الدراسات

المسارات

الملفات

الباحثون

التصنيف

تاريخ النشر

-

دون تأكيد من مصادر النظام؛ أشارت عدة تقارير إعلامية صادرة في الأسبوع الأول من شهر آب لعام 2019  إلى إجراء النظام عدة تغييرات  نوعية طالت أهم مراكز القوى الأمنية والتي كان من أبرزها وفقاً لهذه التقارير تعيين رئيس مكتب الأمن الوطني علي مملوك نائباً له للشؤون الأمنية، فيما حل بديلاً عنه في هذا المنصب اللواء محمد ديب زيتون الذي كان يشغل مدير إدارة المخابرات العامة؛ و وشملت التغييرات أيضاً، إحالة رئيس إدارة المخابرات الجوية اللواء جميل حسن إلى التقاعد وتعييّن اللواء غسان جودت إسماعيل خلفًا له؛ كما عيّن اللواء حسام لوقا (الذي كان يشغل منصب رئيس شعبة الأمن السياسي) مديراً لإدارة المخابرات العامة؛ وعيّن عوضاً عنه اللواء ناصر العلي، كما شملت التعيينات وضع اللواء ناصر ديب مديراً لإدارة الأمن الجنائي خلفًا للواء صفوان عيسى.

وفي الوقت الذي لا يعلن النظام عن هذه التغييرات عبر قنواته الرسمية؛ تصدرت هذه التغييرات العديد من مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات الاعلامية السورية وأخذت مساحة واسعة من الاهتمام والتداول بحكم الترابط الزمني ما بين هذه التغييرات وما يشهده المسرح السوري من عقم سياسي وتأزمات معززة لتنامي الاستعصاء؛ وانحصرت تفاسير ودوافع النظام لتلك التغييرات بين اتجاهات ثلاثة مكملة لبعضها البعض:

الاتجاه الأول: "إجراء روتني"؛ فأوامر النقل والترفيع والتسريح والندب والتمديد ( المعروفة باسم النشرة)  تصدر مرتين سنوياً (بأول السنة وبمنتصفها)؛ ويستطيع من خلالها النظام -إذا ما استثنينا عامل العمر والوضع الصحي والتقييم الأمني- إعادة توزيع مراكز القوة وفقاً لمعاييره  وشروطه؛ ففي التغييرات الأخيرة هناك بعض الضباط قد تجاوز السبعين عاماً من العمر وقد تم تمديد خدمتهم لأسباب عديدة أولها منطق "إدارة الأزمة" (كجميل حسن ومحمد ديب زيتون تم تمديد خدمة كل منهما عشرة سنوات ولابد من احالتهما الى التقاعد) ؛ أما بالنسبة لتعيين غسان إسماعيل مديراً لإدارة المخابرات الجوية فيمكن اعتباره "تدرجاً وظيفياً" حيث كان نائباً لجميل حسن؛ وكذلك بخصوص تعيين حسام لوقا مدير إدارة المخابرات العامة حيث كان معاون مدير هذه الإدارة قبل تعيينه رئيساً لشعبة الأمن السياسي.

الاتجاه الثاني: "رسائل شكلية": على الرغم من استمرار النظام بانتهاج ذات السياسة الناظمة لمعايير "النشرة" كمعيار الولاء والإطاعة؛ وسلوكه المهني؛ والخبرة في حماية أمن النظام؛ حرص النظام في هذه التغييرات على تصدير عدة رسائل أهمها الآتي:

  1. الإيحاء "بإعادة التوازن الطائفي" بين مراكز القوة؛ فعين في إدارة المخابرات العامة حسام لوقا (شركسي من السفيرة بحلب) وفي الأمن السياسي ناصر العلي (سني من ريف حلب)؛ بينما أبقى المخابرات العسكرية والجوية بيد ضباط علويين.
  2. التقاعد كوسيلة "مشرفة" لمن أوغل بالإجرام من قبل الثورة وبعدها؛ إذ تعد تلك الوسيلة طريقة بيروقراطية للالتفاف على مطالبات وإدانات المجتمع الدولي لهؤلاء "القادة" بحكم ما ارتكبوه من جرائم مثبتة بحق الشعب السوري.
  3. تعزيز "مخيال قدرة النظام" على التحكم بقطاع الأمن والدفاع أمام العديد من الفواعل؛ إذ يطمح أيضاً من وراء تلك التغييرات إبراز مساحة تحكمه أمام "افتراضات الانقسام الافقي والعمودي" لهذا القطاع لصالح الشبكات الروسية والإيرانية.

الاتجاه الثالث: "المرونة أمام متطلبات الحلفاء": إذ باتت واضحة رغبة موسكو بإعادة تنظيم قطاع الأمن والدفاع وتحسين أدائه، ولا تمتلك دوائر صنع القرار عند النظام إلا إبداء المرونة والتكيف مع هذا التوجه الروسي؛ حيث قامت موسكو بإيفاد عدد من ضباط النظام إلى موسكو لإجراء دورات أركان في اختصاصات الدفاع الجوّي والآليات والمشاة، كما دفعت بإجراء سلسلة من التعيينات في وزارتي الدفاع والداخلية، طالت أكثر من 100 ضابط بمناصب حساسة منذ مطلع عام 2019، كما تمت تنحية عدد من الضباط بذريعة بلوغهم السن القانوني للتقاعد، في حين تمّ تهميش المحسوبين على إيران تحت ذريعة انتهاء أدوارهم العسكرية، وخاصة في الثُكنات المُحيطة بدمشق.

عموماً: إن التوصيف الأكثر موضوعية لتلك التغييرات هي المحاولة لإعادة تشكيل حذرة لمراكز القوة في قطاع الأمن والدفاع بما يخدم فلسفة النظام الحاكم بإبقاء هذا القطاع كأداة تأثير وقوة يتحكم بها ويضمن ضبطها وتوجيهها من جهة؛ ويعطي إيحاء "بتعديل ما" لن يكون إلا شكلياً من جهة ثانية، وهذا الأمر لا يزال خاضعاً لعقبات بالغة الصعوبة.  وينبغي على المعارضة السورية (سواء الرسمية وغير الرسمية) وكافة القوى الوطنية المطالبة بالتغيير؛ أن تعتمد في تعاطيها مع ملف التغييرات استراتيجية "التمسك بضرورة التغيير الشامل والجذري"؛ وذلك من خلال ثلاثة أدوات رئيسية:

  1. الأداة التفاوضية: عبر إصرارها بأن عملية التغيير هي عملية مرتبطة بالبنية والوظيفة والفلسفة المتحكمة في عمل هذه الأجهزة وينبغي أن تكون موجهات ومحددات هذا التغيير مضمونة دستورياً ويرافقها العديد من الإجراءات المتعلقة بالترابط ما بين هذا الملف والتغييرات القانونية من جهة؛ وما بينه وبين مبدأ العدالة والمحاسبة من جهة ثانية؛ وهذا يتطلب بطبيعة الحال تبني رؤية تنفيذية للتغيير؛
  2. الأداة الحقوقية: وهذا يتطلب تظافر العديد من الجهود الوطنية لمواجهة طموح النظام في الافلات من العقوبة؛ واستمرار العمل في توثيق جرائم وانتهاكات تلك الأجهزة (كبينة وكقادة)؛ وهذا الأمر يتطلب وجود مؤتمر سنوياً للعديد من المنظمات الحقوقية الوطنية وأجندة سنوية متسقة مع هذا الهدف؛
  3. الأداة البحثية والاعلامية: لا تزال المهمة البحثية والاعلامية الأكثر إلحاحاً في الملف السوري محصورة في الدفع باتجاه إحداث القطيعة مع الإرث الماضوي لعمل وفلسفة عمل قطاع الأمن والدفاع، وبلورة سياسات تعيد تصميم الهندسة الاجتماعية فيه وفقاً لمعايير احترافية ووطنية بعيدة عن الأدلجة السياسية والمقاربات السلطوية؛ وانتاج خطط موضوعية باتجاه إعادة بناء هذا القطاع كليةً وقوننة العلاقات المدنية الأمنية.

يغيب النظام قسراً كل أسئلة التغيير الوطنية الدافعة باتجاه استقرار مستدام، ويكتفي بإجراءات بيروقراطية ورسائل لا وزن لها وغير مؤثرة في طبيعة الحركة المستقبلية لهذا القطاع والذي يمضي بتسارع نحو مجمع ميليشياوي بزيّ عسكري "رسمي"؛ وأمام هذا التغييب لا بد من التنويه مجدداً -استراتيجياً-على الضرورة الملحة لتبني المعارضة وقوى الثورة والتغيير لاستراتيجية صادة لمحاولات النظام الطامحة لإفلاته من العقاب وللإيهام بإجرائه تغييرات تضلل المجتمع المحلي والدولي عبر بوابة "تغيير سلوكه". فجلّ التغييرات التي حصلت والتي ستحصل ستبقى أسيرة محددات تحكمه بالسلطة وإعادة ضبط قطاع الأمن والدفاع وفق ثنائية (المصلحة والمرونة) التي تهيئ له الشروط لإعادة انتاج شبكاته بتغييرات شكلية ولا تتعارض مع ضغوطات حلفائه الرامية لتطبيق منهجيتها في إعادة التشكل.

التصنيف أوراق بحثية
الأربعاء, 11 تموز/يوليو 2018 15:04

معن طلاع | معركة درعا ومدلولاتها

في إطار برنامجه الإخباري التحليلي (الساعة الأخيرة) استضاف تلفزيون العربي الباحث معن طلاع بتاريخ 9 تموز 2018، للحديث حول معركة درعا ومدلولاتها، وبيّن الباحث عبر مداخلاته: " أن ما تمر به جغرافيات المعارضة السورية من انهيارات عسكرية وسياسية يعود لتظافر مجموعة من العوامل سواء المتعلق بسياق تطورات المشهد السوري وما مر به من انعطافات وتحولات ارتدت سلباً على الصراع المحلي وعلى التعريف الناظم للعملية السياسية ناهيك عن التدخل الروسي وآثاره وما استتبعه من تغيير المواقف السياسية للعديد من الفواعل الإقليمية والدولية؛ أو سواء تلك العوامل المتعلقة بالأسباب الذاتية لتقهقهر المعارضة السورية التي لم تسعى لخلق هوامش تستعيد فيها زمام امتلاك القرار بالإضافة لعدم تدافعها لإنجاز سياسات عسكرية وتفاوضية موحدة  توقف استنزاف بناها الإدارية والمدنية والعسكرية.

 

 

حركة سياسية ثقيلة، عطالة ذاتية، أخطاء متراكمة متزايدة، بوصلة عمل مشتتة، فقدان القرار الوطني المستقل، تأجيل الامتحانات والتحديات، تلك هي السمات الأبرز للأداء السياسي للمعارضة السورية خلال سنين الثورة السورية، ذاك الأداء الذي ابتدأ سيره من جديد إبان اندلاع ثورة الكرامة والحرية في سورية بعد أن كان في حالة سكون وظيفي قبيلها، فتحفز واستلهم من هتاف ومظاهرات الثوار موجبات حركته، مجددًا الأمل بفاعلية سياسية تنهي حكم النظام القائم وتؤسس لانتقال سياسي يخلق مناخات حرية الاختيار والتعبير وتحرر الإرادة الشعبية ويضمن لها مشاركة فعالة في صنع قرار بلدهم وبناء مؤسساتها وفق فلسفة الكفاءة والحرفية وتعزز من سبل تنمية مواردها البشرية والاقتصادية.

