أوراق بحثية

تمهيد

يُعد المجتمع المدني بمثابة القطاع الثالث إلى جانب الدولة والقطاع الخاص، يضم أشكالاً متعددة من التنظيمات والتشكيلات التي يختلف دورها من دولة إلى أخرى بحسب البيئة التي تعمل بها. عموماً، يرتبط مفهوم المجتمع المدني بأربعة مفاهيم أساسية: القدرة على التشكل الذاتي، تمثيل مصالح المجتمع، وتقدم خدمات للصالح العام بما فيه ذلك المداولات بخصوص قضايا الشأن العام.([1]) تاريخياً عرفت سورية أشكالاً عدة لتنظيمات المجتمع المدني، تلك التي أطرتها السلطات الحاكمة المتعاقبة بقوانين عكست فلسفتها ونظرتها للعمل المدني، وغالباً ما كان يهمين عليها الشك والريبة بما يستدعي السيطرة على منظمات المجتمع المدني والتحكم بها. انعكست هذه الفلسفة بشكل خاص في قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة رقم 93 لعام 1958 سيء الصيت، الذي استخدمته الحكومات المتعاقبة كأداة للسيطرة على الجمعيات، مع تدعيمه بتعديلات ولوائح تنفيذية أكثر تقييداً، وتعزيزه بحزمة من القوانين المقيدة للحريات العامة. كذلك مقاربة الجمعيات من خلال حصرها بالمجالات الخيرية الإنسانية والخدمية، والحرص على تفريغها وإقصائها من المجالات التنموية والحقوقية والسياسية عبر تقييدات أو إكراهات أو تهديدات. تنامى دور منظمات المجتمع المدني خلال الثورة السورية، بحكم تراجع سيطرة الدولة المركزية والاحتياج الهائل والدعم الخارجي، ومع تشكل مناطق نفوذ تدار من قبل سلطات الأمر الواقع، افتقد العمل المدني لإطار تنظيمي موحد.

عقب سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024، كان على السلطة الجديدة الموازنة بين ضرورة حضور الدولة لتنظيم والإشراف على العمل المدني من جهة، وبين الحاجة إلى منح هوامش لعمل المنظمات جذباً للمانحين وسداً للاحتياجات من جهة أخرى، ليسفر ذلك على نهج هجين قائم على الموائمة بين تجربة حكومة الإنقاذ/ إدلب في إدارة منظمات المجتمع المدني، وبين الأطر التنظيمية والقانونية الناظمة للجمعيات والمؤسسات المعتمدة في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في دمشق. أتاحت هذه المقاربة مساحات عمل ناشئة لمنظمات المجتمع المدني، مدعمة بمرونة وانفتاح حذر للسلطة الجديدة على منظمات المجتمع المدني، لكنها بالوقت نفسه أثارت هواجس المنظمات من ثغرات قانونية وتنظيمية يمكن توظفيها لإعادة تأسيس سيطرة الدولة وتحكمها بالجمعيات، لا سيما مع الاحتفاظ بالقانون رقم 93 لعام 1958، وغياب مداولات جدية رسمية لغاية الآن بخصوص إنجاز قانون جديد لمنظمات المجتمع المدني. انطلاقاً من أهمية تجاوز إرث الماضي وتجاوز الثغرات القائمة وتعزيزاً للمساحات الناشئة والفرص المتاحة، تتطرق هذه الورقة إلى مسار العمل المدني قبل سقوط الأسد وبعده، وصولاً إلى اقتراح سياسات وخطوات من شأنها الوصول إلى بيئة ممكنة للعمل المدني في سورية.

العمل المدني قبل سقوط الأسد: النجاة رغم القيود

عكست القوانين الناظمة لعمل منظمات المجتمع المدني في سورية فلسفة السلطات الحاكمة إزاء العمل المدني، وغالباً ما كانت العلاقة متوترة بين السلطات المتعاقبة والمنظمات باعتبار الأخيرة مصدر تهديد كامن، سواء لوحدة الدولة ونظامها الحاكم لما تمتلكه من كمون سياسي وإمكانية استغلاله خارجياً، بما يستوجب رقابة الدولة عليها (قانون الجمعيات العثماني لعام 1909)، أو تهديداً لهيمنة السلطة الحاكمة لما تحوزه من بعد تمثيلي قادر على التعبئة والحشد، ولذلك كان لا بد للسلطة من التدخل المفرط لإدارة المنظمات والتعسف في الإشراف عليها، ونزع أي بعد تمثيلي عنها عبر حصرها بمجالات خيرية/ خدمية تحت مسمى العمل الأهلي.

