تتعدد المقاربات الإقليمية المطروحة لسورية، ولكنها تتقاطع في تأكيدها على تقوية الدولة على حساب المجتمع، والدمج الإقليمي كمدخل لإعادة الاستقرار لسورية، في حين أن المراد إطار إقليمي يصون الدولة، ولا يلغي الشروط المحلية المهيئة للاستقرار.
مقاربة الدمج الإقليمي واستعادة الدولة
يمكن تأطير وجهات النظر المفسرة لإندلاع الحركة الاحتجاجية في سورية عام 2011 في تيارين، يعتقد الأول بأنها نتاج لعوامل داخلية مركبة تتصل باستعصاء النظام السياسي المركزي، وعطالته في إدارة الدولة وتمثيل المجتمع، ويجدون حججهم في متوالية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت وما تزال بسورية منذ إنقلاب البعث عام 1963، في حين يعتقد التيار الثاني بأن الحركة الاحتجاجية مجرد انعكاس لانهيار النظام الإقليمي وتآكل الدولة السورية، وتحولها من فاعل إقليمي إلى ساحة لتنافس القوى الإقليمية والدولية.
يجد هذا الانقسام تعبيراته في نظرة مؤيدي كل منهما لمصدر الشرعية وكيفية تسوية “الأزمة” السورية، إذ يؤكد الأول على حل سياسي يؤسس لإنتاج منظومة سياسية شرعية من وجهة نظر السوريين، دون أن يلغي دور الإقليم والمجتمع الدولي كحواضن ضرورية لإنجاح هذا الاتفاق. في حين يعتقد التيار الثاني بأن الحل يكمن في تقوية الدولة على حساب المجتمع السوري، ودمجها في محيطها الإقليمي لتوفير شرعية خارجية، تساعدها في معالجة التحديات الداخلية التي تعترضها.
تعتبر روسيا أبرز ممثلي التيار الثاني، حيث تواصل جهودها لإعادة فرض سيطرة النظام على كامل الجغرافية السورية، كذلك الدفاع عنه في المحافل الدولية، من منطلق روايتها المتمركزة حول حماية الدولة واستعادتها، والدفاع عن ممثلها الشرعي وهو النظام السوري. ترى موسكو بأن إعادة دمج النظام في محيطه الإقليمي، من خلال ترتيبات أمنية ثنائية أو متعددة، كذلك إعادة دمجه في جامعة الدول العربية، سيوفران شرعية وغطاء سياسياً، يساعدان سورية في معالجة تحدياتها الداخلية، وتبعاً لذلك يقع الانتقال السياسي الجدي خارج التفكير الروسي.
أيضاً، يتبنى عدد من الدول العربية هذه المقاربة بشكل أو بآخر، يظهر ذلك في مشروع “الشام الجديد”، الذي عبر عنه بشكل صريح رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي خلال زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية في أيلول 2020، حيث يستند المشروع إلى دراسة أعدها البنك الدولي عام 2014 بعنوان ” Over the horizon: A new Levant”، لتشكيل تكتل اقتصادي بين دول مصر والعراق والأردن، علماً أن سورية ليست بعيدة عن هذا المشروع، سيما مع إعادة تفعيل اتفاق نقل الغاز المصري إلى لبنان عبر الأردن وسورية. بحسب محللين، فإن للمشروع أهداف غير ملعنة تتمثل بتعزيز كيان الدولة، في ظل ما تواجهه من تحديات اقتصادية واجتماعية وجيوسياسية أمنية متنامية، سيما في سورية التي تتهددها مخاطر وجودية، كذلك فإن دمجها من جديد في إطار إقليمي عربي تقوده مصر، يمكن له أن يخفف من التأثيرين الإيراني والتركي في سورية، وبالتالي توفير استقرار سياسي من نوع ما.
درعا ساحة للاختبار
تعتبر درعا مثالاً يمكن من خلاله اختبار فرضية مدى قدرة الدمج الإقليمي، واستعادة الدولة على جلب الاستقرار لسورية، فهي ميدان لترتيبات تنفيذ اتفاق خط الغاز العربي، وبوابة تريدها روسيا لتطبيع علاقات النظام مع محيطه. اكتسبت درعا والجنوب السوري عموماً أهمية أكبر، مع إعادة تفعيل اتفاق خط الغاز العربي، وما تبعها من اتصالات ولقاءات سياسية بين مسؤولي النظام ومسؤولين عرب وأجانب، وما عناه الاتفاق بشكل أو بآخر من دمج النظام السوري في ترتيبات إقليمية ذات طابع اقتصادي، بعد مقاطعة استمرت لسنوات.
صحيح أنه ما يزال مبكراً الحكم بشكل نهائي على مآلات الدمج الإقليمي لسورية، ولكن بحسب المعطيات القائمة، يمكن القول بأنه مسار غير واعد في ظل المعطيات القائمة.
