عقب الزلزال الذي ضرب تركيا سورية في 06 شباط/فبراير الماضي، شهدت المنطقة حراكاً دبلوماسياً عربياً حثيثاً تجاه النظام في سورية ضمن إطار دبلوماسية الكوارث وسياسة التطبيع الإقليمي الذي بدأ تبلوره في 2021 من خلال الانفتاح الإماراتي، وذلك إلى جانب استثناء مؤقت وجزئي لبعض القيود الاقتصادية المفروضة على النظام دولياً. يسعى تقدير الموقف هذا لتبيان مستقبل سياسات التطبيع مع النظام من خلال تناول: العوامل المؤثرة في الإجراءات المتخذة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بخصوص سياسات العقوبات المفروضة على النظام ودلالات ذلك؛ ديناميات سياسات التطبيع ودوافع الدول العربية وتركيا بخصوص التطبيع مع النظام كل على حدة؛ تفاعل الديناميات الإقليمية والدولية المحددة لمسار التطبيع.
الفواعل الدولية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي)
لم يكن إيجاد حل للملف السوري على قائمة أولويات إدارة بايدن، وإنَّما كانت مقاربة إدارة الملف تقتصر على تجميد الصراع العسكري والإبقاء على خارطة النفوذ الحالية، بهدف منع عودة تنظيم الدولة لنشاطه السابق في المنطقة، والحول دون زيادة نفوذ الفواعل الإقليمية والمحلية الأخرى في الساحة السورية([1]). بالإضافة إلى الإبقاء على آليات العقوبات وعلى رأسها قانون قيصر وإقرار قانون مكافحة الكبتاجون كأداة ضاغطة على النظام، وعقبة أمام إعادة تأهيله دولياً.
بعد ثلاثة أيام على الزلزال، قام مكتب مراقبة الأصول الخارجية في الخزانة الأمريكية بالسماح بالتحويلات المالية المرتبطة بجهود الإغاثة عقب الزلزال - والتي كانت ستكون محظورة بسبب العقوبات - لمدة ستة أشهر فقط([2])، بالتوازي مع تجديد الخارجية الأمريكية رفضها التطبيع مع النظام أو رفع مستوى العلاقة معه، وقيام مجلس النواب الأمريكي بـإدانة محاولات النظام لاستغلال الكارثة لتجنب الضغط والمحاسبة الدولية، والتأكيد على أهمية آلية العقوبات (قانون قيصر) لحماية المدنيين([3]). ناهيك عن قيام وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بلقاء ممثلين عن منظمة الدفاع المدني السوري "الخوذ البيضاء" في تركيا([4]).
تعكس جُملة هذه الخطوات صعوبة وجود دلالات سياسية واضحة للتخفيض المؤقت والجزئي للعقوبات حالياً، أو تغيُّر في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه سورية والنظام على مستوى الأولويات والمقاربة. لا سيما وأنه سبق للخزانة الأمريكية أن أصدرت قراراً بالسماح لبعض التحويلات المصرفية المحظورة تحت طائلة العقوبات خلال وباء كوفيد-19 لكل من سورية وإيران وفنزويلا، من غير وجود دلالات سياسية لذلك، بهدف تسهيل العمل الإغاثي والصحي([5]).
بشكل مشابه، كان موقف الاتحاد الأوروبي واضحاً بخصوص رفض التطبيع مع النظام في سورية، أو رفع العقوبات عنه، أو البدء بإعادة الإعمار، من غير انخراط النظام بعملية سياسية وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254([6])، وذلك على الرغم من سعي حكومات أوروبية عدة، كاليونان وقبرص وإيطاليا وهنغاريا والنمسا وبولندا للدفع باتجاه سياسات تصب في صالح النظام، أو السعي للبحث عن آليات جديدة لتجاوز ضوابط الاتحاد الأوروبي لزيادة مساحات الفعل في سورية، ناهيك عن قيام بعض هذه الدول - هنغاريا وبلغاريا واليونان وقبرص - باستعادتها لمستويات مختلفة من العلاقات الدبلوماسية لم ترقَ لمستوى التطبيع الكامل بعد، الأمر الذي يرتبط بشكل أساسي بصعود سياسة اليمين الشعبوية، وفرضية قدرة النظام على تأمين الاستقرار ومنع تدفق اللاجئين([7])، لا سيما مع ارتفاع عدد طالبي اللجوء في دول الاتحاد بنسبة 50% في العام 2022، ليصل إلى ما يقارب المليون، الرقم الأعلى منذ 2016، في حين أن عدد السوريين منهم نحو الـ130.000([8]).
على إثر الزلزال وفي 17 شباط/فبراير، قدَّم ثمانية أعضاء في البرلمان الأوروبي مقترح قرار لـ"رفع العقوبات عن سورية[النظام] لغايات إنسانية"، معتبرين أن "العقوبات لم تحقق الأثر المرجو"، وأن "عواقبها أدّت لضرر بالغ على الشعب السوري"([9])، علماً أن البرلمانيين الثمانية ينتمون لمجموعات سياسية متنوعة يمينية ويسارية، كـ"حزب البديل لأجل ألمانيا" اليميني المتطرف، وحزب "مستقلون من أجل التغيير" اليساري في إيرلندا، على سبيل المثال لا الحصر. وعلى الرغم من اختلاف دوافع اليمينيين التي تكمن بمسألة اللجوء ومنع تدفق المزيد من اللاجئين، واليساريين الذين هم معنيون أكثر بالجانب الإنساني، وتقليص نطاق استعمال القوة للاتحاد في الخارج، إلا أن غايتهم التقت في مسار رفع العقوبات، مستغلين حالة الكارثة للدفع أكثر اتجاه إحداث تغيير في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تجاه سورية والنظام.
في 23 شباط/فبراير، أعلن الاتحاد الأوروبي عن تخفيف العقوبات المفروضة على النظام لمدة مؤقتة، من خلال قرار مجلس الاتحاد الأوروبي بتبني "تعديل إنساني إضافي"، بهدف إحداث تسهيل أكبر بسرعة وصول المساعدات الإنسانية لسورية بعد الزلزال. يتضمن القرار رفع حاجة المنظمات الإنسانية للحصول على إذن مسبق من السلطات المختصة في الدول الأعضاء "لإجراء تحويلات أو توفير سلع وخدمات مخصصة للأغراض الإنسانية" للأشخاص والكيانات المدرجة في قائمة العقوبات لمدة ستة أشهر فقط، علماً أن العقوبات الأوروبية لا تشمل الغذاء أو المواد الطبية أو النظام الصحي في سورية([10]).
يأتي القرار الأوروبي في إطار ثلاثة عوامل رئيسة لعبت دوراً بالغ الأهمية في صياغته: (1) حجم الكارثة الإنسانية وضعف الآليات الدولية في الاستجابة، (2) الديناميات الأوروبية الداخلية التي تكمن بالضغوط الداخلية لتغيير سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه سورية والنظام، وهو ما تجلَّى بمقترح القرار من البرلمانيين الثمانية لرفع العقوبات عن النظام، (3) قرار الخزانة الأمريكية بمنح الإذن للتحويلات المتعلقة بمساعدات الزلزال في سورية لمدة ستة أشهر.
الفواعل الإقليمية (الدول العربية وتركيا)
كانت كل من الإمارات وسلطنة عُمان والجزائر والأردن الدول الأبرز التي سعت لإعادة تأهيل النظام عربياً، وذلك لدوافع وأسباب مختلفة. فضمن سعيها للعب دور إقليمي بارز على المستوى السياسي ودافعها الاقتصادي المرتبط بملف إعادة الإعمار في سورية، قادت الإمارات جهود التطبيع مع النظام منذ بدايتها، إذ كانت الدولة الأولى التي طبَّعت العلاقات مع النظام وافتتحت سفارتها في دمشق بعام 2018([11])، ومن ثمَّ رفع مستوى العلاقة لتشمل الاتصال المباشر بين رئيس النظام بشار الأسد ومحمد بن زايد([12])، وتبادل الزيارات على مستوى وزارتي الخارجية([13]) والاقتصاد([14]) في الربع الأخير من عام 2021، قبل قيام بشار الأسد بزيارة دولة الإمارات كأول دولة عربية يزورها منذ 2011 وذلك في آذار/مارس 2022([15]).
في الوقت ذاته وبدوافع مختلفة، دخلت العلاقات الأردنية مع النظام مسار التطبيع رسمياً على مستوى التواصل المباشر بين الملك عبدالله الثاني وبشار الأسد([16])، والتنسيق على مستوى وزارات الدفاع([17])، وتطور العلاقات التجارية عقب فتح الحدود السورية - الأردنية ما انعكس بزيادة الصادرات من سورية إلى الأردن، والصادرات السورية عبر الأردن كبلد عبور إلى السعودية([18])، وذلك في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الأردن واستضافته لعدد كبير من اللاجئين السوريين. ناهيك عن مسألة أمن الحدود كأولوية أردنية مرتبطة بالمخدرات والنفوذ الإيراني، ساعياً لتحقيق مكاسب جزئية، أمنية واقتصادية، في ظل استمرار الاستعصاء السياسي.
على المستوى الإقليمي العربي، سعت الجزائر - التي لم تقطع علاقاتها الدبلوماسية بالنظام والتي تمتلك علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية وثيقة مع روسيا ([19])- لإعادة النظام للجامعة العربية في القمة العربية التي عُقدت في العاصمة الجزائرية في تشرين الثاني/نوفمبر 2022([20])، إلا أن الانقسام العربي بشأن المسألة، وثبات موقف قطر والسعودية المناهض للتطبيع، التي أعلنت حينها عن "ضرورة الالتزام بقرارات مجلس الأمن" بما يخص الشأن السوري قبيل القمة العربية؛ حال دون ذلك([21]). بالمقابل، كانت سلطنة عُمان الدولة الخليجية الوحيدة التي حافظت على علاقاتها الدبلوماسية مع النظام، والدولة الخليجية الأولى التي تقوم بتعيين سفير لها في دمشق، منذ تعليق دول مجلس التعاون الخليجي العمل الرسمي بسفاراتها في سوريا عام 2011([22])، الأمر الذي يرجع لتقاليد السياسة الخارجية العمانية، والتي لم تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع أي دولة في العالم منذ وصول السلطان قابوس إلى العرش في عام 1970([23]).
لهذا، لم يكن من المفاجئ زيارة بشار الأسد إلى العاصمة مسقط كثاني عاصمة عربية يزورها بعد أبو ظبي([24])، والتي توازت مع زيارة وزراء خارجية الإمارات والأردن لدمشق، ووفد برلماني من عدد من الدول العربية. بالإضافة للاتصالات التي جرت بين بشار الأسد والرئيس الجزائري، والرئيس الموريتاني، وملك البحرين، وكذلك قيام الرئيس التونسي قيس سعيد برفع مستوى التمثيل الدبلوماسي مع النظام([25])، إذ لا يوجد تطور حقيقي أو تغيُّر في مواقف هذه الدول تجاه النظام باعتبار أنها تمتلك علاقات دبلوماسية جيدة نسبياً مع النظام، إلَّا أنها تفتقد قدرتها على لعب دور وساطي - كالإمارات أو عُمان - في إعادة تأهيل النظام عربياً.
أما مصر، وعلى الرغم من الأهمية الجيوسياسية الكبيرة لها، فلا يُعتبر التواصل الرسمي المصري مع النظام على المستوى الرئاسي وزيارة وزير الخارجية المصري لدمشق([26]) ذلك التغيُّر اللافت، فقد حافظت مصر على حياد إيجابي تجاه النظام من خلال إعادة التمثيل الدبلوماسي في دمشق عام 2013([27])، بالتوازي مع عدم قطع صلاتها بالمعارضة عبر استضافتها لـ"تيار الغد السوري" المعارض بقيادة أحمد الجربا منذ 2016. ويأتي الحراك الدبلوماسي المصري الأخير في سياق مواكبتها للحراك الدبلوماسي للدول العربية المطبِّعة، بانتظار وضوح مواقف الدول الأخرى وعلى رأسها السعودية، إذ لا تلعب مصر حالياً دوراً ريادياً في السياسة العربية تجاه سورية، لا سيما مع وجود ملفات خارجية أكثر أهميةً لها كالملف الليبي وأمن المياه في سياق العلاقات مع إثيوبية.
بالمقابل، ومع ثبات الموقف القطري([28]) والكويتي([29]) المناهض للتطبيع مع النظام، يتضِّح أن الموقف السعودي في طور التبلور، مع وجود رغبة سعودية واضحة في إعادة تفعيل الدور العربي في سورية، بما يشمل الحوار مع النظام، ما تجلَّى برؤية وزارة خارجيتها بخصوص عدم جدوى سياسة عزل النظام، وعن بدء "تشكل نهج آخر لمعالجة مسألة اللاجئين السوريين في دول الجوار ومعاناة المدنيين" في ظل الاستعصاء السياسي([30])، وقيام المملكة بإرسال مساعدات إنسانية لمناطق سيطرة المعارضة والنظام كل على حدة، في إطار دبلوماسية الكارثة/الزلزال([31])، ناهيك عن اللقاءات الأمنية الاستخباراتية قبل الزلزال بين السعودية والنظام.
