ملخص عام

تستعرض هذه الإحاطة تداعيات أهم الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية في سورية خلال شهر أكتوبر 2024. على الصعيد السياسي، انعكست التوترات الإقليمية بشكل مباشر على الأوضاع في سورية، وسط استمرار النظام في اتباع سياسة الحياد الحذر وإظهار تمايزه عن المحور الإيراني واستغلال عودة الاهتمام الدولي بالشرق الأوسط لمحاولة كسر العزلة الدولية المفروضة عليه بسبب العقوبات الغربية. وفيما يخص التطبيع التركي مع نظام الأسد، استمرت موسكو ببذل جهود متواصلة لاستئناف المفاوضات العالقة بين الطرفين.

وعلى الصعيد الأمني، شهد هذا الشهر تصاعداً ملحوظاً في عدد عمليات القصف الإسرائيلي داخل الأراضي السورية، التي استهدفت عشرات المواقع الأمنية والعسكرية التابعة لإيران وميليشيا "حزب الله"، الأمر الذي قد يزيد من مخاطر تمدُّد الحرب المندلعة في لبنان لتطال سورية رغم مساعي النظام للنأي بنفسه عن الحرب، لا سيما مع غياب أفق واضح لوقف إطلاق نار قريب. اقتصادياً، لا يزال التدهور المستمر في مختلف المؤشرات هو الطابع العام للاقتصاد السوري، حيث تزداد معاناة المواطنين نتيجة الغياب التام للسياسات الاقتصادية الفعّالة من قبل حكومة النظام، واستمرار منهجيتها القائمة على تجاهل المشاكل الأساسية كالتضخم والفقر والبطالة، والتركيز على الحلول السطحية بدلاً من معالجة الجذور العميقة للأزمات.

جهود روسية في ملف التطبيع 

استمرت التوترات الإقليمية المحيطة بسورية خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر 2024، لا سيما في جبهتي لبنان وغزة، مما ينعكس بشكل مباشر على الوضع في سورية، وقد جدد المبعوث الخاص للأمم المتحدة "غير بيدرسون" تحذيره من أن امتداد الصراع الإقليمي إلى سورية سيزيد الوضع سوءاً، ويُخلّف عواقب وخيمة على السلم والأمن الدوليين.

أما نظام الأسد فقد استمر في اتباع سياسة الحياد الحذر، مما أثار تساؤلات عديدة حول علاقته مع إيران. إذ تحدث إعلاميون مؤيدون للنظام عن اختلاف في وجهات النظر بين الجانبين حول عدة قضايا، منها محدودية دعم طهران للنظام في الجانب الاقتصادي وقطاع الطاقة والمحروقات، في خضم أزمة اقتصادية مزمنة تشهدها مناطق سيطرته، الأمر الذي استدعى نفياً من مستشار خامنئي للشؤون الدولية "علي أكبر ولايتي" حول وجود توتر في العلاقات بين طهران والنظام، واصفاً بشار الأسد بأنه "شخصية مؤثرة تؤمن بالمقاومة" والتقارير التي تداولت أنباء حول توتر العلاقات بـ “الأخبار الكاذبة".

وفي ذات السياق، حاول نظام الأسد استغلال عودة الاهتمام الدولي بالشرق الأوسط لمحاولة كسر العزلة الدولية التي يعاني منها بسبب العقوبات الغربية. حيث التقى رئيس حكومته "محمد غازي الجلالي" بالسفير الهندي في دمشق الذي أبدى استعداد بلاده لتعزيز التعاون في عدة مجالات بما فيها التقنية والمكننة الزراعية. واستقبل نائب رئيس النظام "فيصل مقداد" في مكتبه بدمشق القائم بالأعمال المؤقت للعراق في سورية وبحثا سبل تعزيز العلاقات الثنائية، وضرورة تفعيل اللجان المشتركة، خاصة الاقتصادية منها، وتنشيط مذكرات التفاهم الموقعة. كما اجتمع وزير خارجية النظام "بسام صباغ" في مينسك بكل من رئيس مجلس الوزراء ورئيسة مجلس الجمهورية البيلاروسية اللذين أعربا عن اهتمام بلادهما بتعزيز التعاون مع سورية في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. في حين دعا سكرتير مجلس الأمن الروسي "سيرغي شويغو" خلال لقائه بالرئيس الإماراتي محمد بن زايد في أبو ظبي، إلى تقديم المزيد من الدعم السياسي والاقتصادي لنظام الأسد وتعزيز التطبيع معه على المستويين العربي والإقليمي.

وفيما يخص التطبيع التركي مع النظام، أشار وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" أن المفاوضات بين الطرفين متوقفة بسبب الخلاف حول انسحاب القوات التركية من سورية، مؤكداً أن بلاده تبذل جهوداً متواصلة لاستئناف التفاوض. إلا أن الجهود الروسية في هذا الإطار ستبقى محدودة في ظل المتغيرات التي تشهدها المنطقة، لا سيما تزايد مخاطر الانزلاق نحو حرب إقليمية واسعة نتيجة العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة ولبنان والحرب الدائرة على النفوذ الإيراني في الإقليم، إلى جانب السياسة الأمريكية الجديدة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض وتداعيات ذلك على الملف السوري والمنطقة بشكل عام، مما يصعب مسار التطبيع ويعرقله. في المقابل، أشار بدر جاموس رئيس هيئة التفاوض إلى أن التطبيع العربي مع النظام لم يُحدث أي تقدم حقيقي لأن النظام يتهرب من الحل السياسي، داعياً لعقد مؤتمر دولي خاص بسورية والعمل على خطة عربية لدفع الحل السياسي نحو الأمام.

وعلى صعيد آخر، يواجه اللاجئون السوريون في لبنان أوضاعاً إنسانية صعبة للغاية نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية وتفاقم الاحتياجات الإنسانية الأساسية، مع غياب البدائل الآمنة وعدم توفر بيئة آمنة وكريمة تتيح عودتهم إلى سورية نظراً لاستمرار النظام في سياساته القمعية من اعتقالات تعسفية وتعذيب وملاحقات للعائدين وفقاً لمنظمة "هيومن رايتس ووتش". وعلى الرغم من إعلان المفوضية الأوروبية مراراً أنه لا بيئة آمنة في سورية تضمن عودة طوعية كريمة للاجئين حالياً؛ ناقش سفراء الاتحاد الأوروبي سُبل العودة الطوعية للاجئين السوريين إلى بلادهم بدفع من دولة المجر التي ترأس الدورة الحالية لمجلس الاتحاد. ويشهد ملف اللاجئين الكثير من الجدل بين الدول الأوروبية إذ تستغل بعض دول الاتحاد هذا الملف لإعادة العلاقات مع نظام الأسد وتغيير سياسة الاتحاد الأوروبي المتمثلة في عدم التطبيع دون تحقيق تقدم ملموس في الحل السياسي.

مؤشرات تمدد الحرب وزيادة التصعيد في سورية

شهد هذا الشهر تصاعداً ملحوظاً في عدد عمليات القصف الإسرائيلي داخل الأراضي السورية، والتي استهدفت عشرات المواقع الأمنية والعسكرية التابعة لإيران وميليشيا "حزب الله"، خاصة المعابر الرسمية وغير الرسمية التي يستخدمها الحزب كخطوط إمداد على الحدود السورية اللبنانية. كما استهدفت الضربات مواقع عسكرية ومستودعات أسلحة وبعض الشخصيات القيادية في "حزب الله" بمختلف أنحاء سورية. وقد طالت هذه الضربات أيضاً مواقع متفرقة في دمشق وريفها أبرزها تلك التي استهدفت مسؤولين رفيعين في الحرس الثوري الإيراني و"حزب الله"، في حين فشلت إحدى الضربات باغتيال الأمين العام لحركة "الجهاد الإسلامي". يزيد التصعيد الإسرائيلي والتوغل البري في الأراضي السورية من خطر تمدُّد الحرب المندلعة في لبنان لتطال سورية، لا سيما مع عدم وضوح أفق لوقف إطلاق نار قريب، وذلك على الرغم من مساعي النظام للنأي بنفسه عن الحرب.

وفي الساحل السوري، شنَّت إسرائيل ضربات قرب قاعدة حميميم عقب وصول طائرة إيرانية، واستهدفت بضربة أخرى مستودع أسلحة بالقرب من ثكنة عسكرية. كما استهدفت مستودع ذخيرة ومبنى تابعاً للميليشيات الإيرانية في ريف حمص الشرقي ومنظومة دفاع جوي جنوب حمص. وفي جنوب سورية، استهدفت إسرائيل كتيبة الرادار واللواء 79 دفاع جوي في درعا، ورادار تل القليب في السويداء، وطرقاً رئيسية في القنيطرة.

يأتي هذا التصعيد بالتوازي مع قيام إسرائيل بانتهاك خطوط فك الاشتباك (1974) مع سورية، عبر توغلها وضمها أراضٍ سورية جديدة للجولان المحتل، بالإضافة إلى حفرها خندقاً بطول يقارب 7 كيلومترات وعرض يصل إلى مترين. وفي الوقت الذي يستمر فيه "حزب الله" باستخدام سورية كخط إمداد للأسلحة والذخيرة من جهة، وتسعى ميليشيا "المقاومة الإسلامية في العراق" لاستهداف مواقع إسرائيلية في الجولان المحتل من جهة ثانية؛ يسعى النظام ومن خلفه روسيا للحفاظ على قواعد الاشتباك في الجنوب السوري، حيث أصدر النظام تعميماً يقضي بمنع السيارات اللبنانية من العبور إلى بعض المواقع في الجنوب أبرزها خط وقف إطلاق النار مع إسرائيل، ناهيك عن انتشار العديد من الحواجز والمواقع العسكرية الروسية والدوريات اليومية، والتدريبات المشتركة مع قوات النظام قرب خط وقف إطلاق النار.

أما عن شمال غرب سورية، فقد صعَّدت القوات الروسية من غاراتها الجوية،  بالتزامن مع تعزيزات عسكرية استقدمها النظام لمحيط جبهات التماس مع "هيئة تحرير الشام" من ريف حلب الغربي وحتى ريف اللاذقية الشمالي، وذلك عقب أحاديث عن عملية تحضر لها غرفة "الفتح المبين" بقيادة "تحرير الشام" واستعدادات عسكرية تجريها على خطوط الجبهات، وبالمقابل، استقدمت تركيا نقاط المراقبة في مناطق إدلب لمنع انهيار وقف إطلاق النار.

