتية" لم تعد تملك رفاهية المناورة بين الأطراف الإقليمية والدولية، فهي تدرك أن تغير السياسة التركية استراتيجي وليس تكتيكياً، وأن هذا التقارب سيقلل من خياراتها المتاحة ويضعها في مواجهة تحديات صعبة، لا سيما أنه سيقطع الطريق أمام أي اتفاق مستقبلي بينها وبين النظام. وفي حال قررت الإدارة الأمريكية الجديدة سحب قواتها كلياً أو جزئياً من شرق سورية؛ فستكون "الإدارة الذاتية" أمام تهديد حقيقي لمستقبل وجودها على خارطة الفاعلين السوريين المحليين.

وتتراوح السيناريوهات المتوقعة لكيفية تعاطي الإدارة مع التطورات الجديدة بين السيناريوهات الثلاثة التالية:

  • السيناريو الأول: تقديم تنازلات للنظام وعقد اتفاق جديد معه، وقد تكون موسكو ضامناً لاتفاق كهذا إذا كان سيفضي إلى تقليص مساحة انتشار القوات الأمريكية في سورية، بحيث تسحب قوات قسد ثقلها العسكري من المدن الشمالية بعمق 30 كم مع استمرار وجودها في المناطق المحاذية للقواعد الأمريكية الرئيسية. إضافة إلى عودة النظام إدارياً وأمنياً إلى مراكز المدن، ودمج الهياكل الإدارية المدنية للإدارة الذاتية مع المؤسسات الحوكمية للنظام. ويُعتبر هذا السيناريو المرجَح في حال تقدُّم التقارب التركي مع النظام، وفي ظل استمرار الوجود الأمريكي الذي يمنع أي محاولة إنهاء كامل لتجربة "قسد" بالوسائل العسكرية، ومع ذلك فإن هناك معوقات كثيرة تحد من إمكانية تطبيق هذا السيناريو.
  • السيناريو الثاني: انفتاح "الإدارة الذاتية" على تركيا برعاية أمريكية، بحيث تسبقه مصالحة حقيقية مع الفواعل المحليين في شمال شرق سورية، والقيام بخطوات بناء ثقة قد يكون من بينها: تنفيذ اتفاق منبج كخطوة أولى من طرف قسد، وسحب قواتها العسكرية من الشريط الحدودي، والتوافق على نظام حوكمي جديد في المنطقة تُشرف عليه الولايات المتحدة وتركيا وروسيا، وقد تلعب قوات الأمن الداخلي "الأسايش" دوراً في تحقيق الأمن العام في المنطقة. تكمن روافع هذا السيناريو في غياب قدرة النظام على تحقيق المطالب التركية، مقابل رغبة تركية بتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة، إضافة إلى قناعة لدى تيار واسع في الإدارة الذاتية بعدم واقعية العداء مع تركيا والحاجة لتقديم تنازلات كبيرة خشية انسحاب أمريكي مفاجئ قد يخلط أوراق جميع الفاعلين وتكون هي من أكبر الخاسرين. في حين أن سلوك الإدارة الذاتية خلال السنوات السابقة وغياب الحماسة التركية لتجارب جديدة مع فواعل دون دولتية قد تكون من معيقات هذا السيناريو.
  • السيناريو الثالث: تمترس قسد حول مواقفها ورفض تقديم أية تنازلات والمراهنة على استمرار الدعم الأمريكي، واحتمالات تنفيذ عمليات أمنية ضد تركيا بالتعاون مع مجموعات محلية في شمال غرب سورية رافضة لمسار التقارب التركي مع النظام. وتكمن خطورة هذا السيناريو على الإدارة في أنه قد يتسبب باندلاع معارك جديدة، ورفع الحماية الروسية عن "وحدات حماية الشعب YPG" في مناطق تل رفعت وكوباني، مما يعني خسارة السيطرة على مناطق جديدة وتقدم تركيا فيهما، إضافة إلى إمكانية عقد تفاهمات مشتركة بين تركيا والنظام للتعامل المشترك مع ملف شمال شرق سورية على المدى المتوسط والبعيد.

في الختام، ليس من المرجح أن يصل التقارب بين تركيا ونظام الأسد إلى مستويات متقدمة، إلا أن المسار الجديد الذي بدأته تركيا في تعاطيها مع الملف السوري سيكون له تداعيات كبيرة على المشهد العام وعلى مستقبل "الإدارة الذاتية" في شمال شرق سورية بشكل خاص. وتدرك الإدارة أن التطبيع التركي مع النظام سيقلل من فرص استمرارها كفاعل سوري محلي، وسيقطع الطريق أمام أي اتفاق مستقبلي مع النظام، لا سيما في حال وصول دونالد ترامب مجدداً إلى السلطة في الولايات المتحدة ورغبته في تحسين العلاقات مع تركيا وروسيا واحتمالات سحب قواته كلياً أو جزئياً من سورية.

 


 

[1] بعد تصريح رئيس الوزراء العراقي حول المبادرة العراقية الخاصة برعاية المفاوضات المباشرة بين الطرفين، توالت التصريحات التركية حول الخطوات التطبيعية القادمة، لا سيما مع الإشارة التي أرسلها النظام عبر وزير خارجيته فيصل المقداد الذي تحدث بإيجابية عن مسار التقارب مع تركيا بشرط "إعلان استعدادها للانسحاب" وتقديم تعهدات بذلك، الأمر الذي يشير الى تراجع النظام عن انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية كشرط مسبق لأي خطوات نحو تطبيع العلاقات بين الجانبين. فيما اعتبر وزير الخارجية التركي أن وقف القتال بين النظام والمعارضة لفترة طويلة أمر بالغ الأهمية يقتضي من النظام تقييم مرحلة الهدوء هذه بعقلانية لتحقيق السلام مع معارضيه، وإعادة ملايين اللاجئين السوريين إلى بلدهم، وتوحيد الجهود مع المعارضة لمكافحة "الإرهاب" وخاصة حزب العمال الكردستاني.