على الرغم من وضوح تغيُّر المقاربة السعودية بخصوص النظام، إلا أن الموقف السعودي ما زال بطيء التبلور، إذ إنه من غير المتوقع التطبيع السعودي السريع أو الكامل مع النظام من غير وضوح صفقة تقنية، لا سيما بما يخص النفوذ الإيراني، ضمن إطار مبادرة عربية لتسوية جزئية، قد تحدث تغييراً في مسار الاستعصاء الراهن.
أما بالنسبة لتركيا، فقد كانت الرغبة التركية واضحة في إعادة النظر في طبيعة العلاقة مع النظام في سورية، وهو ما تجلَّى في عقد اجتماع بين وزراء الدفاع ورؤساء الاستخبارات لكل من تركيا وروسيا والنظام في موسكو في كانون الأول/ديسمبر 2022([32]). وعلى الرغم من وجود اجتماع مرتقب سابقاً بين تركيا وروسيا والنظام على مستوى وزراء الخارجية في شباط/فبراير الماضي([33])، إلا أن الاجتماع تأجل نظراً لظروف الزلزال، ومن المتوقع عقده خلال شهر آذار/مارس الحالي([34]).حيث لم تسهم دبلوماسية الكوارث في زيادة وتيرة مسار التطبيع على المستوى السياسي بين تركيا والنظام، مقارنةً بأثرها في رفع مستوى العلاقات التركية - المصرية التي تجلَّت بالزيارة الأولى لوزير خارجية مصري لتركيا منذ عشر سنوات([35]).
لهذا، وبالأخذ بعين الاعتبار الفجوة الكبيرة بين الجانبين، تركيا والنظام، تبقى إمكانية أن يحقق مسار التطبيع بين تركيا والنظام تقدماً ملموساً على المدى المنظور منخفضة، نظراً الانشغال الداخلي التركي بكارثة الزلزال والانتخابات المقبلة. إلَّا أن ذلك لا يغيِّر من واقع حضورها كملف انتخابي، وأهمية التطبيع في السياسة الخارجية التركية على المدى المتوسط، لاعتبارات أمنية، ولاعتبارات سياسية داخلية تتعلق بملف اللاجئين، ورؤية أغلب الأحزاب السياسة لتطبيع العلاقات مع النظام كعامل مساهم في ملف العودة.
مستقبل التطبيع وتفاعل الديناميات الدولية والإقليمية
دولياً، سيبقى النظام في حالة من العزلة الدولية في ظل استمرارية العقوبات الأمريكية والأوروبية، والتي تأتي استثناءاتها الأخيرة المؤقتة ضمن ملف إدارة الشأن الإغاثي والإنساني، من غير وجود مؤشرات عن دلالات سياسية لذلك. ومن غير المرجَّح أن يكون لكارثة الزلزال أثرٌ في إعادة تأهيل النظام دولياً، أو حدوث تغيُّر على المستوى الكلِّي في السياسة الأمريكية أو الأوروبية تجاه النظام، لا سيما مع استمرار حالة الاستقطاب الغربي - الروسي منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. وعلى الرغم من عدم وجود موقف غربي لمواجهة روسيا على الساحة السورية، كذلك الموجود في أوكرانيا، إلا أن الموقف الغربي ما زال ممانعاً لإعادة تأهيل الأسد أو منح روسيا نصراً في سورية.
إقليمياً، لا يبدو أن العقوبات الأمريكية والأوروبية بشكلها الحالي عائقٌ أمام تطبيع العلاقات بين النظام ودول الإقليم، إلا أنها ستبقى محدِّدة لمستوى وشكل هذا التطبيع، إذ لم يكن للرفض الدبلوماسي الغربي أثرٌ في منع تطوُّر هذا المسار الذي بدأ يتبلور منذ 2021. وفي ظل غياب بوادر حل سياسي دولي في المدى المنظور، سيستمر مسار التطبيع السياسي الثنائي بين النظام ودول الإقليم، مع شمله لتفاهمات أمنية واقتصادية محدودة مراعية للعقوبات الدولية، بيد أن عودة النظام للجامعة العربية ما يزال مستعبداً حالياً، مع عدم وجود موقف عربي موحد ومبادرة عربية رسمية للحل على المستويات الأمنية والسياسية، وصعوبة تقديم ذلك دولياً في الوقت الراهن، وارتباط ذلك أيضاً بمدى تجاوب سلوك النظام مع الخطوات العربية في كل من ملفات: تهريب المخدرات، وطبيعة العلاقة مع إيران، وعودة اللاجئين.
بالنسبة للنظام، فإن امتلاكه – فرضياً – الرغبة في إنجاز تفاهمات بخصوص الملفات الثلاثة لا يعني امتلاكه القدرة على ذلك، على الأقل فيما يخص العلاقة مع إيران التي غدت متجذرة في سورية عسكرياً وأمنياً واقتصادياً. فهو يجد هذه المبادرات كمساحة مناورة سياسية بين مبادرتين: العربية والروسية - التركية، وفرصة لإعادة تأهيله إقليمياً عبر تفاهمات ثنائية، من غير الدخول في مسار حل سياسي شامل، ناهيك عن كونها فرصة اقتصادية في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها، والاستنزاف الذي يشهده حليفه الروسي في أوكرانيا، والاضطرابات التي تواجهها إيران داخلياً. بيد أن ذلك لا يُغيِّر من حقيقة أن إخراج إيران من سورية لم يعد أقل صعوبةً من إخراجها من لبنان أو العراق، ومن غير الواقعي الظن بأن الدبلوماسية هي الأداة المثلى لذلك.
([1]) فاضل خانجي، الملف السوري في وثيقة "استراتيجية الأمن القومي" الأمريكية، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 21 تشرين الأول/أكتوبر 2022، الرابط: https://cutt.us/CC3ZZ
([2]) Treasury Issues Syria General License 23 To Aid In Earthquake Disaster Relief Efforts, U.S. Department of the Treasury, 09 February 2023, Link: https://cutt.us/Ar4ho
([3]) H.Res.132 - Responding to the earthquakes in Türkiye and Syria on February 6, 2023., Congress.gov, 17 Feb 2023, Link: https://cutt.us/QhrsZ
([4]) بلينكن يلتقي ممثلين عن "الخوذ البيضاء" السورية في تركيا، العربي الجديد، 19 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/fPE73
([5]) Treasury Issues Additional COVID-19-related Sanctions Authorizations and Guidance, U.S. Department of the Treasury, 17 June 2021, Link: https://cutt.us/8bIDQ
([6]) EU reiterates refusal to normalize ties with Syrian regime, Asharq al-Awsat, 05 February 2023, Link: https://cutt.us/eDjxH
([7]) Charles Lister, Is the EU starting to wobble on freezing out Assad?, Foreign Policy, 27 October 2022, https://cutt.us/WfoNy
([8]) Almost 1 million asylum applications in the EU+ in 2022, European union agency for asylum, 22 February 2023, Link: https://cutt.us/Tg3x9
([9]) Motion for a resolution - B9-0155/2023, European Parliament, 17 February 2023, Link: https://cutt.us/kRZbW
([10]) Earthquake in Türkiye and Syria: EU amends restrictive measures in place regarding Syria to facilitate the speedy delivery of humanitarian aid, Council of the EU, 23 February 2023, Link: https://cutt.us/zcu9p
([11]) الإمارات تعيد فتح سفارتها في دمشق، البيان، 28 كانون الأول/ديسمبر 2018، الرابط: https://cutt.us/lGruZ
([12]) صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد يتلقى اتصالاً هاتفياً من الرئيس السوري، وزارة الخارجية والتعاون الدولي للإمارات، 21 أيلول/سبتمبر 2021، الرابط: https://cutt.us/Nfstp
([13]) فخامة الرئيس بشار الأسد يستقبل سمو الشيخ عبدالله بن زايد في دمشق، وزارة الخارجية والتعاون الدولي للإمارات، 09 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، الرابط: https://cutt.us/MtGFA
([14]) الإمارات وسوريا تبحثان تطوير العلاقات الاقتصادية وتوسيع الشراكة، العين الإخبارية، 06 تشرين الأول/أكتوبر 2021، الرابط: https://cutt.us/rhoMS
([15]) صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد يستقبل الرئيس بشار الأسد، وزارة الخارجية والتعاون الدولي للإمارات، 19 آذار/مارس 2022، الرابط: https://cutt.us/WyBBi
([16]) الملك يتلقى اتصالاً هاتفياً من الرئيس السوري، وكالة الأنباء الأردنية، 04 تشرين الأول/أكتوبر 2021، الرابط: https://cutt.us/jID9q
([17]) رئيس هيئة الأركان يستقبل نظيره السوري، وكالة الأنباء الأردنية، 19 أيلول/سبتمبر 2021، الرابط: https://cutt.us/KFt7F
([18]) ARMENAK TOKMAJYAN, Jordan Edges Toward Syria, Carnegie Middle East Center, 29 March 2022, Link: https://cutt.us/WPGDx
([19]) سياسة الجزائر الخارجية على مفترق طرق، منتدى فكرة، 09 آب/أغسطس 2022، الرابط: https://cutt.us/kkUnV
([20]) القمة العربية: بدء اجتماع الزعماء العرب في الجزائر وغياب قادة السعودية والإمارات والكويت والمغرب، بي بي سي العربية، 01 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، الرابط: https://cutt.us/zFAVr
([21]) الخطاب الملكي السنوي لأعمال السنة الثالثة من الدورة الثامنة لمجلس الشورى، جريدة أم القرى، 16 تشرين الأول/أكتوبر 2022، الرابط: https://cutt.us/Pri9n
([22]) سفير سلطنة عُمان يسلم أوراق اعتماده لوزير الخارجية السوري، سي إن إن عربي، 04 تشرين الأول/أكتوبر 2020، الرابط: https://cutt.us/uL3an
([23]) بريت سودتيك وجورجيو كافييرو، الخطوات الدبلوماسية لسلطنة عمان في سوريا، منصة صدى - مركز كارينغي، 03 شباط/فبراير 2021، الرابط: https://cutt.us/Iit1I
([24]) جلالةُ السُّلطان المعظم يستقبل الرئيس السُّوري الذي قام بزيارة عمل إلى سلطنة عُمان، وزارة خارجية عُمان، 20 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/vaLOF
([25]) قراءة تحليلية في مدى تغير مواقف الدول من نظام الأسد؛ مجرد ضوضاء أم زلزال سياسي؟، مركز الحوار السوري، 02 آذار/مارس 2023، الرابط: https://cutt.us/o29pW
([26]) بشار الأسد يعرب عن تقديره البالغ لمبادرة الرئيس السيسي بالاتصال هاتفياً عقب الزلزال، وكالة أنباء الشرق الأوسط، 27 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/tdN9z
([27]) حسن صعب، العلاقات المصرية ـ السورية 2014-2021، المعهد المصري للدراسات، 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، الرابط: https://cutt.us/Crsjy
([28]) وسط موجة تطبيع عربي.. قطر تجدد رفضها التقارب مع نظام الأسد، الخليج أونلاين، 01 آذار/مارس 2023، الرابط: https://cutt.us/YpLcR
([29]) وزير خارجية الكويت: ليس لدينا خطط للتواصل مع "الأسد"، الخليج أونلاين، 19 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/GXg3p
([30]) فيصل بن فرحان: الحوار مع سورية مطلوب.. لا جدوى من عزلها، جريدة عكاظ، 19 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/XPp29
([31]) مركز الملك سلمان للإغاثة.. أول الواصلين إلى سورية، جريدة عكاظ، 13 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/QONbO
وصول الطائرة الإغاثية السعودية الثامنة إلى حلب لمساعدة ضحايا الزلزال، جريدة عكاظ، 14 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/32UQh
([32]) موسكو تحتضن اجتماعاً لوزراء دفاع تركيا وروسيا وسوريا، وكالة الأناضول، 29 كانون الأول/ديسمبر 2022، الرابط: https://cutt.us/EKq51
([33]) أنقرة: اجتماع مرتقب لوزراء خارجية تركيا وروسيا وسوريا مطلع فبراير، ديلي صباح، 12 كانون الثاني/يناير 2023، الرابط: https://cutt.us/3jM42
([34]) تشاووش أوغلو: اجتماع رباعي في موسكو لمناقشة الملف السوري، وكالة الأناضول، 08 آذار/مارس 2023، الرابط: https://cutt.us/ChUVp
([35]) الرقم: 59، التاريخ: 26 فبراير/ شباط 2023، بيان صحفي حول زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى تركيا، وزارة الخارجية التركية، 26 شباط/فبراير 2023، الرابط: https://cutt.us/nRozH
يجمع النظام السوري من الصفات والممارسات مع نظام "الأبارتهايد" أكثر بكثير مما يختلف معه أو ينفي عنه هذه الصفة، إذ مارس النظام السوري أشكالاً مختلفة من التمييز طوال فترة حكمه وما يزال.
