أجرى موقع نون بوست حواراً معمقاً مع الأستاذ معن طلاع، الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية -مسار السياسة والعلاقات الدولية- تناول آخر التطورات والمستجدات على الساحة السورية والإقليمية والدولية، لا سيما مفاوضات جنيف3 ومؤتمر المانحين الأخير في لندن، واحتمالات التدخل العسكري في سورية.
أوضح الأستاذ طلاع أن تنامي الحديث عن مشاريع التقسيم في سورية استناداً إلى بنك الأهداف العسكرية الروسية، وضرب المعارضة السورية، هو أمر مبرر، لكنه اعتبر أن الدور الوظيفي لنظام الأسد في المعادلة الإقليمية لا يمكن أن يتم من دون الحفاظ على نظام سياسي مركزي.
وتوقع الأستاذ طلاع تغير الموقف الأردني قريباً فيما يتعلق بالحملة الروسية على الجبهة الجنوبية، لا سيما بعد سقوط مدينة الشيخ مسكين، وزيادة تحرك الميلشيات التابعة لإيران، والخشية من استغلال الجماعات "الإرهابية" لمتغيرات ميزان القوى، إضافة إلى القلق المتزايد من موجات نزوح جديدة.
واستبعد الباحث في مركز عمران تدخلاً برياً سعودياً أو تركياً في سورية ما لم يكن تحت المظلة الأمريكية وبتنسيق مع واشنطن لزيادة الضغوط على موسكو، على الرغم من استفحال الخطر الكردي بالنسبة للأتراك في الشمال السوري.
وفيما يتعلق بجبهة النصرة وما يسمى تنظيم "الدولة الإسلامية"، اعتبر طلاع أن الأولى مقبلة على صيغ "متطورة" وأكثر "مرونة" فيما يتعلق بعلاقاتها وارتباطاتها، بسبب الضغوط الميدانية، أما بالنسبة للآخر، فإن الحملة الروسية على المعارضة السورية المعتدلة قد زادت من قوته.
نص الحوار كاملاً على موقع نون بوست: http://goo.gl/3nkfXn
ملخص: تقدمت قوات التحالف الإيراني الروسي في ريف حلب الشمالي على مناطق سيطرة فصائل الثورة السورية، وتمكنت من الوصول إلى نبّل والزهراء، ووضع جبهة حلب أمام خارطة ميدانية جديدة ومتطورة مع استمرار المعارك ومحاولة التوسع لحصار مدينة حلب. وبسبب تفوق الفصائل الثورية في الاشتباكات المباشرة، اعتمد التحالف الإيراني الروسي على التفوق الناري والكثافة الهائلة لعمليات القصف، وساعده على التقدم استنزاف الفصائل في معركة ريف حلب الجنوبي وتقنين الدعم عليها بعد التدخل الروسي وضعف التحصينات الهندسية للثوار، وهو ما يجعل أولوية الثوار السوريين الميدانية بناء خطوط دفاعية وتحصينات هندسية متينة، لإعاقة تقدم التحالف والمحافظة على طرق الإمداد والمساحات المتبقية. ومن جانب آخر يقدم الوضع الأخير زخماً مضاعفاً لمبادرات التوحد المطروحة بين الفصائل الثورية حيث تحظى مبادرة الجبهة الشمالية بالفرصة الأكبر للتطبيق فيما بينها. وبانفصال ريف حلب الشمالي عن المدينة، يصبح وسط ثلاث جبهات مفتوحة عليه (التحالف الإيراني الروسي، تنظيم داعش، وحدات حماية الشعب الكردية)، ويهدد هجوم وحدات حماية الشعب بتقطيع المتبقي منه ما يضاعف من خطورة وضع الثوار في الريف الشمالي، ولكنه يقع ضمن استثناء كونه منطقة لا وجود فيها لتنظيم القاعدة، ما يوفر خيارات جديدة لاختبار سياسات جهات محلية ودولية انبنت على مواجهة أو تجنب تنظيم القاعدة.
ويواجه الحلف الإقليمي الداعم للثورة السورية، تحديات خطيرة أمام الوضع الجديد وتقدم التحالف الإيراني الروسي المستمر، مع استمرار غياب الدعم النوعي سياسياً وعسكرياً للثورة السورية، بينما يصعب الحسم تجاه جدية مشروع العملية البرية التي اقترحتها السعودية في سوريا لمواجهة تنظيم داعش، رغم إمكانية التكهن بمساراتها المحتملة، ومدى تأثيرها على الفصائل الثورية والمسألة السورية.
وتواجه الثورة السورية بعد التدخل الروسي وتقدم التحالف الإيراني الروسي مرحلة تحولات خطرة، ولكنها تحافظ على إمكانات عسكرية وطاقات بشرية وشرعية شعبية وأخلاقية متجذرة، ما يجعل إنهاءها مهمة شبه مستحيلة، ولكن ضعف الحلف الداعم للثورة في مواجهة تحديات النفوذ الإيراني الروسي الأخير يضاعف من التكلفة البشرية والتاريخية لهذه الحرب.
أولاً: مقدمة
خلال قرابة 60 ساعة (منذ ليل 1 شباط 2016م وحتى مساء 3 شباط)، استطاعت قوات النظام والميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات التي تقودها إيران، مدعومة بالطيران الروسي، أن تصل إلى بلدتي/معسكري نبل والزهراء، بعد قرابة 3 سنوات من وضع شبه الحصار، عبر السيطرة على بلدات: (دوير الزيتون، تل جبين، حردتنين، معرستة الخان) بالترتيب، مع استمرار التمهيد الناري ومحاولات التقدم شمال وجنوب هذا الخط الجديد الواصل إلى نبل والزهراء.
وتمكنت قوات التحالف الإيراني-الروسي بهذا التقدم الأخير من الفصل ما بين الجزء الأكبر من ريف حلب الشمالي (المنطقة شمال معرستة الخان) ومدينة حلب، ما يترك طريق إمداد حلب الوحيد هو طريق الكاستيلو الذي يصل إلى ريف حلب الغربي وريف إدلب.
ويستمر التحالف الإيراني الروسي بمحاولة توسيع مناطق سيطرته، بالتوازي مع محاولة قوات وحدات حماية الشعب الكردية التقدم نحو اوتوستراد إعزاز ومطار منغ العسكري، ومع محاولة تنظيم داعش التقدم من جهته أيضاً، ما يضع الفصائل الثورية تحت وطأة هجوم ثلاثي، في ظل دعم دولي ضمني للتحالف الإيراني-الروسي وتقنين واضح في الدعم العسكري للفصائل الثورية منذ التدخل الروسي.
وقد دفع التقدم الأخير نحو ردود فعل إقليمية واسعة (إعلامية حتى الآن)، من طرف المحور الحليف للثوار السوريين (تركيا، السعودية، قطر)، بلغت أوجها بالتصريحات السعودية حول الاستعداد لتنفيذ عملية برية داخل سوريا ضد تنظيم داعش.
وتدرس هذه الورقة تفاصيل المعركة الأخيرة في ريف حلب الشمالي، وتكتيكات التحالف الإيراني الروسي القتالية وخططه القادمة، وخيارات الثوار السوريين في مواجهة التحالف الإيراني الروسي، ووضع ريف حلب الشمالي كمنطقة شبه محاصرة ومستنزفة وخالية من تنظيم القاعدة، وسيناريوهات العملية البرية المحتملة.
ثانياً: تسلسل الأحداث... اكتمال الطوق
فيما بعد تحرير مدينة حلب (تموز 2012م)، بلغ الثوار تمددهم الأقصى في المحافظة مع بداية شتاء 2013م، واستدعى النظام لمواجهة ذلك تعزيزات عسكرية إضافة إلى ميليشيات شيعية متعددة الجنسيات (في مقدمتها حزب الله اللبناني)، واعتمد النظام على التقدم البطيء –ولكن المستمر- لتطويق مدينة حلب وقطع طريق إمدادها الوحيد (الكاستيلو) ضمن خطة دبيب النمل، منذ استعادته طريق إمداد قواته من معامل الدفاع في ريف حلب الجنوبي بإعادة احتلال خناصر والسفيرة (بداية تشرين الثاني 2013م)، وتمدده لاحقاً عبر اللواء 80 والشيخ نجار وحندرات، وصولاً إلى هجومه على ريف حلب الشمالي وسيطرته على باشكوي (17 شباط 2015م).
ولم تهدأ الاشتباكات في جبهات حلب وريفها التي تعتبر ضمن الأعنف والأكثف والأعلى تكلفة بشرياً وعسكرياً ومادياً في الحرب السورية، وشُنّت عشرات (وحتى مئات) محاولات الاقتحام المتكررة من الجانبين، والقصف المكثف الذي تجاوز عدد ضحاياه المدنيين 30 ألف إنسان، دون تغييرات جوهرية في الخارطة، إلى أن بدأ التدخل الروسي.
بدأت حملة إشعال الجبهات بعد التدخل الروسي (نهاية أيلول 2015م) في حلب على جبهة ريف حلب الجنوبي، واستطاعت قوات التحالف الإيراني-الروسي السيطرة على مساحة 380 كلم2، منذ بدء المعركة وحتى الهدوء النسبي بعد السيطرة على خان طومان (16/10/2015م – 30/12/2015م).
ورغم حجم خسارة المدرعات الكبير لقوات النظام والتحالف الداعم له بالصواريخ المضادة للدروع (خاصة التاو) التي استخدمتها فصائل الجييش الحر، إلا أن المعركة مثلت استنزافاً كبيراً لفصائل حلب والشمال السوري بعامة (كتائب ثوار الشام التي اندمجت مؤخراً في الجبهة الشامية كانت الأكثر استنزافاً)، وفقدت هذه الفصائل عدداً كبيراً من القادة الميدانيين، ومن المقاتلين، عدا عن استنزاف الذخيرة ومنظومة المضاد للدروع مع انخفاض الدعم الواضح للفصائل فيما بعد التدخل الروسي ومؤتمر فيينا خاصة (14/11/2015م).
واعتمدت تكتيكات تقدم التحالف الإيراني-الروسي على الكثافة النارية بشكل رئيس، والتي وفرها الطيران الروسي وسلاح المدفعية وراجمات الصواريخ قبل التقدم (واستقدم التحالف أسلحة تستخدم للمرة الأولى في حلب لهذه المعركة)، وأحياناً اعتمدت على التسلل وقطع طرق الإمداد بين نقاط الثوار أو الالتفاف على الخطوط الخلفية لنقاط الرباط قبل الاقتحام ما دفع لانسحابات سريعة في أكثر من منطقة، خاصة عند سيطرته على محور (العيس-الحاضر) ثم (حميرة-خلصة) التي سهلت الوصول إلى (القلعجية- زيتان) (تحتاج معارك ريف حلب الجنوبي تفصيلاً مستقلاً).
وخرجت فصائل الثوار من معركة ريف حلب الجنوبي باستنزاف بشري وعسكري وخسارة مناطق واسعة، تهدد بتحويل ريف حلب الغربي (الذي يعتبر خزاناً بشرياً رئيساً للثوار ومنطقة شبه خالية من الرباط) إلى خط رباط واستنزاف.
وقد استخدم النظام في معركته التالية في ريف حلب الشمالي استراتيجية عسكرية مشابهة لريف حلب الجنوبي، مع إدخال أسلحة جديدة مثل الدبابة T-90 والمقاتلة الحربية SU-35، واعتمد في سياسة الأرض المحروقة على راجمات الصواريخ وسلاح المدفعية بنسبة أكبر، إضافة إلى المقاتلات والمروحيات في القصف الجوي المكثف.
بعد الهدوء النسبي لجبهة ريف حلب الجنوبي، بدأ رصد حشود الميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات ضمن معسكرات النظام المطلة على طرق ريف حلب الشمالي (باشكوي)، وكان من المتوقع أن يشن النظام هجوماً مشابهاً من حيث الأهداف لمعركة رتيان وحردتنين السابقة (شباط 2015م) حين تسللت فجراً قوة مشاة قوامها 500 عنصر تلة باشكوي ثم قرية رتيان وحردتنين، ووقعت تحت نيران فصائل الثورة السورية التي أرسلت مؤازرات ضخمة للمنطقة، ووقعت أغلب القوة المقتحمة للنظام والمدعومة بالميليشيات الشيعية بين قتيل وأسير، وسيصحح النظام والتحالف الإيراني-الروسي هذه الخطة في الاقتحام الأخير، متجنّباً تفوق فصائل الثوار في الاشتباكات المباشرة، ومستغلّاً التفوق الناري الذي يمتلكه.
بدأ الهجوم قرابة الساعة الثانية بعد منتصف ليلة الأول من شباط، تقدمت قوات التحالف الإيراني-الروسي (الفرقة الرابعة من جيش النظام، ميليشيا الدفاع الوطني، حزب الله اللبناني، حركة النجباء العراقية، كتائب حزب الله العراق، ميليشيات أفغانية، الحرس الثوري الإيراني) نحو مزارع دوير الزيتون، بآليات مدرعة وقوات مشاة، وتم طلب مؤازرات من قبل فصائل الثوار استطاعت إحباط الهجوم واستعادة معظم النقاط التي تقدم إليها مع صباح اليوم (1 شباط)، فانتقلت قوات التحالف إلى خطة "الأرض المحروقة"، عبر تمهيد ناري مكثف جداً (مدفعية الهاون والفوزديكا، وراجمات الصواريخ، والطيران الروسي)، تمكن التحالف عبره من الدخول إلى مزارع دوير الزيتون قرابة عصر اليوم، وفي الوقت نفسه تسللت قوات مشاة ومدرعات إلى تل جبين عبر طريق خلفي تشرف عليه نقاط تنظيم "داعش" شبه الهادئة منذ قرابة عامين، وبسيطرته على تل جبين المشرف على قرية حردتنين ورتيان، تمكن التحالف من رصد دقيق وقريب لمواقع الثوار، ومن توفير زخم قصف مضاعف، مع محاولات اقتحام عنيفة ومتكررة نحو بلدة رتيان (أُحبطت) وحردتنين التي سيطر التحالف على أجزاء منها.