على صعيد آخر، أعلن فصيل "صقور الشمال" حل نفسه ووضع مقاره تحت تصرف وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة، بعد ضغوط تعرَّض لها إثر ممانعته قرار الوزارة بدايةً وإعلانه الانضمام إلى فصيل "الجبهة الشامية"، إذ تمثِّل هذه الحادثة الأولى من نوعها منذ إعلان مسار إعادة الهيكلة.

وفي شمال شرق سورية، استمر القصف شبه اليومي من قبل قواعد التحالف الدولي على البلدات السبع التي تسيطر عليها قوات النظام والمليشيات الإيرانية في شرق الفرات، وأسفر القصف عن مقتل 8 عناصر من الميليشيات الإيرانية والفرقة الرابعة التابعة لنظام الأسد، كما أسفر القصف الصاروخي من قاعدة كونيكو الأمريكية عن إصابة 6 مدنيين بينهم نساء وأطفال في بلدة مراط شمال إحدى البلدات السبع شرق مدينة دير الزور. ويأتي هذا التصعيد في إطار الرد على استهداف القواعد الأمريكية من قبل الميليشيات الإيرانية.

من جهة أخرى، صعّدت تركيا من هجماتها على مواقع عديدة شمال شرق سورية، مستهدفة مواقع عسكرية ومراكز تجنيد لقوات قسد، إضافة إلى مرافق حيوية وبنى تحتية. ويأتي هذا التصعيد التركي رداً على هجمات استهدفت شركة الصناعات الدفاعية "توساش" في أنقرة. وقد صرح أردوغان أن قواته ضربت 470 هدفاً لـ "حزب العمال الكردستاني" في سورية والعراق، منذ هجوم أنقرة، في حين أكدت قوى الأمن الداخلي التابعة لـ"الإدارة الذاتية" وقوع 1168 هجوماً برياً وجوياً تركياً، تركزت على المراكز الخدمية والمرافق الحيوية والبنى التحتية من محطات مياه وكهرباء ونفط ومستشفيات، إضافة للحواجز الأمنية ونقاط التفتيش، وأسفرت عن مقتل 18 شخصاً بينهم 14 مدنياً و68 جريحاً بينهم 54 مدنياً. ورغم نفي قائد قسد مظلوم عبدي أي صلة لقواته بهجوم أنقرة ودعوته للحوار لتخفيف التوتر، إلا أن تركيا أكدت أن المنفذين عبروا إلى تركيا من الأراضي السورية.

ويبدو أن مناطق شمال شرق سورية ستستمر كساحة مواجهة لتصفية الحسابات بين تركيا و"حزب العمال الكردستاني"، إذ لا يلوح في الأفق أي حل قريب في ظل تعنت الأطراف المختلفة، واستمرار نفوذ حزب العمال في المنطقة، هو ما تعتبره "الإدارة الذاتية" "ذريعة" تستخدمها تركيا لضرب مشروعها ومنع قيام كيان سياسي معترف به هناك.

التدهور المستمر سمة الاقتصاد السوري

لا يزال التدهور المستمر في مختلف المؤشرات هو الطابع العام للاقتصاد السوري، إذ تزداد معاناة المواطنين في ظل غياب تام لسياسات اقتصادية فعّالة من قبل حكومة النظام تعالج المشاكل الأساسية مثل التضخم والفقر والبطالة، وسط استمرار منهجية النظام القائمة على تجاهل الأزمات والتركيز على الحلول السطحية بدلاً من معالجة الجذور العميقة للأزمة.

حيث ارتفعت بشكل حاد أسعار المواد الغذائية والخضراوات في دمشق بنسب متفاوتة خلال الشهر الماضي، مما يزيد من الأعباء المعيشية على المواطنين، في حين بلغ الحد الأدنى لتكاليف معيشة أسرة مكونة من خمسة أفراد حوالي 8 ملايين ليرة سورية، بينما لا يزال الحد الأدنى للأجور ثابتاً عند 278 ألف ليرة، مما يخلق فجوة كبيرة بين الدخل وتكاليف الحياة، في ظل عجز السياسات الحكومية عن حماية الفئات الضعيفة غير القادرة على مجاراة التضخم المتسارع. كما يعكس التآكل الحاد في القدرة الشرائية لليرة السورية وارتفاع معدلات التضخم هشاشة الاقتصاد المحلي وتأثره بالتغيرات المحيطة.

ومما يعزز تجاهل النظام جذور الأزمات، قراره رفع سعر المازوت المدعوم من 2000 إلى 5000 ليرة، الأمر الذي يعكس استمرارية الأزمة في قطاع الطاقة، ويؤدي إلى ارتفاع تكاليف النقل والإنتاج الزراعي، ويزيد الضغط على أسعار السلع الغذائية، ويخلق حلقة من التضخم تغذي نفسها باستمرار. وقد بررت حكومة النظام هذه الزيادة على أنها خطوة لتقليص الدعم وتقليل العجز المالي، وهو إقرار غير مباشر بالعجز الاقتصادي الكبير الذي يواجهه النظام وعدم قدرته على الوفاء بالاستحقاقات المعيشية، وإلقاء الأعباء الاجتماعية والاقتصادية عن كاهله دون اتخاذ أي تدابير لحماية الفئات الأضعف.

أما عن الآثار الاقتصادية للعدوان الإسرائيلي على لبنان الذي أسفر عن موجات نزوح سوريين ولبنانيين باتجاه سورية، فتمثلت بزيادة الضغط على أسواق العقارات والإيجارات في عدة محافظات، حيث تراوحت مبالغ الشهرية لتأجير الشاليهات للنازحين اللبنانيين بين 400- 600 دولار، كما ازداد التعامل بالدولار رغم تجريم ذلك رسمياً من قبل حكومة النظام. ويعد هذا الارتفاع في قيمة الإيجارات زيادة في معاناة السوريين الذين يجدون صعوبة في تأمين سكن مناسب، وفي ذات الوقت تُرك السوق العقاري عرضة للاستغلال والمضاربين.

يضاف إلى ذلك، تداعيات القصف الإسرائيلي المتواصل على معبر "المصنع-جديدة يابوس" بين لبنان وسورية والذي أدى إلى توقف حركة التصدير من سورية إلى لبنان، مما أثر سلباً على حركة التجارة بين البلدين بعدما كان عدد الشاحنات السورية الواصلة إلى لبنان يومياً يتراوح بين 30- 40 شاحنة، ويفاقم من آثار ذلك محدودية الأسواق الأخرى التي يمكن أن تصدر إليها سورية والتي تقتصر على الأردن والعراق والخليج، إضافة إلى خسارة رسوم الترانزيت التي كانت تحصلها الخزينة العامة للدولة، حيث كان عدد سيارات الترانزيت المارة بين لبنان والعراق عبر سورية يصل إلى نحو 60 سيارة تدفع كل منها قرابة 600 دولار كرسوم عبور. وتشكل هذه الأزمة ضغطاً متواصلاً على قطاع التجارة بشكل يبرز هشاشة البنية التحتية للتجارة الخارجية السورية، نتيجة اعتماد الاقتصاد على عدد محدود من المعابر والشركاء التجاريين. بالإضافة إلى أن توقف حركة الشحن يعني فقدان مورد هام للعملة الصعبة وزيادة الضغط على القطاعات الإنتاجية المحلية.

ومن الآثار المباشرة للصراع بين إسرائيل وإيران على سورية؛ النقص الحاد في المحروقات، والذي أدى إلى شلل شبه كامل في وسائل النقل العامة في دمشق، وهو ما ينعكس على الحياة اليومية للمواطنين ويزيد من تكاليف النقل. حيث قلّصت إيران من صادرات النفط إلى سورية، مع توجيه الأولوية إلى الصين، الأمر الذي ساهم في تعميق أزمة المحروقات في سورية بشكل كبير. وتشير صادرات إيران إلى الصين في شهر أيلول/سبتمبر 2024 إلى تصدير 1,626,287 برميلاً يومياً مقارنة بـ 35,099 برميلاً فقط إلى سورية. وقد تراوحت مدة الانتظار للحصول على 25 لتراً من بنزين (أوكتان 90) و(أوكتان 95) بين 20 و30 يوماً وأكثر أحياناً، أي بمعدل تعبئة واحدة في الشهر فقط بدلاً من 3 مرات. ويؤكد هذا الأمر مدى انكشاف النظام على إيران واعتماد الاقتصاد السوري على الدعم الإيراني بشكل كبير مقابل هشاشة مؤسسات النظام في تأمين احتياجات المواطنين الأساسية.

أما عن شمال شرق سورية، فقد ارتبط الملمح الأساسي بتأثير الهجمات التركية على القطاع النفطي وشدة اعتماد "الإدارة الذاتية" على الموارد المالية الآتية من مناطق النظام لقاء صادرات النفط، وهذا ما يجعل التوترات العسكرية من جهة، والاعتماد الكبير على النفط كمصدر رئيسي للدخل من جهة أخرى، تحدياً كبيراً تواجهه الإدارة. وقد استأنفت "قسد" إرسال النفط إلى النظام بعد انقطاع لأيام جراء الضربات التركية، بما يعكس حاجتها الماسة للأموال بالليرة السورية لتغطية التزاماتها من نفقات ورواتب.

من جهة أخرى، توقفت العديد من المعامل في القامشلي عن الإنتاج نتيجة نقص المواد الخام وارتفاع الضرائب والجمارك، مما يدفع نحو زيادة التكاليف ويضعف القدرة التنافسية للمنتجات المحلية، ويعكس أيضاً تحديات كبيرة تواجه القطاع الصناعي في المنطقة في ظل الاعتماد على الاستيراد وغياب بنية تحتية قوية تدعم الإنتاج المحلي. كما أن ارتفاع أسعار المحروقات أيضاً يزيد من تكاليف الإنتاج ويقلل من ربحية المعامل ويدفع بعضها للتوقف عن العمل.