تعود كلمة " الأبارتهايد" لأصلها في اللغة الإفريقية وتعني "الفصل" ويُشار لهذه الكلمة بشكل مفصلي عند الحديث عن نظام الفصل العنصري الذي كان قائماً في جنوب إفريقيا في الفترة الممتدة ما بين 1948 – 1994 قبل فشله وتحول جنوب إفريقيا لدولة ديمقراطية يتساوى فيه الجميع على الأقل من الناحية القانونية أما في التطبيق ما زالت عدة مشكلات موجودة ولم يتم تجاوزها بعد.
نكأت زيارة كانديث ماشيغو دلاميني نائب وزيرة العلاقات الدولية والتعاون في جمهورية جنوب إفريقيا لسوريا ولقاءها بشار الأسد الذاكرة حول نظام "الأبارتهايد" الذي عانت منه هذه السيدة قبل أكثر من 30 عاماً خصوصاً أنها لعبت دوراً أساسياً في النضال ضده عبر إنشاء لجنة دعم الآباء المحتجزين في ثمانينات القرن الماضي لإحباط تأثير اعتقال الناشطين المناهضين للفصل العنصري الذي قاده آنذاك نظام جنوب إفريقيا.
هذه الزيارة ولدت تساؤلاً جوهرياً، إذ كيف لمن عانى الظلم يوماً أن يعود حين يُنصفه القدر ليقف بجانب ظالم آخر يقود بدوره نظاماً ديكتاتورياً قتل مئات الآلاف وشرد الملايين من الشعب الذي يحكمه ويفترض به أن يحميه ويعمل على رفاهيته لا العكس.
قد يستغرب البعض وجه تشبيه النظام السوري بنظام الفصل العنصري "الأبارتهايد" الجنوب إفريقي أو حتى الإسرائيلي، خصوصاً أن الحالة السورية لا تنطبق تماماً على جنوب إفريقيا أو فلسطين المحتلة، فلا يوجد في سورية قانون يميز بين المواطنين بحسب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة على الأقل كما يدعي دستور 2012، كما أن كامل البيئة التشريعية والقانونية السورية خالية من التشريعات الصريحة التي تقوم بالتمييز بين المواطنين عدا تلك التشريعات الخاصة ببعض الطوائف الموجودة في سوريا، وهي تشريعات خاصة داخل تلك الطوائف ولا تعمم على غيرها.
إن الاختلاف بين الحالات السابقة لا ينفى تشابهها والاختلاف هنا شيء طبيعي، إذ لا يوجد أي نظام في أي دولة ينطبق تماماً على نظام آخر، ولكن قد يتشابه مع أنظمة حول العالم وإن كانت بعيدة آلاف الكيلومترات، وقد يُمارس أيضاً ما كانت تلك الأنظمة تمارسه على شعوبها من أجل البقاء في سدّة الحكم مُستنسخةً بذلك تجارب تلك الأنظمة وممارساتها الوحشية والقمعية.
يجمع النظام السوري من الصفات والممارسات مع نظام "الأبارتهايد" أكثر بكثير مما يختلف معه أو ينفي هذه الصفة عنه، إذ مارس النظام السوري كل أشكال التمييز العنصري ضد معارضيه وأذاقهم الويلات بمختلف أنواعها سواء القتل المباشر أو القتل تحت التعذيب والاعتقال والتهجير والمنع والقمع.
التمييز العنصري القائم في سوريا رغم أنه غير قائم على اللون أو الجنس وليس مشرعاً قانوناً كما هو الحال في "الأبارتهايد" الإفريقي إلا أنه يُطبق عُرفاً في عدد من مجالات الحياة العامة وعلى عدة مستويات سواء في الممارسة والسلوك أو في مؤسسات الدولة وذلك بحسب الحالة التي يُراد تطبيقه فيها، والأمثلة على ذلك كثيرة.
من ناحية الممارسة والسلوك هناك جرم ضد الإنسانية يتمثل بالفصل العنصري حين يقع أو عندما يُرتكب أي عمل لا إنساني أو وحشي (بصورة أساسية أي انتهاك جسيم لحقوق الإنسان) في سياق نظام مؤسسي من الهيمنة والقمع بصورة ممنهجة من جانب فئة عنصرية على فئة عنصرية أخرى، بقصد إدامة هذا النظام، أما من ناحية المؤسسات فهناك مناصب في الدولة تكون حكراً على طائفة واحدة وهذا تمييز على أساس ديني/ مذهبي، ومناصب أخرى يُمنع على فئة عرقية ما أن تتبوأها وهو تمييز قائم على أساس عرقي/ قومي.
يحكم سوريا منذ عام 1963 العسكر المنتمون إلى حزب البعث العربي الاشتراكي منذ انقلابهم آنذاك، واستخدم العسكر قانون الطوارئ لمدة 48 عاما قبل إلغائه في عام 2011 ثم استبداله بقانون مكافحة الإرهاب في عام 2012، كما أن حزب البعث الحاكم بقي لفترة طويلة في الحكم فضلاً عن تعيينه قائداً للدولة والمجتمع لعشرات السنين قبل إلغاء ذلك شكلياً في دستور 2012، واستمراره بالحكم بالوتيرة ذاتها حتى مع إسقاط تلك المادة من الدستور.
يُطبق نظام الفصل العنصري السوري بكثرة في المؤسسة العسكرية ويعلم الشعب السوري ذلك كأمر بدهي، بالإضافة لعدد من الدراسات البحثية التي سبق أن أكدت وجود مستويات عالية من الطائفية في المؤسسة العسكرية سواء في الجيش أو الأمن.
أما في مؤسسات الدولة فما زال لحزب البعث اليد العليا والطولى في التعيين بمناصبها، فالسواد الأعظم من الوزراء هم من البعث، والمحافظون الـ 14 جميعهم من البعث كما أن مجلس الشعب لعام 2020 يوجد من حزب البعث 166 عضوا بنسبة 66.4% من أصل 250 عضوا، وحتى المستقلون فالقسم الأعظم منهم بعثي برتبة "نصير"، أما بقية الأعضاء فهم أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية ولهم 17 مقعداً بنسبة 6.8%، وينسحب هذا على السفراء والقائمين بالأعمال وحتى قادة الجيش أيضاً، مع العلم أن الاستثناءات القليلة الموجودة لا تشكل فرقاً بـ "الأبارتهايد" السوري.
مارس النظام السوري التمييز العنصري القائم على أساس قومي عرقي على عدد كبير من الكرد في شمال شرقي سوريا واستمر حرمانهم من الجنسية السورية لعدد طويل من السنوات حتى حين قام بشار الأسد بإصدار المرسوم التشريعي 49 لعام 2011 مدفوعاً بتهدئة الأوضاع وضمان عدم مشاركتهم في الثورة.
يهدد النظام السوري أيضاً جنسية ملايين السوريين بعد إصداره قانون الأحوال المدنية رقم 13 لعام 2021 وذلك بسبب مدة صلاحية البطاقات الشخصية التي حددها بـ 10 سنوات، ناهيك عن ولادة مئات الآلاف من السوريين في الداخل والخارج دون أن يتمكن ذووهم من تسجيلهم أصولاً في دوائر الأحوال الشخصية لأسباب عديدة.
من جهة ثانية استخدم النظام السوري انتزاع الملكية بشكل مكثف ضد معارضيه عبر مصادرة الممتلكات والأموال المنقولة وغير المنقولة لهم عبر إلقاء الحجز عليها، ثم قام النظام بتشريع القانون رقم 10 لعام 2018 الذي يلزم مالكي العقارات بتقديم ما يُثبت ملكيّتهم في غضون 30 يومًا فقط، وإلّا فإنهم سيخسرون ملكيّة هذه العقارات لصالح الدولة – تمَّ تمديد فترة السماح إلى سنةٍ بعد الضجَّة العالميّة التي أحدثها صدور القانون الأمر الذي يعني ببساطة مصادرة الأسد لجميع العقارات في المناطق المناهضة له.
استخدم النظام مجموعة كبيرة من الأدوات القائمة على التمييز العنصري بشكله السوري، وبالعودة سريعاً في ذاكرة الثورة السورية نجد أن المجازر التي تم ارتكابها في سوريا قائمة على أساس التمييز المذهبي كمجازر بانياس والحولة وداريا والقبير والتريمسة والتضامن وغيرها، بالإضافة لعمليات القصف الجوي الممنهجة التي تم تنفيذها على نطاق واسع ضد المناطق الثائرة.
يضاف لممارساته أيضاً عمليات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري بالإضافة للحرمان من حق العودة والتنقل، والحرمان من المشاركة السياسية والحق في تقرير المصير وعمليات النقل القسري نحو الشمال السوري تحت إطار ما سماها اتفاقات أو مصالحات وهي عمليات تغيير ديمغرافي ممنهجة، يعود الأساس فيها لضمان سيطرة فئة على فئة أو فئات أخرى.
يطبق بشار الأسد ونظام حكمه مستويات مختلفة من التمييز العنصري، ويعبر عنه ضمنياً حين يقول "خسرنا خيرة شبابنا وبنية تحتية كلفتنا كثيرا من المال والعرق لأجيال، صحيح؛ لكننا بالمقابل ربحنا مجتمعاً أكثر صحة وأكثر تجانساً" أو حين يقول "الوطن ليس لمن يسكن فيه ويحمل جواز سفره، وإنما لمن يدافع عنه ويحميه".
ففي المرة الأولى يحدد أنه ربح مجتمعاً متجانساً بعد قتله وتشريده للملايين وحرمانهم من مقومات الحياة الأساسية، ثم يحدد معايير الوطن بما يناسبه عبر تشريع الحرمان من المواطنة بمقابل منحها لمن ساهم في حماية نظام حكمه.
إن "الأبارتهايد" السوري يبدأ تطبيقه في حال المطالبة بالحرية أو بإسقاط النظام، ويطبق أحياناً على مجتمعات بكاملها، كما أنه يُطبق على أفراد بعينهم حتى لو كانوا من الفئة الموالية التي ينتمي إليها قادة النظام.
كان من الأجدى لمناضلة سابقة ضد نظام "الأبارتهايد" العنصري كالسيدة دلاميني أن تفكر بعدد من قتل وتعذب في سبيل حريته من جنوب إفريقيا إلى سوريا وهم عشرات الملايين، قبل أن تضع يدها بيد بشار الأسد، أو تسأله على الأقل عن آلاف الآباء الذين قتلهم تحت التعذيب أو غيبهم في سجونه.
أخيراً إن لم يكن النظام السوري نظاماً عنصرياً بالمفهوم الحديث لنظام "الأبارتهايد" العنصري فلا أعلم ماذا يكون! وبالتالي على المجتمع الدولي أن يعيد النظر في تعريف التمييز العنصري وتحديث "الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري" التي وقّع عليها النظام السوري مند أكثر من 50 عاماً.
لقراءة الكتاب انقر هنا
قدم الباحث في "مركز عمران للدراسات الاستراتيجية"، بدر ملا رشيد،تصريحاً صحفياً لموقع السورية نت، حول المادة التي أعدها الأخير بعنوان: اقتصاد منطقة "نبع السلام".. المنفس عبر البوابة التركية".
حيث رأي فيه أن المنطقة الممتدة من رأس العين إلى تل أبيض "من المناطق الممتازة من الناحية الزراعية، ذات الكثافة المتدنية، إلا إن كونها منطقة زراعية لا يمنحها أسساً إقتصادية متينة".
واعتبر الباحث في حديثه لـ"السورية.نت"، أنه "من الصعب أن تنتج فيها حلقة اقتصادية بشكلٍ مستقل، كما في بقية مناطق السيطرة والنفوذ في سورية، لذا إن إستمر الوضع الميداني على حاله فمن المحتمل أن تعتمد المنطقة بشكلٍ شبه كامل على السوق التركية"، فالاعتماد على السوق التركية، بحسب الباحث سيكون "سواءً لتصريف المواد الزراعية، أو لتوريد كل شيئ من مقومات الحياة، فيما عدا القمح والشعير وبعضٍ من القطن".
كما أوضح الباحث أنه "وفي ظل ضعف الحلقة الاقتصادية (في هذه المناطق)، وكونها على خلاف بقية المناطق السورية نتيجة وجود الإدارة الذاتية والنظام السوري على محيطها، فلن تتمكن من استيراد المواد الأولية لتقديم الخدمات فيما يتعلق بالبنية التحتية والإعمار".
أما من الناحية الخدمية، فقد أشار الملا، إلى أن المنطقة "ستعتمد بشكل شبه كامل أيضاً على ما سيتم استيراده أو ستقدمه تركيا، وهذا الواقع يتوقف على العملية التركية التي صرحت بأنها ستستمر فيها، وإن يبدو الأمر صعباً في المرحلة الحالية، نتيجة انتشار عناصر الشرطة والجيش الروسي أكثر".
