تمهيد
يمثل القطاع العام في سورية إحدى الركائز الاقتصادية والاجتماعية التي اعتمدت عليها الدولة منذ وصول عائلة الأسد إلى السلطة في سبعينيات القرن الماضي. بُني هذا القطاع على أساس نموذج الاقتصاد الاشتراكي القائم على التخطيط المركزي، وتم تأميم العديد من الشركات الكبرى والمؤسسات الاقتصادية بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة. إلا أن هذا النموذج، وعلى الرغم من طموحاته، واجه العديد من الإشكاليات البنيوية التي أثّرت على أدائه واستدامته.
تحولت شركات ومؤسسات القطاع العام خلال العقود الخمسة الماضية إلى أحد مظاهر الاقتصاد غير المنتج، فغلبت عليه البيروقراطية والمحسوبية والفساد والتدخل السياسي. وجرّاء ممارسات النظام وسياساته خلال الثورة تضاعفت التحديات التي تواجهها تلك الشركات نتيجة تراجع الموارد الاقتصادية، وانهيار البنية التحتية والعقوبات الدولية.
بعد سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024، صرّح وزير المالية في حكومة تسيير الأعمال محمد أبازيد عن حجم الفساد في هذا القطاع، وعن خطط لخصخصة بعض الشركات، ليصبح إصلاح هذا القطاع ضرورة حتمية لأي جهود تهدف إلى إعادة بناء الاقتصاد السوري في المرحلة المقبلة. وعليه تهدف هذه الورقة إلى تسليط الضوء على هذا القطاع والإشكاليات الجوهرية التي يعاني منها، مع تقديم مقترحات عملية لإصلاحه في المرحلة القادمة.
القطاع العام: الموظّف الرئيس في الدولة
يُعد القطاع العام في سورية العمود الفقري للاقتصاد الوطني السوري منذ حوالي 5 عقود، ويشمل مجموعة واسعة من الوزارات والمؤسسات والشركات التي تغطي قطاعات حيوية، مثل: الصناعة والطاقة والنقل والتجارة والخدمات، كما هو موضّح في الجدول أدناه، ويبلغ عدد الشركات أكثر من 300 شركة ومؤسسة تعمل في مختلف التخصصات، معظمها خاسرة، إذ بلغ حجم الخسائر ما بين عامي 2006 و2011، تريليون و480 مليار و411 مليون ليرة سورية، بحسب تقرير للجهاز المركزي للرقابة المالية([1]).
مثّلت الحكومة أكبر جهة توظيف، ويمكن تقسيم القوى العاملة في القطاع العام إلى فئتين رئيسيتين: موظفو الخدمة العامة، وموظفو المؤسسات العامة. موظفو الخدمة العامة هم العاملون في الدولة في المناصب الإدارية والخدمية (مثل الصحة والتعليم والمجالس المحلية، وغيرها)، ويمثلون العمود الفقري للدولة بحوالي 56% من القوى العاملة في القطاع العام وفقاً لبيانات عام 2018. أما موظفو المؤسسات العامة، فهم العاملون في القطاعات الإنتاجية (مثل الصناعات الاستخراجية والتصنيعية)، وبلغ عددهم حوالي 700,000 عامل في عام 2018([2]). وبلغ إجمالي عدد الموظفين في القطاع العام ضمن وزارات الدولة في عام 2022 باستثناء موظفي وزارة الدفاع حوالي 911,955 موظفاً([3]) كما هو موضح في الشكل أدناه:
وللقطاع العام الحصة الأكبر بتجهيزاته وآلاته، وموارده ومستلزمات إنتاجه، وعمّاله وكوادره المؤهلة، والاستثمارات والأموال التي صُرفت ونفذت لدعمه وتطويره على مدار العقود الماضية([4]). وتتفاوت آليات العمل فيه بين المركزية واللامركزية، إذ تخضع معظم تلك المؤسسات والشركات لإشراف الوزارات المعنية وتوجيهاتها، وتتسم بهياكل إدارية تقليدية يغلب عليها التسلسل الهرمي والالتزام باللوائح والأنظمة الحكومية، وتتميز بإجراءات بيرقراطية عالية، أثّر بشكل كبير على الجهود المبذولة لتحديثها وتطويرها.
