واصلت انتفاضة محافظة السويداء شهرها الثامن -حتى شهر نيسان 2024- مطالبة بتحسين الوضع الاقتصادي والانتقال السياسي في سورية عبر تطبيق القرار 2254، وقد نادت المظاهرات بإسقاط النظام وكف القبضة الأمنية عن المدينة مع مطالبات بإغلاق مقرات حزب البعث فيها. يحاول تقدير الموقف هذا الوقوف على ما جرى في السويداء خلال الفترة الممتدة من تموز 2023 حتى آذار 2024، وتفكيك خارطة الفواعل المؤثرة على الحراك، وقراءة امتداده وتأثره بالمتغيرات الأمنية في المنطقة، ودور المرجعيات الدينية فيه، وتلمُّس الاتجاهات المستقبلية للمشهد الميداني في السويداء.
تراوحت رقعة المظاهرات منذ بدء الانتفاضة بين الاتساع والانكماش وفقاً لتغيرات الأحداث الأمنية والميدانية التي يمر بها الحراك في السويداء، كما انعكس تباين مواقف المرجعيات الروحية بعد الشهر الأول على بعض مطالب الحراك، حيث اتفقت تلك المرجعيات على وجوب حدوث الإصلاحات الاقتصادية في المحافظة بينما اختلفت مواقفهم من المطالب السياسية المتعلقة بالإصلاح السياسي وتطبيق القرار 2254.
كان موقف الشيخ يوسف الجربوع الأقرب لسردية النظام في المحافظة([1])، حيث وصف مطالب المتظاهرين السياسية بالخاطئة، فيما تصدَّر المرجعية الدينية الدرزية للمحافظة خلال مناسبات النظام وفعالياته بين شهري آب 2023 وشباط 2024 كمشاركته في عزاء قتلى الكلية الحربية في 12 تشرين الأول 2023 بمدينة حمص([2])، إضافة لاجتماعاته المتكررة مع صفوان أبو سعد محافظ ريف دمشق والمنحدر من السويداء، واجتماعه مع بعض الميليشيات المحلية التي هددت الحراك والمتظاهرين في المدينة وأبرزها لقاؤه مع قائدي ميليشيا "قوات سيف الحق" -رضوان ومهند مزهر- والتي تعتبر إحدى أكبر الميليشيات المتورطة في تجارة المخدرات وحوادث الخلل الأمني في المدينة([3]).
بينما كان موقف الشيخين حمود الحناوي وحكمت الهجري أقرب للحراك الشعبي مع اختلاف حدته تجاه سلطة النظام في المحافظة، إذ شارك الشيخ حمود الحناوي في عدد من المظاهرات وأيد المطالب الشعبية داعياً الشعب إلى المطالبة بحقوقه بصوت "واضح وجريء"، في حين بقي الشيخ حكمت الهجري على سرديته المتمثلة بوجوب تحقيق المطالب السياسية والاقتصادية للمتظاهرين بالتزامن مع دعوته لحماية الحراك من قِبل الفصائل المحلية، وذلك حِفاظاً على السلم الأهلي ومنع تحول المظاهرات إلى صراع عنيف بين المتظاهرين وقوات النظام الموجودة في السويداء.
أدى تباين مواقف المرجعيات الدينية من جهة، واعتماد نظام الأسد خيار اللا حل وتعويله على الوقت في ضمور الحراك بعد عدم اتساع رقعة المظاهرات خارج السويداء نحو درعا أو مدن أخرى تحت سيطرته من جهة ثانية؛ إلى تغير زخم المظاهرات من حيث العدد والانتشار بين قرى المحافظة.
ويُلاحظ في الشكل (1) أن المظاهرات بلغت ذروتها في شهر آب 2023 ثم انحسرت نقاط التظاهر مع مرور الوقت لتتركز بساحة الكرامة في السويداء وبلدتي القريا وصلخد، ويعود سبب الانحسار إلى اتجاه الناس للتظاهر من أرياف المدينة نحو الساحات الأساسية لتكثيف التجمعات خاصة في أيام الجُمع، إضافة إلى عودة الميليشيات المتواجدة في ريفي المحافظة الشرقي والغربي إلى نشاطهم في تجارة المخدرات ونقلها إلى الحدود الأردنية، وتهديد تلك الميليشيات للحراك عدة مرات، لما قد تشكله المظاهرات من تهديد على تجارتهم أو خوفاً من استهدافهم لاحقاً من قِبل المتظاهرين أنفسهم.