المصدر السورية نت: http://bit.ly/37ZHeRF
أفرز النزاع الدائر في سورية منذ عام 2011 جملة من التحديات التي بدأت ترتسم ملامحها مع اقتراب النزاع من نهايته، ولعل من أبرزها التحديات المرتبطة بعملية التعافي الاقتصادي المبكر التي بدأت تظهر بوادرها في عدد من مناطق هذا البلد المتباينة من حيث النفوذ والاحتياجات والموارد والإمكانيات التي تحوزها. وفي ضوء مخرجات المشهد الراهن الذي امتاز بتعزيز مناطق النفوذ وتعثر العملية السياسية، بدأت سياسات الفواعل المحلية والإقليمية والدولية تتكيف مع هذا الواقع وتطلق مشاريع تعافي اقتصادي مبكر في مناطق النفوذ تلك، ولأن البيئة العامة ما تزال قلقة سياسياً وعسكرياً، ولأن هذه المشاريع تتطلب العديد من الإجابات عن أسئلة قدرات هؤلاء الفواعل والواقع الذي تعيشه هذه المناطق والسياق السياسي المرتبطة بعملية التعافي الاقتصادي داخلها، توجه مركز عمران للدراسات الاستراتيجية إلى تنفيذ سلسلة من المخرجات البحثية بهدف فهم ديناميات هذه المشاريع، وبوصلتها السياسية ومتطلباتها وتحدياتها، حتى تكون تلك المشاريع دافعة باتجاه تكوين بيئة مستقرة.
تعد مرحلة التعافي المبكر على غاية في الأهمية، لأنها المرحلة التي يفترض بها أن تنقل البلاد من النزاع إلى السلم والاستقرار، والمرحلة التي تهيئ الأرضية اللازمة لعملية إعادة الإعمار اللاحقة. ولهذه المرحلة بعد سياسي وشق اجتماعي يماثل من حيث الأهمية الشق الاقتصادي. ويشمل الشق السياسي: العمل على وقف العنف في كافة أنحاء البلاد، وإقامة مؤسسات الحكم الجديد، والتركيز على إنجاز حل سياسي مولِّد للاستقرار. ويشمل الشق الاجتماعي: أعمال الإغاثة، واستيعاب اللاجئين وإسكانهم، وإجراء المصالحات الوطنية، بعد تهيئة البيئة الأمنية المناسبة. ويشمل الشق الاقتصادي: ترميم المرافق العامة الأساسية، وتحريك عجلة الاقتصاد، وإعادة التوازن للإطار الاقتصادي الكلي، وتفكيك مؤسسات اقتصاد النزاع في المناطق التي كانت خارج سيطرة الدولة كما ضمن سيطرتها. وتتداخل المكونات السياسية والاجتماعية والاقتصادية أعلاه بشكل كبير، وتعتمد النجاحات في أي منها على النجاح في النشاطات الأخرى.
ينطلق التوجه البحثي لمركز عمران من افتراض مفاده أن المرحلة القادمة في الملف السوري ستكون تحت إطار (ما بعد النزاع العسكري)، وأن السيناريوهات المتوقعة هي أسيرة اتجاهين، الأول: ترسيخ مناطق نفوذ: "سورية المفيدة" ذات نفوذ إيراني روسي، "سورية الشرقية" ذات نفوذ غربي عربي، "سورية الشمالية" ذات النفوذ التركي، والثاني: استمرار استثمار الفاعلين الإقليمين والدوليين بتثبيت وقف إطلاق النار، مع تغليب أولوية التفاوض المعلن أو غير المعلن بغية الوصول إلى صيغة سلطة جديدة، يكون فيها للنظام القائم الحصة الأكبر بحكم مجهودات حلفائه من جهة، وتمكنه من امتلاك "آليات التحكم" من جهة ثانية.
وتتمحور الأهداف العامة لهذا التوجه في تحديد المعايير الضامنة لتعافي اقتصادي مبكر، وتكوين إطار سياساتي عام لتنفيذ جهود التعافي تلك، وتحديد متطلباته وشروطه المرتبطة بثلاثية الأمن والحوكمة والتنمية، بالإضافة إلى تصدير موقف حيال كفاءة النظام اتجاه تحديات مرحلة ما بعد النزاع وسياسات التعافي وإعادة البناء. وضمن هذا السياق تم إنجاز خمسة مخرجات بحثية، الأولى: ورقة تحليل سياسي بعنوان السياق السياسي للتعافي المبكر في سورية، والثانية: ورقة تحليلية حول التعافي الاقتصادي المبكر في سورية: التحديات والأولويات. والثالثة: ورقة حول الاقتصاد السياسي للتعافي المبكر في سورية، والرابعة دراسة بعنوان: التعافي المبكر في سورية: دراسة تقييمية لدور وقدرة النظام السوري، في حين تضمنت الخامسة دراسة بعنوان: المقاربة التركية للتعافي الاقتصادي المبكر في سورية: دراسة حالة منطقة "درع الفرات".
لقراءة الكتاب كاملاً انقر الرابط التالي: http://bit.ly/2l73N3h
رسالة شكر وتقدير
يتوجه مركز عمران للدراسات الاستراتيجية بالشكر الجزيل لمؤسسة Konrad-Adenauer-Stiftung على شراكتها ودعمها للمشروع البحثي وطباعة الكتاب
قدَّم الباحث بدر ملا رشيد من مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، تصريحاً لعنب بلدي بتاريخ 11 أغسطس2019، حيث ربط الباحث بين الوجود الأمريكي ومصير المنطقة، واعتبر أنه في حال انسحاب القوات الأمريكية ستنحسر سيطرة “الوحدات” وسيعود النظام السوري للسيطرة على بعض المناطق في دير الزور والرقة وجزء من الطبقة.
وأضاف ملا رشيد، في حديثه إلى عنب بلدي، أن ذلك قد يؤدي إلى ظهور تنظيمات كتنظيم “الدولة الإسلامية” أو تنظيم أكثر تطرفًا، إضافة إلى عودة ظهور الفصائل المقاتلة التي قد تكون تابعة للمجالس العسكرية في الرقة أو دير الزور.
أما في حال تفعيل الاتفاق التركي- الأمريكي، فالمنطقة أمام عدة سيناريوهات، بحسب ملا رشيد، أهمها إنهاء وجود “الوحدات”، وليس بالضرورة إنهاء “قسد”، عبر تشكيل مجالس عسكرية محلية في المدن يمكن التعاون معها مستقبلًا كجزء من المنظومة الخارجة عن سيطرة النظام وروسيا.
وكانت “قسد” بدأت منذ بداية العام الحالي تشكيل مجالس عسكرية في كل من تل أبيض وكوباني والطبقة والرقة، ويتألف كل مجلس من قيادات محلية وقادة للألوية وقادة للأفواج إلى جانب مسؤولي المكاتب العسكرية بالمنطقة، ومن بين أهداف هذه المجالس توحيد جميع القوات العسكرية والأمنية تحت مظلتها.
المصدر عنب بلدي: http://bit.ly/2HfkJw8
في تصريحه لصحفية لموقع عربي21 بتاريخ 12 تموز / يوليو 2019، حول المباحثات الجارية لتشكيل اللجنة الدستورية؛ أكد الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية معن طلاع أن الخلاف لا يزال قائما على نسب التوزيع، رغم الليونة الروسية، إلى جانب الاختلافات على الآليات التنفيذية لمخرجات "اللجنة الدستورية".وأن ما يظهر من خلاف ما بين الأطراف الفاعلة في سورية على تسمية أشخاص، يخفي الخلاف الحقيقي على اختصار الحل السياسي على السلة الدستورية وفقاً لمخيال النظام الذي يريدها لجنة توصيات دستورية غير ملزمة. كما أكد طلّاع على أن النظام السوري سيبقى يعمل على في هذا الموضوع على استراتيجية تمرير الوقت ودفع الكرة إلى الأمام، حتى تتضح نتائج المفاوضات بين الولايات المتحدة وروسيا حول مآل منطقة شرق الفرات، وبين روسيا وتركيا حول ملف إدلب، وكذلك الصفقات الروسية والتي على رأسها إعادة الإعمار مقابل السماح للاجئين بالعودة؛
رابط المصدر: https://m.arabi21.com/story/1194088
واجه "النظام السوري" تحديات اقتصادية وسياسية وأمنية عديدة منذ انقلاب البعث في 1963 وحتى اليوم، مارَسَ خلالها أدوات الالتفاف والاحتواء والقفز إلى الأمام واستثمار الحلفاء وغيرها ليصمد بتعريفه الخاص للصمود، وليُبقي على حاجة محيطه إليه من خلال امتلاكه لملفات أمنية عابرة للحدود. كما وازن علاقاته مع القطبين، السوفيتي والأميركي، خلال السنين السابقة، إضافة إلى بناء شبكة محلية يسيطر فيها على الحزب والدولة والمجتمع. ولكن الزلزال الأخير المتمثل بـ "الانتفاضة الشعبية" في عام 2011 -والتي دفع بها لتُصبح فيما بعد صراعًا إقليميًّا ودوليًّا- كَسَر عُمق التكوين البُنيوي للنظام دون أن يُنهيه، وأبقى على عوامل الاحتقان المجتمعي والجذور السياسية. وبالتالي، فإن بنية وأدوات وشبكات النظام الحالية في 2019 تختلف في الشكل وطبيعة التكوين والسلوك عما قبل 2011 -حيث بات محكومًا بتحالفات وسياق سياسي وأمني وميداني جديد- وخاصة بعد التدخل الروسي في 2015 وعودة كثير من الجغرافيا لسيطرة النظام.
ستقوم هذه الورقة بتحليل مآلات النظام السوري من خلال تقدير مدى قوة النظام العسكرية والسياسية والاقتصادية ومدى استدامتها، ومدى قدرته على الاستمرار في تنمية نفوذه في الميدان السوري من عدمه، ومن ثم تقييم قدرته على التأثير في تسوية مقبلة سواء بقدراته أو بتحالفاته أو ما تقدمه ظروف التسوية نفسها.
لقد تشكَّل مشهد الصراع الإقليمي والدولي في سوريا عبر سلسلة مقاربات دولية جزئية حاولت تجميد الصراع تارة واحتواءه أو تسكينه وتجميده على الوضع الراهن لزمن مطول أو التأقلم مع متغيراته. ومن خلال هذه التدافعات تشكلت مناطق نفوذ أمنية ثلاثة: الأولى: منطقة شرق الفرات، وهي التي تقع تحت حماية الجيش الأميركي (تحت غطاء قوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة)، وتوجد قوات فرنسية وبريطانية مساندة إضافة إلى الشريك المحلي وهي قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب (YPG). الثانية: مناطق درع الفرات (ريف حلب الشمالي) وعفرين وإدلب، والتي يسيطر عليها الجيش التركي، وتخضع لتفاهمات أمنية وإدارة مباشرة في كل من درع الفرات وعفرين)، وإلى نقاط مراقبة تركية واتفاق منطقة منزوعة السلاح خاص لإدلب. الثالثة: باقي المناطق السورية وتخضع لسلطة النظام مع مشاركة إيران في عدة أجزاء (حلب ودرعا وحمص) وروسيا (حميميم وطرطوس ودرعا). ففي حين ركزت المقاربات العسكرية للفاعلين الإقليميين والدوليين على غايات أمنية متباينة ومتعارضة أحيانًا؛ أفرزت تفاعلات هذه المقاربات واقعًا محليًّا جديدًا غير مستقر وشديد التقلب، لكنه منضبط بأطر عامة تتجنب حل جذور الصراع وتتعاطى مع آثاره وتداعياته الأمنية العابرة للحدود، ما حال دون إيجاد أرضية لبيئة آمنة ومحايدة تسهم في الوصول إلى اتفاق سياسي ومن ثمَّ إلى عودة النازحين واللاجئين.
انطلقت السياسة الأميركية من مدخل "محاربة الإرهاب" المتمثل بتنظيم الدولة كأولوية مقابل تغيير النظام أو دعم المعارضة. واعتمدت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على قوات سوريا الديمقراطية عسكريًّا وإداريًّا حتى إعلان نهاية "الخلافة" وبقاء خلايا لتنظيم الدولة، وحينها تركزت السياسة الأميركية الجديدة التي أعلن عنها جيمس جيفري (المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا) على: محاربة تنظيم الدولة وضمان عدم عودته، وإخراج إيران والميليشيات المدعومة من طرفها من سوريا، والدفع بالعملية السياسية حسب قرار مجلس الأمن 2254(1). كما أنها تمضي باتجاه خطوات أكثر تصعيدًا لعرقلة "المشروع الإيراني" (رغم أنه لم يُترجم بعد بخطوات حقيقية) بشكل لا يجر التحالف الدولي للصدام المباشر مع طهران، ولكن هذا لا يعني أن مستويات المواجهة ستبقى مضبوطة بل تحتمل التفجر بمستويات متعددة، خاصة مع الضوء الأخضر الممنوح مسبقًا لـ "إسرائيل" بتوافق روسي وأميركي. كما تصطدم هذه المقاربة بالمحددات الاستراتيجية الأمنية لأنقرة التي ترى في قوات سوريا الديمقراطية غطاء "لشرعنة" حكم ذاتي لحزب العمال الكردستاني في سوريا، وهو ما استوجب من تركيا عدم تنحية الخيارات العسكرية. ولابد هنا، من رصد تطور التفاهمات الأميركية-التركية وحدودها لما له من تأثير بالغ في المسار الأمني والسياسي القادم.