تندرج مبادرة الدمج الإقليمي ضمن سياسة “الخطوة خطوة”، واستمراريتها مرهون بمدى تجاوب النظام وتقديمه لتنازلات ملموسة للخارج، ولا يبدو بأن النظام مقبل على ذلك طالما يشعر بأنه منتصر، وأن على الدول الأخرى تقديم تنازلات له دونما اشتراط مقابل، فضلاً بأن إيران لن تبقى في موقف المتفرج على مسار يتهدد نفوذها في سورية، إذ تبقي على أذرعها المحلية في الجنوب السوري للتخريب، وما يتضمنه ذلك من استمرار الجنوب كساحة للتشابك الإيراني- الإسرائيلي، كذلك كميدان لملواجهة مع المجتمعات المحلية الرافضة للتواجد الإيراني.
أيضاً، لم تجلب عودة الدولة إلى درعا الأمن والاستقرار لها كما يروج، إذ تم الاتفاق على حساب السكان المحليين، دونما مراعاة لمطالبهم بل تطلب تمرير الاتفاق سحقها وفرض تسويات بالقسر.
يدلل على ما سبق مظاهر التدهور التي تعيشها المحافظة أمنياً وخدمياً، حيث تتواصل عمليات الاغتيالات والتي قدرتها مادة صحفية على موقع سورية على طول بحوالي 138 محاولة اغتيال بين أيلول و26 كانون الأول 2021، كذلك عجز مؤسسات الدولة عن توفير الخدمات الأساسية في ظل افتقادها للموارد اللازمة، وترهل أجهزتها بسبب الفساد والبيروقراطية وتدخل الأجهزة الأمنية فيها، لتبقى وعودها وخططها حبراً على ورق، ولتدفع السكان للاعتماد على مبادرات محلية لتسيير شؤونهم كما في مواجهة أزمة كوفيد 19. أيضاً، ما تزال تجارة المخدرات وتهريبها ناشطة رغم عودة “مؤسسات الدولة الرسمية” لإدارة معبر نصيب، وانتشار أجهزة النظام الأمنية في المحافظة.
الحل: إطار إقليمي يكرس محلياً
مما لا شك فيه بأن سورية تحتاج إلى إطار إقليمي ودولي، يحد من مخاطر إنزلاق الوضع فيها إلى الانهيار التام للدولة والمجتمع، مع تواصل التنافس الجيوسياسي عليها، قادر على معالجة أو التخفيف من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية. يبدو بأن أطراف كالسعودية وتركيا ومصر مرشحة لتشكيل مثلث استقرار إقليمي كما يرى البعض، مؤهل بما يمتلك من ثقل اقتصادي وسياسي وشبكة علاقات مع مختلف الفاعلين من احتواء وإدارة الأزمة السورية، وفتح قنوات وساطة وحوار مع مختلف الفاعلين المنخرطين في الساحة السورية.
تتلاقى الدول الثلاث بأن لها مصلحة في استقرار سورية، ويمكن استثمار ذلك في ظل مساعي التهدئة الإقليمية لتوفير غطاء سياسي لإطلاق مبادرات في الساحة السورية، يتم من خلالها استكشاف مدى إمكانية توسيع حدود التعاون فيما بينهم سورياً وإقليمياً، مستثمرين علاقاتهم وإنخراطهم مع مناطق النفوذ، لرعاية مبادرات تتركز على التعافي الاقتصادي، الموجه محلياً والجامع بين مناطق النفوذ لمعالجة ملفات مهيئة على الاستقرار، طالما أن أمريكا وروسيا لا تمانعه راهناً. صحيح أن هنالك تحديات ليست هينة تواجه إنبثاق المثلث الإقليمي، إلا أنها تبقى الدول المرشحة لضمان استقرار الإقليم عبر البوابة السورية.
المصدر: السورية نت
منذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، ومنذ مؤتمر قمة الملوك والرؤساء العرب الذي عقد في أنشاص عام 1946 وحتى الآن، لم تستطع الحكومات العربية الاتفاق على “نظام عربي” تُدير المجموعة العربية شؤونها به ومن خلاله، رغم ما مر على العالم العربي خلال هذه المدة الطويلة من أحداث وحروب وإخفاقات وويلات.
المقصود بالنظام العربي هو تحديد الأهداف ومناهج العمل وآلياته، وتوصيف الحقوق والواجبات لكل دولة تجاه الدول العربية الأخرى، وتجاه القضايا العربية المشتركة، مما يُمكّن هذه الدول من التعاون والتضامن سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، ويؤهلها لحماية نفسها وتنمية مجتمعها وتحقيق أمنه واستقراره، وتدفع لاعتماد المواطنة كأساس رئيس لبناء الدولة.