وفي شمال غرب سورية، أظهرت آخر البيانات الاقتصادية الصادرة عن "منسقو الاستجابة" في شهر أيلول الماضي ارتفاع حد الفقر إلى 11,218 ليرة تركية، في حين بلغت نسبة العائلات الواقعة تحت حد الفقر 91.18% كما بلغت نسبة البطالة العامة 88.82% وارتفعت نسبة التضخم بمقدار 1.07 % على أساس شهري و77.13 % على أساس سنوي. وتشير هذه الأرقام إلى التدهور المستمر في الظروف المعيشية للسكان في المنطقة، وأن غالبيتهم العظمى يعانون من ضعف القدرة الشرائية وارتفاع تكاليف المعيشة، مما يزيد من الفجوة بين الموارد المتاحة واحتياجات الأسر اليومية. يضاف إلى تلك التحديات انخفاض كمية المساعدات الإنسانية وارتفاع أسعار السلع نتيجة تدهور سعر الصرف، مما يجعل من الصعب على السكان تلبية احتياجاتهم الأساسية، ويخلق حالة من انعدام الأمن الغذائي.

وفي تل أبيض، افتتح وزير الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة "مركز حبوب صومعة الصخرات" بسعة تخزين تبلغ 12 ألف طن من القمح، وتشكل هذه الخطوة ركيزة مهمة لدعم الزراعة في المنطقة وتخفيف الأعباء على المزارعين. ويُتوقع أن يساهم المركز في تحسين جودة التخزين ويقلل من الفاقد جراء تلف قسم كبير من الحبوب الناتج عن سوء التخزين، مما يدعم استدامة إنتاج القمح، وتحسين أسعاره ويشجع المزارعين على زيادة الإنتاجية. كما تخطط الحكومة المؤقتة لتأهيل 10 صوامع أخرى في المنطقة خلال الفترة القادمة.

وفي إدلب، سلّمت "حكومة الإنقاذ" نصف راتب لموظفي الجهات العامة عن الشهر التاسع، ويعكس هذا القرار أزمة مالية حادة تواجهها "هيئة تحرير الشام"، كما يبرز حجم ملاءتها المالية التي كشفت عدم قدرتها على تغطية الرواتب بشكل كامل.

التصنيف تقارير خاصة

تتعاظم خسارات طهران لأدوات استراتيجيتها الإقليمية في المنطقة والتي كانت تساهم بتموضعها المركزي ضمن النظام الإقليمي، فالمواجهة غير المتكافئة في غزة المترافقة مع صمت دولي مطبق، والضربة القاسية التي وجهتها إسرائيل لـ "حزب الله" باستهداف منظومة القيادة وشبكة الاتصال والتواصل، والانتقال إلى سياسة هجومية ضد الحزب؛ يجعل الموقف الإيراني في المنطقة يتراوح بين تعزيز جبهات محددة أو المواجهة المفتوحة والشاملة لكل أدواتها بدءاً من اليمن مروراً بسورية وانتهاء بالعراق. وضمن تلك الخيارات يبرز السؤال حول الجغرافية السورية كإحدى الساحات المحتملة للتصعيد عبر وكلاء إيران المحليين، خاصة في ظل موقف نظام الأسد المتردد، والمتقاطع مع المنظور الروسي لعزل الجغرافية السورية عن أي صراع يعيدها إلى ديناميات عسكرية تقلق مكاسب موسكو الاستراتيجية.

سورية: ممر إسناد أم ساحة مواجهة؟

تمتلك إيران حضوراً عسكرياً قوياً في سورية عبر الميليشيات التابعة لها، مثل "حزب الله" اللبناني وقوات من الحرس الثوري الإيراني والميليشيات المحلية والطائفية-الأجنبية، ناهيك عن تغلغلها في أغلب قطاعات الدولة الحيوية وانتشار مليشياتها في جل الجغرافية السورية، مما يمنحها القدرة على تنفيذ عمليات ضد إسرائيل أو ممارسة ضغط دون الدخول في مواجهة مباشرة.

وفي هذا السياق، يبدو خيار توظيف الجبهة السورية مطروحاً، فقد تسعى إيران لفتح جبهات جديدة في سورية لتخفيف العبء عن باقي الجبهات وتوسيع رقعة المواجهة وتشتيت قدرات إسرائيل الدفاعية، عبر استخدام سورية كنقطة انطلاق ضد إسرائيل، دون أن ينخرط نظام الأسد بشكل مباشر في عملية توسيع الصراع. خاصة أن توسيع قواعد الاشتباك عبر سورية لن يحقق أهدافاً عسكرية فحسب، وإنما سيعقد الحسابات الجيوسياسية، لا سيما أن مؤشرات الانزلاق متنامية في المنطقة، ومؤشرات الانخراط والعودة الأمريكية لتشكيل نظام أمن إقليمي جديد باتت أكثر احتمالية، الأمر الذي قد يدفع باتجاه خلق مناخ تفاوضي يعزّز موقف طهران ويوقف تدهور مكاسبها.

بالمقابل، فإن انخراط سورية في الصراع سيستتبع برد فعل إسرائيلي قوي، مما قد يهدد استقرار نظام الأسد ويؤدي إلى تدخل دولي. لذلك، ستكون حسابات طهران في هذا السياق بالغة الدقة باعتبار أن "جبهة سورية" هي مكسبها الاستراتيجي الذي تطلب منها أعواماً من الدعم الأمني والسياسي والاقتصادي، ناهيك عن كونها جغرافية مهمة تستطيع أدواتها التحرك فيها دون تهديدات داخلية، إضافة إلى عدم قدرتها على المواجهة المباشرة بسبب استنزاف مواردها في سورية خلال السنوات الماضية.

وعليه، يمكن القول: إن إقحام سورية في الصراع المباشر، ورغم كونه خياراً متاحاً لإيران؛ إلا أنه لا يبدو وفق المعطيات السابقة مطروحاً على المدى المنظور، والذي قد تسعى إيران خلاله للحفاظ على الجغرافية السورية كممر عبور/إسناد لميليشياتها وأسلحتها، في حين يبقى التصعيد وتوظيف سورية كورقة ضغط إضافية متاحاً في حال تفاقم الصراع مع إسرائيل، لكن من المرجح أن يكون ذلك بشكل محدود وعبر وكلاء محليين وليس عبر مواجهة عسكرية مباشرة تشمل "الدولة السورية" ككل.

نظام الأسد: اللعب على الهوامش كخيار أوحد

لا يبدو أن لدى نظام الأسد رغبة/قدرة حالية في فتح جبهة الجولان ضد إسرائيل، أو حتى استخدام الجغرافية السورية ضمن الصراع الدائر ولو عبر الوكلاء، حتى بعد اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان، إذ اكتفى النظام بإدانة إسرائيل وشجب العملية العسكرية المستمرة على غزة ولبنان فقط، ولعلّ أبرز الأسباب الدافعة لهذا الموقف هي:

  • أزمات النظام المركّبة: يعاني النظام من تداعيات الحرب الاقتصادية والأمنية المتراكمة خلال سنوات النزاع، والتي ساهمت بإضعاف الجيش وتآكل شبكات حكمه التقليدية، وكل هذا يجبر النظام على التقوقع الذاتي وعدم الانجرار إلى صراع مباشر ومفتوح. وعلى الرغم من أن التلويح بالانخراط سيساهم في إعادة تصدير النظام لنفسه شعبياً على المستوى المحلي والعربي؛ إلا أن كلفة هذا الخيار أمام الجدية الإسرائيلية ستكون باهظة الثمن.
  • وضوح الموقف الروسي: وهو ما يتكئ الأسد عليه في إدارة علاقته مع طهران، إذ لن ينخرط بمعارك عسكرية سواء داخلياً أو خارجياً دون دعم صريح من الروس. من جهة أخرى، استثمرت روسيا الكثير من الموارد السياسية والعسكرية لدعم نظام الأسد، لذلك من غير المرجح أن تقبل بتحويل سورية إلى ساحات صراع جديدة قد تهدد استقرار النظام، حيث تدرك أن أي تصعيد جديد مع إسرائيل أو قوى أخرى قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار ويهدد مكاسبها في سورية، والتي تتطلب بيئة مستقرة نسبياً لتطبيق رؤيتها في الحل والدفع بمسار أستانا. كما أنها لا ترغب بتصعيد في المنطقة بين سورية وإسرائيل، لأن ذلك سيعقّد موقفها، حيث تسعى روسيا لتحقيق توازن بين دعم نظام الأسد والحفاظ على علاقاتها الجيدة مع تل أبيب. ناهيك عن وضوح رغبة روسيا بالحد من تزايد النفوذ الإيراني في سورية، إذ تفضل أن تكون هي اللاعب الرئيسي في البلاد، وليست إيران. ووفقاً لهذا التفضيل، ورغم معارضة موسكو لتحويل سورية إلى ساحة صراع مباشر؛ إلا أنها وفي الوقت نفسه لا تمانع من ضربات إسرائيلية محددة تضعف النفوذ الإيراني في سورية.
  • الانسجام مع الموقف العربي المهادن له: سيحافظ النظام على اقتصار موقفه على الموقف الإعلامي، نظراً لما للصراع ضد إسرائيل من وزن كبير في الوعي العربي، وبالتالي المساهمة في تحسين صورته أمام الرأي العام العربي.

 إلا أن الأسد يدرك أن قطار التطبيع مع الدول العربية هو الأساس الذي ينتظر تحوّله من الشق السياسي إلى الاقتصادي، خاصة من بعض الدول الخليجية التي سبقت إلى التطبيع مع إسرائيل، والتي ربما يمتد أثر موقفها هذا إلى سعي لتحييد الأسد وعزله عن هذا الصراع و"إخراجه من العباءة الإيرانية"، مقابل الحفاظ على نظامه ومحاولات إعادة تعويمه.

لا يبدو أن أمام النظام خياراً سوى تحييد الجغرافية السورية والاكتفاء بمواقف سياسية-إعلامية، فالمغامرة هنا ليست مضمونة وغير محسوبة النتائج، لذلك سيحافظ على بقاء قواعد الاشتباك ذاتها أو يصمت عن تغييرها من قبل إسرائيل، وسيتغافل عن حركية الميليشيات المحلية والعراقية، وعن سياسات إيران في التحريك والتسليح والإسناد.

سورية  كخطوة متقدمة للسياسة الهجومية الإسرائيلية

قد تتخذ إسرائيل خطوات استباقية في سورية إذا شعرت بتهديد متزايد من قبل إيران أو الجماعات المسلحة المدعومة منها في المنطقة، وستغير قواعد الاشتباك التي كانت تعتمدها لضرب القيادات الإيرانية ومواقعها ومواقع "حزب الله" بهدف منع إيران من تعزيز وجودها العسكري ونقل أسلحة متطورة إلى الحزب في لبنان.