أرسلت الفصائل الثورية في غرفة فتح حلب مؤازرات متتابعة إلى ريف حلب الشمالي (الجبهة الشامية، تجمع فاستقم، الفرقة 16، الفرقة 13، فيلق الشام، جيش الإسلام، أحرار الشام وغيرها) إضافة إلى طواقم المضاد للدروع التي استخدمت صواريخ الفاغوت والتاو (الفرقة الشمالية، الفرقة 13، الفرقة 16، الجبهة الشامية) وإن كان عبء معركة رتيان وحردتنين الأكبر قد وقع على ثوار المنطقة الذين يقودهم علي عيسى (أبو حمص رتيان) القائد العسكري السابق في أحرار الشام ثم في جيش الشام، والذي أصيب في نهاية المعركة إصابة خطرة.
وتركزت نقاط انطلاق قصف التحالف واقتحامه من محور باشكوي والمناطق التي اقتحمها (دوير الزيتون، تل جبين)، ولكن مع محاولات تسلل (أُحبطت) من محور نبل والزهراء باتجاه بيانون وماير.
وشملت "السجادة النارية" المناطق التي يحاول التحالف التقدم إليها في الطريق نحو (نبل والزهراء) والمساحة المحيطة ضمن ريف حلب الشمالي وطرق إمداده (مسقان، ماير، رتيان، بيانون، معرستة الخان، حريتان، كفر حمرة، وغيرها).
مع فجر اليوم الثاني للمعركة (2 شباط) كان التحالف قد نجح في السيطرة على حردتنين وأجزاء من مزارع معرستة الخان دون أن ينجح في اقتحام رتيان، ووصلت مؤازرات غرفة فتح حلب إلى أوجها، مع وصول رتل مؤازرات من جبهة النصرة، ولكن طبيعة الهجوم التي تعتمد الكثافة النارية ثم الاقتحام دون الاشتباك المباشر غالباً، حالت دون أن يكون الميزان العددي صاحب التأثير الأكبر، مع استمرار الاشتباكات في محيط حردتنين ومعرستة الخان، ووجود محاولات تسلل من محور نبل والزهراء تجاه بيانون وماير، واستمرار القصف المكثف على المناطق حول معرستة الخان (مسقان، ماير، رتيان، بيانون، حريتان...الخ)، التي تشكل صلة الوصل مع نبل والزهراء.
في نهاية ليلة 2 شباط كان طريق معرستة الخان مرصوداً نارياً، والاشتباكات على حدودها وعلى جبهة رتيان، وبلغت خسائر التحالف (حسب غرفة فتح حلب): تدمير عشر آليات مدرعة، من ضمنها عربتا BMB ودبابة T72، واغتنام عربة BMB أخرى. ومقتل قرابة 100 عنصر (معظمهم أجانب) حسب جهات الرصد.
في اليوم الثالث من المعركة (3 شباط)، استمرت محاولات التسلل والاشتباك من جهة نبل والزهراء تجاه بيانون (أُحبطت)، وانتقلت الاشتباكات بين التحالف والثوار إلى داخل معرستة الخان، إلى أن سيطر التحالف على مزارع وقرية معرستة الخان قرابة السادسة مساء، ووصلت بذلك إلى نبل والزهراء، بعد قرابة ثلاث سنين من وضع شبه الحصار.
وفي 5 شباط سيطرت قوات التحالف الإيراني-الروسي على بلدة رتيان التي شهدت أعنف اشتباكات المعركة وقرابة عشر محاولات اقتحام مع قصف هائل مسح معظم مبانيها، واستشهد من فصيل واحد في الجيش السوري الحر (كتائب الصفوة الإسلامية) 24 مقاتلاً، كما سيطر على بلدة ماير المحاذية لبلدتي/معسكري نبل والزهراء، لتستمر في توسيع طريق الوصل إلى نبل والزهراء، دون أن يهدأ القصف المكثف حول هذا الطريق ومحاولات الاقتحام للبلدات المحيطة، حتى كتابة هذه الورقة.
على حدود عفرين، فيما بعد انفصال ريف حلب الشمالي، فقد بدأت وحدات حماية الشعب (الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي) مع حلفائها ضمن قوات سوريا الديمقراطية (ومن ضمنها فصائل غير كردية وترفع علم الثورة السورية مثل جيش الثوار الذي ينتمي أغلب عناصره لريف إدلب)، بالتقدم من جهة عفرين، تجاه مناطق الفصائل الثورية المجاورة لهم، رغم وجود اتفاقات هدنة موقعة بينها وبين فصائل الجيش الحر في الريف الشمالي، وسيطرت قوات سوريا الديمقراطية تباعاً على القرى غرب أوتوستراد إعزاز(الزيارة، الخريبة، مرعناز، العلقمية، دير جمال، كفر انطون)، وتسعى بذلك إلى وضع نقاط على أوتوستراد إعزاز، وتهدف للسيطرة على مطار منغ العسكري أيضاً، وهو ما يهدد بفصل حواضر ريف حلب الشمالي الكبرى (تل رفعت، مارع، إعزاز) عن بعضها، ما يضاعف من خطورة وحساسية وضع الفصائل الثورية في ريف حلب الشمالي، ويضاعف الحاجة إلى دعم نوعي سريع.
وعلى جبهة داعش، فلم تشهد الأيام الأولى للمعركة تطورات جديدة، فيما عدا طرح وساطات (أقرب لأن تكون بروباغندا إعلامية) للهدنة بينهم وبين فصائل الثوار، والتوحد على قتال النظام والتحالف الإيراني (رغم وجود قرابة 150 كيلومتر كخطوط مواجهة هادئة بين التنظيم والنظام في محافظة حلب)، ولكن مجموعات التنظيم سارعت لاستغلال استنزاف الفصائل الثورية في ريف حلب الشمالي، لشنّ هجمات على مناطق سيطرة الثوار في قرية براغيدة وتم إحباطها.
ثالثا: اتجاهات التحالف الإيراني الروسي المحتملة
بعد تأمين الطريق الواصل إلى بلدتي نبل والزهراء، فإن التحالف الإيراني-الروسي سيسعى لتوسيع نطاق السيطرة شمال وجنوب هذا الطريق، لتأمينه وزيادة حجم استنزاف الفصائل الثورية، إضافة إلى استكمال تحويل جبهة حلب إلى جزر مقطعة يسهل حصارها، بدلاً من محاولات الاقتحام ذات التكلفة البشرية العالية خاصة في المدينة.
ويمكن أن يعمل التحالف على عدة محاور في هذه الخطة:
• طريق الكاستيلو
وهو الطريق الواصل بين مدينة حلب وريف حلب الغربي باتجاه ريف إدلب، والذي أصبح خط الإمداد الوحيد بعد فصل الريف الشمالي، ويمتلك النظام إمكانية قطعه نارياً دون التقدم نحوه، سواء من خلال سلاح المدفعية القريب، أم من خلال تكثيف المراقبة الجوية، ولكن يمكن أن يعمل النظام على التسلل نحو الكاستيلو مباشرة أو عبر محور حندرات، أو بالسيطرة على تلة نصيبين المشرفة على طريق حريتان قبل ذلك.
• جنوب خط الوصل
بيانون: جرت عدة محاولات تسلل من الزهراء نحو البلدة خلال المرحلة الأولى من المعركة، ويستمر القصف المكثف عليها (حتى تاريخ كتابة الورقة)، ويمكن أن توفر السيطرة على البلدة توسيع نطاق الأمان بالنسبة لطريق الوصل الجديد، كما توفر نطقة انطلاق نحو بلدة حيان.
تلة الطامورة: والتي جرت عدة محاولات اقتحام نحوها، كان آخرها وأعنفها (حتى تاريخ كتابة الورقة) في 8 شباط وتم إحباطها من طرف الثوار وقتل قرابة 50 عنصرٍ من الميليشيات الشيعية المقتحمة حسب الفصائل التي شاركت في المعركة.
ويضمن التحالف الإيراني الروسي بالسيطرة عليها تهديد عندان وقطع الطريق نحو ريف حلب الغربي دون رصد الكاستيلو، ويمكن أن يحاصر بذلك مثلث (عندان، كفر حمرة، حريتان) الفاصل بين المدينة والريف الغربي وخط الوصل الجديد إلى نبل والزهراء.
• شمال خط الوصل
سيطر التحالف على بلدة ماير (5 شباط) ثم كفين (7 شباط) بعد إقامة خط الوصل، ويستمر في محاولة التقدم نحو كفر نايا ومسقان، وقد يستبق التحالف وصول إمدادات أو دعم جديد للريف الشمالي ضمن ردود الفعل الإقليمية على التقدم الأخير، بمحاولة السيطرة على أكبر مساحة ممكنة (باتجاه تل رفعت) لتأمين خط الوصل، ولاستنزاف فصائل الثورة هناك بشكل مضاعف.
• ريف حلب الجنوبي
حيث جرت محاولات تقدم للتحالف الإيراني الروسي بعد المعركة نحو حرش خان طومان (أُحبطت)، وقامت فصائل الجيش الحر باستعادة السيطرة على بلدة الخالدية المجاورة لخان طومان، ولكن تبقى إمكانية أن يفتح التحالف معركة على المتبقي من جبهة ريف حلب الجنوبي قائمة، لتشتيت مؤازرات فصائل الثوار من ريف حلب الغربي، وقطع مساحة أكبر من الأوتوستراد الدولي، وفرض وضع جديد لريف حلب الغربي كخط رباط، مع خطة بعيدة المدى لفك الحصار عن بلدتي/معسكري كفريا والفوعة.
• مدينة حلب
وذلك لإرباك فصائل المدينة التي ترسل مؤازراتها نحو الريف الشمالي، أو قطع المدينة إلى قطاعين (عبر جسر الصاخور)، وهو الخيار الأقل احتمالاً، بسبب تفوق فصائل الثوار في حرب المدن، وضعف تأثير التفوق الناري مقارنة بالمساحات المفتوحة.
رابعاً: خيارات الثوار
على المستوى السياسي: فإن الهيئة العليا للمفاوضات، وهي أول كيان سياسي يجمع المعارضة السياسية والفصائل العسكرية، تقف على أرض خيارات صعبة مع ضعف الغطاء السياسي الإقليمي الداعم لها، ولكن يتاح لها أن تعتمد على الواقع الميداني في تفكيك سردية النظام والتحالف الإيراني الروسي الداعم له عبر إجراءات:
• المحافظة على موقفها في رفض البدء بمفاوضات مع نظام الأسد دون تطبيق البنود الإنسانية حسب قرار مجلس الأمن 2254.
• الإعلان أن خطة وقف إطلاق النار التي تصر عليها الولايات المتحدة (والتي ستتضمن وقف وتجريم أي دعم للفصائل الثورية)، لا يمكن تطبيقها بالمفاوضات مع النظام، بسبب أن نظام الأسد ليس من يقود العمليات على الأرض بعد تفكك جيش النظام وانهيار أغلب قواته، وإنما التحالف الإيراني الروسي، المعتمد على ميليشيات متعددة الجنسيات ذات بعد طائفي ومتورطة بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهو ما يجعل أي اتفاق وقف إطلاق نار بمثابة حظر عسكري من طرف واحد، باعتبار أن روسيا وإيران –غير المشمولتين بالاتفاق- سيبقى متاحاً لهم استكمال العمليات العسكرية استناداً إلى حجة مكافحة الإرهاب.
• الانتقال إلى إعلان روسيا وإيران كدول تمارس احتلالاً مباشراً على الأرض السورية، والمطالبة بمراقبة دخول الميليشيات الأجنبية إلى سوريا عبر مطار دمشق الدولي حيث يصل مجندو الميليشيات العراقية والأفغانية، وهي المطالبة التي تتيحها قرارات مجلس الأمن بخروج المقاتلين الأجانب من سوريا.
• الاستفادة من وضع ريف حلب الشمالي، كمنطقة لا وجود فيها لتنظيم القاعدة، في تفكيك حجة الإرهاب التي تستند إليها عمليات التحالف الإيراني الروسي، وفي إثبات مسؤولية النظام والتحالف الإيراني الروسي في المعاناة الإنسانية، وزيادة أعداد الهجرة.
على المستوى الميداني: لقد أظهرت السنوات السابقة التفوق الواضح للفصائل الثورية في حرب المدن والاشتباكات المباشرة، وأظهرت المعركة الأخيرة في ريف حلب الشمالي، والتي تمكن التحالف الإيراني-الروسي عبرها من السيطرة على مساحات مهمة خلال زمن قصير (قرابة 60 ساعة)، ضعفَ التحصينات الهندسية والخطوط الدفاعية للثوار رغم السيطرة على هذه المناطق منذ سنوات، وأظهرت كذلك أن خيار المواجهة في المساحات المكشوفة للكثافة النارية الهائلة سيؤدي لاستنزاف بشري وعسكري كبير، دون ضمان القدرة على الصمود الطويل.
وهو ما يجعل المعركة الراهنة، دون وجود سلاح نوعيّ معادل للتفوق الناري لقوات التحالف، معركة بناء خطوط دفاعية متينة وتحصينات هندسية قادرة على إعاقة تقدم قوات التحالف، أكثر مما هي معركة هجوم وانكشاف للتفوق الناري.
ويصبح تأمين الطريق الواصل بين المدينة وريف حلب الغربي، ضرورة استراتيجية، لضمان طرق الإمداد والمؤازرات، وحصر المواجهات بالاشتباكات المباشرة التي تحيّد التفوق الناري.
على المستوى الفصائلي: شكلت المعركة الأخيرة خارطة قوى جديدة حيث ريف حلب الشمالي منفصل عن المدينة والريف الغربي، ومحاصر ضمن قوات التحالف وتنظيم داعش ووحدات الـ YPG، وهذا الوضع الخاص ظهر على مستوى التشكيلات في وقت سريع من خلال إعلان "المجلس العسكري الموحد لريف حلب الشمالي"، ولكن دون أن يلغي وجود الفصائل وهيكلياتها، حيث الجبهة الشامية كبرى فصائل الريف الشمالي، والذي امتلك خاصية مضاعفة كونه أصبح في وضع جديد كلياً على الشمال السوري باعتباره منطقة لا وجود فيها لتنظيم القاعدة (وهو ما ستتكلم عنه الورقة في سادساً: رهانات الاستثناء).