ساد هذا التوجه في عهدي الوحدة السورية_ المصرية (قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة رقم 93 لعام 1958) وما بعده زمن البعث أيام حافظ الأسد، حيث تمت المحافظة على القانون رقم 93 كأداة للسيطرة على المنظمات وتدعيمه بتعديلات ولائحة تنفيذية أكثر تقييداً، إلى جانب تعزيزه بسلسلة من الإجراءات والقوانين لإنفاذ السيطرة المركزية على الحيز المدني مثل؛ تأسيس منظمات مدنية مرتبطة بالبعث، السيطرة على النقابات. في بدايات عهد بشار الأسد، اتسع هامش مناورة منظمات المجتمع المدني رغم استمرارية نفاذ القانون رقم 93، كان ذلك بتأثير متطلبات الشراكة مع الاتحاد الأوربي،([2]) وحاجة النظام لسد الثغرات الناشئة عن التراجع التدريجي للسياسات الاجتماعية للدولة، إلى جانب تهدئة السوريين من خلال فتح المجال المدني،([3]) واستخدامه في حملة العلاقات العامة للترويج للنظام، فضلاً عن جذب تمويل خارجي تحت ستار التنمية والعمل المدني، وهو ما ظهر بتأسيس الأمانة السورية للتنمية عام 2007. مرونة أبداها النظام ضمن ما يصفه ستيفن هايدمان بالتحديث السلطوي كإستراتيجية لامتصاص الأزمات دون تغير جوهري في بنية النظام. يفسر ما سبق الطفرة الجمعياتية بين عامي 2005-2010، حيث ارتفاع عدد الجمعيات المرخصة من 650 جمعية إلى 1485،([4]) جلها منظمات خيرية وإنسانية.

مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، تزايد دور وأهمية منظمات المجتمع المدني جراء انحسار سيطرة مؤسسات الدولة المركزية، ومحدودية دورها في توفير الخدمات بالتزامن مع ارتفاع حجم الاحتياج، كذلك تنامي الدعم المقدم للمنظمات من قبل الجهات المانحة، وعموماً اتسم العمل المدني خلال الثورة بتعدد الأطر التنظيمية، كذلك ضعف معايير المساءلة ومحاولة سلطات الأمر الواقع إحكام السيطرة على بيئة العمل المدني. أبقى نظام الأسد على الإطار القانوني الناظم للجمعيات (القانون رقم 93)، كما استحداث آليات تنظيمية لتعزيز هيمنة المنظمات المدعومة والمرتبطة بالقصر الجمهوري على العمل الإنساني والمدني، بغية الحفاظ على شبكات المحسوبية ودعم الحواضن الموالية، فضلاً عن الاستحواذ ما أمكن على الدعم المقدم من الجهات المانحة في ظل تراجع موارد الدولة. كذلك لم تسلم المنظمات في المناطق خارج سيطرة النظام من تدخلات سلطات الأمر الواقع، عبر أدواتها الأمنية والحوكمية لما تمثله من موارد ومصدر تهديد محتمل.

العمل المدني ما بعد الأسد: نوافذ وجدران

سقط نظام الأسد في كانون الأول 2024 بفعل عملية ردع العدوان، وعلى إثرها تولت حكومة الإنقاذ في إدلب تسيير مؤسسات الدولة لحين تشكيل حكومة انتقالية أبصرت النور في آذار 2025. في إدارة ملف منظمات المجتمع المدني، كان على السلطة الجديدة الموازنة بين ضرورة حضور الدولة للتنظيم والإشراف على العمل المدني من جهة، وبين الحاجة إلى منح هوامش لعمل المنظمات جذباً للمانحين وسداً للاحتياجات من جهة أخرى، ليسفر ذلك على نهج هجين قائم على الموائمة بين تجربة إدلب في إدارة منظمات المجتمع المدني، وبين الأطر التنظيمية والقانونية الناظمة للجمعيات والمؤسسات المعتمدة في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في دمشق،([5]) وما تطلبه ذلك من إجراءات تعديلات موضعية.([6]) كان لهذا النهج أثر على بيئة العمل المدني في مرحلة ما بعد الأسد، يمكن اختصار أبرز سماته بما يلي:

  • الميل للسيطرة المركزية على العمل المدني: اتخذت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل سلسلة من القرارات والإجراءات، فُسرت بأنها محاولة لفرض سيطرة مركزية على العمل المدني، بخلاف التزامها بتأمين بيئة عمل آمنة وقانونية لعمل المنظمات والجمعيات وإزالة العوائق أمام عملها. ([7]) يتجلى ذلك أولاً بالإبقاء على القانون 93 لعام 1958 سيء الصيت، لما يعطيه لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل من صلاحيات واسعة لمراقبة وتقييد حركة المنظمات وحلها والتحكم بأموالها. ثانياً، إلزام المنظمات غير الحكومية باستمارات موحدة بما فيها النظام الداخلي كما هو منصوص عليه في القرار رقم 5201 بتاريخ 29 كانون الأول 2024، في خطوة اعتبرتها بعض الجمعيات مخالفة لقانون الجمعيات،([8]) ليأتي رد الوزارة بأن الخطوة قانونية ومنسجمة مع المادة 30 من اللائحة التنفيذية رقم 1330 لقانون الجمعيات رقم 93، ثالثاً، إصدار التعميم رقم 28 بتاريخ 20 شباط 2025 من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، كذلك التعميم رقم 2391 الصادر عن مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل بدمشق، الذي ينصان على عدم مخاطبة أو التواصل مع المنظمات الدولية والوكالات الأممية والمنظمات الدولية والاتحادات العربية ووزارة الخارجية إلا عن طريق مديرية التخطيط والتعاون الدولي في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، في خطوة أثارت انتقادات العاملين في منظمات المجتمع المدني، مما اضطر الوزارة للتوضيح في بيان صادر بتاريخ 18 آذار 2025 بأن الجمعيات والمنظمات غير الحكومية غير معنية بهذا التعميم. ([9])
  • مرونة قائمة ومساحات متاحة: أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في تقرير لها عن منجزاتها للفترة الممتدة بين كانون الأول 2024 وشباط 2025، عن تلقي 817 طلب لترخيص منظمة غير حكومية، تم ترخيص 586 منظمة بموجب الإجراءات المتبعة والنافذة، بواقع 7 منظمات كل يوم. تبدي الوزارة راهناً مرونة ملحوظة في عملية ترخيص المنظمات غير الحكومية، يتمثل ذلك في:([10])1) تعاون موظفي الوزارة مع المنظمات خلال عملية الترخيص، إلى جانب منح تلك التي واجهت صعوبات في استخراج الوثائق المطلوبة رخص مشروطة ومهل زمنية، سمحت لها بالعمل لحين استكمال أوراقها بشكل نهائي. هذه المرونة مردها صعوبات في الحصول على بعض الأوراق كوثيقة غير محكوم للأعضاء وإشعار بفتح حساب بنكي. 2) عدم تعرض المنظمات لتحديات أمنية أو تدقيق مفرط خلال تقييم طلبات التأسيس، وحتى تلك التي تطلبت تدقيق أمني خاص (تسجيل إيجار مقرات المنظمات)، لم تكن بتلك الصعوبة ما لم يكن لها صلات محتملة بنظام الأسد البائد أو تابعة له، 3) تضمن بيان وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل رقم 965 جوانب تدل على مرونتها في إدارة ملف المنظمات غير الحكومية من قبيل؛ السماح لها بالعمل ضمن ثلاث قطاعات رئيسية، وزيادة عدد أهدافها عن أربعة، وإتاحة العمل لها على كامل الأراضي السورية، إلى جانب الانفتاح على المقترحات المقدمة، والاستجابة للاستفسارات المطروحة حول آلية عمل المنظمات غير الحكومية.([11])
  • تداخل الصلاحيات والأدوار: أدت الموائمة بين تجربة إدلب والتجربة المؤسساتية والأطر القانونية في دمشق إلى عدم وضوح البيئة التنظيمية للعمل المدني مع تعدد الأدوار والمراكز، إذ لا تقتصر إدارة المنظمات غير الحكومية على وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، بل يشاطرها في ذلك مكتب تنسيق العمل الإنساني (HAC)([12])والذي لا يعرف على وجه التحديد تبعيته المؤسساتية، بين من يعتقد بأنه جزء مستحدث في وزارة الخارجية السورية، وبين من يعتقد بأنه مؤسسة مستقلة تعمل كهيكل موازي لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. كذلك لا يمكن للمنظمات تجاوز دور الوزارات الخدمية كالصحة والتربية والتعليم خلال عملها، وهو ما يمكن قراءته في نص القرار 5201 الناظم لإجراءات ترخيص المنظمات غير الحكومية،([13]) وبالممارسة يتضح بأن هنالك دور للهياكل المحلية ولا سيما إدارة المنطقة([14]) في تنسيق عمل المنظمات ميدانياً والإشراف على أنشطتها،([15])وبكونها نقطة دخول مركزية للمنظمات في تقييم احتياجات المجتمعات المحلية.([16]) أدى تعدد المراكز إلى إرباك المنظمات غير الحكومية، ففي حين ينظر لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بأنها مرنة وتتعامل مع قضايا تسجيل المنظمات وتقديم الإرشادات والإجراءات التنظيمية بأريحية، ينظر لمكتب تنسيق العمل الإنساني بأنه أكثر صرامة وآليات عمله غير واضحة، إذ يتولى مسؤولية الإشراف المباشر والتنسيق وفرض الحصول على موافقات مسبقة على الأنشطة المراد تنفيذها،([17]) كذلك تحديد القواعد الناظمة لعمل المنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية منها.([18])

