منذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، ومنذ مؤتمر قمة الملوك والرؤساء العرب الذي عقد في أنشاص عام 1946 وحتى الآن، لم تستطع الحكومات العربية الاتفاق على “نظام عربي” تُدير المجموعة العربية شؤونها به ومن خلاله، رغم ما مر على العالم العربي خلال هذه المدة الطويلة من أحداث وحروب وإخفاقات وويلات.
المقصود بالنظام العربي هو تحديد الأهداف ومناهج العمل وآلياته، وتوصيف الحقوق والواجبات لكل دولة تجاه الدول العربية الأخرى، وتجاه القضايا العربية المشتركة، مما يُمكّن هذه الدول من التعاون والتضامن سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، ويؤهلها لحماية نفسها وتنمية مجتمعها وتحقيق أمنه واستقراره، وتدفع لاعتماد المواطنة كأساس رئيس لبناء الدولة.
الذي حصل هو أن البلدان العربية، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي منذ بدء استقلال الدول العربية الحقيقي، اتفقت على تأسيس جامعة الدول العربية دون أن تُحدد الأهداف والاستراتيجيات ومناهج العمـل والعلاقـات بينها، فلم يتضمن ميثاق الجامعة إلا ألفاظاً إنشائية عامة وهامة لكنها غير مُحددة، ويمكن الاطلاع عليه لتلمّس العموميات الضبابية فيه، ولم يُلزم نظام الجامعة العربية وميثاقها الدول الأعضاء بأي التـزام جدّي، فقرارات الجامعة تُلزم من يقبلها، ولا تلوم من يرفضها أو يشذ عنها، فهي تجمع “الأشقاء” دون الالتزام بقراراتها، ودون النظر بمصالحهم منفردين أو مجتمعين، ورغم مرور الزمن وتعقُد الوضع الإقليمي والدولي، والصراع المسلح مع “إسرائيل” وإيران وغيرهما، ورغم توسع مؤسسات الجامعة ومنظماتها، بقيت قراراتها لا تُلزم أحداً، وأهدافها بلا ملامح، ووظائفها متروكة للظروف، مع أن بعض الإعلام العربي أسماها “بيت العرب”، ويبدو أن العرب يعيشون تحت سقف هذا البيت دون أن يكونوا شركاء أو أشقاء، ويلجؤون إليه فقط عندما تنقطع بهم السبل.
إن عدم وجود مثل هذا “النظام العربي” هو الذي لم يتح للعرب مواجهة تأسيس دولة “إسرائيل” مواجهة موحدة، ولم يستطيعوا أن يخوضوا حرباً واحدة بقيادة واحدة أو بجيش واحد أو بسياسة واحدة، فكانت عين دولة على الشرق وعين الأخرى على الغرب وعين الثالثة ترقب الرابعة لئلا تطمع في التدخل في شؤونها، فلم يستطيعوا أن يواجهوا أي عدو، فخسروا كل معاركهم على المستوى الدولي، العسكرية والسياسية والاقتصادية، دون أن يتّعظوا، ولم تستطع كل الكوارث إقناعهم بأهمية تأسيس “نظام عربي”.
خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وقف العرب مكتوفي الأيدي لعدم وجود نظام يحدد واجب كل منهم، وترك أمر التضامن مع مصر في ذلك الوقت لمبادرات الحكومات التي لم تجد ما تُبادر به بعد أن بدأ العدوان، وبُني أساساً على أن العرب مشرذمون ولا خوف منهم في المواجهة أو الرد.
وفي ستينات القرن العشرين انشغل العرب بشن حروب إعلامية شرسة بعضهم ضد البعض الآخر، وتآمر كل منهم على الآخر، ولم يستفيقوا حتى عدوان 1967 واحتلال “إسرائيل” للمزيد من الأرض، وتسجيلها هزيمة مجلجلة بحقهم، ومع ذلك لم يحرضهم هذا كله ليسعوا إلى نظام عربي يُحدد حقوق كل دولة وواجباتها.
والأمر نفسه خلال حرب 1973 والحرب الأهلية اللبنانية، والغزو الإسرائيلي للبنان، وحرب الخليج الأولى والثانية، ومؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو ثم حصار العراق وانهياره، والتغلغل والتمدد الإيراني الأخطبوطي، ومن بعد ذلك الثورات العربية والتدخل الأجنبي فيها جميعها، والمأساة السورية والليبية واليمنية والعراقية وغيرها.
حاولت الأنظمة العربية أن تُعالج عدم وجود مثل هذا النظام بعقد مؤتمرات قمة عربية، علّها تعوض قصور الجامعة وربما تقصيرها وفقدان التضامن وآلية العمل المشترك، فعقدت مؤتمر أنشاص عام 1946 وكان أهم ما فيه اطلاع القادة العرب على مزارع الخيول التي يمتلكها الملك فاروق، ثم نام مؤتمر القمة طوال عقدين إلى أن دعاه عبد الناصر عام 1964 للانعقاد، وأخذ يُعقد بما يشبه الانتظام دون أن يعمل من خلال نظام، ولم يبحث في أي من قممه شيئاً جدياً، ولم يتخذ قرارات مصيرية، اللهم إلا قراره بأن يكون سنوياً.
صار للأوروبيين نظامهم، ولدول جنوب شرق آسيا نظامها، ولدول أمريكا الشمالية نظامها، وكذا دول أمريكا الجنوبية، وأصبح العالم يعيش مرحلة النظام العالمي الجديد، إلا العرب ما زالوا دون نظام، بل ربما لا يشعرون بحاجة لمثل هذا النظام. ولهذا، لا يُجانب الحقيقة من يؤكد أنه لا فائدة من الجامعة العربية، لأن قراراتها لن تجد من ينفذها، ولن تجد من يحترمها، لانعدام آلية تنفيذ متفق عليها، أي لانعدام “النظام العربي”.
المصدر: السورية نت