"لم تنجح المعارضة السورية في التحول من كيان سياسي شبه حزبي معارض، إلى مؤسسة حكم قادرة على قيادة الثورة والتأثير بمجرى الأمور على الأرض"

إلا أنها ومنذ اللحظات التنظيمية الأولى حتى يومنا هذا لم تنجح المعارضة السورية بأن تكون على مستوى تطلعات الثورة وأهدافها، ولم تنجح في التحول من كيان سياسي شبه حزبي معارض، إلى مؤسسة حكم قادرة على قيادة الثورة والتأثير بمجرى الأمور على الأرض.

فحتى هذه اللحظة لا تزال الممارسة السياسية للقوى المكونة للمعارضة تعكس خلطًا بين أدوات ومفاهيم العمل السياسي الحزبي المعارض (الذي اعتادت عليه تاريخيًا) ومفاهيم وأدوات الحكم وممارسة السيادة.

صحيح أن جل أسباب التعثر السياسي ترتبط بعوامل خارجية تتعلق بطبيعة المقاربة الأمنية الدولية السائدة لحل الأزمة السورية، وصحيح أيضًا أن سياق التحولات السياسية إقليميًا ودوليًا ساهم بشكل وبآخر في تغيير تموضع المعارضة لا سيما بعدما غدت الجغرافية السورية "مسرحًا جيوسياسيًا" ترتجي الفواعل الدولية والإقليمية تحويله لـ"بوابة تدخل" يسهم في تكوين نظام سياسي إقليمي يراعي شروط تلك الفواعل ومشاريعها السياسية ، إلا أن الأسباب الذاتية للأداء السياسي الكارثي حاضرة وبقوة، ولا يمكن إغفالها لأن اتساق الحركة وانسجامها مع الأهداف الاستراتيجية لطالما ارتبطت ارتباطًا عضويًا في بنية الجسم السياسي وفواعله ونجاعة أدائه العام.

انبثقت أولى الاعتلالات الوظيفية لأجساد المعارضة مع عدم بنائها وفق قواعد تمثيلية حقيقية، مُحدثةَ شبه قطيعة مع جلّ الهيئات المدنية والثورية في الداخل السوري، فحاولت ولأسباب تتعلق بفهم المعارضة آنذاك باقتراب سقوط النظام، أن تحاكي شكلًا تجربة المجلس الوطني الانتقالي الليبي أولًا، ثم تدارك ذلك الاستعجال بالائتلاف الوطني للمعارضة وقوى الثورة كجسم يدير شؤون "المرحلة الانتقالية"، وبهذا تم إنتاج أجسام بعمر افتراضي قصير، ووظيفة سياسية وإدارية تجاوزها السياق العام للمشهد السوري، وقوى تقليدية غير قادرة على القيام بسلوكيات رجال الدولة وتمتهن الطروحات الشعاراتية فقط.

وحتى ما قام به الائتلاف من عملية توسعة (معادلة كفة الإسلاميين بديمقراطيين) أتت لتتوافق مع المزاج الدولي الدافع باتجاه عملية تفاوض سياسية في جنيف أكثر مما تمليه ضرورة الإصلاح والتماهي مع الداخل السوري الثائر وما يتطلبه من احتياجات تتفاقم وتزداد شدتها مع بدء ظهور التنظيمات المتطرفة، فلا أدار ملفاته التفاوضية باقتدار وحرفية، ولا اتبع استراتيجية تفاوض واضحة.

"المراهقة السياسية التي مارسها الائتلاف في بداية تشكيله و"نجاحه المذهل" في تصدير صورة مثبطة عن طبيعة عمله المتوقع لا سيما بعد مسلسل الاستقالة التي تم الإعلان عنها قبيل تسليم الائتلاف كرسي سوريا في جامعة الدول العربية"

خلال كل ذلك اختلج بالائتلاف عطالة سياسية محكمة، فمن جهة أولى ثبت التدافع والتنافس البيني لمكوناته السياسية معادلة ذات مخرجات صفرية وعناصر تقليدية ثابتة لا تتبدل، ومن جهة ثانية أضحى انعكاسًا للتضارب الدولي الذي دعم وجود وكلاء سياسيين له ضمن هذا الجسد الثقيل يجعل مجموع قراراته تشبه أحجية (تعا ولا تجي)، ومن جهة ثالثة ازدادت تلك العطالة بالمراهقة السياسية التي مارسها الائتلاف في بداية تشكيله و"نجاحه المذهل" في تصدير صورة مثبطة عن طبيعة عمله المتوقع لا سيما بعد مسلسل الاستقالة التي تم الإعلان عنها قبيل تسليم الائتلاف كرسي سوريا في جامعة الدول العربية، ومجموع المبادرات "العاطفية" التي وجهها للنظام، وعدم الخبرة في التعاطي السياسي والدبلوماسي مع القوى الإقليمية والدولية، والمهاترات البينية، إلخ.

أما الهيئة العليا للمفاوضات -هذا الجسد الذي كُلفت الرياض في اجتماعات فيينا أواخر عام 2015 بدعم تشكليه ضمن أول مخرجات التشويه الروسي للعملية السياسية الذي أراد الإمعان في تمييع صف المعارضة -لم تستطع أن تستغل التوافق والدعم الشعبي الذي تشكل حينها تجاهها جراء المواقف السياسية الصلبة الصادرة عنها، ولم تستثمر هذا التوافق لفرض وثائق القاهرة المنجزة في عام 2012 كمرجعية سياسية للهيئة.

تلك الوثائق التي من أفضل ما خطته المعارضة خلال سنين الثورة، بل وبحكم وراثتها لجميع الإشكاليات المتراكمة من سابقيها وزاد عليها تضمينها اتجاهات سياسية تختلف مع بعضها البعض حتى في الأولويات العامة، لم تستطع الهيئة ضبط هذه البنية الشديدة التحول والسيولة، الأمر الذي ساهم مع عوامل سياسية أخرى في فقدانها لاحتكار تمثيل المعارضة في المفاوضات إذ شاركتها منصتا موسكو والقاهرة هذا الاحتكار، ليبدو المشهد التفاوضي إذا ما عزلنا التصريحات الإعلامية أقرب لتفاوض النظام مع فريق يتفق مع أكثر من نصفه.

ولعل أخطر الاعتلالات الوظيفية للمعارضة تزايد طردًا مع تنامي مستويات الصراع في سورية وبروز الإرهاب فيها، إذ تعاملت المعارضة في هذا الصراع بوجدانية مغرقة أكثر مما يفرضه مبدأ الحسم تجاه تنظيمات عابرة للثورة ولها مشاريع تهدد هوية البلد وفعله الحضاري، فلا وظفته كباقي الفواعل السياسية، ولا حسمت باكرًا موقفها منه، وسجلت عجلة السياسة في هذا السياق في سجل المعارضة وقوعها في المحاذير الوطنية وعدم إنجازها لوثيقة وطنية حاسمة رافضة لأي قوة لا تؤمن بأهداف الثورة وتريد حرفها.

الأمر الذي أفرز تأخرًا في إدراك خطورة العناصر والجماعات الجهادية الأجنبية التي تغلغلت داخل تشكيلات الثورة السورية بحجة مظلومية و"نصرة" الشعب السوري، والتعاطي معها دون إدراك أبعاد مشاريعها الذاتية وحجم انتماءاتها التنظيمية، وهو ما أدى بشكل أو بآخر لظهور تصنيفات متعددة في جسد المعارضة ثم المطالبة الدولية بعزلها عن المتطرفة.

"مضت ولا تزال المعارضة قدمًا باتجاه موتها السريري، إذ إن كل المؤشرات تدل على هذا المآل، فلا أفعالُ مراجعة، ولا بدء بتقييم الأدوات سوى بضع محاولات ترقى أن تكون استعراضًا لمص الصدمة ليس إلا"

وصلت الارتكاسات السياسية الذاتية للمعارضة مداها الأوسع بعد معركة حلب، والتي تبين أنها لم تعد قادرة على الفعل السياسي ولو بأدنى درجاته، فمرت كوارث التدخل الروسي وما حملته من تغييرات ديموغرافية وعسكرية واضحة دون أن يلمس المراقبون لهذه الأجسام أي استراتيجية تعاطي إبان هذا التدخل، فبعد هذه المعركة مضت ولا تزال المعارضة قدمًا باتجاه موتها السريري.

إذ إن كل المؤشرات تدل على هذا المآل، فلا أفعالُ مراجعة، ولا بدء بتقييم الأدوات سوى بضع محاولات ترقى أن تكون استعراضًا لمص الصدمة ليس إلا، ولا تدارسًا موضوعيًا لصلاحية البُنية الحالية لهذه المرحلة بعد أن اتخذت شكلًا ثابتًا ومصمتًا خلال الأعوام الستة الفائتة، الشكل الذي حال دون أي فعل سياسي حقيقي يُحدث أثرًا ملموسًا سواء على المستوى المحلي كتنظيم الصف الثوري الداخلي أو على المستوى الخارجي كتمثيل بديل مقنع للمجتمع الدولي، مما ولد فراغًا سياسيًا في الثورة السورية، وغُربة عن الشارع الثوري والذي عزز من عدم ملاحظتها في معادلة الصراع السوري، وأعلى من شأن الخيارات العسكرية التي اتسم حراكها بالفصائلية المغرقة وغيبت أثر وفعالية الحراك المدني والسياسي وأقصته وتدخلت في جميع مفاصل المحلياتية.

"لا يمكن للتاريخ عندما يتحدث عن ثورة العز والكرامة في سوريا وما سطرته من تضحيات في سبيل العيش الحر الكريم إلا أن يُحمل المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري مسؤولية تعثر الأداء السياسي"

يمكنني القول متوجعًا إنه لا يمكن للتاريخ عندما يتحدث عن ثورة العز والكرامة في سورية وما سطرته من تضحيات في سبيل العيش الحر الكريم إلا أن يُحمل المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري مسؤولية تعثر الأداء السياسي وعدم استغلال الفرص وتغييب الرشد، وسيسجل بخط ممزوج بالدم والألم أن اليسار المعارض كاليمين غرقا بالأوهام وأتقنا الاستعراضات الأيديولوجية بينما عجلة الثورة السياسية لا تزال تنتظر من يرتقي بأدائه لمستوى تضحياتها التي أتعبت التاريخ وأثقلت الجغرافية.

المصدر نون بوست

التصنيف مقالات الرأي
الأربعاء, 11 كانون2/يناير 2017 18:21

تكون المعارضة السورية أو لا تكون

مضت عجلة الحراك الثوري السوري إلى الأمام خلال ست سنوات طاحنة، تغيرت فيها ثوابت كثيرة، وشهدت تغييرات عديدة، وعلى المستويات كافة. ودخلت هذه العجلة في مراحل متعدّدة، اختلطت فيها لحظات الانتعاش مع الانكسار، الوجع مع الأمل، التمدّد والتقلص ...إلخ، وشهدت انعطافات وانتقالات متسارعة في مستويات عملها، واتسمت مآلاتها باحتمالات ظهور متغيّر، يمنحها هوامش عمل جديدة، يعيد خلط الأوراق، ويؤجل الحسم لأي طرفٍ كان، إلا أنه، وبعد زلزال حلب أخيراً، والتداعيات السلبية المتدحرجة على بنية المعارضة وتوجهاتها ووظائفها، وما لحقها من استثمار سياسي روسي، أنتج ما عرف بإعلان موسكو الذي يعرّف الملف السوري بالاتساق مع المخيال الروسي الصرف، فقد بات لزاماً على المعارضة السورية إدراك أزمتها العميقة، وطبيعة امتحاناتها الحالية والمؤجلة. حيث إنه، وعلى الرغم من أن أحد أهم قراءات نتائج معركة حلب بأنها نتاج طبيعي لتضافر (وتنامي) عدة سياقات، تتعلق بمفهوم "إدارة الأزمة"، أفرزت استفراداً روسيّاً أخلّ "التوازن النسبي" الذي كان متحكّماً في المعادلة العسكرية خلال سني الصراع المسلح، إلا أن أهم هذه القراءات وجوهرها يؤكد على العوامل الذاتية الكامنة وراء الخسارة الاستراتيجية لحلب، وفقدان عنصر التأثير في جيوب وجبهات كثيرة، لا سيما في الجنوب وحول العاصمة، وتتمثل في سياسة معظم فعاليات المعارضة (السياسية والعسكرية والمدنية والدينية) في دفع استحقاقاتها إلى الأمام، بغية التهرّب منها، لعدم امتلاكها القدرة على مواجهة تلك الاستحقاقات على المستوى البنيوي تارةً، ولعدم امتلاك القرار الوطني المفضي إلى مواجهة التحديات والامتحانات الداخلية تارات عدة.