هواجس متبادلة وبدائل مقترحة: نحو بيئة ممكنة للعمل المدني

لكل من العاملين في منظمات المجتمع المدني والإدارة الجديدة هواجس متبادلة إزاء الآخر، إذ تتوجس المنظمات من ثغرات في الأطر القانونية والتنظيمية الناظمة لعملها بما يقيد حركتها وفضاء العمل المدني، بينما للسلطة هواجس أمنية تجاه دور وعلاقات المنظمات بالخارج. هواجس متبادلة يمكن معالجتها بحوار ومبادئ ناظمة لعلاقة تكاملية بين الطرفين.

تسود حالة من الترقب واللايقين لدى العاملين في منظمات المجتمع المدني، حيال التوجه الجديد للحكومة الانتقالية عقب انقضاء مهلة الترخيص المؤقتة الممنوحة لهم والمحددة بستة أشهر تبعاً لنص القرار رقم 5201، فضلاً عن مدى استمرارية عملهم المرتبطة بحصولهم على ترخيص دائم مرهون بعملية تقييم غير محددة المعالم كآليات ومعايير والجهة المسؤولة عن ذلك، وهو ما يعزز المخاوف لديهم من إمكانية لجوء وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل إلى حل العديد من المنظمات أو دمجها مع منظمات أخرى، بحكم صلاحياتها تبعاً للقانون رقم 93. أيضاً، هنالك تشكي بأن مهلة الستة أشهر غير عادلة لتقييم عمل المنظمات في ظل سياق ما بعد سقوط الأسد. كذلك هنالك توجس من مدى الكفاءة القانونية والإدارية للكوادر المسؤولة عن إدارة وتنظيم منظمات المجتمع المدني، بالشكل الذي يترك أثاره على تقييم المنظمات، ويشرع الباب أمام عمليات فساد وتعسف ممكنة عند استخدام السلطة الممنوحة للكوادر في عملية التقييم. تتعزز هواجس المنظمات في ظل ما يمنحه القانون رقم 93 لعام 1958 من صلاحيات واسعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مؤطرة بعبارات عامة (مخالفات جسيمة)، لحل الجمعيات ودمجها والاستيلاء على أصولها المالية.([19]) تتكامل هذه الهواجس مع الدور المركزي لمكتب تنسيق العمل الإنساني (HAC) في الإشراف والرقابة على المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية، بشكل يتجاوز فيه الوظيفية الأساسية لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، كذلك في آليات عمله وبنيته وصلاحياته غير المحددة.

