على الرغم من وضوح تمسك جل فواعل المنطقة بقواعد الاشتباك السائدة على مدار العقدين الماضيين، إلا أن توسيع هوامش تلك القواعد أفرز اضطراباً في شكل التفاعلات الأمنية قد ساهم في تعثر ديناميات إدارة الأزمات المتبعة عموماً، وفي هذا السياق يعد اغتيال حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني وما سبقه من ضرب الهيكلية وإحداث خلل في منظومة الاتصال والتواصل؛ حلقة مهمة في تقويض قدرة الحزب التي توسعت وتضخمت أدواره الإقليمية والمحلية من جهة، وفي إعادة تشكيل المعادلة الأمنية في النظام الإقليمي الذي سيختبر قدرة ما يسمى محور "المقاومة" لا سيما في ظل مؤشرات التصعيد المتزايدة من جهة أخرى.
انتهاء صلاحية المعادلة الأمنية الإقليمية
منذ عام 2010 والهاجس الأمني هو السؤال الأكثر إلحاحاً لدى النظام الإقليمي والأزمات التي يشهدها من تونس إلى مصر مروراً بالسودان وليبا واليمن وسورية والعراق وليس انتهاءاً بفلسطين، نظامٌ أَلِفَ قواعد اشتباكٍ وتعاطٍ "منضبطة"، [1]وهو ما أدى لانشغال دول المنطقة في انتاج سياسات تعاطي مع مفرزات الربيع العربي (تهديدات لأنظمة حكم، بروز تيارات تطمح للتغيير، تحديات جمة للعقد الاجتماعي...إلخ) وتنوعت تلك السياسات ما بين "المواجهة" أو "صد الآثار" أو "إدارة الأزمة"، حاولت بمجموعها عودة عقارب الساعة وإيقافها في ذاك الزمن، عبر السياسات الآتية:
- سياسات الاستثمار السياسي لورقة الجماعات الحركية الإسلامية لإعادة تعريف الصراع الحاصل وتسهيل نقله لمستويات أمنية.
- سياسات التحكم بخيارات وقرارات الفواعل غير الدولتية ودعمها بما ينسجم والمصلحة الأمنية (الحرب بالوكالة).
- سياسات التهجير والتجريف التي ستفرض إعادة هندسة اجتماعية من زاوية أمنية بحتة، ولم تنتهِ بسياسات التكيف والتطبيع مع واقع تدار الفوضى فيه وتتعزز مؤشرات استقرار هش محكوم بحلول ومقاربات سياسية لن ترى النور وفق المدخلات السائدة.
لم تقف "إسرائيل" متفرجة، وهي من توظف مؤسساتها ومجتمعها وعلاقاتها الدولية لصالح "أمن كيانها"، وهي التي تدري أن حسابات المصلحة الإقليمية والدولية كانت وستبقى تنطلق منها وإليها، إلا أن ذلك لم يمنعها من الحركة والتفاعل في الإقليم عبر ثلاث استراتيجيات:
- إضعاف إيران وحزب الله وإنهاك واستنزاف جميع الفواعل الإقليمية والمحلية في الملف السوري، وهو ما استوجب عدم السماح بتغيير قواعد الاشتباك مع حزب الله أو تغيير قدراته القتالية، ومراقبة الحزب الذي كُشِف ظهره بتدخله في سورية دعماً لنظام الأسد. وإبعاد طهران عن حدودها الشمالية.
- تعزيز التطبيع وتوسيع دائرته وخلق بيئة "صديقة" لها تنهي مرحلة التقوقع الجغرافي لتبدأ مرحلة تواصل وتفاعل مع المحيط بعد ضمان "تسيدها" هذا النظام.
- مراقبة الجغرافيات العسكرية من غزة إلى لبنان إلى سورية إلى اليمن إلى العراق، واتباع منهجية إدارة الأزمة دون تغيير مع تثبيت حق التدخل متعاً لتغيير موازين القوى.
وفي لحظة "أمانٍ إسرائيلية" ومسارات "تطبيع متنامية" و"لا مبالاة أمريكية بشرقٍ ملتهب" أتت عملية طوفان الأقصى العابرة للعمليات التقليدية، لتؤكد عجز الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، وعودة طهران كطرفٍ رئيسي في طاولة التفاوض الإقليمية. الأمر الذي استوجب تغييراً في عقلية إدارة الحرب داخل إسرائيل التي استبعدت متغير الكلفة من الحسابات الأمنية الدقيقة، وهو ما تطلب نقل مستويات الصراع إلى مستويات عابرة للصراع التقليدي وتمتلك كل مؤشرات الانزلاق لمعارك خارج الحدود، فالهدف هو إنهاء صلاحية كل أوراق الضغط عليها. وتجلى تطبيقها العملي في تغيير الواقع العسكري والديمُغرافي في غزة وإخراجها سياسياً وعسكرياً وإدارياً من معادلات التأثير، وضرب الهيكل القيادي لـ"حزب الله" وتدمير شبكة الاتصالات والتواصل، وتدمير شبكات النقل والتخزين، وإعادة حوالي 60 ألف نازح إلى شمال إسرائيل وإقامة منطقة آمنة خالية من "حزب الله" وصواريخه. وبهذا تتعزز كل المؤشرات الدالة على دخول المنطقة مرحلة إعادة تشكل جديدة.
