عقب انتهاء أعمال الجولة الثانية عشرة من اجتماع أستانة بتاريخ 25-26 نسيان/أبريل؛ أطلق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من بكين تصريحات منافية لما تم التوافق عليه في الاجتماع، حيث اعتبر أن "احتمال المعركة على إدلب لايزال قائماً غير أن التوقيت ليس مناسباً"([1])؛ لتبدأ بعد تلك التصريحات عملية تصعيد عسكري من قبل روسيا والنظام لم تشهدها منطقة "خفض التصعيد" الرابعة منذ اتفاق سوتشي في سبتمبر/أيلول 2018.
تمثّل التصعيد العسكريّ بقصف جويّ عنيف على عشرات القرى والبلدات في المنطقة، شمل أرياف حماه الشمالي والغربي وإدلب الجنوبي بالتزامن مع حشود عسكرية للنظام ومحاولات للتقدم في قرى ريفي حماه الشمالي والغربي، بالمقابل ردت فصائل المعارضة وهيئة "تحرير الشام" المتواجدة في المنطقة بتصعيد حسب إمكاناتها، وتمكّنت من صد بعض هجمات النظام المدعومة بالطيران الروسي المكثّف معلنة موقفاً حاسماً من التصدي لأي محاولة للتقدم. لتبقى المعارك إلى لحظة كتابة هذه الورقة بين كرّ وفرّ من قبل الطرفين، مقابل تقدم النظام في بعض قرى ريفي حماه الشمالي والشمالي الغربي.
يأتي ذلك التصعيد وسط تنديد أمريكي أوروبي خجول، وصمت لافت من الضامن التركي، الطرف المعنيّ باتفاق سوتشي، حيث بدأت تركيا والفصائل المتحالفة معها بالتزامن مع التصعيد الروسي عملاً عسكرياً بدا محدوداً في ريف حلب الشمالي ضد وحدات الحماية الكردية، مما أوحى بوجود تفاهمات حول ما يجري، أو ما اعتبره البعض "صفقة مقايضة" بين موسكو وأنقرة.
وعليه، تسعى هذه الورقة إلى فهم دوافع موسكو لخرق تفاهماتها مع أنقرة حول منطقة "خفض التصعيد" الرابعة، في الوقت الذي يكاد يسير فيه الملف السوري باتجاه إطلاق العمليّة السياسيّة وطي صفحة العسكرة، مقابل فهم دلالات الموقف الصامت للضامن التركي إزاء هذا التصعيد العسكري على المنطقة. كما تسعى الورقة إلى استشراف حدود هذا التصعيد الروسي عسكرياً وما يمكن أن يفضي إليه من تغييرات في حدود منطقة "خفض التصعيد" الرابعة. إضافة إلى حدوده السياسية وآثاره المحتملة على مستقبل مسار أستانة،
لا يمكن فصل التحرك العسكري لموسكو والنظام في هذا التوقيت عن جملة من المتغيرات على مستوى الملف السوري سياسياً، والتي يمكن أن تشكل دوافع هذا التصعيد الروسي، ولعل أبرزها:
من خلال استعراض العوامل السابقة، والتي يمكن اعتبارها بمجملها دوافع للتصعيد الروسي اتجاه منطقة "خفض التصعيد" الرابعة، يمكن فهم التحرك الروسي على أنه إعلان بداية نهاية مسار أستانة كمسار عسكري تكتيكي بعد فشله بالتحول إلى مسار سياسي وتصاعد الخلافات بين أطرافه، فموسكو تحاول طي صفحة منطقة "خفض التصعيد" الرابعة على غرار سابقاتها من المناطق كخطوة أخيرة باتجاه طي صفحة مسار أستانة، مدفوعة برغبتها في تأمين الطرق الدولية لإنعاش الوضع الاقتصادي المتهالك للنظام، وتأمين قواعدها العسكرية في المنطقة، مستغلةً رفع الفيتو التركي عن المعركة، والناتج على ما يبدو عن تغيّر أولويات أنقرة بعد التقارب مع الولايات المتحدة حول المنطقة الآمنة باتجاه تأمين الشريط الحدودي مع سوريا دون التوغل في العمق السوري.