[2] إلى الرأي العام، الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال شرق سوريا، 29.06.2024، https://2u.pw/55NOF4Lh

[3] أردوغان يقر بخسارة حزبه في الانتخابات البلدية، الجزيرة 01.04.2024، https://2u.pw/rKwXEDk6

التصنيف تقدير الموقف

ملخص عام

يستعرض هذا التقرير أهم الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية في سورية خلال شهر حزيران، حيث شهدت الجغرافيا السورية تصعيداً أمنياً في مختلف مناطق النفوذ، بدءً بالتصعيد الروسي في إدلب، وازدياد وتيرة العمليات الأمنية لتنظيم داعش في شرق سورية، وصولاً إلى زيادة ضحايا عمليات الاغتيال واندلاع اشتباكات بين فصائل محلية ومليشيات تابعة لقوات النظام في درعا. أما على الصعيد السياسي فاستمر النظام بمحاولات تعزيز الانفتاح على المحيط العربي وتثمير هذا التقارب باتفاقات اقتصادية، في ظل الرفض الغربي لمحاولات التطبيع أو رفع العقوبات دون خطوات جدية من طرف النظام. اقتصادياً؛ لايزال استنزاف الليرة السورية وانخفاض قيمتها مستمراً نتيجة السياسات الاقتصادية والمالية لنظام الأسد، مما ينعكس سلباً على القدرة الشرائية للسوريين ويزيد معاناتهم، لا سيما مع ارتفاع الأسعار قبيل عيد الأضحى المبارك. في حين استكملت المجالس المحلية والمنظمات المدنية في شمال سورية تنفيذ العديد من مشاريع التعافي المبكر في عدد من القطاعات الحيوية أبرزها قطاع الصناعة.

ارتفاع مؤشرات عدم الاستقرار الأمني

تعرضت مناطق عدة في إدلب لقصف جوي ومدفعي من قبل النظام وروسيا، وذلك على الرغم من الرعاية الروسية للمحادثات التركية مع النظام، إذ يستمر الواقع الأمني والعسكري المعقد ميدانياً كعامل لا يقل أهميةً عن الإرادة السياسية اللازمة لتحقيق تقدم على مستوى إنجاز تفاهمات أو اتفاقات تقنية، لا سيما مع تطوُّر القدرات العسكرية للفواعل المحلية في ظل استمرار الاستعصاء، الأمر الذي تجلَّى مؤخراً بقدرة فصائل عسكرية في ريف اللاذقية الشمالي على استهداف مدينة القرداحة بواسطة طائرة مسيرة أدت لمقتل شخص وإصابة آخر.

من جهة أخرى، قامت الأجهزة الأمنية التابعة لـ "هيئة تحرير الشام" باعتقال أكثر من 80 شخصاً اتهمتم بـالتعامل والتخابر لصالح جهات معادية، من بينهم شخصيات بارزة في جهاز "الأمن العام" وبعض الألوية العسكرية والإعلام الرديف. بالمقابل، تسعى الهيئة لإحداث اختراق في الاستعصاء الراهن على المستوى المحلي وتوسيع مساحات مناوراتها، وهو ما يتضح بقيامها بفتح قنوات تواصل مع قسد انعكس على أرض الواقع بتفاهمات اقتصادية بخصوص توريد مادة الفيول.

وفي شمال شرق سورية، تبنى تنظيم داعش أكثر من 24 عملية أمنية استهدفت "قوات سوريا الديمقراطية" والمتعاونين معها وأدت لمقتل 11 شخصاً وإصابة 26 بجروح متفاوتة بحسب بيانات التنظيم. وكان نشاط التنظيم قد انخفض خلال الشهور السابقة نتيجة العمليات الاستباقية للتحالف الدولي بالتعاون مع قوات قسد قبل أن يتصاعد مجدداً في شهر حزيران، على الرغم من قيام التحالف بأربعة عمليات إنزال في المنطقة خلال هذا الشهر أسفرت إحداها عن اعتقال قيادي في التنظيم في جنوب الحسكة، كما تحطمت مروحية عسكرية أمريكية وأصيب 22 جندياً حسب ما أعلنت عنه القيادة الأمريكية، وفي دير الزور وقعت اشتباكات عشائرية في 12 نقطة في عموم المحافظة وأسفرت عن قتلى وجرحى.

إضافة إلى ذلك، أعلنت الإدارة الذاتية عزمها إجراء محاكمات علنية، من طرفها، لآلاف المقاتلين الأجانب من عناصر التنظيم المعتقلين لديها. حيث يشكل ملف معتقلي التنظيم وعوائلهم المحتجزين في مخيمات وسجون غير مؤهلة عبئاً على الإدارة الذاتية بعد سنوات من احتجازهم دون محاكمة، لاسيما مع تصاعد هجمات تنظيم داعش في شمال شرق سورية والخوف من تكرار سيناريو اقتحام سجن الصناعة في الحسكة مطلع العام الماضي. في الوقت الذي لم تتجاوب الدول المعنية لدعوات استلام المحتجزين الذين يحملون جنسياتها، إضافة إلى العقبات القانونية التي تمنع إقامة محاكمات بإشراف دولي في مناطق لا تخضع لسلطة معترف بها.

من جهة أخرى، وفي سياق استمرار رفضها الاعتراف بالإدارة الذاتية واعتبارها كياناً "إرهابياً" يتبع لحزب العمال الكردستاني PKK؛ واصلت تركيا استهداف قيادات وعناصر الإدارة، حيث شن الطيران التركي المسيَّر غارة جوية استهدفت سيارة تقل قادة "مجلس مقاطعة قامشلو" شرق القامشلي، مما أدى لمقتل الرئيسة المشتركة للمجلس "يسرى درويش" ونائبة الرئاسة المشتركة "ليمان شويش" والسائق "فرات توما"، وإصابة الرئيس المشترك للمجلس "كابي شمعون".