وأمام أسئلة واقع "ما بعد حلب" التي لم تعد تقبل التأخير والتسويف والمماطلة، تتدافع ثلاث دوائر مهمة في المجال العام للمعارضة والثورة للإجابة عنها، فالأولى أتت من داخل الجسد العسكري، ولا سيما شقه الفصائلي "الإسلامي"، باحثاً عن "توحيد عابر للفصائلية"، إلا أنه يتجاهل قصداً تحديات الاندماج والتوحيد الفكري ومتطلبات مراجعة المستندات الناظمة لهذا العمل، فنجدها لا تزال تتجاوز الثورة لصالح مشاريع سلطة عقدية سياسية بديلة، ولا تراعي ما تكتنفه الجغرافية السورية من ارتكاساتٍ تتحمل بوصلات عمل هذه الفصائل الجزء الأهم منها، هذا البحث عن صيغ جديدة، بالمضامين الفكرية والسياسية نفسها، لا يخرج عن كونه حركة براغماتية ضيقة الأفق، ستجعل أسباب الحريق والتشظّي السوري مستمرة.

"بات لزاماً على المعارضة السورية إدراك أزمتها العميقة، وطبيعة امتحاناتها الحالية والمؤجلة"

أما الدائرة الثانية فتنبع من الحواضن الشعبية المثقلة بالغضب والألم، وباتت تحت نصل "المصالحات" التي تبتزهم بملفات إنسانية مغرقة في البساطة، في وقت يصدّر النظام هذا التطويع والتجويع والتركيع على أنه "نصر مبين"، أو أمام فوهة البندقية المسلطة عليها من كل الأطراف الفاعلة أرضاً وبرّاً، إذ تجهد هذه الحواضن لتوسيع هوامش فاعليتها عبر الضغط باتجاه مأسسة العمل العسكري الثوري، وضرورة تماهيه مع الثورة ومطالبها؛ والدفع باتجاه اتباع استراتيجيات عمل بديلة، تجنب البنى المحلية أكبر قدرٍ ممكن من الأضرار، عبر تركها للفاعلين المدنيين، وتغيير طبيعة العناصر العسكرياتية المتبعة في "إدارة العمليات"، كتعزيز مفهوم التحصين والهندسة العسكرية، واتباع نهج المهام الخاصة وتكتيك التموضع المتبدل/ المرن، وتبقى سياسة الضغط تلك رهينة فواعل عسكرية، تتحمّل مسؤوليتها التاريخية في "استيعاب المرحلة" والانسجام وظيفياً مع متطلباتها، ويتحكّم بها هامش الزمن الضيق جداً لسياسة الاقتلاع والتهجير التي قد تطاول تلك الحواضن، وتلغي أثر أي ضغط لها.

والدائرة الثالثة، والتي تعد حركيّتها الأكثر خجلاً، والأقل إدراكاً لمآلات المشهد التي تنبئ بتجاوز سكة الحل التي ترتسم لبنيتها، وللأدوار المحتملة كافة، وهي دائرة الممثلين السياسيين، كالائتلاف والهيئة العليا والأحزاب والتيارات التقليدية على سبيل المثال، إذ اتسمت تلك الحركية بالتثاقل، نظراً لأسبابٍ تتعلق بكمون العطالة التي تكتنف هياكلها من جهة، والتسليم لمبدأ استلاب القرار الوطني من جهة أخرى. وكانت ردة فعلها محصورةً ما بين تنظير عبر الفضاء الإلكتروني بشكل يكرس فقدانهم آليات تفعيل الرؤى، أو الاستقالة الشخصية في محاولةٍ منهم للتبرئة من مسؤولية ما جرى، أو لفقدان الأمل في أية فعاليةٍ، ترتجى من تلك الأجسام. وفي المقابل، غاب عن هذه الدائرة أن هذه الأحداث فرصة حقيقية للبدء بامتلاك أدوات التمكين والمبادرة، وتصحيح التشويه الحاصل في العلاقة بين السياسي والعسكري، وإعادة تعريفها بشكلٍ يضبط الحركة العسكرية بعقارب القيادة السياسية، إذ كان متوقعاً منها أن تتبنى مبدأ "حسن إدارة الأزمة"، عبر تشكيل غرف عمليات مستمرة، تستطيع بها توظيف الإنجاز العسكري سياسياً، أو تقلل من تبعات الخسارة، عبر جولات تفاوضية تتيح لها هوامش حركةٍ ما، وتلك هي أبجديات العمل السياسي. أما الاستسلام الكلي لزخم الأحداث وعدم امتلاك القدرة على هضمها وإنتاج مقاربات مواجهةٍ ناجعة فيجعل شخوص هذه المؤسسات غير مؤهلين لقيادة مدرسة ابتدائية، وليس إدارة ملفات وطنية.

وما بين تلك الدوائر وصعوبة الآتي، ينتظر من المعارضة السورية في هذه المرحلة أن تدرك خطورة بقائها كما كانت عليه (سياسةً وأدوات وهياكل)، وأن تجهد في اتباع استراتيجيات ثلاث. الأولى استيعاب الأزمة، والعمل على احتوائها عبر إبداء "التوازن" السياسي للحركة العامة، وعدم الإغراق بجلد الذات بهدف جلد الذات فقط، والتمسّك بأوراق القوة المتبقية في حوزتها، كالشرعية التمثيلية، سواء على المستوى السياسي الدولي والإقليمي، أو على المستوى المحلي ونماذج الحكم المحلي الناشئة، أو حتى ما هو متعلقٌ بتوازن الردع في دمشق ومحيطها، والابتعاد عن اندماجات غير متسقةٍ ومتسرعةٍ، تحمل في طياتها أسباب الانحلال والتصدّع النهائي، وذلك كله بالتوازي مع تفويض مجموعة ورش عمل مغلقة للتقييم والمراجعات والحسم في تعريف العلاقة مع كل المشاريع العابرة للثورية، وللتباحث أيضاً في آليات التغيير، وتذليل كل أسباب العطالة، وامتلاك مقومات الصمود والاستمرار.

"ينتظر من المعارضة السورية في هذه المرحلة أن تدرك خطورة بقائها كما كانت عليه سياسةً وأدوات وهياكل".

تنبع الاستراتيجية الثانية أولاً من ضرورات صد استراتيجية النظام التي تطمح لتركيع مناطق سيطرة المعارضة في الوسط والجنوب السوري، عبر سلاح المصالحات، وذلك بإعداد خطةٍ متكاملةٍ لتحويلها إلى هدن تتوازن فيها شروط كل الأطراف، وتقوم على عنصرين رئيسيين، تثبيت جبهات الصراع بإشراف دولي، ووحدة مصير المناطق المهادنة، والتي ستضمن عرقلة سياسة الاستفراد التي ينتهجها النظام، كما ترتبط هذه الاستراتيجية عضوياً بخيار المواجهة الوجودي مع المشروع الإيراني، والعمل على الاستمرار بضربه سياسياً وعسكرياً. بينما تتعلق الاستراتيجية الثالثة بخيارات المواجهة الدبلوماسية، وقبول كل التحديات المفروضة، وعدم ترك أي شاغر في سياق أي مفاوضات محتملة، واستكمال أي أعمال تتعلق ببرامج ورؤى وآليات تنفيذية، تسهم في التغيير والانتقال السياسي. وهذا نابعٌ من ضرورات الحضور التي تفرضه الواقعية أولاً، والانتقال إلى أدوات النضال السياسي، بحكم التقهقر العسكري ثانياً.

ولعلي أختم بالقول إن كتب مؤرخي التاريخ في صفحاتهم أن المعارضة السورية استطاعت عبور هذا النفق المظلم، فذاك حكماً سيكون مردّه تبلور مفهوم الارتقاء إلى مستوى الحدث ومسؤولياته، ولقدرتها على العودة، والالتحام مع ثورة شعبٍ، يستحق العزة والحرية والكرامة. وإن لم يكتب أولئك المؤرخون ذلك، فلا تلومن المعارضة إلا نفسها، لأنها أضاعت الفرصة، وفشلت في امتحانها الوجودي، وساهمت، بشكل أو بآخر، في مأساة الوطن والمواطن السوري.

 

التصنيف مقالات الرأي

بقدر ما عكسته الهدنة من هشاشة تتبع لطبيعة التعاطي الدولي مع الملف السوري؛ إلا أنها فرضت متغيرات جديدة على واقع الصراع السوري. فالهدنة التي فشلت إلى حد ما في تثبيت وقف إطلاق النار؛ نجحت بشكل أكبر في فرض مجموعة من المعطيات الجديدة على الأرض، والتي استتبعت استراتيجيات جديدة من الفاعليين المحليين، واستحدثت مسارات مختلفة في التعاطي الدولي والإقليمي مع الملف السوري، لتبدأ بصياغة واقع مختلف عما قبل الهدنة لا يزال قيد التشكيل، تكاد تبرز ملامحه عبر مجموعة المتغيرات التي فرضتها الهدنة على الأرض. ما يضع المعارضة السورية أمام تحديات جمة على كل الصعد، ويفرض عليها ديناميات داخلية لتحرك فعال على المستوى التكتيكي والاستراتيجي.

أعلنت كلٌ من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية في بيان مشترك بتاريخ 27 فبراير/شباط 2016 عن التوصّل لاتفاق هدنة في سوريا يستثني كلاً من تنظيمي "الدولة الإسلامية" و "جبهة النصرة". وقد بُنيَ الاتفاق على أرضية مشتركة بين موسكو وواشنطن بدعم دولي، لتثبيت وقف إطلاق النار والأعمال العدائية، واستئناف العملية السياسية في جنيف وفقاً لخارطة الطريق في القرار 2254.  وشهدت تلك الهدنة منذ بدايتها ما يزيد عن 2000 خرقاً من قبل نظام الأسد، كان آخرها حملة شرسة قادها النظام بدعم من حُلفائه على مدينة حلب بالتوازي مع تعثّر المسار السياسي في جنيف.

