تمهيد
بعد توقف القتال، وانخفاض مستوى العنف في سورية بعد عام 2021، انشغلت سلطات الأمر الواقع في جميع المناطق بعملية مأسسة بهدف هيمنتها على مفاصل الحكم في مناطقها، وبشكل منافس لحكومة نظام الأسد. غير أن عملية المأسسة تفاوتت بين المناطق، سواء لناحية التنظيم، أو عمق وحجم مستوى المأسسة (الثخانة المؤسساتية)، أو القدرة على تقديم الخدمات، مع ضعف واضح في عملية القوننة والتشريعات.
تنطلق الورقة من واقع الحال الذي آلت إليه البلاد والذي يتمثل بمجموعة من الحقائق على الأرض تتمثل بما يلي:
أولاً: باتت سلطات الأمر الواقع في تلك المرحلة أكثر ترسخاً في المناطق التي تحكمها. فمن ناحية أولى، بدت هذه السلطات المقدم الأساسي للخدمات سواء كانت ذات طابع خدمي، أم أمني، أم قضائي. ومن ناحية أخرى، بدت هذه السلطات محمية، ولو في المرحلة الزمنية تلك فقط، بفعل وجود قوات أجنبية تساندها وتدعمها، بل وتحميها، إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر عبر ترتيبات دولية. ولم يبدو أن هذه السلطات ستتغير بشكل حاسم خلال المرحلة تلك، وفي ظل سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول وإعادة توحيد أغلب الأراضي السورية تحت حكومة جديدة في دمشق حتى لحظة كتابة هذه الورقة، أصبح لزاماً معرفة قدرات سلطات الأمر الواقع سابقاً، ومدى نجاحها في تلبية احتياجات المجتمع المتنوعة، وأدوات حكمها، لسببين: الأول فهم النماذج المختلفة التي تم استخدامها، والثاني تطوير توصيات حول آليات إعادة دمج هذه النماذج مع بعضها بعضاً بعد سنوات من ترسيخ آليات حوكمة مختلفة.
ثانياً: خلال فترة حكم سلطات الأمر الواقع، لم تحصل أي سلطة في سورية على تفويض حقيقي من المجتمع الذي كانت تحكمه، بناء على انتخابات شرعية وديمقراطية ونزيهة وحرة، وهي بمجملها، سلطات أمر واقع، لم يمتلك المجتمع سوى روافع هامشية لمساءلتها أو إزاحتها. رغم ذلك كان هناك بعض القبول لدى شريحة من المجتمعات التي تحكمها، سواء لقدرتها على تقديم الخدمات، بما في ذلك الأمن والصحة والتعليم والبنى التحتية، أو لأنها تعدّها حامية لها من حملات عسكرية قد يشنها هذا الطرف أو ذاك.
ثالثاً: واقع الأمر في تلك المرحلة أن البلاد مقسمة إلى ثلاث مناطق نفوذ، وأربع مناطق سيطرة، وسبع أنماط حوكمة. مناطق النفوذ هي: مناطق نفوذ إيران وروسيا والتي تضم المناطق التي تسيطر عليها حكومة نظام الأسد، ومناطق نفوذ تركيا في شمال غرب البلاد، ومناطق نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في شمال شرق سورية. أما مناطق السيطرة، فهي مناطق سيطرة حكومة نظام الأسد، ومناطق سيطرة حكومة الإنقاذ، ومناطق سيطرة الحكومة المؤقتة، ومناطق سيطرة الإدارة الذاتية. تنقسم هذه المناطق، وفق فرضيتنا إلى سبع "مناطق" حوكمة بحسب نموذج الحوكمة فيها، والجهة المحتكرة للعنف، والجهة الموفرة للتمويل. فمناطق سيطرة حكومة نظام الأسد، تتفرع إلى ثلاث مناطق حوكمة بالحد الأدنى. الأولى: مناطق سيطرة حكومة نظام الأسد، التي تحتكر العنف، ولو نسبياً في دمشق، وريف دمشق، والقنيطرة، وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس وأجزاء واسعة من حلب ودير الزور، وتطبق فيها قوانين الدولة السورية. المنطقة الثانية: السويداء، حيث لا تحتكر العنف