مقالات

تتعاظم خسارات طهران لأدوات استراتيجيتها الإقليمية في المنطقة والتي كانت تساهم بتموضعها المركزي ضمن النظام الإقليمي، فالمواجهة غير المتكافئة في غزة المترافقة مع صمت دولي مطبق، والضربة القاسية التي وجهتها إسرائيل لـ "حزب الله" باستهداف منظومة القيادة وشبكة الاتصال والتواصل، والانتقال إلى سياسة هجومية ضد الحزب؛ يجعل الموقف الإيراني في المنطقة يتراوح بين تعزيز جبهات محددة أو المواجهة المفتوحة والشاملة لكل أدواتها بدءاً من اليمن مروراً بسورية وانتهاء بالعراق. وضمن تلك الخيارات يبرز السؤال حول الجغرافية السورية كإحدى الساحات المحتملة للتصعيد عبر وكلاء إيران المحليين، خاصة في ظل موقف نظام الأسد المتردد، والمتقاطع مع المنظور الروسي لعزل الجغرافية السورية عن أي صراع يعيدها إلى ديناميات عسكرية تقلق مكاسب موسكو الاستراتيجية.

سورية: ممر إسناد أم ساحة مواجهة؟

تمتلك إيران حضوراً عسكرياً قوياً في سورية عبر الميليشيات التابعة لها، مثل "حزب الله" اللبناني وقوات من الحرس الثوري الإيراني والميليشيات المحلية والطائفية-الأجنبية، ناهيك عن تغلغلها في أغلب قطاعات الدولة الحيوية وانتشار مليشياتها في جل الجغرافية السورية، مما يمنحها القدرة على تنفيذ عمليات ضد إسرائيل أو ممارسة ضغط دون الدخول في مواجهة مباشرة.

وفي هذا السياق، يبدو خيار توظيف الجبهة السورية مطروحاً، فقد تسعى إيران لفتح جبهات جديدة في سورية لتخفيف العبء عن باقي الجبهات وتوسيع رقعة المواجهة وتشتيت قدرات إسرائيل الدفاعية، عبر استخدام سورية كنقطة انطلاق ضد إسرائيل، دون أن ينخرط نظام الأسد بشكل مباشر في عملية توسيع الصراع. خاصة أن توسيع قواعد الاشتباك عبر سورية لن يحقق أهدافاً عسكرية فحسب، وإنما سيعقد الحسابات الجيوسياسية، لا سيما أن مؤشرات الانزلاق متنامية في المنطقة، ومؤشرات الانخراط والعودة الأمريكية لتشكيل نظام أمن إقليمي جديد باتت أكثر احتمالية، الأمر الذي قد يدفع باتجاه خلق مناخ تفاوضي يعزّز موقف طهران ويوقف تدهور مكاسبها.

بالمقابل، فإن انخراط سورية في الصراع سيستتبع برد فعل إسرائيلي قوي، مما قد يهدد استقرار نظام الأسد ويؤدي إلى تدخل دولي. لذلك، ستكون حسابات طهران في هذا السياق بالغة الدقة باعتبار أن "جبهة سورية" هي مكسبها الاستراتيجي الذي تطلب منها أعواماً من الدعم الأمني والسياسي والاقتصادي، ناهيك عن كونها جغرافية مهمة تستطيع أدواتها التحرك فيها دون تهديدات داخلية، إضافة إلى عدم قدرتها على المواجهة المباشرة بسبب استنزاف مواردها في سورية خلال السنوات الماضية.

وعليه، يمكن القول: إن إقحام سورية في الصراع المباشر، ورغم كونه خياراً متاحاً لإيران؛ إلا أنه لا يبدو وفق المعطيات السابقة مطروحاً على المدى المنظور، والذي قد تسعى إيران خلاله للحفاظ على الجغرافية السورية كممر عبور/إسناد لميليشياتها وأسلحتها، في حين يبقى التصعيد وتوظيف سورية كورقة ضغط إضافية متاحاً في حال تفاقم الصراع مع إسرائيل، لكن من المرجح أن يكون ذلك بشكل محدود وعبر وكلاء محليين وليس عبر مواجهة عسكرية مباشرة تشمل "الدولة السورية" ككل.