ورغم ما عكسته الهدنة من هشاشة نتيجة طبيعة التعاطي الدولي مع الملف السوري، إلا أنها فرضت متغيرات جديدة على واقع الصراع. فالهدنة التي فشلت إلى حدّ ما في تثبيت وقف إطلاق النار، نجحت بشكل كبير في فرض مجموعة من المعطيات الجديدة على الأرض، استتبعت بدورها استراتيجيات جديدة من الفاعليين المحليين، كما استحدثت مسارات مختلفة في التعاطي الدولي والإقليمي مع الملف السوري، لتبدأ بصياغة وتشكيل واقع مختلف عمّا قبل الهدنة؛ الواقع الذي إلى الآن ما زال قيد التشكيل، إلا أن ملامحه تكاد تبرز عبر مجموعة المتغيرات التي فرضتها الهدنة على الأرض.

أولاً: ملامح واقع ما بعد الهدنة

ساهم اتفاق الهدنة وما رافقه من تطورات محلية إقليمية ودولية، بالدفع باتجاه صياغة واقع جديد لمسار الصراع السوري. ويستند هذا الواقع إلى مجموعة متغيرات فرضتها الهدنة على الرغم من أنه لم يتم تثبيتها بشكل نهائي إلا أن ملامحها تكاد ترتسم بوضوح، ولعل أبرزها:

1.    استراتيجية تطويق الأزمة

عكست الهدنة إرادة دولية في تثبيت خطوط التماس بين المعارضة والنظام عبر حدود الهدنة التي تُعد تقسيماً غير معلن لمناطق النفوذ، وتثبيتاً لها إلى أمد يبدو بعيد، إضافة إلى نقل الملف السوري إلى الساحة السياسية عبر المفاوضات في جنيف، مقابل توجيه الفاعلية العسكرية باتجاه محاربة الإرهاب.

2.    تعزيز سياسة المحاور

مع بداية توقيع الهدنة بدأت تلوح في الأفق بوادر لتبلور توافق روسي أمريكي -وإن كان غير متطابق في كل الملفات-ووجهة نظر موحدة حول طبيعة الحل السياسي تُهمش باقي الفاعلين الدوليين في الملف السوري، وهو الأمر الذي أدى إلى تعزيز سياسة المحاور على المستوى الدولي إزاء فرض واشنطن وموسكو رؤيتهما على باقي الفاعلين، حيث بات الفاعل الخليجي إضافة إلى تركيا يمثلون محوراً يتقاطع بدرجة كبيرة مع المحور الأوروبي، مقابل الأسد وطهران اللذان يمثلان محوراً آخر. في حين بدت روسيا وأمريكا اللتان أخذتا تبتعدان عن شركائهما ووكلائهما الإقليمين والمحليين، لتقتربا من تقديم نفسيهما كطرف "راعٍ للحل السياسي وليس ضالع في الصراع"، أقرب لمحور ناشئ في وجه باقي المحاور، من حيث التعاطي مع الملف السوري.

3.    أولوية مكافحة الإرهاب

كرست الهدنة على الأرض اختزال القضية السياسية السورية بملف مكافحة الإرهاب، والسعي لتقديمه على حساب الإشكالية الحقيقية المتمثلة بحضور الأسد، الأمر الذي انعكس في محاولات إخضاع المقاربات السياسية وتفاصيل العملية التفاوضية في جنيف لمدخل مكافحة الإرهاب وأولوياته، مما ساهم بشكل كبير في خلق حالة تعطيلية في مسار المفاوضات السياسية.

4.    استراتيجية جديدة للتنظيم

بحكم استثنائه من الهدنة ونقل الصراع إلى مجال مكافحة الإرهاب، تحوَّل تنظيم الدولة "الإسلامية" إلى هدف معلن لجميع الفاعليين على الأرض، ما فرض على التنظيم تغيير الاستراتيجية العسكرية لتحركاته، والتي بدت خلال الهدنة أنها قائمة على تجنب الفاعلية العسكرية الأقوى، والمتمثلة بقوات نظام الأسد والمليشيات الشيعية وما يؤمَّن لهما من غطاء جوي روسي، إضافة لقوى "سوريا الديمقراطية" وما يؤمَّن لها من غطاء جوي أمريكي، والتوجه إلى الجهة الأضعف عسكرياً، والتي مثلتها مجاميع المعارضة المسلحة، وهذا ما يُفسر انسحاب التنظيم من تدمر وهجماته في ريف حلب الشمالي.

5.    النصرة كإشكالية متنقلة

أدى استثناء جبهة النصرة من الهدنة دون وضع قواعد وآليات محكمة لاستهدافها إلى خلق إشكالية متنقلة في جسد المعارضة العسكرية، نتيجة لتداخل نفوذ النصرة مع أغلب جبهات المعارضة. وقد أدت هذه السيولة إلى تأمين غطاء الشرعية الدولية لاستهدافها من قبل قوات نظام الأسد وموسكو، وإحداث ارتباك حقيقي بين صفوف المعارضة نتيجة عدم وجود أي آليات للتعاطي مع هذا الواقع الجديد. ومن هنا يمكن استنتاج إصرار الروس وبعض الأطراف الدولية في فيينا على استثناء جبهة النصرة من الهدنة، على الرغم من إدراك واقع الأرض المعقد والمتشابك وتحديداً في الشمال السوري، ولكن يبدو أنه كان لابد من تثبيت هدنة تحتمل الخرق على شماعة النصرة.

6. اختبار الخطط البديلة PLAN B

أكدت الخروقات المتكررة للهدنة من قبل نظام الأسد -وخاصة الحملة الأخيرة على حلب التي هددتها بشكل مباشر، إضافة لتعثر المفاوضات السياسية وعدم التعاطي بجدية معها- على عدم وجود أي خطة بديلة PLAN B لدى الفاعلين الدوليين الداعمين للثورة، حيث أظهرت ارتباكاً حقيقياً، وتحديداً أمام الأجندة الإيرانية، واضحة المعالم كبديل للهدنة والقائمة على الحسم العسكري واستعادة المناطق الاستراتيجية من المعارضة وتحديداً  حلب، مما جعل من الهدنة غطاء حقيقياً استثمره الإيرانيون ونظام الأسد لاستكمال استراتيجيتهم بأدوات مختلفة، بل سَعَوا لتطويع الحضور الروسي ضمن هذ الاستراتيجية ما زاد مؤشرات التنافس بين موسكو وطهران.

7. موسكو وطهران ومؤشرات التنافس

كشّفت الهدنة وما شهدته من تطورات عسكرية على الأرض، عن تصاعد مؤشرات التنافس بين موسكو وطهران في الملف السوري، وتحديداً في حلب، والذي لم يصل لدرجة التضارب ولكن بات يبدو بشكل واضح تنافساً حول التصور المختلف لطبيعة الحل السياسي لكل من الطرفين. ويبدو من هذا التنافس أن الأسد إلى الآن يستفيد من هوامشه مع الاقتراب بشكل أكبر من الأجندة الإيرانية ومحاولة تجاوز الالتزام الروسي بالهدنة في حلب. ولعل خسارة الأسد والإيرانيين التي بدأت في "تل العيس" وانتهت في "خان طومان" بريف حلب الجنوبي، وهي مناطق نفوذ المليشيات الإيرانية؛ مثّلت رسالة واضحة من الروس لعدم تدخلهم في نجدة النظام، بأن الدعم الروسي أساس للصمود والتقدم، وهي الرسالة التي سبقها تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بأن "الأسد ليس حليفنا"، في محاولات سعي موسكو لتقديم نفسها كراعٍ للحل السياسي وليس طرفاً تابعاً للأجندة الإيرانية. انظر الخريطة رقم (1)

خريطة رقم (1) توضح مواقع النفوذ والسيطرة – ريف حلب الجنوبي – 10 أيار 2016


8. ضعف استراتيجية المعارضة

عادت الهدنة من جديد لتؤكد على مجموعة من نقاط الضعف في بنى المعارضة العسكرية على مستوى عدم وضوح الاستراتيجية الدفاعية لصد الخروقات أو على مستوى الردود التكتيكية، ما حال بينها وبين استثمار الهدنة لصالحها، وهذا ما انعكس في خلافات القوى العسكرية في الغوطة الشرقية (جيش الإسلام/فيلق الرحمن)، إضافة للتحركات غير المحسوبة في ريف حلب الشمالي. ويُقابل ذلك التعثر نهج أكثر وضوحاً لنظام الأسد، والذي طوع عبره الهدنة والعملية السياسة كغطاء لتحركات وخروقات عسكرية لا تبدو عبثية بقدر ما تبدو مدروسة، إذ توزعت خروقات النظام على عدة مستويات، أبرزها:

- خروقات استنزافية تهدف إلى استنزاف فصائل المعارضة العسكرية فقط، كمعارك الساحل الأخيرة والقصف المتواصل على جبال الأكراد والتركمان.
- خروقات للضغط السياسي كالمجازر التي ارتكبتها قوات الأسد في مدينتي كفرنبل ومعرة النعمان، إثر إعلان الهيئة العليا للتفاوض عن تعليق مشاركتها في مفاوضات جنيف.
- خروقات استراتيجية تمثلت في الحملة الأخيرة على حلب والسعي لحصارها وإبعادها خارج نطاق الهدنة.

إن مجمل تلك الوقائع التي أفرزتها الهدنة وتقاطعها مع الظرف الإقليمي والدولي، تبدو بأنها تصب في مصلحة الأسد وحلفائه، والذين يسعون للتماهي معها واستثمارها عبر عدة أدوات سياسية وعسكرية، أبرزها:

1.    الهدن المحلية التي يتبعها نظام الأسد في محيط دمشق، لضبط حزام العاصمة.
2.     الاعتماد على الخروقات المنظمة خارج هذا الحزام لاستنزاف قوى المعارضة.
3.    استثمار الفاعلية الروسية للتوسع في مناطق تنظيم الدولة وتقديم نفسه كشريك في مكافحة الإرهاب.
4.    استخدام أدوات التعطيل السياسي في جنيف، سواء عبر سياسة الإغراق بالتفاصيل التي يتبعها النظام، أو بعض المنصات التي ساهم بتشكيلها لخرق جسد المعارضة (حميميم، الأستانة، القاهرة).
5.    استغلال المزاج الدولي القائم على تراجع الفاعلية الأمريكية في الملف السوري وتقارب وجهة نظر واشنطن وموسكو لتصور الحل السياسي، والقلق الأوروبي إزاء مكافحة الإرهاب وملف اللاجئين، وتراجع الفاعلية العربية نتيجة

تعقد ملفات دول الربيع العربي والدعم من بعض الأنظمة العربية، إضافة إلى رضى حذر من تل أبيب إزاء هذا الوقع المعقد في سورية والاكتفاء بمنطقة آمنة في الجنوب، وانحسار وارتباك أدوات المحور الثلاثي (تركيا، السعودية) أمام الحاجز الأمريكي الروسي.

إن ما يلجأ إليه الأسد وحلفائه ولايزالون خلال فترة سريان الهدنة؛ يضع المعارضة السورية أمام تحديات جمة على كل الصعد، ويفرض عليها ديناميات داخلية لتحرك فعَّال على المستوى التكتيكي والاستراتيجي، فبقدر ما تمثله المرحلة المقبلة من محاولات تضييق لأفق المعارضة؛ إلا أنها لاتزال تؤمن هامش تحرك حقيقي قد يحوِّلها من طرف متأثر إلى طرف مؤثر في الواقع الذي لايزال قيد التشكل.