أما روسيا، فبعد تدخلها في 2015 لإنقاذ النظام وجدت نفسها أمام بنية عسكرية وإدارية هشة في مناطق النظام وتنافس إيراني لا يضمن لها الصدارة كوسيط وفاعل إقليمي في حل النزاعات في مقابل الولايات المتحدة. فحاولت تجزئة المعضلة والعمل على ترتيبات ما قبل الاتفاق السياسي من خلال "تسكين" وتهدئة الجبهات في مسار أستانا مع الاستمرار في تقديم الدعم والتوجيه العسكري لقوات النظام وحلفائه. وتصطدم هذه المقاربة بملف إدلب الذي عجزت فيه، وعملت على تجميد جبهته بالاتفاق الثنائي مع تركيا ومع الدول الضامنة في أستانا، وكذلك باتفاق المنطقة العازلة، في سبتمبر/أيلول 2018. ورغم التصعيد الأخير في إدلب، بداية مايو/أيار 2019، لا يُتوقع حاليًّا فتح معركة واسعة لاسترجاع كامل إدلب بسبب التفاهمات الروسية-التركية ويبدو أن هناك قضمًا تدريجيًّا لجزء من إدلب، على صلة بفتح الطرق التجارية الدولية. كما يرتبط ملف إدلب أيضًا بالتطورات الأمنية التركية في ملف التفاوض مع الولايات المتحدة، بخصوص قوات سوريا الديمقراطية والمنطقة الآمنة شرق سوريا.
وفيما يتعلق بمقاربة إيران، فهي تسعى لـ "حماية المكتسبات وضمان ديمومتها" عبر تدعيم انتشارها في البادية وإبقاء التهديد الأمني للجبهة الجنوبية. كذلك، فإن إيران خففت من حدة ظهورها وأذرعها من خلال الانصهار تحت غطاء مؤسسات أمنية وعسكرية وإدارية وخلق أجهزة ومجموعات كـ"دولة داخل الدولة" بغية "شرعنة" وجودها وحمايتها، وكذلك بناء أذرع محلية سورية تستطيع أن تعطِّل أي حل لا تراه مناسبًا أو تزيد من مكتسباتها السياسية. كما تعمل طهران على تكثيف زخم المقاومة الناعمة لمحاولات موسكو للاستحواذ التام على المشهد العسكري والأمني -حيث تضغط موسكو على حلفائها لتنسيق الدعم وحصره بغرفة حميميم- أو تعمل على استغلال حاجة موسكو للقوة البشرية التي افتقدها النظام وتمتلكها "الميليشيات" الإيرانية واللبنانية والعراقية والأفغانية، فضلًا عن الانخراط -أي انخراط طهران- العضوي ببنية النظام.
وربما تتجلى العلاقة الحذرة بين الطرفين، الروسي والإيراني، من خلال تحليل للتصعيد العسكري الأخير في بداية شهر مايو/أيار 2019 في جنوب إدلب، حيث اعتمد الروس ميدانيًّا على بعض عناصر الفيلق الخامس الموالي لروسيا جنبًا إلى جنب بعض المجموعات الموالية لإيران، نظرًا لافتقار النظام لكتلة عسكرية صلبة. كما "تصطدم مقاربة طهران بمجمل المقاربات الأخرى التي تتفق على ضرورة محاصرتها وتحجيم قواها في سوريا سواء عبر سياسة عقوبات اقتصادية نوعية أو عبر تصنيف حرسها الثوري كقوة إرهابية أو عبر تضافر جهود دول "مؤتمر وارسو" في إنجاز سياسات حصار متعددة الجوانب؛ وهذا كله وإن بدا منضبطًا إلا أنه يحتوي مؤشرات انزلاق لحرب كبرى"(2).
أما تركيا فتتبع سياسة "القفز للأمام" وتجهيز البنية التحتية الأمنية والعسكرية والإدارية، وذلك من خلال تقوية مناطق "خط دفاعها الأمني" (درع الفرات وعفرين) وتدعيم بناها الأمنية بكافة المستلزمات اللوجستية والبرامج التدريبية. كما تهدف أيضًا إلى خلق قوة محلية قادرة على صد أي هجوم لقوى مهددة للأمن العام في تلك المنطقة وللحدود التركية. كذلك، فإن منطقة النفوذ التركية يتم تدعيمها لمواجهة "الإدارة الذاتية" بهدف إعادة تعريف القوة الإدارية المتحكمة في مناطق شمال شرق سوريا وضرب كافة أذرع "حزب العمال الكردستاني"، ورغم أن الصدام المتوقع يبدو محدودًا على الأغلب لكنه مرشح للتوسع والانزلاق بسبب كثرة العوامل الأمنية المهددة، بما فيها تداعيات التصعيد في إدلب. ويطمح النظام إلى استغلال كافة هذه المعادلات لتثبيت سيطرته الأمنية والعسكرية والسياسية على كافة الجغرافيا عبر القضم العسكري تارة والمصالحات "الاستسلامية" تارة أخرى.
أسهمت سياسات الدول الفاعلة في تكريس مناطق النفوذ عبر ترتيبات أمنية جزئية وتأجيل التعاطي مع جذور الأزمة السياسية، ورغم أن هذا أسهم في تهدئة معظم الجبهات القتالية إلا أنه نقل أزمة النظام السياسية إلى تحديات حكومية يعجز عن الوفاء بأقل متطلباتها، ليس فقط بسبب العجز المالي وإنما لعدم امتلاك أدوات الإصلاح الحقيقي بعيدًا عن إجراءات التحكم الأمني المطبق. كما أن عدم قدرة موسكو على تبني استراتيجية خروج سياسية مع استمرارها بتغليب "الحل الصفري" سواء بالمعنى السياسي أو العسكري، عزز احتمالات عودة التصادم ونقله لمستوى إقليمي ودولي بشكل أوضح. وفي ظل مناطق النفوذ المتشكلة؛ فإن عنصر مرور الزمن على اتفاقيات تجميد الصراع وثبات التفاهمات الأمنية لها، يحوِّل الحدود الأمنية رويدًا رويدًا لحدود سياسية ممأسسة لتشكل نظامًا سياسيًّا جديدًا، يكون مدخلًا لبلورة صفقة سياسية يتم إخراجها بصيغة "حل سياسي"(3).
يمكن تحليل أهم تحديات النظام في المرحلة الراهنة من خلال استقراء التغيرات الأمنية والإدارية التي حدثت في المناطق التي عادت لسيطرته، من حيث قدرته على إعادة بناء المؤسسات وخلق الحد الأدنى من البيئة الآمنة والمستقرة. الواضح -حسب تصريحات رأس النظام وعدد من قياداته- أنه غير مهتم بعودة جميع النازحين إلا عبر مصالحات "استسلامية" وبأطر قانونية جديدة وليس بالضرورة إلى مساكنهم الأصلية. كما أن المخصصات المالية لإعادة الإعمار في موازنة 2019 لا تتجاوز 115 مليون دولار، من دون مخصصات مالية لها في الخزينة ابتداء(4). وبالنظر إلى عدد من المناطق التي استعادها، فقد خلق أنماطًا أمنية مؤقتة وأعاد تشكيل شبكاته من خلال طبقة تجار الحرب الجدد والوسطاء في المصالحات، كما أجرى انتخابات للمجالس المحلية صدَّر فيها وجوهًا جديدة وأعاد تصدير حزب البعث. كل هذا لم يأخذ بعين الاعتبار أهمية توليد ديناميات جديدة للتعاضد المجتمعي والمصالحة المجتمعية. وتطمح تكتيكات النظام لما أسماه "برنامج إعادة الإعمار" لعودة تثبيت التحكُّم المركزي بهدف تصدير صورة وهمية عن قدرته على إدارة ملفات ما بعد الحرب، كما يتبع في هذا الصدد سياسات تهدف إلى تعزيز شبكات تحكمه الأمنية والطائفية، وبعيدة عن أي إصلاح حقيقي.
ترتسم معطيات أمنية وعسكرية تتوافق مع التعريف الروسي للحل السياسي (الصفري) وفق معادلة لا يمكن لها أن تولد ديناميات سلام يلتف حولها السوريون من جهة ولا بيئات آمنة (تستلزم إصلاحات عدة) دافعة لعودة السوريين، من جهة ثانية. ويمكن الاستدلال كمثال بحجم الاعتقالات والاغتيالات والإحالات القضائية في مناطق المصالحات، إضافة إلى سياسات التهميش الممنهج لمناطق كانت تخضع سابقًا لقوى معارضة. وترتكز عناصر معادلة الحل وفق منظور النظام وحلفائه الروس على استعادة سيطرة "النظام" على كامل الأراضي السورية، وترحيل القوى المعارضة والثورية، وبالتالي تحويل الاستحقاقات السياسية لتحديات حكومية، عبر المضي قدمًا بأستنة جنيف(5).
وبناء على ذلك، يتضح أن مقاربة نظام الأسد لا تعالج المسائل الدقيقة المتعلقة بشرعية المؤسسات وقدرتها، والتي لا توفر الأمن والعدالة والدمج السياسي للمواطنين، كما أنه يعتبر التعافي الاقتصادي فرصة للإثراء الذاتي ولتكريس التحولات الاجتماعية والديمغرافية التي برزت نتيجة سِنِي الصراع. ويواجه النظام أيضًا معوقات ترتبط بمعايير الاستقرار التي لا يمتلكها، كالبرامج الكريمة لعودة اللاجئين وما تُمليها من استجابة محلية وواقع أمني منضبط؛ وتوافق سياسي وتماسك اجتماعي؛ وإعادة الشرعية وتأهيل الدولة لامتحان إعادة الإعمار. ففي غياب اللحظة السياسية المعترف بها دوليًّا، وفي ظل بنية عالية الهشاشة للجيش السوري وتحكم الروس والإيرانيين بالمشهد العسكري المحلي، فإن النظام سيواجه مشهدًا لا يسمح له بأن يعيد تشكيل نفسه ويحافظ على الاستقرار الأمني والمجتمعي(6).
على الرغم من أن الاهتمام في مرحلة ما بعد النزاع ينبغي أن ينصب على امتلاك شروط الاستقرار الأمني والاجتماعي والحد من مُولدات العنف، إلا أن النظام وهو يعيش حالة "الانتصار"، يخيل إليه أنه ليس بحاجة لإجراءات حقيقية لإعادة الدمج وتفكيك المجموعات المسلحة وإعادة التأهيل، وإنما يحدد أولوياته بما يحافظ على كيانه ويُبقي له السلطة الأمنية الحاكمة. ويرى كذلك أن جهوده ينبغي أن تقتصر على إعادة ترميم وإعادة تشكيل مراكز القوة العسكرية والأمنية وليس عبر إصلاح العقيدة الأمنية ودورها المضخم في الحقل العام وضبط العلاقات المدنية-العسكرية. وبالتالي، فحتى عمليات التسريح وإعادة الدمج والتأهيل ستكون مصممة ليس بما يهدف لاستقرار سوريا دولة ومجتمعًا، وإنما خاضعة لمصلحة "النظام" بالدرجة الأولى، ومتكيفة مع جهود حلفائه بالدرجة الثانية، ومستوعبة للمتغيرات التي طرأت على بنية الجيش بالدرجة الثالثة.
وهنا، يبرز سؤال حول تصور النظام للحل وآلياته لإعادة الضبط والتحكم في الجيش(7)، لاسيما أنه باتت تتحكم وتتنافس في بنيته، أي بنية النظام العسكرية، القوات الروسية والإيرانية، ويضع كل منها شروطًا ويمارس الضغوط. فمثلًا تجد الفيلق الخامس مشروعًا روسيًّا بامتياز غير محصور بمنطقة معينة ويُعنى بضم مجموعات قتالية معارضة في مناطق المصالحات، وكذلك مجموعات تم تهميشها من قبل إيران، مثل الدفاع الوطني. وكذلك يعمل النظام على تقوية شبكات جديدة من رجال الأعمال (الفوز والقاطرجي مثالًا) وشبكات التهريب في مناطق القلمون وريف حمص والتي باتت تملك شبكة تتحكم بالمفاصل الأمنية في البلاد. ويتضح عبر تحليل سياسات النظام حول إعادة ترميم وتشكيل مراكز القوة العسكرية والأمنية، أنه لا توجد مؤشرات تدل على أنه يمتلك برنامجًا حقيقيًّا لـ"الهيكلة وإعادة الدمج"، بل هناك رغبة حذرة ومحدودة في كافة القرارات والتوجيهات الصادرة، ولا تزال تحافظ على الهيكلية القائمة والعقيدة القتالية والممارسات الوحشية والتركيز على هدف حماية النظام بشكل رئيس.