ولعل توسيع قواعد الاشتباك تبدت ملامحه من خلال التوغل البري الأخير والمحدود لإسرائيل في القنيطرة، بينما تبدو محددات الضربات الجوية، والتي ترسم بنك الأهداف الإسرائيلية في سورية، ثابتة حتى الآن وتتراوح بين ثلاثة مستويات، الأول: يستهدف خطوط النقل (الحدود العراقية-السورية واللبنانية-السورية)، والثانية: تستهدف قادة إيرانيين أو قادة في "حزب الله" أو غيرهم من قيادات المليشيات المرتبطة بإيران، أما الثالث: فيهدف إلى منع أي محاولات لتطوير الأسلحة سواء الكيميائية أو القدرات الصاروخية بعيدة المدى، وغالباً ما يستهدف مراكز البحوث العلمية.

ومن المرجّح أن تستمر الضربات الإسرائيلية الجوية ضمن تلك المستويات مع زيادة وتيرتها خلال الفترة القادمة، خاصة في استهداف قيادات "حزب الله" والحرس الثوري، وذلك للاستفادة من زخم العمليات في لبنان من جهة، واستجابة لتراجع قيادات الحزب إلى العمق السوري من جهة أخرى. بالإضافة إلى وجود إلحاح حول سرعة الإنجاز استباقاً لزيادة الضغوط الغربية على إسرائيل، يضاف إلى ذلك التخوّف من سيناريو ردة فعل إيران.

أما بالنسبة للغزو البري الموسَّع، فيبدو كسيناريو مستبعد ومرتبط بفتح الجبهة السورية، خاصة أن تل أبيب تفضل الاستهداف عن بعد والتدخلات البرية المحدودة جداً، وذلك للحفاظ على الدور الوظيفي للأسد، خصوصاً أن القيادات الإسرائيلية ستسعى إلى ترجمة إنجازاتها العسكرية إلى سياسية متمثلة بالتطبيع وعمليات "سلام". وفي حال تدخلت في سورية برياً، كما حدث مؤخراً في القنيطرة؛ فسيكون تدخلها مؤقتاً ومحدوداً وقد لايرتبط بأهداف ضمن الأراضي السورية، بقدر ما يرتبط بأهداف خاصة بلبنان والمناطق الحدودية و"حزب الله".

ختاماً

يبدو أن عودة سورية إلى ساحة صراع إقليمي مباشر ليست احتمالاً وشيكاً في ظل الظروف الراهنة، لكنها تبقى معادلة مفتوحة على تطورات قد تكون مفاجئة. فقد تسعى إيران، بشكل غير مباشر، إلى استخدام الأراضي السورية لتوسيع نطاق المواجهة مع إسرائيل، عبر أسلوب "حرب الوكلاء" لتجنب المواجهات المباشرة.

على الجانب الآخر، يواجه نظام الأسد تحديات داخلية ضخمة وأزمات اقتصادية واجتماعية وأمنية متفاقمة، مما يجعله أقل ميلاً لفتح جبهة عسكرية ضد إسرائيل. وأي تحرك في هذا الاتجاه قد يؤدي إلى رد فعل إسرائيلي قوي قد يعيد النظام إلى دوامة عدم الاستقرار التي يسعى للخروج منها.

أما روسيا، الحليف الأقوى لنظام الأسد، فتنظر إلى أي تصعيد عسكري بقلق بالغ بعد استثمارها العسكري والسياسي الكبير في سورية، كما أنها تروج "كلاسيكياً" لفكرة الحلول السياسية والدبلوماسية للصراعات في الشرق الأوسط، وعودة سورية كساحة جديدة للصراع تتعارض مع هذه الرؤية.

بناءً على ذلك، يمكن القول: إن سورية ستظل ساحة ذات أهمية جيوسياسية كبيرة، لكنها في الوقت الحالي أقرب إلى سيناريوهات التصعيد المحدود والمدروس بدلاً من المواجهة المفتوحة والمباشرة. والتي تبقى احتمالاتها مرهونة بتغيرات جوهرية في خارطة المواقف، إلا أن الخيارات الإيرانية المتاحة تبدو أكثر ميلاً نحو الحفاظ على الوضع القائم، والانخراط التدريجي في استراتيجية الإسناد، مع السعي لتجنب الانزلاق إلى مواجهات إقليمية قد تكون نتائجها غير محسوبة.

التصنيف مقالات الرأي

على الرغم من وضوح تمسك جل فواعل المنطقة بقواعد الاشتباك السائدة على مدار العقدين الماضيين، إلا أن توسيع هوامش تلك القواعد أفرز اضطراباً في شكل التفاعلات الأمنية قد ساهم في تعثر ديناميات إدارة الأزمات المتبعة عموماً، وفي هذا السياق يعد اغتيال حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني وما سبقه من ضرب الهيكلية وإحداث خلل في منظومة الاتصال والتواصل؛ حلقة مهمة  في تقويض قدرة الحزب التي توسعت وتضخمت أدواره الإقليمية والمحلية من جهة، وفي إعادة تشكيل المعادلة الأمنية في النظام الإقليمي الذي سيختبر قدرة ما يسمى محور "المقاومة" لا سيما في ظل مؤشرات التصعيد المتزايدة من جهة أخرى.

انتهاء صلاحية المعادلة الأمنية الإقليمية

منذ عام 2010 والهاجس الأمني هو السؤال الأكثر إلحاحاً لدى النظام الإقليمي والأزمات التي يشهدها من تونس إلى مصر مروراً بالسودان وليبا واليمن وسورية والعراق وليس انتهاءاً بفلسطين، نظامٌ أَلِفَ قواعد اشتباكٍ وتعاطٍ "منضبطة"، [1]وهو ما أدى لانشغال دول المنطقة في انتاج سياسات تعاطي مع مفرزات الربيع العربي (تهديدات لأنظمة حكم، بروز تيارات تطمح للتغيير، تحديات جمة للعقد الاجتماعي...إلخ) وتنوعت تلك السياسات ما بين "المواجهة" أو "صد الآثار" أو "إدارة الأزمة"، حاولت بمجموعها عودة عقارب الساعة وإيقافها في ذاك الزمن، عبر السياسات الآتية:

  • سياسات الاستثمار السياسي لورقة الجماعات الحركية الإسلامية لإعادة تعريف الصراع الحاصل وتسهيل نقله لمستويات أمنية.
  • سياسات التحكم بخيارات وقرارات الفواعل غير الدولتية ودعمها بما ينسجم والمصلحة الأمنية (الحرب بالوكالة).
  • سياسات التهجير والتجريف التي ستفرض إعادة هندسة اجتماعية من زاوية أمنية بحتة، ولم تنتهِ بسياسات التكيف والتطبيع مع واقع تدار الفوضى فيه وتتعزز مؤشرات استقرار هش محكوم بحلول ومقاربات سياسية لن ترى النور وفق المدخلات السائدة.

لم تقف "إسرائيل" متفرجة، وهي من توظف مؤسساتها ومجتمعها وعلاقاتها الدولية لصالح "أمن كيانها"، وهي التي تدري أن حسابات المصلحة الإقليمية والدولية كانت وستبقى تنطلق منها وإليها، إلا أن ذلك لم يمنعها من الحركة والتفاعل في الإقليم عبر ثلاث استراتيجيات:

  • إضعاف إيران وحزب الله وإنهاك واستنزاف جميع الفواعل الإقليمية والمحلية في الملف السوري، وهو ما استوجب عدم السماح بتغيير قواعد الاشتباك مع حزب الله أو تغيير قدراته القتالية، ومراقبة الحزب الذي كُشِف ظهره بتدخله في سورية دعماً لنظام الأسد. وإبعاد طهران عن حدودها الشمالية.
  • تعزيز التطبيع وتوسيع دائرته وخلق بيئة "صديقة" لها تنهي مرحلة التقوقع الجغرافي لتبدأ مرحلة تواصل وتفاعل مع المحيط بعد ضمان "تسيدها" هذا النظام.
  • مراقبة الجغرافيات العسكرية من غزة إلى لبنان إلى سورية إلى اليمن إلى العراق، واتباع منهجية إدارة الأزمة دون تغيير مع تثبيت حق التدخل متعاً لتغيير موازين القوى.

وفي لحظة "أمانٍ إسرائيلية" ومسارات "تطبيع متنامية" و"لا مبالاة أمريكية بشرقٍ ملتهب" أتت عملية طوفان الأقصى العابرة للعمليات التقليدية، لتؤكد عجز الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، وعودة طهران كطرفٍ رئيسي في طاولة التفاوض الإقليمية. الأمر الذي استوجب تغييراً في عقلية إدارة الحرب داخل إسرائيل التي استبعدت متغير الكلفة من الحسابات الأمنية الدقيقة، وهو ما تطلب نقل مستويات الصراع إلى مستويات عابرة للصراع التقليدي وتمتلك كل مؤشرات الانزلاق لمعارك خارج الحدود، فالهدف هو إنهاء صلاحية كل أوراق الضغط عليها. وتجلى تطبيقها العملي في تغيير الواقع العسكري والديمُغرافي في غزة وإخراجها سياسياً وعسكرياً وإدارياً من معادلات التأثير، وضرب الهيكل القيادي لـ"حزب الله" وتدمير شبكة الاتصالات والتواصل، وتدمير شبكات النقل والتخزين، وإعادة حوالي 60 ألف نازح إلى شمال إسرائيل وإقامة منطقة آمنة خالية من "حزب الله" وصواريخه. وبهذا تتعزز كل المؤشرات الدالة على دخول المنطقة مرحلة إعادة تشكل جديدة.