ودراماتيكية الوضع الجديد، تسارع من خطوات تقارب الفصائل الثورية في حلب والشمال السوري بعامة، سواء ضمن غرف عمليات أم تحالفات جديدة على شكل جبهة، خاصة فصائل الجيش الحر الأكبر في حلب وإدلب وحماة، سواء بشكل مشترك أم منفصل لكل مدينة (في حلب: الجبهة الشامية، تجمع فاستقم، جيش المجاهدين، حركة الزنكي. في إدلب وحماة: جيش النصر، الفرقة 13، جيش العزة، الفرقة الشمالية، صقور الجبل) إضافة إلى فيلق الشام وأحرار الشام كأكبر قوتين ثوريتين ممتدتين في الشمال السوري (باعتبار أن جبهة النصرة تنظيم جهادي معولم ولا يعرّف نفسه ثوريّاً)،
وظهرت دعوات جديدة لتوحد الفصائل الثورية في حلب والشمال السوري، أهمها:
• مبادرة طلبة العلم: أطلقها مجموعة من الشرعيين المقربين (أو المنتمين) من فصائل جهادية وثورية، وتقترح توحد الفصائل في قيادة عسكرية وتأسيس حكومة داخلية ومكتب سياسي موحد، ورغم كثافة التوقيعات عليها، ومن ضمنها توقيعات لشرعيين من فصائل حلب، فإنها قد لا تحظى بفرصة للنجاح على الأغلب.
• مبادرة الجولاني: والتي اقترحها زعيم جبهة النصرة (أبو محمد الجولاني) بعد تحفظه على مبادرة طلبة العلم، واقترح من خلالها الاندماج الكامل لفصائل جيش الفتح والتنازل عن قيادة التشكيل الجديد، ولكنها واجهت تحفّظاً من حركة أحرار الشام بشكل رئيس.
• مبادرة جيش حلب: أطلقها ثوار مدنيون في حلب بعد تقدم التحالف الإيراني الروسي في ريف حلب الشمالي، واقترحوا من خلالها اندماج 16 فصيلاً ثورياً (من فصائل حلب) ضمن هذا الجيش واختيار قائد موحد، وهي مبادرة قد لا تُطبق على الأغلب.
• مبادرة الجبهة الشمالية: وهو مشروع يجمع فصائل الجيش الحر الكبرى في حلب وقد يتوسع لفصائل إدلب أيضاً، وهي المبادرة التي قد تحظى بالفرص الأكبر للتطبيق خلال الفترة القريبة القادمة.
خامساً: ردود الفعل الإقليمية
ظهر تقدم التحالف الإيراني-الروسي في حلب، بالنسبة للمعارضة وحلفائها، باعتباره نتيجة للضغط الدولي على الثورة السورية سياسياً وعسكرياً منذ مؤتمر فيينا، والذي ظهر جلياً في محادثات جنيف3، سواء عبر سلوكيات المبعوث الدولي ستافان ديمستورا التي تجاوز من خلالها وفد المعارضة التفاوضي بدعوة وفود موازية ومحاولة تجاوز البنود الإنسانية إضافة إلى رسائل ظهرت كمساواة بين النظام والمعارضة من حيث الانتهاكات الإنسانية، أو عبر مقابلة حجاب-كيري التي تم تسريبها على أنها تهديدات من وزير الخارجية الأمريكي تجاه المعارضة (وهي التحذيرات التي كررها كيري في لقائه بالعاصمة لندن مع منظمات المجتمع المدني السورية)، وكذلك من خلال انخفاض الدعم الواضح لفصائل الثورة السورية بعد التدخل الروسي.
أظهر هذا الولايات المتحدة في وضع تحالف مع روسيا بالنسبة للوضع السوري، لصالح إيران من جهة، وضد المحور (التركي-السعودي-القطري) من جهة مقابلة، وهو ما فجّر ردود فعل من طرف هذا المحور تجاه التقدم الأخير في حلب:
أولاً: من خلال تصريح المسؤولين الأتراك الغاضب من دعم الولايات المتحدة لأعدائهم حزب الـ PKK حيث تتمدد وحدات حماية الشعب على الحدود التركية بدعم أمريكي روسي ويحتمل أن تتقدم أكثر (تجاه إعزاز) بعد حصار فصائل الثورة السورية في ريف حلب الشمالي.
ثانياً: من خلال تصريح المستشار العسكري لوزارة الدفاع السعودية العميد أحمد عسيري (4/2/2016م) بأن بلاده مستعدة للتدخل البري في سوريا "ضد تنظيم داعش" تحت مظلة التحالف الدولي، بالتزامن مع إعلان مناورات "رعد الشمال".
ومع سباق التصريحات والتسريبات حول نوايا التدخل البري في سوريا، فإن المطروح أن يتم تحت مظلة التحالف الدولي، وبمشاركة قوات دولية متعددة الجنسيات وبإشراف أمريكي، وهو ما يعني ضمن هذا السقف أنه سيتجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا وإيران في الساحل أو ريف حلب، أو أن يقدم دعماً مباشراً للفصائل الثورية، دون أن يلغي إمكان استفادة هذه الفصائل من الهوامش التي قد يتيحها مثل هذا التدخل (إن حصل)، وما زال يصعب التكهن والحسم تجاه حصول هذا التدخل حتى الإعلان عن بدئه ميدانياً، أما مناطق هذا التدخل البري الأكثر احتمالاً (إن حصل) حسب الترتيب:
• القيام بعمليات إنزال واشتباك سريعة، وقد نفذت الولايات المتحدة عمليات مشابهة ضد تنظيم داعش، وهو ما يتيح خبرات سابقة لهذا النوع من العمليات، ويتيح استهداف نقاط في العمق الجغرافي لمناطق التنظيم.
• التوجه نحو خط جرابلس-إعزاز (شرق مناطق سيطرة الثوار في ريف حلب الشمالي)، حيث الشريط الحدودي مع تركيا، والمسيطر عليه من قبل تنظيم داعش، شرق مناطق سيطرة الجيش السوري الحر وغرب مناطق وحدات حماية الشعب الكردية التي تتحرك من خلال "قوات سوريا الديمقراطية"، والتي بدأت بعد التدخل الروسي بالانزياح غرب نهر الفرات حيث المنطقة الآمنة التي كانت القيادة التركية تخطط لإقامتها، وهو ما يهدد المصالح التركية بشكل مباشر ومتصاعد.
• ويوفر خطاب الإرهاب المهيمن على السياسة الدولية حول سوريا، حجة مناسبة للتدخل السعودي التركي، باعتبار هذه المنطقة (ريف حلب الشرقي-غرب نهر الفرات) مسيطراً عليها من قبل تنظيم داعش، وحجة مناسبة للدولة التركية أمام ضغوط تيارات معارضة ضد توريط تركيا في المسألة السورية، باعتبار أن مواجهة تمدد القوات الكردية (وحدات حماية الشعب) المقربة من حزب العمال الكردستاني PKK، على الحدود التركية مسألة أمن قومي.
• التوجه نحو البادية من الحدود الأردنية، ويوفر هذا الخيار السيطرة على مساحات واسعة بتكلفة عسكرية أقل، والاقتراب من جبهة العاصمة دمشق، ومن الحدود العراقية ومنابع النفط في دير الزور، وهو ما يمكن أن يشكل ورقة ضغط سياسية، إضافة للاقتراب من مناطق الثوار في الغوطة الشرقية والقلمون الشرقي، مع وجود تجربة سابقة من خلال "جيش سوريا الجديد" الذي نفذ عمليات برية في هذه المنطقة بالتعاون مع التحالف الدولي.
• ريف حلب الشمالي: وهو الخيار الأقلّ احتمالية، ولكن الوضع الجديد (التقدم الأخير للتحالف الإيراني، وخلو المنطقة من تنظيم القاعدة)، يوفر استثناء يسهل من دخول قوات دولية (عربية-تركية) إليه، أو يوفر استفادة أسهل فيما لو حصل تدخل بري في المنطقة الشرقية، وأقيمت قواعد عسكرية لحلفاء الثوار هناك.
سادساً: رهانات الاستثناء
إنسان الثورة المستباح
اقتبس المفكر السياسي الإيطالي جورجيو أغامبين، عنوان رباعيته المهمة في الفلسفة السياسية (سلسلة من أربع كتب)، من المصطلح الروماني HOMO SACER، والذي تمت ترجمته عربياً بـ "الإنسان الحرام" أو الإنسان المستباح"، ويشير المصطلح في القانون الروماني للإنسان الذي ارتكب جناية الخيانة ما يرفع عنه الشخصية القانونية ويتركه مستباحاً لأي عقاب سواء من الدولة أم الأفراد، ويرتبط المصطلح بـ "حالة الاستثناء" التي شغلت مساحة مهمة من الفكر السياسي المعاصر، منذ كارل شميت الذي أعلن أن سيادة الدولة تُختبر لا من قدرتها على تطبيق القانون وإنما على تعليقه بفرض حالة الاستثناء (الطوارئ)، الجدل الذي امتد إلى فالتر بنيامين وحنه أرندت وجورجيو أغامبين وسواهم.
أتاحت الثورة السورية، لنظام الأسد الذي لم يرفع "حالة الطوارئ" طيلة أربعين عاماً، أن يختبر قدرات حالة الاستثناء حتى أقصاها، كما اختبرت ذلك الدول المحيطة من خلال مخيمات اللجوء، التي تشكل حسب أغامبين أوضح تمثيل لحالة الاستثناء، باعتبار اللاجئين مجردين من الشخصية القانونية (فيما قبل قوننة اللجوء كحق قانوني لا كإكرامية أخلاقية) التي يُفترض أنها كانت لهم في بلادهم، ثم من خلال التعامل الدولي مع الثوار السوريين والمناطق التي يسيطرون عليها، باعتبارها مناطق متمردين rebels))، وليست مناطق تخضع لطرف سياسي شرعي، وبالتالي تُرفع عنها وعنهم الشخصية القانونية، وتصبح مستباحة للتدخل الدولي (الإيراني من خلال الميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات ثم التدخل الروسي).
ورغم تعرّض النظام لهزات دبلوماسية منذ العام الأول للثورة، إلا أنه حافظ على تمثيله في المجتمع الدولي كنظام شرعي، ولكنه اضطر مع تعرضه لانتكاسات عسكرية متكررة تهدد بزواله منذ تحرير إدلب (شباط 2015م)، وخوفاً من أن يتعرض لتدخل عسكري دولي (عربي-تركي) إلى أن يستعين بشرعية دولية تمثلت بالقواعد العسكرية الروسية، كما استعانت وحدات حماية الشعب الكردية الصاعدة بشرعية دولية تمثلت بالخبراء الأمريكيين خوفاً من القصف التركي ضدها، وهو الذي تطور مؤخراً إلى تسريبات عن مشروع تحويل قاعدة الرميلان الجوية إلى قاعدة عسكرية أمريكية.
وضمن الفضاء الجيوسياسي السوري، يبقى ثمة نطاقان مستباحان لحالة الاستثناء ودون شخصية قانونية حامية من "القصف الدولي" الشرعي والذي لا يهدد بقيام حرب عالمية، تتمثلان بالمناطق التي يسيطر عليها تنظيم داعش، والمناطق التي يسيطر عليها الثوار السوريون.
استثناء ريف حلب الشمالي
رغم أنه لم توجد من قبل نوايا جدية من حلفاء الثورة السورية مكافئة لجدية حلفاء نظام الأسد في التدخل العسكري في سوريا، فقد كان وجود تنظيم القاعدة المتمثل بجبهة النصرة، أحد الأسباب –المعلنة-لتكريس وضع مناطق الثوار باعتبارها مناطق تواجد الإرهابيين (حسب التصنيف الدولي)، وهو ما كان الحجة الأكثر تكراراً (وتزييفاً) لتبرير عمليات القصف الجوي والأرضي التي قام بها نظام الأسد والطيران الروسي ضد المدنيين غالباً، والتي تسببت بكوارث إنسانية، وارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية موثقة حقوقياً.
ويمثل وضع ريف حلب الشمالي الأخير (شمال خط الوصل) كمنطقة لا وجود فيها لتنظيم القاعدة "جبهة النصرة"، استثناءً جديداً ضمن الخارطة السورية في الشمال (إضافة إلى مدينة داريا بريف دمشق وأحياء يلدا وببيلا وبيت سحم في جنوب دمشق)، ويتيح هذا الاستثناء الأخير (نستخدم الاستثناء هنا بمعنى مغاير لحالة الاستثناء آنفة الذكر) فرصة لاختبار مدى تأثير غياب جبهة النصرة بالنسبة لسياسات وتعامل أطراف محلية أو إقليمية أو دولية مع الثورة السورية.
ويتيح هذا أمام الثوار السوريين، عدة خيارات ومستويات للعمل، لاستغلال وضع ريف حلب الشمالي كمنطقة خالية من الجماعات المصنفة على لوائح الإرهاب:
• على المستوى الإعلامي: فقد دفعت حوادث عدة لاختطاف صحفيين من قبل تنظيم داعش ومن قبل جبهة النصرة وحتى من قبل فصائل ثورية، لغياب الإعلام الدولي عن التغطية المباشرة لمناطق الثوار السوريين، بسبب عدم الأمان الحاصل، ويمكن أن توجه فصائل الريف الشمالي دعوة للإعلام الغربي بالدخول المحمي لمناطق سيطرتها لتغطية المعاناة الإنسانية جراء قصف التحالف الإيراني الروسي، وإزالة الصورة الضبابية عن الثوار السوريين وفصائلهم غربياً، حيث تطغى صورة الإرهاب التي يروجها النظام والتحالف الإيراني الروسي والخطابات السياسية السائدة بعامة.
• على المستوى الحقوقي: فإن من المهم دعوة مراقبين حقوقيين مستقلين أو أمميين للدخول المحمي إلى الريف الشمالي لمراقبة الانتهاكات الإنسانية للتحالف الإيراني الروسي، واختبار دقة ادعاء استهداف الإرهاب.
• على مستوى الفصائل الثورية: فإن استنزاف فصائل الثوار في ريف حلب الشمالي، يضاعف الحاجة للعنصر البشري، وإن كان التقدم الأخير اعتمد على التفوق الناري، ويضاعف الوضعُ الأخير الحاجة إلى دعوة المقاتلين السابقين الذين أقاموا في تركيا، إلى العودة والمشاركة في المعارك الأخيرة.، خاصة من الفصائل التي هاجمتها جبهة النصرة وجند الأقصى سابقاً (تموز 2014-آذار 2015م) ولاحقت عناصرها لاحقاً ما اضطر قسماً منهم للخروج إلى تركيا (بداية تشرين أول م2015 طالبت جبهةُ النصرة حركةَ أحرار الشام بتسليم عناصر حركة حزم وجبهة ثوار سوريا الذين انضموا لأحرار الشام للجبهة، بعد مشكلة حصلت بين الجبهة والأحرار في بلدة الدنا بريف إدلب).