كسر المحور أم إعادة تعريف وظيفته
لعل التحليل الكمي للعملية الأمنية الإسرائيلية في جنوب لبنان والضاحية يُفيد بتلقي الحزب ضربة ثلاثية الأبعاد أعادته مبدئياً عقوداً إلى الخلف، كضرب البنية ضرباً متعدد الاتجاهات هزّ شبكاته وهيكليته الأمنية والاستخباراتية وأفقده عنصري المبادأة والتخطيط العسكريين. إلا أن التحليل النوعي والمراعي لهواجس إعادة التشكل للمعادلة الأمنية الناظمة؛ يَجعل النظر إلى هذه العملية باعتبارها "إعادة تعريف" وتغيير في سلم الأولويات للفواعل المناوئة لإسرائيل، وبالتالي تحجيم دور إيران وتجفيف منابع التهديد التي تستخدمها وذلك من خلال استراتيجية تأمين المحيط الحيوي وتفكيك ترابط الجبهات والفواعل التي تتحالف مع طهران بالمنطقة عبر:
- اختبار الأسد الذي يركز كل اهتماماته على إعادة انتعاش شبكات حكمه وإجباره على "إدارة الظهر" لكافة العمليات التي تستهدف إيران والحزب في 214 موقعاً في الجغرافية السورية
- تغير قواعد النزاع في فلسطين عبر استنزاف حماس الاستراتيجي وإفقادها عناصر النهوض عبر التدمير الجغرافي لعزة نقطة قوة حماس المركزية
- تأمين الحدود الشمالية من خلال كسر حزب الله الذي توسعت وظائفه وأدواره بعد مقتل سليماني دون انهائه، ودفعه باتجاه تغيير فلسفة عمله الأمني وإجباره على التماهي مع أولويات "الدولة " اللبنانية المنهكة.
بالمقابل تتراوح خيارات إيران بين الصعب والأصعب، فإما التصعيد ويعني المزيد من استخدام أدوات المواجهة وهي إما مباشرة لمرة واحدة عبر رد عسكري يحمل صيغة "الجهوزية لأي خيار" أو استخدام الجغرافية السورية من خلال فتح جبهات الجولان أمام الميليشيات الإيرانية وتعزيز الإسناد، أو كلاهما، وفي هذا مغامرة إيرانية فهي تسير باتجاه تقويض أوراق قوتها كلياً، وبالتالي ستقع بالمزيد من المطبات والأخطاء الاستراتيجية، فالمراهنة المطلقة على عدم عودة الولايات المتحدة الأمريكية للمنطقة وإيمانها بدور طهران الشرطي يبدو أنه رهان محفوف بالعديد من المتغيرات القلقة، ناهيك عن غياب النجاعة والقدرة لدى أدوات طهران الإقليمية. عموماً سيلقى خيار التصعيد ممانعة ومعارضة روسية فهذا أمر يهدد مكاسبها المتحصلة في سورية وينذر بالعودة إلى الميدان العسكري. لكن إن حصل فسيدخل الإقليم دوامة متعددة المتغيرات والتحولات.
أو الاحتواء والتماهي مع متطلبات إسرائيل وقد يستلزم هذا قبول المبادرة الدبلوماسية الأمريكية الفرنسية وتوجيه حزب الله لسحب وجوده العسكري إلى شمال نهر الليطاني. كما يعني هذا فصل جبهتي الحرب في لبنان وغزة وإنهاء معركة الاسناد. كل هذا من شأنه أن يوفر للحرس الثوري الإيراني الوقت والمساحة لإعادة بناء ترسانة حزب الله وإعادة هيكلة قيادته العسكرية، وهذا ما لن يُسمح به دولياً خاصة في ظل رفض الحزب نفسه الانخراط الإيجابي باللعبة السياسية اللبنانية وتحت "سيادة" الدولة.
إذاً تواجه طهران مأزقاً بالغ الأهمية فهي تتعرض لتهديد أركان استراتيجيها الإقليمية القائمة على حصر الملعب الاستراتيجي خارج مركزها وعبر أدوات محلياتية.