فقد اعتمد النظام بشكل انتقائي على بعض الجماعات دون الأخرى، فسمح لقوات النمر بمساحة وحرية للعمل باستقلالية عنه وبالتنسيق مع الروس، بينما تمت اعتقالات لقيادات بعض الميليشيات الأخرى الأصغر (مثلًا: صقور الصحراء التي يرأسها أيمن جابر تم التضييق عليها، بينما تم ضم كتائب الفضل بن العباس إلى ملاك أي إدارة الفرقة الرابعة بهدف ضمها ككيانات -وليس دمجها- في هيكلية الجيش)، تاركًا بذلك علامة استفهام كبيرة حول مصير الفصائل المتبقية. بالإضافة إلى ذلك، كانت مثل هذه الجهود في بعض الأحيان مقتصرة فقط على تصنيف الجماعات شبه العسكرية كقوى تابعة للجيش العربي السوري. وتقوم سياسات النظام على تجميع الميليشيات وليس دمجها وتشكيل جيش محترف، وهو ما يتقاطع مع ما تدفع إليه روسيا عبر تبنيها سياسة دمج المجموعات "المصالِحة" والمجموعات القوية إلى الفيلق الخامس والسادس. تكشف إجراءات النظام الحالية أنه غير جاد بعملية إعادة هيكلة شاملة لأن ذلك يقوض -حسب مخياله- صورته كمنتصر في هذا الصراع، وإنما يكتفي بإجراءات ضم وتجميع شكلي لبعض المجموعات بالتنسيق مع داعميها أحيانًا. ويبدو أن النظام لا يزال لا يرى ضرورة لتشكيل جيش محترف يتبع للدولة بإطار مدني، وإنما يحتاج إلى جيش يبقى أداة للسيطرة السياسية وحتى الاقتصادية.
كما لا تزال "محدودية القدرة" تفرض نفسها على منهجية إعادة التشكيل لدى النظام، وتجعلها محصورة في أوامر النقل والتعيين والتسريح؛ وهذا ما يوحي بأن التنافس الروسي-الإيراني على ملء مراكز القوة في الجيش (كالفرق المدرعة والاستخبارات الجوية والعسكرية والحرس الجمهوري وهيئة الأركان) هو المؤشر الأبرز لفهم مآلات ومخرجات تلك المنهجية. فمن زاوية مصالح النظام، فإن الاستنزاف يتطلب العديد من البرامج والسياسات المكلفة من حيث المال اللازم لإنجازها ومن حيث الجهود الإدارية والفنية التي لا تزال غائبة بحكم إدراك النظام لحجم الخسائر من جهة، وبحكم أنه ليس المتحكم والمقرر الوحيد في منهجية إعادة التشكيل والهيكلة بسبب وجود الروس والإيرانيين وتباين رؤاهم حول هذا الشأن.
وبهذا المعنى؛ فإن الهدف الأوضح للنظام هو زيادة الاهتمام ببيروقراطية الجيش، وهي المدخل الرئيس لفاعليته وتحكمه داخل الجيش. فتارة يستثمر ذلك في زيادة هوامش حركته، وتارة ثانية يجعل الجيش ورقة استثمار يطرحها ما بين الروس والإيرانيين كالاتفاق المبرم مع وزير الدفاع الايراني لإعادة بناء الجيش السوري(8) وقرار تشكيل الفيلق الخامس ومنح إدارته للجيش الروسي والشركات الأمنية المتعاقدة معه، وتارة ثالثة تُتيح له تدعيم شبكاته الأمنية والعسكرية المتحكمة بمسار مؤسستي الدفاع والأمن كالتعاون مع المخابرات الجوية ومنصب رئيس الأركان. بالمحصلة، يتجه النظام بحكم هذه القيود في مقاربته، نحو شكل هجين بين التصور الروسي والإيراني إضافة إلى تصوره للسيطرة المحكمة.
وفي هذا الصدد، لابد من إدراك حالة موضوعية في واقع مؤسسة الجيش السوري، وهي صعوبة العودة إلى جيش ما قبل 2011، لا من حيث القدرة النوعية ولا التمويلية ولا من حيث التماسك البنيوي، والذي يقوم في أساسه على "تحالف الأقليات" الذي صمَّمه حافظ الأسد(9). ويرى النظام ضرورة مقاومة سياسات التغيير الموضوعية وبالشروط الوطنية لأنها ستُفقده إحكام سيطرته على الجيش وتطويعه في صراعاته المحلية.
من جانب آخر، فإن النظام استمر بفضل تموضعه في ظل واقع عسكري مشرذم منحه صفة الشرعية والسيادة، حيث تكونت ميليشيات سورية تتبع له وأخرى تتبع للروس وثالثة لإيران، وسيطرت على الطرق والمعابر ومسالك التهريب وتحكمت بمناطق إدارية وخطوط الإمداد. أما بعد هدوء الحرب نسبيًّا فسيُواجه سيناريوهات اللامركزية في إدارة وتوجيه مؤسستي الدفاع والأمن. فمن جهة أولى، لا تزال هناك أنماط مغايرة لتلك المؤسسات متحكمة بجزء مهم وحيوي من الجغرافية السورية، ومن جهة ثانية، تفرض متطلبات إدارة التباين الداخلي والميليشيات المتعددة سيرًا إجباريًّا باتجاهات أنماط عدم اللامركزية. وتشير سياسة النظام إلى أنه لن يركز على إنجاز كامل لعمليات الدمج والتفكيك وإعادة التأهيل "للميليشيات"، بل سيقتصر على بعض التسريحات وبعض التسهيلات التنموية المحدودة بهدف خلق "تجمع عصابات" داخل المجتمع. لقد أسهمت هذه المجموعات في فترة الحرب في دعم بقاء النظام وكان يُكافئها بمنحها الغطاء السياسي والقانوني ويشاركها العوائد المالية. أما بعد سكون معظم الجبهات عسكريًّا فسيواجه النظام مشكلة في مشاركته السلطات مع هذه المجموعات، وسيسعى إلى ضم بعضها واحتوائها رغم شح الموارد. وفي نفس الوقت قد يدفع الروس لنموذج "المناطق العسكرية" مما يقيد سلطات النظام مستقبلًا في استخدام بعض القطعات العسكرية لحماية بقائه.
ويمكن توصيف النظام في هذا الصدد بأنه لا يزال لا يرى ضرورة لتغيير جذري ويعتقد أنه لا يزال يمتلك القوة العسكرية ولديه أدوات وتكتيكات لاستعادة السيطرة وفق مفهومه، ويمكن أن يؤجل ويماطل في الحل السياسي ريثما يزيد من قبضته الأمنية والعسكرية، وفي نفس الوقت يستثمر اختلاف الروس والإيرانيين حول هيكلية الجيش المقبلة لتوسيع سلطته.
وبناء على القدرة المحدودة للتشكل واستثماره سياسيًّا، يتجه النظام إلى تبني المنهجية التالية(10):
في النهاية، تُمكِّن هذه المنهجية النظامَ من كسب مزيد من الوقت في مواجهة تحدي إعادة التشكل، وكذلك لاستعادة أنفاسه والمراوغة في تجنب أي تنازلات تؤثر في قبضته وبقائه في السلطة، لأن أي تنازل سيفقده عنصر السيادة والتحكم بمخرجات تلك العملية. فيقوم تارة بإجراءات شكلية في تغيير الوجوه والشخصيات، وتارة بجمع الميليشيات دون دمجهم وتارة بالسماح لبعض المجموعات بهامش معين لتمويلها من ممول خارجي صديق. كل هذه يتم استثمارها بهدف التأثير على شكل الحكم فيما بعد الصراع بشكل يستطيع النظام فيه التحكم بالشبكات غير المرئية والقوة الناعمة التي تُفشل أية محاولة حقيقية للإصلاح.
لا يزال النظام وحلفاؤه يرَون نهاية الصراع في سوريا عبر بوابة "المصالحات"، وليس عبر بوابة الاتفاق الدولي المفروض من مجموع الدول الفاعلة؛ ذلك أن المصالحة تُعيد بناء منظومة الجيش عبر عودة العنصر البشري، ولمن يسمح لهم النظام بالعودة بشروطه، فسكان العشوائيات -مثلًا- لا يحق لهم العودة لأماكن سكناهم لعدم توفر إثبات الملكية، وكذلك من تم تهجيرهم وتدمير منازلهم فهم يخضعون لقوانين جديدة لتنظيم الإسكان والمدن الجديدة.
ويحاول النظام احتواء المخاطر الناجمة عن تردي الوضع الاقتصادي والمعيشي، من خلال تبني سياسات وإجراءات تتصل بإصلاح مؤسسات الدولة، وإعادة توجيه الإنفاق العام، والدفع بإصلاح القطاع العام الاقتصادي. وقد أسهمت عدة منظمات دولية مؤخرًا بإعداد "الوثيقة التنفيذية لإصلاح القطاع العام الاقتصادي"(11). ومما يُلحَظ غياب الاتفاق بين أجهزة الدولة على تعريف وآلية لتنفيذ الوثيقة، وهذا أحد الأساليب التي يتم لاحقًا التنصل فيها من استحقاق الإصلاح دون أن يتعرض النظام لضغط دولي يهدد كيانه. أضف إلى ذلك أن خطط الإصلاح المفرغة من عنصر الإلزام وتفصيل الآليات والأدوات لا تعالج مشكلة شيوع الفساد والافتقاد للموارد المالية والكوادر البشرية. كما تُظهر المعطيات تملص الحكومة من التزاماتها المتعلقة بتأمين المواد الأساسية المدعومة كالمشتقات النفطية، في ظل بروز مؤشرات على عهد هذه المسؤولية للقطاع الخاص، وما سيترتب على ذلك من آثار سلبية في قطاعات عدة نتيجة لتحرير الأسعار، وإمكانية التلاعب بها من قبل هذا القطاع(12).
إن المشهد السوري بمناطق النفوذ الثلاثة، عدا عن التنافس الروسي-الإيراني في مناطق النظام، يجعل قدرة النظام على إبرام تسوية سياسية مستدامة -في حال توافرت الإرادة لديه- محدودة جدًّا. لكن النظام يعمل حاليًّا على كسب الوقت عبر إعادة هيكلة شكلية للجيش وإطلاق سلسلة من الاجتماعات واللجان للإصلاح الإداري، بهدف استعادة القبضة الأمنية وإعادة تجميع "الميليشيات" بشكل "تجمع ميليشياوي" وليس كجيش محترف. كما أن لدى النظام القدرة على تعطيل الحل الذي يُفرض عليه والتسويف واستثمار خلافات الدول حول التسوية وشكلها. إن هذه السياسات لدى النظام ستُبقي الأزمة في سوريا متأججة وغير مستقرة، وقابلة للاندلاع سواء بشكل العنف أو على الأغلب بصور أخرى اقتصادية واجتماعية وسياسية. فرغم عودة كثير من المناطق عبر "مصالحات" أو عبر الحل العسكري الصفري والتهجير القسري، لا يزال الفشل الحكومي والخدمي والأمني عنوانًا لهذه المناطق.
إن المحاولات لدفع مسار التسوية وفق مخيال النظام لن يوصل البلاد إلى حالة استقرار وسلام مستدام، من دون إصلاح حقيقي ينال الشبكات المتحكمة بالدولة والمجتمع والجيش والأمن. كما أن تمييع المسار الدولي عبر التهرب من تطبيق قرارات مجلس الأمن، وخاصة 2254، أدى إلى إعطاء فرصة للنظام لأن يعيد تشكيل ذاته ضمن نفس المحددات والأساليب غير الدولتية التي عاش بها منذ تأسيسه وواجه فيها تحديات كبرى سياسية واقتصادية عبر استغلال اختلاف الدول الداعمة له.
وحسب المؤشرات الحالية، لا يبدو النظام راغبًا بتسوية أو إعطاء أي تنازلات بدون ضغط وتهديد وجودي حقيقي، وهذا ما لا يتوافر حتى الآن، وبالتالي سيسعى مع حلفائه لتصدير نفسه راعيًا لمصالحات "استسلامية" محلية وعودة "الشرعية"، وأنه المنصة المناسبة لإجراءات إصلاحية تجميلية لا تُغير من حقيقة وشبكات النظام المتحكمة داخليًّا وشبكاتها العابرة للحدود والقادرة على تفريغ أي تفاهم سياسي يتم. يبقى التحدي الأساس الذي قد يغيِّر المعادلة هو التحدي المالي والاقتصادي نتيجة العقوبات وتحديات بناء الدولة والسلام، خاصة مع الصعوبات المالية التي تعاني منها روسيا وإيران والتردد الصيني في الاستثمار غير المضمون، وهذا ما سيُبقي الاحتمالات القادمة لتطور الصراع مفتوحة وغير مستقرة.
المصدر مركز الجزيرة للدراسات: http://bit.ly/2QIlUYK
1-Jeffrey, James, Toward a New U.S. Policy in Syria Ground Zero for Countering Iran and Deterring an Islamic State Revival, The Washington Institute for Near East Policy, July 2018. (accessed 27 May 2019). https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/toward-a-new-u.s.-policy-in-syria-ground-zero-for-countering-iran-and-deter
2- معن طلاع، السياق السياسي للتعافي المبكر في سورية، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، أبريل/نيسان 2019، قيد النشر.
3- المرجع السابق.
4- الشرق الأوسط، سوريا: البحث عن إعادة إعمار سياسية، 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، العدد 14606، (تاريخ الدخول: 27 مايو/أيار 2019): https://bit.ly/2JRdE7l
5- طلاع، السياق السياسي للتعافي المبكر في سورية.
6- المرجع السابق.
7- معن طلاع، اختبار مدى قدرة النظام على إعادة الهيكلة والدمج، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، أبريل/نيسان 2019، قيد النشر.