• على مستوى التدخل البري المحتمل (إن حصل): فإن خلوّ منطقة ريف حلب الشمالي من تنظيم القاعدة، يختصر جدلاً كان حاضراً سابقاً لدى الحديث عن تدخل عربي، وهو كونه سيضطر لمحاربة تنظيم القاعدة، وسيضع الفصائل الثورية في إشكال صعب مع حلفاء ميدانيين، وفي معركة ايديولوجية جديدة مع عناصرهم، وحتى لو لم تدخل قوات برية إلى ريف حلب الشمالي، فإن وجود قواعد عسكرية "صديقة" في الداخل السوري على الشريط الحدودي التركي، يتيح بالضرورة منطقة آمنة للنازحين من مناطق الاشتباك بين الثوار السوريين والتحالف الإيراني، إضافة التنسيق بشكل مباشر مع مصادر الدعم وهذا تابع للدول المشاركة في العملية البرية (إن حصلت)، والتي ستتم تحت مظلة التحالف الدولي، ما قد يمنع قتالها إلى جانب الثوار السوريين، أو قتالها ضد وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة من قبل التحالف نفسه.ولكن تبقى الأسئلة المفتوحة أو الرهانات المنتظرة من العملية البرية (إن حصلتْ) بالنسبة لفصائل الجيش الحر في ريف حلب الشمالي حول مدى التنسيق مع العملية البرية واستلام إدارة المناطق التي يتم طرد تنظيم داعش منها واستفادة هذه الفصائل من قواعد الحلفاء.
سابعاً: خاتمة
تمر الثورة السورية على بوابة عامها السادس، بمرحلة أخرى من تحولاتها، مع تغيرات خطيرة في خرائط السيطرة والتحالفات، ورغم حجم الخسارة البشرية والميدانية الواضح بالنسبة لفصائل الثورة السورية منذ التدخل الروسي، سواء في ريف حلب الجنوبي ثم ريف حلب الشمالي أم في الساحل أم في الغوطة الشرقية وداريا أم في درعا، فإن تنبؤ بعضهم بأن الثورة السورية تواجه تحدياً وجودياً أخيراً، أو أن نظام الأسد والتحالف الإيراني الروسي على وشك "القضاء" على الثورة السورية، هي تنبؤات رغبوية أو بروباغندا دعائية.
حيث تتجاهل هذه البروباغندا قدرات المقاومة النوعية للفصائل الثورية والتي ظهرت في تفوقها الحاسم في الاشتباكات المباشرة، في مقابل التفوق الناري الكبير لأسلحة النظام والتحالف الإيراني الروسي، وأن هذه الفصائل ما زالت تسيطر على مناطق ممتدة وتحظى بشرعية محلية شبه وحيدة في مناطقها خاصة كونها تمثل الخيار الوطني شبه الوحيد بين أطراف الحرب في سوريا، مع تحول قوات نظام الأسد إلى شريك شبه إعلامي للتحالف الإيراني الروسي الذي يقود العمليات على الأرض.
هذا إضافة لامتداد الثورة السورية الشعبي الكبير داخل وخارج سوريا، والسجل الهائل من المجازر التي ارتكبها نظام الأسد والتحالف الإيراني الروسي الداعم له، والذي يجعل من إعادة التطبيع الشعبي مع النظام في سوريا مهمة شبه مستحيلة، وتبقي –بالنسبة لمنظور الأولويات الدولية-ملفات الهجرة والعنف قائمة وتكرس فوضى المنطقة.
ورغم التقدم العسكري الأخير الذي حققه التحالف الإيراني الروسي، فإنه لم يكن ليتحقق لولا الدعم السياسي الدولي الذي حظي به التدخل الروسي والإيراني في سوريا، في مقابل ضعف الحلف الداعم لفصائل الثورة السورية في فرض شروطه سياسياً أو دعم حلفائه عسكرياً، إضافة إلى توفير غطاء آمن لحشد الميليشيات الشيعية واستقدامها إلى سوريا ما وفر فائضاً في العنصر البشري الأجنبي مع اضمحلال حضور جيش النظام السوري في المعارك.
ويظهر الأثر الخطير لهذا الدعم الدولي الضمني للتحالف الإيراني الروسي، على خريطة المنطقة التي تتمدد فيها الميليشيات الطائفية المدعومة إيرانياً على أرض مظلومية سنية تنتج ردود فعلها المتفاوتة في راديكاليّتها وعنفها مع الوقت، إضافة إلى اضمحلال النفوذ العربي-التركي في سوريا والعراق لصالح نفوذ إيراني-روسي، مع دعم أمريكي لتمدد قوات وحدات حماية الشعب (الكردية) في مناطق عربية تمارس انتهاكات موثقة بحق مكوناتها، وهو ما يكرّس ديمومة الصراع الهوياتي في المشرق العربي.
يواجه الثوار السوريون معاركهم الصعبة منفردين وبإمكانات محدودة وشبه حصار سياسي وعسكري عليهم، في مقابل جيوش مجهزة لعدة دول وميليشيات معولمة، وهو ما يضاعف من خطورة وإلحاح مهمة الحلف الإقليمي الداعم للثورة السورية في تقديم الغطاء السياسي والدعم النوعي للفصائل الثورية، والكفيل بمواجهة التفوق الناري للتحالف الإيراني الروسي، أما الاستمرار في سياسات الدعم المقنن الراهنة فهو يكرّس تمدد التحالف الإيراني الروسي، ويعطيه أحقية تشكيل خريطة المنطقة ومستقبل شعوبها ودولها.
ثامناً: الملاحق
خريطة (1) توضح مواقع النفوذ والسيطرة -ريف حلب الشمالي -31 كانون الثاني 2016
خريطة (2) توضح مواقع النفوذ والسيطرة -ريف حلب الشمالي -9 شباط 2016
خريطة (3) توضح مواقع النفوذ والسيطرة في ريف حلب الجنوبي -20 تشرين الأول 2015
خريطة (4) توضح مواقع النفوذ والسيطرة في ريف حلب الجنوبي -31 كانون الأول 2015
بتاريخ 12تشرين الأول / أكتوبر 2015. شارك المدير التنفيذي لمركز عمران الدكتور عمار قحف بندوة عقدها مركز سيتا (SETA) بمدينة أنقرة التركية بعنوان "الأزمة السورية بعد التدخل الروسي". وكان مشرف الندوة الدكتور أفق أولوتاش من مركز سيتا.
وتحدث خلال الندوة كلاً من السادة نورمان ستون من جامعة Bilkent، الأستاذ نهاد أوزكان من جامعة TOBB.
عقدت الندوة لمناقشة الوضع الراهن إثر الانحياز الروسي لنظام الأسد بتدخلها العسكري الأخير الهادف إلى دعمه والوقوف بوجه تقدم المعارضة المسلحة التي سيطرت على إدلب وبدأت بالتحرك نحو مدينة اللاذقية السورية التي تعتبر معقلاً لنظام الأسد وقواته، مما دفع روسيا إلى تصعيد وجودها العسكري في المنطقة وتعزيز حشودها في غرب سورية وإطلاق ضربات جوية على أهداف المعارضة.
الأمر الذي جعل من التدخل الروسي واحدة من أهم القضايا الرئيسية التي أثارت ردات فعل دولية وإقليمية هدفت إلى تغيير الخطوة الروسية التي خلقت نوعاً من التوتر بين الغرب وروسيا لكونها لا تؤثر فقط على الأزمة السورية والسياسية الإقليمية بل تأثر أيضاً على ديناميات السياسة العالمية.
قدم المدير التنفيذي لمركز عمران ضمن الندوة ورقة حملت عنوان "التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية" عرض فيها قراءة تحليلية للواقع وخصوصاً فيما يتعلق بتوصيف الفعل الروسي الجديد ودوافعه، مؤكداً خلال حديثه على الدور الوطني المطلوب من قوى المقاومة الوطنية التي تقف أمام مروحة فرص وتحديات تستوجب العمل على أصعدة مختلفة سياسياً وعسكرياً لبلورة برامجها وآلياتها الوطنية لإدارة المرحلة القادمة بكامل متطلباتها السياسية والتفاوضية والعسكرية.
ملخص: يدفع نظام باتجاه تعزيز مساره الخاص الموازي لفيينا محاولاً تطويع مخرجاتها وفقاً لرؤيته السياسية متبنياً خارطة طريق خاصة تعزيز شروطه وقراءته لمداخل الحل، الأمر الذي يحتم على قوى المقاومة الوطنية خلق مسارها وتصورها السياسي تزامناً مع قيامها بعملية مواجهة متعددة الابعاد تخفف قدر الإمكان من الهشاشة التي تعتري بنيتها وتحسم الموقف باتجاه الإشكالات المؤجلة.
يحاول إطار فيينا عبر تفاهماته القلقة وملامح النهج والسلوك المتبع من قبل جل الفاعلين والذي يمكن وصفه بأنه الأقل تكلفة (بالمعنى الأمني والعسكري)، إدخال القضية السورية قسراً في مسارٍ سياسيٍّ يرتجي مجدداً "أمل الحل عبر بوابات السياسة والتفاوض"، انتظرت عملية الإدخال هذه عدة تغييرات بأطر وتفاعلات ثنائية (السياسة والعسكرة) في المشهد السوري وتحولاته، لعل أهمها ثلاثة متغيرات، أولها: تبلور مشروع "الخلافة الإسلامية" وتمددها جغرافياً وفكرياً لتبرز عدواً مشتركاً لكل الفرق المتفاعلة في المسرح السوري، وثانيها تنامي نهج غرف العمليات المشتركة في صف قوى المعارضة السورية إبان وضوح المشروع الإيراني في سورية واتساع رغباته العقدية والسياسية، إذ بدأت هذه الغرف بإخلال التوازن العسكري لصالحها، وثالثها: تدخل روسي عسكري مباشر لإنقاذ نظام الأسد من جهة ولإعادة ترتيب المشرق العربي وفق الشروط الجيوسياسية والأمنية الروسية، أحدث هذا التدخل تغييرات جمة في شروط اللعبة السياسية وإلى حد ما العسكرية التي سادت بعد تعثر العملية السياسية في جنيف.
أمام تلك المتغيرات ومفرزاتها، دُفِعَ بالمسار السياسي ليكون نقطة التقاء قد تصحح قدر الإمكان من احتمالات السيولة سواء على صعيد العنف والإرهاب الذي وصل إلى عقر فرنسا، أو على صعيد الأزمة الإنسانية التي طاولت شظاياها كل دول الجوار وفاضت إلى أوروبا محدثة فيها أزمة اجتماعية وسياسية واضحة، أو على مستوى تقليل التكلفة السياسية والعسكرية للتدخل الروسي في جغرافية معقدة بمستويات الصراع وأدوات التدخل الإقليمي والدولي فيها من جهة، ومؤهلة جيبولتيكياً لإحداث تغيرات جوهرية في خرائط الطاقة في العالم.
ستحاول هذه القراءة تقديم تصور حول مسار الحل السياسي وتبيان ملامح مسار النظام الموازي لذلك، لتنتقل في جزئها الأخير لرسم المسار الأجدى لقوى المقاومة الوطنية.
رجاءٌ دوليٌّ مثخن بالعراقيل
تزامناً مع ارتكاسات النظام وميلشياته وتأزم إشكالاته البنيوية بما فيها البنية البشرية، تدّخل الفاعل الروسي بشكل مباشر عسكرياً مستغلاً ثوابت الإدارة الأمريكية في التعاطي مع ملفات المشرق العربي، وطارحاً محوره لاعباً مهماً في محاربة الإرهاب، الذي شهد تنسيقاً واضحاً مع كل من التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب وإسرائيل، ومدعياً بذات الوقت ضمان الدفع في مسارات العملية السياسية، وبعد أقل من خمسة أسابيع على تدخله دفعت موسكو بالتعاضد مع الولايات المتحدة الامريكية لجمع الفاعلين الأساسيين في فيينا لمناقشة رؤيتها للحل السياسي في سورية والتي راعى فيها الحد الأدنى من المصالح المشتركة، والمهددات الأمنية المشتركة، ثم توسع الاجتماع ليشمل فاعلين آخرين يثقلون كفة موسكو وطروحاتها في هذا المحفل الدولي، وخرج هذا الاجتماع بملامح عامة لإطار تنفيذي تدخل فيه العملية السياسية، ومتكئ على بيان جنيف، إذ ثبت المسلمات التالية: أولوية مسار مكافحة الإرهاب، التفاوض ووقف إطلاق النار هما مداخل التغيير، جدول زمني لعملية سياسية، اتساق الجهود الإقليمية وتكاملها.
كما أنه نضح من فيينا مجموعة توافقات تتحكم في نسق وسير العمليات التنفيذية الناشئة وهي:
• المحافظة على الدولة السورية ووظائفها الأمنية والسياسية. والشروع فوراً بمحاربة الإرهاب. ومشاركة الأطراف المقبولة دولياً إلى جانب جيش النظام في محاربة التنظيمات الإرهابية.
• ضمان روسيا لإجراء بعض التغييرات الشكلية
• حكم غير طائفي لضمان تخفيف فاعلية الأكثرية التي لم تكن قادرة على ضبط تحولاتها وممارسة السلوك الدولتي.
• حُسن اختيار المعارضة، وذلك وفق معيار مدى القبول الدولي لها أولاً، ثم الفاعلية المحلية ثانياً، وتثبيت القوى الوطنية غير المقبولة دولياً وتحجيمها، عبر الضغط عليها، ثم النظر بمآلها بعد الاطمئنان على سير العملية السياسية
• عدم وصول قوى إسلامية للحكم، وذلك عبر حُسن استخدام ورقة "تصنيف الإرهابيين".
• تحديد مجالات التفاوض وطبيعته ضمن سقف فيينا وجدوله الزمني الذي قد يشهد بعض التعديلات غير الجوهرية.
رغم صدور القرار الأممي رقم 2254 الذي كرس نتائج فيينا وكل دلالاته السياسية، إلا أنه يحتوي على جملة عراقيل تجعل منه أسير الاستعصاء أو التزمين، أولها ما يتعلق بحجم الإشكالات التي رحلها القرار الأممي وأثرها على أية عملية سياسية من جهة وعلى بنية التوافق الدولي الناشئ الهشة أصلاً من جهة ثانية، أما ثاني هذه العراقيل فيتسق مع رغبة واشنطن بدفع الملف السوري بمعناه السياسي والعسكري عموماً إلى طاولة رئيسها القادم، أما بمعناه الأمني "الإرهاب" فهي لن تعارض أية جهود دولية وإقليمية في هذا السياق وهذا يرشح استمرار التوظيف السياسي لهذه الورقة، ولعل ليس آخر العراقيل الثقة المعدومة بين الفاعلين المحليين (النظام – المعارضة)، الأمر الذي يجعل من سيناريو فشل التفاوض هو السيناريو الأكثر واقعية.