بدأت بعض المكونات المجتمعية في السويداء بتنظيم نفسها ضمن كيانات سياسية مع انطلاقة الثورة السورية عام 2011 لكن معظمها بقيت غير فاعلة، وذلك بسبب الخصوصية التي فرضتها المدينة على سلوك نظام الأسد تجاهها، إذ تفادى الدخول في مواجهة مباشرة مع الفصائل المحلية أو المرجعيات الدينية لضمان عدم تشكل جيب جنوبي معارض ضده في البلاد يضم السويداء ودرعا والقنيطرة، بالإضافة إلى عدم قبول تلك الكيانات الانضمام إلى المعارضة التقليدية المتمثلة بالمجلس الوطني بداية ثم الائتلاف السوري لاحقاً، لكن مع تبلور الحراك في السويداء خلال عدة موجات للحراك كانت أطولها التي انطلقت في آب 2023؛ ازدادت فعالية بعض المكونات السياسية في المحافظة وتبلورت مطالبها ضمن 3 محاور: شكل المحافظة إدارياً وعلاقتها بالسلطة المركزية في دمشق، شكل الإصلاحات السياسية المطلوبة، مدى اتساق المطالب مع مطالب ثورة 2011 والقرارات الأممية وخاصة القرار 2254 المتعلق بوجوب الانتقال السياسي في سورية.
يمثل الجدول (1) أبرز الجهات السياسية الفاعلة في المحافظة ومواقفها من المحاور السابقة، إذ يتضح توافق الجهات السياسية على ضرورة الانتقال السياسي وأن الحراك الشعبي في المحافظة يأتي ضمن سردية الحراك الشعبي الذي انطلق عام 2011 بنفس المطالب السياسية والاقتصادية، بينما يكمن الاختلاف السياسي بين تلك المكونات في عدم توافق آرائهم حول موقع السويداء ضمن التركيبة الحوكمية في سورية، إذ يعتبر حزب اللواء الذي تأسس عام 2021 أن تطبيق الفدرلة في سورية هو الحل الأنجع في سبيل الإصلاح السياسي، وتوافقت مع هذا الطرح عدة تيارات سياسية محلية في المحافظة، إضافة إلى ترحيب "مجلس سوريا الديمقراطية" المتواجد في شمال شرق سورية بالطرح الذي يوافق الصورة الواسعة التي تهدف للوصول إليها والمتمثلة بفرض حل الفيدراليات في سورية وتصديرها إلى مناطق أخرى مثل السويداء، مما يجعل سردية "مسد" أقوى في حال استطاعت تصدير تجربتها إلى مناطق أخرى تتميز أيضاً بخصوصية إثنية أو عرقية([4]).
حافظ الحراك الشعبي على مطالبه بالتغيير السياسي ووجوب الإصلاح الاقتصادي، بالتزامن مع سعيه لفك الارتباط بين حزب البعث والدولة في المحافظة، إذ توجه المتظاهرون نحو إغلاق مقرات الحزب بشكل نهائي أو حتى تحويل بعضها لمرافق خدمة في مقابل التأكيد على وجوب حماية مؤسسات الدولة الخدمية التي يجب أن تكون حيادية وغير مشتبكة أو متأثرة بالحراك الجاري.
وقد أغلق المتظاهرون عدة مقرات لحزب البعث في مدينة السويداء وريفها، بلغ عددها 27 مقراً حتى بداية شهر آذار 2024، تم تحويل 10 مقرات منها إلى مراكز خدمية لمواطني المحافظة([5]). وبالمقابل حافَظ نظام الأسد على سردية ربط وجود مقرات الحزب بوجود المؤسسات الخدمية في المدينة، مما دفعه لتخفيض الطاقة التشغيلية لمؤسساته الخدمية رداً على إغلاق مقرات الحزب. ومع استمرار الحراك الشعبي؛ قام المتظاهرون بالتجمع أمام بعض المؤسسات الخدمية وإغلاق بعضها احتجاجاً على دورها الشكلي غير الفاعل في المحافظة([6]).