كسر المحور أم إعادة تعريف وظيفته

لعل التحليل الكمي للعملية الأمنية الإسرائيلية في جنوب لبنان والضاحية يُفيد بتلقي الحزب ضربة ثلاثية الأبعاد أعادته مبدئياً عقوداً إلى الخلف، كضرب البنية ضرباً متعدد الاتجاهات هزّ شبكاته وهيكليته الأمنية والاستخباراتية وأفقده عنصري المبادأة والتخطيط العسكريين. إلا أن التحليل النوعي والمراعي لهواجس إعادة التشكل للمعادلة الأمنية الناظمة؛ يَجعل النظر إلى هذه العملية باعتبارها "إعادة تعريف" وتغيير في سلم الأولويات للفواعل المناوئة لإسرائيل، وبالتالي تحجيم دور إيران وتجفيف منابع التهديد التي تستخدمها وذلك من خلال استراتيجية تأمين المحيط الحيوي وتفكيك ترابط الجبهات والفواعل التي تتحالف مع طهران بالمنطقة عبر:

  • اختبار الأسد الذي يركز كل اهتماماته على إعادة انتعاش شبكات حكمه وإجباره على "إدارة الظهر" لكافة العمليات التي تستهدف إيران والحزب في 214 موقعاً في الجغرافية السورية
  • تغير قواعد النزاع في فلسطين عبر استنزاف حماس الاستراتيجي وإفقادها عناصر النهوض عبر التدمير الجغرافي لعزة نقطة قوة حماس المركزية
  • تأمين الحدود الشمالية من خلال كسر حزب الله الذي توسعت وظائفه وأدواره بعد مقتل سليماني دون انهائه، ودفعه باتجاه تغيير فلسفة عمله الأمني وإجباره على التماهي مع أولويات "الدولة " اللبنانية المنهكة.

بالمقابل تتراوح خيارات إيران بين الصعب والأصعب، فإما التصعيد ويعني المزيد من استخدام أدوات المواجهة وهي إما مباشرة لمرة واحدة عبر رد عسكري يحمل صيغة "الجهوزية لأي خيار"  أو استخدام الجغرافية السورية من خلال فتح جبهات الجولان أمام الميليشيات الإيرانية وتعزيز الإسناد،  أو كلاهما، وفي هذا مغامرة إيرانية فهي تسير باتجاه تقويض أوراق قوتها كلياً، وبالتالي ستقع بالمزيد من المطبات والأخطاء الاستراتيجية،  فالمراهنة المطلقة على عدم عودة الولايات المتحدة الأمريكية للمنطقة وإيمانها بدور طهران الشرطي يبدو أنه رهان محفوف بالعديد من المتغيرات القلقة، ناهيك عن غياب النجاعة والقدرة لدى أدوات طهران الإقليمية. عموماً سيلقى خيار التصعيد ممانعة ومعارضة روسية فهذا أمر يهدد مكاسبها المتحصلة في سورية وينذر بالعودة إلى الميدان العسكري. لكن إن حصل فسيدخل الإقليم دوامة متعددة المتغيرات والتحولات.

أو الاحتواء والتماهي مع متطلبات إسرائيل وقد يستلزم هذا قبول المبادرة الدبلوماسية الأمريكية الفرنسية وتوجيه حزب الله لسحب وجوده العسكري إلى شمال نهر الليطاني. كما يعني هذا فصل جبهتي الحرب في لبنان وغزة وإنهاء معركة الاسناد. كل هذا من شأنه أن يوفر للحرس الثوري الإيراني الوقت والمساحة لإعادة بناء ترسانة حزب الله وإعادة هيكلة قيادته العسكرية، وهذا ما لن يُسمح به دولياً خاصة في ظل رفض الحزب نفسه الانخراط الإيجابي باللعبة السياسية اللبنانية وتحت "سيادة" الدولة.

إذاً تواجه طهران مأزقاً بالغ الأهمية فهي تتعرض لتهديد أركان استراتيجيها الإقليمية القائمة على حصر الملعب الاستراتيجي خارج مركزها وعبر أدوات محلياتية.

تعزز تلك السياسات مقاربة "التحكم بوظائف المحور" من جهة، وإغراق المنطقة بموجبات "التعافي والصيانة الذاتية" وما يرافقها من أزمات إنسانية من جهة ثانية، وبالتالي إجبار كافة عناصر هذا المحور على الالتفات لاستحقاقاتها المحلية.

مسرح الجغرافية السورية تحت المجهر

فيما يرتبط بالتداعيات الأولية تتبلور عسكرياً في "خسارة السند" والحليف، إذ يمثّل استنزاف حزب الله بهذا الشكل إضعاف القوات البرية التي كان حزب الله رأس حربتها وأفضلها تدريباً وتخطيطاً وانضباطاً، ناهيك عن الخلل في عنصري القيادة والتخطيط، باعتبار أن الحزب هو المخطط العملياتي للعديد من القضايا العسكرية في سورية، وهذا سينعكس بدرجة ما على أداء قوات النظام وقدرته الدفاعية؛ إلا أنه وبحكم منطق وقف إطلاق النار غير المعلن في سورية سيجعل من التداعيات العسكرية رهينة التطورات الدافعة باتجاه الانزلاق إلى الميدان العسكري من جديد، وهذا ما لا تتوفر مؤشراته إلا في حال توسعت العملية الإسرائيلية لتشمل سورية أو في حال نجاح إيران باستخدام ورقتها الأخيرة والتي تتمثل بنظام الأسد.

أما سياسياً سيتراجع كثيراً الاهتمام الدولي والإقليمي في الملف السوري، وفي كل الأحوال يبدو أن مسار أستانة سيبقى مستيداً للتفاعلات الأمنية في سورية وسيتعزز أكثر مع سياسات مواجهة إيران وهو ما من شأنه الدفع باتجاه انجاز تفاهم أضنة المعدل من جهة، وتعزيز قواعد العمل المشترك بين النظام وتركيا (الأمنية والاقتصادية والسياسية) من جهة أخرى. وستجهد موسكو إلى ضبط إيران ضمن هذا المسار وعدم جعله منصة لتحسين شروطها الإقليمية في إطار النزاع مع إسرائيل.

كما تدلل المعطيات المتشكلة على احتمالية بروز الدور العربي مجدداً، وبالتالي عودة فعاليتها في الملف اللبناني والسوري، وهنا سيعزز النظام مؤشرات التماهي مع خطة التقارب التي يطرحها العرب وبالتالي سيبدي استجابة واضحة لا سيما فيما يتعلق بملف المخدرات، وبهذا يراهن النظام مرة أخرى على تقبله كفاعل "منضبط".

أيضاً؛ توحي عملية إعادة التشكل التي ستشهدها معادلات الأمن والاستقرار في الإقليم بتعزز مقاربة "إعلاء منطق سيادة الدولة" وعدم نجاعة التعاطي مع فواعل ما دون الدولة، فضرورة سيادتها (وفق منهجية الفواعل الإقليمية والدولية) حتى وإن كانت ضعيفة وفاشلة تبقى أقل الأخطار في ظل تعدد الفواعل وتباين المصالح المعقدة، وهذا يعلي من ضرورة إنجاز توافقات إقليمية حيال أزمات المنطقة لضمان عودة الاستقرار وإنهاء مرحلة السيولة الأمنية.

وبهذا الصدد، ينبغي على كافة القوى السورية الوطنية التركيز الاستراتيجي على الاهتمام بالمشروع والخطاب الوطني والعمل على انجاز تفاهمات مع كافة القوى حول المنظور السوري "للدولة" وأولوياتها وأدوارها المحلية والإقليمية، وإنجاز (وتصدير) رؤى وطنية حيال شكل الحكم في سورية بما يجعله ينسجم مع متطلبات التنمية والمشاركة ويتوافق مع الغاية الإقليمية في بناء الاستقرار وصيانته.


 

([1] ) يقصد بالمعادلة الأمنية الإقليمية: الصيغة المعبرة عن توازن القوى في الإقليم وما تستلزمه من تحالفات وتوافقات في إدارة الأزمات، وتتشكل عناصرها من فواعل مؤثرة + سياسات أمنية + قواعد تعاطٍ، وهي بطبيعة الحال تبقى انعكاساً لشكل النظام الدولي.

كما يعتمد المقال التحليل الأمني باعتباره مدخلاً مهماً في فهم تفاعلات الدول من جهة، ومقارباتها حيال أزمات المنطقة من جهة ثانية، ويرتكز هذا التحليل على النظرية الواقعية التي ترى أن المخاطر العسكرية لا سيما الخارجية هي أبرز تهديد لأمن الدول، وترصد مؤشري التهديد واستخدام القوى والسيطرة عليها باعتبارها من ابرز مؤشرات فهم التفاعلات الأمنية التي تتم في بيئة فوضوية فيها صراعات مركبة تجعل من فكرة  الحرب احتمالية قائمة.

التصنيف مقالات الرأي

انخرط حزب الله إلى جانب نظام الأسد في وقت مبكر من الثورة السورية، مدفوعاً بعوامل ذاتية تتعلق بحماية وجوده من جهة، وتفعيلاً لدوره الوظيفي في الإقليم بحسب الاستراتيجية الإيرانية والمصالح الغربية من جهة أخرى.

وقد ترك هذا الانخراط تداعيات ذات أبعاد مركبة شملت الساحة السورية والمشهد الإقليمي والحزب نفسه، فمن جهة عزز تدخل الحزب موقف نظام الأسد في مواجهة قوى الثورة والمعارضة، كما أدى إلى زيادة مستوى التدافع الإقليمي في الجغرافية السورية بأدوات غير مباشرة، إضافة إلى مساهمته في زيادة منسوب التوتر المذهبي في الإقليم.

ولم يكن الحزب خارج هذه التداعيات حيث تعرض إلى تحولات شملت بنيته وهويته ودوره والموقف الشعبي تجاهه.

فيما يتعلق بمسار الحزب المستقبلي في سورية، فإن ذلك رهن لتفاعل المتغيرات الحاكمة للصراع السوري بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية.

وتقدم هذه المقالة، وهي ضمن سلسة مقالات حول الحزب اللبناني في سورية، تقييماً عاماً لتموضع الحزب في سورية من الناحية العسكرية والأمنية الحالية من جهة، كما تحاول توقع دور الحزب المستقبلي من جهة أخرى.