أما عن درعا، فلا تزال مؤشرات فشل المصالحات والتسويات التي يروج لها النظام واضحة، فمن جهة أولى تشهد المحافظة سيطرة حالة الفوضى الأمنية، حيث قُتل 30 شخصاً في عمليات اغتيال، بالإضافة إلى 8 آخرين في حوادث أمنية متفرقة على مدار الشهر، إضافة إلى الاشتباكات المسلحة والتي كان آخرها اشتباك بين مجموعات محلية وميليشيات تابعة للنظام قرب معبر نصيب على الحدود السورية الأردنية، ناهيك عن استمرار عمليات تهريب المخدرات عبر الحدود الأردنية عن طريق معبر نصيب. ومن جهة ثانية تدل زيادة معدلات هجرة الشباب -التي قاربت ما كان الحال عليه عقب التسويات في 2018 و2021- على فشل النموذج، إذ يخشى الشباب الملاحقة الأمنية من قبل النظام إضافة إلى المخاوف من انعكاسات الوضع الأمني المتردي في ظل تفشِّي ظاهرة الاغتيالات، الأمر الذي أدى إلى وفاة أكثر من 100 شخص من المحافظة غرقاً قبالة السواحل اليونانية في منتصف شهر حزيران.

نظام الأسد بين التقارب العربي والضغوط الغربية

قام النظام السوري بتعين سفير له في الجامعة العربية، وزار وزير خارجيته كلاً من العراق والسعودية حيث تم الاتفاق على استئناف التعاون الاقتصادي بين سورية والدول العربية. من جهته استقبل بشار الأسد وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، وأكد على ضرورة "عدم تسيس ملف عودة اللاجئين"، كما طالب بتوفير متطلبات إعمار البنى المتضررة في القرى والمدن التي سيعودون إليها، وتأهيل المرافق الخدمية بمختلف أشكالها، مما يشير بوضوح الى رفض النظام المضي قدماً في استحقاقات العودة الآمنة للاجئين، لاسيما تلك المتعلقة بإيقاف الملاحقات الأمنية، وضبط وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، والإفراج عن المعتقلين وإصلاح النظام القضائي، وتوجهه عوضاً عن ذلك لاستثمار هذا الملف في الضغط على المجتمع الدولي لتحقيق مكاسب اقتصادية ورفع العقوبات المفروضة عليه.

وفي سياق استمرار الموقف الغربي الرافض للتطبيع، رفعت كل من كندا وهولندا دعوى قضائية مشتركة أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد نظام الأسد لارتكابه جرائم تعذيب وانتهاك القانون الدولي. وتثير هذه التحركات تساؤلات جوهرية حول جدوى التطبيع العربي مع النظام، ومدى قدرة بعض الدول العربية على إعادة تأهيل الأسد أو تخفيف العقوبات عنه في ظل فقدانها لأدوات تأثير حقيقية على الأرض في سورية.

من جهة أخرى، انتهت الجولة 20 من اجتماعات أستانا حيث حمل البيان الختامي نقاط مثيرة للاهتمام؛ منها "رفض جميع العقوبات الانفرادية التي تنتهك القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وميثاق الأمم المتحدة بما في ذلك جميع الإجراءات الانتقائية والإعفاءات المتعلقة بمناطق معينة من سوريا"، الامر الذي قد ينذر بتبلور موقف تركي يؤيد رفع العقوبات أو تخفيفها عن نظام الأسد. إضافة إلى ترحيب المجتمعين في أستانا بموافقة النظام على إدخال المساعدات من معبري الراعي وباب السلامة وذلك في تأكيد على رفض أية تحركات لتجاوز موافقة النظام وروسيا بعد انتهاء التمديد في آب 2023.

وفي شمال شرق سورية، أعلن كل من "مجلس سوريا الديمقراطية" وهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي، التوافق حول بناء جبهة معارضة تتبنى" مشروع التغيير الوطني الديمقراطي"، وتضمنت الوثيقة المشتركة المعلنة خمسة مبادئ أساسية لإنجاح حل سياسي بمشاركة "القوى السياسية الوطنية الديمقراطية" وفق قرار مجلس الأمن 2254.

سياسات اقتصادية تعمق معاناة السوريين

لا تزال الليرة السورية تشهد انخفاضات متوالية وصلت إلى 9250 ليرة مقابل الدولار الواحد، نتيجة السياسات الاقتصادية والمالية المتبعة من قبل حكومة النظام، وفي سبيل إعادة الاستقرار لليرة والأسعار ومنع تهريب العملة الصعبة من البلد؛ أصدر مجلس النقد والتسليف قراراً سمح بموجبه للقادمين إلى سورية بإدخال مبالغ مالية تصل إلى 500 ألف دولار فيما لا يسمح للمغادر بإخراج مبلغ يتجاوز 10 آلاف دولار أو ما يعادلها من العملات الأجنبية.

أما عن الأوضاع المعيشية؛ فقد استمرت معاناة السكان من ارتفاع الأسعار تزامناً مع عيد الأضحى حيث سجل سعر طبق البيض 30 ألف ليرة في محافظة درعا و33-   34ألف ليرة في محافظتي حماة ودمشق، في حين يبلغ متوسط راتب الموظف الحكومي 100 ألف ليرة شهرياً! فيما وصل سعر الأضحية إلى 3 ملايين ليرة في بعض المناطق لتسجل أسعار الخراف ارتفاعاً قدره 6 أضعاف خلال عام واحد، يأتي ذلك وسط كساد شهدته الأسواق نظراً لعدم قدرة المواطنين على الشراء بسبب ارتفاع الأسعار وضعف القدرة الشرائية. وقد أشارت عدة تقارير إلى انخفاض حجم الحوالات الخارجية إلى سورية بمقدار 3 مرات خلال عيد الأضحى مقارنة بما كانت عليه في عيد الفطر الماضي، بينما أحجمت حكومة النظام عن تقديم أي منحة مالية أو زيادة في الرواتب قبيل عيد الأضحى. وكانت وزارة المالية في حكومة النظام قد قدرت معدلات التضخم لعام 2022 بـ 100% ولعام 2023 بـ 104.7% فيما بلغ التضخم بين عامي 2011 – 2023 حوالي 16 ألف بالمئة.