النظام ومساره الموازي
ساهم التدخل الروسي ومدلولاته، والدعم الإيراني اللوجستي والبشري من تحسين التموضع السياسي للنظام في الطروحات الدولية وتهيئة الجو العسكري لتحقيق التقدم في مناطق وجيوب استراتيجية مؤثرة على المعادلة العسكرية بشكل عام، إذ إن هذا التدخل أمّن الشريط الساحلي أولاً والذي كادت عقده تفرط بعد سلسلة انتصارات المعارضة التي اقتربت من قمة نبي يونس، ويرتجي زيادة التدمير في بنية المعارضة العسكرية، الأمر الذي يوقف تمددها ويخلق في فضاءاتها إشكالات يصعب تلافيها بعد مفرزات فيينا، كما أنه استطاع أن يثبّت الصراع وقواعد الاشتباك في الجبهة الجنوبية ثانياً.
وبتتبع خطابات رأس النظام وتصريحاته، وبعملية تقاطعية مع سياساته التنفيذية سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو حتى العسكري، يمكننا استنباط طبيعة المسار الذي يسعى النظام لنموه وتمدده بالتكامل مع مفهومه العام اتجاه إطار فيينا وهي قائمة على تعزيز شروط ذاتية ومحلية ودولية على النحو التالي:
• زيادة المرونة رويداً رويداً في علاقاته الثنائية بين موسكو وطهران، مستغلاً حاجة البلدين للاتكاء على "شرعيته" التي تشكل المادة الادعائية لخطابات موسكو وطهران، ومستثمراً بالزهو السياسي الذي عززت شروطه موسكو منذ تدخلها العسكري.
• تعزيز شروط الحلف العسكري البري الذي تحاول طهران تعزيزه بين الحشد الشعبي والنظام والميلشيات المساندة له وقوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، لطرح هذا المحور كقوة برية مساندة لعمليات التحالف الدولي والغارات الجوية الروسية.
• التغيير التدريجي في قيادات بعض المؤسسات الأمنية وفق معايير الولاء الشخصي الذي خف جراء التحكم الإيراني، وذلك بهدف إخراج بعض القادة من مسرح التفاعل الأمني والعسكري الذي قد يرشحهم لاستحقاق سياسي ما، بالإضافة إلى حاجته لوجوه جديدة يمرر من خلالها سياساته الاجتماعية.
• تثبيت الصراع في حدود سورية المفيدة عبر سياسات الهدن المحلية و"المصالحات المحلية"، ولكن بدوافع تختلف عن سابقتها، إذ يسعى من خلال هذه الهدن لتحويل قوى المقاومة لشرطة محلية تتبع لمؤسساته ولتحصيل وكالة من هذه القوى لإدارة الشؤون السياسية في تلك المناطق مقابل "خدمة منظمة"، وبدأ بذلك بقدسيا والهامة بريف دمشق وأكملها بحي الوعر (آخر معاقل قوى المقاومة الوطنية في حمص)، ويسعى لتطبيقها في الغوطة الشرقية والجبهة الجنوبية.
• المحافظة على ما تبقى له من أوراق تم سحب جزء منها في مؤتمر الرياض، ولعل أبرزها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني الذي استثنته المعارضة لاعتباره فصيلاً ذا "طموحات انفصالية" ومهدداً أمنياً لقوى المقاومة في الشمال السوري، هذا من جهة، واستغلال الخلل البنيوي الذي يعول النظام على تناميه في بنية مؤتمر الرياض، من خلال إدراكه طبيعة التوجهات والغايات المتضاربة حول عدة قضايا رئيسية من جهة أخرى.
• استغلال الاعتراف الدولي بدور بعض الدول كطهران والقاهرة الأمر الذي ظهر في اجتماع فيينا الثاني، وذلك للعمل على البدء بكسر العزلة الدولية التي يعاني منها النظام، من خلال بوابة مكافحة "التطرف والإرهاب"، ووحدة الخطاب السياسي والأمني.
إذاً، سيدفع النظام باتجاه تحقيق ما ورد أعلاه لتعزيز مساره الخاص الموازي لفيينا والذي يهدف من ورائه تطويع مخرجات فيينا وفقاً لرؤيته السياسية، ويمكن وصف هذا المسار بأنه خارطة طريق خاصة تهدف لتعزيز شروط النظام وقراءته لمداخل الحل، عبر تعريفه لإطار فيينا بأنه فرصة لاقتناص المكاسب السياسية إن أمكن، وتضمن هذه الخارطة بذات الوقت سبل التعطيل في حالة عودة بروز التعارض الإقليمي والدولي، ويمكن رسم هذا المسار وفق الشكل التالي:
مما لا شك فيه، أن الهوامش الحركية لنظام الأسد قد زادت بعد فيينا والقرار الأممي الفضفاض والتوصيفات الجديدة المتوقعة، والمعرفة لفصائل الإرهاب في سورية، ويحاول الاستثمار في بقايا قدرته على التحكم في مفاصل الدولة في معرض التوظيفات السياسية لمكافحة الإرهاب، عبر بوابات التنسيق الأمني المشترك. إلا أن نمو هذا المسار يتوقف على عاملين، يتعلق الأول باستكانة محور (تركيا قطر السعودية)، واستمرار فشل المعارضة في التصدي لمهام المرحلة وتحدياتها، كما أنه لن يخبئ من ارتكاسات النظام وعلى كافة الصعد وأهمها الأمنية.
لا مجال لدفع الكرة إلى الأمام
أمام عوامل فرض الحل السياسي الذي يرتجيه الفاعل الروسي ومن خلفه الأمريكي، وتداركاً لتسارع المسار الذي يعمل النظام جاهداً على بلورته ليكون واقعاً سياسياً، يتحتم على قوى المقاومة السياسية والعسكرية من مواجهة تحدياتها وعدم تأجيلها من جهة والبدء في بلورة مساراتها الخاصة الموازية لفيينا، وذلك كله ضمن الإيمان العميق بضرورة التغيير السياسي الحقيقي ومكافحة كافة الجماعات العابرة لسورية.
وعليه فإن ملامح المسار الأجدى لقوى المقاومة الوطنية لا بد لها من إدراك البعد الزمني وضرورة ترافقه مع خارطة أهداف تعزز الشروط الوطنية وتدفع عملية التغيير السياسية نحو اتجاهها الصحيح
ينبغي أن تكون آليات وأدوات هذا المسار مراعيةً للظرف السياسي الحالي وطبيعة المهام المطروحة، والتي يمكن توصيفها بمهام المواجهة، إذ تحتاج قوى المقاومة لعملية مواجهة متعددة الأبعاد تخفف قدر الإمكان من الهشاشة التي تعتري بنيتها وتحسم الموقف باتجاه الإشكالات المؤجلة، وأوجه المواجهة تتمثل في عدة أمور أهمها:
• تحدي التفاوض: إذ إنه ينبغي أن تكون إدارة هذه العملية خاضعة بشكل عام لإدارة مؤتمر الرياض وبتنسيق عال مع كافة الفعاليات السياسية المشكّلة لهذا المؤتمر، مستغلة بذلك الحاجة الدولية لتواجدها لإضفاء الشرعية على طبيعة الحل السياسي المزعوم، وضبط التفاعلات الإعلامية والاقتراحات التوسعية في هيئة التفاوض وفق محددات بيان الرياض الأخير، خاصة أنها ستكون مدخلاً لزيادة الخلل في البنية والرؤية. كما يتحتم على الهيئة القيام بعدة حراكات سياسية ودبلوماسية توفر المناخ الأسلم للتفاوض عبر تعزيز تنحية الأثر العسكري الروسي من المشهد وضمان القيام بخطوات بناء الثقة (الإفراج عن المعتقلين، فك الحصار عن المناطق المحاصرة، إيصال المساعدات).
• تحدي حلب: وهو امتحان تم تأجيله عدة مرات بحكم الأسباب الموضوعية والذاتية والتي لسنا بصدد تبيانها في هذه القراءة، بقدر ما نحتاج لتلافيها قدر المستطاع، وهذا يتطلب جهوزية محلية تتظافر مع قبول من الدول الداعمة، فخروج حلب عن السيطرة الكاملة للمعارضة سواء لصالح تنظيم الدولة في شمال المحافظة أو النظام وميلشياته في قسمها الجنوبي الغربي، سيزيد القلق في حالة المقاومة ويهيئها للانحسار.
• تحدي الإصلاح الذاتي: لم يعد مقبولاً الازدواجية في التعاطي من قبل الفصائل العسكرية وخاصة الإسلامية منها، إذ إن التعارض الموضوعي ما بين "الشرعي" و"السياسي" يعطل فاعلية تلك الفصائل ويراكم الإشكالات الذاتية، الأمر الذي يتطلب تسريع المراجعات السياسية والتنظيمية وحتى العقدية وبلورة سلوك متسق فعال.
• تحدي التنسيق: بعد الفشل المستمر في إنتاج مؤسسة جامعة ممثلة لقوى الثورة، تغدو سياسات التنسيق الأكثر فعالية ومرونة، وبهذا الصدد توصي القراءة هذه بضرورة تكوين مكاتب تنسيق سياسي مشتركة على مستوى الفصائل الإسلامية وقوى الجيش الحر لتكوين مواقف مشتركة متناغمة على أقل تقدير.
• التحدي الاجتماعي، تملي سياسة النظام الكامنة في الهدن والمصالحات الوطنية، والضرورات الإنسانية في المناطق المحاصرة، ضرورة الدفع باتجاه سياسة تمنع التوكيل الذي يرتجيه النظام وتحقق الانفراج في الملف الإنساني في المناطق المستهدفة في الهدن، عبر رفض هذه السياسات وتبني طرح وقف نار مؤقت في الجبهة كاملاً انسجاماً مع قرارات مجلس الأمن 2139 و2165 و2191. ورفض أي تسوية أو اتفاق لا يراعي الخصوصية المحلية لكامل الجبهة.
ملخص: على الرغم من أن السياق العام لمخرجات فيينا لا يبدو وأنه سيفضي إلى حل حقيقي وجدي للأزمة السورية؛ إلا أن مؤتمر الرياض يمثل حاجة ضرورية وملحة للخروج برؤية واضحة وموحدة للمعارضة، تمكنها من التحرك بفعالية سياسية حقيقية تعطل صيغ الحل الإلزامي وتقدم البديل المقنع ضمن أي مسار محتمل للعملية السياسية، ما قد يمنح قوى المعارضة فرصة ربما تكون الأخيرة ويخضعها لامتحان هو الأصعب في تاريخ الثورة السورية، مقابل ما يلقيه من مسؤوليات حقيقية على كاهل المحور الثلاثي الداعم (قطر، السعودية، تركيا) ليعيد اختبار أدواتهم في التعاطي مع الملف السوري.
حُكمت مسارات العمل السياسي والعسكري للمعارضة السورية بمجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية، والتي أفضت إلى إجهاض أيمحاولة لتوحيد الرؤى وتنسيق الجهد، وبالتالي عدم إنتاج أي فعل سياسي جمعي جاد، ما أدّى لإيكال الفضاء السياسي والعسكري لمجموع القوى الإقليمية والدولية، مقابل انطواء أجسام المعارضة السورية على ذاتها واقتصارها على التحرك بردود الأفعال وفق هوامش سياسية ضيقة وسياقات عسكرية تخضع بغالبيتها لمبدأ "إدارة الأزمة". ففشل مجموع القوى الوطنية على مر الأعوام الخمسة الفائتة عن مراكمة أي مخزون سياسي عسكري منظم من الممكن أن يعول عليه كضامن في الاستجابة السريعة لمتغيرات الظرف السياسي الإقليمي والدولي، والذي تواجه المعارضة السورية اليوم إحدى تقلباته عبر اجتماعات فيينا الأخيرة وما رشح عنها من مخرجات ورسائل يراد لها أن تعلن المرحلة الحالية بمثابة الأخيرة قبل بدأ العملية السياسية، والتي حددت أطرها العامة وفق مدخل روسي أمريكي. وتشير القراءات الأولية للحراك الدولي أن مآلات فيينا لن تصب في صالح الجانب المعارض، والذي بات أمام اختبار ربما يكون الأصعب في تاريخ الثورة السورية، مقابل ما يلقيه من مسؤوليات إضافية على كاهل المحور الثلاثي الداعم (قطر، السعودية، تركيا) ليعيد اختبار أدواتهم في التعاطي مع الملف السوري.
وفقاً لأعلاه تقوم هذه الورقة بتحديد طبيعة الاختبار والاستحقاق القادم انطلاقاً من المناخات العامة الناشئة بعد اجتماعات فيينا، وما أفرزته من مسؤولية مشتركة لكل من المحور الثلاثي وقوى المعارضة السورية، والتي سيتم اختبارها وظيفياً في مؤتمر الرياض، بالإضافة إلى رسم السيناريوهات المتوقعة لمخرجات هذا المؤتمر وديناميات التعامل معها.
المزاج السياسي الدولي بعد فيينا
أدى دخول الفاعل الروسي بشكل مباشر على المشهد السياسي والعسكري المحلي إلى تسارع الرغبة الدولية في تأطير العملية السياسية في فيينا بما يراعي شروط هذا الفاعل، ويعزز مناخات سياسية لايزال يعتريها الكثير من الغموض في الآليات والالتفافات الواضحة على القضايا الجوهرية في الملف السوري ومحاولات تأطير العملية السياسية بصيغة الفرض وفق مزاج سياسي دولي وإن لم يكتمل بعد، إلا أن مخرجات فيينا الأولية (كبيان ووقائع) وما رشح عنها من مؤشرات ترسم ملامح الظرف السياسي القائم بما يدعم نمو هذا المزاج وفق مجموعة من المعطيات ولعل أبرزها:
أ. تأمين الضامن للمرحلة الانتقالية بعد الدخول العسكري على الأرض وإخضاع النظام والإيرانيين للإرادة الروسية.
ب. احتمالية تحول الروس إلى معادل قوى حقيقي ضابط للنفوذ الإيراني في سورية بشكل خاص والمنطقة بشكل عام.
