يمكنكم قراءة الملف كاملاً من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3KkYOEK
كثيرة هي الأسئلة والنقاشات حول الهوية السورية؛ ماهيتها مقوماتها ووجودها، حاضرة في كل الطروحات الأكاديمية منها والشعبية، تخبو تارة وتعود إلى الواجهة تارة أخرى. البعض ينكر وجودها بصيغتها الجامعة لانتفاء مقوماتها، والبعض الآخر يناقش عمقها الضارب في التاريخ، وآخرون يثبتون قصورها عما تعنيه الهوية الوطنية بمفاهيمها المعاصرة طالما أن إشكالياتها أكثر من دعائمها، فجذورها لم تتطابق مع حدود الجغرافيا السورية المفروضة، إضافة إلى عدم إتاحة الفرصة لممارستها بشكل يساهم بترسيخها في ظل احتلالات متتالية وانقلابات عديدة ثم وجود نظام استبدادي تمييزي لا يعترف بحقوق أو واجبات أو مواطنة، ولا يطبق دستوراً ولا قانوناً إلا في حيز ما يتيح له -وله فقط-البقاء أياً كان ثمن ذلك.
قد يبدو الحديث عن الهوية والعقد الاجتماعي رفاهية في ظل كارثة طبيعية ضخمة لم تنته ارتداداتها بعد، إلا أن زلزال السادس من شباط 2023 لم يكتف بتفجير موجة من التساؤلات التقنية حول هول الكارثة الطبيعية الحاصلة وأبعادها الإنسانية وتحليل أسباب فداحة مستوى أضرارها المادية والمعنوية فحسب، بل تجاوز ذلك إلى أسئلة سياسية وإنسانية وثقافية وفلسفية وجودية كما يحدث خلال الأزمات الكبرى دوماً، لكن على نطاق أوسع هذه المرة.
لم يكن لدى السوريين وقت فائض للبحث عن إجابات شافية عن تلك الأسئلة المُعقّدة، فكانت استجابتهم لمنكوبي الكارثة في سورية وتركيا سريعة ولافتة، بل كانت أسرع من الاستجابة الدولية بكثير، فلم ينتظروا الاستجابة الأممية ولا حتى تبرير تأخيرها المتعلق ببيروقراطية مؤسسات الأمم المتحدة وزوال "العوائق اللوجستية والسياسية". ربما ليقينهم أنهم كالعادة سيُتركون وحدهم في مواجهة مصيرهم، وأن لا دولة خلفهم تعوضهم أو تتحمل مسؤولياتها تجاههم، بل وعلى العكس ستكون أول من يتاجر بمأساتهم ويسرق مساعداتهم ويسيس معاناتهم وحتى يقصفهم أثناء فاجعتهم! ولن يغير من بؤس واقعهم تصريح ولا اعتذار متأخر ولا موقف لن يأتي، لتترك أرواحهم تزهق بأسباب وأشكال متعددة؛ سواء جراء كارثة طبيعية أو قصفاً أو برداً أو جوعاً أو قهراً أو كل ذلك معاً، دونما اكتراث ولا محاسبة ولا إجراء يحد من الاستهتار بحيواتهم.
لم تمض ساعات على الكارثة حتى أخذ السوريون ينظمون أنفسهم، أينما كانوا وكل حسب استطاعته، في مبادرات تطوعية فردية وجماعية باتجاهات ومجالات شتى، تبدأ بجمع الأموال والحرص على إيصالها لمستحقيها ولا تنتهي بالإنقاذ دون معدات ولا حتى تدريب. فولدت فرق ومجموعات تطوعية للمرة الأولى ودُعِمَت أخرى قائمة مسبقاً وعاملة في الشأن الإنساني. ولأول مرة منذ عقد من الزمن، كان الفعل سورياً خالصاً، سورياً لأجل السوريين أياً كانت أماكن وجودهم وانتماءاتهم، وسورياً من حيث اكتمال دائرة الفعل من التخطيط إلى التمويل فالتنفيذ، بعيداً عن الأجندات والبيروقراطيات وأولويات "الداعمين"، بل وصل حتى إلى تحدي بعض سلطات الأمر الواقع لإرغامها على فصل مواقفها السياسية عن إيصال المساعدات.
ورغم أن الاستجابات المحلية مهما بلغت لا يمكنها أن تعوض المساعدات الدولية؛ إلا أنها ساهمت بالتخفيف إلى حد ما من وطأة تأخر الاستجابة الدولية، وفي الوقت نفسه؛ أعادت طرح أسئلة الهوية السورية مجدداً. فقد اعتبر البعض تلك الاستجابات، خاصة العابرة لبعض مناطق سلطات الأمر الواقع، دليلاً على فعل جمعي تضامني نابع عن هوية سورية مشتركة. في حين اعتبر آخرون أن طبيعة تلك الاستجابات وعدم قدرتها على تجاوز مناطق نفوذ أخرى، ترسيخ للانقسام القائم. بينما قرأها البعض كاستجابة بشرية طبيعية متعلقة بمركزية الإنسان في حالات ما بعد الكوارث الطبيعية، ومن اعتبرها مؤشراً على كمون الرغبة السورية بتجاوز واقعها المقسّم في انتظار لحظة وطنية تعيد تشكيل وبناء ملامح هذه الهوية وتؤسس لعقد اجتماعي سوري جديد.
ولعلَّ من الصعوبة بمكان خلق معايير علمية وعملية لقياس مدى الارتباط بالهوية عموماً والهوية الوطنية خصوصاً، نظراً لعدم وجود تعريف موحد لها ولتداخل مفاهيم مُركّبة فيها، ناهيك عن اختلاطها بالأبعاد العرقية أو الدينية أو المناطقية في كثير من الأحيان، واختلاف تصوراتها السابقة المبنية على مفهوم "الأمة" عن تصوراتها الحديثة المرتبطة بالمواطنة إلى تطورات ما بعد الحداثة وانعكاسها على الهوية، إضافة إلى صعوبة وضع الحد الفاصل بين الجزء الشعوري والانعكاس السلوكي (الفردي والجماعي) والسياق التعاقدي السياسي والإطار القانوني الضامن له. فالانتماء عاطفة إنسانية فردية من الصعب قياسه وإحصاؤه وإخضاعه لمعايير جامدة، إذ لا يُكتفى بالارتباط المفروض نسباً أو بالقوة، في حين توجد هوامش اختيار يمكن للفرد الانتماء إليها أكثر من هويات مفروضة عليه. فضلاً عن كونه متغيراً يتأثر بعوامل عديدة (كالفترة الزمنية المدروسة، الحروب والنزاعات، وجود الأعداء، التجييش، مستويات العنف، الأحداث السياسية والأوضاع الاقتصادية والظروف العامة، مدى الاستقرار، المظلوميات، اليأس/الأمل...إلخ) فيزداد حيناً وينقص حيناً آخر.
من ناحية أخرى، يتعلق الشق العملي للهوية بالممارسة، وقد يلتبس على المراقب الخارجي التفريق بين الممارسة الحرة وتلك المفروضة سواء من السلطات السياسية أو الاجتماعية، كما يشوب الأمر الكثير من التعقيد عند الحديث عن الهوية الوطنية وممارستها، إذ تكمن الصعوبة في الفصل بين المنظور الوطني الحقيقي و"الشعاراتية" التي جعلت استخدام المصطلح ممجوجاً لكثرة استعماله في غير محله، وتعريفه من وجهة نظر النظام الحاكم وقصره على رموزه وعلى شخصية الحاكم، إضافة لاقتصار استخدامه على من يتبنى رؤى النظام، وكذلك في سياق التجييش على ما يخالف مصلحة حكم الأسد وإن كان الشعب نفسه.
وبتطبيق ذلك على الاستجابة السورية لكارثة الزلزال (رغم صعوبة التفريق بين الاستجابة الإنسانية العامة وبين الدافع الوطني كمحرك لهذه الاستجابة)، نلاحظ أن الأيام الأولى لما بعد الزلزال أعادت لشريحة واسعة من السوريين نوعاً ما شعور بدايات ثورة 2011، إذ ظهرت رغبة عارمة بألا تطغى الحدود وتقسيمات مناطق السيطرة على المساعدات الإنسانية، وهو ما اتضح من تضامن تجاوز مناطق النفوذ ومحاولات إرسال مساعدات عابرة لها، بعضها اصطدم بعوائق من السلطات المسيطرة خاصة بين مناطق النظام وتلك الخارجة عن سيطرته، وبعضها الآخر أظهر إمكانية تحدي الإرادة الشعبية لهيمنة الجهات المسيطرة كما في قافلة فزعة عشائر دير الزور.
بالمقابل، لا يمكن اعتبار ذلك التضامن أو النشاط الإغاثي كافياً للدلالة على تجاوز معوقات الهوية الوطنية السورية، بما يتجاوز الأزمات المُركَّبة السابقة لها، وما أضيف إليها من تعقيدات خلال السنوات العشر الماضية، ويعود ذلك إلى عدة نواحٍ لا بد من أخذها بعين الاعتبار:
أولاً: استجابة الناس في مواجهة الكارثة الطبيعية تختلف عن استجابتهم -وحتى تضامنهم- في مواجهة الكوارث ذات البعد البشري (كالقصف مثلاً)، رغم أن كليهما قد يوصلان إلى نتائج متقاربة من حيث المبدأ لا الكم، من خسائر في الأرواح والممتلكات والبنى التحتية ناهيك عن الفزع والرعب والحالة النفسية.
وقد يعزى السبب فيما سبق، إلى كون الكارثة الطبيعية وتبعاتها أعلى تهديداً ويمكن أن تطال الجميع دون تمييز، الأمر الذي يُشعر الناس بأنهم تحت ذات التهديد في أي وقت، ويشتركون بذات العجز والضعف في مواجهة كوارث الطبيعة. أما الأفعال الإنسانية، بما فيها الجرائم واسعة النطاق والمستنكرة إنسانياً، فقد توحي بأن الأمر محصور بفئة ما؛ المجرم والضحايا وذويهم، وكلما ابتعد مكان الجريمة عن متلقيّ الخبر -جغرافياً أو انتماءً (سياسياً/دينياً/عرقياً/طبقياً)- قل تأثرهم بها وبالتالي استجابتهم تجاهها، فهم أو أهلهم أقل عرضة لاحتمال التعرض لهكذا أمر، مع استثناء التعاطف الإنساني غير المؤدي إلى فعل بالضرورة.
ثانياً: يعتبر عاملا "الأدلجة" و"التسييس" عاملين مهمين لا يمكن تجاوزهما حتى في سياق الاستجابة للكوارث، ففي حين أن التعاطف الإنساني يكون في ذروته؛ تستطيع الحكومات ووسائل الإعلام تجيير تلك اللحظات الانفعالية لدى الشعوب لتمرير أجندات تخدمها، وقد بدا ذلك جلياً على النطاق السوري في سلوك النظام الذي استخدم الزلزال كفرصة ليستغل عاطفة الناس في الدفع بحملة شبه مُنظمة للمطالبة برفع العقوبات عنه رغم عدم تعارضها مع المساعدات الإنسانية.
ومن جهة أخرى، تترسخ تلك الأفكار لدى الشعوب ذاتها فتصبح "انتقائية التعاطف" فتتعاطف أو تستجيب لأولئك الذين يشبهونها -في الموقف الظاهر على الأقل- دون الذين يتبنون مواقف مغايرة، ويتضح ذلك من خلال السلوك المعلن أثناء جمع التبرعات الجماعية المحكوم بمناطق النفوذ، حيث كانت الحملات والمبادرات آليات تضامن ذات اتجاه سياسي واحد.
فليس النظام وحده من تجاهل الكارثة الواقعة في شمال غرب سورية لدرجة عدم إحصاء ضحاياها ضمن عدد السوريين المتضررين إلا بما يخدم تسويق نفسه سياسياً، بل كان ذلك سلوكاً واضحاً لدى المنظمات والمبادرات والمؤثرين الداعمين له الذين لم يأتوا على ذكر المناطق الخارجة عن سيطرته أو إيصال مساعدات إليها رغم شدة تضررها، ويعود ذلك إلى العوائق الأمنية الحاكمة وصعوبة كسر هيمنة النظام في مناطقه والتي تتجاوز الرغبة في الاستجابة للمتضررين من الأطراف الأخرى.
ضمن ذات الإطار، يمكن تصنيف بعض المساعدات المحلية والدولية والتي كانت مبنية على أسس ظاهرها إنساني وحقيقتها دعم الاتجاهات السياسية أو الإيديولوجية، كما في مساعدات العراق ولبنان، التي عكست مساعدتها لمناطق النفوذ المختلفة، حسب الجهة المرسِلة، الاتجاه السياسي الذي تدعمه والقائم على أسس طائفية أو عرقية أو سياسية.
على الجهة المقابلة، ظهرت استجابة مبنية على "وحدة القضية"، والتي دفعت السوريين المقيمين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وكثير من الجاليات السورية في الخارج -بمن فيهم كثيرون ممن أخرجوا أنفسهم عن المشهد السوري خلال السنوات الأخيرة الماضية- إلى التعاضد مع السوريين الذين يحملون ذات قضيتهم في التغيير، أكثر مما استجابوا لأماكن سيطرة النظام، مدفوعين إلى ذلك بسبب عدم وجود هامش حركة لدى مناطق الأخير -باستثناء التحويلات الفردية- وعدم ثقتهم بتوزيعه للمساعدات، والسبب الأهم أن الدعم الدولي استثنى مناطق شمال غرب سورية رغم كونها الأكثر تضرراً واتجه نحو الأسد، مما عمّق مظلومية جديدة لدى السوريين لن يكون تجاوزها سهلاً.
ثالثاً: تختلف الأيام الأولى دوماً عما بعدها، فالشعور بالكارثة والتهديد يجمع ويؤلف ويوحد، لكن التجربة الإنسانية أثبتت القدرة على الاختلاف على التفاصيل مع مرور الوقت بما قد يعيق العمل المشترك ويقلل بالتالي من فرص الالتحام الوطني، ناهيك عن تأثير الوقت على عاملي الاستجابة والتعاطف رغم استمرار الكارثة أو وجود الحاجة. ويتضح ذلك من تجليات أزمة الثقة والتشكيك والتي تقود إلى الاعتماد على الجهود الفردية وعدم التنسيق، مما يعني حكماً تكرار الأنشطة وحتى الأخطاء وضياع الجهود وعدم القدرة على تنظيم المساعدات المقدمة، وبالتالي العودة للدوران في ذات الحلقة المفرغة. الأمر الذي يتعارض مع ما يتطلبه ترسيخ الهوية من عمل تراكمي طويل المدى لا تحققه الاستجابات الآنية ما لم يتم تحويلها إلى عمل مستمر ذي منظور وطني استراتيجي.
ختاماً؛ لا شك بأن الاستجابة السورية كانت ملفتة، وقد أثبت السوريون خلالها قدرتهم على الوقوف إلى جانب بعضهم وقدرتهم على التجاوب السريع واستثمار الخبرات في تنظيم الحملات ومواجهة الكوارث الصعبة بما يفوق سرعة الاستجابة الدولية، إلا أن هذه المرونة والعملياتية في مواجهة المأساة ليست بالضرورة اللحظة الفارقة التي تثبت استعداد السوريين لإنهاء ما خلفته عقود من الاستبداد والتفرقة والتهميش، إذ لطالما كانت المعاناة السورية العابرة للهويات الضيقة العامل المشترك الأبرز بين السوريين.
كما أن الاستجابة الإنسانية لكارثة طبيعية لا تعبر عن هوية وطنية، بقدر ما تعبر عن إنسانية لم تمت. وفي الحالة السورية تعبر عن معنى الفقد على المستوى الشخصي وغياب الدولة على المستوى العام، وإدراك لمعنى التخلي الذي طالما اختبره السوريون، والذي رسخته أكثر طريقة التعاطي الدولية في تأخير إيصال المساعدات وتسييسها بطريقة قد تعزز الانقسام أكثر، كما سبق أن عززه الدم واستعصاء الحل السياسي العادل الذي حول التضامن إلى نوع من تكريس الانقسام السياسي.
تحتاج الهوية الوطنية اليوم فضلاً عن أبعادها الثقافية واللغوية والتاريخية والجغرافية؛ إلى مجموعة عوامل تبدأ بوجود إرادة شعبية قادرة على فرض نفسها، وهو ما يقتضي زوال النظام المعتاش على تعزيز التفرقة، وكذلك سلطات الأمر الواقع الهشة التي ترى أي مؤشر على اتفاق وطني عابر لمناطق النفوذ تهديداً لوجودها حتى ضمن نطاق الاستجابة لكارثة طبيعية، إضافة لاستقرار نسبي يسمح بممارسة هذه الهوية لترسيخها في بيئة آمنة تضمن حقوق الأفراد وتعكس رؤاهم في عقد اجتماعي يمثل تطلعاتهم ودستور وطني نافذ يرغم السلطات على تحقيق مصالح المواطنين، لا يصنفهم بناء على مدى خضوعهم لإرادته. الأمر الذي يتطلب استعادة الدولة ومؤسساتها المستلبة وإعادة هيكلتها وإصلاحها بشكل يساهم في عملية بناء تلك الهوية وحمايتها.
تتطلب الكوارث الطبيعة استجابة سريعة وواسعة لمواجهتها، غالباً ما يطغى عليها الشعور التضامني العاطفي، إلا أن الهوية تحتاج لظروف موضوعية وذاتية لبنائها ولفعل واعٍ وتراكمي لرسم ملامحها، ينطلق من التعاقد على مبادئ واضحة والبناء على قواسم مشتركة، وسيكتشف السوريون على اختلافاتهم وتنوعهم، عاجلاً أم آجلاً، بأن أول وأدق تلك القواسم أنهم جميعاً ضحايا لهذا النظام الذي لا يزال كارثتهم السياسية التي فاقت آثارها كوارثهم الأخرى.
تسبب الزلزال الذي ضرب المنطقة في 6 شباط 2023 بأوضاعٍ إنسانية سيئة في 137 مدينة وبلدة شمال غرب سورية مخلفاً شريحة متضررين يصل عددها إلى قرابة المليون نسمة (حوالي ربع سكان المنطقة)، من بينهم 4,537 ضحية و8,789 مصاباً، ناهيك عن وجود 1,797 بناءً مهدماً بشكل كلي و8,504 بناءً مهدماً بشكل جزئي و55 منشأةً صحيةً تضررت بشكل كلي أو جزئي مما دفع النظام الصحي للعمل بطاقته القصوى بعد أن استنزف خلال جائحة 19COVID، وتفشي الکولیرا وبعض المشاکل الصحیة الأخرى([1]).
على إثر ذلك، شرعت المنظمات والمجالس المحلية والفعاليات (مثل الحملات الشعبية التي نُظّمت في الداخل والخارج) باتخاذ كافة أشكال الاستجابة الطارئة، كل في تخصصه وعمله وبدون تخطيط مسبق لتنسيق الأعمال فيما بينها، وفي ظل شح المساعدات الدولية وتأخر وصولها وبعد مرور 18 يوماً على الكارثة تبرز مجموعة من التحديات التي تواجه "منظومة الاستجابة" والفاعلين فيها، وهو ما ستحاول ورقة السياسات التالية الخوض فيه واقتراح جملة من التوصيات تساعد في الخروج من أزمة الكارثة.
تعتمد حوكمة المنطقة التي ضربها الزلزال (التي طالت أكثر من 137 مدينة وبلدة في شمال غرب سورية) على عدة فواعل:
وعلى الرغم من صعوبة الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية في المنطقة، استطاعت المجالس المحلية بالتنسيق مع المنظمات العاملة تنفيذ ما يربو على 5000 مشروع على مدار 4 سنوات في ريف حلب وإدلب، ضمن قطاعات اقتصادية مثل المياه والزراعة والصناعة والتجارة والكهرباء والنقل والخدمات الاجتماعية والإسكان والتعمير وغيرها، ساهمت في دفع عملية الاستقرار وتعافي المنطقة نسبياً([3]). إلا أن نموذج الاستجابة عموماً بقي يعاني من عدة تحديات وصعوبات، لعلّ أبرزها:
أولاً: التحديات الحوكمية: إذ ساهمت الهوّة الحاصلة بين المجالس المحلية ونقص التنسيق فيما بينها وتعدد تبعية المجالس المحلية لأكثر من والي تركي في تعميق حالة الهشاشة في البنية الحوكمية وغياب التنسيق والتخطيط الاستراتيجي، وهو ما انعكس بشكل واضح على عمل عدة قطاعات وفي مقدمتها قطاع الاستجابة.
كما أدى غياب التنسيق المحلي ما بين منظمات الإغاثة المحلية سواءً في تقدير الاحتياجات أو في تحقيق الشمولية وضمان "عدالة التوزيع" إلى عدم التفكير بمقاربات تنسيقية تكون إطاراً تنفيذياً لمواجهة "حالة الطوارئ" واستحقاقاتها الملحّة، كما تجدر الإشارة في سياق تحديات الحوكمة إلى أثر غياب قيم الشفافية والمحاسبة والرقابة على عملية البناء والإسكان والتي ظهر أنها لا تتوافق مع معايير البناء السليم والمقاوم للزلازل ولو بالحدود الدنيا.
ولا يمكن فصل تحديات الحوكمة عن السياق الأمني المحلي والاضطرابات التي أحدثتها الاختراقات والعمليات الأمنية التي هددت مؤشرات الأمن والاستقرار في المنطقة ناهيك عن الاقتتالات الفصائلية التي لطالما هددت حركية الاستجابة وعرقلتها.
ثانياً: الاحتياج الإغاثي: بحكم تزايد الكثافة السكانية في المنطقة، حيث يتواجد فيها ما يقرب من 5.5 مليون نسمة في إدلب وريف حلب ومنطقتي رأس العين وتل أبيض بحسب إحصائية "وحدة تنسيق الدعم"، كما تحتوي على 1633مخيماً يقطنها 1,811,578 نسمة بحسب "منسقو استجابة سورية"، أكثر من 4 ملايين منهم بحاجة إلى مساعدات إنسانية للبقاء على قيد الحياة وفقاً لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا)، يعتمدون بشكل أساسي على المنظمات والمساعدات. تسبب هذا الوضع في ضغوط متزايدة على المنظمات لتلبية احتياجات النازحين وحل مشاكل المخيمات، وبالتالي ذهاب قسم كبير من الأموال الممنوحة للاستجابة الطارئة والإغاثة.
ثالثاً: تحديات سياسية: إذ تشكل هذه التحديات ضغطاً واضحاً على مسار حركية الاستجابة والتي ترتبط بشكل أو بآخر بعاملين؛ كفاءة الفاعل السياسي والتي تزداد مؤشرات انخفاضها، وبوضوح المسار السياسي، فقد ساهم تعطيل محركات الحل السياسي ومحاولات تعويم النظام من قبل بعض الدول، والضغوط الروسية على الدول والأمم المتحدة لتحويل المساعدات من "الحدود" إلى "الخطوط" في انخفاض معدلات الاستجابة الإنسانية من المنظمات الدولية، بنسبة 40% خلال عام 2022 وحده([4])، وجمع نداء الأمم المتحدة للحصول على أموال لعام 2022 أقل من نصف ما هو مطلوب 2.12 مليار دولار من أصل 4.44 مليار دولار([5])، ولعب الأداء الأممي دوراً مثبطاً بعدما حصرت خيار المساعدة بالآلية الدولية المعتمدة في إيصال المساعدات الإنسانية لسورية؛
رابعاً: تحديات اقتصادية: تسبب نقص الموارد وسوء الأوضاع الأمنية وضعف القوة الشرائية للمواطن في إضعاف أدوار القطاع الخاص في المشهد الاقتصادي، ما انعكس سلباً على قطاعات التجارة والزراعة والصناعة ومناخ الاستثمار وعدم خلق فرص عمل. وهو ما زاد من حجم الاحتياج في قطاع الاستجابة عموماً.
تفاعلت التحديات أعلاه مع بعضها البعض مع بزوغ صباح يوم السادس من شباط/فبراير الحالي ليستيقظ السكان على هول الكارثة التي وقعوا بها إثر زلزالين ضربا جنوب تركيا وشمال غرب سورية بلغت شدتهما 7.8 و7.6 على التوالي([6])، لتظهر مناطق ريف حلب وإدلب أمام أزمة مركبة قللت من فاعلية الاستجابة المبكرة للزلزال.
إذ عانى فريق الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) من نقص في الآلات الثقيلة والمعدات اللازمة والوقود خلال عملية إنقاذ الأحياء من تحت الأنقاض، مطالباً بفتح تحقيق دولي حول تأخر وصول المساعدات اللازمة للاستجابة لأضرار الزلزال في شمال غرب سورية([7])، وغصّت المشافي بالجرحى والمصابين جراء الأعداد الكبيرة وخروج بعض المؤسسات الصحية عن العمل جراء تضررها، وسط حالة العجز عن علاج بعض الإصابات نتيجة عدم توفر الأجهزة الطبية والأدوية المناسبة أو الحاجة لأطباء ذوي اختصاصات غير متوفرة في المنطقة، وعانت المنطقة أيضاً من نقص حاد في أعداد الخيام والسلل الإغاثية للنازحين والمتضررين جراء عدم توفر مخزون استراتيجي أو مصانع محلية وعدم دخول مساعدات دولية عبر معبر باب الهوى أو من المعابر الأخرى، فضلاً عن انشغال تركيا بالأضرار الجسيمة التي خلّفها الزلزال على مناطقهم، وظهور التخبط في عملية إحصاء أرقام الوفيات والمصابين والمنازل المدمرة والمتضررين من الزلزال.
في المقابل، تمثّلت استجابة الفواعل السياسية والمجالس المحلية والحكومة المؤقتة والمنظمات السورية للكارثة وفقاً لما يقتضيه الواجب الإنساني وبدون تخطيط مسبق عبر ثلاثة مستويات تداخلت فيما بينها؛ المستوى الأول: إنقاذ العالقين تحت الأنقاض؛ والمستوى الثاني: الاستجابة الطارئة عبر تقديم خدمات إغاثية للنازحين والمتضررين؛ والمستوى الثالث: القيام بعملية إحصاء وتقييم الأضرار والماكينة الإعلامية، كما يظهر في الشكل الآتي:
المستوى الأول: تولت فرق الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) مهمة إنقاذ الأحياء العالقين تحت الأنقاض، أسعفها في ذلك خبرتها في التعامل تحت القصف والمعارك، وأمام نقص الآليات الثقيلة والمعدات الضرورية سارع الأهالي والمنظمات والمجالس المحلية في وضع كل ما يملكونه لمساعدة فرق الدفاع المدني في عملية انتشال الضحايا وإنقاذ الأحياء من تحت الركام. على الطرف المقابل سارعت المنظمات في تنفيذ عمليات إغاثة عاجلة عبر إنشاء مخيمات مؤقتة وتقديم الغذاء والملبس والاحتياجات الأساسية لمن فقدوا منازلهم وتضرروا جراء الزلزال. وظهرت شراكات مهمة بين بعض كبرى المنظمات السورية، كما حصل بين مؤسسات "الدفاع المدني" و"المنتدى السوري" و"الجمعية الطبية السورية الأمريكية /سامز" من أجل حشد الموارد والجهود وتوحيد قنوات التمويل لجمع التبرعات لإغاثة المتضررين.
المستوى الثاني: أمام عدم دخول المساعدات وإغلاق المعابر تشكلت على الفور مبادرات أهلية في المناطق التي لم تتعرض لأضرار مثل الحملات الشعبية في اعزاز والباب وشمال شرق سورية والحملات الشعبية في الخارج التي سعت بدورها لجمع الأموال والمساعدات العينية لإغاثة النازحين والتطوع مع فرق الدفاع المدني للمساعدة في عمليات الإنقاذ من تحت الأنقاض. ترافق مع هذه المبادرات سلسلة من الاتصالات والتواصلات لعدة فواعل، حيث تواصلت هيئة التفاوض السورية مع عدة منظمات وجاليات سورية بهدف توفير الدعم للمنظمات المحلية بشكل مباشر، ودفعت بعض مسؤولي الأمم المتحدة ووزير خارجية الولايات الأمريكية للتفاعل مع الكارثة السورية في الشمال، كما عملت الحكومة المؤقتة من جهتها على تشكيل "غرفة تنسيق للاستجابة"، إضافة إلى قيام التحالف السوري الأمريكي بالحشد والمناصرة لقضية الاستجابة ضاغطاً لاصدار تشريع خاص يسهل العمل الانساني مع وكالة التنمية الأمريكية والحكومة الأمريكية .
المستوى الثالث: أقدمت المجالس المحلية والمؤسسات الرسمية مثل وحدة تنسيق الدعم ومنسقو استجابة سورية وغيرها على إحصاء أعداد الوفيات والإصابات وتقييم الأضرار من مبانٍ مهدمة بشكل كامل وجزئي وإصدار تقارير يومية بشأن الاحتياجات العاجلة، وتولت الفصائل تأمين الأحياء المنكوبة منعاً لعمليات النهب والسرقة والفوضى.
مع إعلان فرق الدفاع المدني إيقاف عمليات البحث عن ناجين تحت الأنقاض ستواجه المجالس المحلية والمنظمات تحديات عدّة، لابد من تضافر الجهود من أجل النهوض بالمنطقة مجدداً، يمكن تلخيص تلك التحديات في مستويين:
ومن أجل مواجهة الكارثة التي أتى بها الزلزال على ريف حلب وإدلب والتحديات التي انبثقت عنها، توصي الورقة بالآتي:
أولاً: آلية الاستجابة الوطنية: أثبت السوريون في خضم الكارثة والحصار الذي واجهته المنطقة خلال الأيام الأولى للزلزال؛ آلية استجابة تقوم بشكل كامل على العامل الوطني، ابتداءً من الضحية والمتضرر إلى كل من استجاب للأزمة من مجالس ومؤسسات ومنظمات وفعاليات محلية وحملات شعبية للسوريين المغتربين في الخارج، ومع انتهاء المرحلة الأولى التي تتضمن إنقاذ أكبر عدد من الناجين من تحت الأنقاض وتقديم المساعدات العاجلة للمتضررين من مأوى وغذاء وعلاج تبدأ المرحلة الثانية التي تقوم على محورية التعافي السريع من أثر الكارثة والتي تقوم على تقييم الأضرار والخسائر الاقتصادية ووضع خطة طوارئ للشروع في إعادة الإعمار. ومن جملة ما يمكن القيام في هذا السياق:
ثانياً: الاستفادة من دروس الزلزال: يجدر على المجالس المحلية والمنظمات ألّا تمرر كارثة الزلزال بدون أخذ عدة دروس منها، حيث يمكن تقديم جملة من الدروس التي لُحظت بعد الكارثة:
أخيراً أثّرت جملة من التحديات الحوكمية والإغاثية والسياسية والاقتصادية على الاستجابة العاجلة لكارثة الزلزال في شمال غرب سورية، وعلى الرغم من تلك التحديات والصعوبات فقد أثبت السوريون خلال الأيام الأولى للكارثة آلية استجابة تقوم بشكل كامل على العامل الوطني بدون تخطيط مسبق عبر ثلاثة مستويات يقوم الأول على إنقاذ العالقين تحت الأنقاض؛ والثاني على الاستجابة الطارئة للمتضررين والناجين؛ والمستوى الثالث تقييم الأضرار. ومع انتهاء مرحلة إنقاذ الناجين من تحت الأنقاض تبدأ مرحلة التعافي السريع.
ومن جملة ما يمكن القيام به في هذه المرحلة: تأسيس مؤسسة إدارة الكوارث والطوارئ في ريف حلب وإدلب يتولى إدارتها فريق الدفاع المدني ويتم دعمها من كافة المجالس المحلية والمنظمات العاملة، وإيجاد آلية موحّدة لإحصاء وتقدير الأضرار، وابتداع برنامجٍ وطنيٍ خاصٍ يحمل أهدافاً ورؤيةً وطنيةً عابرٍ لبرامج الأمم المتحدة يراعي أسس التخطيط العمراني ويسهم في خلق فرص عملٍ مستدامةٍ وتحريك العجلة الاقتصادية.
([1]) بحسب أرقام وحدة تنسيق الدعم، 22 شباط 2023. انظر التقرير التالي: https://cutt.us/mdosW
([2]) عمر كوباران، أدهم إمره أوزجان، منطقة "درع الفرات".. 6 سنوات من الأمن والخدمات شمالي سوريا، الأناضول، 24/8/2022، رابط مختصر: https://cutt.us/vTjms
([3])مناف قومان، التعافي الاقتصادي المبكر في مناطق المعارضة خلال النصف الأول من 2022، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، رابط مختصر: https://cutt.us/vOqXV
([4]) منسقو استجابة سوريا: الاستجابة الإنسانية للمخيمات انخفضت 40% عام 2022، تلفزيون سوريا، 30/12/2022، رابط مختصر: https://cutt.us/WtYNw
([5])ليبراسيون: نقص المساعدات الدولية سبب آخر للوضع الكارثي في شمال سوريا، 7/02/2023، القدس العربي، رابط مختصر: https://cutt.us/E0iDF
([6])قتلى وعالقون تحت الأنقاض إثر زلزال بقوة 7.8 درجات ضرب جنوب تركيا، العربي الجديد، 6/02/2023، رابط مختصر: https://cutt.us/XjMyn
([7]) الدفاع المدني يطالب بفتح تحقيق دولي حول تأخر وصول المساعدات، 10/02/2023، راديو سوا، رابط: https://www.radioalkul.com/p462112/
([8]) الشبكة السورية: النظام السوري يستغل كارثة الزلزال لاستعادة العلاقات السياسية، تلفزيون سوريا، 21/02/2023، رابط مختصر: https://cutt.us/xzeVi
([9]) أصدر تحالف الإغاثة الأمريكي من أجل سوريا ARCS دراسة تتحدث عن قانونية إدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية عبر الأمم المتحدة ومؤسساتها دون الحاجة لقرار من مجلس الأمن الدولي. للاطلاع على التقرير انظر الرابط: http://bit.ly/3Ejbx6I