وفي مناطق المعارضة، حددت الحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ، سعر القمح القاسي بـ 330 دولاراً للطن الواحد في حين أصبح سعر القمح الطري 285 دولاراً للطن الواحد، وقد خيّب هذا السعر معنويات الفلاحين في المنطقة مقارنة بسعر العام الماضي الذي بلغ 450 دولاراً، إذ يعد هذا السعر أقل بـ 100 دولار من تسعيرة "الإدارة الذاتية" بينما يبلغ 222 دولاراً في مناطق سيطرة النظام، وقد يؤدي ذلك إلى إحجام الفلاحين في مناطق المعارضة عن بيع محاصيلهم للحكومة أو التجار، كما قد يدفع المزارعين لاستبدال محصول القمح بآخر يدر أرباحاً أكثر في حال بقاء التسعيرة على حالها.

وفي إطار مشاريع التعافي المبكر، استكملت المجالس المحلية وبعض منظمات المجتمع المدني تنفيذ العديد من المشاريع في عدة قطاعات حيوية، حيث افتتح المجلس المحلي في مارع مدينة صناعية جديدة تضم 50 معملاً جاهزاً و100 قيد التجهيز. وفي مدينة الراعي تم إيصال محولة رئيسية للمنطقة الصناعية بهدف تهيئة البنى التحتية للمشاريع، كما شارك وزير المالية والاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة "عبد الحكيم المصري" في افتتاح معمل خاص بحليب الأطفال المجفف في المنطقة الصناعية في المدينة.

أما عن مناطق الإدارة الذاتية، فقد شهدت مدينة الحسكة مظاهرة شارك فيها مئات المواطنين احتجاجاً على نقص مادة الغاز المنزلي، وسط ارتفاع أسعارها في الآونة الأخيرة بالسوق السوداء إلى نحو 150 ألف ليرة سورية ما يشكل ضعف السعر النظامي. كما شهد سوق عامودا إغلاق مكاتب وشركات الحوالات وصرف العملات؛ احتجاجاً على الشروط الجديدة للتراخيص والتي تتطلب ضمانات مالية وشروطاً لتجهيز المكاتب تتجاوز إمكاناتهم. وفي قرار جديد قوبل بالرفض والاستهجان من قبل التجار اعتمدت إدارة الجمارك في الإدارة الذاتية، نظاماً جمركياً جديداً لشحنات الخضار والفواكه الداخلة عبر المعابر الداخلية إلى منطقة الإدارة الذاتية، حددت الجمارك بموجبه رسوم البطاطا والبندورة والبصل الأخضر بـ 3 دولارات أمريكية والبصل اليابس بـ 10 دولارات والثوم بـ 20 دولاراً للطن الواحد، كما حددت قيمة رسوم إدخال شحنات الفاكهة التي لا تنتجها المنطقة كالكرز بـ 6 دولارات والموز بـ 16 دولاراً والأناناس 60 دولاراً للطن الواحد، الأمر الذي سينعكس على أسعار هذه السلع ويخفض القدرة الشرائية للأهالي ويرفع معاناتهم.

أخيراً، سجل فوج الإطفاء في مقاطعة الحسكة أضرار حرائق المحاصيل منذ بداية 2023، بحوالي 370 دونماً في الأرياف التابعة إدارياً لمقاطعة الحسكة، و418 دونماً من الأراضي المزروعة في مقاطعة القامشلي.

التصنيف تقارير خاصة

تمهيد

عقب الزلزال الذي ضرب تركيا سورية في 06 شباط/فبراير الماضي، شهدت المنطقة حراكاً دبلوماسياً عربياً حثيثاً تجاه النظام في سورية ضمن إطار دبلوماسية الكوارث وسياسة التطبيع الإقليمي الذي بدأ تبلوره في 2021 من خلال الانفتاح الإماراتي، وذلك إلى جانب استثناء مؤقت وجزئي لبعض القيود الاقتصادية المفروضة على النظام دولياً. يسعى تقدير الموقف هذا لتبيان مستقبل سياسات التطبيع مع النظام من خلال تناول: العوامل المؤثرة في الإجراءات المتخذة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بخصوص سياسات العقوبات المفروضة على النظام ودلالات ذلك؛ ديناميات سياسات التطبيع ودوافع الدول العربية وتركيا بخصوص التطبيع مع النظام كل على حدة؛ تفاعل الديناميات الإقليمية والدولية المحددة لمسار التطبيع.

الفواعل الدولية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي)

لم يكن إيجاد حل للملف السوري على قائمة أولويات إدارة بايدن، وإنَّما كانت مقاربة إدارة الملف تقتصر على تجميد الصراع العسكري والإبقاء على خارطة النفوذ الحالية، بهدف منع عودة تنظيم الدولة لنشاطه السابق في المنطقة، والحول دون زيادة نفوذ الفواعل الإقليمية والمحلية الأخرى في الساحة السورية([1]). بالإضافة إلى الإبقاء على آليات العقوبات وعلى رأسها قانون قيصر وإقرار قانون مكافحة الكبتاجون كأداة ضاغطة على النظام، وعقبة أمام إعادة تأهيله دولياً.

بعد ثلاثة أيام على الزلزال، قام مكتب مراقبة الأصول الخارجية في الخزانة الأمريكية بالسماح بالتحويلات المالية المرتبطة بجهود الإغاثة عقب الزلزال - والتي كانت ستكون محظورة بسبب العقوبات - لمدة ستة أشهر فقط([2])، بالتوازي مع تجديد الخارجية الأمريكية رفضها التطبيع مع النظام أو رفع مستوى العلاقة معه، وقيام مجلس النواب الأمريكي بـإدانة محاولات النظام لاستغلال الكارثة لتجنب الضغط والمحاسبة الدولية، والتأكيد على أهمية آلية العقوبات (قانون قيصر) لحماية المدنيين([3]). ناهيك عن قيام وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بلقاء ممثلين عن منظمة الدفاع المدني السوري "الخوذ البيضاء" في تركيا([4]).

تعكس جُملة هذه الخطوات صعوبة وجود دلالات سياسية واضحة للتخفيض المؤقت والجزئي للعقوبات حالياً، أو تغيُّر في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه سورية والنظام على مستوى الأولويات والمقاربة. لا سيما وأنه سبق للخزانة الأمريكية أن أصدرت قراراً بالسماح لبعض التحويلات المصرفية المحظورة تحت طائلة العقوبات خلال وباء كوفيد-19 لكل من سورية وإيران وفنزويلا، من غير وجود دلالات سياسية لذلك، بهدف تسهيل العمل الإغاثي والصحي([5]).