أما عن موقف القوى السياسية في الحراك، فقد حاولت حماية مؤسسات الدولة والتأكيد على حياديتها وعدم التعرض لها، بينما لجأت بعض التيارات السياسية إلى محاولة صناعة أجسام خدمية وأمنية بديلة في المدينة، حيث أنشأ حزب اللواء السوري بداية قوة "مكافحة الإرهاب" بقيادة سامر الحكيم، ولكن التجربة قوبلت بحملة أمنية شنها الأمن العسكري التابع للنظام أفضت إلى إنهاء القوة ومقتل الحكيم في حزيران من عام 2023([7])، ليُعلن التيار لاحقاً عن إنشاء عدة مكاتب خدمية مثل مؤسسة المياه ومكتب التدخل الطبي السريع والدفاع المدني([8])، ويأتي إنشاء هذه المؤسسات في محاولة من اللواء لفرض فكرة الإدارة الذاتية على الحراك مستغلاً الفراغ الناجم عن غياب النظام خدمياً في المدينة، إلا أن فكرة تلك المؤسسات لم تلقَ رواجاً ضمن التيارات السياسية الأخرى لرفضهم الحل السياسي الجزئي المقتصر على السويداء دوناً عن المحافظات السورية الأخرى.
ارتبط حراك السويداء منذ بدايته بالمتغيرات الإقليمية المتسارعة، ويتجلى هذا الارتباط في ثلاثة محاور أساسية؛ أولها ملف تجارة وصناعة الكبتاغون، وثانيها مسار "التطبيع" مع نظام الأسد، وثالثها تواجد القوات الإيرانية في سورية وازدياد وتيرة الهجمات الإسرائيلية على تلك القوات، كما قد تنعكس أي تغيرات إقليمية مستقبلية على اتساع الحراك أو انكماشه بناء على مواقف الدول المجاورة من السيناريوهات المطروحة. أما على الصعيد المحلي، فتتمثل السيناريوهات المحتملة بثلاثة سيناريوهات: مخاطر طرح فكرة الإدارة الذاتية، قدرة الحراك على فتح مساحات تعاون جديدة داخلياً وخارجياً، الهيمنة على الحراك وتجييره.
يتمثل السيناريو الأول بطرح حزب اللواء لفكرة الفيدرالية في المدينة، والذي يُشكِّل خطراً على الحراك من حيث ربطه بتجربة قسد في شمال شرق سورية والتي فتحت جبهة مواجهة مع الحكومة التركية، كما يخلق هذا الطرح تخوفاً من اعتبار الحراك محاولة انفصالية أخرى في سورية تشبه مطالب قسد بإقامة منطقة كردية مستقلة، ومقوياً لموقفها الدولي في المطلبة بتحويل سورية إلى فيدراليات، مما سيمنح نظام الأسد ورقة لاستخدام العنف في المحافظة من أجل فرض سيطرته على السويداء تحت ذريعة حماية وحدة الأراضي السورية، إذ لم يتبلور لدى نظام الأسد سابقاً مسوغ لاستخدام العنف ضد الحراك نظراً لخصوصية التركيبة الديموغرافية للمدينة من جهة، وتعويله على عنصرين في تراجع الحراك المعارض له، أولهما مرتبط بالجماعات المحلية التي تقوم بدور الزعزعة الأمنية، وثانيهما بالمراهنة على الوقت لانحسار الحراك وتوقفه في حال عجز المتظاهرين عن تشكيل قوى سياسية أو إيجاد صيغة وطنية تنسيقية بين كل المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد.
بينما يتمثل السيناريو الثاني بقدرة الحراك على فتح مساحات مشتركة مع المناطق الأخرى، سعياً لمواءمة المطالب المحلية مع مطالب وطنية تتجاوز جغرافية المحافظات الخارجة عن سيطرة النظام، عبر تحويل المطالب الاقتصادية والسياسية إلى خطاب موحد، قد يُنتج حالة من إعادة تفعيل المسار السياسي أو حتى فتح حوار مع البلدان المجاورة بما يتعلق معالجة تخوفاتها، كطمأنة الأردن التي تعتبر تهريب الكبتاغون من الأراضي السورية أبرز مهددات أمنها القومي وتحاول إيجاد حلول لوقف تدفقه عبر أراضيها.
أما السيناريو الثالث فينطلق من اعتماد النظام على مبدأ اللا حل في ظل استمرار فاعلية خطوط تهريب الكبتاغون في المحافظة، مع عدم توسع حراك السويداء وحصره ضمن المحافظة، مما قد يدفع الميليشيات المحلية المرتبطة بالنظام وإيران إلى زعزعة أمن المدينة في حال أصبح الحراك مهدداً لخطوط التهريب، لكون تلك الميليشيات جزءاً أساسياً من سلاسل توريد الكبتاغون وإنتاجه وتأمين خطوط تهريبه.