انحصر دور حزب الله في بداية الصراع المسلح على بعض المناطق التي تعتبر مقدسة بالنسبة للشيعة في ضواحي مدينة دمشق وريفها، إلا أنه وبعد تنامي دورها وبروزها في القتال خصوصاً مع دخول حزب الله اللبناني وحركة أمل بشكل مباشر إلى معركة القصير وسيطرتهم عليها، أصبح جلياً أهمية هذه المليشيات للنظام وسبب قدومها ونذكر منها:

  • حاجة النظام الفعلية لنشر قوة برية على امتداد ساحات القتال في المناطق السورية الثائرة وتأمين الحماية اللازمة لمؤسسات الدولة الحيوية والتي لا يثق رأس النظام بحمايتها وحراستها حتى من أبناء طائفته.
  • انشقاقات في المؤسسة العسكرية والشرطية والأمنية في مختلف الرتب وبالأخص المجندين (سُنة).
  • الفرار من تأدية الخدمة العسكرية لمن هم في سن الخدمة الإلزامية والاحتياطية حتى من الموالين للنظام وانسلاخ الأكراد عن الجيش السوري بشكل شبه كامل.
  • انعدام الثقة في بعض أفراد القوات النظامية نظراً لخلفيتهم الدينية (سُنة)
  • الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها القوة البشرية العسكرية في النظام السوري.
  • تحمل هذه المليشيات الشيعية العقيدة الدينية المترسخة التي تقودهم لدعم النظام العلوي والمحافظة عليه لخشيتهم من الطائفة السنية فيما لو استلموا الحكم، وترسيخ هذه الفكرة لديهم من رجال الدين الشيعة الذين يضخون في فكرهم أن القتال في سورية يعتبر من الجهاد المقدس.
  • إغراء عناصر المليشيات الشيعية بالأموال وخاصة أن معظم مقاتلي المليشيات من الفقراء الشيعة سواء أكانوا من إيران أو العراق أو لبنان أو الأفغان وغيرهم.
  • إغراء اللاجئين الشيعة من الأفغان والباكستانيين في إيران بالحصول على إقامات لهم ولعوائلهم في إيران في حال قتالهم في سورية إلى جانب قوات النظام.

حماية الوجود وتطوير الدور

اتخذ حزب الله مقاربة ثنائية إزاء دول الربيع العربي بناءً على علاقته بالأنظمة الحاكمة في تلك الدول وموقفها من المقاومة، ففي حين رحب الحزب بحركات الاحتجاج التي شهدتها مصر وتونس واليمن وحتى ليبيا، تبنى الحزب مقاربة على النقيض تماماً تجاه الحراك الثوري السوري باعتباره مؤامرة تستهدف إسقاط حليفه الاستراتيجي نظام الأسد.

بناء على ما سبق وبتأثير إيراني واضح اتخذ الحزب قراره بالتدخل لتحقيق هدفين رئيسيين:

حماية الوجود: شكل الحراك الثوري تحدياً لإيران والحزب لجهة احتمال سقوط نظام الأسد وما يمثله من خسارة استراتيجية تحد من الدورين الإقليمي لإيران والمحلي للحزب، الأمر الذي اضطر الحزب للتدخل وشرعنته وفق مقولات سردية “المقاومة” لحماية مصالحه الحيوية المعرفة ببقاء النظام بما يضمن له العمق الاستراتيجي واستمرارية الدعم العسكري والسياسي.

أما الهدف الثاني فيتمثل بتطوير الدور حيث وجد الحزب في الحراك الثوري فرصة لتطوير دوره خارج الإطار المحلي من خلال لعب دور متقدم في الاستراتيجية الإيرانية التي تتطلب منه الانخراط بشكل أكبر في الساحات الإقليمية المأزومة وفي مقدمتها سورية، وقد لجأ الحزب إلى سردية “المظلومية التاريخية للشيعة” لتبرير تدخله لحماية الشيعة المضطهدين في سورية. كذلك عمل الحزب على إيجاد تقاطعات مع المصالح الغربية في المنطقة من خلال استغلال المخاوف من “الإرهاب” ليطرح سردية “التطرف السني” ودوره في مواجهته.

أما بخصوص العوامل التي تحدد حجم تدخل الحزب فهي متعددة كالأولويات إذ يتدخل الحزب وفق سلم أولويات محددة ضمن مجموعة عوامل في مقدمتها طبيعة الأهداف التي يتوخى الحزب تحقيقها ضمن المجالين الحيوي الخاص به وبإيران، إضافة إلى الموقف العام الميداني لنظام الأسد؛ وكالمشروعية؛ إذ يطرح الحزب سرديات يبرر من خلالها لجمهوره وللخارج الدور الذي يمارسه في سورية.

وفي هذا المجال فإن الحزب يتحرك ضمن 3 سرديات رئيسية وهي: حماية مشروع المقاومة، محاربة الإرهاب، المظلومية التاريخية للشيعة؛ أما بالنسبة للموارد ورغم بعض التقديرات التي تقول بتزايد موارد الحزب البشرية والتسليحية نتيجة انخراطه، إلا أن ذلك لا يخفي تعرض الحزب لخسائر نوعية وتخوف قيادة الحزب من مخاطر الاستنزاف على المدى الطويل وفي ساحات مفتوحة؛ أما بخصوص البيئة الإقليمية والدولية: يتعاطى الحزب بواقعية مع مصالح الفاعليين الإقليميين والدوليين في سورية، ويعمل على إيجاد تقاطعات مصلحية معها كما في مسألة الحرب على الإرهاب التي تشرعن تدخله من جهة وتحدد حجمه في مكان آخر.

أما عن مراحل تدخل حزب الله فيمكن تقسميها بحسب التوجه العام الذي انتهجه الحزب وهو يتقاطع مع التوجه الإيراني، والذي يمكن تقسمي إلى:

الدور الاستشاري (2011 – 2012)

الحزب لم ينحز فوراً إلى الخيار العسكري في سورية، إذ حاول في البداية إيجاد حل سياسي بمساعدة حركة حماس الفلسطينية التي توسطت في عام 2012 لمحاولة إبرام اتفاقية تقاسم للسلطة في سورية، بيد أن هذا الجهد تعثّر حين اشترطت الحكومة السورية أن تضع المعارضة سلاحاً أولاً.

وبحسب دراسة نشرها مركز غارنغي، فإن نائب قائد الحرس الثوري الإيراني حسين همذاني الذي قُتل قرب حلب في أكتوبر (تشرين الأول) 2015، تحدث في مذكراته عن أنه في ربيع عام 2012، طلب منه المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، التشاور مع زعيم الحزب حسن نصر الله الذي قيل إنه كان مسؤولاً عن سياسة محور المقاومة في سورية. وكان نصر الله التقى خامنئي في طهران في أواخر 2011 لاتخاذ قرار حول التدخّل، أي بعد 9 أشهر من انطلاق الأزمة السورية. ثم عاد إلى بيروت لبدء الاستعدادات، بسبب الحاجة إلى تأطير هذا التدخل على نحو ملائم في المشهد السياسي اللبناني الذي كان يعيش أصلاً حالة استقطاب حادة.

نفى الحزب مع انطلاق الأحداث في سورية عام 2011 أكثر من مرة مشاركته بالقتال هناك، ومن ثم اعتمد سياسة لإعلان ذلك تدريجياً. فأشار في المراحل الأولى إلى أن «مواطنين لبنانيين» هم من يشاركون في المعارك دفاعاً عن بلداتهم الواقعة على الحدود بين البلدين. ثم انتقل لتأكيد مشاركة عناصر منه في هذه المعارك تحت عنوان «حماية القرى اللبنانية» الحدودية مع سورية. وبعدها برّر القتال بحماية «المقامات المقدسة» لدى الشيعة، ثم حسم الموضوع بالإعلان الواضح عن المشاركة في معركة القصير في مايو (أيار) 2013.

سنة 2013، وفي ذكرى حرب يوليو (تموز)، قال نصر الله: «إذا كان عندنا ألف مقاتل في سورية فسيصبحون ألفين، وإذا كانوا 5 آلاف فسيصبحون 10 آلاف. وإذا احتاجت المعركة مع هؤلاء التكفيريين ذهابي وكل (حزب الله) إلى سورية فسنفعل».

تنامي الدور الميداني (2013 – 2016)

شارك الحزب بعد ذلك في معارك ميدانية بأعداد رمزية، لكن هذه المشاركة توسّعت في عام 2013 عندما شن النظام هجمات منسقة على مدن وبلدات القلمون وريف حمص المحاذي للحدود اللبنانية، وتحوّلت المشاركة الرمزية إلى مشاركة فعلية، وأصبح الإعلان عن قتاله في المعارك ضرورة ملحة، نظراً لأن عناصره سيتولون المهمة الأساسية في بعض تلك المعارك، فلجأ إلى ترويج دعاية تقول بأن هناك قرى في هذه المناطق يسكنها لبنانيون شيعة يتعرّضون للخطر من قبل من يسميهم التكفيرين، ثم انتقل بعدها للحديث عن تدنيس مقامات وقبور آل البيت المدفونين في أنحاء متفرقة من سورية، داعياً عناصره للدفاع عن “العتبات المقدسة”، وهي دعاية شملت جميع المليشيات الشيعية الأجنبية المدارة من قبل إيران، قبل أن تختفي هذه الرواية من الخطاب السياسي في عام 2014، رغم أنها بقيت حاضرة في صفوف الحاضنة الشعبية لغايات حشد المقاتلين وتبرير الخسائر البشرية بينهم.

تصاعد عدد مقاتلي الحزب في سورية بشكل تدريجي، كما يُعتقد أنه تأرجح صعوداً ونزولاً، حيث كان في أوجه خلال عامي 2014 و2015، عندما كان النظام السوري في أضعف حالاته قبل التدخل الروسي. أما اليوم فيعتقد أن الحزب لديه ما بين 2000-4000 مقاتل داخل سورية

ولم يكن خيار الاستمرار في المشاركة الصامتة متاحاً للحزب، لعدّة أسباب، أهمها الخسائر البشرية المتوالية للحزب بالتوازي مع محدودية الحاضنة الشعبية له في بلد صغير أصلاً، وبالتالي فإنّ مشاركته في سورية سوف تتحول لقضية رأي عام، خاصة في ظل انقسام كبير في الوسط السياسي اللبناني تجاه نظام الأسد. كما يُعتقد أن إيران دفعت باتجاه التموضع العلني، بعد اتضاح عدم قدرتها على حسم المعركة خلال أسابيع أو أشهر، وبالتالي دفعت الحزب لتقديم رواية كاملة للمشاركة ودوافعها، بدلاً من السماح للآخرين بصناعة هذه الرواية.

التكيف والبقاء (2017 – 2021)

وجدت قيادة حزب الله مع مطلع عام 2018 أنه لم يعد هناك الحاجة إلى الكمّ الكبير من المقاتلين والوحدات على الجبهات السورية وعمدت إلى التركيز على التمركز في مواقع السيطرة المطلقة ذات الفائدة الاستراتيجية للحزب، ما دفع الحزب إلى إعادة الكثير من مقاتليه إلى لبنان، ويمكن ربط عملية سحب القوات مع انتفاء الحاجة العسكرية إليها، ومع العقوبات التي فرضت على الحزب، التي تجبره على اتخاذ إجراءات وقائية وتقشفية.

