تتعاظم خسارات طهران لأدوات استراتيجيتها الإقليمية في المنطقة والتي كانت تساهم بتموضعها المركزي ضمن النظام الإقليمي، فالمواجهة غير المتكافئة في غزة المترافقة مع صمت دولي مطبق، والضربة القاسية التي وجهتها إسرائيل لـ "حزب الله" باستهداف منظومة القيادة وشبكة الاتصال والتواصل، والانتقال إلى سياسة هجومية ضد الحزب؛ يجعل الموقف الإيراني في المنطقة يتراوح بين تعزيز جبهات محددة أو المواجهة المفتوحة والشاملة لكل أدواتها بدءاً من اليمن مروراً بسورية وانتهاء بالعراق. وضمن تلك الخيارات يبرز السؤال حول الجغرافية السورية كإحدى الساحات المحتملة للتصعيد عبر وكلاء إيران المحليين، خاصة في ظل موقف نظام الأسد المتردد، والمتقاطع مع المنظور الروسي لعزل الجغرافية السورية عن أي صراع يعيدها إلى ديناميات عسكرية تقلق مكاسب موسكو الاستراتيجية.
تمتلك إيران حضوراً عسكرياً قوياً في سورية عبر الميليشيات التابعة لها، مثل "حزب الله" اللبناني وقوات من الحرس الثوري الإيراني والميليشيات المحلية والطائفية-الأجنبية، ناهيك عن تغلغلها في أغلب قطاعات الدولة الحيوية وانتشار مليشياتها في جل الجغرافية السورية، مما يمنحها القدرة على تنفيذ عمليات ضد إسرائيل أو ممارسة ضغط دون الدخول في مواجهة مباشرة.
وفي هذا السياق، يبدو خيار توظيف الجبهة السورية مطروحاً، فقد تسعى إيران لفتح جبهات جديدة في سورية لتخفيف العبء عن باقي الجبهات وتوسيع رقعة المواجهة وتشتيت قدرات إسرائيل الدفاعية، عبر استخدام سورية كنقطة انطلاق ضد إسرائيل، دون أن ينخرط نظام الأسد بشكل مباشر في عملية توسيع الصراع. خاصة أن توسيع قواعد الاشتباك عبر سورية لن يحقق أهدافاً عسكرية فحسب، وإنما سيعقد الحسابات الجيوسياسية، لا سيما أن مؤشرات الانزلاق متنامية في المنطقة، ومؤشرات الانخراط والعودة الأمريكية لتشكيل نظام أمن إقليمي جديد باتت أكثر احتمالية، الأمر الذي قد يدفع باتجاه خلق مناخ تفاوضي يعزّز موقف طهران ويوقف تدهور مكاسبها.
بالمقابل، فإن انخراط سورية في الصراع سيستتبع برد فعل إسرائيلي قوي، مما قد يهدد استقرار نظام الأسد ويؤدي إلى تدخل دولي. لذلك، ستكون حسابات طهران في هذا السياق بالغة الدقة باعتبار أن "جبهة سورية" هي مكسبها الاستراتيجي الذي تطلب منها أعواماً من الدعم الأمني والسياسي والاقتصادي، ناهيك عن كونها جغرافية مهمة تستطيع أدواتها التحرك فيها دون تهديدات داخلية، إضافة إلى عدم قدرتها على المواجهة المباشرة بسبب استنزاف مواردها في سورية خلال السنوات الماضية.
وعليه، يمكن القول: إن إقحام سورية في الصراع المباشر، ورغم كونه خياراً متاحاً لإيران؛ إلا أنه لا يبدو وفق المعطيات السابقة مطروحاً على المدى المنظور، والذي قد تسعى إيران خلاله للحفاظ على الجغرافية السورية كممر عبور/إسناد لميليشياتها وأسلحتها، في حين يبقى التصعيد وتوظيف سورية كورقة ضغط إضافية متاحاً في حال تفاقم الصراع مع إسرائيل، لكن من المرجح أن يكون ذلك بشكل محدود وعبر وكلاء محليين وليس عبر مواجهة عسكرية مباشرة تشمل "الدولة السورية" ككل.
لا يبدو أن لدى نظام الأسد رغبة/قدرة حالية في فتح جبهة الجولان ضد إسرائيل، أو حتى استخدام الجغرافية السورية ضمن الصراع الدائر ولو عبر الوكلاء، حتى بعد اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان، إذ اكتفى النظام بإدانة إسرائيل وشجب العملية العسكرية المستمرة على غزة ولبنان فقط، ولعلّ أبرز الأسباب الدافعة لهذا الموقف هي:
إلا أن الأسد يدرك أن قطار التطبيع مع الدول العربية هو الأساس الذي ينتظر تحوّله من الشق السياسي إلى الاقتصادي، خاصة من بعض الدول الخليجية التي سبقت إلى التطبيع مع إسرائيل، والتي ربما يمتد أثر موقفها هذا إلى سعي لتحييد الأسد وعزله عن هذا الصراع و"إخراجه من العباءة الإيرانية"، مقابل الحفاظ على نظامه ومحاولات إعادة تعويمه.