بشكل مشابه، كان موقف الاتحاد الأوروبي واضحاً بخصوص رفض التطبيع مع النظام في سورية، أو رفع العقوبات عنه، أو البدء بإعادة الإعمار، من غير انخراط النظام بعملية سياسية وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254([6])، وذلك على الرغم من سعي حكومات أوروبية عدة، كاليونان وقبرص وإيطاليا وهنغاريا والنمسا وبولندا للدفع باتجاه سياسات تصب في صالح النظام، أو السعي للبحث عن آليات جديدة لتجاوز ضوابط الاتحاد الأوروبي لزيادة مساحات الفعل في سورية، ناهيك عن قيام بعض هذه الدول - هنغاريا وبلغاريا واليونان وقبرص - باستعادتها لمستويات مختلفة من العلاقات الدبلوماسية لم ترقَ لمستوى التطبيع الكامل بعد، الأمر الذي يرتبط بشكل أساسي بصعود سياسة اليمين الشعبوية، وفرضية قدرة النظام على تأمين الاستقرار ومنع تدفق اللاجئين([7])، لا سيما مع ارتفاع عدد طالبي اللجوء في دول الاتحاد بنسبة 50% في العام 2022، ليصل إلى ما يقارب المليون، الرقم الأعلى منذ 2016، في حين أن عدد السوريين منهم نحو الـ130.000([8]).

على إثر الزلزال وفي 17 شباط/فبراير، قدَّم ثمانية أعضاء في البرلمان الأوروبي مقترح قرار لـ"رفع العقوبات عن سورية[النظام] لغايات إنسانية"، معتبرين أن "العقوبات لم تحقق الأثر المرجو"، وأن "عواقبها أدّت لضرر بالغ على الشعب السوري"([9])، علماً أن البرلمانيين الثمانية ينتمون لمجموعات سياسية متنوعة يمينية ويسارية، كـ"حزب البديل لأجل ألمانيا" اليميني المتطرف، وحزب "مستقلون من أجل التغيير" اليساري في إيرلندا، على سبيل المثال لا الحصر.  وعلى الرغم من اختلاف دوافع اليمينيين التي تكمن بمسألة اللجوء ومنع تدفق المزيد من اللاجئين، واليساريين الذين هم معنيون أكثر بالجانب الإنساني، وتقليص نطاق استعمال القوة للاتحاد في الخارج، إلا أن غايتهم التقت في مسار رفع العقوبات، مستغلين حالة الكارثة للدفع أكثر  اتجاه إحداث تغيير في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تجاه سورية والنظام.

في 23 شباط/فبراير، أعلن الاتحاد الأوروبي عن تخفيف العقوبات المفروضة على النظام لمدة مؤقتة، من خلال قرار مجلس الاتحاد الأوروبي بتبني "تعديل إنساني إضافي"، بهدف إحداث تسهيل أكبر بسرعة وصول المساعدات الإنسانية لسورية بعد الزلزال. يتضمن القرار رفع حاجة المنظمات الإنسانية للحصول على إذن مسبق من السلطات المختصة في  الدول الأعضاء "لإجراء تحويلات أو توفير سلع وخدمات مخصصة للأغراض الإنسانية"  للأشخاص والكيانات المدرجة في قائمة العقوبات لمدة ستة أشهر فقط، علماً أن العقوبات الأوروبية لا تشمل الغذاء أو المواد الطبية أو النظام الصحي في سورية([10]).

يأتي القرار الأوروبي في إطار ثلاثة عوامل رئيسة لعبت دوراً بالغ الأهمية في صياغته: (1) حجم الكارثة الإنسانية وضعف الآليات الدولية في الاستجابة، (2) الديناميات الأوروبية الداخلية التي تكمن بالضغوط الداخلية لتغيير سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه سورية والنظام، وهو ما تجلَّى بمقترح القرار من البرلمانيين الثمانية لرفع العقوبات عن النظام، (3) قرار الخزانة الأمريكية بمنح الإذن للتحويلات المتعلقة بمساعدات الزلزال في سورية لمدة ستة أشهر. 

الفواعل الإقليمية (الدول العربية وتركيا)

كانت كل من الإمارات وسلطنة عُمان والجزائر والأردن الدول الأبرز التي سعت لإعادة تأهيل النظام عربياً، وذلك لدوافع وأسباب مختلفة. فضمن سعيها للعب دور إقليمي بارز على المستوى السياسي ودافعها الاقتصادي المرتبط بملف إعادة الإعمار في سورية، قادت الإمارات جهود التطبيع مع النظام منذ بدايتها، إذ كانت الدولة الأولى التي طبَّعت العلاقات مع النظام وافتتحت سفارتها في دمشق بعام 2018([11])، ومن ثمَّ رفع مستوى العلاقة لتشمل الاتصال المباشر بين رئيس النظام بشار الأسد ومحمد بن زايد([12])، وتبادل الزيارات على مستوى وزارتي الخارجية([13]) والاقتصاد([14]) في الربع الأخير من عام 2021، قبل قيام بشار الأسد بزيارة دولة الإمارات كأول دولة عربية يزورها منذ 2011 وذلك في آذار/مارس 2022([15]).

 في الوقت ذاته وبدوافع مختلفة، دخلت العلاقات الأردنية مع النظام مسار التطبيع رسمياً على مستوى التواصل المباشر بين الملك عبدالله الثاني وبشار الأسد([16])، والتنسيق على مستوى وزارات الدفاع([17])، وتطور العلاقات التجارية عقب فتح الحدود السورية - الأردنية ما انعكس بزيادة الصادرات من سورية إلى الأردن، والصادرات السورية عبر الأردن كبلد عبور إلى السعودية([18])، وذلك في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الأردن واستضافته لعدد كبير من اللاجئين السوريين. ناهيك عن مسألة أمن الحدود كأولوية أردنية مرتبطة بالمخدرات والنفوذ الإيراني، ساعياً لتحقيق مكاسب جزئية، أمنية واقتصادية، في ظل استمرار الاستعصاء السياسي. 