بمراجعة نصوص القرارات والبيانات الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ومكتب تنسيق العمل الإنساني (HAC)، يتضح التناوب في استخدام مصطلحي المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية، وهو ما يعكس غياب رؤية متماسكة حول شكل العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني،([20]) وتخوفاً من ارتكاسه العمل المدني ما بعد الأسد من خلال تداول مصطلحات تعكس فلسفة النظام البائد تجاه المنظمات على أنها جمعيات خيرية خدمية مفرغة من أي حمولة سياسية أو حقوقية أو تنموية. بجانب آخر، لدى المنظمات هواجسها تجاه شفافية الإدارة الجديدة فيما يتعلق بمشاركة المعلومات والقوانين والقرارات والبيانات الناظمة لعمل المنظمات والشأن العام، إذ لا تصل جميعها بالضرورة للمنظمات، ولا يتم نشرها على معرفات الوزارات في ظل إيقاف إصدار الجريدة الرسمية مؤقتاً. بالمقابل، تشير أحاديث وروايات متداولة بأن لدى الإدارة الجديدة هواجس ذات منشأ أمني تجاه المنظمات غير الحكومية، مدفوعة بإمكانية استخدامها كأدوات للتدخل الخارجي لتغير المعادلات الداخلية أو التأثير سلباً عليها، على غرار ما حدث في دول الثورات الملونة (جورجيا وأوكرانيا).

يتطلب تبديد الهواجس المتبادلة بين الطرفين والتأسيس لمساحات عمل مشتركة تكاملية لا تنافسية، الانخراط في حوار جدي بشأن العلاقة الناظمة بين الدولة والمجتمع يؤسس لعقد اجتماعي قائم على أساس التكامل والتشاركية لا على التنافسية والإقصاء، تُشتق منه رؤية الدولة للعمل المدني وآليات عمله ومجالاته، تنعكس في مواد دستورية وقانون جديد ناظم لعمل المنظمات غير الحكومية، عوضاً عن الانشغال بنقاشات حول المسائل الإجرائية الناظمة لعمل المنظمات غير الحكومية. وعلى الرغم من وجود مؤشرات على مشاورات غير رسمية بين نقابة المحامين في دمشق ووزارة الشؤون الاجتماعية لإدخال تعديلات على القانون الناظم للجمعيات، فإن السلطات الجديدة لم تبد اهتماماً رسمياً بعد بالإصلاح القانوني البعيد المدى لإطار عمل المنظمات.([21]) انطلاقاً مما سبق، وتجاوزاً للثغرات القائمة والتجارب الماضية وتعزيزاً للمساحات الناشئة، فإنه يوصى بالعمل على المحاور الآتية لتأسيس بيئة مُمكنة للعمل المدني:

  1. بناء الثقة بين الحكومة ومنظمات المجتمع المدني: يتضح بأن هنالك هواجس متبادلة وبقايا من إرث الماضي، كذلك ثغرات قانونية وتنظيمية يمكن أن تؤدي إلى خلق بيئة تنافسية بين الطرفين. لتلافي ذلك والبناء على المساحات الناشئة وحالة المرونة القائمة، فإنه يوصى بمقاربة الحوار والتعلم وفق الآتي:
  • إطلاق حوارات وطنية ومجتمعية كما في تجربتي مصر ([22]) وتونس، بخصوص شكل العلاقة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني، وما هي الممارسات المثلى والمبادئ الأساسية الواجب تضمينها في الدستور وعند صياغة قانون جديد للمنظمات، كالاعتماد على نظام الإخطار بالتأسيس دون الترخيص المسبق كما في تجربتي لبنان وتونس؛
  • إطلاق مبادرات تشاركية بين المنظمات ووزارات في الحكومة الانتقالية في المجالات التي يتطلبها تقييم الاحتياجات، بهدف تصويب الانطباعات المسبقة وتعزيز التفاعل المتبادل واختبار آليات العمل المشتركة؛
  1. ضمان حرية العمل المدني: انطلاقاً مما ورد في الإعلان الدستوري المؤقت بخصوص ضمان الدولة لعمل الجمعيات والنقابات وحق المشاركة السياسية (المادة رقم 14) وترجمته واقعاً، فإنه يوصى بما يلي:
  • إقرار الحق بالتجمع وضمان النشاط الحر لمنظمات المجتمع المدني لتنفيذ نشاطات موجهة لتحقيق النفع العام. كذلك الحق للمنظمات بالمشاركة الفاعلة في الشأن العام، بما يتضمن حرية انتقاد الحكومة وتقديم مقترحات لها كما هو معتمد في تونس؛
  • إقرار الحق بالاحتكام إلى قضاء مستقل كمرجعية للبت في القرارات الناظمة لعمل منظمات المجتمع المدني، والتظلم ضد إجراءات السلطات المعنية إذا اقتضى الأمر ذلك؛
  • إقرار الحق في الخصوصية: أي ضمان عدم التدخل الحكومي المفرط في شؤون منظمات المجتمع المدني، بوصفها كيانات تتمتع بشخصية اعتبارية مستقلة، لها الحق في إدارة شؤونها الداخلية بما يتسق مع القوانين النافذة؛
  • إقرار الحق في الحصول على المعلومات: يساعد وصول منظمات المجتمع المدني في الوقت المناسب للمعلومات والبيانات ذات الصلة بالقطاع الاجتماعي والانفاق العام سيما على المستوى المحلي، في تعزيز قدرتها على اتخاذ قرارات مدروسة بشأن تدخلاتها وكيفية التكامل مع الجهود الحكومية بشكل أفضل. الأمر الذي يتطلب إقرار قانون حرية المعلومات أسوة بالأردن ولبنان؛
  1. التمويل المستدام: يعد التمويل عنصراً مهماً لتمكين منظمات المجتمع المدني، بما يوجب تبني إطار مرن لتأمين تمويل مستدام للمنظمات من مصادر محلية وخارجية، وبما لا يتعارض مع حق الدولة في ضمان عدم استخدام أموال المنظمات بطرق غير مشروعة أو لغايات مشبوهة، وما يتطلبه ذلك من ناحية التزام المنظمات بالشفافية والعلانية والإفصاح بشكل يتناسب مع حجمها وماليتها، وفي هذا الإطار يوصى بما يلي:
  • إتاحة المجال لمنظمات المجتمع المدني استثمار أموالها، وإيجاد أوقاف خاصة بها لتطوير التمويل المحلي الموجه للنفع العام، والاستفادة من تجربتي المملكة العربية السعودية ومصر في ذلك؛
  • ضمان ألا تكون المتطلبات الرسمية للحصول على تمويل خارجي، مرهقة وذات بيروقراطية مركزية معقدة. وألا تكون متطلبات الشفافية المالية وعدم تمويل الإرهاب معيقة لتحريك أموال المنظمات والتصرف بها؛
  • تأسيس صندوق حكومي لدعم منظمات المجتمع المدني وفق معايير شفافة وآليات واضحة، وتنفيذ برامج ومشاريع تنموية مشتركة، على غرار تجربتي الأردن والمملكة العربية السعودية؛
  1. بناء اتحادات وائتلافات بين منظمات المجتمع المدني، قائمة على أسس واضحة وأجندة مشتركة وهياكل تنسيقية مشتركة محوكمة، وظيفتها:
  • حماية استقلالية الفضاء المدني من تحكم السلطة وتعسفها، عبر إطلاق حملات مناصرة وحشد فعالة للضغط باتجاه تبني قوانين جديدة عصرية ناظمة للحريات العامة كقوانين: المنظمات، الانتخابات، الإعلام، الأحزاب، الإدارة المحلية، حرية المعلومات؛
  • تبادل المعرفة والخبرات والممارسات الجيدة بين منظمات المجتمع المدني، بما يعزز من حوكمتها وقدراتها. كذلك تعزيز قدرة المنظمات على تقديم رؤى مشتركة ومقترحات وتوصيات للحكومة في قضايا الشأن العام، والضغط عليها للأخذ بها.

( [1]) Hallaj, O. A. et al. The Roadmap for the EU Engagement with Syrian Civil Society. The European Union. 12 Feb 2022. https://shorturl.at/xmy4Q

([2]) منذ العام 2005، عقدت ورش عمل بين وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل والاتحاد الأوروبي لمناقشة تحديث قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة رقم 93 لعام 1958، وتم صياغة 25 مسودة لتطوير قانون الجمعيات بين عامي 2008-2012، لكنها لم تبصر النور.  مقابلة مع عمر عبد العزيز حلاج أحد أعضاء اللجنة المكلفة إعداد وتطوير قانون الجمعيات. 18 نيسان 2025.

([3])Ayman Aldassouky and Sinan Hatahet. The Role of Philanthropy in the Syrian War: Regime-Sponsored NGOs and Armed Group Charitie. Wartime and Post-Conflict in Syria (WPCS). 11 June 2020. https://shorturl.at/CWbp7

([4])  المرجع السابق نفسه.

([5])  تم الإبقاء على القانون رقم 93 لعام 1958 وكذلك على اللائحة التنفيذية الخاصة به (القرار رقم 1330).