الإشكاليات الرئيسة في شركات القطاع العام
تراكمت جملة من الإشكاليات على شركات ومؤسسات القطاع العام على مر السنوات، أدت إلى تراجع أدائه وكفاءته. وبينما كان من المتوقع أن يكون هذا القطاع رافعةً للاقتصاد السوري، أصبحت إشكالياته المتشابكة تعيق تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المرجوة. ومن جملة تلك الإشكاليات ما يلي:
الفساد والتسييس
يتمثل الفساد في القطاع العام في مستويات متفاقمة من المحسوبية ونهب الموارد، وتُدار المؤسسات لتخدم مصالح النخب السياسية المرتبطة بالنظام ودوائره على حساب الكفاءة والفعالية. وتؤدي هذه الطريقة في الإدارة إلى تآكل الثقة بين المواطنين وتلك المؤسسات، مما يخلق بيئة من الاستياء الشعبي وعدم الاستقرار الاقتصادي، كما تُعزز المحسوبية من تقويض الكفاءات وتحويل الموارد نحو استخدامات غير منتجة. حتى عندما أقرّ النظام خصخصة بعض الأصول في القطاع العام قبل الثورة أو بعدها، تم منح عقود وامتيازات لشركات خاصة غالباً ما تكون مملوكة لشخصيات قريبة من النظام. كما تم إنشاء شراكات مع القطاع الخاص، إذ تتولى الشركات الخاصة مهام القطاع العام في قطاعات حيوية مثل الكهرباء والنقل، ولكن بدون شفافية أو منافسة عادلة.
نقص التمويل والعجز الاستثماري
عانت الشركات العامة من بنية تحتية وتقنية متهالكة نتيجة غياب الاستثمارات الموجهة نحو التطوير، كما أن الأولويات المالية غير المدروسة أدت إلى تبديد الموارد. ويعد ضعف الإنفاق الرأسمالي أحد الأسباب الرئيسة لعجز هذه الشركات عن الابتكار أو تحسين إنتاجيتها، مما أدى مع الوقت إلى فقدانها القدرة على المنافسة محلياً وإقليمياً ودولياً، ويتزامن هذا مع اعتماد مفرط على الدعم الحكومي، الذي غالباً ما يُوجه بطرق تفتقر إلى الشفافية.
القصور الإداري والحوكمة الضعيفة
اتسمت الإدارة في الشركات العامة بغياب الكفاءات المؤهلة وسوء التخطيط الاستراتيجي، فضلاً عن ضعف أنظمة الحوكمة والرقابة الداخلية. يؤدي هذا القصور إلى تفاقم الهدر المالي والفساد الإداري، ويجعل الشركات عاجزة عن تلبية الاحتياجات المتزايدة للمجتمع. إضافة إلى ذلك، فإن الهيكلية الإدارية الثقيلة تُعيق عمليات اتخاذ القرار، مما يجعل هذه المؤسسات بطيئة الاستجابة للتغيرات الاقتصادية والاحتياجات السوقية. كما تفتقر الإدارات الحكومية إلى هيئات تخطيطية مؤهلة أدت إلى سوء التخطيط الاستراتيجي وضعف التنسيق بين المؤسسات.
ضعف الرواتب والبطالة المقنّعة
أدى تدني الأجور وغياب الحوافز المناسبة في شركات القطاع العام إلى استقالات وتسرّب الموظفين إلى القطاع الخاص أو السفر خارج البلد، واتبعت شركات ومؤسسات القطاع العام سياسات توظيف أدت إلى تراكم موظفين لا يقدمون خدمات فعلية، وتوظيف أفراد دون مؤهلات مناسبة، خاصة من المسرّحين من الجيش، ما أدى إلى تدهور الأداء الوظيفي، وانخفاض الإنتاجية وزيادة الفساد والوصول إلى البطالة المقنعة.
النماذج المقترحة للإصلاح بعد سقوط النظام
أعلنت حكومة تسيير الأعمال عن نيتها تنفيذ حزمة من الإصلاحات، تشمل خطط لخصخصة بعض الشركات الحكومية التي تعاني من خسائر مستمرة، وتعكس هذه التصريحات توجهاً نحو هيكلة اقتصادية، والانتقال من نموذج التخطيط المركزي والاشتراكية الذي اتبعته البلاد في العقود الماضية، إلى نموذج اقتصادي أكثر انفتاحاً على القطاع الخاص وأكثر مرونة، يستند إلى مبادئ السوق الحرة والشراكة بين القطاعين العام والخاص. مع الإشارة أن هذه العملية برمتها ينبغي أن تتم بإشراف لجان اقتصادية مختصة ضمن إطار الحكومة الانتقالية المقبلة. كما ينبغي دراسة هذه الهيكلة بشكل متأنٍ لضمان تحقيق أهدافها على المدى البعيد، مع تخصيص الوقت الكافي لتجنب اتخاذ قرارات متسرعة قد تؤدي إلى آثار سلبية على الاقتصاد والمجتمع.
وفي هذا الإطار يمكن الاستعانة ببعض النماذج التالية للخصخصة والإصلاح:
خصخصة جزئية مدروسة
قد يكون هذا الخيار الأكثر ترجيحاً في سورية خلال الفترة القادمة، إذ يمكن تبني نموذج الخصخصة الجزئية الذي يعتمد على الشراكة مع القطاع الخاص المحلي والأجنبي، وذلك بعد إجراء تقييم شامل لأصول الشركات العامة وتحديد القطاعات التي يمكن أن تستفيد من هذه الشراكات. من شأن هذا النموذج ضمان استمرارية الخدمات الأساسية، وتحسين كفاءة التشغيل، وجذب رؤوس الأموال، وإعادة توجيه الموارد نحو الأولويات الوطنية بما يضمن العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، واكتساب الشركات العامة ديناميكية جديدة تُعزز من قدرتها على الابتكار والنمو.