جهة واحدة، بل تتقاسمه الفصائل المحلية وحكومة نظام الأسد، علماً أن حكومة نظام الأسد المزود الأساسي للخدمات جنباً إلى جنب مع منظمات محلية، وتطبق نسخة معدلة فيها من قوانين الدولة، وبحسب توازنات القوى بين الفصائل وقوى الأمن السورية. أما درعا، فهي بدورها نموذج مختلف، تتقاسم العنف فيها حكومة نظام الأسد مع اللواء الثامن واللجان المركزية، وهي قوى عسكرية تمثل المعارضة المسلحة التي دخلت، بوساطة روسية، في مصالحات مع حكومة نظام الأسد في عام 2018، وتقدم الخدمات فيها مؤسسات الدولة إلى جانب عدد من المبادرات المحلية. أما مناطق شمال شرق سورية: فتنقسم إلى مناطق الإدارة الذاتية، ذات الغالبية الكردية، والتي تعتمد بشكل أساسي على منظومة حوكمة تعتمد على ما يسمى بوحدات حماية الشعب، ووحدات حماية المرأة، وتمويل مباشر من الإدارة الذاتية المعتمد على النفط، في حين أن مناطق الإدارة المدنية ذات الغالبية العربية تعتمد على مجالس عسكرية وتستند إلى تمويل المانحين، وعلى رأسهم المانح الأمريكي، وتتشارك عملية تقديم الخدمات المنظمات المحلية والدولية ومؤسسات الإدارة الذاتية. أخيراً تنقسم مناطق شمال غرب سورية إلى مناطق حكومة الإنقاذ في إدلب، ومناطق الحكومة المؤقتة في شمال حلب. على الرغم من زوال حدود مناطق النفوذ والسيطرة نسبياً، والظاهر أن سورية باتجاهها لتتوحد مجدداً، إلا أن أشكال الحوكمة التي ترسخت على مدار السنين ما تزال تفرض نفسها كتحدٍ جوهري بوجه حكومة دمشق الجديدة في إعادة دمج هذه المنظومات التي تختلف في مستوياتها الحوكمية وثخانتها المؤسسية.
رابعاً: عانت غالبية المناطق في سورية من فراغ تشريعي كبير، إذ لا تُعرف المنظومة القانونية التي تخضع لها المجتمعات، وتطبقها السلطات. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يخضع المواطنون في شمال شرق سورية لقوانين الدولة السورية، أو لقوانين الإدارة الذاتية، أو لكليهما. كما اعتمدت الكثير من المجتمعات آليات مجتمعية، كلجان الصلح، واللجان الشرعية، والقواعد القبلية في تطبيق منظومة خاصة بها. بالتالي، لم تستطيع المجتمعات معرفة المنظومة القانونية المعرفة في مناطق سكناها، وبالتالي تقييمها.
وبناء عليه، حاولنا في دراستنا فهم تقييم المجتمعات المحلية في كل منطقة من مناطق الحوكمة السبع عن منظومة الحوكمة التي تطبقها السلطات فيها، وبالتالي الوقوف على حالة الحوكمة في البلاد، وفهم التباينات بين المناطق. سيساعد مثل هذا الفهم، على تقدير حجم التحديات المتوقعة في عملية إعادة توحيد البلاد، إذ نأمل أن تمكننا هذه الدراسة من معرفة مقدار تصلب الفروقات الحوكمية بين المناطق، وحجم وشكل الاستقرار المجتمعي. كما يمكن للمعرفة الناجمة عن مثل هذه الدراسة من تحديد النموذج الأكثر قدرة على الاستقرار، وبالتالي توفير معرفة عن أفضل الممارسات التي يمكن أن تطبق خلال عملية إعادة توحيد المنظومة الحوكمية السورية.
تنطلق الدراسة بداية من شرح المنهجية التي تم تجميع البيانات وتحليلها من خلالها، ثم نتحدث عن أهم النتائج شارحين حالة مؤشرات الحوكمة بشكل عام، ومن ثم ندرس كل منطقة حوكمة بشكل منفصل، محاولين استخلاص أهم النتائج في كل منطقة من المناطق، وعلى مستوى البلاد عموماً.
لقراءة الدراسة كاملة: https://bit.ly/4alMK1n