([6]) إصدار القرار رقم 5201 بتاريخ 29 كانون الأول 2024 والمتضمن إجراءات تأسيس منظمات غير حكومية (فريق، جمعية، مؤسسة)

([7]) وزير الشؤون الاجتماعية: التعليمات الجديدة حول ترخيص المنظمات غير الحكومية ‏تهدف لتحفيز العمل الأهلي وخدمة المجتمع، الوطن أون لاين، 01 كانون الثاني 2025. https://shorturl.at/K7K48

([8]) البيان الصحفي المشترك بين اتحاد الجمعيات الخيرية في دمشق وريفها واتحاد الجمعيات الخيرية في حلب بخصوص القرارات الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. الصفحة الرسمية لاتحاد الجمعيات الخيرية بدمشق-صندوق العافية. 28 كانون الأول 2025. https://shorturl.at/CwMoA

([9])عقب جدل.. "الشؤون الاجتماعية" توضّح طبيعة قرار آلية التخاطب مع المنظمات الدولية، تلفزيون سوريا، 19 آذار 2025. https://shorturl.at/fOl9U

([10]) عمر عبد العزيز حلاج وحسان المصري، إعادة تعريف الحيز المدني، لوغاريت، 08 نيسان 2025، https://link.lugarit.com/zCBD

([11])بيان وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل رقم 965 الصادر بتاريخ 29 شباط 2025.

([12]) مؤسسة تأسست في نهاية عام 2023، تعرف عن نفسها بأنها: مؤسسة سورية غير ربحية موقعها مدينة إدلب، تأخذ دور الوسيط كنقطة اتصال مركزية بين منصات الدعم الدولية والإقليمية والعالمية والمؤسسات المنفذة العاملة في شمال غرب سورية، وذلك للارتقاء بواقع العمل الإنساني وجعله أكثر كفاءة وفعالية مع المتغيرات والطوارئ. عقب سقوط نظام الأسد، توسع عمل مكتب HAC ليشمل كامل الجغرافية السورية، حيث تم تأسيس أربعة مكاتب يغطي كل منها مناطق وفق الآتي: مكتب دمشق ويغطي محافظات دمشق وريفها ودرعا والقنيطرة والسويداء، مكتب حلب ويغطي محافظة حلب وجزء من محافظة إدلب، مكتب حمص ويغطي محافظات حمص وحماة وطرطوس واللاذقية وجزء من إدلب، مكتب دير الزور ويغطي محافظات دير الزور والرقة والحسكة.

([13]) نص القرار على أن المنظمة تمارس عقب قرار إشهارها، أنشطتها مباشرة بالتنسيق مع مكتب HAC ومديرية الشؤون الاجتماعية والعمل في محافظة مقر المنظمة، على أن تحصل على الترخيص اللازم من الجهة الفنية المعنية بالنشاط كوزارة التربية أو الصحة

([14]) تم تأسيس إدارة المناطق نهاية عام 2019 بداية عام 2020 في مناطق حكومة الإنقاذ، وهي أشبه بوكيل المركز في المحليات (مثل المحافظ/ قائد المنطقة في القانون 107) وقناة تواصل مع المجتمعات المحلية. تعتبر إدارة المنطقة صلة الوصل بين القيادة العامة للمحرر والسكان المحليين، لنقل شكاوي والمطالب وغالباً قاداتها من الجهاز الأمني والعسكري للهيئة، من مهامها مراقبة الحكومة والإشراف على عمل أجهزتها والبلديات وتسهيل عملها، الضبط الأمني بالتعاون مع جهاز الأمن العام ووزارة الداخلية ومجلس الصلح العام وديوان العشائر. عقب سقوط نظام الأسد، تم تعميم هذه التجربة على كافة المناطق التي تديرها السلطة الجديدة، حيث يتم تعيين مدير المنطقة من قبل المحافظ.

([15]) توزيع سلل غذائية على عدد من المستحقين في مدينة قطنا، وذلك بإشراف وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وبالتنسيق مع إدارة منطقة قطنا، الصفحة الرسمية لمحافظة ريف دمشق على موقع Facebook، تاريخ الزيارة 17 نيسان 2025. https://shorturl.at/ZZ0PL

([16]) إدارة منطقة بانياس تعقد اجتماعاً مع منظمة "OCHA"، الصفحة الرسمية لمحافظة طرطوس على موقع Facebook، تاريخ الزيارة 17 نيسان 2025. https://shorturl.at/7VBz5

([17]) عمر عبد العزيز حلاج وحسان المصري، إعادة تعريف الحيز المدني. مرجع سابق.

