تشكل لحظات التغيير الكبرى منعطفات حاسمة في حياة الشعوب، فهي تفتح الباب أمام احتمالات واسعة، لكنها في الوقت ذاته تضع الجميع أمام مسؤوليات كبيرة. وفي سورية، حيث تلاشت حقبة طويلة من الاستبداد، يصبح التحدي الأكبر هو اختيار قيادات جديدة قادرة على قيادة البلاد نحو مستقبل أفضل. والسؤال الأهم: هل سنتجاوز أخطاء الماضي أم سنعيد إنتاجها بصور أخرى؟
لطالما اعتمدت المجتمعات في مراحل التحول على شخصيات "مستهلكة"، استنادًا إلى اعتبارات مكانتها أو جملة ممارساتها السياسية أو الاجتماعية، فيعتبرون هذه الشخصيات "آمنة" بالنسبة لهم، بحجة أنَّ أياديها لم تتلطخ بالدماء، ورغم ظاهر الأمر المطمئن؛ إلا أن ذلك لا يكفي، لأن الاعتماد على هذه النماذج غالبًا ما يعيد تدوير نفس الأفكار والممارسات التي أثبتت فشلها خلال عدة عقود مضت.
هذه الشخصيات التي لم تقدم إنجازات تُذكر في الماضي، لن تكون قادرة على تقديم أي جديد في الحاضر. واستمرار وجودها في المشهد العام يُثقل مسار الإصلاح ويُضعف مصداقية العملية الانتقالية، مما يجعلها أقرب إلى إعادة إنتاج النظام السابق بدلاً من تجاوزه.
التحدي الحقيقي اليوم ليس مجرد إيجاد شخصيات "نظيفة"، بل شخصيات قادرة على العمل بجدية وكفاءة. إذ نحتاج إلى قيادات تحمل رؤية واضحة، وخططًا تنفيذية، وجدولًا زمنيًا محددًا لتحقيق الأهداف. فالمطلوب هو تعزيز مبدأ التنافسية بين المؤسسات والوزارات لخدمة الصالح العام، ومحاسبة كل مسؤول يتقاعس عن تحقيق الأهداف. وعلى هذه الشخصيات أن تكون مستعدة لتحمل المسؤولية والعمل بجد لتحقيق نتائج حقيقة وملموسة.
مع اختيار الكفاءات المناسبة، يبرز تحدٍ آخر لا يقل خطورة عما سبق؛ وهو تحميل الشخصيات الجادة أعباءً ضخمة فوق طاقتها، ثم مطالبتها بتحقيق نتائج شبه مستحيلة في وقت قصير. في هذا السياق، قد يُطلب من هؤلاء تصحيح مسارات خاطئة امتدت لأكثر من نصف قرن، والارتقاء بالبلاد بسرعة إلى مصاف الدول المتقدمة.
فهل يمكن لبلد عانى من التخبط لعقود أن يتحول بين ليلة وضحاها إلى نموذج متقدم؟ مثل هذه التوقعات غير الواقعية غالبًا ما تؤدي إلى إفشال القيادات الواعدة وتشويه صورتها أمام الناس، لتصبح المقارنة بينهم وبين من سبقهم –رغم الفارق في الظروف والتحديات– بمثابة الرصاصة القاتلة.
لذلك، يجب أن ندرك أن المقدمات السليمة هي التي تؤدي إلى النتائج المرجوة، وليس العكس. فالإصلاح الحقيقي يتطلب وقتًا وخططًا مدروسة وليس وعودًا زائفة أو عصا سحرية. والتغيير الحقيقي لا يأتي من إعادة إنتاج الماضي، ولا من المطالبات غير الواقعية. ما نحتاجه اليوم هو وعي مجتمعي بأهمية إعطاء الفرصة لشخصيات تحمل مشاريع حقيقية للنهوض بالبلاد التي خرجت من غيبوبة طويلة وبجسد منهك، ولا مجال لإضاعة الوقت في تجارب فاشلة أو خيارات مألوفة. علينا أن ندرك أن التغيير الناجح يتطلب رؤية واضحة، ووقتًا كافيًا، والتزامًا مشتركًا بين القيادات والمجتمع.
يلعب المجتمع المدني دورًا محوريًا في دعم مسارات التغيير والإصلاح، فهو يشكل جسرًا بين الحكومة والشعب، ويساهم في تعزيز الوعي العام وتحفيز المشاركة المجتمعية. عبر مؤسساته المختلفة، يراقب الأداء الحكومي ويقدم رؤى وحلولًا مبتكرة للتحديات القائمة، مع تمكين الفئات الشعبية التي قد لا تجد صوتًا في القنوات التقليدية.
إضافة إلى ذلك، يعول على منظمات المجتمع المدني بناء ثقافة الشفافية، حيث تُسلط الضوء على مواطن الخلل وتقترح بدائل عملية. وتُعزز التعاون بين مختلف مكونات المجتمع، مما يُسهم في تقوية النسيج الاجتماعي وتجاوز الانقسامات التي قد تعيق التغيير، بفضل قدرتها على التحرك خارج الإطار الرسمي. لذلك تُمثل منظمات المجتمع المدني عاملًا أساسيًا في الحفاظ على زخم التغيير وضمان استمراريته.
من جهة أخرى، يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تكون حاضنة للإبداع والابتكار. فهي تُوفر مساحة مرنة لتجربة حلول جديدة للتحديات القائمة، كما أن قدرتها على التنسيق بين الجهود المحلية والدولية تمكّنها من جذب التمويل والخبرات التي تساعد في تسريع عملية التعافي الوطني.
لكن في الوقت نفسه، نجاح المجتمع المدني في أداء هذا الدور يتطلب بيئة مشجعة تضمن له الاستقلالية والحرية في العمل. فبدون إطار قانوني يتيح لهذه المنظمات التحرك بحرية، ومناخ سياسي يدعم التعددية، سيكون من الصعب تحقيق الأهداف المرجوة.
لذلك، تُعد الشراكة بين المجتمع المدني ومؤسسات الدولة عاملًا حاسمًا لتحقيق التغيير المنشود. هذه الشراكة يجب أن تقوم على أسس واضحة من التعاون والاحترام المتبادل، بحيث يتم تسخير طاقات المجتمع المدني لدعم الأولويات الوطنية، مع الحفاظ على استقلاليته التي تُمكنه من لعب دوره الرقابي والتنموي بفعالية.
في الختام، يُمثل المجتمع المدني الأمل في الحفاظ على زخم التغيير وضمان استمراريته، ليكون حاميًا للحقوق ومُحفزًا للإصلاح، وحلقة وصل بين الدولة والمجتمع قادرة على تجاوز عثرات الماضي وبناء مستقبل أكثر عدلًا واستقرارًا. فأمام سورية فرصة نادرة للنهضة، ربما لن تدوم طويلاً. علينا أن نتعلم من أخطاء الماضي وأن نختار بعناية الشخصيات القادرة على تحمل المسؤولية وإحداث الفرق. فمستقبل البلاد يعتمد على قدرتنا على تجاوز الأنماط التقليدية واختيار قيادات تمتلك الكفاءة والرؤية. وفرصة التغيير قد لا تتكرر إلا بعد عقود، والتاريخ لن يغفر لمن أضاعها.
قسَّمت الدراسة مبناها المنهجي وسياقها المعلوماتي والتحليلي إلى فصول ثلاثة، مثّل الفصل الأول منها: مدخلاً ومراجعة لتاريخ القبائل والعشائر في الجغرافية السورية بشكل عام وفي محافظتي حلب وإدلب بشكل خاص، وشكل علاقاتها التاريخية مع السُلطات المختلفة والمتعاقبة، وطبيعة تحوّلاتها البُنيوية، والمتغيرات المختلفة التي قادت بها إلى أشكالها الحالية. وذلك، وفق عملية تحقيب منهجية تناولت سبع حقب ومراحل تاريخية، تمثَّلت بـ: (لمحة عامة عن تاريخ المنطقة وقبائلها في العصور القديمة، الحقبة العثمانية، مرحلة الحكومة العربية وحكم الملك فيصل، حقبة الاستعمار الفرنسي، مرحلة العهد الوطني والاستقلال، مرحلة الوحدة مع مصر، حكم البعث: البعث الأول، البعث الثاني/حافظ الأسد، العُشرية الأولى من حكم بشار الأسد). وفي هذا المدى التاريخي الواسع، حدَّدَت الدراسة مُتغيرات عدة لتتبعها وتلمُّس آثارها في كل حقبة ومرحلة، وعلى رأسها: (القبائل الفاعلة في الشمال، طبيعة العلاقة مع السُلطة المركزية والعوامل التي حكمت تلك العلاقة، الأدوار المختلفة للقبائل والعشائر وتحوّلاتها، صراعات القبائل وعلاقاتها البينية، التحوّلات البُنيوية: اقتصادية واجتماعية وسياسية وقانونية وآثارها، أبرز الهجرات والانزياحات القبلية والعشائرية من وإلى المنطقة، المُتغيرات والعوامل المُحفِّزة لديناميات التحضُّر والاستقرار، تحوّلات مفهوم القيادة القبلية).