لا يبدو أن أمام النظام خياراً سوى تحييد الجغرافية السورية والاكتفاء بمواقف سياسية-إعلامية، فالمغامرة هنا ليست مضمونة وغير محسوبة النتائج، لذلك سيحافظ على بقاء قواعد الاشتباك ذاتها أو يصمت عن تغييرها من قبل إسرائيل، وسيتغافل عن حركية الميليشيات المحلية والعراقية، وعن سياسات إيران في التحريك والتسليح والإسناد.
قد تتخذ إسرائيل خطوات استباقية في سورية إذا شعرت بتهديد متزايد من قبل إيران أو الجماعات المسلحة المدعومة منها في المنطقة، وستغير قواعد الاشتباك التي كانت تعتمدها لضرب القيادات الإيرانية ومواقعها ومواقع "حزب الله" بهدف منع إيران من تعزيز وجودها العسكري ونقل أسلحة متطورة إلى الحزب في لبنان.
ولعل توسيع قواعد الاشتباك تبدت ملامحه من خلال التوغل البري الأخير والمحدود لإسرائيل في القنيطرة، بينما تبدو محددات الضربات الجوية، والتي ترسم بنك الأهداف الإسرائيلية في سورية، ثابتة حتى الآن وتتراوح بين ثلاثة مستويات، الأول: يستهدف خطوط النقل (الحدود العراقية-السورية واللبنانية-السورية)، والثانية: تستهدف قادة إيرانيين أو قادة في "حزب الله" أو غيرهم من قيادات المليشيات المرتبطة بإيران، أما الثالث: فيهدف إلى منع أي محاولات لتطوير الأسلحة سواء الكيميائية أو القدرات الصاروخية بعيدة المدى، وغالباً ما يستهدف مراكز البحوث العلمية.
ومن المرجّح أن تستمر الضربات الإسرائيلية الجوية ضمن تلك المستويات مع زيادة وتيرتها خلال الفترة القادمة، خاصة في استهداف قيادات "حزب الله" والحرس الثوري، وذلك للاستفادة من زخم العمليات في لبنان من جهة، واستجابة لتراجع قيادات الحزب إلى العمق السوري من جهة أخرى. بالإضافة إلى وجود إلحاح حول سرعة الإنجاز استباقاً لزيادة الضغوط الغربية على إسرائيل، يضاف إلى ذلك التخوّف من سيناريو ردة فعل إيران.
أما بالنسبة للغزو البري الموسَّع، فيبدو كسيناريو مستبعد ومرتبط بفتح الجبهة السورية، خاصة أن تل أبيب تفضل الاستهداف عن بعد والتدخلات البرية المحدودة جداً، وذلك للحفاظ على الدور الوظيفي للأسد، خصوصاً أن القيادات الإسرائيلية ستسعى إلى ترجمة إنجازاتها العسكرية إلى سياسية متمثلة بالتطبيع وعمليات "سلام". وفي حال تدخلت في سورية برياً، كما حدث مؤخراً في القنيطرة؛ فسيكون تدخلها مؤقتاً ومحدوداً وقد لايرتبط بأهداف ضمن الأراضي السورية، بقدر ما يرتبط بأهداف خاصة بلبنان والمناطق الحدودية و"حزب الله".
يبدو أن عودة سورية إلى ساحة صراع إقليمي مباشر ليست احتمالاً وشيكاً في ظل الظروف الراهنة، لكنها تبقى معادلة مفتوحة على تطورات قد تكون مفاجئة. فقد تسعى إيران، بشكل غير مباشر، إلى استخدام الأراضي السورية لتوسيع نطاق المواجهة مع إسرائيل، عبر أسلوب "حرب الوكلاء" لتجنب المواجهات المباشرة.
على الجانب الآخر، يواجه نظام الأسد تحديات داخلية ضخمة وأزمات اقتصادية واجتماعية وأمنية متفاقمة، مما يجعله أقل ميلاً لفتح جبهة عسكرية ضد إسرائيل. وأي تحرك في هذا الاتجاه قد يؤدي إلى رد فعل إسرائيلي قوي قد يعيد النظام إلى دوامة عدم الاستقرار التي يسعى للخروج منها.
أما روسيا، الحليف الأقوى لنظام الأسد، فتنظر إلى أي تصعيد عسكري بقلق بالغ بعد استثمارها العسكري والسياسي الكبير في سورية، كما أنها تروج "كلاسيكياً" لفكرة الحلول السياسية والدبلوماسية للصراعات في الشرق الأوسط، وعودة سورية كساحة جديدة للصراع تتعارض مع هذه الرؤية.
بناءً على ذلك، يمكن القول: إن سورية ستظل ساحة ذات أهمية جيوسياسية كبيرة، لكنها في الوقت الحالي أقرب إلى سيناريوهات التصعيد المحدود والمدروس بدلاً من المواجهة المفتوحة والمباشرة. والتي تبقى احتمالاتها مرهونة بتغيرات جوهرية في خارطة المواقف، إلا أن الخيارات الإيرانية المتاحة تبدو أكثر ميلاً نحو الحفاظ على الوضع القائم، والانخراط التدريجي في استراتيجية الإسناد، مع السعي لتجنب الانزلاق إلى مواجهات إقليمية قد تكون نتائجها غير محسوبة.
منذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، ومنذ مؤتمر قمة الملوك والرؤساء العرب الذي عقد في أنشاص عام 1946 وحتى الآن، لم تستطع الحكومات العربية الاتفاق على “نظام عربي” تُدير المجموعة العربية شؤونها به ومن خلاله، رغم ما مر على العالم العربي خلال هذه المدة الطويلة من أحداث وحروب وإخفاقات وويلات.