على المستوى الإقليمي العربي، سعت الجزائر - التي لم تقطع علاقاتها الدبلوماسية بالنظام والتي تمتلك علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية وثيقة مع روسيا ([19])- لإعادة النظام للجامعة العربية في القمة العربية التي عُقدت في العاصمة الجزائرية في تشرين الثاني/نوفمبر 2022([20])، إلا أن الانقسام العربي بشأن المسألة، وثبات موقف قطر والسعودية المناهض للتطبيع، التي أعلنت حينها عن "ضرورة الالتزام بقرارات مجلس الأمن" بما يخص الشأن السوري قبيل القمة العربية؛ حال دون ذلك([21]). بالمقابل، كانت سلطنة عُمان الدولة الخليجية الوحيدة التي حافظت على علاقاتها الدبلوماسية مع النظام، والدولة الخليجية الأولى التي تقوم بتعيين سفير لها في دمشق، منذ تعليق دول مجلس التعاون الخليجي العمل الرسمي بسفاراتها في سوريا عام 2011([22])، الأمر الذي يرجع لتقاليد السياسة الخارجية العمانية، والتي لم تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع أي دولة في العالم منذ وصول السلطان قابوس إلى العرش في عام 1970([23]).

لهذا، لم يكن من المفاجئ زيارة بشار الأسد إلى العاصمة مسقط كثاني عاصمة عربية يزورها بعد أبو ظبي([24])، والتي توازت مع زيارة وزراء خارجية الإمارات والأردن لدمشق، ووفد برلماني من عدد من الدول العربية. بالإضافة للاتصالات التي جرت بين بشار الأسد والرئيس الجزائري، والرئيس الموريتاني، وملك البحرين، وكذلك قيام الرئيس التونسي قيس سعيد برفع مستوى التمثيل الدبلوماسي مع النظام([25])، إذ لا يوجد تطور حقيقي أو تغيُّر في مواقف هذه الدول تجاه النظام باعتبار أنها تمتلك علاقات دبلوماسية جيدة نسبياً مع النظام، إلَّا أنها تفتقد قدرتها على لعب دور وساطي - كالإمارات أو عُمان - في إعادة تأهيل النظام عربياً. 

أما مصر، وعلى الرغم من الأهمية الجيوسياسية الكبيرة لها، فلا يُعتبر التواصل الرسمي المصري مع النظام على المستوى الرئاسي وزيارة وزير الخارجية المصري لدمشق([26]) ذلك التغيُّر اللافت، فقد حافظت مصر على حياد إيجابي تجاه النظام من خلال إعادة التمثيل الدبلوماسي في دمشق عام 2013([27])، بالتوازي مع عدم قطع صلاتها بالمعارضة عبر استضافتها لـ"تيار الغد السوري" المعارض بقيادة أحمد الجربا منذ 2016. ويأتي الحراك الدبلوماسي المصري الأخير في سياق مواكبتها للحراك الدبلوماسي للدول العربية المطبِّعة، بانتظار وضوح مواقف الدول الأخرى وعلى رأسها السعودية، إذ لا تلعب مصر حالياً دوراً ريادياً في السياسة العربية تجاه سورية، لا سيما مع وجود ملفات خارجية أكثر أهميةً لها كالملف الليبي وأمن المياه في سياق العلاقات مع إثيوبية.

بالمقابل، ومع ثبات الموقف القطري([28]) والكويتي([29]) المناهض للتطبيع مع النظام، يتضِّح أن الموقف السعودي في طور التبلور، مع وجود رغبة سعودية واضحة في إعادة تفعيل الدور العربي في سورية، بما يشمل الحوار مع النظام، ما تجلَّى برؤية وزارة خارجيتها بخصوص عدم جدوى سياسة عزل النظام، وعن بدء "تشكل نهج آخر لمعالجة مسألة اللاجئين السوريين في دول الجوار ومعاناة المدنيين" في ظل الاستعصاء السياسي([30])، وقيام المملكة بإرسال مساعدات إنسانية لمناطق سيطرة المعارضة والنظام كل على حدة، في إطار دبلوماسية الكارثة/الزلزال([31])، ناهيك عن اللقاءات الأمنية الاستخباراتية قبل الزلزال بين السعودية والنظام.

 على الرغم من وضوح تغيُّر المقاربة السعودية بخصوص النظام، إلا أن الموقف السعودي ما زال بطيء التبلور، إذ إنه من غير المتوقع التطبيع السعودي السريع أو الكامل مع النظام من غير وضوح صفقة تقنية، لا سيما بما يخص النفوذ الإيراني، ضمن إطار مبادرة عربية لتسوية جزئية، قد تحدث تغييراً في مسار الاستعصاء الراهن.

أما بالنسبة لتركيا، فقد كانت الرغبة التركية واضحة في إعادة النظر في طبيعة العلاقة مع النظام في سورية، وهو ما تجلَّى في عقد اجتماع بين وزراء الدفاع ورؤساء الاستخبارات لكل من تركيا وروسيا والنظام في موسكو في كانون الأول/ديسمبر 2022([32]). وعلى الرغم من وجود اجتماع مرتقب سابقاً بين تركيا وروسيا والنظام على مستوى وزراء الخارجية في شباط/فبراير الماضي([33])، إلا أن الاجتماع تأجل نظراً لظروف الزلزال، ومن المتوقع عقده خلال شهر آذار/مارس الحالي([34]).حيث لم تسهم دبلوماسية الكوارث في زيادة وتيرة مسار التطبيع على المستوى السياسي بين تركيا والنظام، مقارنةً بأثرها في رفع مستوى العلاقات التركية - المصرية التي تجلَّت بالزيارة الأولى لوزير خارجية مصري لتركيا منذ عشر سنوات([35]).