8- فرانس 24، سوريا وإيران توقعان اتفاقية لإعادة "بناء الجيش السوري"، بتاريخ 27 أغسطس/آب 2018، (تاريخ الدخول: 27 مايو/أيار 2019): https://bit.ly/2ooBhZ1
9- طلاع، اختبار مدى قدرة النظام على إعادة الهيكلة والدمج، بتصرف.
10- المرجع السابق، بتصرف.
11- مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، الواقع الحوكمي وإعادة الإعمار في مناطق النظام السوري خلال شهر مارس/آذار 2019، مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 27 مايو/أيار 2019). https://bit.ly/2JtjTi8
12- المرجع السابق.
عكست نتائج اجتماع أستانة الأخير بتاريخ 25-26 نسيان/أبريل؛ استمرار حالة ما اعتُبر "جموداً سياسياً" اعترى الملف السوري منذ أمدٍ ليس بقصير، وتجلى في تعثر إعلان اللجنة الدستورية التي تعتبر الخطوة الأولى "باتجاه الحل السياسي" وهدوء نسبي على مستوى الأعمال العسكرية مع انحسار فصائل المعارضة إلى جيب صغير في الشمال وإعلان نهاية تنظيم الدولة، لتعود الديناميكية العسكرية في الملف السوري مجدداً عقب أيام من انتهاء اجتماع أستانة 12، مع الحملة الروسية على ريفي إدلب وحماه، وذلك بالتزامن مع عملية محدودة نفذها "الجيش الوطني" المدعوم من تركيا شمال حلب ضد "وحدات حماية الشعب " التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD"" والعمود الفقري لـ"قوات سورية الديمقراطية".
ويبدو أن تلك الديناميكية العسكرية ما هي إلا انعكاس لديناميكية سياسية محمومة تدور منذ المرحلة الأخيرة من الحرب على تنظيم الدولة، وتتجلى في محاولة الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في الملف السوري إعادة ترتيب أوراقها وصولاً إلى تفاهمات جديدة تحدد مصالح كل طرف من الأطراف بشكل يفضي إلى رسم ملامح الحل السياسي في سورية.
وتتوزع مصالح الأطراف على الجغرافيا السورية؛ بشكل قسّم الخارطة السورية إلى مناطق ساكنة ظاهرياً ولكنها، تحمل إمكانات الانفجار في أي وقت تبعاً لقدرة اللاعبين في كل منطقة على الوصول إلى تفاهمات، وتلك المناطق هي: الجنوب السوري والشمال الغربي، إضافة إلى ما تبقى من غرب الفرات بيد "قوات سورية الديمقراطية" وشرقي الفرات، مقابل مناطق سيطرة النظام السوري في الساحل ودمشق، بما فيها مؤسسات النظام وما يدور في تلك المنطقة من صراعات خفية وأزمات اقتصادية متلاحقة. وعليه تسعى هذه الورقة التحليلية إلى تفكيك المشهد السوري المعقّد، تبعاً لمناطق النفوذ ولاعبيها الإقليميين والدوليين، وصولاً إلى رسم ملامح التفاهمات الجديدة واستشراف ما قد تؤدي إليه من آثار على شكل الحل السياسي المرتقب.
شكّل تعثر مسار أستانة بجولته الثانية عشر في إعلان تشكيل اللجنة الدستورية، وإحالتها إلى جنيف؛ فشلاً في المسعى الروسي لقطف ثمار ما أحرزته موسكو من تقدم عسكري نتيجة لهذا المسار، وتحويله إلى بديل عن مسار جنيف الأممي لإنتاج حل سياسي استراتيجي في سورية.
ويضاف إلى هذا الفشل الناجم عن رفض أمريكي-أوروبي لتفرد موسكو في إنتاج الحل السياسي في سورية؛ فشل آخر يتعلق بإحباط أمريكي لجهود موسكو في عملية إعادة تعويم الأسد وتنشيط ملف عودة اللاجئين وإعادة الإعمار، في حين يستمر الهدف التكتيكي لمسار أستانة من خلال القصف الروسي ومحاولات التوغل البري في أرياف إدلب وحماه وحلب، وذلك لقضم مساحات جديدة من آخر مناطق سيطرة المعارضة والهيمنة على الطرق الدولية M4- M5، وهو جزء من اتفاق سوتشي لم تنفذه تركيا([1])، وبذلك يكون مؤتمر أستانة قد أتم المطلوب منه عسكرياً وفق بوصلة روسية وإيرانية باتجاه استعادة مناطق سيطرة المعارضة، وإعادة ضبط الحدود واستكمال عمليات نزع السلاح الثقيل والمتوسط من أيدي المعارضة المسلّحة وتحييد الجيوب المصنفة "إرهابية" وفتح وتنشيط شبكة الطرقات الدولية. الأمر الذي يشير إلى بداية انفراط عقد التحالف الثلاثي (روسيا، تركيا، إيران) بعد أن أنجز لأطرافه الثلاثة الأهداف العسكرية المشتركة. حيث بدأت خلافات ثلاثي أستانة بالظهور للعلن على عدة مستويات، خاصةً بين إيران وروسيا من ناحية، وبين موسكو وأنقرة من ناحية أخرى، إذ يبدو أن التنافس بدأ لتثبيت المكاسب على الأرض عبر تحالفات جديدة.
أحرز تحالف "الضرورة" بين موسكو وطهران إنجازات هامة بالنسبة لهدف الطرفين المشترك في الحفاظ على بقاء بشار الأسد؛ إلا أن تراجع المعارضة المسلحة إلى جيب ضيق في الشمال وانحسار الأعمال العسكرية سرعان ما ظهّرَ الخلافات الاستراتيجية بين الطرفين، والمتعلقة برغبة كل طرف بالتحكم بالملف السوري وهندسة الحل السياسي، ويمكن إجمال الخلاف الاستراتيجي بين روسيا وإيران في عاملين ([2]):
بالإضافة إلى العاملين السابقين، أخذت أبعاد الصراع الاستراتيجي الروسي الإيراني تتجلى في عدة ملفات أساسية منها ملف إعادة الإعمار وقطاعات الاقتصاد السوري الحيوية، إضافة إلى ملف إعادة هيكلة الجيش السوري والتحكم به، وفي إطار هذا التنافس تتوجه موسكو للاستفادة من المناخ الإقليمي والدولي (إسرائيل، الخليج، الولايات المتحدة) المتخوف من الوجود الإيراني في سورية، ومقايضة ورقة إيران بورقة بقاء الأسد وتعويمه وتمويل عملية إعادة الإعمار. وهذا ما بدا واضحاً في صمت موسكو عن الضربات الجوية الإسرائيلية للمواقع الإيرانية في سورية، ومحاولة إدخال إسرائيل على خط الحل السياسي للأزمة السورية بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى موسكو، والتي تزامنت مع زيارة بشار الأسد إلى طهران ([3]). الأمر الذي قد يشير إلى أن موسكو اختارت التضحية بحليفها التكتيكي (طهران) لصالح حلفاء جدد يساهمون بتحقيق أهدفها الاستراتيجية في سورية (إسرائيل، الولايات المتحدة، محور مصر السعودية الإمارات). بالمقابل، لا يغيب هذا التحرك الروسي عن ذهن القيادة الإيرانية، والتي ردت بالاجتماع الثلاثي في دمشق ([4])، والذي جمع رئيس أركانها مع نظيريه السوري والعراقي واستثنى الجانب الروسي من هذا الاجتماع، مما يشير إلى أن إيران تسعى إلى تدعيم تحالفاتها بعيداً عن موسكو بالاعتماد على العراق وسورية ولبنان، وذلك استعداداً لمواجهة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها ومحاولات إضعاف وجودها في سورية.
تعتبر تركيا بحكم موقعها كقوة إقليمية على الحدود السورية؛ المتضرر الأكبر من تدخل إيران المباشر ومن ثم موسكو في سورية، حيث أضعف هذا التدخل الدور التركي وساهم بانحساره إلى حماية الأمن القومي التركي من تنظيم "داعش" وميليشيات "PYD" المدعومة من الولايات المتحدة. وفي هذا الإطار انخرطت أنقرة اضطرارياً مع طهران وموسكو في مسار أستانة بالرغم من الخلافات العميقة في رؤى الأطراف الثلاث الاستراتيجية لمستقبل سورية. وعليه فقد كان تعاطيها مع الشريكين الروسي والإيراني ذو طابع تكتيكي تحكمه مقتضيات حماية الأمن القومي؛ فهي تتقارب تارةً مع موسكو على حساب طهران كما حدث إبان اتفاق حلب، وتارةً أخرى مع طهران على حساب موسكو كما حدث حيال الموقف الإيراني الحيادي من معركة إدلب، والذي تجلى بإبعادها عن اتفاق سوتشي.
وتعاني تركيا في موقفها من الأطراف المنخرطة في الملف السوري من معضلة حقيقية تكمن في وجود ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي "PYD" الفرع السوري لـ PKK على حدودها، واستغلال هذا الوجود من قبل أطراف متعددة كورقة للضغط عليها؛ فمن ناحية تحاول إيران دعم وجود ميليشيات PKK على الحدود التركية مع سورية والعراق بهدف عزل الدور التركي في البلدين، كما تحاول موسكو استغلال وجود ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي "PYD" في مثلث (تل رفعت، عين دقنة، مارع) لفرض تفاهمات جغرافية جديدة مع تركيا حول مناطق سيطرة المعارضة، وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة وشركائها في التحالف الدولي وعلى رأسهم فرنسا، والذين يحاولون الضغط على تركيا باستخدام الورقة "الكردية" لتحجيم الدور التركي وتطويعه في خدمة رؤيتهم للحل في سورية.
وفي ظل هذا المناخ المتوتر بين الأطراف الثلاثة والضغط الأمريكي على إيران والتقارب الإسرائيلي الروسي فيما يخص تحجيم الوجود الإيراني في سورية، يبدو أن محاولات أنقرة لمسك العصا من المنتصف مع جميع الأطراف لن تفلح، وعليها أن تختار بين الأطراف الثلاثة، ومن المرجح أن أنقرة رغم مواقفها المتشددة مع الولايات المتحدة حول التزامها بصفقة S400 مع موسكو، ومحاولاتها لتمديد إعفائها من العقوبات على النفط الإيراني؛ إلا أنها ستحسم موقفها إلى جانب الولايات المتحدة في سورية على الأقل، وهو ما قد يشير إليه التقدم الحاصل بين الطرفين على مستوى المنطقة الآمنة شرق الفرات.
تعتبر منطقة شرق الفرات النقطة التي تجتمع فيها خيوط اللعبة في سورية، وهي بذلك تشكل هدفاً لكافة الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الملف السوري؛ نظراً لمساحتها التي تشكل ثلث سورية وغناها بالثروات الباطنية والغلال الزراعية، إضافة إلى موقعها المجاور لتركيا والعراق. تلك الامتيازات دفعت العديد من الأطراف لمحاولة ملء الفراغ الأمريكي بعد إعلان الرئيس ترامب نيته بالانسحاب من سورية، وتنقسم تلك الأطراف إلى أربعة معسكرات:
ولكل طرف من الأطراف الأربعة تصوراته الخاصة لمستقبل تلك المنطقة، كما له أدواته للتصعيد فيها؛ فبالنسبة لفرنسا وحلفائها يشكل الوجود الأمريكي ولو بشكل رمزي غطاءً لها للبقاء في المنطقة، وقد نجحت ضغوطها على الإدارة الأمريكية بحرف القرار الأمريكي نحو تخفيض عدد الجنود بدل الانسحاب الكامل. أما بالنسبة لموسكو والنظام فيحاولان الضغط باتجاه سحب كامل للقوات الأمريكية وتسليم المنطقة للنظام، وفي هذا الإطار تقدمت موسكو باقتراح تفعيل اتفاق أضنة مع تركيا لتهدئة مخاوفها، والتفاوض مع النظام بالنسبة لـ "قسد" لتسوية وضعها في ظل عودة النظام إلى المنطقة. في حين لا تثق أنقرة بكل تلك الأطراف وتعتبر أن المنطقة الآمنة هي الوسيلة الوحيدة لضبط حدودها وحمايتها، مما جعل العلاقات التركية متوترة مع واشنطن وحلفاء الناتو، إضافة إلى موسكو التي ترفض المنطقة الآمنة التركية وتريد استبدالها باتفاق أضنة.
وبالرغم من الهدوء النسبي الذي يعيشه شرق الفرات؛ إلا أن أطراف عديدة تقف متربصة بقواتها على حدوده، فمن ناحية هناك القوات الروسية والنظام السوري، والمليشيات الإيرانية في سورية والحشد الشعبي على الحدود العراقية السورية، كما توجد المصالح (السعودية الإماراتية) الممثلة بالوجود العسكري الفرنسي، إضافة إلى الحشود التركية على طول الحدود مع سورية.