تعزز تلك السياسات مقاربة "التحكم بوظائف المحور" من جهة، وإغراق المنطقة بموجبات "التعافي والصيانة الذاتية" وما يرافقها من أزمات إنسانية من جهة ثانية، وبالتالي إجبار كافة عناصر هذا المحور على الالتفات لاستحقاقاتها المحلية.
مسرح الجغرافية السورية تحت المجهر
فيما يرتبط بالتداعيات الأولية تتبلور عسكرياً في "خسارة السند" والحليف، إذ يمثّل استنزاف حزب الله بهذا الشكل إضعاف القوات البرية التي كان حزب الله رأس حربتها وأفضلها تدريباً وتخطيطاً وانضباطاً، ناهيك عن الخلل في عنصري القيادة والتخطيط، باعتبار أن الحزب هو المخطط العملياتي للعديد من القضايا العسكرية في سورية، وهذا سينعكس بدرجة ما على أداء قوات النظام وقدرته الدفاعية؛ إلا أنه وبحكم منطق وقف إطلاق النار غير المعلن في سورية سيجعل من التداعيات العسكرية رهينة التطورات الدافعة باتجاه الانزلاق إلى الميدان العسكري من جديد، وهذا ما لا تتوفر مؤشراته إلا في حال توسعت العملية الإسرائيلية لتشمل سورية أو في حال نجاح إيران باستخدام ورقتها الأخيرة والتي تتمثل بنظام الأسد.
أما سياسياً سيتراجع كثيراً الاهتمام الدولي والإقليمي في الملف السوري، وفي كل الأحوال يبدو أن مسار أستانة سيبقى مستيداً للتفاعلات الأمنية في سورية وسيتعزز أكثر مع سياسات مواجهة إيران وهو ما من شأنه الدفع باتجاه انجاز تفاهم أضنة المعدل من جهة، وتعزيز قواعد العمل المشترك بين النظام وتركيا (الأمنية والاقتصادية والسياسية) من جهة أخرى. وستجهد موسكو إلى ضبط إيران ضمن هذا المسار وعدم جعله منصة لتحسين شروطها الإقليمية في إطار النزاع مع إسرائيل.
كما تدلل المعطيات المتشكلة على احتمالية بروز الدور العربي مجدداً، وبالتالي عودة فعاليتها في الملف اللبناني والسوري، وهنا سيعزز النظام مؤشرات التماهي مع خطة التقارب التي يطرحها العرب وبالتالي سيبدي استجابة واضحة لا سيما فيما يتعلق بملف المخدرات، وبهذا يراهن النظام مرة أخرى على تقبله كفاعل "منضبط".
أيضاً؛ توحي عملية إعادة التشكل التي ستشهدها معادلات الأمن والاستقرار في الإقليم بتعزز مقاربة "إعلاء منطق سيادة الدولة" وعدم نجاعة التعاطي مع فواعل ما دون الدولة، فضرورة سيادتها (وفق منهجية الفواعل الإقليمية والدولية) حتى وإن كانت ضعيفة وفاشلة تبقى أقل الأخطار في ظل تعدد الفواعل وتباين المصالح المعقدة، وهذا يعلي من ضرورة إنجاز توافقات إقليمية حيال أزمات المنطقة لضمان عودة الاستقرار وإنهاء مرحلة السيولة الأمنية.
وبهذا الصدد، ينبغي على كافة القوى السورية الوطنية التركيز الاستراتيجي على الاهتمام بالمشروع والخطاب الوطني والعمل على انجاز تفاهمات مع كافة القوى حول المنظور السوري "للدولة" وأولوياتها وأدوارها المحلية والإقليمية، وإنجاز (وتصدير) رؤى وطنية حيال شكل الحكم في سورية بما يجعله ينسجم مع متطلبات التنمية والمشاركة ويتوافق مع الغاية الإقليمية في بناء الاستقرار وصيانته.
([1] ) يقصد بالمعادلة الأمنية الإقليمية: الصيغة المعبرة عن توازن القوى في الإقليم وما تستلزمه من تحالفات وتوافقات في إدارة الأزمات، وتتشكل عناصرها من فواعل مؤثرة + سياسات أمنية + قواعد تعاطٍ، وهي بطبيعة الحال تبقى انعكاساً لشكل النظام الدولي.
كما يعتمد المقال التحليل الأمني باعتباره مدخلاً مهماً في فهم تفاعلات الدول من جهة، ومقارباتها حيال أزمات المنطقة من جهة ثانية، ويرتكز هذا التحليل على النظرية الواقعية التي ترى أن المخاطر العسكرية لا سيما الخارجية هي أبرز تهديد لأمن الدول، وترصد مؤشري التهديد واستخدام القوى والسيطرة عليها باعتبارها من ابرز مؤشرات فهم التفاعلات الأمنية التي تتم في بيئة فوضوية فيها صراعات مركبة تجعل من فكرة الحرب احتمالية قائمة.