ملخص تنفيذي
- باستمرار الاستهداف الإسرائيلي على الأراضي السورية؛ يُفسر نأي النظام السوري عن الانخراط في الصراع الإقليمي الأوسع بين محور المقاومة وإسرائيل بمرور أكثر من سنة على الحرب على غزة؛ بأنه ينتهج استراتيجية تمرير الوقت، لغياب القدرة عن الانفكاك في هذه المرحلة عن إيران، بالإضافة لوجود اعتبارات لحسم الصراع المحلي في سوريا كهدف رئيسي، كما تلعب جملة من القيود والمحددات المحلية، أدوارًا إضافية في تثبيت هذا الدور غير الفاعل أمام جملة التحولات الإقليمية.
- تُعتبر الفترة القادمة، لحين تولي ترامب رسميًّا إدارة البيت الأبيض، الأكثر عرضة لامتداد رقعة الحرب الإسرائيلية نحو الجنوب السوري، وقد يتخذ هذا التوسع أحد الأهداف الاستراتيجية، كعزل حزب الله عن الممر الإيراني الآمن، والذي يعتبر شريانًا حيويًا لاتصال الحزب بإيران مرورًا بالجغرافيا السورية، أو توسيع المنطقة العازلة شمال الجولان بالحد الأدنى لإسرائيل. في حين يُستبعد أن تصل حالة التصعيد الجارية لمرحلة الاشتباك المباشر مع النظام السوري.
- تراهن دمشق على عاملين اثنين في المرحلة المقبلة هما؛ استمرار وتيرة الانفتاح الدبلوماسي لإعادة تأهيل النظام دوليًا، ورهان إعادة الإعمار وتجاوز مرحلة الحرب، وبالتالي يفهم نأي النظام بنفسه من منظور براغماتي سعيًا في البقاء وتجاوز حالة التصعيد في الشرق الأوسط، وهو ما يطرح تساؤلات حول حدود قدرة النظام في عدم الاصطفاف المباشر خلف إيران. كما تتيح المبادرة العربية والتوجهات السياسية الروسية هوامش إضافية لحركة النظام السوري للتحلل التدريجي من النفوذ الإيراني، في حين يعتبر الانتشار العسكري الإيراني في سوريا الأكبر والأهم من بين الأطراف الأخرى.
مقدمة
تمتد جملة التحولات الإقليمية المصاحبة لتبعات الحرب الإسرائيلية على غزة عقب أحداث "السابع من أكتوبر" بشكل عام، والتي تعتبر حدثًا مفصليًا في الشرق الأوسط، ومن ثم توسع العمليات العسكرية لجنوب لبنان في أكتوبر/تشرين أول 2024 بشكل خاص؛ نحو الجغرافيا السورية، حيث يفرض تسارع الأحداث اختبارات لعدد من التصورات التي لطالما نُظر إلى بعضها على أنها مُسلمات في سوريا، وتحديدًا اصطفاف النظام السوري في سياسة المحاور في الشرق الأوسط، والتساؤل حول مدى وحدود قدرة واستقلالية النظام من منطلقات براغماتية للتحلل من النفوذ الإيراني. وبالتالي، ما هي المسافة الفاصلة بين النظام السوري وبين ما يُعرف بـ"محور المقاومة".
حيث يطرح غياب الجبهة السورية المساندة عن الاشتباك الفعلي في جبهة الجولان المحتل بعد أكثر من سنة على بدء الحرب؛ وحالة السكون أمام الاستهداف الإسرائيلي المتكرر في الأراضي السورية، فضلًا عن المأزق الاستراتيجي الجاري في جنوب لبنان للدور والنفوذ الذي لطالما أداه النظام السوري في الشؤون اللبنانية، ناهيك عن التحولات المرتقبة وأثرها في السياسة الأميركية بفوز دونالد ترامب، والتي قد تسبقها جملة من المقدمات على الأرض وفي مسار الصراع السوري؛ فهذه العوامل مجتمعة تثير عدة تساؤلات حول ما يمكن وصفه برهانات دمشق للمرحلة المقبلة، لا سيما أمام حالة الفوضى المستمرة في الشرق الأوسط، والتي وإن طالت فلا بد لها من أن تُنتج ترتيبات إقليمية جديدة، وبذلك، فإن فهم التطورات الجارية على الأراضي السورية على المستوى الاستراتيجي والمحلي في مناطق سيطرة النظام السوري؛ تساهم في فهم قطعة مهمة من فسيفساء المرحلة القادمة للشرق الأوسط، وفي سبيل ذلك، تُقدم المادة التالية رصدًا وتحليلًا لأبرز المتغيرات والعوامل المؤثرة في سوريا على صعيد المشهدين، المحلي في مناطق سيطرة النظام السوري، والجيوسياسي على مستوى التطورات المستمرة بين الفاعلين الرئيسيين في سوريا.