لهذا، وبالأخذ بعين الاعتبار الفجوة الكبيرة بين الجانبين، تركيا والنظام، تبقى إمكانية أن يحقق مسار التطبيع بين تركيا والنظام تقدماً ملموساً على المدى المنظور منخفضة، نظراً الانشغال الداخلي التركي بكارثة الزلزال والانتخابات المقبلة. إلَّا أن ذلك لا يغيِّر من واقع حضورها كملف انتخابي، وأهمية التطبيع في السياسة الخارجية التركية على المدى المتوسط، لاعتبارات أمنية، ولاعتبارات سياسية داخلية تتعلق بملف اللاجئين، ورؤية أغلب الأحزاب السياسة لتطبيع العلاقات مع النظام كعامل مساهم في ملف العودة.

مستقبل التطبيع وتفاعل الديناميات الدولية والإقليمية

دولياً، سيبقى النظام في حالة من العزلة الدولية في ظل استمرارية العقوبات الأمريكية والأوروبية، والتي تأتي استثناءاتها الأخيرة المؤقتة ضمن ملف إدارة الشأن الإغاثي والإنساني، من غير وجود مؤشرات عن دلالات سياسية لذلك. ومن غير المرجَّح أن يكون لكارثة الزلزال أثرٌ في إعادة تأهيل النظام دولياً، أو حدوث تغيُّر على المستوى الكلِّي في السياسة الأمريكية أو الأوروبية تجاه النظام، لا سيما مع استمرار حالة الاستقطاب الغربي - الروسي منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. وعلى الرغم من عدم وجود موقف غربي لمواجهة روسيا على الساحة السورية، كذلك الموجود في أوكرانيا، إلا أن الموقف الغربي ما زال ممانعاً لإعادة تأهيل الأسد أو منح روسيا نصراً في سورية.

إقليمياً، لا يبدو أن العقوبات الأمريكية والأوروبية بشكلها الحالي عائقٌ أمام تطبيع العلاقات بين النظام ودول الإقليم، إلا أنها ستبقى محدِّدة لمستوى وشكل هذا التطبيع، إذ لم يكن للرفض الدبلوماسي الغربي أثرٌ في منع تطوُّر هذا المسار الذي بدأ يتبلور منذ 2021. وفي ظل غياب بوادر حل سياسي دولي في المدى المنظور، سيستمر مسار التطبيع السياسي الثنائي بين النظام ودول الإقليم، مع شمله لتفاهمات أمنية واقتصادية محدودة مراعية للعقوبات الدولية، بيد أن عودة النظام للجامعة العربية ما يزال مستعبداً حالياً، مع عدم وجود موقف عربي موحد ومبادرة عربية رسمية للحل على المستويات الأمنية والسياسية، وصعوبة تقديم ذلك دولياً في الوقت الراهن، وارتباط ذلك أيضاً بمدى تجاوب سلوك النظام مع الخطوات العربية في كل من ملفات: تهريب المخدرات، وطبيعة العلاقة مع إيران، وعودة اللاجئين.

بالنسبة للنظام، فإن امتلاكه – فرضياً – الرغبة في إنجاز تفاهمات بخصوص الملفات الثلاثة لا يعني امتلاكه القدرة على ذلك، على الأقل فيما يخص العلاقة مع إيران التي غدت متجذرة في سورية عسكرياً وأمنياً واقتصادياً. فهو يجد هذه المبادرات كمساحة مناورة سياسية بين مبادرتين: العربية والروسية - التركية، وفرصة لإعادة تأهيله إقليمياً عبر تفاهمات ثنائية، من غير الدخول في مسار حل سياسي شامل، ناهيك عن كونها فرصة اقتصادية في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها، والاستنزاف الذي يشهده حليفه الروسي في أوكرانيا، والاضطرابات التي تواجهها إيران داخلياً. بيد أن ذلك لا يُغيِّر من حقيقة أن إخراج إيران من سورية لم يعد أقل صعوبةً من إخراجها من لبنان أو العراق، ومن غير الواقعي الظن بأن الدبلوماسية هي الأداة المثلى لذلك.


 

([1]) فاضل خانجي، الملف السوري في وثيقة "استراتيجية الأمن القومي" الأمريكية، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 21 تشرين الأول/أكتوبر 2022، الرابط: https://cutt.us/CC3ZZ

([2]) Treasury Issues Syria General License 23 To Aid In Earthquake Disaster Relief Efforts, U.S. Department of the Treasury, 09 February 2023, Link: https://cutt.us/Ar4ho

([3]) H.Res.132 - Responding to the earthquakes in Türkiye and Syria on February 6, 2023., Congress.gov, 17 Feb 2023, Link: https://cutt.us/QhrsZ

([4]) بلينكن يلتقي ممثلين عن "الخوذ البيضاء" السورية في تركيا، العربي الجديد، 19 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/fPE73

([5]) Treasury Issues Additional COVID-19-related Sanctions Authorizations and Guidance, U.S. Department of the Treasury, 17 June 2021, Link: https://cutt.us/8bIDQ

([6]) EU reiterates refusal to normalize ties with Syrian regime, Asharq al-Awsat, 05 February 2023, Link: https://cutt.us/eDjxH

([7]) Charles Lister, Is the EU starting to wobble on freezing out Assad?, Foreign Policy, 27 October 2022, https://cutt.us/WfoNy

([8]) Almost 1 million asylum applications in the EU+ in 2022, European union agency for asylum, 22 February 2023, Link: https://cutt.us/Tg3x9

([9]) Motion for a resolution - B9-0155/2023, European Parliament, 17 February 2023, Link: https://cutt.us/kRZbW

([10]) Earthquake in Türkiye and Syria: EU amends restrictive measures in place regarding Syria to facilitate the speedy delivery of humanitarian aid, Council of the EU, 23 February 2023, Link: https://cutt.us/zcu9p

([11]) الإمارات تعيد فتح سفارتها في دمشق، البيان، 28 كانون الأول/ديسمبر 2018، الرابط: https://cutt.us/lGruZ

([12]) صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد يتلقى اتصالاً هاتفياً من الرئيس السوري، وزارة الخارجية والتعاون الدولي للإمارات، 21 أيلول/سبتمبر 2021، الرابط: https://cutt.us/Nfstp