يبدأ الفصل الثاني حيث انتهى الأول، ليدرس تفاعلات القبائل والعشائر مع الثورة السورية بعد العام 2011 بمختلف مراحلها وأطرافها وتداعياتها وآثارها. وينقسم الفصل إلى أربعة مباحث، تناول الأول؛ واقع مناطق القبائل والعشائر الديموغرافي والاقتصادي والثقافي في محافظتي حلب وإدلب عشية انطلاق الثورة، مُقدِّماً خارطة لانتشارها وعددها في المحافظتين والبالغ بحسب المسح الميداني: 25 قبيلة تتبع لها 220 عشيرة، إضافة إلى 27 عشيرة مستقلة، على اختلاف مكوِّناتها الإثنية (عربية، كردية، تركمانية، شركسية، غجرية). مقابل مسح ميداني لعدد النقاط الجغرافية التي تشغلها تلك القبائل والعشائر في محافظتي حلب وإدلب، والبالغ قرابة: 2033 نقطة جغرافية، موزعة على الوحدات الإدارية (مدينة، بلدة، قرية، حي، أبرز المزارع). وبعد تحديد ورسم تلك الخارطة، يبدأ المبحث بدراسة دوافع وأشكال تفاعل القبائل والعشائر مع الحراك الشعبي في العام 2011 خلال مراحله الأولى، قبل أن ينتقل إلى دراسة مرحلة التسليح وتفاعلاتها ضمن محافظتي حلب وإدلب، مستعرضاً مسحاً لأبرز المجموعات العسكرية العشائرية المُشكَّلة في المنطقة إلى جانب نظام الأسد والبالغ عددها أكثر من 23 تشكيل عسكري، مقابل نظيراتها المؤسسة إلى جانب المعارضة والبالغ عددها أكثر من 38 تشكيلاً، بين العامين 2012-2020، إضافة إلى مرحلة التنظيمات الجهادية وأشكال علاقاتها مع القبائل والعشائر في المنطقة. مُنتهياً بدراسة الأدوار غير العسكرية التي اضطلعت بها القبائل والعشائر خلال الصراع، خاصة اختبار الإدارة المحلية الذي تعرَّضت له بعد تراجع سُلطة الدولة المركزية وانسحابها بمختلف وظائفها من تلك المناطق.
أما المبحث الثاني من الفصل الثاني؛ فقد تناول التهجير القسريّ الذي تعرّضت له البُنى القبلية والعشائرية ضمن المحافظتين وآثاره المُركّبة، عبر مسح المناطق المُهجَّرة ودراسة سياق تهجيرها والجهات الضالعة بذلك، إضافة لرصد أبرز العشائر المُهجّرة من باقي المحافظات السورية إلى حلب وإدلب. ويقدِّم المبحث خارطة مُفصَّلة لعمليات ومراحل التهجير القسريّ في محافظتي حلب وإدلب بين عامي 2012-2020، موزَّعة على القبائل والعشائر ومناطقها التي شهدت تهجيراً قسرياً بنسبٍ متفاوتة، والبالغ عددها قرابة: 1233 نقطة جغرافية (مدينة، بلدة، قرية، أبرز المزارع)، يضاف إليها 30 حياً في مدينة حلب. مقابل دراسة السياق السياسي والعسكري للتهجير، وأطرافه المتعددة، وآثاره المُركَّبة على القبائل والعشائر. إضافة إلى مسح عدد النقاط الجغرافية التي شهدت عودة جزئية لسكانها والبالغ عددها قرابة: 556 نقطة جغرافية، وتلك التي لا تزال خالية منهم والبالغ عددها: 707 نقطة جغرافية، حتى بداية عام 2023.
يدرس المبحث الثالث؛ طبيعة وحجم المشاركة العسكرية للمكوِّن القبلي ضمن أبرز المظلات والتشكيلات العسكرية في الشمال حتى بداية عام 2023، على اختلاف مناطق السيطرة والنفوذ، ويقدِّم خارطة لأبرز تلك التشكيلات، إضافة لتتبع آثار التهجير على الخارطة الفصائلية في محافظتي حلب وإدلب، خاصة بعد قدوم عشرات الفصائل المُهجَّرة من مناطق سورية مختلفة. في حين ينفرد المبحث الرابع؛ بدراسة ظاهرة تشكيل "مجالس القبائل والعشائر" في الشمال بعد العام 2016، وحركة ودوافع وسياقات تشكيلها، وذلك بعد مسح عددها في محافظتي حلب وإدلب والبالغ قرابة: 30 مجلس قبيلة، مقابل أكثر من 130 مجلس عشيرة. ثم يُركّز فقط على دراسة فاعلية أبرز مجالس القبائل والبالغ عددها 17، بدءاً من وجهة نظر أعضائها، ثم من وجهة نظر أبناء القبائل والعشائر في المنطقة، لتحديد أبعاد ومستقبل تلك التجربة وآثارها المختلفة. إضافة إلى المرور على تجربة "مجالس العوائل والأعيان" المؤسسة في بعض مدن محافظة إدلب، كحالة موازية لـ "مجالس القبائل والعشائر" في أرياف حلب وإدلب.
أما الفصل الثالث: فيُقدِّم نتائج المسح الميداني الذي قام به فريق البحث، لخارطة القبائل والعشائر على اختلاف مكوِّناتها الإثنية (عربية، كردية، تركمانية، شركسية، غجرية) في محافظتي حلب وإدلب، وذلك عبر 52 خريطة بيانية إضافة إلى 52 جدولاً إحصائياً، توضِّح طبيعة كل قبيلة وعدد العشائر التي تتبع لها في المحافظتين، وأبرز بيوتها، والمناطق الجغرافية التي تشغلها موزعة على التقسيم الرسميّ للوحدات الإدارية في محافظتي حلب وإدلب (مدينة، بلدة، قرية، حي، أبرز المزارع).
بناءً على ما تم استعراضه ضمن الفصول والمباحث السابقة، والتي شكَّل الفصل الثاني منها بداية نتائجها العملية فعلياً، توصَّلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج والخلاصات والملاحظات الإضافية على مستويات عدة، سواء فيما يتعلق بالبُنى القبلية والعشائرية وتوزعها الجغرافي، أو على مستوى طبيعة واتجاهات تفاعلها مع الثورة السورية، وأدوارها المتعددة في المجالات السياسية والعسكرية والإدارة المحلية، مقابل آثار الصراع المختلفة على تلك البُنى، خاصة التهجير القسريّ، مروراً بظاهرة تشكيل مجالس القبائل والعشائر وأبعادها الحالية والمستقبلية، وصولاً إلى تموضع البُنى القبلية والعشائرية في معادلة السُلطة وإشكالية العلاقة مع الأخيرة ضمن إطار إدارة العصبيات وشكل الدولة.
للمزيد: https://bit.ly/3WgiK0d
شهدت محافظة السويداء في آب 2023 عودة المظاهرات المطالبة بتحسين الوضع الاقتصادي والانتقال السياسي في سورية ، وجاء ذلك الحراك بدايةً رداً على رفع أسعار المحروقات وبعض السلع الأخرى، ولكن سرعان ما تحولت المطالب إلى سياسية تُطالب بتطبيق القرار 2254 والمناداة بإسقاط النظام وذلك بتأييدٍ من المرجعيات الدينية التي شاركت في التظاهرات. يحاول تقدير الموقف أدناه الوقوف على ما جرى في السويداء خلال النصف الأول من عام 2023 ، وتفكيك خارطة المطالب المحلية وتأُثيرها على المنطقة الجنوبية، كما سيفند طبيعة السياسات التي سينتهجها النظام وحلفائه (روسيا – ايران) والميليشيات التابعة لهم في المنطقة، وتلمُّس الاتجاهات المستقبلية للمشهد الميداني في السويداء.
شكلت انتفاضة أهالي السويداء في تموز 2022 ضد المليشيات المتورطة في عمليات الخطف وتجارة المخدرات مفترق طرقِ في المحافظة، حيث كانت تلك الانتفاضة مدعومة بشكل كامل من المرجعيات الدينية من جهة وأيضاً رافقتها مظاهرات بسبب سوء الأحوال المعيشية نتيجة قرار رفع " الدعم الحكومي" عن عدد كبير من العائلات في المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد([1]). وكنتاج لتلك الانتفاضة أعادت الميليشيات تموضعها ما بين الفواعل المحلية،فمنها من استمر بالوقوف مع الأفرع الأمنية التابعة للنظام ومنها من انحاز للحراك الشعبي، وقسم التزم الحياد بالتزامن مع تراجع فعاليتها ودورها، ويمكن تقسيم هذا التموضع وفق الآتي ( انظر الجدول رقم 1):
والجدير بالملاحظة في هذا السياق استمرار نشاط المجموعات المرتبطة بإيران بشكل مباشر عبر شعبة المخابرات العسكرية أو بحزب الله اللبناني في محافظة السويداء وريفها، وتعتبر عصب المصالح الإيرانية في المنطقة سواء بتأمين خطوط تهريب المخدرات أو محاولات زعزعة الأمن داخل المحافظة لتثبيت فكرة أن الفوضى الأمنية هي السائدة وأن المحفاظة بحاجة لإعادة دور الدولة الضامنة للسلم المحلي، وتصدير السويداء على أن فيها صراع داخلي قد يتطور إلى حرب أهلية في غياب وجود الدولة.
وبالنظر إلى ديناميات حراك آب 2023 يُلاحظ أن هذا الحراك يختلف عما سبقه فيما يلي:
كان فشل هجوم "تنظيم الدولة" على الريف الشرقي للسويداء عام 2018 سبباً في تغير السياسة الأمنية للنظام اتجاه المحافظة،حيث أبدت الفصائل المحلية تكاتفاً ضد هجوم التنظيم وذلك تحت فلسفة "صيانة الأرض والعرض" التي دعت لها المرجعيات الدينية حينها، تَبعه توكيل مهمة الضبط الأمني إلى اللواء كفاح ملحم (معاون شعبة المخابرات العسكرية حينها ورئيس الشعبة لاحقاً) حيث سعى إلى تفكيك الفصائل المحلية وأبرزها رجال الكرامة والتشجيع على الانشقاق عنها عبر تغذية الخلافات البينية ودعم الفصائل مالياً، ونتيجة لمحاولات ملحم تم عقد اتفاق بينه ملحم و بين تلك المجموعات ينص على "اطلاق الصلاحيات وتولي مهمة التسويات لجل المطلوبين أمنياً وضمهم لمجموعاتهم مقابل عدم المساس بأجهزة الدولة لاسيما الأفرع الأمنية" التي كانت مستهدفة بالحراك الشعبي([3]).
استمرت وتيرة تشكيل جماعات مسلحة محلية تختلف تبعيتها بين شعبة المخابرات العسكرية من خلال فرع الأمن العسكري، وفرع المخابرات العامة (أمن الدولة)، بالإضافة إلى العلاقات المباشرة مع إيران عبر حزب الله أو غير المباشرة معها حتى تموز عام 2022، حيث أطلقت حركة رجال الكرامة وبدعوة من المرجعيات الدينية حملة واسعة ضد العصابات المحلية المُشرفة على الخلل الأمني في المنطقة وأكبرها حركة الفجر بقيادة راجي فلحوط، ونتج عن تلك الانتفاضة تغير في خارطة الفصائل المحلية وأدواتها وفعاليتها وآليات تمويلها ( انظر الجدول 1)، حيث عَمِلت المرجعيات الدينية على اطلاق مسار للمصالحة تستهدف فيه الفصائل التي تورطت في عمليات الزعزعة الأمنية بأن تسلم الفصائل سلاحها المتوسط والثقيل لرجال الكرامة وتُغادر منطقة نفوذها، كما جرت عدة محاولات اغتيال لقادة عدة فصائل فانعكس ذلك على ثِقل الفصيل وفعاليته ضمن الخارطة الأمنية ضمن المحافظة.
ويُلاحظ أن أكثر الفصائل تَمُسكاً بمقراتهم ويُشكلون تهديداً للسلم المحلي في المحافظة هي الفصائل المُرتبطة بإيران أو حزب الله، حيث تشرف تلك الفصائل على خطوط التهريب بالإضافة لقيامها بعمليات الخطف وصناعة المخدرات والاتجار بها ونقلها إلى الحدود، ومن جانب آخر اعتمدت حركة رجال الكرامة وأهالي السويداء بشكل عام على أداة خطف ضباط الأمن مقابل كل حالة اعتقال يقوم بها نظام الأسد سواء على مدخل المدينة أو في العاصمة دمشق، حيث قامت الحواجز في شهر تموز 2023 باعتقال 6 شباب من المحافظة، قوبل ذلك بخطف 35 ضابط أمنٍ من طرف أهالي السويداء حتى تمت مبادلة المعتقلين بين الطرفين لاحقاً.
تتأثر السيناريوهات المتوقعة بعوامل داخلية متعلقة بتركيبة المدينة وبين خيارات النظام بالتعامل مع الحراك الأخير، وعلى الرغم من ضعف المدينة اقتصادياً ولكنها تمتلك ثقلاً مهما لنظام الأسد لا سيما أنها تشكل ممراً أساسياً لتهريب الكبتاغون، إضافة أن تموضعها إلى جانب درعا المماثلة في الحراك المُنطلق في آب 2023 شكل جيباً معارضاً قد يتجاوز الخلافات التي سعى النظام لتغذيتها بين المدينتين خلال سني الثورة،وأهم مايُميز التركيبة الديمغرافية للسويداء أن المجتمع يمتلك بُعداً إقليمياً في فلسطين ولبنان والعلاقة المتينة بين الشيخ حكمت الهاجري من طرف والشيخ موفق طريف رئيس الطائفة الدرزية ووليد جنبلاط من طرف آخر.
لذلك كان منهج نظام الأسد بالتعامل مع المدينة يقوم على أمرين: أولهما عزل المدينة عن محيطها عبر إشعال فتن طائفية ومناطقية بينهم وبين العشائر وأهالي درعا، ثانيهما استبعاد الحل العسكري المفتوح على غرار باقي المدن التي انطلقت فيها المظاهرات، وبالتالي كان سعي النظام وحلفائه يُركز على أن يصبح وجود الدولة المُصاحب لأفرعها الأمنية مطلباً شعبياً في حال ارتفعت وتيرة الصراعات المحلية في المدينة، بالإضافة لإطلاق يد الميليشيات المحلية للزعزعة الأمنية مما يصب في هدفه، وبناء على امتداد المساحة الجغرافية للحراك ووضوح موقف المرجعيات الدينية للمدينة من مطالب المجتمع المحلي، ورغم ما يمتلكه النظام من خيارات إلا انه يمكن مواجهتها بالتمسك بالمطالب السياسية المتسقة مع القرار 2254 من جهة وبسياسات التماسك المحلي من جهة ثانية وديناميات التكاتف الوطني عبر مساندة السوريين لحراك المحافظة من جهة ثالثة، ومن الخيارات المتوقعة لسياسات النظام حيال هذا الحراك نذكر:
لم تتبلور آلية تعامل نظام الأسد مع المدينة حتى الآن على عكس وضوحه سابقاً بالتعامل العسكري مع المدن الثائرة ضده، مما يوحي أن أولوية النظام حالياً تتركز في منع امتداد الحراك أكثر من إيقافه، وذلك يعود لتراجع إمكانياته على ضبط المدن الكبرى بالتزامن مع تراجع اقتصادي وحالة سخط اقتصادية عامة في مناطقه، وبالتالي قد تكون ورقة الحل باستثمار الأدوات الايرانية ( الفصائل التابعة لها) خصوصاً في حال تعرض خطوط التهريب أو القائمين عليه لأي زعزعة تنتج عن محاولات المجتمع المحلي في السويداء الضغط على النظام وحلفائه.
ولكن تبقى خيارات المجتمع المحلي القائم بالحراك واسعة في حال رفع مستوى التنسيق مع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام والحفاظ على سردية الانتقال السلمي للسلطة حسب القرار الأممي 2254، بالتزامن مع إيجاد بدائل محلية في حال أغلق النظام مؤسساته الخدمية في المدينة، وعكس مطالب الحراك إلى تمثيل سياسي خارجي وداخلي يبحث في سيناريوهات أكثر تعقيداً.
أولاً: الخريطة رقم 1 : مقارنة بين عدد نقاط التظاهر والاحتجاج في المحافظة خلال شهر آب 2023 وتلك التي كانت في احتجاجات تموز 2022.
ثانياً: الجدول (1) : العصابات الموجودة في السويداء وتغير نشاطها وأدوارها وتبعيتها بين عامي 2022 و2023
([1])المشهد الأمني في السويداء: قراءة في السياق والمآلات المتوقعة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، يمان زباد 08/08/2022 https://rb.gy/rtqcs
([2])لحظات وصول وفد من عشائر البدو إلى ساحة السير، يوتيوب 24/08/2023 https://www.youtube.com/watch?v=IcSAIMq2oOY
([3])المشهد الأمني في السويداء: قراءة في السياق والمآلات المتوقعة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية
إن التنوع الاجتماعي من أهم خصائص سوريا الديمغرافية، إلا أن هذا التنوع لا يعكس بالضرورة تفاعلًا وحركة سياسية وثقافية، فقد تعرض لسلسلة من السياسات الإكراهية أسهمت في وضع المجتمع بكليته أو بخصوصيته في أتون عملية استنزاف وانقسام مستمرة وعلى مختلف الصعد، لاسيما في حقبة سيطرة حزب البعث والذي لجأ إلى إدارة الديمغرافيا بسياسات توازن حرجة، هدفها إضعاف ثنائيات التنوع لصالح "طائفة الموالاة للنظام"، وازدادت معدلات التشظي والتهشيم في ظل التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أفرزها الصراع السوري منذ عام 2011.
تحاول هذه الورقة رصد التهشيم الذي تعرض له المجتمع السوري سواء على مستوى الانقسام والتشظي أو على مستوى الإرهاق، جراء الكلف السياسية والاقتصادية والأمنية للصراع في سوريا، وستحاول تلمس انعكاسات ذلك على مستقبل البلد. وتنطلق الورقة من أهمية لحظ: أن الانقسام الذي يحدث في البناء الاجتماعي والسياسي لا ينحصر فقط عبر الخطوط الإثنية والأيديولوجية، وإنما من خلال خطوط سياسية أو اجتماعية وتنموية، وأن تهشم المجتمع يحرم الحلول الهادفة إلى الاستقرار والسلام، من مراعاة مصالح المجتمع، لصالح الحسابات الأمنية للدول الفاعلة ومقارباتها السياسية.
يشهد المجتمع السوري انقسامات وخطوط تمايز متعددة، إما نشأت أو تعززت بفعل النظام وهو المؤثر الأشد، أو نتيجة تطور الأحداث في الميدان أو في إطار القوى الثورية نفسها فضلًا عن تدخلات الخارج.
بقدر ما شكَّلت الثورة السورية على امتداد البلاد لحظة تأسيس مهمة في بلورة خطاب مجتمعي موحد، يتضمن مطالب وحقوقًا واحدة، بقدر ما دفعت النظام وأجهزته الأمنية للمضي قدمًا في مواجهة هذه اللحظة وحواملها، ليجعل منها شرارة تغيير نحو هندسة سياسية واجتماعية، أرادها النظام معززة لبقائه. فمنذ الأيام الأولى للحراك الثوري سيَّر النظام "مسيرات حاشدة" لمؤيديه(1)، وبغض النظر عن آليات الحشد وما احتوته من ترهيب وترغيب إلا أنها كانت إعلانًا مبكرًا لانقسام اجتماعي ثلاثي: مجتمع ثائر، ومجتمع موالي ويمثل أصحاب المصلحة من كل الأديان والأعراق مع وضوح جلي للطائفة العلوية فيه، ومجتمع حيادي (أو ما يُعرف بالصامت)، وهي كتلة مجتمعية وازنة وثقلها الرئيسي في المدن الكبرى(2).
ومع تعدد مستويات التعبير الثوري الذي أضحى يركز على الأدوات المسلحة، ومع عدم استطاعة الثوار السلميين في السيطرة على مراكز المدن، واجه المجتمع السوري تحدي الانقسام الحاد بين قرى وبلدات ثائرة وأخرى موالية، دون أن تظهر مؤشرات ذات دلالة لحرب أهلية آنذاك، رغم وضوح "الهوية السُّنِّية" للمناطق الثائرة والتي شهدت إلى جانب تشكيل الجيش الحر تأسيس فصائل ومجموعات إسلامية، حاول النظام عبر الأذرع الإعلامية والسياسية استغلالها لتدعم سرديته ضد الثورة منذ الأيام الأولى، باعتبارها سعيًا للإمارة السلفية(3). إلا أنه مع تغلب منطق المعارك العسكرية على الأحداث السورية واعتماد الجيش الحر والفصائل المسلحة منذ منتصف 2012 عقيدة هجومية (لم تعد فقط لمواجهة الحملات الأمنية الكبرى للجيش أو لحماية المظاهرات)، بدأت خارطة السيطرة تتبدل بشكل متزايد لصالح الجيش الحر والفصائل الإسلامية. خاصة بعد فشل مساعي الحل السياسي ولجوء الدول الداعمة للطرفين إلى الاستثمار بالحل العسكري؛ وهو أمرٌ أدى إلى ظهور مؤشرات استنزاف رئيسية في البنية البشرية للمؤسسة العسكرية، جرَّاء عمليات الاستهداف العسكري أو الانشقاق المتزايد، وقد حاول النظام تغطيتها بميليشيات محلية وأجنبية مساندة. وهذه الأخيرة أسهمت من جهة أولى في تكّون طبقة اجتماعية عسكرية "شيعية أجنبية-محلية" جرَّاء تفاعل الميليشيات الأجنبية والمحلية "الشيعية" في عدة مدن وبلدات سورية تحت سيطرة النظام، كالميليشيات العراقية والباكستانية والأفغانية واللبنانية وقوات الدفاع المحلي. ومن جهة ثانية أسهمت في زيادة التقسيمات داخل البنية السورية التي أضحت عرضة للجذب من قبل عدة مشاريع أيديولوجية وطائفية وسياسية حملتها تلك الميليشيات(4). ويمكن عنونة هذا التقسيم بالطبقات الاجتماعية "المسلحة"، وتجلى في عدة مستويات:
أولها: "المجتمع الموالي المسلح"، ونما بحكم شبكة العلاقات والمصالح التي ترافقت مع ظهور بنى ووحدات عسكرية "رديفة" أنشأها النظام وباتت حينها عنصرًا أمنيًّا مؤثرًا بالمشهد.
ثانيها: "الطبقة السياسية المسلحة"، باعتبارها مؤشرًا نوعيًّا جديدًا، استطاع أن يضمن الممارسة السياسية للقوى الحزبية الموالية بأدوات عسكرية، فأضحت مشروعًا متعدد الأدوات: مثل كتائب البعث، ونسور الزوبعة، وهي الجناح العسكري للحزب القومي السوري الاجتماعي والحرس القومي العربي وتضم "قوميين" محليين ومن عدة بلدان عربية، و"المقاومة السورية" وتحمل عقيدة ماركسية-لينينية(5).
ثالثها: "الأقلية الدينية"؛ حيث استحدثت ميليشيات مسيحية ودرزية لزيادة مؤشرات الانقسام داخل المكون الدرزي والمسيحي، مثل: جيش الموحدين وميليشيا "حماة الديار" في السويداء، وقوات "سوتورو" (حزب الاتحاد السرياني) في القامشلي، و"قوات الغضب" في محافظة السقيلبية في ريف حمص.
والمستوى الرابع استهدف البنية الفلسطينية التي كانت جزءًا متفاعلًا ومنصهرًا في الحياة الاجتماعية السورية؛ حيث أدى تأسيس ميليشيات فلسطينية داعمة للنظام إلى إحداث شرخ واضح بين خطوط التمايز الفلسطيني الذي كانت ترسمه فواعله السياسية، فناهيك عن دور حلفاء النظام التقليديين (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -القيادة العامة، وفتح الانتفاضة، وقوات الصاعقة وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، والحزب الفلسطيني الديمقراطي -سرايا العودة والتحرير) في تعزيز الانقسام في المجتمع الفلسطيني إلى موال للنظام في مواجهة المؤيد للثورة، فإنهم أنشؤوا ميليشيات فلسطينية أخرى مثل قوات الجليل ولواء القدس في محافظة حلب، وجيش التحرير الفلسطيني ويقوده طارق الخضرة -يختلف عن جيش التحرير الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير- ويضم ثلاثة ألوية، وهي: "قوات حطين" و"قوات أجنادين" و"قوات القادسية"(6).
وهناك أيضًا انقسامات وتمايزات خاصة بمناطق محددة، أسهمت في إنتاجها التطورات الميدانية؛ حيث أسهم تطور الأحداث خلال عامي 2014 و2015 وبعد فشل المفاوضات الكردية-الكردية في مدينة أربيل ومدينة القامشلي في تبلور مشروع الإدارة الذاتية في مناطق شمال شرقي سوريا(7)، وانقسم المجتمع في تلك المناطق وفق ثلاثة اتجاهات سياسية-اجتماعية:
وهناك أيضًا تمايزات وانقسامات داخل قوى الثورة والمعارضة، واتضحت معالمها بعد تنامي مؤشرين اثنين:
ومنذ عام 2018 الذي شهد انخفاض معدلات العسكرة في سوريا، يُظهر التدقيق في الوضع الاجتماعي السوري، بوضوح، تأثره بالقوى المحلية والدولية المسيطرة على كل منطقة، لنصبح أمام بنى اجتماعية سورية متباينة في أهدافها، كالبنى الخاضعة لسيطرة النظام، وتلك الموجودة في مناطق السيطرة التركية، وأخرى في محافظتي درعا والسويداء، ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، فضلًا عن السوريين في مخيمات اللجوء المحاذية للحدود التركية، وداخل تركيا. وكذلك في الأردن ولبنان، وصولًا إلى السوريين في دول اللجوء المستقر في بعض الدول الأوروبية وأميركا وكندا.
ومع تعزيز مؤشرات ترسيخ التبدل الديمغرافي في سوريا يتعمق الانقسام السوري في ظل استدامة ديناميات التجميد التي حولت مناطق النفوذ إلى مناطق حكم محلية تمتلك كافة المسببات لتحولها لمناطق انقسام اجتماعي.
منذ عام 2018، والمشهد السوري عمومًا يسير ضمن سيناريو التجميد وتعزز التمترس الجغرافي للقوى السورية الفاعلة، وتعززت العوامل المثبتة لهذا السيناريو بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وما أفرزه من إعادة ترتيب الأولويات في الملفات الدولية ليتراجع الاهتمام بسوريا، كما شكَّل تحقيق مكاسب أمنية للدول الفاعلة وما وفره من "طمأنينة" معقولة لأمنها القومي، عاملًا مهمًّا في عدم مضي تلك الدول قدمًا في مسار التوافق السياسي. إلا أن هذا لا يعني سيطرة "السكون السياسي والأمني" على المشهد العام، بل هو انتقال باتجاه ملفات ما دون سياسية، وسيشكِّل التراكم فيها نقاط تفاوض سياسية مستقبلية. ولهذا الانتقال بطبيعة الحال أثره على البنية المجتمعية، وهو ما يمكن تلمس أثره المباشر في الأزمات المعيشية، وأثره غير المباشر في عدم مقاومة الانزياحات والانقسامات التي اعترت هذه البنية، وعدم القدرة على توفير بيئة آمنة توقف استمرار الاستنزاف البشري على أقل تقدير، وذلك وفق ما تُظهره الديناميات الناظمة للمشهد السوري منذ عام 2018:
أولًا: مشاريع "تعافٍ" علاجية: في ظل ثبات الحدود الفاصلة بين مناطق النفوذ، لا توجد أية سياسات محلية أو إقليمية لاستثمار المساحة المحدودة من الاستثناءات الأميركية لقانون قيصر، والتي طالت 12 قطاعًا في مناطق شمال شرق وشمال غرب سوريا باستثناء عفرين وإدلب، في حين تتجه حركة الفاعلين المحليين نحو مواجهة تحدياتها المحلية، لاسيما في شرق وغرب نهر الفرات. ففيما يتعلق "بالتعافي المبكر" في مناطق الإدارة الذاتية، فإن نوعية وحجم المشاريع والأعمال المنفذة في مناطق "الإدارة الذاتية" خلال النصف الأول من 2022 تدل على قصور في هيكلية النموذج الاقتصادي الاجتماعي المتبع، وعدم كفاءة المكاتب والمؤسسات المعنية بالملف الاقتصادي؛ إذ لم تسهم في تلافي حدوث أزمات وتحقيق استقرار معيشي للسكان وتعافي المنطقة اقتصاديًّا. وفي مناطق المعارضة يلاحظ قلة المشاريع المتعلقة بمخيمات النزوح؛ إذ يوجد 1.7 مليون من النازحين في 1400 موقع للنزوح(8)، ولا يزال عدد النازحين الكبير يشكل تحديًا كبيرًا للمجالس المحلية في تقسيم الموارد المالية بين متطلبات الإغاثة ومتطلبات النازحين العاجلة واحتياجات التنمية الاقتصادية.
أما النظام، والذي يواجه حالة من الاستعصاء، فقدْ فَقَدَ القدرة على مواجهة الأزمات ويحاول استخدام ما أتيح له من أدوات علَّها تسهم ولو بحدها الأدنى في تخفيف وطأة هذه الأزمات مرحليًّا، ولجأ عبر قرارات متتالية إلى التخلي تدريجيًّا عن الدعم المخصص للمواد الأساسية كالخبز والوقود وغيرها من المواد، في محاولة منه لتحميل الشعب أعباء العجز في الموازنة العامة فيما يرتبط بمخصصات الدعم، ما زاد من احتقان المواطنين وصولًا لمرحلة الاحتجاجات إزاء ذلك بسبب زيادة الأعباء المعيشية عليهم(9).
ثانيًا: بيئة أمنية هشة، تنعكس سلبًا على البنية المجتمعية المرهقة من عشر سنوات من الصراع. ففي شمال غرب سورية، تتعرض البنية السورية للعديد من الضغوط الامنية جراء استمرار عمليات الاغتيال والتفجير وعمليات الاقتتال ما بين الفواعل الأمنية، حيث شهدت المنطقة محاولتي تمدد لـ"هيئة تحرير الشام، الأولى في يونيو/حزيران 2022 وذلك بإرسال الهيئة لقوة مساندة لـ"أحرار الشام" عقب نشوء اقتتال فصائلي بين هذه الأخيرة و"الجبهة الشامية"، وذلك قبل أن تنسحب الهيئة بعد وصولها لحدود منطقة عفرين. والمحاولة الأخيرة قامت بها في تشرين الأول 2022 بمساندتها لفصيل "الحمزات" إثر اشتباكه مع الفيلق الثالث. ويأتي هذا الاقتتال في سياق غياب جهة مركزية أمنية أو عسكرية في مناطق سيطرة "الجيش الوطني"، الذي يشهد في التشكيلات المنضوية تحت رايته، اندماجات وانقسامات بين الحين والآخر(10).
أما في المنطقة الجنوبية، فلا يزال أهالي المحافظة يتعرضون لعمليات اغتيال بدوافع سياسية منذ التسوية الأمنية الأخيرة في سبتمبر/أيلول 2021. شهدت المحافظة عمليات اغتيال لعدة شخصيات أمنية وسياسية وحقوقية مختلفة، وصلت في شهر يوليو/تموز 2022 إلى ما لا يقل عن 32 عملية(11). كما عكست المواجهات بين مجموعات محلية و"قوات الفجر" في محافظة السويداء رغبة محلية بمواجهة "النفوذ الإيراني" المتنامي؛ إذ لطالما ولا يزال يسعى النظام وحليفه الإيراني إلى "تغذية" سردية الفوضى والاقتتال البيني بهدف جعل المحافظة مسرحًا خصبًا لتضخيم دوره "الضامن للتوازن المحلي"، وإطارًا داعمًا لهندسة "إعادة التموضع الإيراني"(12).
ويتعرض المجتمع في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية لعدة ضغوط أمنية، ففي 2020، أوضحت عملية أمنية مركبة أقدم فيها تنظيم داعش على الهجوم على سجن غويران "لتحرير سجنائه"، مستوى الهشاشة وحجم الثغرات في بنية قوات سوريا الديمقراطية(13)، كما انعكست أحداث الحسكة والقامشلي وما رافقها من توترات أمنية وصلت إلى حصار متبادل لبعض المواقع واشتباكات محدودة سلبيًّا على مؤشر الاستقرار المحلي(14).
ثالثًا: استعصاء مسار جنيف ومضي في مسار أستانة، حيث أضحت اللجنة الدستورية منذ انطلاق جولاتها حتى الجولة التاسعة، مساحة مناورة وتعطيل للمسار السياسي قبل أن تعلن موسكو إيقاف عمل اللجنة ورفض انعقادها في مدينة جنيف، وذلك على خلفية المواقف الأوروبية من الغزو الروسي لأوكرانيا. وإذا كانت مبادرة المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسن، "خطوة بخطوة" نقطة تحول كما يراها(15) فإن مسار أستانة بالمقابل لا يزال مسار تفاهم أمني بين موسكو وأنقرة وطهران؛ إذ استطاعت روسيا وضع ورقة إضافية على طاولة مفاوضات سوتشي، ألا وهي دفع عجلة التواصل بين تركيا والنظام خطوةً أولى للحل السوري؛ وهو ما تقاطع مع الضغوطات التي تتعرض لها أنقرة من أحزاب المعارضة التركية بخصوص الملف السوري، واستتبع ذلك سياسات ضاغطة على الوجود السوري في تركيا لاسيما فيما يتعلق بحاملي "الإقامة المؤقتة".
أسهم الزلزال الذي ضرب مناطق في تركيا وسوريا، في 6 فبراير/شباط 2023، وما أعقبه من حملات محلية تضامنية في بلورة انطباع قصير المدى تجاه مفهوم التعاضد الاجتماعي(16) والذي تجلى في: المساندة المادية والمعنوية، الفردية والجماعية دون الاكتراث بأي انقسام. الاندفاع نحو العمل التطوعي والانخراط المجتمعي عبر تشكيل سكان المدن والبلدات الأقل تأثرًا بكارثة الزلزال في سوريا لفرق ومجموعات شبابية تطوعية للمساهمة في عمليات الإنقاذ والاستجابة في المناطق السورية. إضافة إلى مسألة الثقة وتعزيزها بين السوريين بشقيها الاجتماعي والمؤسساتي. لقد حفز ما أظهره "رأس المال الاجتماعي السوري" من أبعاد كالتواصل والتكافل والتعاون المرتبطة بصورة أساسية بروابط القرابة مثل الأسرة والعائلة والصداقة والجيرة والعشيرة، في إعادة طرح أسئلة المجتمع المهشم واحتمالية النهوض مجددًا.
صحيح أنه يمكن اعتبار حركة المجتمع واستجابته العابرة لبعض مناطق سلطات الأمر الواقع دليلًا على فعل جمعي تضامني نابعًا من التمسك بهوية سورية مشتركة في أوقات الأزمات والكوارث الطبيعية، إلا أنه وبذات الوقت، عدم قدرة تلك الاستجابات على أن تكون متكررة وأكثر شمولًا، فيمكن اعتبارها تكريسًا للانقسام القائم. كما لا يمكن اعتبار التضامن أو النشاط الإغاثي كافيًا للدلالة على تجاوز معوقات الهوية الوطنية السورية أو إعلانًا مجتمعيًّا بالرغبة بمد جسور التواصل البينية بما يتجاوز الأزمات المُركبة السابقة لها، وما أضيف إليها من تعقيدات خلال السنوات العشر الماضية، ويعود ذلك إلى عدة نواحٍ لابد من أخذها بعين الاعتبار(17):
أولًا: استجابة الناس في مواجهة الكارثة الطبيعية تختلف عن استجابتهم -وحتى تضامنهم- في مواجهة الكوارث ذات البعد البشري (كالقصف مثلًا)، رغم أن كليهما قد يوصلان إلى نتائج متقاربة من حيث المبدأ لا الكم، من خسائر في الأرواح والممتلكات والبنى التحتية ناهيك عن الفزع والرعب والحالة النفسية.
ثانيًا: يعتبر عاملا "الأدلجة" و"التسييس" عاملين مهمين لا يمكن تجاوزهما حتى في سياق الاستجابة للكوارث؛ ففي حين أن التعاطف الإنساني يكون في ذروته؛ تستطيع الحكومات ووسائل الإعلام تجيير تلك اللحظات الانفعالية لدى الشعوب لتمرير أجندات تخدمها، وقد بدا ذلك جليًّا على النطاق السوري في سلوك النظام الذي استخدم الزلزال فرصة ليستغل عاطفة الناس في الدفع بحملة شبه مُنظمة للمطالبة برفع العقوبات عنه، رغم عدم تعارضها مع المساعدات الإنسانية.
ثالثًا: تختلف الأيام الأولى دومًا عما بعدها، فالشعور بالكارثة والتهديد يجمع ويؤلف ويوحد، لكن التجربة الإنسانية أثبتت القدرة على الاختلاف على التفاصيل مع مرور الوقت بما قد يعيق العمل المشترك ويقلل بالتالي من فرص الالتحام الوطني.
لا شك أن الاستجابة السورية كانت لافتة، إلا أن هذه المرونة والعملياتية في مواجهة المأساة ليست بالضرورة اللحظة الفارقة التي تثبت استعداد السوريين لإنهاء ما خلَّفته عقود من الاستبداد والتفرقة والتهميش، ومما عقد المشهد الاجتماعي هذا هو تركيز استثمار بعض الدول على هذه الكارثة لإعادة مد جسور التواصل مع النظام وليس مع متطلبات التماسك الاجتماعي في عموم سوريا. وبالتالي غياب قضية معالجة التهشم المجتمعي عن مسارات التواصل تلك، والتي تسارعت بطبيعة الحال بحكم الزلزال، وهي نتاج سياق مرتبط بمسارين: يرتبط الأول بحراك عربي تزداد وتيرته وتتمايز أدواره بين دافع ومنتظر ورافض، بينما تعود أسس المسار الثاني إلى توافقات سابقة بشأن "تجميد النزاع" في شمال غربي سوري بين كل من روسيا وإيران وتركيا، إضافة لتطورات نجمت عن تقلبات في المشهد الدولي. ووفقًا لطبيعة هذين المسارين فإنهما تجاوزا معادلة "إزاحة الأسد" إلى النظر في المشتركات والمصالح الإقليمية التي من شأنها أن تعلي من دينامية "التواصل الإقليمي" ومتطلباته وتفصله عن مسار الحل السياسي. وهو الأمر الذي يعزز من فرضية أن التطبيع يهدف إلى التكيف مع سردية النظام وطريقة فهمه للمجتمع السوري المتجانس.
مع تصلب الحدود الأمنية بين مناطق النفوذ وصعوبة التغيير في المدى المنظور في الجغرافيا العسكرية، واكتسابها بعدًا إداريًّا في ظل تعثر حوكمي وتنموي واضح لسلطات الأمر الواقع، وفي ظل الديناميات الناظمة للملف السوري؛ فإن المشهد السوري يسير باتجاه أحد السيناريوهات، وكل منها له تأثيره الخاص على طبيعة ووجهة المجتمع السوري المهشم:
مما لا شك فيه أن البنية المجتمعية السورية الراهنة في ظل هذه السيناريوهات ستبقى تعاني من التهشم والتعرض للأخطار والمهددات التالية:
تؤكد هذه الأخطار احتمالية انتفاء الدور المجتمعي والحامل الاجتماعي الداعم لسياسات الاستقرار وإعادة البناء، وهذا بدوره يؤكد الحاجة إلى التجسير المجتمعي وخلق نقاشات عابرة للانقسام الأمني الحاصل، بما يقوي من جهود العقد الاجتماعي من جهة، ويقوي الروابط الاجتماعية التي أتلفتها الحرب من جهة ثانية.
بعد سِني التهميش التي عاشها المجتمع السوري في ظل سياسات حزب البعث، يعيش المجتمع السوري تجربته الأقسى في اختبار وحدته ولحمته منذ بدء الصراع السوري؛ حيث ازدادت مؤشرات تفسخه وانقساماته الأفقية والعامودية سواء على مستوى البنية الديمغرافية أو على مستوى الهوية الوطنية. كما أسهمت ديناميات الصراع وسياسات الفواعل المحلية في زيادة كلف الاستنزاف المجتمعي، سواء كانت كلفًا اقتصادية خلَّفت مجتمعًا بكليته تقريبًا دون خط الفقر أو كلفًا إنسانية وضعته أمام واقع يكرس مجتمع المخيمات واللجوء ويضعف أو يغيب ديناميات ووسائل الضغط في ملفات الاعتقال والاختفاء القسري وحقوق الإنسان. وعلى الرغم مما تعرضت له هذه البنية من استنزاف، فإن السيناريوهات المرتبطة بالمشهد السوري تزيد من صعوبة استرداد دور الحامل الاجتماعي الوطني الداعم لقضايا الاستقرار والتي ستكون التحدي الأبرز أمام الشعب السوري بكل مكوناته الاجتماعية، لإعادة تشكيل بنيته وذاته الوطنية وصيانتها بشكل عابر لحدود الصراع المحلية.
المصدر:
مركز الجزيرة للدراسات: https://bit.ly/4238Csz
بتاريخ 01/06/2022؛ قدم الزميل في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية نادر الخليل تصريحاً لصحيفة عنب بلدي، ضمن تقرير صحفي بعنوان "إجراءات تركيا تجاه اللاجئين تدفع بعضهم إلى الحدود اليونانية"، بيّن فيه الزميل بعض الأسباب التي أدت لتزايد الأوضاع الصعبة للاجئين؛ منوهاً لآثار غياب الفاعلية لمؤسسات المعارضة وارتداته على تفاقم هذه الأوضاع حالات الاعتداء على اللاجئين، موضحاً كيف أثر ذلك على جعل القضية السورية قضيةً "منسية" تنتظر أدواراً سورية ناجعة.
بعد انطلاق الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، بدأت التحركات في خارج سوريا من ناشطين وشخصيات عُرِف بعضهم بمعارضته لنظام الأسد الأب والابن، وكان هدف تلك التحركات تشكيل جسم يعكس مطالب الحراك الشعبي، وينظِّمه، ويؤمِّن شبكة تواصل مع الدول والفاعلين الدوليين في محاولة لعزل نظام الأسد دوليًّا وتأسيس بديل رسمي عنه.
كان المجلس الوطني الذي أُعلن تأسيسه في أكتوبر/ تشرين الأول 2011 نتاج جزء من هذه التحركات، وهو تجمع لعدة قوى تقليدية وحديثة النشوء، أبرزها الحراك الثوري، ربيع دمشق، حركة الإخوان المسلمين وكتلة المستقلين الليبراليين، وبعد سنة من تأسيسه أُعلن عن تشكيل الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، بصفته كيانًا يشمل المجلس الوطني وقوى ثورية أخرى، مثل لجان التنسيق المحلية ورابطة العلماء السوريين.
هل المعارضة معطوبة الذات؟
ما يميّز حراك الثورة السورية -علاوة على أنه حراك محقّ ضد نظام سلبَ السلطة واحتكرَ الفضاء المدني والسياسي في الدولة، وشوّه البنية الاجتماعية والقانونية في البلاد- أنه كان بواسطة شباب لا يملكون رصيدًا سياسيًّا ولا حزبيًّا، ولا حتى ذاكرة ملمّة بما يكفي بالمجازر المخيفة التي فعلها الأسد الأب، بل كان حراكًا هدفه التخلُّص من حكم العسكر ونيل الحرية اقتداءً بباقي بلدان الربيع العربي.
ولكن على الجانب الآخر من هذا الحراك، كان هناك شخصيات أُثقلت بمحاولاتها غير الناجحة لمعارضة نظام الأسد طيلة 40 عامًا، وشخصيات ظهرت دون رصيد سياسي دافعها التغيير القادم في سوريا، ولسنا بصدد دراسة أسباب فشل وعثرات ذلك الحراك، ولكن ما يهمّنا الأفكار التي وصلت إليها تلك الشخصيات لحظة انطلاق الثورة السورية.
كان انطلاق الثورة ومظاهراتها الشعبية مفاجئَين للنظام والشخصيات المعارضة على حدّ سواء، فلم يتبنَّ الحراكُ الشعبي الأدواتَ التقليدية التي حملتها "المعارضة" السورية في مراحل ما قبل الثورة، بل جاء بأساليب لإدارة حراكه وتنظيمه وتقديم مطالبه التي لم تُرضِ عددًا من تلك الشخصيات، كونها أدوات "غير ناضجة"، ولا يمكن أن تتحرر البلاد أو تُستبدل الأنظمة بحراك شعبي وهتافات رغم تنوع أساليبها وتوزُّعها الجغرافي الممتد.
ولكن أمام توسُّع جغرافية المظاهرات وعنف النظام المتسارع اتجاهها، وجدت الشخصيات المعارضة نفسها أمام واقع يجب أن ينعكس على الصعيد السياسي بواسطة حراك أكثر تنظيمًا وفاعلية، فحاولت تشكيل الكيانات المعارضة، ولكن لم تكن تلك الكيانات مشكّلة بمعزلٍ عن الخلافات التاريخية الممتدة من بعض الأشخاص أو الجماعات.
هذا فضلًا عن مؤشرات وضعتها هذه الشخصيات لتكون مقياسًا للتمايز، وأحقية التمثيل في تلك الكيانات تعتمدُ على مدّة التاريخ النضالي ضد النظام، وعدد سنين الاعتقال وتكرارها، ما جعل بدايات تشكيل الكيانات سباقًا لإثبات الوطنية بمؤشرات سائلة وليست بأدوات تتماشى مع حجم التضحيات التي كانت تكبر يومًا بعد يوم في سوريا، بمعزلٍ عن هلامية كثير من الأسماء المتصارعة خارجها.
لم تكن فترة البدايات (2011-2012) محدِّدة لعلاقة الشارع الثوري مع الأجسام المعارضة فحسب، بل أسّست لأسلوب عمل مكونات تلك الأجسام فيما بينها أيضًا حتى هذه اللحظة، إذ أصبح مفهوم الاستقرار لديها مرتبطًا بإرضاء تلك المكونات، وتحقيق التمثيل المناسب لكل مكوِّن.
وكلمة "مكوِّن" في هذا السياق لا تشير إلى التنوع الجغرافي أو القومي أو الإثني، ولكنها تشير إلى الجماعات والأشخاص وحجم تمثيلهم في الأجسام حتى لو لم يكن متوافقًا مع شرعيتهم وشعبيتهم في مناطق الثورة، ويُضاف إلى هذه التركيبة للمعارضة البُعد الإقليمي والدولي لبعض شخصياتها وجماعاتها.
بعد أحداث الثمانينيات الدامية التي شهدتها سوريا في القرن الماضي، كان المنفى بمثابة المأوى لشخصيات كثيرة وجماعات فرّت خوفًا على نفسها من بطش الأسد بعد توحشه على مدينة حماة وعلى كل معارض له، فانعكست إرادة الدول التي احتضنت المعارضين والجماعات على سلوك تلك الجماعات خلال سنين الثورة، مثل توسعة الأجسام والاستقالات وبعض التحركات السياسية والمطالبات، ما جعل القرار الوطني منقوصًا ومشوهًا وغير قادر على الوصول إلى إرادة موحّدة سياسية، إذ إن الإرادة كانت مرآة لصراع مصالح تلك الدول في سوريا.
مسارات عبثية وبوصلة ضائعة
جاء التبلور المبدئي لأجسام المعارضة تمهيدًا لبدء مسارات سياسية استمرت لعدة سنوات، استندَ بعضها في البداية على قرارات أممية ولكن تقلّصت فاعلية تلك المسارات لاحقًا، إما بسبب عبثية النقاشات التي دارت حولها وداخلها من طرف النظام، وإما بسبب تشكُّل أجسام معارضة جديدة مثل منصة موسكو ومنصة القاهرة، ما أفضى في النهاية إلى انعقاد مؤتمر سوتشي عام 2018 تحت مظلة روسية وغياب أجسام معارضة عديدة عنه.
بعد انعقاد مؤتمر سوتشي في يناير/ كانون الثاني 2018، والذي تزامن مع اشتداد الحملة التي شنّها النظام السوري على قرى وبلدات الغوطة الشرقية، والتي انتهت بتهجير أهلها إلى الشمال السوري في شهر مارس/ آذار من العام نفسه؛ شُكِّلت لجنة مهمتها إعادة كتابة دستور، والتمهيد لإجراء "انتخابات ديمقراطية"، إذ رفضت الهيئة العليا للمفاوضات بدايةً قرار تشكيل اللجنة، مؤكدة على مرجعيتها في مؤتمر الرياض، وأن موسكو تسعى للانفراد بالحل السياسي خارج إطار الشرعية الأممية، محاولة نسف جهود المجتمع الدولي للتوصُّل إلى حل سياسي يضمن للشعب السوري حريته وكرامته، ولكن هيئة المفاوضات غيّرت موقفها لاحقًا ووافقت على فكرة اللجنة الدستورية، وبدأت جولاتها الستة التي استمرت 3 سنوات ونصف السنة إلى الآن.
بدأت أولى الجولات بطلب وفد النظام بأن تنعقد الجولات القادمة في دمشق، ولكن قوبل هذا المقترح بالرفض من وفد المعارضة، حينما أصرَّ رئيس وفد النظام على أن الخيار العسكري سيبقى قائمًا متزامنًا مع مسار اللجنة الدستورية حتى استعادة الأسد الأراضي السورية كلّها.
اقتصرت الجولات اللاحقة على مقترحات من قبل وفد المعارضة وإصرار وفد النظام على مناقشة "المبادئ الأساسية والركائز الوطنية"، وقضية الإرهاب وإدخال وفد النظام لمفهوم "سيادة الدولة" ومناقشته كشرط للاستمرار في صياغة الدستور، إذ لا يُمكن الدخول في كتابة المواد الدستورية قبل مناقشة مواضيع السيادة والوجود الأجنبي، وهي مواضيع ليست متعلقة بالدستور، ولكن حاول النظام بوساطتها تثبيت سيناريو التجميد السياسي لكسب الوقت، محاولًا إعادة السيطرة على المناطق الخارجة عن سيطرته.
احتوى مسار اللجنة الدستورية كاملًا على عدة تساؤلات لم تُجب عنها الجولات التي انعقدت، أهمها هل المشكلة في سورية مشكلة دستورية ذاتًا، ويتطلب حل القضية السورية وجود دستور جديد، علمًا أن دستور الأسد الحالي يحتوي على مواد متعلقة بالحريات والتعددية الحزبية، رغم غياب آليات تنفيذه وعكسه على سلوك الأسد تجاه شعبه؟
ومن جانب آخر لم توضِّح اللجنة الدستورية كيف سيقرَّر الدستور إذا ما كُتب، وهذا يؤدي بالضرورة إلى إمكانية غياب الإرادة الشعبية بواسطة استفتاء يُفضي إلى إقرار الدستور أو رفضه، وهل سيبقى الدستور في حال كتابته معلقًا حتى إنهاء باقي السلال الأخرى المتعلقة بتشكيل حكم غير طائفي وإجراء انتخابات حرة ونزيهة؟
ويشير د. ياسر العيتي، وهو سياسي وكاتب سوري، إلى أن المسار الصحيح للعملية السياسية هو الذي رسمه القراران الدوليان 2118 و2054، وهو يقضي أن يبدأ الانتقال السياسي بتأسيس هيئة حكم انتقالي تؤمن بيئة آمنة، يتمّ فيها وضع دستور جديد والاستفتاء عليه ثم إجراء انتخابات وفق الدستور الجديد.
ويتابع قوله بأن اللجنة الدستورية لم يَرِد لها أي ذكر في القرارات الدولية، وهي أحد مقررات مؤتمر سوتشي الذي قاطعته المعارضة السورية ممثلة بالهيئة العليا للمفاوضات، ثم وافقت على أحد مخرجاته وهو أن اللجنة الدستورية أقدمت في سابقة لا مثيل لها في العمل السياسي على مقاطعة مؤتمر ثم الموافقة على مخرجاته.
وأشار العيتي في سياق كلامه إلى تصريح المبعوث الروسي ألكسندر لافرنتييف في ديسمبر/ كانون الأول 2021، حيث قال: "كتابة وإعداد دستور جديد ينبغي ألا يهدفان إلى تغيير السلطة في دمشق"، وأوضح أن حكومة النظام السوري "راضية عن الدستور الحالي، ولا ترى ضرورة لإحداث أي تغيير فيه، وإذا سعى طرف ما وضع دستور جديد من أجل تغيير صلاحيات الرئيس وبالتالي محاولة تغيير السلطة في دمشق، فإن ذلك الطريق لن يؤدي إلى شيء".
ثورات تجدِّد نفسها
لم يعد يخفى على عين المراقب أو الناشط في الواقع السوري بؤس حالة الأجسام السياسية التي ما زالت متمسكة بخيارها وأدواتها التقليدية وآلية عملها الداخلية التي لم تُجدِ نفعًا، بل أضرّت القضية السورية بتمييع المطالب، وحالة الفراغ المملوء بالفساد والمحسوبيات واللاجدوى بين الحراك الشعبي والأجسام السياسية، إذ أصبحت محاولة "الممارسة السياسية" وصمة عار، ومسمّى "سياسي" مقترنًا بالسذاجة والمراوغة، ما عزّز سعي الأنظمة الديكتاتورية في شيطنة العمل السياسي وتشكيل القيود النفسية في المشاركة في أية عملية سياسية.
واعتبر د. العيتي أن الممارسة السياسية تكمن أهميتها بأن يكون للسوريين صوت يمكن إيصاله إلى العالم، وهي ضرورة وليست ترفًا، وطالما المعارضة الرسمية ممثلة بالائتلاف والهيئة العليا للتفاوض لا تعبِّر عن صوت السوريين بمقدار ما تراعي مصالح الدول الراعية لها، لا بدَّ من أن يفكّر السوريون الأحرار بتشكيل كيانات سياسية تعبِّر عن صوتهم، وتضغط على المعارضة الرسمية لتصحِّح المسار أو تشكّل بديلًا عنها.
وختامًا، للقضايا والثورات أيادٍ لن تستطيع النهوض إلا بها، فالعمل السياسي يعطي زخمًا دوليًّا للحراك الشعبي، والعمل العسكري يعطي العمل السياسي أوراق ضغطٍ في مساراته، وأيّ خلل في العلاقات تلك تؤدي إلى أن يُصبح الصوت دون صدى، والمفاوضات مهزلة مستمرة، والثورات الحقيقة هي التي تؤهّل أبناءها وتصنع النخب ولا تستقدمهم من التاريخ.
المصدر نون بوست: https://bit.ly/3qTCBUn
بتاريخ 24 أذار 2022، عقد مركز عمران للدراسات الاستراتيجية جلسة حوارية بعنوان "أدوات وأساليب الصراع مع النظام بعد أكثر من عقد على الثورة"، في الداخل السوري، حضرها عدد من الفاعلين والناشطين في المجتمع المدني والسياسي.
استعرضت الجلسة في محورها الأول توصيف لأهم المراحل التي مرت بها الثورة السورية من السلمية مروراً بالعسكرة وما شهدته من تدخلات دولية (إيران،روسيا)، وصولاً لمرحلة الجمود والاستعصاء السياسي. كما ركز المحور الثاني على أهم الطرق والأدوات والوسائل المتبعة في سياق الحراك الثوري السوري، إضافة إلى المحطات الدولية التي مر بها الملف السوري وأثرها على المسار السياسي، وما رافقها من تحولات عسكرية ساهمت في تشكل مناطق نفوذ مختلفة،إضافة للتطورات في الأجسام والبنى التنظيمية السياسية. فيما ناقش المحور الثالث توصيات تهدف لتطوير أدوات تنظيم العمل السياسي والمدني وتفعيل دور النقابات وأساليب الرقابة والمحاسبة.
تتعدد المقاربات الإقليمية المطروحة لسورية، ولكنها تتقاطع في تأكيدها على تقوية الدولة على حساب المجتمع، والدمج الإقليمي كمدخل لإعادة الاستقرار لسورية، في حين أن المراد إطار إقليمي يصون الدولة، ولا يلغي الشروط المحلية المهيئة للاستقرار.
مقاربة الدمج الإقليمي واستعادة الدولة
يمكن تأطير وجهات النظر المفسرة لإندلاع الحركة الاحتجاجية في سورية عام 2011 في تيارين، يعتقد الأول بأنها نتاج لعوامل داخلية مركبة تتصل باستعصاء النظام السياسي المركزي، وعطالته في إدارة الدولة وتمثيل المجتمع، ويجدون حججهم في متوالية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت وما تزال بسورية منذ إنقلاب البعث عام 1963، في حين يعتقد التيار الثاني بأن الحركة الاحتجاجية مجرد انعكاس لانهيار النظام الإقليمي وتآكل الدولة السورية، وتحولها من فاعل إقليمي إلى ساحة لتنافس القوى الإقليمية والدولية.
يجد هذا الانقسام تعبيراته في نظرة مؤيدي كل منهما لمصدر الشرعية وكيفية تسوية “الأزمة” السورية، إذ يؤكد الأول على حل سياسي يؤسس لإنتاج منظومة سياسية شرعية من وجهة نظر السوريين، دون أن يلغي دور الإقليم والمجتمع الدولي كحواضن ضرورية لإنجاح هذا الاتفاق. في حين يعتقد التيار الثاني بأن الحل يكمن في تقوية الدولة على حساب المجتمع السوري، ودمجها في محيطها الإقليمي لتوفير شرعية خارجية، تساعدها في معالجة التحديات الداخلية التي تعترضها.
تعتبر روسيا أبرز ممثلي التيار الثاني، حيث تواصل جهودها لإعادة فرض سيطرة النظام على كامل الجغرافية السورية، كذلك الدفاع عنه في المحافل الدولية، من منطلق روايتها المتمركزة حول حماية الدولة واستعادتها، والدفاع عن ممثلها الشرعي وهو النظام السوري. ترى موسكو بأن إعادة دمج النظام في محيطه الإقليمي، من خلال ترتيبات أمنية ثنائية أو متعددة، كذلك إعادة دمجه في جامعة الدول العربية، سيوفران شرعية وغطاء سياسياً، يساعدان سورية في معالجة تحدياتها الداخلية، وتبعاً لذلك يقع الانتقال السياسي الجدي خارج التفكير الروسي.
أيضاً، يتبنى عدد من الدول العربية هذه المقاربة بشكل أو بآخر، يظهر ذلك في مشروع “الشام الجديد”، الذي عبر عنه بشكل صريح رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي خلال زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية في أيلول 2020، حيث يستند المشروع إلى دراسة أعدها البنك الدولي عام 2014 بعنوان ” Over the horizon: A new Levant”، لتشكيل تكتل اقتصادي بين دول مصر والعراق والأردن، علماً أن سورية ليست بعيدة عن هذا المشروع، سيما مع إعادة تفعيل اتفاق نقل الغاز المصري إلى لبنان عبر الأردن وسورية. بحسب محللين، فإن للمشروع أهداف غير ملعنة تتمثل بتعزيز كيان الدولة، في ظل ما تواجهه من تحديات اقتصادية واجتماعية وجيوسياسية أمنية متنامية، سيما في سورية التي تتهددها مخاطر وجودية، كذلك فإن دمجها من جديد في إطار إقليمي عربي تقوده مصر، يمكن له أن يخفف من التأثيرين الإيراني والتركي في سورية، وبالتالي توفير استقرار سياسي من نوع ما.
درعا ساحة للاختبار
تعتبر درعا مثالاً يمكن من خلاله اختبار فرضية مدى قدرة الدمج الإقليمي، واستعادة الدولة على جلب الاستقرار لسورية، فهي ميدان لترتيبات تنفيذ اتفاق خط الغاز العربي، وبوابة تريدها روسيا لتطبيع علاقات النظام مع محيطه. اكتسبت درعا والجنوب السوري عموماً أهمية أكبر، مع إعادة تفعيل اتفاق خط الغاز العربي، وما تبعها من اتصالات ولقاءات سياسية بين مسؤولي النظام ومسؤولين عرب وأجانب، وما عناه الاتفاق بشكل أو بآخر من دمج النظام السوري في ترتيبات إقليمية ذات طابع اقتصادي، بعد مقاطعة استمرت لسنوات.
صحيح أنه ما يزال مبكراً الحكم بشكل نهائي على مآلات الدمج الإقليمي لسورية، ولكن بحسب المعطيات القائمة، يمكن القول بأنه مسار غير واعد في ظل المعطيات القائمة.
تندرج مبادرة الدمج الإقليمي ضمن سياسة “الخطوة خطوة”، واستمراريتها مرهون بمدى تجاوب النظام وتقديمه لتنازلات ملموسة للخارج، ولا يبدو بأن النظام مقبل على ذلك طالما يشعر بأنه منتصر، وأن على الدول الأخرى تقديم تنازلات له دونما اشتراط مقابل، فضلاً بأن إيران لن تبقى في موقف المتفرج على مسار يتهدد نفوذها في سورية، إذ تبقي على أذرعها المحلية في الجنوب السوري للتخريب، وما يتضمنه ذلك من استمرار الجنوب كساحة للتشابك الإيراني- الإسرائيلي، كذلك كميدان لملواجهة مع المجتمعات المحلية الرافضة للتواجد الإيراني.
أيضاً، لم تجلب عودة الدولة إلى درعا الأمن والاستقرار لها كما يروج، إذ تم الاتفاق على حساب السكان المحليين، دونما مراعاة لمطالبهم بل تطلب تمرير الاتفاق سحقها وفرض تسويات بالقسر.
يدلل على ما سبق مظاهر التدهور التي تعيشها المحافظة أمنياً وخدمياً، حيث تتواصل عمليات الاغتيالات والتي قدرتها مادة صحفية على موقع سورية على طول بحوالي 138 محاولة اغتيال بين أيلول و26 كانون الأول 2021، كذلك عجز مؤسسات الدولة عن توفير الخدمات الأساسية في ظل افتقادها للموارد اللازمة، وترهل أجهزتها بسبب الفساد والبيروقراطية وتدخل الأجهزة الأمنية فيها، لتبقى وعودها وخططها حبراً على ورق، ولتدفع السكان للاعتماد على مبادرات محلية لتسيير شؤونهم كما في مواجهة أزمة كوفيد 19. أيضاً، ما تزال تجارة المخدرات وتهريبها ناشطة رغم عودة “مؤسسات الدولة الرسمية” لإدارة معبر نصيب، وانتشار أجهزة النظام الأمنية في المحافظة.
الحل: إطار إقليمي يكرس محلياً
مما لا شك فيه بأن سورية تحتاج إلى إطار إقليمي ودولي، يحد من مخاطر إنزلاق الوضع فيها إلى الانهيار التام للدولة والمجتمع، مع تواصل التنافس الجيوسياسي عليها، قادر على معالجة أو التخفيف من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية. يبدو بأن أطراف كالسعودية وتركيا ومصر مرشحة لتشكيل مثلث استقرار إقليمي كما يرى البعض، مؤهل بما يمتلك من ثقل اقتصادي وسياسي وشبكة علاقات مع مختلف الفاعلين من احتواء وإدارة الأزمة السورية، وفتح قنوات وساطة وحوار مع مختلف الفاعلين المنخرطين في الساحة السورية.
تتلاقى الدول الثلاث بأن لها مصلحة في استقرار سورية، ويمكن استثمار ذلك في ظل مساعي التهدئة الإقليمية لتوفير غطاء سياسي لإطلاق مبادرات في الساحة السورية، يتم من خلالها استكشاف مدى إمكانية توسيع حدود التعاون فيما بينهم سورياً وإقليمياً، مستثمرين علاقاتهم وإنخراطهم مع مناطق النفوذ، لرعاية مبادرات تتركز على التعافي الاقتصادي، الموجه محلياً والجامع بين مناطق النفوذ لمعالجة ملفات مهيئة على الاستقرار، طالما أن أمريكا وروسيا لا تمانعه راهناً. صحيح أن هنالك تحديات ليست هينة تواجه إنبثاق المثلث الإقليمي، إلا أنها تبقى الدول المرشحة لضمان استقرار الإقليم عبر البوابة السورية.
المصدر: السورية نت