المقصود بالنظام العربي هو تحديد الأهداف ومناهج العمل وآلياته، وتوصيف الحقوق والواجبات لكل دولة تجاه الدول العربية الأخرى، وتجاه القضايا العربية المشتركة، مما يُمكّن هذه الدول من التعاون والتضامن سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، ويؤهلها لحماية نفسها وتنمية مجتمعها وتحقيق أمنه واستقراره، وتدفع لاعتماد المواطنة كأساس رئيس لبناء الدولة.
الذي حصل هو أن البلدان العربية، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي منذ بدء استقلال الدول العربية الحقيقي، اتفقت على تأسيس جامعة الدول العربية دون أن تُحدد الأهداف والاستراتيجيات ومناهج العمـل والعلاقـات بينها، فلم يتضمن ميثاق الجامعة إلا ألفاظاً إنشائية عامة وهامة لكنها غير مُحددة، ويمكن الاطلاع عليه لتلمّس العموميات الضبابية فيه، ولم يُلزم نظام الجامعة العربية وميثاقها الدول الأعضاء بأي التـزام جدّي، فقرارات الجامعة تُلزم من يقبلها، ولا تلوم من يرفضها أو يشذ عنها، فهي تجمع “الأشقاء” دون الالتزام بقراراتها، ودون النظر بمصالحهم منفردين أو مجتمعين، ورغم مرور الزمن وتعقُد الوضع الإقليمي والدولي، والصراع المسلح مع “إسرائيل” وإيران وغيرهما، ورغم توسع مؤسسات الجامعة ومنظماتها، بقيت قراراتها لا تُلزم أحداً، وأهدافها بلا ملامح، ووظائفها متروكة للظروف، مع أن بعض الإعلام العربي أسماها “بيت العرب”، ويبدو أن العرب يعيشون تحت سقف هذا البيت دون أن يكونوا شركاء أو أشقاء، ويلجؤون إليه فقط عندما تنقطع بهم السبل.
إن عدم وجود مثل هذا “النظام العربي” هو الذي لم يتح للعرب مواجهة تأسيس دولة “إسرائيل” مواجهة موحدة، ولم يستطيعوا أن يخوضوا حرباً واحدة بقيادة واحدة أو بجيش واحد أو بسياسة واحدة، فكانت عين دولة على الشرق وعين الأخرى على الغرب وعين الثالثة ترقب الرابعة لئلا تطمع في التدخل في شؤونها، فلم يستطيعوا أن يواجهوا أي عدو، فخسروا كل معاركهم على المستوى الدولي، العسكرية والسياسية والاقتصادية، دون أن يتّعظوا، ولم تستطع كل الكوارث إقناعهم بأهمية تأسيس “نظام عربي”.
خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وقف العرب مكتوفي الأيدي لعدم وجود نظام يحدد واجب كل منهم، وترك أمر التضامن مع مصر في ذلك الوقت لمبادرات الحكومات التي لم تجد ما تُبادر به بعد أن بدأ العدوان، وبُني أساساً على أن العرب مشرذمون ولا خوف منهم في المواجهة أو الرد.
وفي ستينات القرن العشرين انشغل العرب بشن حروب إعلامية شرسة بعضهم ضد البعض الآخر، وتآمر كل منهم على الآخر، ولم يستفيقوا حتى عدوان 1967 واحتلال “إسرائيل” للمزيد من الأرض، وتسجيلها هزيمة مجلجلة بحقهم، ومع ذلك لم يحرضهم هذا كله ليسعوا إلى نظام عربي يُحدد حقوق كل دولة وواجباتها.
والأمر نفسه خلال حرب 1973 والحرب الأهلية اللبنانية، والغزو الإسرائيلي للبنان، وحرب الخليج الأولى والثانية، ومؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو ثم حصار العراق وانهياره، والتغلغل والتمدد الإيراني الأخطبوطي، ومن بعد ذلك الثورات العربية والتدخل الأجنبي فيها جميعها، والمأساة السورية والليبية واليمنية والعراقية وغيرها.
حاولت الأنظمة العربية أن تُعالج عدم وجود مثل هذا النظام بعقد مؤتمرات قمة عربية، علّها تعوض قصور الجامعة وربما تقصيرها وفقدان التضامن وآلية العمل المشترك، فعقدت مؤتمر أنشاص عام 1946 وكان أهم ما فيه اطلاع القادة العرب على مزارع الخيول التي يمتلكها الملك فاروق، ثم نام مؤتمر القمة طوال عقدين إلى أن دعاه عبد الناصر عام 1964 للانعقاد، وأخذ يُعقد بما يشبه الانتظام دون أن يعمل من خلال نظام، ولم يبحث في أي من قممه شيئاً جدياً، ولم يتخذ قرارات مصيرية، اللهم إلا قراره بأن يكون سنوياً.
صار للأوروبيين نظامهم، ولدول جنوب شرق آسيا نظامها، ولدول أمريكا الشمالية نظامها، وكذا دول أمريكا الجنوبية، وأصبح العالم يعيش مرحلة النظام العالمي الجديد، إلا العرب ما زالوا دون نظام، بل ربما لا يشعرون بحاجة لمثل هذا النظام. ولهذا، لا يُجانب الحقيقة من يؤكد أنه لا فائدة من الجامعة العربية، لأن قراراتها لن تجد من ينفذها، ولن تجد من يحترمها، لانعدام آلية تنفيذ متفق عليها، أي لانعدام “النظام العربي”.
المصدر: السورية نت
عكست نتائج اجتماع أستانة الأخير بتاريخ 25-26 نسيان/أبريل؛ استمرار حالة ما اعتُبر "جموداً سياسياً" اعترى الملف السوري منذ أمدٍ ليس بقصير، وتجلى في تعثر إعلان اللجنة الدستورية التي تعتبر الخطوة الأولى "باتجاه الحل السياسي" وهدوء نسبي على مستوى الأعمال العسكرية مع انحسار فصائل المعارضة إلى جيب صغير في الشمال وإعلان نهاية تنظيم الدولة، لتعود الديناميكية العسكرية في الملف السوري مجدداً عقب أيام من انتهاء اجتماع أستانة 12، مع الحملة الروسية على ريفي إدلب وحماه، وذلك بالتزامن مع عملية محدودة نفذها "الجيش الوطني" المدعوم من تركيا شمال حلب ضد "وحدات حماية الشعب " التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD"" والعمود الفقري لـ"قوات سورية الديمقراطية".
ويبدو أن تلك الديناميكية العسكرية ما هي إلا انعكاس لديناميكية سياسية محمومة تدور منذ المرحلة الأخيرة من الحرب على تنظيم الدولة، وتتجلى في محاولة الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في الملف السوري إعادة ترتيب أوراقها وصولاً إلى تفاهمات جديدة تحدد مصالح كل طرف من الأطراف بشكل يفضي إلى رسم ملامح الحل السياسي في سورية.
وتتوزع مصالح الأطراف على الجغرافيا السورية؛ بشكل قسّم الخارطة السورية إلى مناطق ساكنة ظاهرياً ولكنها، تحمل إمكانات الانفجار في أي وقت تبعاً لقدرة اللاعبين في كل منطقة على الوصول إلى تفاهمات، وتلك المناطق هي: الجنوب السوري والشمال الغربي، إضافة إلى ما تبقى من غرب الفرات بيد "قوات سورية الديمقراطية" وشرقي الفرات، مقابل مناطق سيطرة النظام السوري في الساحل ودمشق، بما فيها مؤسسات النظام وما يدور في تلك المنطقة من صراعات خفية وأزمات اقتصادية متلاحقة. وعليه تسعى هذه الورقة التحليلية إلى تفكيك المشهد السوري المعقّد، تبعاً لمناطق النفوذ ولاعبيها الإقليميين والدوليين، وصولاً إلى رسم ملامح التفاهمات الجديدة واستشراف ما قد تؤدي إليه من آثار على شكل الحل السياسي المرتقب.
شكّل تعثر مسار أستانة بجولته الثانية عشر في إعلان تشكيل اللجنة الدستورية، وإحالتها إلى جنيف؛ فشلاً في المسعى الروسي لقطف ثمار ما أحرزته موسكو من تقدم عسكري نتيجة لهذا المسار، وتحويله إلى بديل عن مسار جنيف الأممي لإنتاج حل سياسي استراتيجي في سورية.
ويضاف إلى هذا الفشل الناجم عن رفض أمريكي-أوروبي لتفرد موسكو في إنتاج الحل السياسي في سورية؛ فشل آخر يتعلق بإحباط أمريكي لجهود موسكو في عملية إعادة تعويم الأسد وتنشيط ملف عودة اللاجئين وإعادة الإعمار، في حين يستمر الهدف التكتيكي لمسار أستانة من خلال القصف الروسي ومحاولات التوغل البري في أرياف إدلب وحماه وحلب، وذلك لقضم مساحات جديدة من آخر مناطق سيطرة المعارضة والهيمنة على الطرق الدولية M4- M5، وهو جزء من اتفاق سوتشي لم تنفذه تركيا([1])، وبذلك يكون مؤتمر أستانة قد أتم المطلوب منه عسكرياً وفق بوصلة روسية وإيرانية باتجاه استعادة مناطق سيطرة المعارضة، وإعادة ضبط الحدود واستكمال عمليات نزع السلاح الثقيل والمتوسط من أيدي المعارضة المسلّحة وتحييد الجيوب المصنفة "إرهابية" وفتح وتنشيط شبكة الطرقات الدولية. الأمر الذي يشير إلى بداية انفراط عقد التحالف الثلاثي (روسيا، تركيا، إيران) بعد أن أنجز لأطرافه الثلاثة الأهداف العسكرية المشتركة. حيث بدأت خلافات ثلاثي أستانة بالظهور للعلن على عدة مستويات، خاصةً بين إيران وروسيا من ناحية، وبين موسكو وأنقرة من ناحية أخرى، إذ يبدو أن التنافس بدأ لتثبيت المكاسب على الأرض عبر تحالفات جديدة.
أحرز تحالف "الضرورة" بين موسكو وطهران إنجازات هامة بالنسبة لهدف الطرفين المشترك في الحفاظ على بقاء بشار الأسد؛ إلا أن تراجع المعارضة المسلحة إلى جيب ضيق في الشمال وانحسار الأعمال العسكرية سرعان ما ظهّرَ الخلافات الاستراتيجية بين الطرفين، والمتعلقة برغبة كل طرف بالتحكم بالملف السوري وهندسة الحل السياسي، ويمكن إجمال الخلاف الاستراتيجي بين روسيا وإيران في عاملين ([2]):
بالإضافة إلى العاملين السابقين، أخذت أبعاد الصراع الاستراتيجي الروسي الإيراني تتجلى في عدة ملفات أساسية منها ملف إعادة الإعمار وقطاعات الاقتصاد السوري الحيوية، إضافة إلى ملف إعادة هيكلة الجيش السوري والتحكم به، وفي إطار هذا التنافس تتوجه موسكو للاستفادة من المناخ الإقليمي والدولي (إسرائيل، الخليج، الولايات المتحدة) المتخوف من الوجود الإيراني في سورية، ومقايضة ورقة إيران بورقة بقاء الأسد وتعويمه وتمويل عملية إعادة الإعمار. وهذا ما بدا واضحاً في صمت موسكو عن الضربات الجوية الإسرائيلية للمواقع الإيرانية في سورية، ومحاولة إدخال إسرائيل على خط الحل السياسي للأزمة السورية بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى موسكو، والتي تزامنت مع زيارة بشار الأسد إلى طهران ([3]). الأمر الذي قد يشير إلى أن موسكو اختارت التضحية بحليفها التكتيكي (طهران) لصالح حلفاء جدد يساهمون بتحقيق أهدفها الاستراتيجية في سورية (إسرائيل، الولايات المتحدة، محور مصر السعودية الإمارات). بالمقابل، لا يغيب هذا التحرك الروسي عن ذهن القيادة الإيرانية، والتي ردت بالاجتماع الثلاثي في دمشق ([4])، والذي جمع رئيس أركانها مع نظيريه السوري والعراقي واستثنى الجانب الروسي من هذا الاجتماع، مما يشير إلى أن إيران تسعى إلى تدعيم تحالفاتها بعيداً عن موسكو بالاعتماد على العراق وسورية ولبنان، وذلك استعداداً لمواجهة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها ومحاولات إضعاف وجودها في سورية.
تعتبر تركيا بحكم موقعها كقوة إقليمية على الحدود السورية؛ المتضرر الأكبر من تدخل إيران المباشر ومن ثم موسكو في سورية، حيث أضعف هذا التدخل الدور التركي وساهم بانحساره إلى حماية الأمن القومي التركي من تنظيم "داعش" وميليشيات "PYD" المدعومة من الولايات المتحدة. وفي هذا الإطار انخرطت أنقرة اضطرارياً مع طهران وموسكو في مسار أستانة بالرغم من الخلافات العميقة في رؤى الأطراف الثلاث الاستراتيجية لمستقبل سورية. وعليه فقد كان تعاطيها مع الشريكين الروسي والإيراني ذو طابع تكتيكي تحكمه مقتضيات حماية الأمن القومي؛ فهي تتقارب تارةً مع موسكو على حساب طهران كما حدث إبان اتفاق حلب، وتارةً أخرى مع طهران على حساب موسكو كما حدث حيال الموقف الإيراني الحيادي من معركة إدلب، والذي تجلى بإبعادها عن اتفاق سوتشي.
وتعاني تركيا في موقفها من الأطراف المنخرطة في الملف السوري من معضلة حقيقية تكمن في وجود ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي "PYD" الفرع السوري لـ PKK على حدودها، واستغلال هذا الوجود من قبل أطراف متعددة كورقة للضغط عليها؛ فمن ناحية تحاول إيران دعم وجود ميليشيات PKK على الحدود التركية مع سورية والعراق بهدف عزل الدور التركي في البلدين، كما تحاول موسكو استغلال وجود ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي "PYD" في مثلث (تل رفعت، عين دقنة، مارع) لفرض تفاهمات جغرافية جديدة مع تركيا حول مناطق سيطرة المعارضة، وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة وشركائها في التحالف الدولي وعلى رأسهم فرنسا، والذين يحاولون الضغط على تركيا باستخدام الورقة "الكردية" لتحجيم الدور التركي وتطويعه في خدمة رؤيتهم للحل في سورية.
وفي ظل هذا المناخ المتوتر بين الأطراف الثلاثة والضغط الأمريكي على إيران والتقارب الإسرائيلي الروسي فيما يخص تحجيم الوجود الإيراني في سورية، يبدو أن محاولات أنقرة لمسك العصا من المنتصف مع جميع الأطراف لن تفلح، وعليها أن تختار بين الأطراف الثلاثة، ومن المرجح أن أنقرة رغم مواقفها المتشددة مع الولايات المتحدة حول التزامها بصفقة S400 مع موسكو، ومحاولاتها لتمديد إعفائها من العقوبات على النفط الإيراني؛ إلا أنها ستحسم موقفها إلى جانب الولايات المتحدة في سورية على الأقل، وهو ما قد يشير إليه التقدم الحاصل بين الطرفين على مستوى المنطقة الآمنة شرق الفرات.
تعتبر منطقة شرق الفرات النقطة التي تجتمع فيها خيوط اللعبة في سورية، وهي بذلك تشكل هدفاً لكافة الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الملف السوري؛ نظراً لمساحتها التي تشكل ثلث سورية وغناها بالثروات الباطنية والغلال الزراعية، إضافة إلى موقعها المجاور لتركيا والعراق. تلك الامتيازات دفعت العديد من الأطراف لمحاولة ملء الفراغ الأمريكي بعد إعلان الرئيس ترامب نيته بالانسحاب من سورية، وتنقسم تلك الأطراف إلى أربعة معسكرات:
ولكل طرف من الأطراف الأربعة تصوراته الخاصة لمستقبل تلك المنطقة، كما له أدواته للتصعيد فيها؛ فبالنسبة لفرنسا وحلفائها يشكل الوجود الأمريكي ولو بشكل رمزي غطاءً لها للبقاء في المنطقة، وقد نجحت ضغوطها على الإدارة الأمريكية بحرف القرار الأمريكي نحو تخفيض عدد الجنود بدل الانسحاب الكامل. أما بالنسبة لموسكو والنظام فيحاولان الضغط باتجاه سحب كامل للقوات الأمريكية وتسليم المنطقة للنظام، وفي هذا الإطار تقدمت موسكو باقتراح تفعيل اتفاق أضنة مع تركيا لتهدئة مخاوفها، والتفاوض مع النظام بالنسبة لـ "قسد" لتسوية وضعها في ظل عودة النظام إلى المنطقة. في حين لا تثق أنقرة بكل تلك الأطراف وتعتبر أن المنطقة الآمنة هي الوسيلة الوحيدة لضبط حدودها وحمايتها، مما جعل العلاقات التركية متوترة مع واشنطن وحلفاء الناتو، إضافة إلى موسكو التي ترفض المنطقة الآمنة التركية وتريد استبدالها باتفاق أضنة.
وبالرغم من الهدوء النسبي الذي يعيشه شرق الفرات؛ إلا أن أطراف عديدة تقف متربصة بقواتها على حدوده، فمن ناحية هناك القوات الروسية والنظام السوري، والمليشيات الإيرانية في سورية والحشد الشعبي على الحدود العراقية السورية، كما توجد المصالح (السعودية الإماراتية) الممثلة بالوجود العسكري الفرنسي، إضافة إلى الحشود التركية على طول الحدود مع سورية.
وهنا تقع الولايات المتحدة في معضلة إيجاد حل يوازن بين مصالح حلفائها ويحمي مليشيات "PYD" من مواجهة مع تركيا. ويبدو أن الخيار قد حسم باتجاه تشكيل منطقة آمنة، والتي طال التفاوض حولها بالرغم من التفاهم على خطوطها العريضة؛ فمن حيث امتدادها يبدو أن الجانب التركي استطاع فرض تصوره بأن تكون المنطقة الآمنة بطول 460 كيلومتراً على طول الحدود التركية السورية، وستضم مدناً وبلدات من 3 محافظات سورية، هي: حلب والرقة والحسكة([5])، أما من خلال العمق فلايزال الموضوع محل تفاوض، إذ تريدها تركيا بعمق 32 كم في حين تحاول الولايات المتحدة تضييقها، كما يتفاوض الطرفان على آلية الانتشار المشترك التركي الأمريكي وطبيعة القوات التي ستنشرها تركيا في المنطقة، خصوصاً بعد رفض بريطانيا وفرنسا مقترحاً أمريكياً لنشر قواتهما كفاصل بين "قسد" والجيش التركي. ويجري الحديث عن ثلاثة احتمالات للقوات التي ستنشر في المنطقة ([6]):
وبغض النظر عن الطرف المحلي الذي سينتشر في المنطقة الآمنة؛ فإن تطبيق تلك المنطقة يبدو أنه بات أمراً واقعاً، وهذا يعني بشكل أو بآخر نهاية الإدارة الذاتية وحلم فيدرالية شرق سورية، الأمر الذي بدأت تظهر مؤشراته من خلال حل الإدارة الذاتية لهيئاتها السيادية الأبرز ([7]) (هيئة الدفاع والحماية الذاتية، هيئة الخارجية)، إضافة إلى الوساطة الفرنسية للمصالحة بين الإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكردي المقرب من تركيا ([8]).
كما أن إقامة المنطقة الآمنة خاليةً من مليشيات "PYD" يعني أن تلك القوات إما سيتم حلها، أو ستنسحب باتجاه العمق السوري خارج المنطقة الأمنة، في مدن الحسكة و الرقة وريف دير الزور، وبذلك ستزداد حدة التوترات مع النظام المسيطر على الحسكة من ناحية ومع العشائر العربية الرافضة للهيمنة "الكردية" على مناطقها من ناحية أخرى، وهذا ما سيدفع إلى مزيد من التوتر في المنطقة؛ إلا في حال كانت التفاهمات الأمريكية التركية تتجاوز المنطقة الآمنة إلى كامل مناطق سيطرة "قسد"، بشكل يحقق استبدال عناصر "قسد" التابعين لوحدات "حماية الشعب" بعناصر عربية، وهو ما لم يتم الحديث حوله حتى الآن. إضافة لذلك فإن التوافق حول المنطقة الآمنة في شرق الفرات سيساهم بحلحلة الخلافات التركية الناتوية وتشكيل شريط ناتوي ضخم على طول الحدود التركية السورية، يشمل مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، ومثل هذا التقارب الناتوي لن يكون في صالح روسيا أو إيران، اللتان ترفضان فكرة المنطقة الآمنة، مما سيزيد من نطاق الخلاف مع تركيا.
يشهد جنوب سورية بمحافظاته الثلاث (درعا، القنيطرة، السويداء) حالة من الفوضى الأمنية المتمثلة بعمليات قتل وخطف وسرقات واغتيالات في ظل ظروف معيشية صعبة للأهالي وعجز قوات النظام عن ضبط الأمن وانتشار السلاح.
وبالرغم من أن الجنوب السوري يعيش ذات الظروف العامة؛ إلا أن الأحداث في محافظة درعا تحمل دلالات سياسية وأمنية خاصة. فمنذ عقد اتفاق المصالحة في يوليو/ تموز 2018 لم يفي النظام بوعوده على المستوى المحلي بالنسبة للأهالي والفصائل والمجالس المحلية التي وافقت على المصالحة، كما أن موسكو لم تفلح بتنفيذ تعهداتها للدول الإقليمية (الأردن، إسرائيل) بعدم تغلغل إيران ومليشياتها إلى حدود البلدين. فعلى المستوى المحلي تعيش درعا وريفها ظروفاً معيشية صعبة تتمثل بندرة المواد الأساسية وتعطل الطرق والمرافق العامة وتدهور الخدمات، إضافة إلى الفلتان الأمني الناجم عن صراع بين أجهزة النظام الأمنية وفرقه العسكرية، مما خلق حالة احتقان شعبي، خصوصاً في ظل تلكأ النظام بتنفيذ بنود اتفاق المصالحة المتعلقة بإطلاق سراح المعتقلين ورفع المطالبات الأمنية، وعودة الموظفين إلى وظائفهم وانسحاب الجيش والحواجز الأمنية خارج المدن والبلدات.
أما على المستوى الإقليمي فقد فشلت موسكو في منع تغلغل العناصر التابعة لإيران في درعا والقنيطرة ووصولها إلى نقاط قريبة من الحدود الإسرائيلية. حيث لجأت إيران لدمج ميليشياتها بالقطعات العسكرية السورية وبخاصة الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري اللواء 105، إضافة إلى تشكيل خلايا شيعية من أهالي المنطقة وتجنيدها وتدريبها من قبل الفرقة الرابعة وجمعية البستان ([9])، والتي عُرفت باللواء "313" ثم جرى تغيير التسمية إلى "درع الوطن"([10]).
ونتيجة لاستراتيجية التخفي التي اتبعتها إيران، فقد باتت تحظى بوجود عسكري على حدود إسرائيل في الجنوب السوري تحت ستار القواعد العسكرية التابعة للنظام، حيث تهيمن إيران على منطقة "مثلث الموت" وهي المنطقة التي تربط محافظات ريف دمشق والقنيطرة ودرعا، وعززت سيطرتها على ذلك المثلث، بإنشاء قواعد عسكرية في تلال "فاطمة الزهراء"، كما تتواجد إيران عسكرياً في مدينة درعا، وفي سلسلة الجامعات الواقعة على أوتوستراد "دمشق-عمان"، وفي "خربة غزالة" وقرية "نامر" شرقي درعا، وفي "ازرع" والقطعات العسكرية المحيطة بها، وفي مدينتي "البعث وخان أرنبة" في القنيطرة، و "تل الشعار وتل الشحم وتل مرعي" ([11])، إضافة لتأسيس "حزب الله" معسكراً للتدريب شمال درعا يسمى "حقل كريم الشمالي" يتم فيه تدريب عناصر من محافظات الجنوب السوري (درعا، السويداء، ريف دمشق، القنيطرة) تحت إشراف عناصر الحزب وبتمويل إيراني([12]).
ويبدو أن فشل النظام بالوفاء بوعوده لأهالي درعا وعدم قدرته على وقف التمدد الإيراني في المنطقة، قد أدى إلى إحداث شبه تقارب بين روسيا والمجتمع المحلي في درعا على مستويين:
ويبدو أن موسكو لا تقف وحيدة في هذا المسعى، حيث تذكر تقارير أمنية دوراً للأردن والإمارات مؤيد للجهود الروسية، عبر دعم القيادي في الفيلق الخامس (أحمد العودة)، والذي يتزعم مهام الحد من التمدد الإيراني في الجنوب، ودعم جهود موسكو لتشكيل فيلق سادس بقيادة (عماد أبو زريق). وتشير المصادر أن القياديان زارا الأردن مؤخراً وعقدا اجتماع مع المخابرات الأردنية لبحث سبل إبعاد الميليشيات الإيرانية عن الحدود، إضافة لحديث حول إمكانية تشكيل غرفة جديدة للدعم في عمان على غرار غرفة "الموك" التي تم إغلاقها في العام الماضي ([14]).
وبالرغم من أن الجنوب السوري يبدو هادئاً ظاهرياً وتحت سيطرة النظام؛ إلا أنه يحمل قابلية الانفجار في أي لحظة، نتيجة للصراع الدائر بين أذرع موسكو وطهران في المنطقة (الفيلق الخامس، الحرس الجمهوري، الفرقة الرابعة، المخابرات العسكرية، الأمن السياسي، المخابرات الجوية، حزب الله)، حيث ازدادت في شهري مارس/ آذار وأبريل/ نيسان من العام الحالي وتيرة الاغتيالات الممنهجة، والتي طالت مقربين من الطرفين، كما حدثت احتكاكات مباشرة بين فرق عسكرية مقربة من موسكو مع الفرقة الرابعة المقربة من طهران.
يعيش النظام أزمة اقتصادية أمنية في مناطق سيطرته التي تعرف بـ"سورية المفيدة"، إضافة إلى المناطق التي استعادها خارج هذا النطاق، دفعت تلك الأزمات حاضنته الشعبية إلى التململ ورفع الصوت في وجه الفشل الحكومي على مستوى الخدمات الأساسية، مما حدا ببشار الأسد للإشارة إلى المنتقدين في خطابه أمام أعضاء المجالس المحلية ([15]). ويمكن رد تلك الأزمات إلى ثلاث عوامل رئيسية:
ساهمت تلك العوامل بإضعاف هيمنة النظام داخل مناطق سيطرته لصالح حلفائه (روسيا وإيران) من جهة، ولصالح ميليشياته التي باتت خارجة عن سيطرته وبخاصة في الساحل السوري، حيث باتت التنازلات التي يقدمها لروسيا وإيران على الصعيد الاقتصادي مدعاة للتهكم حتى لحاضنته الشعبية، والتي باتت على ثقة بعجز هذا النظام عن إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية المتفاقمة والانفلات الأمني والفساد المنظّم الذي يسود مناطق سيطرته.
يمكن من خلال الاستعراض السابق لواقع المناطق السورية الوصول إلى النتائج التالية حول قابلية التصعيد في تلك المناطق، وخارطة التحالفات الجديدة وما سيتركه ذلك من أثر على الحل السياسي:
تشهد المنطقة برمّتها عملية إعادة تشكيل لخارطة القوة فيها، وتعتبر سورية إحدى الساحات التي تلتقي فيها مصالح القوى الدولية والإقليمية المتنافسة على رسم ملامح النظام الأمني الجديد في الشرق الأوسط، ولذلك فإن الحديث لايزال مبكراً عن نهاية قريبة للحرب في سورية وفرصة إنتاج حل سياسي. ولكن يمكن القول؛ إن الأزمة السورية ببعدها الدولي والإقليمي دخلت في مرحلتها الأخيرة والتي عنوانها تثبيت النفوذ العسكري والسياسي والاقتصادي، أم شكل هذه المرحلة من حيث أدواتها، هل ستكون عسكرية أم ديبلوماسية؟ فهو رهن لقدرة تلك القوى على تسوية خلافاتها واقتسام المصالح على الأرض وعلى المستوى السياسي، بشكل يفتح المجال أمام جلوس الأطراف السورية على طاولة التفاوض مجدداً.
[1])) للاطلاع أكثر على بنود اتفاق سوتشي حول إنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب (اتفاق النقاط العشر بين روسيا وتركيا حول إدلب)، راجع الرابط التالي: http://cutt.us/dBOo8
[2])) سقراط العلو، الصراع على الثروة السورية بين إيران وروسيا: الفوسفات نموذجًا، مركز الجزيرة للدراسات، 26 يوليو 2018، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2Vkzl1x
([3]) الأسد في طهران... ونتنياهو في موسكو، جريدة الأنباء الكويتية، 28/2/2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2HnoGxY
([4]) إيران والعراق وسوريا في دمشق لأول مرة، موقع TRT عربي، 17 مارس 2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2LCUJ2v
[5])) هذه تفاصيل المنطقة الآمنة التي ستقيمها تركيا على الحدود شمال سورية، موقع صحيفة العربي الجديد، 16 يناير2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2EaBabs
[6]))3 مقترحات أمريكية لمنطقة آمنة خالية من "بي كي كي"، موقع ترك برس، 22يناير 2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2WR6fsp
([7]) بدر ملا رشيد، إلغاء هيئتي الدفاع والخارجية في "الإدارة الذاتية": إعادة هيكلة أم تحجيم وظيفي، مركز عمران للدراسات، 5 نيسان/ أبريل2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2vZ5ZeT
[8])) مصادر لـ"عربي21": جهود فرنسية لعقد اتفاق بين أكراد سوريا، موقع عربي21، 23 أبريل2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2VEtXLD
(([9] المرصد الاستراتيجي، فشل المفاوضات يفتح أبواب المواجهات العسكرية في حوران، تقدير موقف 25 أبريل 2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2VQttlH
([10]) الأبعاد والمتغيرات الجديدة للوجود الإيراني في جنوب سوريا، شبكة بلدي الإعلامية، 14 كانون الثاني 2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2ANeTyO
[11])) المرجع السابق.
[12])) المرصد الاستراتيجي، فشل المفاوضات يفتح أبواب المواجهات العسكرية في حوران، مرجع سبق ذكره.
[13])) درعا: ما هو دور روسيا في التظاهرات؟، موقع جريدة المدن، 15/3/2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2HrdOR8
[14])) المرصد الاستراتيجي، فشل المفاوضات يفتح أبواب المواجهات العسكرية في حوران، مرجع سبق ذكره.
[15])) ساشا العلو، رسائلُ خطاب الأسد: عَودٌ على ذي بدء، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 19 شباط 2019، متوافر على الرابط: https://bit.ly/2HxOZ6b
لماذا وصل الجنوب السوري إلى هذه النهاية؟ مقابلة الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ساشا العلو، على تلفزيون العربي، للحديث عن "صفقة" الجنوب السوري ودور الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين فيها.