ختاماً؛ لا يمكن ترجيح أحد السيناريوهات بمعزل عن المتغيرات الدولية المتمثلة بالحرب على غزة والغارات الإسرائيلية المستمرة على نقاط إيرانية في سورية، ورؤية التيارات السياسية المحلية لمستقبل الحراك والمدينة، فطرح فدرلة الحراك سيواجه رفضاً تركياً حتى لا يكون حراك السويداء ورقة قوة قد تستفيد منها "قسد" لاحقاً، إضافة إلى أن آلية التعامل مع ملف الكبتاغون من قبل الأردن وإمكانية التواصل بينها وبين فصائل محلية مثل حركة رجال الكرامة؛ قد يحمي الحراك ويفتح آفاقاً تعاونية أخرى مع الأردن قد تكون ذات أبعاد اقتصادية أو سياسية في مراحل لاحقة، ويبقى التحدي لدى منسقي الحراك والفصائل المحلية متمثلاً بمدى قدرتهم على تصدير واجهة سياسية تعكس مطالبهم وتكون متسقة مع السياق السوري ككل، في ظل تحول الدول الإقليمية لتتحرك في سورية بدوافع أمنية فقط بعد أن كانت مناصرة للحراك ومطالبه السياسية في وقت سابق.
([1]) مخالفاً المراجع الدرزية: الشيخ يوسف جربوع يؤكد انحيازه إلى النظام السوري، القدس العربي، 30/08/2023، https://bit.ly/3J4naBg .
([2]) يوسف جربوع في حمص لتعزية النظام بقتلى “الكلية الحربية” ، السورية نت 12/10/2023، https://bit.ly/4cHbGRR .
([3]) السويداء: مجموعات مرتبطة بالأمن العسكري تهدّد بقمع الحراك، المدن 09/11/2024، https://bit.ly/3vWaM3q .
([4]) مسد يؤيد مطالب محتجي السويداء بالإدارة الذاتية ويحمل الحكومة السورية مسؤولية الأوضاع المتدهورة، تلفزيون اليوم 21\08\2023 https://bit.ly/4aKKa4C.
([5]) تم رصد صفحات التيارات السياسية وصفحة السويداء 24 وعدة شبكات أخبار محلية ومقاطعة البيانات بينها في الفترة بين شهر آب 2023 وآذار 2024.
([6])محتجون يغلقون عدة دوائر ومؤسسات حكومية، منها مديرية الاتصالات ومديرية الزراعة احتجاجاً على "عدم تجاوب الجهات الحكومية مع مطالب المواطنين في السويداء"، صفحة السويداء 24 على الفيسبوك، 05/11/2023، https://bit.ly/4aGTqpV .
([7]) قوات النظام السوري تدخل معقل «مكافحة الإرهاب» في السويداء، صحيفة الشرق الأوسط، رياض الزين 9/06/2022، https://bit.ly/3VRdSAo.
([8]) صفحة حزب اللواء السوري على الفيسبوك، 19/07/2023، https://bit.ly/3J70pwy .
شهدت محافظة السويداء في آب 2023 عودة المظاهرات المطالبة بتحسين الوضع الاقتصادي والانتقال السياسي في سورية ، وجاء ذلك الحراك بدايةً رداً على رفع أسعار المحروقات وبعض السلع الأخرى، ولكن سرعان ما تحولت المطالب إلى سياسية تُطالب بتطبيق القرار 2254 والمناداة بإسقاط النظام وذلك بتأييدٍ من المرجعيات الدينية التي شاركت في التظاهرات. يحاول تقدير الموقف أدناه الوقوف على ما جرى في السويداء خلال النصف الأول من عام 2023 ، وتفكيك خارطة المطالب المحلية وتأُثيرها على المنطقة الجنوبية، كما سيفند طبيعة السياسات التي سينتهجها النظام وحلفائه (روسيا – ايران) والميليشيات التابعة لهم في المنطقة، وتلمُّس الاتجاهات المستقبلية للمشهد الميداني في السويداء.