مع نهاية عام 2018 نفذ حزب الله أول عملية إعادة تموضع، من مناطق بمحيط حلب، وإدلب، وشرق سورية، وحتى حمص، باتجاه غرب سورية، والعاصمة دمشق. وأصبح ثقل وجوده وتمركزه يتمحور في محيط العاصمة، وريفها، والقلمون وصولاً إلى ريف حمص من الجهة اللبنانية، وتحديداً مدينة القصير، التي أصبحت قاعدة عسكرية أساسية وكبرى له. لكن إعادة التموضع هذه، لا تعني أن الحزب ترك نقاطه السابقة بشكل كامل، إنما احتفظ بنقاط مراقبة أو فرق إستشارية عند كل نقطة حساسة، على نحو يشرف مسؤول من قبله على مجموعات سورية أصبحت هي الممسكة بزمام الأمور على الأرض.

في عام 2019 عمل الحزب على تعزيز أدوار أبناء المنطقة الأصليين، مقابل الإشراف عليهم ودعمهم ومساعدتهم، حيث أن قيادات الحزب تدرك بشكل كامل على أن البقاء في تلك المناطق لن يكون طويلاً أو أبدياً. والغاية الأساسية تبقى بالحفاظ على النفوذ والتأثير. وبذلك، يخفف الحزب من الأعباء والتكاليف المالية والبشرية، مقابل الاحتفاظ بالقوى الموالية التي تصون مناطق النفوذ، وتضمن الحضور في أي مفاوضات تنطلق للبحث عن حلّ للأزمة السورية.

إذاً: في المرحلة الأولى استطاع حزب الله اللبناني من تحقيق مكاسب كبيرة من التجربة على المستويين العسكري والإقليمي. فبالرغم من مقتل أكثر من 1600 وجرح أكثر من 5000 من العناصر المقاتلة للحزب، بحسب تقديرات، فإن الحزب قد تمكن من رفع المستوى القتالي لآلاف آخرين من خلال مشاركتهم في المعارك. كما حول الحزب سورية إلى “حقل تجارب” مفتوح لمختلف الأسلحة، و”ميدان تدريب” كبير لآلاف المقاتلين على تكتيكات لم يعتدها الحزب من قبل، فهذه الحرب هي الأولى من نوعها التي يخوضها الحزب منذ تأسيسه، حيث يقف مقاتلوه في موقع الهجوم، لا كما اعتاد في حروبه السابقة مع إسرائيل.

إلى جانب ذلك، فإن قيادات الحزب العسكرية، قد تمكنت للمرة الأولى من خوض معارك جنباً إلى جنب مع القوات الروسية، كما حدث في معركة تدمر في مارس/آذار الماضي، حيث تمكن قادة الحزب ومقاتلوه من التعرف على التكتيكات والاستراتيجيات العسكرية المتقدمة التي يستخدمها الروس، إلى جانب إلقاء نظرة عن قرب على آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية.

ولكن يبقى التحدي الأكبر للحزب الأن هو كيفية تثبيت مكاسبه في سورية في مرحلة ما بعد الصراع وخاصة في ظل العقوبات على النظام السوري والضغط الإسرائيلي على حليف الحزب الأول في سورية وهي إيران.

 

المصدر: السورية نت https://bit.ly/3uj2s7C 

التصنيف مقالات الرأي

تمهيد

تصرح جميع الدول المجاورة لسورية بشكل يومي عن تزايد حالات الإصابة بالفيروس، بينما استمر النظام لفترة  بنفيه بوجود إصابات ؛ نفي يدحضه من جهة أولى العديد من المصادر التي أكدت  أن فيروس كورونا انتشر بصورة رئيسة بمحافظات دمشق وطرطوس واللاذقية وحمص السورية وتم تسجيل إصابات كثيرة ووفاة البعض من المصابين ووضع آخرين منهم بـ "الحجر الصحي"، ناهيك عن إعلان العديد من الدول عن حالات إصابة لوافدين من سورية كوزارة الصحة الباكستانية التي أعلنت عن تسجيل 8 إصابات لأشخاص قادمين من سورية؛ ووزارة الصحة اللبنانية أعلنت عن 4 حالات قادمة من سورية؛ ويدحضه من جهة ثانية استمرار حركة العبور للايرانين والميليشيات الأجنبية ومئات الحجاج في ظل ما تشهده إيران من تفشي متزايد لأعداد المصابين. وامام هذه المعطيات أضطر النظام بنهاية المطاف إلى الاعتراف غير الشفاف لأعداد المصابين (حتى تاريخ إعداد التقرير كان العدد 10 حالات ووفاة حالتين).([1])

إجراءات متسارعة لـ"بنية معتلة"

في النصف الثاني من شهر آذار بدأ النظام في فرض حظر التجول الليلي؛  وتم فرض حظر التجوال في البلدات والمدن الرئيسية؛([2]) يعكس هذا الاجراء السريع الذي لجأ له النظام مباشرة حالة انعدام الخيارات الاحتياطية الأخرى لعدم امتلاكه لها  لا سيما على الصعيد الصحي؛ إذ أنه ووفقاً لـ" تقرير" LSE  فإن سورية لديها حالياً 325 سريراً من وحدات العناية المركزة المتاحة، مما يتيح للنظام من استقبال 6500 حالة من المصابين بالفيروس كحد أقصى في كافة مناطق سيطرته. وهو ما يوضح اختلال سياسات قطاع الصحة عموماً، ومما يضاعف هذا الافتقار هو حالة الاستنزاف شبه الكلية لموارد الدولة لصالح العجلة العسكرية الأمر الذي انعكس ارتكاساً وظيفياً لبنى الدولة ومؤسساتها، مما يجعل مناطق سيطرته أرض خصبة لتكاثر الفيروس وإصابة أعداد كبيرة من المدنيين.

وبتفحص الإجراءات الرسمية المتبعة كطرق احترازية نجد أنها كانت حزمة من الإجراءات الإسعافية الحكومية التي اتسمت بأنها شكلية وتفتقد إلى آليات متابعة وأدوات ناجعة للتطبيق.  فإغلاق جميع المعابر أمام حركة القادمين من لبنان باستثناء سيارات الشحن؛ لم يتم الالتزام به؛ واغلاق كامل الحدود السورية العراقية لم يلحظ في الحدود البرية بين العراق ومحافظة دير الزور، حيث تؤكد مصادر وحدة المعلومات في المركز أن المعبر لا يزال حركة من وإلى حتى تاريخ إعداد التقرير؛ ولايزال حزب الله النجباء هو المسيطر الأساسي على المعبر؛  كما ان إجراء تعليق الرحلات مع كل من العراق والأردن لمدة شهر و"الدول التي أعلنت حالة الوباء" لمدة شهرين، وإجراء الحجر الصحي للقادمين من هذه الدول لمدة 14 يوماً؛ تم الالتزام به من جهة الأردن ولكن من جهة العراق لم يتم الالتزام به ويعود ذلك إلى سيطرة قوات الحشد الشيعي الموالية لإيران على النقاط البرية مع سورية.

عملياً؛ لا يمكن للنظام إغلاق الحدود باتجاه حركة حزب الله من الحدود اللبنانية أو باتجاه الايرانيين والميليشيات الأجنبية فهذا أمر عائد لتقديرات إيران العسكرياتية؛ ربما يتم الاتجاه من ضبط حركة العبور دون أن يعني إلغائها وهذا يشكل تهديداً صحياً على الحواضن الاجتماعية التي تنتشر فيها الميليشيات الايرانية والأجنبية

ومن الطرق الاجترازية التي ترتجي تخفيف التجمعات؛ لجأت حكومة النظام  إلى استصدار سلسلة من القرارات كقرار تعليق الدوام بالمدارس والجامعات، دون إيجاد طرق افتراضية ناجعة بحكم ضعف الاتمتة عموماً في مؤسسات الدولة؛ ومن بين القرارات تخفيض حجم العاملين في القطاع الإداري إلى حدود 40%، وتخفيض ساعات العمل واقتصارها على الفترة الممتدة من 9 صباحا حتى 2 ظهرا، وإلغاء نظام البصمة اليدوية لمدة شهر؛ كما صدر المرسوم الجمهوري رقم 86 لعام 2020 القاضي بتأجيل انتخاب أعضاء مجلس الشعب للدور التشريعي الثالث المحددة بموجب المرسوم رقم /76/ لعام 2020 بتاريخ 13/4/2020، إلى يوم الأربعاء الموافق لـ 20/5/2020 م ؛ كما عطلت وزارة  العدل  المحاكم والدوائر القضائية حتى 16 نيسان 2020. وأقفت وزارة الداخلية  العمل في تسجيل واقعات الأحوال المدنية ومنح البطاقات الشخصية والعائلية لذات التاريخ؛ كما تم إيقاف كل وسائل النقل الجماعي العام والخاص داخل المحافظات وبينها إلا أنه لم يلتزم بهذا القرار أيضاً؛ وفي 2 نيسان تقرر عزل منطقة السيدة زينب في محافظة ريف دمشق.

تتراوح نسب الالتزام في التطبيق لهذه القرارات؛ فالقرارات المرتبطة بحركة المواطنين وتقليص حركتهم لم يتم الالتزام بها؛ إذ أن هناك انعدام  في الخيارات البديلة؛ كما يلحظ ترهل "أجهزة"النظام في تطبيق بعض القرارات مما يؤكد استهتار النظام بالتعاطي مع هذه الجائحة

تداعيات وتحديات جمة

اتخذت حكومة النظام على المستوى الصحي سلسلة من الأمور الاحترازية التي ترتجي تغطية سوء السياسات الصحية خلال العقدين الماضيين؛ فقد حددت وزارة الصحة مراكز الحجر الصحي في المحافظات للعناية ومراكز للعزل الطبي لعلاج الحالات المصابة بالفيروس، وبلغ عدد هذه المراكز 21 مركزا في 12 محافظة وهو عدد لايمكن اعتباره مؤهلاً للتصدي للفيروس في إحدى المحافظات المكتظة بالسكان كدمشق ؛ كما تؤكد التقارير المحلية على أنها مراكز غير مؤهلة للحجر الصحي إطلاقاً.