([18]) أصدر مكتب تنسيق العمل الإنساني على معرفاته بتاريخ 17 آذار 2025 الإطار التنظيمي للعمل الإنساني في الجمهورية العربية السورية، والذي يتضمن دليلي عمل المنظمات المحلية والمنظمات الدولية غير الحكومية.

([19]) نص بيان وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بأن المادتين 54 من النظام الداخلي للجمعيات والفرق التطوعية، و28 من النظام الأساسي للمؤسسات ذات الصلة بتحويل أموال المنظمة عند حلها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لاستخدامها في العمل الإنساني والخيري، لا تطبق إلا في حالات استثنائية وعند حدوث مخالفات جسيمة، دون تحديد ماهية المخالفات الجسيمة.

([20]) في هذا الصدد يقول أسامة الحسين عقب اجتماع حضره مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل: "ما خرجت به من الاجتماع هو أنّ الوزارة لا تملك رؤية واضحة لشكل علاقتهم معنا، طرحنا الكثير من الأسئلة لنفهم دورنا في المرحلة القادمة، هل سنكون شركاء حقيقيين للحكومة في البناء أم أنها ستحاول إعادة إنتاج حالة التبعية التي كانت قائمة في زمن النظام، وكل ما حصلنا عليه هو وعودة بأنّ كلّ شيء سيكون على ما يرام". للمزيد مراجعة، سلطان جلبي، أوان التحوّل.. القطاع غير الحكومي السوري بُعيد سقوط نظام الأسد. Syriauntold. 30 كانون الثاني 2025. https://shorturl.at/0qHmV

([21]) عمر عبد العزيز حلاج وحسان المصري، إعادة تعريف الحيز المدني. مرجع سابق.

([22]) في عام 2018، صدر تكليف رئاسي لرئيس مجلس الوزراء يقضي بتشكيل لجنة (ثلاثية من العدل والخارجية والتضامن المجتمعي) لإعداد تصور حول قانون تنظيم عمل الجمعيات، وبدورها عقدت اللجنة 20 اجتماع داخلي. كما عقدت وزارة التضامن المجتمعي سبع جلسات تشاورية بمشاركة 1300 جمعية محلية، وعدد من الجمعيات الأجنبية والمجلس القومي لحقوق الإنسان، إلى جانب منظمات حقوقية ورجال قانونيين وسياسيين وعدد من السفارات الأجنبية. كما تقدمت 1164 جمعية بمساهمات مكتوبة، كما شمل الحوار المجتمعي نقاشاً عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل المجتمعية.

الإثنين آذار/مارس 24
يأتي هذا الكتاب في ظل النقاش المحتدم حول مفهوم التعافي المبكر ومدى ملائمة المرحلة التي تعيشها سورية لطرح هذا المفهوم والخوض فيه، في ظل غياب ظروف عدم الاستقرار اللازمة للبدء…
نُشرت في  الكتب 
الأربعاء كانون1/ديسمبر 18
أطلق مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ومعهد السياسة و المجتمع، كتابه الجديد بعنوان: “حرب الشمال: شبكات المخدرات في سوريا، الاستجابة الأردنية وخيارات الإقليم”، ويحلل الكتاب ظاهرة شبكات تهريب المخدرات المنظمة في…
نُشرت في  الكتب 
الإثنين تموز/يوليو 22
المُلخَّص التنفيذي: قسَّمت الدراسة مبناها المنهجي وسياقها المعلوماتي والتحليلي إلى فصول ثلاثة، مثّل الفصل الأول منها: مدخلاً ومراجعة لتاريخ القبائل والعشائر في الجغرافية السورية بشكل عام وفي محافظتي حلب وإدلب…
نُشرت في  الكتب 
يرى المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف، في تصريح صحفي لجريدة عنب…
الثلاثاء نيسان/أبريل 02
شارك الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية الأستاذ سامر الأحمد ضمن برنامج صباح سوريا الذي…
الأربعاء تشرين2/نوفمبر 29
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في فعاليات المنتدى الاقتصادي الخليجي…
الجمعة تشرين2/نوفمبر 24
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في رؤية تحليلية للحرب على…
الإثنين تشرين2/نوفمبر 20