وهنا تقع الولايات المتحدة في معضلة إيجاد حل يوازن بين مصالح حلفائها ويحمي مليشيات "PYD" من مواجهة مع تركيا. ويبدو أن الخيار قد حسم باتجاه تشكيل منطقة آمنة، والتي طال التفاوض حولها بالرغم من التفاهم على خطوطها العريضة؛ فمن حيث امتدادها يبدو أن الجانب التركي استطاع فرض تصوره بأن تكون المنطقة الآمنة بطول 460 كيلومتراً على طول الحدود التركية السورية، وستضم مدناً وبلدات من 3 محافظات سورية، هي: حلب والرقة والحسكة([5])، أما من خلال العمق فلايزال الموضوع محل تفاوض، إذ تريدها تركيا بعمق 32 كم في حين تحاول الولايات المتحدة تضييقها، كما يتفاوض الطرفان على آلية الانتشار المشترك التركي الأمريكي وطبيعة القوات التي ستنشرها تركيا في المنطقة، خصوصاً بعد رفض بريطانيا وفرنسا مقترحاً أمريكياً لنشر قواتهما كفاصل بين "قسد" والجيش التركي. ويجري الحديث عن ثلاثة احتمالات للقوات التي ستنشر في المنطقة ([6]):
وبغض النظر عن الطرف المحلي الذي سينتشر في المنطقة الآمنة؛ فإن تطبيق تلك المنطقة يبدو أنه بات أمراً واقعاً، وهذا يعني بشكل أو بآخر نهاية الإدارة الذاتية وحلم فيدرالية شرق سورية، الأمر الذي بدأت تظهر مؤشراته من خلال حل الإدارة الذاتية لهيئاتها السيادية الأبرز ([7]) (هيئة الدفاع والحماية الذاتية، هيئة الخارجية)، إضافة إلى الوساطة الفرنسية للمصالحة بين الإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكردي المقرب من تركيا ([8]).
كما أن إقامة المنطقة الآمنة خاليةً من مليشيات "PYD" يعني أن تلك القوات إما سيتم حلها، أو ستنسحب باتجاه العمق السوري خارج المنطقة الأمنة، في مدن الحسكة و الرقة وريف دير الزور، وبذلك ستزداد حدة التوترات مع النظام المسيطر على الحسكة من ناحية ومع العشائر العربية الرافضة للهيمنة "الكردية" على مناطقها من ناحية أخرى، وهذا ما سيدفع إلى مزيد من التوتر في المنطقة؛ إلا في حال كانت التفاهمات الأمريكية التركية تتجاوز المنطقة الآمنة إلى كامل مناطق سيطرة "قسد"، بشكل يحقق استبدال عناصر "قسد" التابعين لوحدات "حماية الشعب" بعناصر عربية، وهو ما لم يتم الحديث حوله حتى الآن. إضافة لذلك فإن التوافق حول المنطقة الآمنة في شرق الفرات سيساهم بحلحلة الخلافات التركية الناتوية وتشكيل شريط ناتوي ضخم على طول الحدود التركية السورية، يشمل مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، ومثل هذا التقارب الناتوي لن يكون في صالح روسيا أو إيران، اللتان ترفضان فكرة المنطقة الآمنة، مما سيزيد من نطاق الخلاف مع تركيا.
يشهد جنوب سورية بمحافظاته الثلاث (درعا، القنيطرة، السويداء) حالة من الفوضى الأمنية المتمثلة بعمليات قتل وخطف وسرقات واغتيالات في ظل ظروف معيشية صعبة للأهالي وعجز قوات النظام عن ضبط الأمن وانتشار السلاح.
وبالرغم من أن الجنوب السوري يعيش ذات الظروف العامة؛ إلا أن الأحداث في محافظة درعا تحمل دلالات سياسية وأمنية خاصة. فمنذ عقد اتفاق المصالحة في يوليو/ تموز 2018 لم يفي النظام بوعوده على المستوى المحلي بالنسبة للأهالي والفصائل والمجالس المحلية التي وافقت على المصالحة، كما أن موسكو لم تفلح بتنفيذ تعهداتها للدول الإقليمية (الأردن، إسرائيل) بعدم تغلغل إيران ومليشياتها إلى حدود البلدين. فعلى المستوى المحلي تعيش درعا وريفها ظروفاً معيشية صعبة تتمثل بندرة المواد الأساسية وتعطل الطرق والمرافق العامة وتدهور الخدمات، إضافة إلى الفلتان الأمني الناجم عن صراع بين أجهزة النظام الأمنية وفرقه العسكرية، مما خلق حالة احتقان شعبي، خصوصاً في ظل تلكأ النظام بتنفيذ بنود اتفاق المصالحة المتعلقة بإطلاق سراح المعتقلين ورفع المطالبات الأمنية، وعودة الموظفين إلى وظائفهم وانسحاب الجيش والحواجز الأمنية خارج المدن والبلدات.
أما على المستوى الإقليمي فقد فشلت موسكو في منع تغلغل العناصر التابعة لإيران في درعا والقنيطرة ووصولها إلى نقاط قريبة من الحدود الإسرائيلية. حيث لجأت إيران لدمج ميليشياتها بالقطعات العسكرية السورية وبخاصة الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري اللواء 105، إضافة إلى تشكيل خلايا شيعية من أهالي المنطقة وتجنيدها وتدريبها من قبل الفرقة الرابعة وجمعية البستان ([9])، والتي عُرفت باللواء "313" ثم جرى تغيير التسمية إلى "درع الوطن"([10]).
ونتيجة لاستراتيجية التخفي التي اتبعتها إيران، فقد باتت تحظى بوجود عسكري على حدود إسرائيل في الجنوب السوري تحت ستار القواعد العسكرية التابعة للنظام، حيث تهيمن إيران على منطقة "مثلث الموت" وهي المنطقة التي تربط محافظات ريف دمشق والقنيطرة ودرعا، وعززت سيطرتها على ذلك المثلث، بإنشاء قواعد عسكرية في تلال "فاطمة الزهراء"، كما تتواجد إيران عسكرياً في مدينة درعا، وفي سلسلة الجامعات الواقعة على أوتوستراد "دمشق-عمان"، وفي "خربة غزالة" وقرية "نامر" شرقي درعا، وفي "ازرع" والقطعات العسكرية المحيطة بها، وفي مدينتي "البعث وخان أرنبة" في القنيطرة، و "تل الشعار وتل الشحم وتل مرعي" ([11])، إضافة لتأسيس "حزب الله" معسكراً للتدريب شمال درعا يسمى "حقل كريم الشمالي" يتم فيه تدريب عناصر من محافظات الجنوب السوري (درعا، السويداء، ريف دمشق، القنيطرة) تحت إشراف عناصر الحزب وبتمويل إيراني([12]).
ويبدو أن فشل النظام بالوفاء بوعوده لأهالي درعا وعدم قدرته على وقف التمدد الإيراني في المنطقة، قد أدى إلى إحداث شبه تقارب بين روسيا والمجتمع المحلي في درعا على مستويين:
ويبدو أن موسكو لا تقف وحيدة في هذا المسعى، حيث تذكر تقارير أمنية دوراً للأردن والإمارات مؤيد للجهود الروسية، عبر دعم القيادي في الفيلق الخامس (أحمد العودة)، والذي يتزعم مهام الحد من التمدد الإيراني في الجنوب، ودعم جهود موسكو لتشكيل فيلق سادس بقيادة (عماد أبو زريق). وتشير المصادر أن القياديان زارا الأردن مؤخراً وعقدا اجتماع مع المخابرات الأردنية لبحث سبل إبعاد الميليشيات الإيرانية عن الحدود، إضافة لحديث حول إمكانية تشكيل غرفة جديدة للدعم في عمان على غرار غرفة "الموك" التي تم إغلاقها في العام الماضي ([14]).
وبالرغم من أن الجنوب السوري يبدو هادئاً ظاهرياً وتحت سيطرة النظام؛ إلا أنه يحمل قابلية الانفجار في أي لحظة، نتيجة للصراع الدائر بين أذرع موسكو وطهران في المنطقة (الفيلق الخامس، الحرس الجمهوري، الفرقة الرابعة، المخابرات العسكرية، الأمن السياسي، المخابرات الجوية، حزب الله)، حيث ازدادت في شهري مارس/ آذار وأبريل/ نيسان من العام الحالي وتيرة الاغتيالات الممنهجة، والتي طالت مقربين من الطرفين، كما حدثت احتكاكات مباشرة بين فرق عسكرية مقربة من موسكو مع الفرقة الرابعة المقربة من طهران.
يعيش النظام أزمة اقتصادية أمنية في مناطق سيطرته التي تعرف بـ"سورية المفيدة"، إضافة إلى المناطق التي استعادها خارج هذا النطاق، دفعت تلك الأزمات حاضنته الشعبية إلى التململ ورفع الصوت في وجه الفشل الحكومي على مستوى الخدمات الأساسية، مما حدا ببشار الأسد للإشارة إلى المنتقدين في خطابه أمام أعضاء المجالس المحلية ([15]). ويمكن رد تلك الأزمات إلى ثلاث عوامل رئيسية:
ساهمت تلك العوامل بإضعاف هيمنة النظام داخل مناطق سيطرته لصالح حلفائه (روسيا وإيران) من جهة، ولصالح ميليشياته التي باتت خارجة عن سيطرته وبخاصة في الساحل السوري، حيث باتت التنازلات التي يقدمها لروسيا وإيران على الصعيد الاقتصادي مدعاة للتهكم حتى لحاضنته الشعبية، والتي باتت على ثقة بعجز هذا النظام عن إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية المتفاقمة والانفلات الأمني والفساد المنظّم الذي يسود مناطق سيطرته.
يمكن من خلال الاستعراض السابق لواقع المناطق السورية الوصول إلى النتائج التالية حول قابلية التصعيد في تلك المناطق، وخارطة التحالفات الجديدة وما سيتركه ذلك من أثر على الحل السياسي:
تشهد المنطقة برمّتها عملية إعادة تشكيل لخارطة القوة فيها، وتعتبر سورية إحدى الساحات التي تلتقي فيها مصالح القوى الدولية والإقليمية المتنافسة على رسم ملامح النظام الأمني الجديد في الشرق الأوسط، ولذلك فإن الحديث لايزال مبكراً عن نهاية قريبة للحرب في سورية وفرصة إنتاج حل سياسي. ولكن يمكن القول؛ إن الأزمة السورية ببعدها الدولي والإقليمي دخلت في مرحلتها الأخيرة والتي عنوانها تثبيت النفوذ العسكري والسياسي والاقتصادي، أم شكل هذه المرحلة من حيث أدواتها، هل ستكون عسكرية أم ديبلوماسية؟ فهو رهن لقدرة تلك القوى على تسوية خلافاتها واقتسام المصالح على الأرض وعلى المستوى السياسي، بشكل يفتح المجال أمام جلوس الأطراف السورية على طاولة التفاوض مجدداً.
[1])) للاطلاع أكثر على بنود اتفاق سوتشي حول إنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب (اتفاق النقاط العشر بين روسيا وتركيا حول إدلب)، راجع الرابط التالي: http://cutt.us/dBOo8
[2])) سقراط العلو، الصراع على الثروة السورية بين إيران وروسيا: الفوسفات نموذجًا، مركز الجزيرة للدراسات، 26 يوليو 2018، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2Vkzl1x
([3]) الأسد في طهران... ونتنياهو في موسكو، جريدة الأنباء الكويتية، 28/2/2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2HnoGxY
([4]) إيران والعراق وسوريا في دمشق لأول مرة، موقع TRT عربي، 17 مارس 2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2LCUJ2v
[5])) هذه تفاصيل المنطقة الآمنة التي ستقيمها تركيا على الحدود شمال سورية، موقع صحيفة العربي الجديد، 16 يناير2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2EaBabs
[6]))3 مقترحات أمريكية لمنطقة آمنة خالية من "بي كي كي"، موقع ترك برس، 22يناير 2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2WR6fsp
([7]) بدر ملا رشيد، إلغاء هيئتي الدفاع والخارجية في "الإدارة الذاتية": إعادة هيكلة أم تحجيم وظيفي، مركز عمران للدراسات، 5 نيسان/ أبريل2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2vZ5ZeT
[8])) مصادر لـ"عربي21": جهود فرنسية لعقد اتفاق بين أكراد سوريا، موقع عربي21، 23 أبريل2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2VEtXLD
(([9] المرصد الاستراتيجي، فشل المفاوضات يفتح أبواب المواجهات العسكرية في حوران، تقدير موقف 25 أبريل 2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2VQttlH
([10]) الأبعاد والمتغيرات الجديدة للوجود الإيراني في جنوب سوريا، شبكة بلدي الإعلامية، 14 كانون الثاني 2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2ANeTyO
[11])) المرجع السابق.
[12])) المرصد الاستراتيجي، فشل المفاوضات يفتح أبواب المواجهات العسكرية في حوران، مرجع سبق ذكره.
[13])) درعا: ما هو دور روسيا في التظاهرات؟، موقع جريدة المدن، 15/3/2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2HrdOR8
[14])) المرصد الاستراتيجي، فشل المفاوضات يفتح أبواب المواجهات العسكرية في حوران، مرجع سبق ذكره.
[15])) ساشا العلو، رسائلُ خطاب الأسد: عَودٌ على ذي بدء، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 19 شباط 2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2HxOZ6b