ثانياً: هوامش تحرك المعارضة السورية

إن محاولات تثبيت الهدنة وفرض خارطة طريق في القرار 2254 لا يمثل بداية حل للأزمة السورية، بقدر ما يُنذر بنقل الصراع إلى صُعد مختلفة تماماً، وتشكيل واقع جديد يتناسب ووجهة النظر الأمريكية الروسية (قيد التشكل)، الأمر الذي يتطلب من المعارضة تغيير الأدوات واستحداث أخرى تتناسب والظرف القائم، والذي يُمثل تهديداً حقيقياً للثورة السورية. إن هذا يفرض على المعارضة التحرك على عدة مستويات واستغلال ما يتاح لها من هوامش التجاذبات الدولية وخلق أخرى تصب في صالح الثورة، ولعل أبرز التحركات التي يفرضها واقع الهدنة -وما سبقه وما قد يتلوه-على المعارضة السورية، تتمثل فيما يلي:

1.    على المستوى العسكري

•    تشكيل غرف عمليات مشتركة على مستوى المحافظات ومحاولة استثمار الهدنة لإعادة هيكلية حقيقية وتدعيم نقاط الضعف في جسد المعارضة وتقوية نقاط الاشتباك مع النظام.
•    رسم سيناريوهات جاهزة للخروقات المحتملة للهدنة من قبل نظام الأسد، وتحديد أساليب وآليات الرد وفقاً لتحديد نقاط ضعف النظام والجبهات الأقوى للمعارضة، بحيث تخرج الردود على الخروقات من خانة ردَّات الفعل لتقترب من الاستراتيجية، ومن الحالة الدفاعية إلى الهجومية.
•    استثمار الهدنة للتوسع وكسب أراضٍ جديدة على حساب تنظيم الدولة، لإبعاد خطر شن حملات مشتركة "تخادم" بين نظام الأسد والتنظيم على مناطق المعارضة. ويمكن أن يتم ذلك عبر توجيه فاعلية عسكرية منظمة باتجاه مناطق سيطرة التنظيم، والسعي لاحتكار نقاط الاشتباك معه وتعزيزها، لتأمين مناطق نفوذ للمعارضة بالدرجة الأولى، وقطع الطريق على القوى الساعية لاحتكار نقاط الاشتباك مع التنظيم استعداداً لمرحلة مكافحة الإرهاب.
•    محاولة التوصل إلى اتفاق مع جبهة النصرة، يضمن إبعاد تجمعات عناصرها ومقراتها الرئيسية عن مناطق المدنيين، وذلك لسحب ذريعة قصف المدنيين بحجة مكافحة الإرهاب.
•    مقاومة محاولات تجزئة الهدنة من قبل النظام وحلفائه وسياسة الاستفراد بالمناطق، كالمحاولات الأخيرة للدفع بحلب خارج طوق الهدنة، ما يفرض على المعارضة العسكرية التعاطي مع الهدنة بشكل شامل جغرافياً، كإشغال عدة جبهات لفرض عودة جبهة واحدة إلى الهدنة. وهنا يبرز أهمية تشكيل غرف العمليات على مستوى المحافظات ورفع وتيرة التنسيق العسكري البيني. بالمقابل فإن المعارضة السياسية تمتلك في مواجهة استراتيجية تجزئة الهدنة أدوات التعطيل السياسي عبر تعليق المشاركة في المفاوضات أو الانسحاب منها.

2.    على المستوى السياسي

•    السعي دولياً لاستثمار عدم تطابق الرؤى الإيرانية -الروسية حول مستقبل سورية السياسي، والاستفادة من هوامش التنافس بين موسكو وطهران في هذا الإطار، ما يفرض على المعارضة التحرك باتجاه الانفتاح الجزئي على موسكو، خاصة وأن وجهة النظر الروسية تكاد تتماهى مع الأمريكية، وتحول الروس إلى فاعل لا يمكن تجاوزه في الملف السوري.
•    استثمار الموقف الأوروبي (بريطانيا، ألمانيا، فرنسا) باتجاه زيادة الضغط من خلال الملف الإنساني ضمن التفاوض، وترجمة خروقات النظام خلال الهدنة وما تخللها من جرائم الحرب إلى قرارات دولية صادرة عن مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، بدعم تلك الدول.
•    الدفع باتجاه ضغط سعودي على النظام المصري، لاستثمار ترأس جمهورية مصر العربية لمجلس الأمن في الشهر الحالي، لإحالة خروقات النظام والملف الإنساني إلى مجلس الأمن، علماً أن المندوب المصري قد عطّل اقتراح بريطانيا وفرنسا لإحالة ملف حلب إلى مجلس الأمن.
•    الدفع باتجاه قيام المملكة العربية السعودية بضبط موقف عربي موحد، يعترف بالهيئة العليا للتفاوض كممثل شرعي وحيد للشعب السوري في المفاوضات، ومنع تشكُّل محور لدى بعض الدول العربية يقترب من المشروع الروسي للحل عبر منصات بديلة.
•    سعي الائتلاف والهيئة العليا للتفاوض لقطع الطريق على أي محاولة من المنصات السياسية المستحدثة في جنيف (حميميم، الأستانة، القاهرة، مجلس المرأة الاستشاري)، لإحداث أي شرخ داخل جسد الهيئة، وذلك عبر تدعيم بنية الهيئة، وحشد الشارع السوري من خلال تظاهرات في الداخل ودول الشتات، لإعلان أن الهيئة العليا هي الممثل الشرعي الوحيد عن الثورة السورية في مفاوضات جنيف.

3.    على المستوى الاستراتيجي

طالما أن المزاج الدولي يسير باتجاه إدارة الأزمة وتطويقها عبر الهدنة لأمد متوسط على الأقل؛ فهذا يفرض تعزيز إدارة المناطق المحررة بشكل فعَّال، عبر زيادة تمكين القوى المحلية المدنية، المتمثلة بالمجالس المحلية والسعي لشرعنتها دولياً. وتُعتبر هذه الخطوة مُلحة واستراتيجية بالنسبة للمعارضة لعدة أسباب أبرزها:
أ‌.    تسيير وخدمة شؤون المدنيين في ظل أزمة قد تطول، مما يعزز شرعية المجالس التي تستند أصلاً لسلطة الشعب انتخاباً أو توافقاً.
ب‌.    تأمين شرعية دولية للمناطق المحرّرة، عبر القوى المحلية المدنية على الأرض.
ت‌.    إعادة تشغيل مؤسسات الدولة الإدارية، بعد أن دمرها قصف النظام، كخطوة على طريق استعادة وظائف الدولة، وسحب ذريعتها من نظام الأسد.
ث‌.    تفريغ الفصائل العسكرية لمهامها الأساسية في حماية الجبهات وليس الإدارة المدنية.

إلا أن هذه الخطوة تفرض على المعارضة السورية توحيد أطر العمل السياسي العسكري وتوجيهها لدعم القوى المدنية، ما يستوجب على الفصائل العسكرية التنازل عن بعض المهام المدنية التي سيطرت عليها، وإعادة تسليمها إلى المجتمع المدني والتفرغ للجبهات. وقد يساعد في ذلك تشكيل غرف العمليات على مستوى المحافظات، إذ أن نظام القطاعات "الجبهات" ما يزال يعوق تحرك قوى المجتمع المدني، نتيجة تشابك السلطات والنفوذ وفقاً لهذا النظام. بالمقابل لابد من سعي حقيقي من المعارضة السياسية (الهيئة العليا للمفاوضات، الائتلاف الوطني) لحشد دولي سياسي للاعتراف بشرعية المجالس المحلية في الهيئات والمنظمات الدولية، (جامعة الدول العربية، مجلس التعاون الخليجي، مجموعة أصدقاء الشعب السوري، منظمة التعاون الإسلامي) كإدارة مدنية شرعية للأراضي المحررة.

إن إحداث أي تغيير في سياق واقع ما بعد الهدنة، والذي يبدو أنه يسير باتجاه الثبات النسبي، لا يمكن أن يتم قبل تغيير داخلي وحقيقي في استراتيجية المعارضة السورية، عبر دينامية داخلية تفرض نفسها بشكل حقيقي على معادلة التدافع الدولي، مستندة في ذلك إلى تدعيم القرار المركزي –العسكري السياسي-على المستوى الوطني والذي تمت خسارته لصالح عدة أطراف.

إن أساس هذه الدينامية هو الإيمان بالعمل المؤسساتي واليقين أنه الطريق الأكثر نجاعة لإحداث فرق في مسار الثورة السورية ضمن هذه المرحلة الحرجة، والانطلاق من حقيقة أن الثورة هي جزء من التغيير وليست هي التغيير، وإنما هناك آليات ومراحل أخرى لا تكتمل مسيرة التغيير دونها، ولا تقل صعوبة عن الثورة ذاتها.

التصنيف تقدير الموقف

يعتري الأداء السياسي الجمعي للمعارضة السورية جملة مغالطات تقديرية تختلف مستوياتها وأوجهها، والثابت المستمر هو التموضع السلبي والمتأخر في الذهنية المحلية والإقليمية والدولية، ولعلّ أهمها اضمحلال المنطق الدولتي في السلوكيات والسياسات العامة وعلى كافة الصعد، ومرد بعض هذه المغالطات متعلق بسياقات موضوعية فرضتها الظرفية الثورية وتحولاتها من الأطر المحلية إلى الدولية بحكم متغيرات وتطورات الملف السوري، والجزء الآخر مرتبطٌ بالحالة السائلة للمعارضة التي تضم بين طياتها مختلف المشارب والعقائد والانتماءات، بشكل يمنع المراقب العام أن يتلمس فيها انسجامًا وتماسكًا هيكليًا أو وظيفيًا، ويرجع سبب الجزء الأخير (والأهم) من هذه المغالطات لاستنتاجات قاصرة لبعض تيارات وشخوص المعارضة، مستنبطة من ظلال معتمدي حلفائها الإقليميين والدوليين، كقدرة إسرائيل على التحكم في مختلف زمام الأزمات العربية وحتى الدولية، وأن تمتين العلاقة مع "ربيب وحبيب الغرب" هو بمثابة بطاقة اعتماد سياسية تزيد من فرص تمكين هذا التيار أو ذاك الشخص!!

وتفكيك هذه المغالطة التي بدأت بالتنامي في الآونة الأخيرة وتبيان مخاطرها وأثرها على زيادة السيولة التي تكتنف تفاعلات الملف السوري، وعلى تعميق حالات الاستقطاب الحادة في المشهد بشكل عام، ينبغي تفنيد ادعاءات اتكاء المتهافتين في هذه الفئة من المعارضة السورية نحو تمتين العلاقة مع إسرائيل بما فيها تموضعها في فضاء التحالفات الإقليمية.

إذ يتم التعاطي - عند هذه الفئة - مع المخاوف العامة للهواجس الأمنية التي يبديها صناع القرار الإسرائيلي من "الأزمة السورية" من منطلق ضرورة ترسيخ صورة فكر ليبرالي غير معادٍ، بغية الولوج في القوائم الدولية للـ "البدائل المحتملين" لرئيس النظام الذي تعتبره إسرائيل شيطانًا لا تجهله وتمكّنت من التكيّف معه إلى حدّ كبير، في حين أن منافسيه "فصائل إسلامية راديكالية" سيساهم احتمال نجاحها من توليد مناخات عدائية مع إسرائيل بمجرّد أن تتمكن من توطيد سلطتها، أو سيعزز استمرار صراعاتها المختلفة من تزايد فرص تهديد الاستقرار في لبنان والأردن المجاورين، وبالتالي ترشح الأزمة إلى حدود إسرائيل التي تعلي من أمنها وصيانته فوق باقي الاعتبارات الأخرى.