ت. توفير الجهد الأمريكي عبر تصدر موسكو المشهد، ما يمنح واشنطن فرصة التهرب من مسؤولياتها واستكمال سياستها في إدارةالملف السوري من الخلف.
ث. التصعيد من أهمية مكافحة الإرهاب لابتزاز مجموع القوى الدولية والإقليمية للتنسيق معها وعلى رأسهم أوروبا المشوشة في حسم موقفها. وذلك عبر زيادة الفاعلية العسكرية على الأرض وتكثيف الجهد الدبلوماسي.
إن مجموع تلك النقاط والمؤشرات وفقاً للظرف السياسي الأمني الدولي والإقليمي؛ إنما ينذر بسير الحل السياسي ما بعد فيينا بصيغة ("إما" و "أو")، فإما أن تلج القوى المحلية بالعملية السياسية من المدخل الدولي الأولي المتوافق عليه لإنهاء الصراع، أو فلتستعد إلى التصنيف ضمن الضفة الأخرى وما يقابلها من اصطفاف دولي إقليمي. ما يضع المعارضة السورية بشقيها العسكري والسياسي أمام تحد صعب لتحسين تموضعها في مسار العملية السياسية المرتقبة، كفاعل في رسم ملامحها وأساس في ضبطها وليس معطى من معطياتها. لتأتي في هذا السياق الدعوة الأخيرة لمؤتمر الرياض كجهد دولي إقليمي واستجابة سريعة لضرورات المرحلة في توحيد جهود المعارضة السورية ودفعها باتجاه التوافق حول وثائق جامعة تتقاطع من خلالها الرؤى المختلفة بشكل يساهم في تسهيل استكمالها متطلبات العملية السياسية، ما قد يمنح قوى المعارضة فرصة جديدة ويخضعها لامتحان وتحد، ربما يكون الأصعب في تاريخ الثورة السورية، مقابل ما يلقيه من مسؤوليات حقيقية على كاهل المحور الثلاثي الداعم(قطر، السعودية، تركيا) ليعيد اختبار أدواتهم في التعاطي مع الملف السوري.
مؤتمر الرياض (الاختبار الوظيفي)
تتجه المؤشرات السابقة واحتمالية تطورها نحو حسم التصور الدولي والإقليمي المشوش لطبيعة وشكل المرحلة الانتقالية، والذي قد ينتج عنه عدة تصورات، ربما يمثل إحداها احتمالية نجاح السعي الروسي بإقناع المجموعة الدولية بضرورة بقاء الأسد (كبقايا مؤسسة) خلال المرحلة الانتقالية وقيادته لها، مستغلة بذلك النقاط المذكورة سابقاً مقابل تراخي المعارضة السورية في تقديم بديل وإثبات فاعلية سياسية وعسكرية، ما قد يسنح لموسكو فرصة تقديم الأسد وقواته كبديل وشريك لمكافحة الإرهاب، بعد إحداث عدة تغييرات في المؤسسة العسكرية التابعة للنظام لتتناسب وتلك الشراكة الدولية.
وإذ يمثل التصور السابق إحدى الإفرازات المحتملة للسياق السياسي الدولي؛ فإن عرقلته أو خلق بدائل يبقى مرهوناً بأداء المعارضة السورية والداعمين من مجموعة أصدقاء سورية، وحسن استثمارهم لفرصة مؤتمر الرياض وفق الظرف الإقليمي والدولي القائم وتحويل تلك الفرصة إلى فعل جمعي جاد على الأرض. فعلى الرغم مما قدمه سياق اجتماعات فيينا من محاولات لتحديد أولويات المرحلة الانتقالية بمكافحة الإرهاب؛ إلا أن تخبط القوى الإقليمية والدولية في البحث عن شريك حقيقي على الأرض في التصدي لتلك المهمة مازال واضحاً، الأمر الذي تلوح معه فرصة سانحة للمعارضة السورية في تجميع صفوفها السياسية والعسكرية على الأرض وتقديم بديل موحد ومتماسك وشريك حقيقي، يساهم في تقوية بعض المواقف الدولية والإقليمية الداعمة للثورة، والتي بدأت تتراجع نتيجة غياب البديل،
بالمقابل فإن استثمار هذه الفرصة ضمن هذا المناخ الدولي المعقد والمصالح الإقليمية المتضاربة، لا يتوقف على المعارضة السورية في توحيد جهودها فحسب، وإنما يتطلب جهداً رديفاً يبذله المحور الثلاثي الداعم. حيث أن أسباب فشل توحيد رؤى المعارضة السورية بشقيها كان محكوماً بمجموعة أسباب ذاتية وموضوعية، فإذ تتحمل المعارضة الجزء الأكبر من حالة التشظي هذه؛ إلا أن ذلك لا يعفي مجموع القوى الدولية والإقليمية من تغذية هذا الشرخ أو محاولات رأبه بطريقة فاشلة، ما يحمل الطرفين مسؤولية مشتركة وذلك لما تجاوزته الأزمة السورية من حدود الجغرافية إلى إنتاج نظام أمني إقليمي جديد في المنطقة. الأمر الذي يلقي على الطرفين مجموعة من المسؤوليات، يتفرع عنها عدة مهام لابد من ترجمتها خلال مؤتمر الرياض على مستويين:
المستوى الأول: المعارضة السورية (اختبار الأداء)
بعد حالة الاستعصاء والأفق المسدود التي وصل إليها مجموع القوى الدولية والإقليمية حيال الأزمة السورية بالأدوات الحالية؛ تبدو الخيارات الدولية مفتوحة على العديد من الاحتمالات و المناخ الدولي والإقليمي الداعم متعطشاً لأي مبادرة سورية تقدم طرحاً بديلاً عن خيار نظام الأسد، والذي لازال يسبق المعارضة بامتلاك هيكل دولة، مبتزاً عبره المجتمع الدولي وتحديداً في إطار مكافحة الإرهاب، لذلك فإن أي توافق حول رؤية سورية موحدة صادرة عن المعارضة في مؤتمر الرياض تغلب عليها صيغة العمل الدولتي، يمكن أن تكون نواة لتبلور موقف موحد للداعمين الإقليمين والدوليين حول حل للأزمة؛ لذا فإن صياغة المعارضة في مؤتمر الرياض لتصور وطني جامع متقاطع مع متطلبات المجتمع الدولي، لابد وأن يركز على الجوانب التالية:
الجانب العسكري: خلق صيغة مشتركة للعمل العسكري الموحد، يغلب عليها الطابع المؤسساتي، من جهة وضوح سلسلة الأوامر والمسؤوليات، بحيث تقدم بديل مقنع وشريك فاعل على الأرض في ضبط الأمن، ويترتب عليها ما يلي:
أ. متابعة شؤون الجبهات العسكرية ضد النظام والاحتلالين الروسي والإيراني وتنظيم الدولة وفق آليات تنسيق مشتركة.
ب. استمرار التنسيق والجهد للوصول إلى مؤسسة عسكرية موحدة إن لم تشكل نواة لجيش سوري بديل، فإنها تمثل ضامن رئيس لأي عملية دمج وإعادة هيكلة للمؤسسة العسكرية والأمنية السورية خلال المرحلة الانتقالية.
ت. تفويض مجموع القوى الوطنية في إدارة التزاماتها السياسية في أي تفاوض مستقبلي.
الجانب السياسي: خلق صيغة عمل سياسي وطني، تجمع الفصائل السياسية السورية المعارضة وتوحد رؤاها حول طبيعة الحل في سورية وفقاً لميثاق عمل وطني، يتضمن المبادئ الأساسية لعملية التفاوض، والتي تنسجم مع تطلعات الشعب السوري. وتضطلع بالمهام التالية:
أ. صياغة ثوابت العملية التفاوضية وعلى رأسها رحيل بشار الأسد.
ب. تقديم رؤية سياسية واضحة للعملية الانتقالية وفق أي سيناريو محتمل.
ت. تقديم مشروع واضح ومتكامل لمكافحة الإرهاب وحفظ الأمن الحدودي.
ث. تشكل فريق تفاوضي من السياسيين والعسكريين يتولى تمثيلها خلال العملية التفاوضية.
ج. تعيين ممثلي المعارضة في هيئة الحكم الانتقالي.
ح. متابعة شؤون الجبهات والإشراف على العمل العسكري.
المستوى الثاني: المحور الثلاثي واختبار المسؤول
وإذ يتطلب إنجاح مؤتمر الرياض جهداً مكثفاً وسريعاً من المعارضة السورية؛ فإنه يتوقف بدرجة لا تقل أهمية على اتساق رؤى المحور الثلاثي (السعودي، التركي، القطري) قبل توحيد رؤى المعارضة، حيث أن إدارة الملف السوري بالتنافس بين دول هذا المحور وما نتج عنها من دعم مشاريع خاصة زادت حدة الاستقطاب في صفوف المعارضة السياسية والعسكرية، أدى إلى استعصاء الملف السوري داخلياً وخارجياً. ما يلقي عليها مهام ومسؤوليات مضاعفة على رأسها إخراج صيغ وأشكال الدعم من معادلات الضغط السياسي، وإعادة تنسيقه وتوحيده، إضافة إلى الدفع خلال المؤتمر باتجاه:
أ. دعم أي رؤية سورية وطنية ناتجة عن هذا المؤتمر.
ب. تفعيل أدوات الضغط التي تمتلكها في توحيد هذه الرؤية وضمان استمرارها.
ت. تنشيط الجهد الدبلوماسي على المستوى الدولي في الحشد وعرقلة الجهود المضادة.
ث. تكثيف جهود المملكة العربية السعودية في بلورة رؤية خليجية وعربية تدعم ما يرشح عن مؤتمر الرياض من قرارات.
ج. الاستمرار في الدعم العسكري على الأرض والذي سيغير الكثير في المعادلة السياسية ما قبل بدأ العملية التفاوضية.
خلاصة
على الرغم من أن الصيغة الحالية والسياق العام لمخرجات فيينا لا يبدو وأنها ستفضي إلى حل حقيقي للأزمة السورية؛ إلا أن مؤتمر الرياض وهدفه في توحيد المعارضة يمثل حاجة ضرورية وملحة للخروج برؤية واضحة وموحدة للمعارضة تمكنها من التحرك بفعالية سياسية حقيقية، تعطل صيغ الحل الإلزامي وتقدم البديل المقنع، سواء من خلال فيينا أو غيرها من المسارات المحتملة للعملية السياسية، والتي لن تمثل في هذا الوقت بالذات إنهاء للصراع على الأرض بقدر ماهي استكمال له ولكن بأدوات سياسية، الأمر الذي يحمّل اليوم الأطراف المختلفة مسؤولية إدارة اللحظة سواء المعارضة عبر تقديمها نموذجاً قادراً على المحافظة على الحد الأدنى من مطالب الثورة السورية، أو الدول الإقليمية الداعمة و المدركة تماماً أن نجاح الثورة السورية من عدمه لم يعد متعلقاً بالسوريين بقدر ما يمثله من إنتاج نظام أمن إقليمي جديد يحدد درجة استقرار المنطقة ويلجم المشاريع الدخيلة على حساب الجغرافية العربية.
إن الواقع السياسي الحالي الموسوم بانحسار الخيارات لم يكن وليد العدم، بقدر ما هو نتيجة لعدة ثوابت ومتغيرات تراكمية، أبرزها ثابت لعنة الجغرافية المرافق لسوريا والتي تشابكت عبره المصالح الدولية والإقليمية وتعددت من خلاله المقاربات والمداخل المصلحية (سياسة، أمن، جيوبولتيك)، وما انعكست به على الملف السوري منذ تاريخ 15/3/2011. من سوء إدارة خارجية نتيجة التجاذبات وضعف إدارة داخلية من قبل المعارضة السورية، ليصل مسار الثورة السورية إلى لحظة حرجة تهدد مستقبل سورية والمنطقة العربية.
ملخص: في 30 سبتمبر 2015 شنَّ الطيران الروسي أولى طلعاته الجوية مستهدفاً مخازن للأسلحة والذخيرة وعربات ومدرعات في حمص وحماة وحلب؛ مستنداً إلى معلومات تم جمعها وتحديدها من قبل غرفة عمليات يديرها تحالف روسي-إيراني-عراقي-سوري في العاصمة العراقية بغداد.وجاءت عملية القصف بعد الكشف عن حشود عسكرية روسية تضمنت: تعزيز القاعدة البحرية في طرطوس بغواصة نووية ومجموعة سفن حربية، وتوسيع القاعدة الجوية في اللاذقية.
وعلى الرغم من ادعاء موسكو أن حشدها العسكري يهدف إلى قتال تنظيم الدولة المتطرف؛ إلا أن العمليات الجوية قد استهدفت مختلف فصائل المعارضة في عدة محافظات، وأكد محللون عسكريون أن دوافع موسكو المعلنة لا تتناسب مع الدفاعات الجوية المتطورة التي نصبها الروس في قاعدة "حميميم"، والتي لا يمكن أن تكون موجهة ضد تنظيم الدولة المتطرف الذي لا يملك أية مقاتلات أو منظومات دفاع صاروخي، بل إن الهدف الفعلي من نصب هذه هو إنشاء منطقة عزل جوي بالتزامن مع سحب حلف الناتو دفاعاته الصاروخية، ومبادرة واشنطن إلى سحب بطاريات صواريخ باتريوت من منطقة "أضنة" تحت ذريعة تحديث هذه البطاريات، ومن ثم سحب حاملة الطائرات الوحيدة تاركة المجال الجوي لمنطقة شرقي المتوسط بأسره للطيران الروسي.
التواطؤ الغربي لاستدراج روسيا في المأزق السوري
في 30 سبتمبر 2015 شن الطيران الروسي أولى طلعاته الجوية مستهدفاً مخازن للأسلحة والذخيرة وعربات ومدرعات في حمص وحماة وحلب؛ مستنداً إلى معلومات تم جمعها وتحديدها من قبل غرفة عمليات يديرها تحالف روسي-إيراني-عراقي-سوري في العاصمة العراقية بغداد.
وجاءت عملية القصف بعد الكشف عن حشود عسكرية روسية تضمنت: تعزيز القاعدة البحرية في طرطوس بغواصة نووية ومجموعة سفن حربية، وتوسيع القاعدة الجوية في اللاذقية، وتزويدها بنحو 48 مقاتلة من طراز (Su-24) و(Su-25) و(Su-30) وبمروحيات قتالية و35 عربة قتال مدرعة مزودة بمدفعية من طراز (BTR-82A/B)، ومدفعية عيار (152 mm)، و6 دبابات من طراز (T-90)، ونحو 800 مقاتل روسي من القوات الخاصة و500 من سلاح البحرية، وعدد غير معروف من المرتزقة الشيعة الذين تم شحنهم من العراق وباكستان وأفغانستان عبر طائرات (Ilyushin IL-76) تمهيداً للزج بهم في هجوم بري مرتقب ضد المعارضة السورية بإسناد جوي روسي.
وعلى الرغم من ادعاء موسكو أن حشدها العسكري يهدف إلى قتال تنظيم الدولة المتطرف؛ إلا أن العمليات الجوية قد استهدفت مختلف فصائل المعارضة في عدة محافظات، وأكد محللون عسكريون أن دوافع موسكو المعلنة لا تتناسب مع الدفاعات الجوية المتطورة التي نصبها الروس في قاعدة "حميميم"، مثل صواريخ أرض-جو (SA15) و(SA22)، والتي لا يمكن أن تكون موجهة ضد تنظيم الدولة المتطرف الذي لا يملك أية مقاتلات أو منظومات دفاع صاروخي، بل إن الهدف الفعلي من نصب هذه هو إنشاء منطقة عزل جوي ("A2AD" Anti-Access Area-Denial) في المنطقة بالتزامن مع سحب حلف الناتو دفاعاته الصاروخية، ومبادرة واشنطن إلى سحب بطاريات صواريخ باتريوت من منطقة "أضنة" تحت ذريعة تحديث هذه البطاريات، ومن ثم سحب حاملة الطائرات الوحيدة (USS Theodore Roosevelt carrier) تاركة المجال الجوي لمنطقة شرقي المتوسط بأسره للطيران الروسي.
وفي مقابل التراجع العسكري الغربي تحدثت المصادر عن رسو حاملة الطائرات الصينية (Liaoning-CV-16) في ميناء طرطوس، بعد أن عبرت قناة السويس في 22 سبتمبر، حيث تتوجه بكين إلى تعزيز قواتها البحرية بمقاتلات من طراز (J-15 Flying Shark) ومروحيات قتالية مزودة بصواريخ مضادة للغواصات من طراز (Z-18F) و(Z-18J) في منتصف شهر نوفمبر القادم، والتي ستتمركز في القاعدة الجوية الروسية باللاذقية بعد أن تمر بالأجواء الإيرانية والعراقية بالتنسيق مع طهران وبغداد.
وتأتي التعزيزات الصينية بعد استقبال الرئيس الأمريكي باراك أوباما الرئيس الصيني في البيت الأبيض يوم الجمعة 25 سبتمبر 2015، مما يؤكد وجود تفاهمات مسبقة بين العواصم الثالثة (واشنطن، موسكو، بكين) حول الترتيبات العسكرية التي تجري في سورية بالتنسيق مع إيران. ومن الملفت للانتباه أن يتزامن الحشد الروسي مع حالة إخلاء جوي غربي لمنطقة شرقي المتوسط في ظل تطورين مهمين:
1. الترحيب الأوروبي بالدور الروسي-الإيراني الجديد: ففي أول رد فعل لها على العمليات الجوية الروسية رحبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالتدخل الروسي مؤكدة أنه: "لن يكون من الممكن إنهاء الحرب الأهلية في سورية إلا بمساعدة روسيا التي بدأت أول أمس شن ضربات جوية في البلاد"، وأكدت في كلمة في شرق ألمانيا بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لإعادة توحيد ألمانيا: "هذا صحيح بصورة خاصة في حالة سورية، إذ نعرف جميعا منذ أعوام أنه يمكن أن يكون هناك حل فقط في وجود روسيا وليس من دون وجودها". وفي زيارته الأخيرة إلى طهران أكد وزير الخارجية النمساوي سيباستيان كورتس، أن الأزمة السورية: "تحتاج إلى نهج عملي مشترك يتضمن مشاركة الأسد في التصدي لإرهاب تنظيم الدولة"، وأضاف: "في رأيي أن الأولوية لقتال الإرهاب، ولا يمكن أن يتحقق ذلك دون إشراك قوى مثل روسيا وإيران"، كما صرح وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل جارثيا مارجايو، من طهران كذلك، أن: "حكومة بشار الأسد، سواء رضينا بها أم لا، هي من تمتلك الشرعية الدولية، وهي من تملك مقعداً في الأمم المتحدة". وتزامن إعلان وزير الخارجية البريطاني أن بلاده مستعدة لبقاء بشار الأسد رئيساً في الفترة الانتقالية، مع تأكيد صحيفة "غارديان" البريطانية (29 سبتمبر 2015) أن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قد أكد لأول مرة أن بريطانيا مستعدة للقبول ببشار أسد على رأس مرحلة انتقالية في سورية بهدف التوصل إلى اتفاق مع روسيا وإيران حول الملف السوري.
2. التضييق على المعارضة السورية ووقف الدعم عنها: ففي شهر مارس الماضي قطعت واشنطن الدعم عن أربع فصائل، وخفضت المساعدات التي كانت تقدمها لنحو 12 كتيبة أخرى، ثم بادرت إلى إيقاف الدعم المالي عن 52 فصيلاً في الجبهة الجنوبية في نهاية شهر أغسطس، وأعلنت بعد ذلك عن مراجعتها لبرنامج "تدريب المعارضة المعتدلة" متهمة العناصر التي دربتها بتسليم أسلحة وعتاد أمريكي إلى "جبهة النصرة" في 21 سبتمبر، ثم عمدت إلى تعميق حالة الفراغ عبر إغلاق غرفة التنسيق المشتركة في الأردن "الموك"، في حين نشطت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في التضييق على ممولي الفصائل المعتدلة وإصدار قوائم بأسماء مطلوبين لملاحقتهم أمنياً في دول الجوار.
وعلى الرغم من التصريحات الأمريكية الرافضة لاستهداف المعارضة المعتدلة في 30 سبتمبر 2015؛ إلا أن الرئيس أوباما كان على علم مسبق بتفاصيل عمليات سلاح الجو الروسي، حيث أكد البيت الأبيض أن بوتين قد: "أوضح الموقف الروسي بصورة كاملة لأوباما"، وذلك في إشارة إلى مراسلات مفصلة أرسلتها موسكو إلى واشنطن في 29 سبتمبر تتضمن تفاصيل العمليات المرتقبة، ونقلت وكالة "رويترز" عن مسؤول أمريكي قوله إن موسكو أعلمت واشنطن بالضربات قبل شنها، ومن الملفت للانتباه تزامن التصريحات الأمريكية الرافضة للقصف الروسي مع جلسات مفاوضات مكثفة عقدها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونائبته ويندي شيرمان مع الروس والإيرانيين للحديث عن: "سبل التعاون في الشأن السوري"!
الملامح الأولية للخطة الروسية
تتطلب عملية تشخيص مخاطر التدخل الروسي الاعتماد على معلومات دقيقة غير متأثرة بالشحن الإعلامي الغربي المصاحب للحملة، ومن خلال ما رشح من محاضر الاجتماعات التي عقدها المسؤولون الروس في موسكو ونيويورك خلال الأسبوعين الماضيين؛ يمكن تلخيص أهم معالم الخطة الروسية في سورية في النقاط التالية:
1. إنشاء منظومة أمنية إقليمية جديدة
تجمع بين موسكو وطهران وبغداد ودمشق، وتنسق عملياتها مع تل أبيب، ففي مقابلة مع موقع (RT) الروسي، بتاريخ 2 أكتوبر 2015، أكد الفريق سيرغي كورالينكو ممثل روسيا الرسمي في "المركز المعلوماتي" ببغداد، أن المهمة الأساسية للمركز تتمثل في: "جمع وتحليل ومعالجة وتبادل المعلومات الجارية حول الوضع في منطقة الشرق الأوسط في سياق مكافحة ما يسمى "الدولة الإسلامية"، وللقيام بعدها بإيصال هذه المعلومات إلى هيئات الأركان في روسيا والعراق وإيران وسورية"، كما أكد وجود تنسيق كامل مع الإدارة الأمريكية، وأشار إلى وجود وثيقة تأسيسية تحدد نمط العلاقة بين الدول الأربع مرحباً بانضمام أية دولة أخرى إلى هذه الغرفة، قائلاً: "أود التأكيد على أن هذا المركز المعلوماتي لا يعتبر مخصصاً فقط لأربعة أطراف، وإنما نأمل أن ينضم لعملنا دول أخرى، والتي لها مصلحة في القضاء على داعش، ولذلك نحن مقتنعون بانضمام دول أخرى إلينا وسيصبح عملنا أكثر فاعلية"، وذلك في إشارة واضحة إلى التعاون الوثيق بين المركز المعلوماتي مع رئاسة الأركان الإسرائيلية وإمكانية انضمام تل أبيب إلى ذلك التحالف؛ حيث تزامن الحشد الروسي في سورية مع اجتماعات مكثفة بين رئيسي الأركان الروسي والإسرائيلي والاتفاق على إنشاء آلية لتنسيق العمليات بين موسكو وتل أبيب في المجالات: الجوية والبرية والبحرية والفضاء الإلكتروني تحت إدارة نائبي رئيسي أركان البلدين نيكولاي بوغدانوفسكي ويائير جولان، وتنفيذاً لتلك الاتفاقيات؛ فقد أكدت صحيفة "تايمز أو إسرائيل" أن موسكو قد أشعرت تل أبيب مسبقاً بجميع الأهداف التي كانت ستقصفها يوم الأربعاء 30 سبتمبر، وقبل نحو ساعة من قصف أهداف بحمص اتصلت موسكو مع عدد من الضباط الإسرائيليين منهم مستشار الأمن القومي يوسي كوهين وأخبرتهم بتفاصيل العملية الجوية قبل شنها.
2. توجيه ضربات ترجيحية لتعزيز وضع النظام في المناطق التي فقدها
في اجتماع عقد المقر الرئاسي في أوغاريوفو بالقرب من العاصمة الروسية يوم الإثنين 21 سبتمبر 2015؛ حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على طمأنة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والوفد الأمني والعسكري المرافق له بأن سلاح الجو الروسي لن يقوم بأية عمليات جنوب سورية، وأن موسكو ستنسق مواقفها مع تل أبيب، ولن تسمح لحزب الله بنقل أية أسلحة جنوب غربي سورية، وأكد بوتين للوفد الإسرائيلي أن العمليات العسكرية الروسية ستهدف إلى:
• حماية النظام السوري وتعزيز قدراته القتالية.
• دعم إيران للقيام بدور إيجابي في المنطقة بعد الاتفاق النووي.
• مواجهة قوى التطرف متمثلة في تنظيم "داعش" وجبهة النصرة.
وبعد تحقيق هذه الأهداف أوضح بوتين أن قواته ستشرف على تنفيذ خطة انتقالية تتضمن: وقف إطلاق النار، وتأسيس حكم انتقالي يضم أطرافاً من السلطة والمعارضة، والإشراف على انتخابات بلدية ونيابية ورئاسية يختار فيها الشعب السوري من يمثله ويحكمه.
ولتحقيق هذه الخطة أكد بوتين للوفد الإسرائيلي على ضرورة تمكين الحكم في دمشق من إدارة المرحلة الانتقالية، مشيراً إلى أن القوات الروسية لا تنوي التمدد إلى دمشق، بل سيقتصر وجودها في اللاذقية حيث ستعمل على حماية الأقلية العلوية ومنع المعارضة من التقدم نحو جبال الأنصارية أو المناطق الساحلية.
وسربت مصادر مقربة من الموساد تفاصيل أخرى حول اللقاء تتعلق بمداخلات رئيس الأركان الإسرائيلي وقائد الأمن الفيدرالي الروسي، لمنع وقوع أي تضارب في الأهداف حيث ستركز الخطة الروسية على تمكين النظام من استعادة المناطق التي فقدها في الأشهر الماضية، وذلك من خلال توفير غطاء جوي للمرتزقة الإيرانيين في معارك تهدف إلى توطيد سيطرة النظام في دمشق والقلمون وحمص وريف حماة والريف الغربي لمدينة جسر الشغور.
وأشار المصدر إلى أن تفاصيل العمليات البرية قد تم وضعها في سلسلة زيارات متبادلة اجتمع فيها مساعد وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، مع حسين أمير عبد اللهيان في طهران، ولقاءات قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني مع الضباط الروس بموسكو، حيث يتوقع أن تنضم ميلشيات شيعية قريباً إلى قوات الأسد و"حزب الله"، لشن هجوم بري بإسناد جوي روسي.
3. التمهيد لعملية تحول سياسي تحت إشراف النظام
بالتزامن مع الحشد العسكري بذلت الدبلوماسية الروسية جهوداً حثيثة للتسويق لخطة تحول سياسي حيث تحدث بوتين عن إمكانية تشكيل حكومة سورية موسعة تضم أطرافاً من المعارضة "المعتدلة" وتكليفها بترتيب انتخابات بلدية ونيابية ورئاسية بالتتابع، وتأكيده على أن: "الرئيس السوري بشار الأسد مستعد لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة ولاقتسام السلطة مع معارضة بناءة". وقال الرئيس الروسي على هامش المنتدى الاقتصادي الشرقي في فلاديفوستوك بأقصى شرق البلاد "نريد فعلاً إيجاد نوع من التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب والتطرف"، وأضاف بوتين نحن نعمل مع شركائنا في سورية، وبشكل عام هناك تفاهم بأن توحيد الجهود في محاربة الإرهاب يجب أن يسير بالتوازي مع نوع من العملية السياسية في سورية نفسها. وأضاف بوتين إن "الرئيس السوري يتفق مع هذا وصولاً إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة وإجراء اتصالات مع ما يسمى المعارضة الصحية وإشراكهم في الحكومة".
وينسجم الطرح الروسي مع مبادرة أطلقها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف للبدء بحوار وطني سوري لا يقوم على أساس "جنيف 1" أو "جنيف 2"، بل ينطلق من مبدأ (6+1) ويشمل دول مجلس التعاون الخليجي بالإضافة إلى إيران، ويقوم على أساس وقف جميع العمليات العسكرية ودعم الفصائل والميلشيات المقاتلة.
وينطلق ظريف من نجاح مفاوضات الملف النووي كنقطة ارتكاز بالإضافة إلى الضربات الترجيحية الروسية وتراخي مواقف بعض الدول الإقليمية والدولية فيما يتعلق برحيل بشار الأسد واعتقادهم بإمكانية توليه القيادة في مرحلة انتقالية للبلاد.
4. ملء الفراغ الاستراتيجي الذي تركته أمريكا في المنطقة
تؤكد مصادر أمنية غربية بأن العملية الروسية قد جاءت كضربات استباقية تهدف إلى إفشال مخططات بعض القوى الإقليمية لفرض مناطق عازلة شمال وجنوب غربي البلاد، وهذا ما يفسر تكديس منظومات الدفاع الصاروخية المتطورة وسعيها لإنشاء منطقة عزل جوي ("A2AD" Anti-Access Area-Denial)، وتحذير قوى التحالف من خرق المجال الجوي السوري دون التنسيق مع موسكو.
وتأتي هذه العمليات ضمن خطة طويلة الأمد تهدف من خلالها موسكو إلى مد شبكاتها الصاروخية في المنطقة الممتدة ما بين طهران وبيروت مروراً ببغداد ودمشق، والسيطرة على أجواء المنطقة من خلال إنشاء شبكة دفاع جوي مع هذه الدول.
وفي مقابل سعي واشنطن إلى استدراج موسكو لعمل عسكري في سورية؛ يبذل الروس جهوداً حثيثة لتأسيس وجود بحري دائم في المياه الدافئة شرقي البحر الأبيض المتوسط، حيث تمكن هذه السياسة موسكو من صياغة تحالفات إقليمية جديدة في المنطقة والدخول بقوة في أسواق السلاح والطاقة.
وكانت صحيفة "واشنطن بوست" قد أشارت إلى أن خطاب أوباما في الأمم المتحدة، يوم الإثنين 28 سبتمبر 2015، يتضمن اعترافاً محزناً بالفشل؛ حيث حمل خطاب أوباما رسالتين: تتضمن الأولى إدراك الولايات المتحدة على مدى العقد الماضي أنه "لا يمكن فرض الاستقرار على أرض أجنبية"، وتؤكد الثانية على أن الإدارة الأمريكية: "مستعدة للعمل مع أي دولة، بما في ذلك روسيا وإيران، لحل الصراع في سورية".
5. إنعاش سوق الصناعات العسكرية الروسية
تروج موسكو لنفسها في الآونة الأخيرة على أنها لاعب دولي يمكن الاعتماد عليه في احتواء إيران وحملها على الالتزام بالاتفاق النووي، ومنع النظام السوري من استخدام الأسلحة الكيميائية، والمساهمة الفاعلة في محاربة الإرهاب، ومنع انسياب الأزمة السورية خارج الحدود، والترويج لتقنيات الطاقة السلمية في الشرق الأوسط.
ومن خلال هذه الحزمة من المعطيات يعمل الكرملين على إنعاش الاقتصاد الروسي عبر استعادة مجاله في سوق السلاح الذي كانت تعتمد عليه الجمهوريات العربية المتداعية، فقد أكد نائب رئيس شركة "روس أوتوم نيكولاي سباسكي" الروسية أثناء لقاءه مع السفير الإيراني في موسكو أن شركته تعمل على بناء منشأتين نوويتين جديدتين جنوب إيران، وفي شهر فبراير الماضي وقع فلاديمير بوتين مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عقداً يقضي بقيام روسيا ببناء مفاعلات نووية في مصر، كما تتفاوض موسكو مع السعودية والإمارات والكويت والأردن على صفقات لتطوير الطاقة النووية، وكان أكبرها في 19 يونيو 2015 ، حيث التزمت موسكو بإنشاء 16 مفاعلاً نووياً للسعودية، كما تعمل وزارة الدفاع الروسية على إبرام صفقات ضخمة مع دول الخليج العربية في مجال تطوير سلاح البحرية ونظم الدفاع الجوية وتقنيات الطائرات بدون طيار، فضلاً عن العربات المدرعة وأنظمة الإشارة، وتتطلب مثل هذه الالتزامات العسكرية طويلة الأمد صياغة تحالفات أمنية وطيدة، ووجوداً فعلياً في المياه الدافئة شرقي البحر الأبيض المتوسط.
محدودية التدخل الروسي والفرص الكامنة
من خلال المحاولة التي بذلها الباحث أعلاه لتحديد النطاق النوعي والمكاني للعمليات الروسية-الإيرانية المرتقبة؛ لا بد من التأكيد على أن التوجهات الروسية تندرج ضمن خطة بشار أسد العسكرية بتقليص سيطرة قواته على "سورية المفيدة" المتمثلة في دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس، وعلى أن محدودية التحرك الروسي تندرج في هذا الإطار؛ إذ إن 48 مقاتلة و6 دبابات و35 عربة مدرعة متمركزة في قاعدتي: "حميميم" الجوية و"طرطوس" البحرية، لا يمكن أن تنفذ عملية "احتلال" أو "اجتياح" للقطر السوري، خاصة وأن قوام القوات الخاصة وسلاح البحرية التي تم حشدها لا يتجاوز 1776 جندياً روسياً يعمل أغلبهم في مجال تقنيات الرصد والدفاع الجوي.
كما أن الضغوط الاقتصادية على موسكو تمنعها من شن حملة اجتياح بري واسع النطاق خارج البلاد، إذ إن عملية ضمّ شبه جزيرة القرم قد فاقمت من الضغوط الاقتصادية على روسيا التي باتت تعاني من: العزلة الدولية، وهبوط أسعار النفط، وتراجع قيمة الروبل، وارتفاع معدلات التضخم، وزيادة أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية إلى حد 30 في المائة.
ويجدر التنبيه إلى أن الدعم الروسي الأخير للنظام السوري ليس الأول ولا الأكبر من نوعه؛ فقد حصلت دمشق في السنوات الماضية على منظومات دفاع جوي متطورة، ومروحيات قتالية، وقامت موسكو بتطوير وتحديث أسراب طائرات "ميغ" و"سوخوي" منذ عام 2012؛ كما استلم جيش النظام في السنوات الأربعة الماضية كميات كبيرة من العربات المدرعة والمدفعية الثقيلة والدبابات المتطورة والذخيرة من مختلف الأعيرة، وكانت الاستخبارات الروسية تزود رئاسة الأركان في دمشق بأماكن تواجد المعارضة وسبل استهدافها، دون أن يغير ذلك من ترجح الميزان العسكري لصالح المعارضة أو يساعد على منع نظام بشار المتفكك من الانهيار.
وتشير مصادر أمنية مطلعة إلى أن التدخل الروسي الأخير قد جاء عقب معلومات مؤكدة بأن النظام السوري على وشك السقوط، حيث تقلصت سيطرته على البلاد إلى نحو 18 بالمائة، في حين استنفذ جيشه 93 بالمائة من مخزونه من الصواريخ، ولم يعد قادراً على استعادة سيطرته أو إرجاع أي منطقة فقدها في الأشهر الماضية، ودفعت هذه الهزائم بشار نحو التفكير باستخدام مخزونه من الأسلحة الكيميائية المتبقية لحماية العاصمة من الثوار الذي أحرزوا تقدماً ملحوظاً في الأسابيع القليلة الماضية.
ولا يتوقع أن تسفر عمليات شحن المزيد من قطعان المرتزقة الشيعة إلى الأراضي السورية بتغيير فعلي؛ إذ إن التقارير العسكرية تؤكد فشل سياسة الحشد الطائفي التي يقوم بها قاسم سليماني بسبب قصر فترة تدريب هذه القوات على ستة أسابيع في مخيمات، وعجز هؤلاء المقاتلين عن المواجهة، وتشير المصادر إلى أن المبادرة الإيرانية-الروسية الأخيرة تأتي كمحاولة لوقف الاستنزاف المالي الذي تعاني منه طهران بعد أن أنفقت نحو 40 مليار دولار لإنقاذ نظام بشار، وتوجهها للتركيز على تحسين وضعها الاقتصادي عقب الاتفاق النووي الذي أبرمته مع الدول الغربية، إضافة إلى إدراك الحكم في طهران أن قدرتها على دعم بشار لا بد وأن تنضب في ظل الخسائر الكبيرة التي يعاني منها نظامه.
وتأتي أنباء حشد إيران للمزيد من المرتزقة على خلفية إنهاك "حزب الله" وتكبده نحو 1800 قتيل و3000 جريح منذ تدخله في سورية، واضطراره لعقد الهدن مع المعارضة حتى يتمكن من استعادة معنويات قواته المنهارة، مما يؤكد على أن العمليات المرتقبة ستكون محدودة بإطار زمني لا يتعدى شهرين، وستنحصر في إطار القيام بضربات ترجيحية تحاول استعادة توازن النظام في المناطق التي فقدها في المعارك الأخيرة، وستشنها قوات منهكة سبق وأن انكسرت في معارك سابقة مع المعارضة.
وفي ظل هذه المعطيات؛ يؤكد المسؤولون الروس على أن الهدف من العملية العسكرية يقتصر على: ترجيح كفة النظام، والتوصل إلى وقف لإطلاق النار، والبدء في مفاوضات المرحلة الانتقالية، وذلك في ظل إدراك الكرملين أنه من غير الواقعي محاولة القضاء على عشرات آلاف المقاتلين الذين يتمتعون بأفضلية القتال على أرضهم، ويستفيدون من تحول الاستراتيجية العسكرية لجيش النظام إلى "الدفاع" وفقدانه عنصر المبادرة، وضعف الكفاءة القتالية للميلشيات التابعة لإيران، وذلك في مقابل توحد فصائل المعارضة واعتمادها تكتيكات قتالية متطورة، وتحقيقها اختراقات غير مسبوقة في حروب المدن من خلال المواكبة ما بين العمليات النوعية ضد التحصينات الخارجية، وتوظيف القصف الصاروخي عالي الدقة لاستهداف نقاط الأمن الداخلية.
نتائج وتوصيات
وللتعامل مع مخاطر الحشد الروسي وعملياته المرتقبة يتعين على المعارضة أن تبادر إلى اتخاذ الإجراءات التالية:
أ. تبني سياسة "الكمون الاستراتيجي": والذي يتمثل في امتصاص الضربات المبدئية، واستيعاب عنصر المفاجأة من خلال رصد التحركات واستقراء نمط العمليات المعادية، وتجنب استدراجها في مواجهات غير متكافئة في هذه ا لفترة الحاسمة.
ب. تنفيذ استراتيجية "إعادة التموضع": لتشتيت إحداثيات غرفة العمليات المشتركة ببغداد، وذلك من خلال عدة صيغ أبرزها: "الانتشار الكيفي"، وتجنب التجمعات، وشن حرب العصابات، وتنفيذ العمليات الخاصة، والمبادرة إلى "إعادة التشكيل".
ت. إنشاء "غرفة عمليات سورية مشتركة": حيث تمثل عملية إغلاق غرفة العمليات المشتركة في الأردن "الموك" فرصة سانحة لإنشاء غرفة عمليات سورية تعزز مفاهيم الأمن الوطني، وتمنح فصائل المعارضة ما تحتاجه من شخصية اعتبارية في المعادلة الإقليمية، وذلك من خلال تبني استراتيجيات "إدارة الأزمة"، واتباع وسائل احترافية لتبادل المعلومات، ورسم الخطط، وتقدير الموارد المطلوبة، وتوظيف مصادر القوة الكامنة بمختلف أبعادها، ووضع ذلك في إطار قالب تطبيقي يستوعب التحولات الإقليمية والدولية وآليات توظيفها في إفشال خطة التدخل الخارجي.
ث. إعداد خطة للمحافظة على "المكتسبات الاستراتيجية": عبر تحديد الأولويات، وتنفيذ عمليات الإخلاء، وتنسيق خطط الكر والفر، وإعادة التشكل في إطار المحافظة على البؤر الاستراتيجية التي اكتسبتها المعارضة، ومن ثم التوسع في مناطق "الخاصرة الرخوة" التي لا تصل إليها ميلشيات المرتزقة ولا تطالها عمليات القصف الجوي.
ج. التركيز على العمليات النوعية والضربات الموضعية في المناطق الآمنة للنظام: وذلك من خلال شن عمليات نوعية تطال النظام في مقراته الآمنة وتستثمر مشاعر السخط في صفوف خزانه البشري الذي يتنامى سخطه من قيادة بشار، وخاصة في قلب العاصمة ومحيطها، فضلاً عن محاولة نقل المواجهات إلى مناطق متفرقة في محافظتي اللاذقية وطرطوس.
ح. إعادة صياغة التحالفات الإقليمية: حيث يحاول تحالف (موسكو-طهران-بغداد-دمشق) توظيف "فراغ المجال" الغربي -عسكرياً وأمنياً- لفرض عزلة على بعض القوى الإقليمية وعلى رأسها الرياض وأنقرة، ولا شك في أن الاستفادة من هذه القوى كداعم يتجه نحو التحلل من بعض القيود والالتزامات الدولية، والتعامل معه كظهير دبلوماسي يتحدث بقوة في الأروقة الدولية، دون التقليل من قدرة الكوادر السورية التي أنتجتها الأزمة على رفد الساحة بأطروحات جديدة في مقابل ترهل الدبلوماسية الدولية، والدفع نحو مبادرة تقوم على التخطيط السليم والتشكيل البنيوي المتوافق مع متطلبات المرحلة.
خ. الإعداد لخطة تحول سياسي تحظى بإجماع وطني: تنطلق من منظور وطني وترتكز على مفاهيم الاحترافية والانضباط وتعمل على توفير الاحتياجات الأساسية للشعب السوري، وتفهم المتطلبات الأمنية لدول الجوار، والأخذ بزمام المبادرة للتقدم بمبادرة وطنية جامعة على أنقاض الدكتاتورية المتهاوية.
أصدرت وحدة المعلومات التابعة لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية تقريرها الدوري الخامس عشر، والمتخصص برصد مخرجات مراكز الفكر والدراسات للنصف الثاني من شهر أيلول/سبتمبر 2015. ومن اللافت في هذا الإصدار أن اهتمام مراكز الفكر العالمية انصب على حجم التدخل العسكري الروسي في سورية، لا سيما سلاح الجو، إضافة إلى المدى الذي من الممكن أن تذهب إليه روسيا من جراء هذا التدخل، مركزة على حجم وحقيقة التنسيق الروسي الإسرائيلي حيال الأزمة السورية، كما قدمت المراكز مخرجات حول الوضع الإنساني في سورية، وخصوصاً في ظل استمرار النظام انتهاكه للقوانين الدولية باستخدامه للأسلحة الكيميائية المحرمة دولياً.