([13]) فخامة الرئيس بشار الأسد يستقبل سمو الشيخ عبدالله بن زايد في دمشق، وزارة الخارجية والتعاون الدولي للإمارات، 09 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، الرابط: https://cutt.us/MtGFA

([14]) الإمارات وسوريا تبحثان تطوير العلاقات الاقتصادية وتوسيع الشراكة، العين الإخبارية، 06 تشرين الأول/أكتوبر 2021، الرابط: https://cutt.us/rhoMS

([15]) صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد يستقبل الرئيس بشار الأسد، وزارة الخارجية والتعاون الدولي للإمارات، 19 آذار/مارس 2022، الرابط: https://cutt.us/WyBBi

([16]) الملك يتلقى اتصالاً هاتفياً من الرئيس السوري، وكالة الأنباء الأردنية، 04 تشرين الأول/أكتوبر 2021، الرابط: https://cutt.us/jID9q

([17]) رئيس هيئة الأركان يستقبل نظيره السوري، وكالة الأنباء الأردنية، 19 أيلول/سبتمبر 2021، الرابط: https://cutt.us/KFt7F

([18]) ARMENAK TOKMAJYAN, Jordan Edges Toward Syria, Carnegie Middle East Center, 29 March 2022, Link: https://cutt.us/WPGDx

([19]) سياسة الجزائر الخارجية على مفترق طرق، منتدى فكرة، 09 آب/أغسطس 2022، الرابط: https://cutt.us/kkUnV

([20]) القمة العربية: بدء اجتماع الزعماء العرب في الجزائر وغياب قادة السعودية والإمارات والكويت والمغرب، بي بي سي العربية، 01 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، الرابط: https://cutt.us/zFAVr

([21]) الخطاب الملكي السنوي لأعمال السنة الثالثة من الدورة الثامنة لمجلس الشورى، جريدة أم القرى، 16 تشرين الأول/أكتوبر 2022، الرابط: https://cutt.us/Pri9n

([22]) سفير سلطنة عُمان يسلم أوراق اعتماده لوزير الخارجية السوري، سي إن إن عربي، 04 تشرين الأول/أكتوبر 2020، الرابط: https://cutt.us/uL3an

([23]) بريت سودتيك وجورجيو كافييرو، الخطوات الدبلوماسية لسلطنة عمان في سوريا، منصة صدى - مركز كارينغي، 03 شباط/فبراير 2021، الرابط: https://cutt.us/Iit1I

([24]) جلالةُ السُّلطان المعظم يستقبل الرئيس السُّوري الذي قام بزيارة عمل إلى سلطنة عُمان، وزارة خارجية عُمان، 20 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/vaLOF

([25]) قراءة تحليلية في مدى تغير مواقف الدول من نظام الأسد؛ مجرد ضوضاء أم زلزال سياسي؟، مركز الحوار السوري، 02 آذار/مارس 2023، الرابط: https://cutt.us/o29pW

([26]) بشار الأسد يعرب عن تقديره البالغ لمبادرة الرئيس السيسي بالاتصال هاتفياً عقب الزلزال، وكالة أنباء الشرق الأوسط، 27 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/tdN9z

([27]) حسن صعب، العلاقات المصرية ـ السورية 2014-2021، المعهد المصري للدراسات، 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، الرابط: https://cutt.us/Crsjy

([28]) وسط موجة تطبيع عربي.. قطر تجدد رفضها التقارب مع نظام الأسد، الخليج أونلاين، 01 آذار/مارس 2023، الرابط: https://cutt.us/YpLcR

([29]) وزير خارجية الكويت: ليس لدينا خطط للتواصل مع "الأسد"، الخليج أونلاين، 19 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/GXg3p

([30]) فيصل بن فرحان: الحوار مع سورية مطلوب.. لا جدوى من عزلها، جريدة عكاظ، 19 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/XPp29

([31]) مركز الملك سلمان للإغاثة.. أول الواصلين إلى سورية، جريدة عكاظ، 13 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/QONbO

وصول الطائرة الإغاثية السعودية الثامنة إلى حلب لمساعدة ضحايا الزلزال، جريدة عكاظ، 14 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/32UQh

([32]) موسكو تحتضن اجتماعاً لوزراء دفاع تركيا وروسيا وسوريا، وكالة الأناضول، 29 كانون الأول/ديسمبر 2022، الرابط: https://cutt.us/EKq51

([33]) أنقرة: اجتماع مرتقب لوزراء خارجية تركيا وروسيا وسوريا مطلع فبراير، ديلي صباح، 12 كانون الثاني/يناير 2023، الرابط: https://cutt.us/3jM42

([34]) تشاووش أوغلو: اجتماع رباعي في موسكو لمناقشة الملف السوري، وكالة الأناضول، 08 آذار/مارس 2023، الرابط:  https://cutt.us/ChUVp  

([35]) الرقم: 59، التاريخ: 26 فبراير/ شباط 2023، بيان صحفي حول زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى تركيا، وزارة الخارجية التركية، 26 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/nRozH

التصنيف تقدير الموقف
مركز عمران للدراسات الاستراتيجية
ملخص تنفيذي باستمرار الاستهداف الإسرائيلي على الأراضي السورية؛ يُفسر نأي النظام السوري عن الانخراط في…
الجمعة تشرين2/نوفمبر 22
نُشرت في  أوراق بحثية 
يمان زباد
ملخص تنفيذي كان للميليشيات والفصائل في السويداء دوراً أساسياً في المحافظة منذ عام 2015، وذلك…
الإثنين تشرين2/نوفمبر 11
نُشرت في  أوراق بحثية 
محسن المصطفى
أصدر بشار الأسد المرسوم التشريعي رقم 27 بتاريخ 22 أيلول/سبتمبر 2024 ([1]) القاضي بمنح عفو…
الأربعاء تشرين1/أكتوير 30
نُشرت في  مقالات الرأي 
صبا عبد اللطيف
تتعاظم خسارات طهران لأدوات استراتيجيتها الإقليمية في المنطقة والتي كانت تساهم بتموضعها المركزي ضمن النظام…
الأربعاء تشرين1/أكتوير 16
نُشرت في  مقالات الرأي