شكلت انتفاضة أهالي السويداء في تموز 2022 ضد المليشيات المتورطة في عمليات الخطف وتجارة المخدرات مفترق طرقِ في المحافظة، حيث كانت تلك الانتفاضة مدعومة بشكل كامل من المرجعيات الدينية من جهة وأيضاً رافقتها مظاهرات بسبب سوء الأحوال المعيشية نتيجة قرار رفع " الدعم الحكومي" عن عدد كبير من العائلات في المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد([1]). وكنتاج لتلك الانتفاضة أعادت الميليشيات تموضعها ما بين الفواعل المحلية،فمنها من استمر بالوقوف مع الأفرع الأمنية التابعة للنظام ومنها من انحاز للحراك الشعبي، وقسم التزم الحياد بالتزامن مع تراجع فعاليتها ودورها، ويمكن تقسيم هذا التموضع وفق الآتي ( انظر الجدول رقم 1):
والجدير بالملاحظة في هذا السياق استمرار نشاط المجموعات المرتبطة بإيران بشكل مباشر عبر شعبة المخابرات العسكرية أو بحزب الله اللبناني في محافظة السويداء وريفها، وتعتبر عصب المصالح الإيرانية في المنطقة سواء بتأمين خطوط تهريب المخدرات أو محاولات زعزعة الأمن داخل المحافظة لتثبيت فكرة أن الفوضى الأمنية هي السائدة وأن المحفاظة بحاجة لإعادة دور الدولة الضامنة للسلم المحلي، وتصدير السويداء على أن فيها صراع داخلي قد يتطور إلى حرب أهلية في غياب وجود الدولة.
وبالنظر إلى ديناميات حراك آب 2023 يُلاحظ أن هذا الحراك يختلف عما سبقه فيما يلي:
كان فشل هجوم "تنظيم الدولة" على الريف الشرقي للسويداء عام 2018 سبباً في تغير السياسة الأمنية للنظام اتجاه المحافظة،حيث أبدت الفصائل المحلية تكاتفاً ضد هجوم التنظيم وذلك تحت فلسفة "صيانة الأرض والعرض" التي دعت لها المرجعيات الدينية حينها، تَبعه توكيل مهمة الضبط الأمني إلى اللواء كفاح ملحم (معاون شعبة المخابرات العسكرية حينها ورئيس الشعبة لاحقاً) حيث سعى إلى تفكيك الفصائل المحلية وأبرزها رجال الكرامة والتشجيع على الانشقاق عنها عبر تغذية الخلافات البينية ودعم الفصائل مالياً، ونتيجة لمحاولات ملحم تم عقد اتفاق بينه ملحم و بين تلك المجموعات ينص على "اطلاق الصلاحيات وتولي مهمة التسويات لجل المطلوبين أمنياً وضمهم لمجموعاتهم مقابل عدم المساس بأجهزة الدولة لاسيما الأفرع الأمنية" التي كانت مستهدفة بالحراك الشعبي([3]).
استمرت وتيرة تشكيل جماعات مسلحة محلية تختلف تبعيتها بين شعبة المخابرات العسكرية من خلال فرع الأمن العسكري، وفرع المخابرات العامة (أمن الدولة)، بالإضافة إلى العلاقات المباشرة مع إيران عبر حزب الله أو غير المباشرة معها حتى تموز عام 2022، حيث أطلقت حركة رجال الكرامة وبدعوة من المرجعيات الدينية حملة واسعة ضد العصابات المحلية المُشرفة على الخلل الأمني في المنطقة وأكبرها حركة الفجر بقيادة راجي فلحوط، ونتج عن تلك الانتفاضة تغير في خارطة الفصائل المحلية وأدواتها وفعاليتها وآليات تمويلها ( انظر الجدول 1)، حيث عَمِلت المرجعيات الدينية على اطلاق مسار للمصالحة تستهدف فيه الفصائل التي تورطت في عمليات الزعزعة الأمنية بأن تسلم الفصائل سلاحها المتوسط والثقيل لرجال الكرامة وتُغادر منطقة نفوذها، كما جرت عدة محاولات اغتيال لقادة عدة فصائل فانعكس ذلك على ثِقل الفصيل وفعاليته ضمن الخارطة الأمنية ضمن المحافظة.
ويُلاحظ أن أكثر الفصائل تَمُسكاً بمقراتهم ويُشكلون تهديداً للسلم المحلي في المحافظة هي الفصائل المُرتبطة بإيران أو حزب الله، حيث تشرف تلك الفصائل على خطوط التهريب بالإضافة لقيامها بعمليات الخطف وصناعة المخدرات والاتجار بها ونقلها إلى الحدود، ومن جانب آخر اعتمدت حركة رجال الكرامة وأهالي السويداء بشكل عام على أداة خطف ضباط الأمن مقابل كل حالة اعتقال يقوم بها نظام الأسد سواء على مدخل المدينة أو في العاصمة دمشق، حيث قامت الحواجز في شهر تموز 2023 باعتقال 6 شباب من المحافظة، قوبل ذلك بخطف 35 ضابط أمنٍ من طرف أهالي السويداء حتى تمت مبادلة المعتقلين بين الطرفين لاحقاً.
