مقدمة
في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أطلقت هيئة تحرير الشام عملية ردع العدوان العسكرية، والتي انتهت، بعد أن انضمت لها قوى معارضة أخرى، بسقوط نظام الأسد خلال أيام قصيرة. وقد أتى هذا السقوط السريع نتيجة التأثير التراكمي للتشرذم والانهيار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي تعمق طوال النزاع الذي دام 13 عاماً بعد اندلاع الثورة السورية. بحلول عام 2024، كانت أجزاء كبيرة من الأراضي السورية تتأرجح اقتصادياً على حافة الهاوية، مع وجود تفاوت كبير في إدارة الاقتصاد المتهالك بين المناطق. انهارت معادلة الاقتصاد السياسي المبني على استخلاص الثروات بديلاً عن التنمية، وأدى الأثر المركب لسوء الإدارة والفساد والعقوبات الاقتصادية المباشرة، والامتثال المفرط لهذه العقوبات إلى تراجع مستويات الحياة وسبل العيش، مما شجع على المزيد من الفساد واستخلاص الموارد بطرق غير شفافة وغير قانونية، وأدخل البلاد في حلقة مفرغة من الانهيار الاقتصادي. وفَّر الدعم الإنساني والحوالات المالية في بعض المناطق حداً من سبل البقاء للمجتمعات المحلية، ولكن هذا الدعم لم يفِ بأكثر من الحد الأدنى من متطلبات الحياة. أغلب المجتمعات السورية اليوم تعاني وستعاني من أثار النزاع إذا استمر النظام الاقتصادي يعتمد مبدأ الدعم الإنساني بدلاً من دعم عودة هذه المجتمعات إلى العمل وتعافي سبل العيش فيها.
تسعى هذه الورقة إلى المساهمة في فهم الأوضاع الاقتصادية قبيل انهيار النظام، وتقديم رؤى حول الديناميكيات التي أدت إلى الأحداث المحورية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، والتحديات التي تنتظرنا في حقبة ما بعد الأسد، من خلال الاستعانة بمسح كمي متعدد القطاعات، شمل 1258 عينة، تم جمعها من 253 ناحية مأهولة، (من أصل 271 ناحية في عموم سورية) في ربيع عام 2024، بحسب نسب توزع السكان فيها، مع مراعاة تموضع سكان الحضر والريف وتوزع الأحياء الكبيرة في الريف. يستخدم هذا التحليل تقنيات الارتباط والانحدار بين مختلف المتغيرات التي تم قياسها، مع تصور النتائج من خلال رسم الخرائط البيانية. وعلى عكس عدد من الدراسات التي درست سبل العيش السورية ضمن مؤشرات مستقلة، يستكشف هذا البحث التقاطعات بين سبل العيش والحوكمة والاستقرار المجتمعي. تأتي هذه الدراسة كجزء ثالث لاستكمال نتائج الاستبيان بعد نشر الجزء الأول المتعلق بالحوكمة، والجزء الثاني المتعلق بالخدمات.
ومن المهم أن نؤكد أن الوضع الاقتصادي المزري في سورية تفاقم بسبب الاقتصادات السياسية المتصدعة، التي ولّدها النزاع ضمن المناطق الجغرافية المختلفة، وقد أدت هذه الأنظمة المحلية غير الرسمية في كثير من الأحيان إلى زيادة التفاوتات بين المناطق، مما أدى إلى تآكل شرعية الحكم والثقة العامة في بعض المناطق، بينما عززها في مناطق أخرى. كما أدى إعطاء الأولوية لاحتياجات السوق الآنية العاجلة على حساب الاستقرار الهيكلي الاستراتيجي إلى زيادة تفتت التماسك الاجتماعي، وترسيخ حالة الانقسام. وتحتاج معالجة هذه التحديات خطوات جدية في دمج الاقتصادات المجزأة، والحد من الاستقطاب، وإنشاء أنظمة حكم عادلة لتمهد الطريق إلى استقرار وطني وتعافٍ مستدام.
وبينما تستحق البيانات التي تم جمعها تحليلاً أكثر عمقاً، ومراجعة متقاطعة مع مجموعات بيانات أخرى، فإن هذه الورقة ستركز على تقديم الدروس المستفادة الرئيسة التي يمكن أن تقدمها بطريقة موجزة. وهي بذلك توفر قاعدة معلومات أساسية (baseline) لتتبع تطور الأوضاع مستقبلاً، ولفهم الديناميكيات القادمة بالقياس إلى الوضع السابق. بالإضافة إلى ذلك، تسعى الورقة إلى تأطير المشهد الاجتماعي والاقتصادي لسورية ما بعد الأسد، وتوفير أساس لمعالجة التحديات الحرجة المتمثلة في إعادة الإعمار، وارتباطها بآليات الحوكمة والمساهمة في ضمان عدالة التوزيع واستعادة الحقوق الاقتصادية التي هدرتها سنوات النزاع والفساد والتسلط. وبما أن نتائج البحث تغطي المرحلة المباشرة قبل نجاح قوى الثورة في إسقاط النظام؛ فإن البيانات فيها مجمّعة على أساس منظومات الحوكمة التي كانت سائدة حينها، وهي: 1) منطقة سيطرة النظام البائد وتفرعاتها الأساسية في: 2) السويداء و3) درعا، وكذلك في 4) منطقة سيطرة حكومة الإنقاذ، و5) منطقة سيطرة الحكومة المؤقتة، و6) منطقة سيطرة الإدارة الذاتية في شمال شرق، و7) المنظومة المعدلة عنها في المناطق ذات الأغلبية العربية والمعروفة بالإدارة المدنية. ورغم أن هذه التقسيمات قد تغيرت بشكل كبير بعد 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، إلا أنها مازالت قائمة في أجزاء من البلاد اليوم، وفيما يخص الحالة الاقتصادية فإنها توفر بيانات أساسية لأوضاع السكان المعيشية فيها.
لقراءة الدراسة كاملة: https://bit.ly/4hyaW3y