إعادة هيكلة الشركات الكبرى
بعض الشركات الكبرى قد تحتاج إلى تقسيمها إلى وحدات أصغر تتمتع بالاستقلالية الإدارية والمالية، ما يسهل عمليات المتابعة والمساءلة، وتكون قادرة على الاستجابة الفورية لتحديات السوق واحتياجاته. كما يُمكن تعزيز هذه الوحدات من خلال اعتماد خطط تدريبية متقدمة لضمان توفير كفاءات قادرة على الإدارة الفعّالة. سيفيد هذا النموذج في تحسين الأداء التشغيلي، وتعزيز قدرة الشركات على تحديد ومعالجة مراكز الخسائر بفعالية. علاوة على ذلك، يمكن لهذه الهيكلة أن تُحسن من توزيع الموارد، وتُتيح استثماراً أفضل في التكنولوجيا والبنية التحتية.
تعزيز الحوكمة والشفافية
يمكن العمل على إدخال نظام حوكمة فعّال يرتكز على الشفافية والمساءلة والمشاركة المجتمعية في القطاع العام. ويتطلب هذا النموذج إنشاء هيئات رقابية مستقلة، تعمل على متابعة الأداء وتقييم النتائج. وينبغي أن تكون هذه الحوكمة مدعومةً بتشريعات قوية تمنع التدخلات السياسية، وتحمي حقوق العاملين والمستهلكين على حد سواء، للحد من تدخلات الحكومة والتسييس غير المشروع، وتعزيز الثقة بين المؤسسات والمجتمع.
التحول الرقمي للشركات العامة
دمج التكنولوجيا الرقمية في عمليات الشركات العامة لتحسين الكفاءة وتقليل الفساد، وذلك من خلال أنظمة إلكترونية تُعزز الشفافية وتُسرّع عمليات اتخاذ القرار، وتعمل على تحسين جودة الخدمات المُقدمة، وزيادة الكفاءة التشغيلية، وخفض التكاليف الإدارية. علاوة على ذلك، يُمكن للتكنولوجيا أن تُسهم في تعزيز الابتكار وتحقيق الاستدامة الاقتصادية.
أخيراً، يُمثّل إصلاح القطاع العام في سورية خطوة مهمة لتحقيق الانتعاش الاقتصادي والتنمية المستدامة بعد سقوط النظام، ويعتمد نجاح هذه العملية بشكل كبير على رؤية استراتيجية شاملة تتضمن معالجة الجذور المؤسسية للفساد، وتبني أنماطاً حوكمة رشيدة من خلال تطبيق مبادئ الشفافية والمحاسبة، بالإضافة إلى إعادة هيكلة السياسات المالية والاستثمارية.
ويعدّ اعتماد نموذج الخصخصة الجزئية المدروسة، والشراكة بين القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى التحول الرقمي في أداء الشركات العامة، من الأدوات الهامة لإعادة تنشيط الاقتصاد. لكن، لتحقيق الأثر المرجو، ينبغي أن تكون هذه الخصخصة مستندة إلى دراسة متأنية من قبل لجان اقتصادية مختصة في مرحلة الحكومة الانتقالية المقبلة تتضمن تقييم شامل للأصول العامة، وخطط استراتيجية تُراعي الأولويات الوطنية واحتياجات التنمية، مع ضمان التوازن بين تحقيق الكفاءة الاقتصادية وحماية الخدمات الأساسية للمجتمع. وفي النهاية تحقيق هذه الأهداف يتطلب إرادة واستقراراً سياسياً على المدى المنظور، مدعوماً ببيئة تشريعية تدعم التغيير، ومشاركة مجتمعية تُسهم في بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات العامة.
([1]) القطاع العام في سورية.. من التأميم إلى جيوب "أهل" النظام، الترا صوت، 17/08/2018، رابط: https://bit.ly/40EApSI
([2]) The Syrian Economy at War Labor Pains Amid the Blurring of the Public and Private Sectors, 20 November 2020, COAR, link: https://bit.ly/42smeBs
([3]) Crisis Analysis–Syria. After Assad: An Overview of Syria’s Complex Transition. Volume I. January 2025. Crisis Analysis–Syria.
([4]) نزار عادلة، البيروقراطية في القطاع العام.. ظل البورجوازية والنقابات العمالية أمام مرحلة جديدة، 14/0//2012، قاسيون، رابط: https://bit.ly/42ktAHe