تتأثر السيناريوهات المتوقعة بعوامل داخلية متعلقة بتركيبة المدينة وبين خيارات النظام بالتعامل مع الحراك الأخير، وعلى الرغم من ضعف المدينة اقتصادياً ولكنها تمتلك ثقلاً مهما لنظام الأسد لا سيما أنها تشكل ممراً أساسياً لتهريب الكبتاغون، إضافة أن تموضعها إلى جانب درعا المماثلة في الحراك المُنطلق في آب 2023 شكل جيباً معارضاً قد يتجاوز الخلافات التي سعى النظام لتغذيتها بين المدينتين خلال سني الثورة،وأهم مايُميز التركيبة الديمغرافية للسويداء أن المجتمع يمتلك بُعداً إقليمياً في فلسطين ولبنان والعلاقة المتينة بين الشيخ حكمت الهاجري من طرف والشيخ موفق طريف رئيس الطائفة الدرزية ووليد جنبلاط من طرف آخر.
لذلك كان منهج نظام الأسد بالتعامل مع المدينة يقوم على أمرين: أولهما عزل المدينة عن محيطها عبر إشعال فتن طائفية ومناطقية بينهم وبين العشائر وأهالي درعا، ثانيهما استبعاد الحل العسكري المفتوح على غرار باقي المدن التي انطلقت فيها المظاهرات، وبالتالي كان سعي النظام وحلفائه يُركز على أن يصبح وجود الدولة المُصاحب لأفرعها الأمنية مطلباً شعبياً في حال ارتفعت وتيرة الصراعات المحلية في المدينة، بالإضافة لإطلاق يد الميليشيات المحلية للزعزعة الأمنية مما يصب في هدفه، وبناء على امتداد المساحة الجغرافية للحراك ووضوح موقف المرجعيات الدينية للمدينة من مطالب المجتمع المحلي، ورغم ما يمتلكه النظام من خيارات إلا انه يمكن مواجهتها بالتمسك بالمطالب السياسية المتسقة مع القرار 2254 من جهة وبسياسات التماسك المحلي من جهة ثانية وديناميات التكاتف الوطني عبر مساندة السوريين لحراك المحافظة من جهة ثالثة، ومن الخيارات المتوقعة لسياسات النظام حيال هذا الحراك نذكر:
لم تتبلور آلية تعامل نظام الأسد مع المدينة حتى الآن على عكس وضوحه سابقاً بالتعامل العسكري مع المدن الثائرة ضده، مما يوحي أن أولوية النظام حالياً تتركز في منع امتداد الحراك أكثر من إيقافه، وذلك يعود لتراجع إمكانياته على ضبط المدن الكبرى بالتزامن مع تراجع اقتصادي وحالة سخط اقتصادية عامة في مناطقه، وبالتالي قد تكون ورقة الحل باستثمار الأدوات الايرانية ( الفصائل التابعة لها) خصوصاً في حال تعرض خطوط التهريب أو القائمين عليه لأي زعزعة تنتج عن محاولات المجتمع المحلي في السويداء الضغط على النظام وحلفائه.
ولكن تبقى خيارات المجتمع المحلي القائم بالحراك واسعة في حال رفع مستوى التنسيق مع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام والحفاظ على سردية الانتقال السلمي للسلطة حسب القرار الأممي 2254، بالتزامن مع إيجاد بدائل محلية في حال أغلق النظام مؤسساته الخدمية في المدينة، وعكس مطالب الحراك إلى تمثيل سياسي خارجي وداخلي يبحث في سيناريوهات أكثر تعقيداً.
أولاً: الخريطة رقم 1 : مقارنة بين عدد نقاط التظاهر والاحتجاج في المحافظة خلال شهر آب 2023 وتلك التي كانت في احتجاجات تموز 2022.
ثانياً: الجدول (1) : العصابات الموجودة في السويداء وتغير نشاطها وأدوارها وتبعيتها بين عامي 2022 و2023
([1])المشهد الأمني في السويداء: قراءة في السياق والمآلات المتوقعة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، يمان زباد 08/08/2022 https://rb.gy/rtqcs
([2])لحظات وصول وفد من عشائر البدو إلى ساحة السير، يوتيوب 24/08/2023 https://www.youtube.com/watch?v=IcSAIMq2oOY
([3])المشهد الأمني في السويداء: قراءة في السياق والمآلات المتوقعة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية