إن التنوع الاجتماعي من أهم خصائص سوريا الديمغرافية، إلا أن هذا التنوع لا يعكس بالضرورة تفاعلًا وحركة سياسية وثقافية، فقد تعرض لسلسلة من السياسات الإكراهية أسهمت في وضع المجتمع بكليته أو بخصوصيته في أتون عملية استنزاف وانقسام مستمرة وعلى مختلف الصعد، لاسيما في حقبة سيطرة حزب البعث والذي لجأ إلى إدارة الديمغرافيا بسياسات توازن حرجة، هدفها إضعاف ثنائيات التنوع لصالح "طائفة الموالاة للنظام"، وازدادت معدلات التشظي والتهشيم في ظل التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أفرزها الصراع السوري منذ عام 2011.
تحاول هذه الورقة رصد التهشيم الذي تعرض له المجتمع السوري سواء على مستوى الانقسام والتشظي أو على مستوى الإرهاق، جراء الكلف السياسية والاقتصادية والأمنية للصراع في سوريا، وستحاول تلمس انعكاسات ذلك على مستقبل البلد. وتنطلق الورقة من أهمية لحظ: أن الانقسام الذي يحدث في البناء الاجتماعي والسياسي لا ينحصر فقط عبر الخطوط الإثنية والأيديولوجية، وإنما من خلال خطوط سياسية أو اجتماعية وتنموية، وأن تهشم المجتمع يحرم الحلول الهادفة إلى الاستقرار والسلام، من مراعاة مصالح المجتمع، لصالح الحسابات الأمنية للدول الفاعلة ومقارباتها السياسية.
يشهد المجتمع السوري انقسامات وخطوط تمايز متعددة، إما نشأت أو تعززت بفعل النظام وهو المؤثر الأشد، أو نتيجة تطور الأحداث في الميدان أو في إطار القوى الثورية نفسها فضلًا عن تدخلات الخارج.
بقدر ما شكَّلت الثورة السورية على امتداد البلاد لحظة تأسيس مهمة في بلورة خطاب مجتمعي موحد، يتضمن مطالب وحقوقًا واحدة، بقدر ما دفعت النظام وأجهزته الأمنية للمضي قدمًا في مواجهة هذه اللحظة وحواملها، ليجعل منها شرارة تغيير نحو هندسة سياسية واجتماعية، أرادها النظام معززة لبقائه. فمنذ الأيام الأولى للحراك الثوري سيَّر النظام "مسيرات حاشدة" لمؤيديه(1)، وبغض النظر عن آليات الحشد وما احتوته من ترهيب وترغيب إلا أنها كانت إعلانًا مبكرًا لانقسام اجتماعي ثلاثي: مجتمع ثائر، ومجتمع موالي ويمثل أصحاب المصلحة من كل الأديان والأعراق مع وضوح جلي للطائفة العلوية فيه، ومجتمع حيادي (أو ما يُعرف بالصامت)، وهي كتلة مجتمعية وازنة وثقلها الرئيسي في المدن الكبرى(2).
ومع تعدد مستويات التعبير الثوري الذي أضحى يركز على الأدوات المسلحة، ومع عدم استطاعة الثوار السلميين في السيطرة على مراكز المدن، واجه المجتمع السوري تحدي الانقسام الحاد بين قرى وبلدات ثائرة وأخرى موالية، دون أن تظهر مؤشرات ذات دلالة لحرب أهلية آنذاك، رغم وضوح "الهوية السُّنِّية" للمناطق الثائرة والتي شهدت إلى جانب تشكيل الجيش الحر تأسيس فصائل ومجموعات إسلامية، حاول النظام عبر الأذرع الإعلامية والسياسية استغلالها لتدعم سرديته ضد الثورة منذ الأيام الأولى، باعتبارها سعيًا للإمارة السلفية(3). إلا أنه مع تغلب منطق المعارك العسكرية على الأحداث السورية واعتماد الجيش الحر والفصائل المسلحة منذ منتصف 2012 عقيدة هجومية (لم تعد فقط لمواجهة الحملات الأمنية الكبرى للجيش أو لحماية المظاهرات)، بدأت خارطة السيطرة تتبدل بشكل متزايد لصالح الجيش الحر والفصائل الإسلامية. خاصة بعد فشل مساعي الحل السياسي ولجوء الدول الداعمة للطرفين إلى الاستثمار بالحل العسكري؛ وهو أمرٌ أدى إلى ظهور مؤشرات استنزاف رئيسية في البنية البشرية للمؤسسة العسكرية، جرَّاء عمليات الاستهداف العسكري أو الانشقاق المتزايد، وقد حاول النظام تغطيتها بميليشيات محلية وأجنبية مساندة. وهذه الأخيرة أسهمت من جهة أولى في تكّون طبقة اجتماعية عسكرية "شيعية أجنبية-محلية" جرَّاء تفاعل الميليشيات الأجنبية والمحلية "الشيعية" في عدة مدن وبلدات سورية تحت سيطرة النظام، كالميليشيات العراقية والباكستانية والأفغانية واللبنانية وقوات الدفاع المحلي. ومن جهة ثانية أسهمت في زيادة التقسيمات داخل البنية السورية التي أضحت عرضة للجذب من قبل عدة مشاريع أيديولوجية وطائفية وسياسية حملتها تلك الميليشيات(4). ويمكن عنونة هذا التقسيم بالطبقات الاجتماعية "المسلحة"، وتجلى في عدة مستويات:
أولها: "المجتمع الموالي المسلح"، ونما بحكم شبكة العلاقات والمصالح التي ترافقت مع ظهور بنى ووحدات عسكرية "رديفة" أنشأها النظام وباتت حينها عنصرًا أمنيًّا مؤثرًا بالمشهد.
ثانيها: "الطبقة السياسية المسلحة"، باعتبارها مؤشرًا نوعيًّا جديدًا، استطاع أن يضمن الممارسة السياسية للقوى الحزبية الموالية بأدوات عسكرية، فأضحت مشروعًا متعدد الأدوات: مثل كتائب البعث، ونسور الزوبعة، وهي الجناح العسكري للحزب القومي السوري الاجتماعي والحرس القومي العربي وتضم "قوميين" محليين ومن عدة بلدان عربية، و"المقاومة السورية" وتحمل عقيدة ماركسية-لينينية(5).
ثالثها: "الأقلية الدينية"؛ حيث استحدثت ميليشيات مسيحية ودرزية لزيادة مؤشرات الانقسام داخل المكون الدرزي والمسيحي، مثل: جيش الموحدين وميليشيا "حماة الديار" في السويداء، وقوات "سوتورو" (حزب الاتحاد السرياني) في القامشلي، و"قوات الغضب" في محافظة السقيلبية في ريف حمص.
والمستوى الرابع استهدف البنية الفلسطينية التي كانت جزءًا متفاعلًا ومنصهرًا في الحياة الاجتماعية السورية؛ حيث أدى تأسيس ميليشيات فلسطينية داعمة للنظام إلى إحداث شرخ واضح بين خطوط التمايز الفلسطيني الذي كانت ترسمه فواعله السياسية، فناهيك عن دور حلفاء النظام التقليديين (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -القيادة العامة، وفتح الانتفاضة، وقوات الصاعقة وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، والحزب الفلسطيني الديمقراطي -سرايا العودة والتحرير) في تعزيز الانقسام في المجتمع الفلسطيني إلى موال للنظام في مواجهة المؤيد للثورة، فإنهم أنشؤوا ميليشيات فلسطينية أخرى مثل قوات الجليل ولواء القدس في محافظة حلب، وجيش التحرير الفلسطيني ويقوده طارق الخضرة -يختلف عن جيش التحرير الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير- ويضم ثلاثة ألوية، وهي: "قوات حطين" و"قوات أجنادين" و"قوات القادسية"(6).
وهناك أيضًا انقسامات وتمايزات خاصة بمناطق محددة، أسهمت في إنتاجها التطورات الميدانية؛ حيث أسهم تطور الأحداث خلال عامي 2014 و2015 وبعد فشل المفاوضات الكردية-الكردية في مدينة أربيل ومدينة القامشلي في تبلور مشروع الإدارة الذاتية في مناطق شمال شرقي سوريا(7)، وانقسم المجتمع في تلك المناطق وفق ثلاثة اتجاهات سياسية-اجتماعية:
وهناك أيضًا تمايزات وانقسامات داخل قوى الثورة والمعارضة، واتضحت معالمها بعد تنامي مؤشرين اثنين:
ومنذ عام 2018 الذي شهد انخفاض معدلات العسكرة في سوريا، يُظهر التدقيق في الوضع الاجتماعي السوري، بوضوح، تأثره بالقوى المحلية والدولية المسيطرة على كل منطقة، لنصبح أمام بنى اجتماعية سورية متباينة في أهدافها، كالبنى الخاضعة لسيطرة النظام، وتلك الموجودة في مناطق السيطرة التركية، وأخرى في محافظتي درعا والسويداء، ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، فضلًا عن السوريين في مخيمات اللجوء المحاذية للحدود التركية، وداخل تركيا. وكذلك في الأردن ولبنان، وصولًا إلى السوريين في دول اللجوء المستقر في بعض الدول الأوروبية وأميركا وكندا.
ومع تعزيز مؤشرات ترسيخ التبدل الديمغرافي في سوريا يتعمق الانقسام السوري في ظل استدامة ديناميات التجميد التي حولت مناطق النفوذ إلى مناطق حكم محلية تمتلك كافة المسببات لتحولها لمناطق انقسام اجتماعي.
منذ عام 2018، والمشهد السوري عمومًا يسير ضمن سيناريو التجميد وتعزز التمترس الجغرافي للقوى السورية الفاعلة، وتعززت العوامل المثبتة لهذا السيناريو بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وما أفرزه من إعادة ترتيب الأولويات في الملفات الدولية ليتراجع الاهتمام بسوريا، كما شكَّل تحقيق مكاسب أمنية للدول الفاعلة وما وفره من "طمأنينة" معقولة لأمنها القومي، عاملًا مهمًّا في عدم مضي تلك الدول قدمًا في مسار التوافق السياسي. إلا أن هذا لا يعني سيطرة "السكون السياسي والأمني" على المشهد العام، بل هو انتقال باتجاه ملفات ما دون سياسية، وسيشكِّل التراكم فيها نقاط تفاوض سياسية مستقبلية. ولهذا الانتقال بطبيعة الحال أثره على البنية المجتمعية، وهو ما يمكن تلمس أثره المباشر في الأزمات المعيشية، وأثره غير المباشر في عدم مقاومة الانزياحات والانقسامات التي اعترت هذه البنية، وعدم القدرة على توفير بيئة آمنة توقف استمرار الاستنزاف البشري على أقل تقدير، وذلك وفق ما تُظهره الديناميات الناظمة للمشهد السوري منذ عام 2018:
أولًا: مشاريع "تعافٍ" علاجية: في ظل ثبات الحدود الفاصلة بين مناطق النفوذ، لا توجد أية سياسات محلية أو إقليمية لاستثمار المساحة المحدودة من الاستثناءات الأميركية لقانون قيصر، والتي طالت 12 قطاعًا في مناطق شمال شرق وشمال غرب سوريا باستثناء عفرين وإدلب، في حين تتجه حركة الفاعلين المحليين نحو مواجهة تحدياتها المحلية، لاسيما في شرق وغرب نهر الفرات. ففيما يتعلق "بالتعافي المبكر" في مناطق الإدارة الذاتية، فإن نوعية وحجم المشاريع والأعمال المنفذة في مناطق "الإدارة الذاتية" خلال النصف الأول من 2022 تدل على قصور في هيكلية النموذج الاقتصادي الاجتماعي المتبع، وعدم كفاءة المكاتب والمؤسسات المعنية بالملف الاقتصادي؛ إذ لم تسهم في تلافي حدوث أزمات وتحقيق استقرار معيشي للسكان وتعافي المنطقة اقتصاديًّا. وفي مناطق المعارضة يلاحظ قلة المشاريع المتعلقة بمخيمات النزوح؛ إذ يوجد 1.7 مليون من النازحين في 1400 موقع للنزوح(8)، ولا يزال عدد النازحين الكبير يشكل تحديًا كبيرًا للمجالس المحلية في تقسيم الموارد المالية بين متطلبات الإغاثة ومتطلبات النازحين العاجلة واحتياجات التنمية الاقتصادية.
أما النظام، والذي يواجه حالة من الاستعصاء، فقدْ فَقَدَ القدرة على مواجهة الأزمات ويحاول استخدام ما أتيح له من أدوات علَّها تسهم ولو بحدها الأدنى في تخفيف وطأة هذه الأزمات مرحليًّا، ولجأ عبر قرارات متتالية إلى التخلي تدريجيًّا عن الدعم المخصص للمواد الأساسية كالخبز والوقود وغيرها من المواد، في محاولة منه لتحميل الشعب أعباء العجز في الموازنة العامة فيما يرتبط بمخصصات الدعم، ما زاد من احتقان المواطنين وصولًا لمرحلة الاحتجاجات إزاء ذلك بسبب زيادة الأعباء المعيشية عليهم(9).
ثانيًا: بيئة أمنية هشة، تنعكس سلبًا على البنية المجتمعية المرهقة من عشر سنوات من الصراع. ففي شمال غرب سورية، تتعرض البنية السورية للعديد من الضغوط الامنية جراء استمرار عمليات الاغتيال والتفجير وعمليات الاقتتال ما بين الفواعل الأمنية، حيث شهدت المنطقة محاولتي تمدد لـ"هيئة تحرير الشام، الأولى في يونيو/حزيران 2022 وذلك بإرسال الهيئة لقوة مساندة لـ"أحرار الشام" عقب نشوء اقتتال فصائلي بين هذه الأخيرة و"الجبهة الشامية"، وذلك قبل أن تنسحب الهيئة بعد وصولها لحدود منطقة عفرين. والمحاولة الأخيرة قامت بها في تشرين الأول 2022 بمساندتها لفصيل "الحمزات" إثر اشتباكه مع الفيلق الثالث. ويأتي هذا الاقتتال في سياق غياب جهة مركزية أمنية أو عسكرية في مناطق سيطرة "الجيش الوطني"، الذي يشهد في التشكيلات المنضوية تحت رايته، اندماجات وانقسامات بين الحين والآخر(10).
أما في المنطقة الجنوبية، فلا يزال أهالي المحافظة يتعرضون لعمليات اغتيال بدوافع سياسية منذ التسوية الأمنية الأخيرة في سبتمبر/أيلول 2021. شهدت المحافظة عمليات اغتيال لعدة شخصيات أمنية وسياسية وحقوقية مختلفة، وصلت في شهر يوليو/تموز 2022 إلى ما لا يقل عن 32 عملية(11). كما عكست المواجهات بين مجموعات محلية و"قوات الفجر" في محافظة السويداء رغبة محلية بمواجهة "النفوذ الإيراني" المتنامي؛ إذ لطالما ولا يزال يسعى النظام وحليفه الإيراني إلى "تغذية" سردية الفوضى والاقتتال البيني بهدف جعل المحافظة مسرحًا خصبًا لتضخيم دوره "الضامن للتوازن المحلي"، وإطارًا داعمًا لهندسة "إعادة التموضع الإيراني"(12).
ويتعرض المجتمع في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية لعدة ضغوط أمنية، ففي 2020، أوضحت عملية أمنية مركبة أقدم فيها تنظيم داعش على الهجوم على سجن غويران "لتحرير سجنائه"، مستوى الهشاشة وحجم الثغرات في بنية قوات سوريا الديمقراطية(13)، كما انعكست أحداث الحسكة والقامشلي وما رافقها من توترات أمنية وصلت إلى حصار متبادل لبعض المواقع واشتباكات محدودة سلبيًّا على مؤشر الاستقرار المحلي(14).
ثالثًا: استعصاء مسار جنيف ومضي في مسار أستانة، حيث أضحت اللجنة الدستورية منذ انطلاق جولاتها حتى الجولة التاسعة، مساحة مناورة وتعطيل للمسار السياسي قبل أن تعلن موسكو إيقاف عمل اللجنة ورفض انعقادها في مدينة جنيف، وذلك على خلفية المواقف الأوروبية من الغزو الروسي لأوكرانيا. وإذا كانت مبادرة المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسن، "خطوة بخطوة" نقطة تحول كما يراها(15) فإن مسار أستانة بالمقابل لا يزال مسار تفاهم أمني بين موسكو وأنقرة وطهران؛ إذ استطاعت روسيا وضع ورقة إضافية على طاولة مفاوضات سوتشي، ألا وهي دفع عجلة التواصل بين تركيا والنظام خطوةً أولى للحل السوري؛ وهو ما تقاطع مع الضغوطات التي تتعرض لها أنقرة من أحزاب المعارضة التركية بخصوص الملف السوري، واستتبع ذلك سياسات ضاغطة على الوجود السوري في تركيا لاسيما فيما يتعلق بحاملي "الإقامة المؤقتة".
أسهم الزلزال الذي ضرب مناطق في تركيا وسوريا، في 6 فبراير/شباط 2023، وما أعقبه من حملات محلية تضامنية في بلورة انطباع قصير المدى تجاه مفهوم التعاضد الاجتماعي(16) والذي تجلى في: المساندة المادية والمعنوية، الفردية والجماعية دون الاكتراث بأي انقسام. الاندفاع نحو العمل التطوعي والانخراط المجتمعي عبر تشكيل سكان المدن والبلدات الأقل تأثرًا بكارثة الزلزال في سوريا لفرق ومجموعات شبابية تطوعية للمساهمة في عمليات الإنقاذ والاستجابة في المناطق السورية. إضافة إلى مسألة الثقة وتعزيزها بين السوريين بشقيها الاجتماعي والمؤسساتي. لقد حفز ما أظهره "رأس المال الاجتماعي السوري" من أبعاد كالتواصل والتكافل والتعاون المرتبطة بصورة أساسية بروابط القرابة مثل الأسرة والعائلة والصداقة والجيرة والعشيرة، في إعادة طرح أسئلة المجتمع المهشم واحتمالية النهوض مجددًا.
صحيح أنه يمكن اعتبار حركة المجتمع واستجابته العابرة لبعض مناطق سلطات الأمر الواقع دليلًا على فعل جمعي تضامني نابعًا من التمسك بهوية سورية مشتركة في أوقات الأزمات والكوارث الطبيعية، إلا أنه وبذات الوقت، عدم قدرة تلك الاستجابات على أن تكون متكررة وأكثر شمولًا، فيمكن اعتبارها تكريسًا للانقسام القائم. كما لا يمكن اعتبار التضامن أو النشاط الإغاثي كافيًا للدلالة على تجاوز معوقات الهوية الوطنية السورية أو إعلانًا مجتمعيًّا بالرغبة بمد جسور التواصل البينية بما يتجاوز الأزمات المُركبة السابقة لها، وما أضيف إليها من تعقيدات خلال السنوات العشر الماضية، ويعود ذلك إلى عدة نواحٍ لابد من أخذها بعين الاعتبار(17):
أولًا: استجابة الناس في مواجهة الكارثة الطبيعية تختلف عن استجابتهم -وحتى تضامنهم- في مواجهة الكوارث ذات البعد البشري (كالقصف مثلًا)، رغم أن كليهما قد يوصلان إلى نتائج متقاربة من حيث المبدأ لا الكم، من خسائر في الأرواح والممتلكات والبنى التحتية ناهيك عن الفزع والرعب والحالة النفسية.
ثانيًا: يعتبر عاملا "الأدلجة" و"التسييس" عاملين مهمين لا يمكن تجاوزهما حتى في سياق الاستجابة للكوارث؛ ففي حين أن التعاطف الإنساني يكون في ذروته؛ تستطيع الحكومات ووسائل الإعلام تجيير تلك اللحظات الانفعالية لدى الشعوب لتمرير أجندات تخدمها، وقد بدا ذلك جليًّا على النطاق السوري في سلوك النظام الذي استخدم الزلزال فرصة ليستغل عاطفة الناس في الدفع بحملة شبه مُنظمة للمطالبة برفع العقوبات عنه، رغم عدم تعارضها مع المساعدات الإنسانية.
ثالثًا: تختلف الأيام الأولى دومًا عما بعدها، فالشعور بالكارثة والتهديد يجمع ويؤلف ويوحد، لكن التجربة الإنسانية أثبتت القدرة على الاختلاف على التفاصيل مع مرور الوقت بما قد يعيق العمل المشترك ويقلل بالتالي من فرص الالتحام الوطني.
لا شك أن الاستجابة السورية كانت لافتة، إلا أن هذه المرونة والعملياتية في مواجهة المأساة ليست بالضرورة اللحظة الفارقة التي تثبت استعداد السوريين لإنهاء ما خلَّفته عقود من الاستبداد والتفرقة والتهميش، ومما عقد المشهد الاجتماعي هذا هو تركيز استثمار بعض الدول على هذه الكارثة لإعادة مد جسور التواصل مع النظام وليس مع متطلبات التماسك الاجتماعي في عموم سوريا. وبالتالي غياب قضية معالجة التهشم المجتمعي عن مسارات التواصل تلك، والتي تسارعت بطبيعة الحال بحكم الزلزال، وهي نتاج سياق مرتبط بمسارين: يرتبط الأول بحراك عربي تزداد وتيرته وتتمايز أدواره بين دافع ومنتظر ورافض، بينما تعود أسس المسار الثاني إلى توافقات سابقة بشأن "تجميد النزاع" في شمال غربي سوري بين كل من روسيا وإيران وتركيا، إضافة لتطورات نجمت عن تقلبات في المشهد الدولي. ووفقًا لطبيعة هذين المسارين فإنهما تجاوزا معادلة "إزاحة الأسد" إلى النظر في المشتركات والمصالح الإقليمية التي من شأنها أن تعلي من دينامية "التواصل الإقليمي" ومتطلباته وتفصله عن مسار الحل السياسي. وهو الأمر الذي يعزز من فرضية أن التطبيع يهدف إلى التكيف مع سردية النظام وطريقة فهمه للمجتمع السوري المتجانس.
مع تصلب الحدود الأمنية بين مناطق النفوذ وصعوبة التغيير في المدى المنظور في الجغرافيا العسكرية، واكتسابها بعدًا إداريًّا في ظل تعثر حوكمي وتنموي واضح لسلطات الأمر الواقع، وفي ظل الديناميات الناظمة للملف السوري؛ فإن المشهد السوري يسير باتجاه أحد السيناريوهات، وكل منها له تأثيره الخاص على طبيعة ووجهة المجتمع السوري المهشم:
مما لا شك فيه أن البنية المجتمعية السورية الراهنة في ظل هذه السيناريوهات ستبقى تعاني من التهشم والتعرض للأخطار والمهددات التالية:
تؤكد هذه الأخطار احتمالية انتفاء الدور المجتمعي والحامل الاجتماعي الداعم لسياسات الاستقرار وإعادة البناء، وهذا بدوره يؤكد الحاجة إلى التجسير المجتمعي وخلق نقاشات عابرة للانقسام الأمني الحاصل، بما يقوي من جهود العقد الاجتماعي من جهة، ويقوي الروابط الاجتماعية التي أتلفتها الحرب من جهة ثانية.
بعد سِني التهميش التي عاشها المجتمع السوري في ظل سياسات حزب البعث، يعيش المجتمع السوري تجربته الأقسى في اختبار وحدته ولحمته منذ بدء الصراع السوري؛ حيث ازدادت مؤشرات تفسخه وانقساماته الأفقية والعامودية سواء على مستوى البنية الديمغرافية أو على مستوى الهوية الوطنية. كما أسهمت ديناميات الصراع وسياسات الفواعل المحلية في زيادة كلف الاستنزاف المجتمعي، سواء كانت كلفًا اقتصادية خلَّفت مجتمعًا بكليته تقريبًا دون خط الفقر أو كلفًا إنسانية وضعته أمام واقع يكرس مجتمع المخيمات واللجوء ويضعف أو يغيب ديناميات ووسائل الضغط في ملفات الاعتقال والاختفاء القسري وحقوق الإنسان. وعلى الرغم مما تعرضت له هذه البنية من استنزاف، فإن السيناريوهات المرتبطة بالمشهد السوري تزيد من صعوبة استرداد دور الحامل الاجتماعي الوطني الداعم لقضايا الاستقرار والتي ستكون التحدي الأبرز أمام الشعب السوري بكل مكوناته الاجتماعية، لإعادة تشكيل بنيته وذاته الوطنية وصيانتها بشكل عابر لحدود الصراع المحلية.
المصدر:
مركز الجزيرة للدراسات: https://bit.ly/4238Csz
بتاريخ 01/06/2022؛ قدم الزميل في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية نادر الخليل تصريحاً لصحيفة عنب بلدي، ضمن تقرير صحفي بعنوان "إجراءات تركيا تجاه اللاجئين تدفع بعضهم إلى الحدود اليونانية"، بيّن فيه الزميل بعض الأسباب التي أدت لتزايد الأوضاع الصعبة للاجئين؛ منوهاً لآثار غياب الفاعلية لمؤسسات المعارضة وارتداته على تفاقم هذه الأوضاع حالات الاعتداء على اللاجئين، موضحاً كيف أثر ذلك على جعل القضية السورية قضيةً "منسية" تنتظر أدواراً سورية ناجعة.
بعد انطلاق الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، بدأت التحركات في خارج سوريا من ناشطين وشخصيات عُرِف بعضهم بمعارضته لنظام الأسد الأب والابن، وكان هدف تلك التحركات تشكيل جسم يعكس مطالب الحراك الشعبي، وينظِّمه، ويؤمِّن شبكة تواصل مع الدول والفاعلين الدوليين في محاولة لعزل نظام الأسد دوليًّا وتأسيس بديل رسمي عنه.
كان المجلس الوطني الذي أُعلن تأسيسه في أكتوبر/ تشرين الأول 2011 نتاج جزء من هذه التحركات، وهو تجمع لعدة قوى تقليدية وحديثة النشوء، أبرزها الحراك الثوري، ربيع دمشق، حركة الإخوان المسلمين وكتلة المستقلين الليبراليين، وبعد سنة من تأسيسه أُعلن عن تشكيل الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، بصفته كيانًا يشمل المجلس الوطني وقوى ثورية أخرى، مثل لجان التنسيق المحلية ورابطة العلماء السوريين.
هل المعارضة معطوبة الذات؟
ما يميّز حراك الثورة السورية -علاوة على أنه حراك محقّ ضد نظام سلبَ السلطة واحتكرَ الفضاء المدني والسياسي في الدولة، وشوّه البنية الاجتماعية والقانونية في البلاد- أنه كان بواسطة شباب لا يملكون رصيدًا سياسيًّا ولا حزبيًّا، ولا حتى ذاكرة ملمّة بما يكفي بالمجازر المخيفة التي فعلها الأسد الأب، بل كان حراكًا هدفه التخلُّص من حكم العسكر ونيل الحرية اقتداءً بباقي بلدان الربيع العربي.
ولكن على الجانب الآخر من هذا الحراك، كان هناك شخصيات أُثقلت بمحاولاتها غير الناجحة لمعارضة نظام الأسد طيلة 40 عامًا، وشخصيات ظهرت دون رصيد سياسي دافعها التغيير القادم في سوريا، ولسنا بصدد دراسة أسباب فشل وعثرات ذلك الحراك، ولكن ما يهمّنا الأفكار التي وصلت إليها تلك الشخصيات لحظة انطلاق الثورة السورية.
كان انطلاق الثورة ومظاهراتها الشعبية مفاجئَين للنظام والشخصيات المعارضة على حدّ سواء، فلم يتبنَّ الحراكُ الشعبي الأدواتَ التقليدية التي حملتها "المعارضة" السورية في مراحل ما قبل الثورة، بل جاء بأساليب لإدارة حراكه وتنظيمه وتقديم مطالبه التي لم تُرضِ عددًا من تلك الشخصيات، كونها أدوات "غير ناضجة"، ولا يمكن أن تتحرر البلاد أو تُستبدل الأنظمة بحراك شعبي وهتافات رغم تنوع أساليبها وتوزُّعها الجغرافي الممتد.
ولكن أمام توسُّع جغرافية المظاهرات وعنف النظام المتسارع اتجاهها، وجدت الشخصيات المعارضة نفسها أمام واقع يجب أن ينعكس على الصعيد السياسي بواسطة حراك أكثر تنظيمًا وفاعلية، فحاولت تشكيل الكيانات المعارضة، ولكن لم تكن تلك الكيانات مشكّلة بمعزلٍ عن الخلافات التاريخية الممتدة من بعض الأشخاص أو الجماعات.
هذا فضلًا عن مؤشرات وضعتها هذه الشخصيات لتكون مقياسًا للتمايز، وأحقية التمثيل في تلك الكيانات تعتمدُ على مدّة التاريخ النضالي ضد النظام، وعدد سنين الاعتقال وتكرارها، ما جعل بدايات تشكيل الكيانات سباقًا لإثبات الوطنية بمؤشرات سائلة وليست بأدوات تتماشى مع حجم التضحيات التي كانت تكبر يومًا بعد يوم في سوريا، بمعزلٍ عن هلامية كثير من الأسماء المتصارعة خارجها.
لم تكن فترة البدايات (2011-2012) محدِّدة لعلاقة الشارع الثوري مع الأجسام المعارضة فحسب، بل أسّست لأسلوب عمل مكونات تلك الأجسام فيما بينها أيضًا حتى هذه اللحظة، إذ أصبح مفهوم الاستقرار لديها مرتبطًا بإرضاء تلك المكونات، وتحقيق التمثيل المناسب لكل مكوِّن.
وكلمة "مكوِّن" في هذا السياق لا تشير إلى التنوع الجغرافي أو القومي أو الإثني، ولكنها تشير إلى الجماعات والأشخاص وحجم تمثيلهم في الأجسام حتى لو لم يكن متوافقًا مع شرعيتهم وشعبيتهم في مناطق الثورة، ويُضاف إلى هذه التركيبة للمعارضة البُعد الإقليمي والدولي لبعض شخصياتها وجماعاتها.
بعد أحداث الثمانينيات الدامية التي شهدتها سوريا في القرن الماضي، كان المنفى بمثابة المأوى لشخصيات كثيرة وجماعات فرّت خوفًا على نفسها من بطش الأسد بعد توحشه على مدينة حماة وعلى كل معارض له، فانعكست إرادة الدول التي احتضنت المعارضين والجماعات على سلوك تلك الجماعات خلال سنين الثورة، مثل توسعة الأجسام والاستقالات وبعض التحركات السياسية والمطالبات، ما جعل القرار الوطني منقوصًا ومشوهًا وغير قادر على الوصول إلى إرادة موحّدة سياسية، إذ إن الإرادة كانت مرآة لصراع مصالح تلك الدول في سوريا.
مسارات عبثية وبوصلة ضائعة
جاء التبلور المبدئي لأجسام المعارضة تمهيدًا لبدء مسارات سياسية استمرت لعدة سنوات، استندَ بعضها في البداية على قرارات أممية ولكن تقلّصت فاعلية تلك المسارات لاحقًا، إما بسبب عبثية النقاشات التي دارت حولها وداخلها من طرف النظام، وإما بسبب تشكُّل أجسام معارضة جديدة مثل منصة موسكو ومنصة القاهرة، ما أفضى في النهاية إلى انعقاد مؤتمر سوتشي عام 2018 تحت مظلة روسية وغياب أجسام معارضة عديدة عنه.
بعد انعقاد مؤتمر سوتشي في يناير/ كانون الثاني 2018، والذي تزامن مع اشتداد الحملة التي شنّها النظام السوري على قرى وبلدات الغوطة الشرقية، والتي انتهت بتهجير أهلها إلى الشمال السوري في شهر مارس/ آذار من العام نفسه؛ شُكِّلت لجنة مهمتها إعادة كتابة دستور، والتمهيد لإجراء "انتخابات ديمقراطية"، إذ رفضت الهيئة العليا للمفاوضات بدايةً قرار تشكيل اللجنة، مؤكدة على مرجعيتها في مؤتمر الرياض، وأن موسكو تسعى للانفراد بالحل السياسي خارج إطار الشرعية الأممية، محاولة نسف جهود المجتمع الدولي للتوصُّل إلى حل سياسي يضمن للشعب السوري حريته وكرامته، ولكن هيئة المفاوضات غيّرت موقفها لاحقًا ووافقت على فكرة اللجنة الدستورية، وبدأت جولاتها الستة التي استمرت 3 سنوات ونصف السنة إلى الآن.
بدأت أولى الجولات بطلب وفد النظام بأن تنعقد الجولات القادمة في دمشق، ولكن قوبل هذا المقترح بالرفض من وفد المعارضة، حينما أصرَّ رئيس وفد النظام على أن الخيار العسكري سيبقى قائمًا متزامنًا مع مسار اللجنة الدستورية حتى استعادة الأسد الأراضي السورية كلّها.
اقتصرت الجولات اللاحقة على مقترحات من قبل وفد المعارضة وإصرار وفد النظام على مناقشة "المبادئ الأساسية والركائز الوطنية"، وقضية الإرهاب وإدخال وفد النظام لمفهوم "سيادة الدولة" ومناقشته كشرط للاستمرار في صياغة الدستور، إذ لا يُمكن الدخول في كتابة المواد الدستورية قبل مناقشة مواضيع السيادة والوجود الأجنبي، وهي مواضيع ليست متعلقة بالدستور، ولكن حاول النظام بوساطتها تثبيت سيناريو التجميد السياسي لكسب الوقت، محاولًا إعادة السيطرة على المناطق الخارجة عن سيطرته.
احتوى مسار اللجنة الدستورية كاملًا على عدة تساؤلات لم تُجب عنها الجولات التي انعقدت، أهمها هل المشكلة في سورية مشكلة دستورية ذاتًا، ويتطلب حل القضية السورية وجود دستور جديد، علمًا أن دستور الأسد الحالي يحتوي على مواد متعلقة بالحريات والتعددية الحزبية، رغم غياب آليات تنفيذه وعكسه على سلوك الأسد تجاه شعبه؟
ومن جانب آخر لم توضِّح اللجنة الدستورية كيف سيقرَّر الدستور إذا ما كُتب، وهذا يؤدي بالضرورة إلى إمكانية غياب الإرادة الشعبية بواسطة استفتاء يُفضي إلى إقرار الدستور أو رفضه، وهل سيبقى الدستور في حال كتابته معلقًا حتى إنهاء باقي السلال الأخرى المتعلقة بتشكيل حكم غير طائفي وإجراء انتخابات حرة ونزيهة؟
ويشير د. ياسر العيتي، وهو سياسي وكاتب سوري، إلى أن المسار الصحيح للعملية السياسية هو الذي رسمه القراران الدوليان 2118 و2054، وهو يقضي أن يبدأ الانتقال السياسي بتأسيس هيئة حكم انتقالي تؤمن بيئة آمنة، يتمّ فيها وضع دستور جديد والاستفتاء عليه ثم إجراء انتخابات وفق الدستور الجديد.
ويتابع قوله بأن اللجنة الدستورية لم يَرِد لها أي ذكر في القرارات الدولية، وهي أحد مقررات مؤتمر سوتشي الذي قاطعته المعارضة السورية ممثلة بالهيئة العليا للمفاوضات، ثم وافقت على أحد مخرجاته وهو أن اللجنة الدستورية أقدمت في سابقة لا مثيل لها في العمل السياسي على مقاطعة مؤتمر ثم الموافقة على مخرجاته.
وأشار العيتي في سياق كلامه إلى تصريح المبعوث الروسي ألكسندر لافرنتييف في ديسمبر/ كانون الأول 2021، حيث قال: "كتابة وإعداد دستور جديد ينبغي ألا يهدفان إلى تغيير السلطة في دمشق"، وأوضح أن حكومة النظام السوري "راضية عن الدستور الحالي، ولا ترى ضرورة لإحداث أي تغيير فيه، وإذا سعى طرف ما وضع دستور جديد من أجل تغيير صلاحيات الرئيس وبالتالي محاولة تغيير السلطة في دمشق، فإن ذلك الطريق لن يؤدي إلى شيء".
ثورات تجدِّد نفسها
لم يعد يخفى على عين المراقب أو الناشط في الواقع السوري بؤس حالة الأجسام السياسية التي ما زالت متمسكة بخيارها وأدواتها التقليدية وآلية عملها الداخلية التي لم تُجدِ نفعًا، بل أضرّت القضية السورية بتمييع المطالب، وحالة الفراغ المملوء بالفساد والمحسوبيات واللاجدوى بين الحراك الشعبي والأجسام السياسية، إذ أصبحت محاولة "الممارسة السياسية" وصمة عار، ومسمّى "سياسي" مقترنًا بالسذاجة والمراوغة، ما عزّز سعي الأنظمة الديكتاتورية في شيطنة العمل السياسي وتشكيل القيود النفسية في المشاركة في أية عملية سياسية.
واعتبر د. العيتي أن الممارسة السياسية تكمن أهميتها بأن يكون للسوريين صوت يمكن إيصاله إلى العالم، وهي ضرورة وليست ترفًا، وطالما المعارضة الرسمية ممثلة بالائتلاف والهيئة العليا للتفاوض لا تعبِّر عن صوت السوريين بمقدار ما تراعي مصالح الدول الراعية لها، لا بدَّ من أن يفكّر السوريون الأحرار بتشكيل كيانات سياسية تعبِّر عن صوتهم، وتضغط على المعارضة الرسمية لتصحِّح المسار أو تشكّل بديلًا عنها.
وختامًا، للقضايا والثورات أيادٍ لن تستطيع النهوض إلا بها، فالعمل السياسي يعطي زخمًا دوليًّا للحراك الشعبي، والعمل العسكري يعطي العمل السياسي أوراق ضغطٍ في مساراته، وأيّ خلل في العلاقات تلك تؤدي إلى أن يُصبح الصوت دون صدى، والمفاوضات مهزلة مستمرة، والثورات الحقيقة هي التي تؤهّل أبناءها وتصنع النخب ولا تستقدمهم من التاريخ.
المصدر نون بوست: https://bit.ly/3qTCBUn
بتاريخ 24 أذار 2022، عقد مركز عمران للدراسات الاستراتيجية جلسة حوارية بعنوان "أدوات وأساليب الصراع مع النظام بعد أكثر من عقد على الثورة"، في الداخل السوري، حضرها عدد من الفاعلين والناشطين في المجتمع المدني والسياسي.
استعرضت الجلسة في محورها الأول توصيف لأهم المراحل التي مرت بها الثورة السورية من السلمية مروراً بالعسكرة وما شهدته من تدخلات دولية (إيران،روسيا)، وصولاً لمرحلة الجمود والاستعصاء السياسي. كما ركز المحور الثاني على أهم الطرق والأدوات والوسائل المتبعة في سياق الحراك الثوري السوري، إضافة إلى المحطات الدولية التي مر بها الملف السوري وأثرها على المسار السياسي، وما رافقها من تحولات عسكرية ساهمت في تشكل مناطق نفوذ مختلفة،إضافة للتطورات في الأجسام والبنى التنظيمية السياسية. فيما ناقش المحور الثالث توصيات تهدف لتطوير أدوات تنظيم العمل السياسي والمدني وتفعيل دور النقابات وأساليب الرقابة والمحاسبة.
تتعدد المقاربات الإقليمية المطروحة لسورية، ولكنها تتقاطع في تأكيدها على تقوية الدولة على حساب المجتمع، والدمج الإقليمي كمدخل لإعادة الاستقرار لسورية، في حين أن المراد إطار إقليمي يصون الدولة، ولا يلغي الشروط المحلية المهيئة للاستقرار.
مقاربة الدمج الإقليمي واستعادة الدولة
يمكن تأطير وجهات النظر المفسرة لإندلاع الحركة الاحتجاجية في سورية عام 2011 في تيارين، يعتقد الأول بأنها نتاج لعوامل داخلية مركبة تتصل باستعصاء النظام السياسي المركزي، وعطالته في إدارة الدولة وتمثيل المجتمع، ويجدون حججهم في متوالية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت وما تزال بسورية منذ إنقلاب البعث عام 1963، في حين يعتقد التيار الثاني بأن الحركة الاحتجاجية مجرد انعكاس لانهيار النظام الإقليمي وتآكل الدولة السورية، وتحولها من فاعل إقليمي إلى ساحة لتنافس القوى الإقليمية والدولية.
يجد هذا الانقسام تعبيراته في نظرة مؤيدي كل منهما لمصدر الشرعية وكيفية تسوية “الأزمة” السورية، إذ يؤكد الأول على حل سياسي يؤسس لإنتاج منظومة سياسية شرعية من وجهة نظر السوريين، دون أن يلغي دور الإقليم والمجتمع الدولي كحواضن ضرورية لإنجاح هذا الاتفاق. في حين يعتقد التيار الثاني بأن الحل يكمن في تقوية الدولة على حساب المجتمع السوري، ودمجها في محيطها الإقليمي لتوفير شرعية خارجية، تساعدها في معالجة التحديات الداخلية التي تعترضها.
تعتبر روسيا أبرز ممثلي التيار الثاني، حيث تواصل جهودها لإعادة فرض سيطرة النظام على كامل الجغرافية السورية، كذلك الدفاع عنه في المحافل الدولية، من منطلق روايتها المتمركزة حول حماية الدولة واستعادتها، والدفاع عن ممثلها الشرعي وهو النظام السوري. ترى موسكو بأن إعادة دمج النظام في محيطه الإقليمي، من خلال ترتيبات أمنية ثنائية أو متعددة، كذلك إعادة دمجه في جامعة الدول العربية، سيوفران شرعية وغطاء سياسياً، يساعدان سورية في معالجة تحدياتها الداخلية، وتبعاً لذلك يقع الانتقال السياسي الجدي خارج التفكير الروسي.
أيضاً، يتبنى عدد من الدول العربية هذه المقاربة بشكل أو بآخر، يظهر ذلك في مشروع “الشام الجديد”، الذي عبر عنه بشكل صريح رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي خلال زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية في أيلول 2020، حيث يستند المشروع إلى دراسة أعدها البنك الدولي عام 2014 بعنوان ” Over the horizon: A new Levant”، لتشكيل تكتل اقتصادي بين دول مصر والعراق والأردن، علماً أن سورية ليست بعيدة عن هذا المشروع، سيما مع إعادة تفعيل اتفاق نقل الغاز المصري إلى لبنان عبر الأردن وسورية. بحسب محللين، فإن للمشروع أهداف غير ملعنة تتمثل بتعزيز كيان الدولة، في ظل ما تواجهه من تحديات اقتصادية واجتماعية وجيوسياسية أمنية متنامية، سيما في سورية التي تتهددها مخاطر وجودية، كذلك فإن دمجها من جديد في إطار إقليمي عربي تقوده مصر، يمكن له أن يخفف من التأثيرين الإيراني والتركي في سورية، وبالتالي توفير استقرار سياسي من نوع ما.
درعا ساحة للاختبار
تعتبر درعا مثالاً يمكن من خلاله اختبار فرضية مدى قدرة الدمج الإقليمي، واستعادة الدولة على جلب الاستقرار لسورية، فهي ميدان لترتيبات تنفيذ اتفاق خط الغاز العربي، وبوابة تريدها روسيا لتطبيع علاقات النظام مع محيطه. اكتسبت درعا والجنوب السوري عموماً أهمية أكبر، مع إعادة تفعيل اتفاق خط الغاز العربي، وما تبعها من اتصالات ولقاءات سياسية بين مسؤولي النظام ومسؤولين عرب وأجانب، وما عناه الاتفاق بشكل أو بآخر من دمج النظام السوري في ترتيبات إقليمية ذات طابع اقتصادي، بعد مقاطعة استمرت لسنوات.
صحيح أنه ما يزال مبكراً الحكم بشكل نهائي على مآلات الدمج الإقليمي لسورية، ولكن بحسب المعطيات القائمة، يمكن القول بأنه مسار غير واعد في ظل المعطيات القائمة.
تندرج مبادرة الدمج الإقليمي ضمن سياسة “الخطوة خطوة”، واستمراريتها مرهون بمدى تجاوب النظام وتقديمه لتنازلات ملموسة للخارج، ولا يبدو بأن النظام مقبل على ذلك طالما يشعر بأنه منتصر، وأن على الدول الأخرى تقديم تنازلات له دونما اشتراط مقابل، فضلاً بأن إيران لن تبقى في موقف المتفرج على مسار يتهدد نفوذها في سورية، إذ تبقي على أذرعها المحلية في الجنوب السوري للتخريب، وما يتضمنه ذلك من استمرار الجنوب كساحة للتشابك الإيراني- الإسرائيلي، كذلك كميدان لملواجهة مع المجتمعات المحلية الرافضة للتواجد الإيراني.
أيضاً، لم تجلب عودة الدولة إلى درعا الأمن والاستقرار لها كما يروج، إذ تم الاتفاق على حساب السكان المحليين، دونما مراعاة لمطالبهم بل تطلب تمرير الاتفاق سحقها وفرض تسويات بالقسر.
يدلل على ما سبق مظاهر التدهور التي تعيشها المحافظة أمنياً وخدمياً، حيث تتواصل عمليات الاغتيالات والتي قدرتها مادة صحفية على موقع سورية على طول بحوالي 138 محاولة اغتيال بين أيلول و26 كانون الأول 2021، كذلك عجز مؤسسات الدولة عن توفير الخدمات الأساسية في ظل افتقادها للموارد اللازمة، وترهل أجهزتها بسبب الفساد والبيروقراطية وتدخل الأجهزة الأمنية فيها، لتبقى وعودها وخططها حبراً على ورق، ولتدفع السكان للاعتماد على مبادرات محلية لتسيير شؤونهم كما في مواجهة أزمة كوفيد 19. أيضاً، ما تزال تجارة المخدرات وتهريبها ناشطة رغم عودة “مؤسسات الدولة الرسمية” لإدارة معبر نصيب، وانتشار أجهزة النظام الأمنية في المحافظة.
الحل: إطار إقليمي يكرس محلياً
مما لا شك فيه بأن سورية تحتاج إلى إطار إقليمي ودولي، يحد من مخاطر إنزلاق الوضع فيها إلى الانهيار التام للدولة والمجتمع، مع تواصل التنافس الجيوسياسي عليها، قادر على معالجة أو التخفيف من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية. يبدو بأن أطراف كالسعودية وتركيا ومصر مرشحة لتشكيل مثلث استقرار إقليمي كما يرى البعض، مؤهل بما يمتلك من ثقل اقتصادي وسياسي وشبكة علاقات مع مختلف الفاعلين من احتواء وإدارة الأزمة السورية، وفتح قنوات وساطة وحوار مع مختلف الفاعلين المنخرطين في الساحة السورية.
تتلاقى الدول الثلاث بأن لها مصلحة في استقرار سورية، ويمكن استثمار ذلك في ظل مساعي التهدئة الإقليمية لتوفير غطاء سياسي لإطلاق مبادرات في الساحة السورية، يتم من خلالها استكشاف مدى إمكانية توسيع حدود التعاون فيما بينهم سورياً وإقليمياً، مستثمرين علاقاتهم وإنخراطهم مع مناطق النفوذ، لرعاية مبادرات تتركز على التعافي الاقتصادي، الموجه محلياً والجامع بين مناطق النفوذ لمعالجة ملفات مهيئة على الاستقرار، طالما أن أمريكا وروسيا لا تمانعه راهناً. صحيح أن هنالك تحديات ليست هينة تواجه إنبثاق المثلث الإقليمي، إلا أنها تبقى الدول المرشحة لضمان استقرار الإقليم عبر البوابة السورية.
المصدر: السورية نت
مع بدايات ظهور تنظيم “داعش” في سورية، بدأت التقارير الدولية تشير إلى تعاون اقتصادي بينه وبين نظام الأسد، وخاصة في المجال النفطي، ممازاد من ثروة التنظيم وقدرته على تمويل نفسه من جهة، وقدرته على فتح المعارك مع الجيش السوري الحر والاستيلاء على مناطق كانت حُررت سابقاً من سيطرة نظام الأسد من جهة أخرى.
أما على صعيد كوادر التنظيم، فقد أفرج نظام الأسد عن عدد من المتطرفين المعتقلين في سجونه والذين تزعموا لاحقاً مناصب في التنظيم، مثل علي موسى الشواخ (أبو لقمان) وغيره كثير، ولم تكن العلاقة بين الأسد وداعش علاقة أحادية الجانب، بل ساهم التنظيم بمساعدة الأسد بالسيطرة على أماكن كان يتواجد فيها التنظيم ولكنه انسحب منها بشكل مفاجئ، كما حدث في تموز 2014 عندما انسحب من الضواحي الشمالية لحلب في الوقت الذي كان فيه النظام يقاتل ويحاول الالتفاف على فصائل الجيش الحر المتواجدة في المدينة، وكانت نتيجة هذا الانسحاب أن الجيش الحر حوصر من ثلاث جهات من قبل جيش الأسد.
كل هذه الحقائق والوقائع غالباً ماتكون غائبة أو مغيَّبة طواعية عن ذهن كثير من المفكرين الغربين المهتمين بسلوك وتطورات الجماعات المتطرفة، ففي مقالته الأخيرة بعنوان ( Resistance Is Futile) أي المقاومة بلاجدوى، تحدث توماس هيغهامر عن نمو الجماعات الإرهابية وتَغُير أسلوبها وآلية تصدي الحكومات لخطر هذه الجماعات، و اعتبر أن “الحرب الأهلية السورية” حسب وصفه، أعطت فرصة لتنظيم داعش بالتمدد في سورية، وتشكيل ولاية له فيها، وأعتبر أن سورية أصبحت مركز عالمي للإسلام المتشدد وجذبت أهل السنة حول العالم للقتال مع المتمردين أو التطوع للقتال ضمن تنظيم داعش.
في مقالته لم يتطرق الكاتب أبدا إلى دور الأنظمة الاستبدادية في تغذية ودعم الجماعات الإرهابية بهدف جلب الدعم الدولي للقضاء على تلك الجماعات التي شكلوها و الثورات الشعبية في آن واحد، وهنا يظهر دور “المستشرقين الجدد” في تعميق جذور الدول الديكاتورية في العالم العربي، حيث سعى المستشرقون القدامى في جزء من كتابتهم إلى تبرير الاحتلالات الغربية و تجميل دورها في الدول التي دمرتها واحتلتها، أما المستشرقون الجدد كان دورهم أعتى وأكثر لؤماً اتجاه الشعوب العربية، حيث أنهم تناسوا فظائع المحتل الخارجي والاستبداد الداخلي وتاريخه في دعم المتطرفين ابتداءً من الدعم الأميركي لأول الانقلابات العسكرية في العالم العربي وهو انقلاب حسني الزعيم مروراً باحتلال العراق وأفغانستان حتى ثورات الربيع العربي، فاستطاع هؤلاء المستشرقون الجدد تحليل أدق تفاصيل بنى هذه الجماعات وآلية عملها وتفكيك سياسات تجنيدها للمتطوعين ولكن تعطلت لديهم حاسة التحليل و الملاحظة عند الوصول إلى الأنظمة الاستبدادية.
ولم يقتصر دور المستشرقين الجدد على تحليل مجتزأ لواقع الشعوب العربية و مستبديها و الجماعات المتطرفة التي سُلطَت عليها، بل حتى دعموا سياسيات بعض الحكومات الأوروبية اتجاه المسلمين في أوروبا سواء المهاجرين منهم أو الأوروبين وقمعهم أو إيقاف نشاطاتهم الشعائرية تحت ذريعة محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه، حيث ربط توماس في مقالته بين سياسات الرئيس الفرنسي السابق فرانسو هولاند والتي أدت إلى إغلاق عدد من المساجد وملاحقة الدعاة وبين انخفاض عدد الهجمات والمؤامرات ضد الدول الأوروبية، مع أن سياسة فرنسا كانت ضد الإسلام كدين في تلك الفترة وحتى الآن وليس ضد ممارسات الأشخاص المتوقع انتسابهم للجماعات المتطرفة يناء على سلوكهم أو دعمهم المالي لها.
ولم يقتصر دور بعض المفكرين الغربيين على إهمال الحقائق بل تجاوزوا ذلك إلى تزويرها، ففقي كتابه (inside Syria- داخل سورية) يكتب ريز أرليخ عن أحداث السنوات الأولى من الثورة السورية بوصفه لها حرباً أهلياً ويُعيد تأليف رواية كاملة متعلقة بمجزرة الغوطة الشرقية في آب 2013 والتي حصلت نتيجة استخدام نظام الأسد للسلاح الكيماوي في قصفه ضد المدنيين في الغوطة، فاعتبر ريز في كتابه أن المجزرة حدثت نتيجة صراع داخلي في الغوطة بين الفصائل، وأن السلاح الكيماوي كان بيد جبهة النصرة وأنها هي من قصفت قرى الغوطة به، ليتجاهل بذلك التقارير الدولية التي أدانت استخدام نظام الأسد للسلاح الكيماوي وأفضت إلى قرار بتدمير ترسانته من هذا السلاح.
وختاماَ، في ساحة تحليل الظواهر والواقع سواء كحكومات أو جماعات أو سياسات، إن لم يوَصّف أبناء المجتمعات العربية واقعهم ويحللونه ويفككون بنيته بُغية شرحه وفهمه، فمن الطبيعي أن يأتي من يشرح الظواهر من وجهة نظر حكومات غربية تحاول أن تجد لنفسها مبرراً أخلاقياً ظاهرياً أمام شعوبها وأمام التاريخ لعدم التحرك من أجل إيقاف أنظمة مستبدة تقتل شعوبها، أو حتى من أجل تلميع صورة المستبد و إعادة تجميله ليكون أداة للمحتل من أجل ترويض الشعوب والسيطرة عليها، وتعزيز فكرة “قابليتها للاستعمار” كما وصف ذلك مالك بن نبي قبل ستين عاماً.
السورية نت: https://bit.ly/3rGu3kG
بتاريخ 07 تشرين الثاني 2021، عقد مركز عمران للدراسات الاستراتيجية جلسة نقاشية بعنوان (سورية بين التاريخ والمستقبل) قدمها الدكتور ياسر العيتي، في مدينة غازي عنتاب - تركيا، حضرها عدد من الناشطين والفاعلين في المجتمع المدني.
استعرضت الجلسة في محورها الأول أبرز التشوهات السياسية في تاريخ سورية الحديث، كما ركز المحور الثاني على الثورة السورية باعتبارها نقطة تحول في تاريخ سورية الحديث يبدأ التغيير منها ولا ينتهي عندها، فيما ناقش المحور الثالث الرؤى المستقبلية المستندة على المقومات الطبيعية والبشرية في سورية من أجل بناء المستقبل السوري.
مرَّ على سورية خلال عشر سنوات، شهدت خلالها حضور أربعة مبعوثين أمميين، تأمل السوريون أن يُساهموا بشكل أو بآخر في إنهاء مأساتهم، لكن جملة ظروف، دولية في غالبها، شلّت مهامهم، فلم يستطيعوا تحقيق أي اختراق يمكن أن يساعد في وقف الحرب وإحداث تغيير سياسي في سورية، وكانت فترة خدمة بعضهم فترة ثقيلة على السوريين، ومًثقلة بالخسائر البشرية، والتهجير والنزوح، وساهم بعضهم عبر استراتيجياته وسياساته بالتسبب بخسائر مفصلية للمعارضة السورية المسلحة، كما ساند بعضهم الأسد بشكل غير مباشر بعدم جرأته على الكلام عن جرائم النظام الكبرى، وجميعهم أشبعوا السوريين بالوعود الخلّبية، التي لم يتحقق منها شيئاً، لكن، جميعهم ارتكب أخطاءً كبيرة، ما كان يجب أن يرتكبها مُخضرمون لهم باع في حل الأزمات الدولية.
حقّق المبعوثون الأمميون إلى سورية سلاسل متتالية من الفشل، ولم يكن هذا الفشل شخصياً فقط، وإنما هو فشل للأمم المتحدة بشكل أساس، فشلها في إحراز أي تقدم ملموس في الملف السوري، وفشلها في إيقاف المقتلة وإيجاد حل سياسي، وفشلها في فرض قرارات يمكنها الحد من مستوى عنف النظام وداعميه، وتسبب هذا الفشل في وصف المبعوثين الدوليين من قبل المعارضة السورية بأنهم غير موضوعيين، أو متماهين مع النظام، أو مستهترين يحاولون كسب الوقت، ويقفون متفرجين على الصراع دون أن يستطيعوا قول كلمة حق واحدة بأن النظام السوري ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب السوري.
لاشك أن الدبلوماسي الغاني كوفي أنان، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، كان أفضل المبعوثين الدوليين إلى سورية، لأنه دفع نحو مبدأ الحل الواجب تنفيذه في سورية، وعقد مؤتمر جنيف 1، في 30 حزيران/ يونيو 2012، والذي وضع مبادئ وخطوط توجيهية لإنهاء الحرب والقيام بعملية انتقالية سياسية “تُلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري”، وأقرّ إقامة هيئة حكم انتقالية تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية وتمارس كامل السلطات التنفيذية، كما مهّد لاجتماع جنيف 2، في 22 كانون الثاني/ يناير 2014، والذي جمع النظام السوري مع المعارضة لمناقشة إمكانية تشكيل الحكومة الانتقالية ذات الصلاحيات التنفيذية الكاملة.
وقبل ذلك، وتحديداً في آذار/ مارس 2012، وضع كوفي أنان، المبعوث الأممي الأول إلى سورية، خطّة لإنهاء الحرب في سورية، لا تشتمل على دعوة الأسد للتنحي، وتألفت من ستة نقاط، أهمها: بدء عملية سياسية شاملة يقودها السوريون، ووقف جميع أعمال العنف المسلح، وتطبيق هدنة يومية للسماح بإدخال المساعدات، والإفراج عن المعتقلين على خلفية نشاطات سياسية سلمية، وضمان حرية الصحافة، وحرية تكوين المؤسسات، والحق بالتظاهر السلمي.
لكن أنان لم يكن معصوماً عن الخطأ، فقد ترك خطته تعتمد على تطوع النظام السوري وحسن نيّته، لسحب الجيش ووقف العنف وإيصال المساعدات وبدء الحوار، وكانت عملياً مجموعة مبادئ مبهمة وصيغة لإدارة الصراع لا لإنهائه.
رغم أن أنان هو الأكثر جدية وصرامة ووضوحاً بين المبعوثين الأممين إلى سورية، وأكثرهم خبرة وربما حسّاً إنسانياً، إلا أنه أخطأ حين وضع خطة ولم يحدد فيها آلية سحب الجيش من المدن، ومن سيحل محلها، ولا آلية نزع سلاح المعارضة، كما أنها لم تحدد جدولاً زمنياً لذلك ولبدء الحل السياسي، وتضع الحكومة السورية شروطاً حول جنسية المبعوثين وعددهم والتجهيزات التي لديهم وصلاحيتهم ومن سيحميهم، وحدود المناطق التي سيقومون بمراقبتها، كما لم يحدد في خطته وقتاً واضحاً للإفراج عن المعتقلين والكشف عن مصير المختفين.
الأخضر الإبراهيمي، الذي وًصف بأنه واحد من أكثر المبعوثين الدوليين إلى سورية عقلانية وواقعية، اقترح عام 2012، وتحديداً بعد مرور شهرين من استلامه مهامه، هدنة بين الأطراف المتصارعة في سورية خلال أيام عيد الأضحى بشكل مؤقت، في وقت كان النظام السوري يدكّ المدن السورية في حملته الحربية ضد المعارضة الثورية المسلحة، ويُدمّر البنى التحتية في كافة المدن السورية.
لكن السيء فيما اقترحه الإبراهيمي، هو تأكيده على أن تُطبق هذه الهدنة “ذاتياً” دون مراقبة، حين وجه نداءً للسوريين أنفسهم لكي يوقفوا القتال وأن يلتزموا بالهدنة بأنفسهم، وهو يُدرك تماماً، وفق تصريحات لاحقة، أن النظام السوري لا يمكن أن يقبل بهدنة ويطبقها ذاتياً، وأنه مستمر في حلّه الحربي حتى النهاية.
أخطأ الإبراهيمي، صاحب الثمانين عاماً، حين اقترح هذا الاقتراح، أو أنه استخف بالقضية السورية، وهو الذي أعلن مراراً أن الأزمة في سورية خطيرة ومتفاقمة، ووصف مهمته بأنها صعبة و” شبه مستحيلة”، واعترف بأنه لن يستطيع تنفيذ مهمته في سورية دون دعم وإجماع من مجلس الأمن الدولي، فما باله بوقف إطلاق نار طوعي من نظام لا يريد أن يوقف الحرب حتى يقضي على آخر معارض في سورية؟
حتى المبعوث الأممي السابق له كوفي أنان، لم يقترح مثل هذا الاقتراح غير الواقعي، فقد اقترح هدنة ضمن خطة أوسع، وأرسل 300 مراقب من القوة الدولية لمراقبتها، قبل أن يُعلن فشلها الذريع في وقف العنف.
صحيح أنه طلب قوات أممية مسلحة رمزية للمراقبة، لكنّه على الأقل لم يتركها لوجدان النظام السوري فقط، وفشل هذه الخطوة دفعه للتفكير بترك المهمة نهائياً لأنه لا إرادة سياسية للقيام بنقل السلطة من الأسد إلى حكومة انتقالية تلتزم بجدول زمني للقيام بانتخابات نزيهة وحرة كما كان مطلوباً بخطته.
الخطأ الثاني الذي ارتكبه المبعوث الأممي والعربي المشترك لسورية الأخضر الإبراهيمي، هو وصفه ما يجري في سورية بأنه “حرب أهلية”، ولم يُشر نهائياً في تصريحاته إلى وجود ثورة في سورية ذات طابع سياسي، طرفها الأول النظام وقواته العسكرية والأمنية الجرارة، وطرفها الثاني السوريين بكافة طوائفهم ومذاهبهم ومن مختلف المناطق الجغرافية، وخلال مؤتمر صحفي في موسكو مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2012، قال الإبراهيمي “إذا لم تكن هذه حرباً أهلية، فلا أدري ما هي الحرب الأهلية”، وبهذا التوصيف السطحي ساوى بين الضحية والجلاد، وظهر كمن يريد أن يُنقذ النظام السوري بمثل هذا التوصيف الذي يمكن أن يغيّر الموقف الدولي مما يجري في سورية.
صحيح أن وصف الإبراهيمي لما يجري في سورية ليس وصفاً مُلزماً لأحد، إلا أنه تجاهل كلياً الوصف الدقيق لما جرى في سورية من جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ارتكبها النظام وأركانها متوفرة وموثقة. والسمة الأساسية لما جرى في سورية محصورة في نطاق معارضة شعبية مسلحة وغير مسلحة في مواجهة نظام ديكتاتوري.
الخطأ الثالث للإبراهيمي حين سار بنهج يناسب التوجّه الروسي والسلطة السورية أكثر بكثير مما يناسب المعارضة وداعميها، رغم أنه كان يقول دائماً بأنه “يتعهد” أن يجد خططاً ومقترحات لحل الأزمة السورية تُناسب الشعب السوري.
في إحدى زياراته لموسكو خيّر الإبراهيمي السوريين بين “الجحيم” وبين “الحل السياسي” على الطريقة الروسية، وأكّد على أنه “ليس هناك خيار آخر”، ونسي أن بقاء هذا النظام السوري هو الجحيم بحد ذاته بالنسبة للسوريين”، وطالب بأن تجري مصالحة وطنية، ما يعني ضمناً طي صفحة الماضي بلا محاكمات ولا عدالة انتقالية، وهو يتوافق تماماً مع الشكوك التي راحت تقول بأن الدول الكبرى اختارت الإبراهيمي كوسيط دولي لسورية لأنه كان دائماً “يبني السلام على حساب العدل”، وهو ما يُعرف بالسلام الهش.
كذلك في أيار/ مايو 2014، وبعد استقالته من منصبه، أخطأ الإبراهيمي حين بيّض صورة إيران أمام مجلس الأمن، وأوحى لأعضائه أن إيران يمكن أن تكون بلد خير وتسعى إلى السلام، حيث قال أمام مجلس الأمن إن الاقتراح الذي تقدّمت به إيران للتوصل إلى تسوية سياسية في سورية “يستحق النقاش”، رغم أنه يُدرك، وفق تصريحات أخرى لاحقة، أن أيران هي سبب أساس في تدهور الحالة السورية وتحوّل الثورة إلى حرب دامية لها صبغة طائفية، وتصريحات كثيرة لاحقة بأن الأسد وإيران عطّلا مسار الحل السياسي.
الخطأ الأخير الذي ربما ارتكبه الإبراهيمي موافقته في جنيف 2 على مناقشة “الحرب على الإرهاب” بموازاة مناقشة ضرورة الانتقال السياسي، وكان لسماحه مناقشة هذا الأمر أثراً كبيراً في تغليب رؤية النظام على المستوى الدولي، وبدء الانحراف في مسار العملية السياسية، وفشل جنيف 2 لهذا السبب تحديداً، رغم أن المعارضة السورية كانت تحاول الحؤول دون إسقاط جنيف 2 في دائرة الحرب على الإرهاب لأن ذلك يتيح المجال للنظام السوري وحلفائه للتملص من تنفيذ أهداف بيان جنيف 1.
قام المبعوث الأممي الخاص لسورية ستيفان دي مستورا بزيارة لدمشق في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، ليطرح على أطراف النزاع مبادرة جديدة تحمل اسم “المناطق المجمّدة” على أن تبدأ في مدينة حلب وفي حال نجاحها تنتقل إلى مناطق أخرى، وأدخل نوعاً جديداً من المبادرات على قاموس الأمم المتحدة، واستنسخ تجربة النظام السوري في هذه المبادرة.
مبادرة دي مستورا هذه لم تكن “هدنة” ولا “وقف إطلاق نار”، ولم تُشر إلى نية لإخراج المقاتلين الأجانب، ولم تُحدد من هي الأطراف التي يجب أن توقعها، ولم توضح دور القوى الدولية والإقليمية والمحلية فيها، ومن سيراقبها وآليات هذه المراقبة وما هو الضامن القانوني والعسكري لنجاحها واستمرارها. فقط قال عنها إنها “نقطة من بحر”، وأن “نقاطاً عدة من الممكن أن تشكل بحيرة، والبحيرة يمكن أن تصبح بحراً”.
من الصعب وصف الرجل بأنه حليف للنظام السوري، لكنّه ساهم بشكل كبير طوال أربع سنوات من المراوحة في المكان، وتقديم العديد من المبادرات التجريبية غير البناءة التي تخضع للخطأ والصواب، في تمييع القضية السورية وزيادة حدة الخلافات بين قوى المعارضة السورية، واستفاد النظام من بعض مبادراته ليغيّر من سياساته العسكرية بما يفيده ميدانياً.
كان دي مستورا الأكثر مماطلة من بين كل الذين تولوا مهام المنصب الأممي لسورية، وطوال فترة مهامه، استمر في تدوير الزوايا واللعب على الوقت، وحاول التأقلم مع مواقف الطرف الأقوى في الصراع السوري، أي روسيا والنظام، حيث كانت العلاقة بينه وبين المعارضة متوترة جداً بسبب تحّيزه للنظام وقبوله بأطروحاته.
أخطر ما فعله دي مستورا أنه جعل مسائل مبدئية لا تستدعي التفاوض موضع تفاوض، وسهّل بمبادراته كثيراً منح النظام السوري فرصة التفوق العسكري، وحضوره مؤتمر أستانة رغم أنه ليس مؤتمراً دولياً حول سورية، وترحيبه بـ “التقدم” الذي يُحرزه أستانة على حساب محادثات جنيف، وكذلك إعلانه أن محادثات أستانة حول سورية تقترب من التوصل إلى إعلان نهائي، وكأنه ناطق رسمي باسم هذا المؤتمر الذي ترعاه روسيا وإيران، حليفتا النظام السوري، ومن ثم، ترويجه بشكل غير مباشر لأن يكون مسار أستانة الروسي بديلاً عن مسار جنيف المتفق عليه دولياً عام 2012، وكذلك تقسيمه المعارضة السورية عبر تصنيفها لمنصات، وتهرّب من مناقشة الحل الدولي الأساسي، أي هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات تنفيذية كاملة.
قدّم دي مستورا خلال توليه منصبه ثلاث مبادرات، لم يُكتب لها النجاح جميعها، ضعيفة وغريبة إلى حد بعيد، ولغرابتها وضعفها فشلت قبل أن بدء تنفيذ أي منها، الأولى دعا فيها لفتح الحدود التركية لدخول المقاتلين إلى شمال سورية لمؤازرة مقاتلين أكراد سوريين، لم يحدد فيها من هم هؤلاء المقاتلين ولا طبيعتهم ولا ضوابطهم، وكانت مبادرة تشبه الدعوة لفتح الحدود أمام الفوضى.
والثانية كانت إطلاق مبادرة بمصطلح دولي جديد تحت اسم (تجميد القتال) وهي مبادرة أفضل ما يمكن وصفها بأنها عنوان لتقسيم سورية، وتحولها إلى إمارات حرب، وتفككها لوحدات إدارية منفصلة، وتُنهي العمل الجمعي الشعبي وتدعم العمل السلطوي الفردي للمعارضة والنظام، وتقسم الناس وفقاً لانتمائهم المكاني، وتوفر الأرضية الخصبة لفساد سياسي ومالي وعسكري ومؤامرات لا تنتهي. وفي المبادرة الثالثة دعا إلى تشكيل أربعة مجموعات عمل من النظام والمعارضة، تبدأ بتجزيء الأزمة السورية لمناقشتها عنصراً عنصراً، وتجاهل عن عمد في خطته هذه بيان جنيف الذي اتفقت الدول الكبرى على أنه المرجعية الوحيدة والمتفق عليها للأزمة السورية، وهو البيان الذي حاول النظام السوري الهروب منه وإلغائه بأي ثمن.
لم ينتقد يوماً النظام السوري لاستخدامه البراميل والطيران الحربي لقصف المدنيين، ولم يُطالب ولو لمرة واحدة بخروج المقاتلين الأجانب الذين يقاتلون إلى جانب النظام السوري، ولم يسعَ لوضع دور للقوى الدولية والأممية بأي مبادرة، ولم يستفد من القانون الدولي في أي من مبادراته، وكل ما تحدّث به طوال عشرة أشهر هو ضرورة إشراك روسيا وإيران في الحل، وقبيل مؤتمر جنيف بنسخته الثالثة، قال إن لديه خطة جاهزة لحل الأزمة السورية، لكن الرجل فاجأ الجميع في جنيف، وتبيّن أنه جمع مئات السوريين من معارضين وناشطين وحقوقيين وعسكريين وتجار ونساء وحتى طلاب صغار مراهقين، ومعهم أنصاف معارضين، وممثلين للنظام من الدرجة الثانية والثالثة، ليفهم مواقفهم ويستمع لآرائهم وتصوراتهم وكأنه لم يسمع بها من قبل ويريد أن يفهم جوهر الأزمة السورية من جديد من الألف إلى الياء.
استمر دي مستورا في الدعوة حتى ثمانية جولات من جنيف، ووصفه البعض بأنه “سمسار” يحاول أن يكسب الوقت بأي طريقة، حتى لو كانت على حساب دماء مئات آلاف السوريين، ولم يُحقق أي اختراق على المستوى “الميليمتري” حتى، واهتم طوال ثماني جولات بالهوامش واللجان الاستشارية أكثر من اهتمامه بالقضية السورية ووقف الموت، واستمتع بعقد عشرات ورشات العمل التي ليست من صلب مفاوضات جنيف، وشكّل لجاناً قانونية ودستورية ونسائية وأهلية وغيرها، واهتم بالشكليات أكثر من اهتمامه بأساس المشكلة.
قبل بدء مهامه، توقع جير بيدرسون، المبعوث الأممي الرابع إلى سورية، أن تكون مهمته “شديدة الصعوبة”، لكنّ الدبلوماسي النرويجي مضى في مهمة سلفه المعقدة والمتعثرة، واستلم منه خمسة ملفات شائكة كان من المفترض أن يسير بها على التوازي، على رأسها مهمة تشكيل اللجنة الدستورية لكتابة دستور جديد لسورية واستئناف العملية السياسية، ومهمة إخراج القوات الأجنبية، ثم مهمة الحفاظ على وحدة البلاد، ومهمة إعادة اللاجئين، وأخيراً مهمة إعادة الإعمار.
بدأ بيدرسون بأولى المهام، وهي تشكيل اللجنة الدستورية، والتي كانت متعثرة في عهد دي مستورا، لكن بيدرسون لم يستطع تقديم فتح في هذا المجال، فقد اضطرّ لتشكّل اللجنة بحيث يكون للنظام ثلثي أعضاء اللجنة، وفق ما أراد الروس أيام دي مستورا.
يواجه بيدرسون أيضاً تحدي استئناف العملية السياسية في سورية، المتوقف تقريباً بسبب رفض النظام السوري تنفيذ مخرجات بيان جنيف والقرار 2254، كما يأتي ملف إخراج القوات الأجنبية من سورية على رأس الملفات التي تنتظر أن يتحرك فيها، خاصة موضوع خروج الميليشيات الإيرانية متعددة التسميات والجنسيات، وقوات حزب الله اللبناني، والقوات التركية والروسية والفرنسية والأميركية التي تنتشر في سورية، فضلاً عن الجماعات الإسلامية المتطرفة الإرهابية كداعش.
كذلك لابد من أن بيدرسون يعرف أن مهمة وحدة الأراضي السورية تنتظر جهوداً كبيرة منه، وسط حالة الفوضى التي تعيشها سورية وتدخل الأطراف الإقليمية والدولية، ومحاولة تقسيم البلاد على أسس طائفية وقومية، ووسط تغيير ديموغرافي يقوم به النظام السوري وإيران منذ سنوات.
وأخيراً، ينتظر بيدرسون ملف إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، وهي ملفات غاية في التعقيد، خاصة وأن الدول المعنية بالملف السوري ربطت إعادة الإعمار بالتسوية السياسية، كذلك رفض ملايين اللاجئين السوريين العودة إلى سورية في ظل وجو النظام السوري الحالي.
من الصعب أن يكون بيدرسون “المنقذ”، وغالباً هو غير قادر على تحقيق تقدّم في الملفات الخمسة سابقة الذكر، خاصة مع معرفة حجمها وصعوبتها وتعقيدها، وفي الغالب الأعم لن يستطيع أن يحلّ ولا حتى جزء من هذه المشاكل والملفات المعقّدة، والتي تحتاج جميعها إلى توافقات دولية لن تحصل على المدى المنظور.
لا ينتظر السوريون أن يقوم بيدرسن برفع الظلم عنهم، ولا هم واهمون، وكل ما ينتظروه ألا يقع بأخطاء فاحشة كالتي ارتكبها من سبقه، وألا ينضم إلى أسلافه في التسويف وتزوير الحقائق ضد الشعب المسكين.
لعل المشترك في نتائج عمل المبعوثين الدوليين في سورية هو ميلهم لإدارة الأزمة لا إلى حلّها، وكانوا على قناعة ربما بأنه لا ضرر من إضاعة الوقت، ولم يحاولوا أن يغوصوا في لب الكارثة السورية وأسبابها، ولم يقتنعوا بأن ما جرى ويجري هو ثورة شعب يريد حريته وكرامته ودولته الديمقراطية، ثورة شعب ضد نظام ديكتاتوري شمولي تمييزي أمني، لا حرباً طائفية ولا حرب جياع، وبالتأكيد تضافرت مجموعة أسباب أخرى أدت إلى فشل مهامهم، منها ضعف هيئة الأمم المتحدة وعدم قدرتها على فرض حلول دولية، وفشل آلية الفيتو في مجلس الأمن، والانقسام الدولي، ووقوف روسيا والصين إلى جانب النظام السوري، ورغبة الأولى أن تعود امبراطورية كبرى لها صوتها المسموع على المستوى الدولي، وكل هذا، لا يطرح فقط سؤالاً حول مصداقية المبعوثين الأممين وغاياتهم الحقيقية، بل يطرح سؤالاً أكبر من ذلك، حول جدوى الأمم المتحدة ومجلس أمنها، طالما أنها مؤسسة مشلولة إلى هذا الحد.
المصدر: السورية نت