الذي حصل هو أن البلدان العربية، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي منذ بدء استقلال الدول العربية الحقيقي، اتفقت على تأسيس جامعة الدول العربية دون أن تُحدد الأهداف والاستراتيجيات ومناهج العمـل والعلاقـات بينها، فلم يتضمن ميثاق الجامعة إلا ألفاظاً إنشائية عامة وهامة لكنها غير مُحددة، ويمكن الاطلاع عليه لتلمّس العموميات الضبابية فيه، ولم يُلزم نظام الجامعة العربية وميثاقها الدول الأعضاء بأي التـزام جدّي، فقرارات الجامعة تُلزم من يقبلها، ولا تلوم من يرفضها أو يشذ عنها، فهي تجمع “الأشقاء” دون الالتزام بقراراتها، ودون النظر بمصالحهم منفردين أو مجتمعين، ورغم مرور الزمن وتعقُد الوضع الإقليمي والدولي، والصراع المسلح مع “إسرائيل” وإيران وغيرهما، ورغم توسع مؤسسات الجامعة ومنظماتها، بقيت قراراتها لا تُلزم أحداً، وأهدافها بلا ملامح، ووظائفها متروكة للظروف، مع أن بعض الإعلام العربي أسماها “بيت العرب”، ويبدو أن العرب يعيشون تحت سقف هذا البيت دون أن يكونوا شركاء أو أشقاء، ويلجؤون إليه فقط عندما تنقطع بهم السبل.
إن عدم وجود مثل هذا “النظام العربي” هو الذي لم يتح للعرب مواجهة تأسيس دولة “إسرائيل” مواجهة موحدة، ولم يستطيعوا أن يخوضوا حرباً واحدة بقيادة واحدة أو بجيش واحد أو بسياسة واحدة، فكانت عين دولة على الشرق وعين الأخرى على الغرب وعين الثالثة ترقب الرابعة لئلا تطمع في التدخل في شؤونها، فلم يستطيعوا أن يواجهوا أي عدو، فخسروا كل معاركهم على المستوى الدولي، العسكرية والسياسية والاقتصادية، دون أن يتّعظوا، ولم تستطع كل الكوارث إقناعهم بأهمية تأسيس “نظام عربي”.
خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وقف العرب مكتوفي الأيدي لعدم وجود نظام يحدد واجب كل منهم، وترك أمر التضامن مع مصر في ذلك الوقت لمبادرات الحكومات التي لم تجد ما تُبادر به بعد أن بدأ العدوان، وبُني أساساً على أن العرب مشرذمون ولا خوف منهم في المواجهة أو الرد.
وفي ستينات القرن العشرين انشغل العرب بشن حروب إعلامية شرسة بعضهم ضد البعض الآخر، وتآمر كل منهم على الآخر، ولم يستفيقوا حتى عدوان 1967 واحتلال “إسرائيل” للمزيد من الأرض، وتسجيلها هزيمة مجلجلة بحقهم، ومع ذلك لم يحرضهم هذا كله ليسعوا إلى نظام عربي يُحدد حقوق كل دولة وواجباتها.
والأمر نفسه خلال حرب 1973 والحرب الأهلية اللبنانية، والغزو الإسرائيلي للبنان، وحرب الخليج الأولى والثانية، ومؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو ثم حصار العراق وانهياره، والتغلغل والتمدد الإيراني الأخطبوطي، ومن بعد ذلك الثورات العربية والتدخل الأجنبي فيها جميعها، والمأساة السورية والليبية واليمنية والعراقية وغيرها.
حاولت الأنظمة العربية أن تُعالج عدم وجود مثل هذا النظام بعقد مؤتمرات قمة عربية، علّها تعوض قصور الجامعة وربما تقصيرها وفقدان التضامن وآلية العمل المشترك، فعقدت مؤتمر أنشاص عام 1946 وكان أهم ما فيه اطلاع القادة العرب على مزارع الخيول التي يمتلكها الملك فاروق، ثم نام مؤتمر القمة طوال عقدين إلى أن دعاه عبد الناصر عام 1964 للانعقاد، وأخذ يُعقد بما يشبه الانتظام دون أن يعمل من خلال نظام، ولم يبحث في أي من قممه شيئاً جدياً، ولم يتخذ قرارات مصيرية، اللهم إلا قراره بأن يكون سنوياً.
صار للأوروبيين نظامهم، ولدول جنوب شرق آسيا نظامها، ولدول أمريكا الشمالية نظامها، وكذا دول أمريكا الجنوبية، وأصبح العالم يعيش مرحلة النظام العالمي الجديد، إلا العرب ما زالوا دون نظام، بل ربما لا يشعرون بحاجة لمثل هذا النظام. ولهذا، لا يُجانب الحقيقة من يؤكد أنه لا فائدة من الجامعة العربية، لأن قراراتها لن تجد من ينفذها، ولن تجد من يحترمها، لانعدام آلية تنفيذ متفق عليها، أي لانعدام “النظام العربي”.
المصدر: السورية نت