وفي هذا التعاطي تجاهلًا مقصودًا لأسباب الحراك الثوري الذي تشكل أحد مسوغاته مطالب المشاركة في صياغة الثوابت والمحددات العامة للسياسات المحلية والخارجية عبر تثبيت عقد وطني جديد يعمق الهوية السورية الحضارية المتسقة مع مميزات مكوناته الاجتماعية التي تشكل إسرائيل خطرًا وجوديًا في وجدانها الجمعي، واحتلالًا يغتصب الأرض المقدسة ويهجر أبناءها ويجتهد في طمس هويتها، ويأتي هذا العبث السياسي المستند على فلسفة الاعتمادية الخارجية لا على الشرعية المحلية كمؤشر واضح في تبني أفكار وحوامل الثورة المضادة المتصالحة مع هذا المحتل.

كما تضخم هذه الفئة (التي تطبل الصحافة الإسرائيلية لخطواتهم وما قيل إنه رسائل تطالب بالحوار) من قدرة تل أبيب على التحكم في سير واستقرار خارطة التحالفات الإقليمية التي تظن أن المحور الذي تباركه ولا تعاديه سيكون له الحظ الأوفر في الاستمرار والبقاء، منطلقين بهذا الاستنتاج - الذي تسوقه بعض التيارات أو الشخصيات السياسية العربية الدافعة لموجات الثورة المضادة - من استراتيجية إسرائيل نفسها الطامحة لضمان تفوقها العسكري الاستراتيجي المطلق على كل القوى المجاورة عربية كانت أم إقليمية، بالإضافة إلى حتمية عدم التفريط بأي حال من الأحوال بالعلاقة فوق الاستراتيجية أو الاستثنائية التي تربط إسرائيل بالولايات المتحدة على الرغم من تراجع الدور والنفوذ الأمريكيين في إدارة الصراعات الدولية لاسيما في منطقة المشرق العربي، التي باتت تتعامل معها بسياسات غير مكلفة قد تخلف معها "فراغ القوة" الناشئ عن الغياب الأمريكي الإرادي في ظل تشبث أوباما بتنحية مبدأ الاشتباك وتغليب خيار مكافحة وتحجيم تنظيم الدولة الإسلامية عبر حلفاء محليين إشكاليين، ومن خلال ضربات جوية يعتريها الكثير من التوظيفات والتطويعات السياسية، ناهيك عن حرص إسرائيل على كسب الصداقة والتحالف مع القوة الدولية العائدة والمنافسة بقوة للنفوذ الأمريكي خاصة في المنطقة أي روسيا الاتحادية.

كما تجد هذه الفئة من لهاث وحرص تل أبيب على استغلال الظرف السياسي العربي لتجديد حيوية الوظيفة التاريخية لـ "دولة إسرائيل" بالنسبة للعالم الغربي كله، كدولة "أنموذج في الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير" قابلة لأن تكون حليفًا محتملًا للدول العربية السنية في مواجهة المشروع الإيراني، خاصة مع التآكل الواضح لقيمة مفهوم قضية العرب المركزية.

وتغفل هذه الفئة من حساباتها الضيقة أن خيوط التحالفات الناشئة لاتزال قلقة وغير مستقرة وسيكتنفها الكثير من المتغيرات الطارئة التي أضحت سمة التفاعلات السياسية في المنطقة، وسيبقى معيار الاتساق الهوياتي هو الأساس الذي يكسبها عوامل الأمن والاستقرار، وأن أي مراهنة على فعالية إسرائيل إقليميًا ستكون لحظية غير استراتيجية، ولا تراعي ثنائية خيارات إسرائيل المصلحية وهي إما بقاء النظام الذي اتقن عبر عقود مضت لعبة ضبط الحدود وتسكين الجبهات وتوازن المعادلات الأمنية معها، أو استمرار الفوضى المضبوطة بحكم مبدأ إدارة الأزمة وتشجيع المسارات السياسية المفضية لعملية شكلية تنتج نظامًا غير قادر على الفعل الإقليمي لسنين عديدة، وبهذا المعنى تكون سلوكيات هذه الفئة ضمن مفهوم استغلال الهوامش لمصالح حزبية أو شخصية ضيقة.

ثابت القول باعتقادي أن مؤشرات "البوصلة المنحرفة" في التعاطي السياسي ستزيد من التيه والتشظي في حراك المعارضة، وسيزيد من تمييع اتجاهاتها، فالمسير السويّ تفرضه الأجندة المحلية والوطنية وليس الضرورات الإقليمية فحسب، وتنفذه رجالات دولة تعلي من الاهتمامات الوطنية، وترسم ملامح دربه مطالب التغيير السياسي الحقيقي التي ترفض العبث في هوية المجتمع السوري وقضاياه المركزية.

المصدر موقع نون بوست: http://goo.gl/efx21I

التصنيف مقالات الرأي
الجمعة, 06 تشرين2/نوفمبر 2015 22:53

حيثيات اجتماع فيينا لا تنذر بالانفراج

تمخض الجبل فأنجب فأراً، خرج مؤتمر فيينا الذي ضم 19 وفداً دولياً في 30 أكتوبر بمجموعة من النقاط لا تُغير من مجرى العملية السياسية الذي لايزال يخضع لتوظيفات وتطويعات تتسق مع غايات بعض الفواعل الدولية على حساب القضية المجتمعية السورية الأساس، إذ يقرر هذا المؤتمر أنه على السوريين تشكيل دولة علمانية تبقي وتحافظ على المؤسسات السورية بما فيها مؤسستي الجيش والأمن، التي تآكلت بحكم سياسة الأسد الذي عمل على زجها واستغلالها لتطوير أدواته في قمعه للحراك الثوري من جهة، أو التي أضحت  تحت السيطرة الكاملة من قبل الجيش الروسي والإيراني اليوم، كما لم يحسم هذا المؤتمر أهم مسألة والتي هو موطن خلاف بين الدول ألا وهي رحيل بشار الأسد وآلية تنفيذ الانتقال السياسي عبر انتخابات أو عبر هيئة حكم انتقالي وما هو دور الأمم المتحدة في هذا المجال، وهو ما لم يتم بحثه في فيينا مما يدلل على استمرار الهوة بين مواقف الدول.

انتهى المؤتمر من حيث بدأ وكأنه استعراض دبلوماسي جهدت موسكو لعقده بغية ضمان عدم تزمين تورطها في المشهد السوري السائل وعدم قدرتها على علاج أزمة الموارد البشرية المتزايدة في صفوف قوات الأسد وحلفائه، لذا سرعان ما تسابق الفاعلون بعد الاجتماع من الطرفين الداعم للمعارضة وللنظام لمحاولة إجراء تغيير سريع في موازين القوى السياسية والعسكرية، حيث تُقدم روسيا نفسها أنها الراعي للحل في سورية. غير أنه كان أول اجتماع من نوعه بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وبين الدول المجاورة لسورية والداعمة لكافة الأطراف، وبالتالي كان بمثابة المواجهة الأولى التي خرجت ببيان ضعيف لا يُراعي مفرزات المشهد السوري، وسرعان ما تحولت الاستقطابات بعده لإحداث تغيير في موازين القوة على الأرض ليعود كل طرف بوجه جديد تجاه الخصم. وتكمن المشكلة هنا أن الكل يحاول إيجاد الحل وفرضه على السوريين الذين تم تغييبهم في الاجتماع وتم الاكتفاء بذكر أن الحل بيد السوريين في البيان الختامي، بل وصرح أحد وزراء الخارجية الحضور أن مهمتهم التوصل للحل وأي فريق سوري لا يقبل بذلك الحل المقدم له يعتبر إرهابياً تجب محاربته وإرسال الطائرات بدون طيار.

كان تموضع الولايات المتحدة الأمريكية في فيينا ملفتاً للنظر حيث قدم نفسه كوسيط ومدير للنقاش بين الأطراف ودافعاً نحو عدم "الالتهاء" بقضية الأسد ومصيره وعدم تصنيف حزب الله والميليشيات التي استجلبها النظام كجماعات إرهابية، وعدم بحث كيف وصلنا إلى هذه النقطة من الاستعصاء في الحل، والتركيز بالمقابل على ضرورة إحداث حل سياسي يستطيع الجميع فوراً التركيز على محاربة الإرهاب، كما تم تأطير النقاش من قبل الجانب الأمريكي بـ "كيف نحارب الإرهاب في ظل حرب أهلية". إذن فالتصور للمشهد السوري لا يزال يعتريه التشويه الكبير لدى العديد من الدول وسط استقطاب حاد بين طرفين بشكل واضح: السعودية وتركيا وقطر وفرنسا وبريطانيا في مقابل روسيا وإيران والعراق وعُمان ولبنان، مع باقي الدول في الوسط يمكن جذبها لأي من الطرفين. كما أن الجانب الأمريكي بدى كأنه يُريد الحفاظ على موازين القوى وعدم اختلالها واستدراج الروس والجميع للتورط أكثر وهو يقف على الحياد ليدير الحوار بين الأطراف.

حاول الوزير الروسي وغيره اللعب على وتر "ضبابية تعريف الإرهاب" وأن المشكلة في محاربة الإرهاب هي أن التعريف غير موحد وأنهم لا يعرفون المعتدل من المتطرف، وهو محور قديم-جديد يحاول الروس شراء الوقت عن طريق الخوض فيه وتعويم المشهد في مواجهة مشهد النظام الذي وصل إلى درجة كبيرة جداً من التشرذم السياسي والعسكري والتنفيذي، بينما يستمر الروس في الواقع الميداني استهداف المشافي والمدارس والأسواق العامة للسوريين بل وفصائل المقاومة الوطنية التي حاربت وما تزال تحارب تنظيم الدولة. كما أن مناقشة تعريف الإرهاب لم يتم تأطيره بإطار واضح فرآه ممثل مصر ممثلاً بـ"الإخوان المسلمين"، وتغافل الروس عن إرهاب حزب الله معتبرين "أنه تم استدعاؤه من قبل حكومة شرعية ممثلة في الأمم المتحدة" وهذا ما يُعد انتكاساً مفاهيمياً لوظائف وأدوار الدولة، فمتى كانت تستدعي دولة عضوة في الأمم المتحدة ميليشيا عسكرية للدفاع!!!. واختلف الفرقاء على تصنيف الفصائل المقاتلة كل حسب الرؤية السياسية الخاصة ببلدانهم، وهنا أعاد مدير النقاش الأمريكي الحديث إلى كيفية إيقاف الحرب الأهلية والبدء بمحاربة داعش وتعويم النقاش وعدم حسمه ثم تأجيله.

ولا يمكن تجاهل الموقف القوي الذي سُرب للإعلام من وزير الخارجية السعودي حيث قال إن المملكة مستمرة بدعم الثوار وماضية حتى سقوط الأسد من خلال عملية سياسية أو عسكرية في حال لم يتم اعتماد خطة للحل يغادر فيها الأسد سورية. وكذلك موقف وزير الخارجية القطري والتركي المتناغم بشكل كبير مع الموقف السعودي. وكذلك موقف الوزير الفرنسي الذي واجه الروسي بشكل مباشر بأن يتوقف عن "إعطائهم الدروس" وأن "يحترم نفسه" وهي عبارات تؤكد حجم الهوة الكبير في قراءة المشهد السوري لدى كافة الأطراف.