نظام الأسد: اللعب على الهوامش كخيار أوحد

لا يبدو أن لدى نظام الأسد رغبة/قدرة حالية في فتح جبهة الجولان ضد إسرائيل، أو حتى استخدام الجغرافية السورية ضمن الصراع الدائر ولو عبر الوكلاء، حتى بعد اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان، إذ اكتفى النظام بإدانة إسرائيل وشجب العملية العسكرية المستمرة على غزة ولبنان فقط، ولعلّ أبرز الأسباب الدافعة لهذا الموقف هي:

  • أزمات النظام المركّبة: يعاني النظام من تداعيات الحرب الاقتصادية والأمنية المتراكمة خلال سنوات النزاع، والتي ساهمت بإضعاف الجيش وتآكل شبكات حكمه التقليدية، وكل هذا يجبر النظام على التقوقع الذاتي وعدم الانجرار إلى صراع مباشر ومفتوح. وعلى الرغم من أن التلويح بالانخراط سيساهم في إعادة تصدير النظام لنفسه شعبياً على المستوى المحلي والعربي؛ إلا أن كلفة هذا الخيار أمام الجدية الإسرائيلية ستكون باهظة الثمن.
  • وضوح الموقف الروسي: وهو ما يتكئ الأسد عليه في إدارة علاقته مع طهران، إذ لن ينخرط بمعارك عسكرية سواء داخلياً أو خارجياً دون دعم صريح من الروس. من جهة أخرى، استثمرت روسيا الكثير من الموارد السياسية والعسكرية لدعم نظام الأسد، لذلك من غير المرجح أن تقبل بتحويل سورية إلى ساحات صراع جديدة قد تهدد استقرار النظام، حيث تدرك أن أي تصعيد جديد مع إسرائيل أو قوى أخرى قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار ويهدد مكاسبها في سورية، والتي تتطلب بيئة مستقرة نسبياً لتطبيق رؤيتها في الحل والدفع بمسار أستانا. كما أنها لا ترغب بتصعيد في المنطقة بين سورية وإسرائيل، لأن ذلك سيعقّد موقفها، حيث تسعى روسيا لتحقيق توازن بين دعم نظام الأسد والحفاظ على علاقاتها الجيدة مع تل أبيب. ناهيك عن وضوح رغبة روسيا بالحد من تزايد النفوذ الإيراني في سورية، إذ تفضل أن تكون هي اللاعب الرئيسي في البلاد، وليست إيران. ووفقاً لهذا التفضيل، ورغم معارضة موسكو لتحويل سورية إلى ساحة صراع مباشر؛ إلا أنها وفي الوقت نفسه لا تمانع من ضربات إسرائيلية محددة تضعف النفوذ الإيراني في سورية.
  • الانسجام مع الموقف العربي المهادن له: سيحافظ النظام على اقتصار موقفه على الموقف الإعلامي، نظراً لما للصراع ضد إسرائيل من وزن كبير في الوعي العربي، وبالتالي المساهمة في تحسين صورته أمام الرأي العام العربي.

 إلا أن الأسد يدرك أن قطار التطبيع مع الدول العربية هو الأساس الذي ينتظر تحوّله من الشق السياسي إلى الاقتصادي، خاصة من بعض الدول الخليجية التي سبقت إلى التطبيع مع إسرائيل، والتي ربما يمتد أثر موقفها هذا إلى سعي لتحييد الأسد وعزله عن هذا الصراع و"إخراجه من العباءة الإيرانية"، مقابل الحفاظ على نظامه ومحاولات إعادة تعويمه.

لا يبدو أن أمام النظام خياراً سوى تحييد الجغرافية السورية والاكتفاء بمواقف سياسية-إعلامية، فالمغامرة هنا ليست مضمونة وغير محسوبة النتائج، لذلك سيحافظ على بقاء قواعد الاشتباك ذاتها أو يصمت عن تغييرها من قبل إسرائيل، وسيتغافل عن حركية الميليشيات المحلية والعراقية، وعن سياسات إيران في التحريك والتسليح والإسناد.

سورية  كخطوة متقدمة للسياسة الهجومية الإسرائيلية

قد تتخذ إسرائيل خطوات استباقية في سورية إذا شعرت بتهديد متزايد من قبل إيران أو الجماعات المسلحة المدعومة منها في المنطقة، وستغير قواعد الاشتباك التي كانت تعتمدها لضرب القيادات الإيرانية ومواقعها ومواقع "حزب الله" بهدف منع إيران من تعزيز وجودها العسكري ونقل أسلحة متطورة إلى الحزب في لبنان.

ولعل توسيع قواعد الاشتباك تبدت ملامحه من خلال التوغل البري الأخير والمحدود لإسرائيل في القنيطرة، بينما تبدو محددات الضربات الجوية، والتي ترسم بنك الأهداف الإسرائيلية في سورية، ثابتة حتى الآن وتتراوح بين ثلاثة مستويات، الأول: يستهدف خطوط النقل (الحدود العراقية-السورية واللبنانية-السورية)، والثانية: تستهدف قادة إيرانيين أو قادة في "حزب الله" أو غيرهم من قيادات المليشيات المرتبطة بإيران، أما الثالث: فيهدف إلى منع أي محاولات لتطوير الأسلحة سواء الكيميائية أو القدرات الصاروخية بعيدة المدى، وغالباً ما يستهدف مراكز البحوث العلمية.