لا يشير الصمت التركي عن التصعيد العسكري الأخير لروسيا والنظام إلى وجود صفقة مقايضة (منطقة مقابل منطقة)؛ بقدر ما يشير إلى رفع الفيتو التركي (غض طرف) عن عمل عسكري روسي يحقق ما لم تنجزه أنقرة على مستوى ضمان أمن قاعدة حميميم الروسية من هجمات المعارضة، وتأمين ريفي حماه واللاذقية الخاضعين لسيطرة النظام، إضافة لفتح الطرق الدولية وتأمينها عبر دوريات روسية تركية، إذ يبدو أن أنقرة أصبحت معنية أكثر بتأمين شريطها الحدودي بعد ما يشاع عن تسوية خلافاتها مع واشنطن حول المنطقة الآمنة، وبذلك فهي تسعى اليوم لتصفية الجيب الخاضع لسيطرة وحدات الحماية "الكردية" في ريف حلب الشمالي بالتوافق مع موسكو، وهي في هذا الإطار تحاول التنازل عن ملف تفكيك "هيئة تحرير الشام" والمنطقة منزوعة السلاح لصالح موسكو وتوفير جهودها لمعارك ريف حلب الشمالي وترتيبات المنطقة الآمنة، خاصةً وأن جزءاً من فشل أنقرة في تنفيذ بنود سوتشي وأستانة 12 المتعلقة بالدوريات الروسية عائد لعدم قدرتها على ضبط فصائل المنطقة منزوعة السلاح بما فيها "هيئة تحرير الشام"، وهذا ما بدا واضحاً في مواقف تلك الفصائل المتحفظة على اتفاق سوتشي ذاته ([2])، ثم الرافضة لتسيير الدوريات الروسية، إضافة إلى المقاومة الشرسة التي أبدتها فصائل المنطقة المنزوعة السلاح في وجه الهجوم البري الذي شنّته قوات النظام وموسكو.
وعليه يمكن القول بأن الفصائل العاملة في المنطقة التي تتعرض لهجوم موسكو والنظام ليست مُنخرطة في أي تفاهمات روسية-تركية حول المنطقة، وهذا ما سيزيد من صعوبة موقفها العسكري كونها تقاتل دون دعم تركي على المستويين العسكري والديبلوماسي، وفي ظل حملة جوية روسية واسعة وقصف مكثف. وبالمقابل فإن معركة موسكو لن تكون بالسهولة التي اعتادت عليها في معارك الصفقات والتسويات، بحكم أن تلك الفصائل تخوض معركتها الأخيرة.
لا يستطيع أحد التنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع الميدانية في منطقة "خفض التصعيد" الرابعة، وما هو حجم التوغل الدقيق الذي تريده موسكو داخل حدود تلك المنطقة، ولكن من خلال ما تم استعراضه يمكن الوصول إلى الخلاصات التالية، والتي قد ترسم بشكل تقريبي صورة المآلات المحتملة:
خريطة رقم (1): مواقع النفوذ والسيطرة، إدلب وما حولها، 10 أيار 2019
تدفع اليوم منطقة "خفض التصعيد" الرابعة ما دفعته سابقاتها من المناطق كثمن لتراكم الأخطاء السياسية والعسكرية، وعلى رأسها خطأ الانخراط في مسار أستانة، والذي أتاح للنظام الفرصة لالتقاط أنفاسه وتجميع قواه والاستفراد في مناطق "خفض التصعيد" الواحدة تلو الأخرى. واليوم وحتى في بوادر نهاية هذا المسار نتيجة لخلافات الثلاثي القائم عليه؛ فإن نظام الأسد لايزال يستفيد من تلك الخلافات والتي أمنّت ولازالت له العديد من الهوامش التي يتنقّل بينها، فالنظام إلى اليوم يعتاش على خلافات القوى الفاعلة المنخرطة في الملف السوري وذات المصالح المتضاربة.
(1) بوتين: خيار شنّ عملية عسكرية في إدلب يظل قائماً، موقع TRT عربي، 27 أبريل 2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/3047whD
([2]) انظر، ساشا العلو، اتفاق إدلب في حسابات الربح والخسارة: المقدمات والتحديات والمصير، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 12 نوفمبر 2018، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2Rspg4T
([3]) المصدر: وحدة المعلومات في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية.
([5]) ياديون في المعارضة يشرحون ما يحدث في إدلب، جريدة عنب بلدي، 7/5/2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2VnNBM2
([6]) “الغارديان” تتحدث عن ترتيبات بين روسيا وتركيا بشأن إدلب وتل رفعت، جريدة عنب بلدي، 8/5/2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2Jm6isa