تبقى هناك فرصة نرى بوادرها لكن لا يعلم مداها، وهي التباعد بين السياسة الروسية والإيرانية، فواضح أن الروس لم يتوقعوا حجم انهيار مؤسسات الدولة السورية فاضطروا لوضع يدهم على أغلب هذه المؤسسات وإدارتها بشكل انتداب، مما وضع الروس في موقف محرج يصعب عليهم الاستمرار فيه لمدة طويلة خاصة مع استمرار انخفاض أسعار النفط عالمياً. الواقع أكثر تعقيداً وأبعد عن الحل بيد مجموعة ال19 المجتمعين في فيينا إذ أن المصالح الدولية متناقضة لدرجة كبيرة والواقع في الأرض بعيد كل البعد عن دائرة القرار ولا يمكن فرض قرار بهذه الطريقة عليه. وستشهد المرحلة القادمة حراكاً ديبلوماسياً مكثفاً من طرف الروس مع تباعدهم (وليس تخاصمهم) عن الموقف الإيراني إضافة إلى عمل عسكري يحاول نفخ الروح في الجسم الميت للنظام، وفي المقابل ستُحاول فصائل المقاومة الوطنية الخروج بعمليات عسكرية نوعية في خواصر النظام الرخوة لتعديل ميزان الكفة والصمود في وجه الاحتلال الروسي. وتبقى الإرادة السورية الوطني تردد بأن أي حل لا يبدأ برحيل الأسد عن السلطة لا يمكن أن يحدث أي انفراج بالأزمة السورية وهو ما بدى بعيداً عن مائدة فيينا.

نشر على موقع السورية نت:https://goo.gl/wor2Hm

التصنيف مقالات الرأي
الجمعة, 04 كانون1/ديسمبر 2015 01:55

مؤتمر الرياض.. الفرصة لفاعلية سورية

ملخص: على الرغم من أن السياق العام لمخرجات فيينا لا يبدو  وأنه سيفضي إلى حل حقيقي وجدي للأزمة السورية؛ إلا أن مؤتمر الرياض يمثل حاجة ضرورية وملحة للخروج برؤية واضحة وموحدة للمعارضة، تمكنها من التحرك بفعالية سياسية حقيقية تعطل صيغ الحل الإلزامي وتقدم البديل المقنع ضمن أي مسار محتمل للعملية السياسية، ما قد يمنح قوى المعارضة فرصة ربما تكون الأخيرة ويخضعها لامتحان هو الأصعب في تاريخ الثورة السورية، مقابل ما يلقيه من مسؤوليات حقيقية على كاهل المحور الثلاثي الداعم (قطر، السعودية، تركيا) ليعيد اختبار أدواتهم في التعاطي مع الملف السوري.

حُكمت مسارات العمل السياسي والعسكري للمعارضة السورية بمجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية، والتي أفضت إلى إجهاض أيمحاولة لتوحيد الرؤى وتنسيق الجهد، وبالتالي عدم إنتاج أي فعل سياسي جمعي جاد، ما أدّى لإيكال الفضاء السياسي والعسكري لمجموع القوى الإقليمية والدولية، مقابل انطواء أجسام المعارضة السورية على ذاتها واقتصارها على التحرك بردود الأفعال وفق هوامش سياسية ضيقة وسياقات عسكرية تخضع بغالبيتها لمبدأ "إدارة الأزمة". ففشل مجموع القوى الوطنية على مر الأعوام الخمسة الفائتة عن مراكمة أي مخزون سياسي عسكري منظم من الممكن أن يعول عليه كضامن في الاستجابة السريعة لمتغيرات الظرف السياسي الإقليمي والدولي، والذي تواجه المعارضة السورية اليوم إحدى تقلباته عبر اجتماعات فيينا الأخيرة وما رشح عنها من مخرجات ورسائل يراد لها أن تعلن المرحلة الحالية بمثابة الأخيرة قبل بدأ العملية السياسية، والتي حددت أطرها العامة وفق مدخل روسي أمريكي. وتشير القراءات الأولية للحراك الدولي أن مآلات فيينا لن تصب في صالح الجانب المعارض، والذي بات أمام اختبار ربما يكون الأصعب في تاريخ الثورة السورية، مقابل ما يلقيه من مسؤوليات إضافية على كاهل المحور الثلاثي الداعم (قطر، السعودية، تركيا) ليعيد اختبار أدواتهم في التعاطي مع الملف السوري.

وفقاً لأعلاه تقوم هذه الورقة بتحديد طبيعة الاختبار والاستحقاق القادم انطلاقاً من المناخات العامة الناشئة بعد اجتماعات فيينا، وما أفرزته من مسؤولية مشتركة لكل من المحور الثلاثي وقوى المعارضة السورية، والتي سيتم اختبارها وظيفياً في مؤتمر الرياض، بالإضافة إلى رسم السيناريوهات المتوقعة لمخرجات هذا المؤتمر وديناميات التعامل معها.

المزاج السياسي الدولي بعد فيينا

أدى دخول الفاعل الروسي بشكل مباشر على المشهد السياسي والعسكري المحلي إلى تسارع الرغبة الدولية في تأطير العملية السياسية في فيينا بما يراعي شروط هذا الفاعل، ويعزز مناخات سياسية لايزال يعتريها الكثير من الغموض في الآليات والالتفافات الواضحة على القضايا الجوهرية في الملف السوري ومحاولات تأطير العملية السياسية بصيغة الفرض وفق مزاج سياسي دولي وإن لم يكتمل بعد، إلا أن مخرجات فيينا الأولية (كبيان ووقائع) وما رشح عنها من مؤشرات ترسم ملامح الظرف السياسي القائم بما يدعم نمو هذا المزاج وفق مجموعة من المعطيات ولعل أبرزها:

  • محاولة فرض رؤية روسية مبطنة بدعم أمريكي لطبيعة وشكل الحل السياسي في سورية.
  • إعادة ترتيب خطوات الانتقال السياسي وضبطها وفقاً لأولوية مكافحة الإرهاب كمدخل أول وإطار عام للحل.
  • محاولات إعادة رسم خريطة القوى العسكرية السورية على أساس تصنيف الإرهاب والاعتدال، وبالتالي تحديد الفاعلين في تلك العملية السياسية واستثناء آخرين ودفعهم في خانة الإرهاب.
  • ترحيل إشكالية حضور الأسد خلال المرحلة الانتقالية، والتي يشير مناخ الاجتماعات إلى احتمالية تعليقها واختزالها بترشحه من عدمه.
  • انكفاء السياسة الأمريكية في تصدر وإدارة الملف السوري لصالح روسيا.
  • احتمالية دفع موسكو بتدخلها العسكري المباشر بعض الفاعلين الدوليين والإقليمين للتنسيق وفقاً لسياساتها من خلال تأمينها بعض النقاط التي تتقاطع مع استراتيجياتهم: ولعل أبرزها تلك النقاط:

أ‌.         تأمين الضامن للمرحلة الانتقالية بعد الدخول العسكري على الأرض وإخضاع النظام والإيرانيين للإرادة الروسية.

ب‌.     احتمالية تحول الروس إلى معادل قوى حقيقي ضابط للنفوذ الإيراني في سورية بشكل خاص والمنطقة بشكل عام.

ت‌.     توفير الجهد الأمريكي عبر تصدر موسكو المشهد، ما يمنح واشنطن فرصة التهرب من مسؤولياتها واستكمال سياستها في إدارةالملف السوري من الخلف.

ث‌.     التصعيد من أهمية مكافحة الإرهاب لابتزاز مجموع القوى الدولية والإقليمية للتنسيق معها وعلى رأسهم أوروبا المشوشة في حسم موقفها. وذلك عبر زيادة الفاعلية العسكرية على الأرض وتكثيف الجهد الدبلوماسي.

 

  • اتجاه الدور الأوروبي بعد تفجيرات باريس وعلى رأسه فرنسا لصالح أولوية مكافحة الإرهاب، ما قد يدفع لحرف بوصلة القارة العجوز في الملف السوري بالاستجابة لدعوات التنسيق مع الفاعل الروسي، وبالتالي احتمالية القبول بقيادة الأسد للمرحلة الانتقالية، يساهم في ذلك ما تعانيه من تفاقم أزمة اللاجئين، ناهيك أن الاتفاق قد ينسجم والرؤية الأوروبية لطبيعة الحل السياسي في سورية.
  • محاولات موسكو وطهران خلال اجتماعات فيينا إيقاع المحور الثلاثي (القطري، التركي، السعودي) في فخ سحب الشرعية عن بعض الفصائل السورية الثورية، عبر تصنيف جديد للإرهاب، ونجاح المحور ذاته في المناورة عبر الدفع المضاد وإبراز الفصائل السورية المعتدلة.
  • مراعاة موسكو بطرحها محددات النظام الأمني الإسرائيلي في المنطقة، وبالتالي كسب المزيد من الحشد الدولي من أهم الفاعلين في رسم سياسات المنطقة.
  • احتمالية تحول مخرجات فيينا إلى إلزام دولي عبر دعمها من قبل الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن.

إن مجموع تلك النقاط والمؤشرات وفقاً للظرف السياسي الأمني الدولي والإقليمي؛ إنما ينذر بسير الحل السياسي ما بعد فيينا بصيغة ("إما" و "أو")، فإما أن تلج القوى المحلية بالعملية السياسية من المدخل الدولي الأولي المتوافق عليه لإنهاء الصراع، أو فلتستعد إلى التصنيف ضمن الضفة الأخرى وما يقابلها من اصطفاف دولي إقليمي. ما يضع المعارضة السورية بشقيها العسكري والسياسي أمام تحد صعب لتحسين تموضعها في مسار العملية السياسية المرتقبة، كفاعل في رسم ملامحها وأساس في ضبطها وليس معطى من معطياتها. لتأتي في هذا السياق الدعوة الأخيرة لمؤتمر الرياض كجهد دولي إقليمي واستجابة سريعة لضرورات المرحلة في توحيد جهود المعارضة السورية ودفعها باتجاه التوافق حول وثائق جامعة تتقاطع من خلالها الرؤى المختلفة بشكل يساهم في تسهيل استكمالها متطلبات العملية السياسية، ما قد يمنح قوى المعارضة فرصة جديدة ويخضعها لامتحان وتحد، ربما يكون الأصعب في تاريخ الثورة السورية، مقابل ما يلقيه من مسؤوليات حقيقية على كاهل المحور الثلاثي الداعم(قطر، السعودية، تركيا) ليعيد اختبار أدواتهم في التعاطي مع الملف السوري.

مؤتمر الرياض (الاختبار الوظيفي)

تتجه المؤشرات السابقة واحتمالية تطورها نحو حسم التصور الدولي والإقليمي المشوش لطبيعة وشكل المرحلة الانتقالية، والذي قد ينتج عنه عدة تصورات، ربما يمثل إحداها احتمالية نجاح السعي الروسي بإقناع المجموعة الدولية بضرورة بقاء الأسد (كبقايا مؤسسة) خلال المرحلة الانتقالية وقيادته لها، مستغلة بذلك النقاط المذكورة سابقاً مقابل تراخي المعارضة السورية في تقديم بديل وإثبات فاعلية سياسية وعسكرية، ما قد يسنح لموسكو فرصة تقديم الأسد وقواته كبديل وشريك لمكافحة الإرهاب، بعد إحداث عدة تغييرات في المؤسسة العسكرية التابعة للنظام لتتناسب وتلك الشراكة الدولية.