ومن المرجّح أن تستمر الضربات الإسرائيلية الجوية ضمن تلك المستويات مع زيادة وتيرتها خلال الفترة القادمة، خاصة في استهداف قيادات "حزب الله" والحرس الثوري، وذلك للاستفادة من زخم العمليات في لبنان من جهة، واستجابة لتراجع قيادات الحزب إلى العمق السوري من جهة أخرى. بالإضافة إلى وجود إلحاح حول سرعة الإنجاز استباقاً لزيادة الضغوط الغربية على إسرائيل، يضاف إلى ذلك التخوّف من سيناريو ردة فعل إيران.

أما بالنسبة للغزو البري الموسَّع، فيبدو كسيناريو مستبعد ومرتبط بفتح الجبهة السورية، خاصة أن تل أبيب تفضل الاستهداف عن بعد والتدخلات البرية المحدودة جداً، وذلك للحفاظ على الدور الوظيفي للأسد، خصوصاً أن القيادات الإسرائيلية ستسعى إلى ترجمة إنجازاتها العسكرية إلى سياسية متمثلة بالتطبيع وعمليات "سلام". وفي حال تدخلت في سورية برياً، كما حدث مؤخراً في القنيطرة؛ فسيكون تدخلها مؤقتاً ومحدوداً وقد لايرتبط بأهداف ضمن الأراضي السورية، بقدر ما يرتبط بأهداف خاصة بلبنان والمناطق الحدودية و"حزب الله".

ختاماً

يبدو أن عودة سورية إلى ساحة صراع إقليمي مباشر ليست احتمالاً وشيكاً في ظل الظروف الراهنة، لكنها تبقى معادلة مفتوحة على تطورات قد تكون مفاجئة. فقد تسعى إيران، بشكل غير مباشر، إلى استخدام الأراضي السورية لتوسيع نطاق المواجهة مع إسرائيل، عبر أسلوب "حرب الوكلاء" لتجنب المواجهات المباشرة.

على الجانب الآخر، يواجه نظام الأسد تحديات داخلية ضخمة وأزمات اقتصادية واجتماعية وأمنية متفاقمة، مما يجعله أقل ميلاً لفتح جبهة عسكرية ضد إسرائيل. وأي تحرك في هذا الاتجاه قد يؤدي إلى رد فعل إسرائيلي قوي قد يعيد النظام إلى دوامة عدم الاستقرار التي يسعى للخروج منها.

أما روسيا، الحليف الأقوى لنظام الأسد، فتنظر إلى أي تصعيد عسكري بقلق بالغ بعد استثمارها العسكري والسياسي الكبير في سورية، كما أنها تروج "كلاسيكياً" لفكرة الحلول السياسية والدبلوماسية للصراعات في الشرق الأوسط، وعودة سورية كساحة جديدة للصراع تتعارض مع هذه الرؤية.

بناءً على ذلك، يمكن القول: إن سورية ستظل ساحة ذات أهمية جيوسياسية كبيرة، لكنها في الوقت الحالي أقرب إلى سيناريوهات التصعيد المحدود والمدروس بدلاً من المواجهة المفتوحة والمباشرة. والتي تبقى احتمالاتها مرهونة بتغيرات جوهرية في خارطة المواقف، إلا أن الخيارات الإيرانية المتاحة تبدو أكثر ميلاً نحو الحفاظ على الوضع القائم، والانخراط التدريجي في استراتيجية الإسناد، مع السعي لتجنب الانزلاق إلى مواجهات إقليمية قد تكون نتائجها غير محسوبة.

الإثنين تموز/يوليو 22
المُلخَّص التنفيذي: قسَّمت الدراسة مبناها المنهجي وسياقها المعلوماتي والتحليلي إلى فصول ثلاثة، مثّل الفصل الأول منها: مدخلاً ومراجعة لتاريخ القبائل والعشائر في الجغرافية السورية بشكل عام وفي محافظتي حلب وإدلب…
نُشرت في  الكتب 
الأربعاء آب/أغسطس 23
يأتي نشر هذا الكتاب في وقت عصيب على سورية، خاصة في أعقاب الكارثة الطبيعية التي حلت بالبلاد، إضافة إلى الزلازل السياسية التي شهدها الشعب السوري منذ بداية الثورة السورية عام…
نُشرت في  الكتب 
الخميس نيسان/أبريل 29
الملخص التنفيذي مع تراجع سُلطة الدولة المركزية لصالح صعود تشكيلات دون دولتية، منها ذات طابع قومي وديني؛ برزت نماذج مختلفة من أنماط الحكم المحلي في الجغرافية السورية، والتي تأثرت بالخارطة…
نُشرت في  الكتب 
يرى المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف، في تصريح صحفي لجريدة عنب…
الثلاثاء نيسان/أبريل 02
شارك الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية الأستاذ سامر الأحمد ضمن برنامج صباح سوريا الذي…
الأربعاء تشرين2/نوفمبر 29
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في فعاليات المنتدى الاقتصادي الخليجي…
الجمعة تشرين2/نوفمبر 24
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في رؤية تحليلية للحرب على…
الإثنين تشرين2/نوفمبر 20