كما قامت الوزارة بإنشاء مستشفيات ميدانية في حلب وحمص ودمشق وتجهيز صالة الجيش الرياضية في دمشق لحجر المصابين وكلية الفنون في مدينتي حلب وحمص.  والجدير بالذكر أن منظمة جهاد البناء الايرانية بدورها قد أنشات مراكز صحية دون تواجد أي آجهزة للكشف؛ كما تم تجهيز معسكر الطلائع في مدينة دير الزور كي يكون مكاناً للحجر، تحت إشراف مباشر من فصيل "القوة 313" وحزب الله اللبناني.

أما على المستوى الاقتصادي؛ فقد أعلن مصرف سورية المركزي عن خفض ساعات الدوام الرسمي ضمن المصرف وفروعه في المحافظات، وفي المصارف وشركات الصرافة، أصدر تعميماً  للمصارف يسمح لها بإغلاق عدد من أفرعها، شريطة ألا يقل عددها في المحافظة الواحدة على فرعين، وتخفيض عملياتها المصرفية، وتنظيم دوام العاملين فيها بالحد الأدنى. كما تم اقتصار تداول الأسهم في سوق دمشق للأوراق المالية على يوم واحد فقط أسبوعيا وهو يوم الاثنين. من جهة أخرى تقرر تسيير سيارات محملة بالخضار والفواكه من أسواق الهال في المحافظات إلى الأرياف ومراكز المدن لتأمين متطلبات المواطنين منها وتوفير المحروقات اللازمة لضمان عمل هذه الآليات.  إلا أنه لم يتم الالتزام به وتم استغلاله من قبل شبيحة النظام ورفع أسعار السلع الأولية مما خلق حالة من الفوضى؛

بطبيعة الحال؛ وبحكم قلة الموارد المتاحة للمواطن السوري الذي يعيش انتكاسات سوء الإدارة الاقتصادية؛ فقد ازدادت الضغوطات على المواطنين وتضاعفت إبان أزمة كورونا؛ فازدادت طوابير المدنيين عند مراكز التوزيع للسلع والبنوك. خاصة بعد إن حدد النظام لكل فرد رغيف خبز ونصف، مما أدى إلى زيادة في سعر الخبز في السوق السوداء وبالتالي ظهور فئة جديدة من المستفيدين والانتهازين والذين بدأوا باستغلال النقص في بعض السلع وقاموا باحتكارها ومن ثم إعادة بيعها بأضعاف سعرها الحقيقي. وللحد من أزمة الخبز صرح وزير الاقتصاد السوري إن الوزارة ستقدم المساعدة للمخابز الخاصة ورفعت القيود المفروضة على استيراد الدقيق ولن تقتصر على صناعات محددة مثل قبل، وتعتبر هذه المرة الأولى التي يسمح فيها للقطاع الخاص باستيراد القمح والدقيق.

أما على المستوى العسكري فقد لحظ عدة إجراءات؛([3]) كقيام الجيش الروسي بتطبيق حجر صحي على قاعدته في مطار حميميم كإجراء احترازي، حيث تم منع الحركة من والى القاعدة؛ وقيام الميليشيات الموالية لإيران بنقل كمية من العتاد من قاعدة سعسع باتجاه الشمال، تم تعليل هذه الحركة كإجراء وقائي من الغارات الإسرائيلية، ولكن عملياً  لم تخلي إيران تلك المواقع وإنما تعمل على تخفيف الكثافة البشرية في قواعدها وتقوم بتوزيع المقاتلين على عدة مواقع من أجل الحد من انتشار الفيروس.

من جهتها أصدرت القيادة العامة لجيش النظام أوامر بإنهاء الاحتفاظ والاستدعاء في جيش النظام السوري وقراراً خاصاً  بإنهاء الاحتفاظ والاستدعاء "للأطباء البشريين الأخصائيين([4]). وفي السياق العسكري وفيما يتعلق بانتشار الفيروس لم يتم رصد أي تحرك احترازي من قبل قوات النظام، وانحصر الأمر على قيام الجانب الروسي بإنشاء 3 نقاط طبيه خاصة بعناصره، بالإضافة إلى تواجد 5 مروحيات روسية جاهزة في المنطقة، وهي على الأغلب مخصصة لنقل المثابين الروس إلى مطار حميميم في حال ظهور عوارض الفيروس عليهم.

ملف المعتقلين والمصير المجهول

من أكثر الملفات التي يخشى عليها من تداعيات أزمة كورونا هو ملف المعتقلين وخطورة إصابتهم بالفيروس؛ حيث أثار العديد من نشطاء المجتمع المدني السوري ومنظمات حقوق الإنسان الدولية قضية عشرات الآلاف من السجناء السياسيين في السجون الرسمية وغير الرسمية في سوريا الوباء الحالي؛ في بيان صدر بتاريخ 18 آذار / مارس، طالب أعضاء من كتلة المجتمع المدني في سورية اللجنة الدستورية بوضع الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين في السجون السياسية أولوية في الوقت الحالي، كما طالبوا بإنشاء بعثة للأمم المتحدة لمراقبة الأوضاع الصحية في جميع السجون المتبقية.

بالمقابل لم يكترث النظام لتلك المطالبات؛ وقام بإجراءات شكلية لبعض سجون وزارة الداخلية؛ حيث تم إيقاف الزيارات في جميع فروع ومراكز السجون لمدة شهر وتم إصدار المرسوم التشريعي رقم 6 القاضي بمنح عفو عام عن الجرائم المرتكبة قبل تاريخ 22-3-2020. (لم يشمل معتقلي  الرأي  والموقف السياسي والمعتقلين على خلفية الثورة )

من المعروف أن وضع السجون من الناحية الصحية يجعل انتشار الفيروس أمر لا مفر منه وخاصة بعد عدم قيام النظام بأي إجراءات وقائية لحماية السجون واقتصرت إجراءاته بنشر صور ومقاطع توضح قيام بعض المساجين برش مواقع مختلفة من السجن المركزي في عدرا بالمعقمات. ولكن الكارثة الحقيقة تكمن في المعتقلات الأمنية والتي في الوضع الطبيعي لا يمكن الحصول على أية معلومة حول ذلك.

وتشير المعلومات إلى أنه في 13 مارس، تم نقل 9 حالات إلى المشفى العسكري في حمص من السجن، وتلك الحالات ما زالت في المشفى، وكافة الحالات اشتركت بعدة أعراض تمثلت بـ (وهن في الجسم، صعوبة تنفس، ضعف في البصر، وفقدان شهية.) وقد طالبت جمعية حقوق المساجين بالتعرف على تلك الحالات من أجل إخبار عوائلهم، ولكن إدارة السجن لم تبدي تعاون وعللت ذلك إلى خطأ في أوراق التخريج الخاصة بالحالات الصحية وطلبت مراجعة المشفى العسكري، والذي يمنع زيارته من دون تصريح من أحد الفروع الأمنية.([5])

ملاحظات ختامية

من خلال رصد الإجراءات التي يتبعها النظام من جهة؛ وعدم الشفافية في التعاطي مع أزمة كورونا،  يمكن تصدير ملحوظتين رئيسيتين، تتعلق الأولى بإخفاء عجزه البنيوي في قطاع الصحة (كتقنيات وكسياسات) وبالتالي فإن عدم التهويل سيساهم في عدم تأجيج الاحتجاج المحلي الذي تعددت مستوياته سواء اقتصادية أو اجتماعية والآن صحية كما أن هذا الأمر قد يساهم في نشر الذعر داخل جيشه؛ أما الملحوظة الثانية متعلقة بعدم قدرته الاستغناء عن الدور والوجود الايراني المكثف والذي يشكل داعماً مهماً على مستوى الكوادر البشرية.

بموازة ذلك؛ سيستغل  النظام هذا الظرف (تبرير هذا العجر واللاقدرة ) ليكون سرديته أن ما يعيشه من أزمات محلية سببها العقوبات،وهذا عار عن الصحة تماما لأن الخلل بنيوي ومتراكم في ادارة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية منذ عقود، ولأن العجلة العسكرية هي المتحكمة في مسار عمل الحكومة فلو أراد الاستجابة لمتطلبات الداخل لما أقدم على معركة تكلف ملايين الدولارات وإن كان تمويلها خارجي؛  فلا يزال الناظم الرئيسي لحركية النظام مرتبطة بأمرين تحييد الملف الانساني لصالح الهدف الأمني وتحويل كل الاستحقاقات السياسية من اعادة اعمار وعودة لاجئين وتماسك اجتماعي لتحديات حكومية غير مستعجلة وقابلة للتوظيف والابتزاز الدولي.


([1])  أجرت وحدة المعلومات مقابلتين الأولى كانت مع طبيب يعمل في أحد مشافي حمص والثانية مع ممرض يعمل في أحد مشافي مدينة حلب بتاريخ 30/3/2020، ومن أبرز النقاط التي تم التوصل لها من المقابلتين تمثلت بالتالي: معدل الإصابة أعلى وأكثر انتشارا مما تشير إليه الأرقام الرسمية. تم حجر قسم كامل في أحد مشافي حمص لمدة 4 أيام ثم تم نقلهم إلى المناطق الساحلية تحت إشراف مباشر من الشرطة العسكرية الروسية. كما تحاول إيران عن طريق أذرعها المحلية من الاستفادة من الفيروس إلى أقص حد، حيث تعمل على تعزيز علاقاتها بشرائح المجتمع المختلفة عن طريق تأمين مساعدات وسلل غذائيةـ بالإضافة إلى إنشاء نقاط صحية بالقرب من المعابر الحدودية بين محافظة حمص ولبنان (القصير والدبوسية).

([2])  بحسب وسائل النظام الرسمية تم اعتقال 153 شخصا لعدم تقيدهم بقانون الحجر.

([3]) فيما يتعلق بإجراءات الشأن العسكري، أجرى الباحث مقابلتين، الأولى كانت مع أ.ر من جبلة والثانية مع س.س في ريف حماه الشمالي بمناطق سيطرة النظام يوم 1/4/2020.

([4]) وبحسب المقابلات التي أجراها الباحث تبين أن العديد من المنشآت الصحية في المدن التي يسيطر عليها النظام تعاني من نقص حاد بالكوادر الطبية، ولعل قرار تسريح الأطباء هو لسد هذا النقص

([5])  مقابلة مع موظف في جمعية رعاية المساجين في حمص والذي يشرف على سجن المركزي بتاريخ 1/4/2020.

التصنيف تقارير خاصة