وإذ يمثل التصور السابق إحدى الإفرازات المحتملة للسياق السياسي الدولي؛ فإن عرقلته أو خلق بدائل يبقى مرهوناً بأداء المعارضة السورية والداعمين من مجموعة أصدقاء سورية، وحسن استثمارهم لفرصة مؤتمر الرياض وفق الظرف الإقليمي والدولي القائم وتحويل تلك الفرصة إلى فعل جمعي جاد على الأرض. فعلى الرغم مما قدمه سياق اجتماعات فيينا من محاولات لتحديد أولويات المرحلة الانتقالية بمكافحة الإرهاب؛ إلا أن تخبط القوى الإقليمية والدولية في البحث عن شريك حقيقي على الأرض في التصدي لتلك المهمة مازال واضحاً، الأمر الذي تلوح معه فرصة سانحة للمعارضة السورية في تجميع صفوفها السياسية والعسكرية على الأرض وتقديم بديل موحد ومتماسك وشريك حقيقي، يساهم في تقوية بعض المواقف الدولية والإقليمية الداعمة للثورة، والتي بدأت تتراجع نتيجة غياب البديل،

بالمقابل فإن استثمار هذه الفرصة ضمن هذا المناخ الدولي المعقد والمصالح الإقليمية المتضاربة، لا يتوقف على المعارضة السورية في توحيد جهودها فحسب، وإنما يتطلب جهداً رديفاً يبذله المحور الثلاثي الداعم. حيث أن أسباب فشل توحيد رؤى المعارضة السورية بشقيها كان محكوماً بمجموعة أسباب ذاتية وموضوعية، فإذ تتحمل المعارضة الجزء الأكبر من حالة التشظي هذه؛ إلا أن ذلك لا يعفي مجموع القوى الدولية والإقليمية من تغذية هذا الشرخ أو محاولات رأبه بطريقة فاشلة، ما يحمل الطرفين مسؤولية مشتركة وذلك لما تجاوزته الأزمة السورية من حدود الجغرافية إلى إنتاج نظام أمني إقليمي جديد في المنطقة. الأمر الذي يلقي على الطرفين مجموعة من المسؤوليات، يتفرع عنها عدة مهام لابد من ترجمتها خلال مؤتمر الرياض على مستويين:
المستوى الأول: المعارضة السورية (اختبار الأداء)

بعد حالة الاستعصاء والأفق المسدود التي وصل إليها مجموع القوى الدولية والإقليمية حيال الأزمة السورية بالأدوات الحالية؛ تبدو الخيارات الدولية مفتوحة على العديد من الاحتمالات و المناخ الدولي والإقليمي الداعم متعطشاً لأي مبادرة سورية تقدم طرحاً بديلاً عن خيار نظام الأسد، والذي لازال يسبق المعارضة بامتلاك هيكل دولة، مبتزاً عبره المجتمع الدولي وتحديداً في إطار مكافحة الإرهاب، لذلك فإن أي توافق حول رؤية سورية موحدة صادرة عن المعارضة في مؤتمر الرياض تغلب عليها صيغة العمل الدولتي، يمكن أن تكون نواة لتبلور موقف موحد للداعمين الإقليمين والدوليين حول حل للأزمة؛ لذا فإن صياغة المعارضة في مؤتمر الرياض لتصور وطني جامع متقاطع مع متطلبات المجتمع الدولي، لابد وأن يركز على الجوانب التالية:

    الجانب العسكري: خلق صيغة مشتركة للعمل العسكري الموحد، يغلب عليها الطابع المؤسساتي، من جهة وضوح سلسلة الأوامر والمسؤوليات، بحيث تقدم بديل مقنع وشريك فاعل على الأرض في ضبط الأمن، ويترتب عليها ما يلي:

أ‌. متابعة شؤون الجبهات العسكرية ضد النظام والاحتلالين الروسي والإيراني وتنظيم الدولة وفق آليات تنسيق مشتركة.

ب‌. استمرار التنسيق والجهد للوصول إلى مؤسسة عسكرية موحدة إن لم تشكل نواة لجيش سوري بديل، فإنها تمثل ضامن رئيس لأي عملية دمج وإعادة هيكلة للمؤسسة العسكرية والأمنية السورية خلال المرحلة الانتقالية.

ت‌. تفويض مجموع القوى الوطنية في إدارة التزاماتها السياسية في أي تفاوض مستقبلي.  

    الجانب السياسي: خلق صيغة عمل سياسي وطني، تجمع الفصائل السياسية السورية المعارضة وتوحد رؤاها حول طبيعة الحل في سورية وفقاً لميثاق عمل وطني، يتضمن المبادئ الأساسية لعملية التفاوض، والتي تنسجم مع تطلعات الشعب السوري. وتضطلع بالمهام التالية:

أ‌.         صياغة ثوابت العملية التفاوضية وعلى رأسها رحيل بشار الأسد.

ب‌.     تقديم رؤية سياسية واضحة للعملية الانتقالية وفق أي سيناريو محتمل.

ت‌.     تقديم مشروع واضح ومتكامل لمكافحة الإرهاب وحفظ الأمن الحدودي.

ث‌.     تشكل فريق تفاوضي من السياسيين والعسكريين يتولى تمثيلها خلال العملية التفاوضية.

ج‌.      تعيين ممثلي المعارضة في هيئة الحكم الانتقالي.

ح‌.      متابعة شؤون الجبهات والإشراف على العمل العسكري.
المستوى الثاني: المحور الثلاثي واختبار المسؤول

وإذ يتطلب إنجاح مؤتمر الرياض جهداً مكثفاً وسريعاً من المعارضة السورية؛ فإنه يتوقف بدرجة لا تقل أهمية على اتساق رؤى المحور الثلاثي (السعودي، التركي، القطري) قبل توحيد رؤى المعارضة، حيث أن إدارة الملف السوري بالتنافس بين دول هذا المحور وما نتج عنها من دعم مشاريع خاصة زادت حدة الاستقطاب في صفوف المعارضة السياسية والعسكرية، أدى إلى استعصاء الملف السوري داخلياً وخارجياً. ما يلقي عليها مهام ومسؤوليات مضاعفة على رأسها إخراج صيغ وأشكال الدعم من معادلات الضغط السياسي، وإعادة تنسيقه وتوحيده، إضافة إلى الدفع خلال المؤتمر باتجاه:

أ‌.         دعم أي رؤية سورية وطنية ناتجة عن هذا المؤتمر.

ب‌.     تفعيل أدوات الضغط التي تمتلكها في توحيد هذه الرؤية وضمان استمرارها.

ت‌.     تنشيط الجهد الدبلوماسي على المستوى الدولي في الحشد وعرقلة الجهود المضادة.

ث‌.     تكثيف جهود المملكة العربية السعودية في بلورة رؤية خليجية وعربية تدعم ما يرشح عن مؤتمر الرياض من قرارات.

ج‌.      الاستمرار في الدعم العسكري على الأرض والذي سيغير الكثير في المعادلة السياسية ما قبل بدأ العملية التفاوضية.
خلاصة

على الرغم من أن الصيغة الحالية والسياق العام لمخرجات فيينا لا يبدو وأنها ستفضي إلى حل حقيقي للأزمة السورية؛ إلا أن مؤتمر الرياض وهدفه في توحيد المعارضة يمثل حاجة ضرورية وملحة للخروج برؤية واضحة وموحدة للمعارضة تمكنها من التحرك بفعالية سياسية حقيقية، تعطل صيغ الحل الإلزامي وتقدم البديل المقنع، سواء من خلال فيينا أو غيرها من المسارات المحتملة للعملية السياسية، والتي لن تمثل في هذا الوقت بالذات إنهاء للصراع على الأرض بقدر ماهي استكمال له ولكن بأدوات سياسية، الأمر الذي يحمّل اليوم الأطراف المختلفة مسؤولية إدارة اللحظة سواء المعارضة عبر تقديمها نموذجاً قادراً على المحافظة على الحد الأدنى من مطالب الثورة السورية، أو الدول الإقليمية الداعمة و المدركة تماماً أن نجاح الثورة السورية من عدمه لم يعد متعلقاً بالسوريين بقدر ما يمثله من إنتاج نظام أمن إقليمي جديد يحدد درجة استقرار المنطقة ويلجم المشاريع الدخيلة على حساب الجغرافية العربية.

إن الواقع السياسي الحالي الموسوم بانحسار الخيارات لم يكن وليد العدم، بقدر ما هو نتيجة لعدة ثوابت ومتغيرات تراكمية، أبرزها ثابت لعنة الجغرافية المرافق لسوريا والتي تشابكت عبره المصالح الدولية والإقليمية وتعددت من خلاله المقاربات والمداخل المصلحية (سياسة، أمن، جيوبولتيك)، وما انعكست به على الملف السوري منذ تاريخ 15/3/2011. من سوء إدارة خارجية نتيجة التجاذبات وضعف إدارة داخلية من قبل المعارضة السورية، ليصل مسار الثورة السورية إلى لحظة حرجة تهدد مستقبل سورية والمنطقة العربية.

التصنيف تقدير الموقف
الخميس, 19 شباط/فبراير 2015 01:46

معركة جوبر نموذج متقدم في المقاومة

لا تزال المعارك قائمة بين قوات النظام الحاكم وقوات الثورة على أطراف دمشق في بلدة جوبر دون حسم لأي من طرفي الصراع، وحينما لا تحقّق المعارك الهدف السياسي المناط بها تمسي عبئاً على الطرف المهاجم الذي يخسر بسبب استمرارية مقاومة الخصم، وحيث بات النظام يدرك أنّ خصمه يراهن على قوة الإرادة كأساسٍ للصمود والاستمرارية حاول تجريب استراتيجية كسر هذه الإرادة بتكتيكات تتراوح ما بين الإبادة وعرض المصالحة، وهو ما لم ينجح النظام بتحقيقه إلى غاية الآن.

التصنيف تقدير الموقف

تعاني السياسات الأمريكية والروسية اضطراباً في السلوكيات وبراغماتيةً في الغايات والطموحات الدولية تجاه المشرق العربي بحكم العامل المحلي لكل منهما، وقد أفرزت هذه السياسات جنباً إلى جنب مع المتغيرات الدخيلة ذات التداعيات الجيوسياسية تسارعاً وسيولة في الأحداث، الأمر الذي يجعل قوى المعارضة السورية تبحث عن فرص كامنة من شأنها تحسين تموضعها السياسي والعسكري

التصنيف الدراسات
الإثنين تموز/يوليو 22
المُلخَّص التنفيذي: قسَّمت الدراسة مبناها المنهجي وسياقها المعلوماتي والتحليلي إلى فصول ثلاثة، مثّل الفصل الأول منها: مدخلاً ومراجعة لتاريخ القبائل والعشائر في الجغرافية السورية بشكل عام وفي محافظتي حلب وإدلب…
نُشرت في  الكتب 
الأربعاء آب/أغسطس 23
يأتي نشر هذا الكتاب في وقت عصيب على سورية، خاصة في أعقاب الكارثة الطبيعية التي حلت بالبلاد، إضافة إلى الزلازل السياسية التي شهدها الشعب السوري منذ بداية الثورة السورية عام…
نُشرت في  الكتب 
الخميس نيسان/أبريل 29
الملخص التنفيذي مع تراجع سُلطة الدولة المركزية لصالح صعود تشكيلات دون دولتية، منها ذات طابع قومي وديني؛ برزت نماذج مختلفة من أنماط الحكم المحلي في الجغرافية السورية، والتي تأثرت بالخارطة…
نُشرت في  الكتب 
يرى المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف، في تصريح صحفي لجريدة عنب…
الثلاثاء نيسان/أبريل 02
شارك الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية الأستاذ سامر الأحمد ضمن برنامج صباح سوريا الذي…
الأربعاء تشرين2/نوفمبر 29
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في فعاليات المنتدى الاقتصادي الخليجي…
الجمعة تشرين2/نوفمبر 24
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في رؤية تحليلية للحرب على…
الإثنين تشرين2/نوفمبر 20