النظام السوري، إيران ومحور المقاومة؟
أمام ارتفاع حدة وفرص تصعيد وتوسع الحرب الإسرائيلية نحو الجنوب السوري، ومع تبلور جملة مؤشرات تُرجح هذه الاحتمالات، إذ تستهدف إسرائيل بشكل متكرر، فاقَ 162 غارة عبر القصف المدفعي والغارات المتكررة للشريط الحدودي وبشكل خاص للمعابر مع لبنان([1])، والمنشآت الحيوية للحرس الثوري والفصائل الإيرانية المنتشرة في سوريا، والتحرك بشكل تمهيدي عبر إزالة الألغام والحواجز شمال الجولان بما يُفَسر كتحضيرات لعملية برية محتملة([2])؛ تضع هذه التطورات النظام السوري أمام اختبار جاد لحقيقة اصطفافه ضمن ما يعرف بـ"محور المقاومة"، لا سيما في ضوء النفوذ الإيراني الذي يعتبر الأكبر بين الأطراف الأجنبية في سوريا، حيث يشمل النفوذ الإيراني الصيغتين:
خريطة (1): توضح مناطق النفوذ والوصول المباشر لإيران والفصائل الإيرانية على الجغرافية السورية باللون الأحمر،
وحتى منتصف تشرين ثاني – نوفمبر 2024([3])
- الوجود العسكري المباشر: بانتشار الفصائل المدعومة من إيران عبر منشآت ونقاط وقواعد عسكرية في مناطق سيطرة النظام السوري وسط وجنوب سوريا، والتي تتعرض للاستهداف المباشر من إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، حيث تشير التقارير إلى توزع انتشار الفصائل المدعومة من إيران بشكل كثيف في المدن الرئيسي والطرق السريعة الرئيسية (كالطريق السريع M4 وM5)، والتي تعتبر مراكز حيوية لإيران في سوريا، كما يظهر في الخريطة (1)، حيث تحتفظ إيران بأكبر انتشار عسكري أجنبي في سوريا موزعًا على 14 محافظة، إذ تتمركز بكثافة في مراكز المدن كدمشق، وريف دمشق، ودير الزور، وحمص، وحلب. وقد شهدت بعض هذه المناطق تراجعًا في الانتشار أو إعادة تموضع لبعض المواقع المهمة، نتيجة لارتفاع حدة ووتيرة الضربات الجوية الأمريكية والإسرائيلية منذ بدء الحرب على غزة، إضافةً إلى انسحاب 14 نقطة من القنيطرة بتنسيق وتفاهم إيراني - روسيا، لتجنب استخدام هذه المواقع ضد إسرائيل، وتأكيدًا على دور روسيا كضامن في الجنوب الغربي من سوريا قرب الحدود مع الجولان.
- النفوذ الإيراني غير المباشر: والذي يشمل النفوذ والتأثير على بعض الهياكل الأمنية والعسكرية وأفرادها، لا سيما الفرقة الرابعة التي تعتبر بوابة الانتشار الإيراني المباشر في الجغرافيا التي يسيطر عليها النظام السوري([4]). أو بالقيام بدمج الميليشيات المحلية التي شكلتها إيران خلال مراحل الحرب، في وحدات الجيش والأجهزة الأمنية التابعة للنظام، بهدف منحها وضعًا قانونيًا، وتوفير حماية من الهجمات الإسرائيلية أو الأمريكية المحتملة ([5]).
كما يعتبر الممر الإيراني الآمن من إيران عبر العراق فسوريا حجر الزاوية للطموحات الإيرانية في الشرق الأوسط، وتفسيرًا للنفوذ الإيراني في سوريا ولبنان، ويحظى بمركزية جيوسياسية كبرى مؤكدًا على المصالح الإيرانية الحيوية في سوريا لبقاء الربط البري كشريان لوجستي لإمداد حزب الله بالسلاح والعتاد والخبراء والمقاتلين، وكنافذة تربط إيران بغرب البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يوضح مركزية الجغرافية السورية في التفكير الاستراتيجي الإيراني. والذي لأجله تدخلت إيران في النزاع السوري بثقلها منذ سبتمبر/أيلول 2011، وتشير تقارير لحجم الانفاق الهائل الذي ترتب على هذا التدخل ليبلغ 50 مليار دولار([6])، ناهيك عن آلاف القتلى والخسائر في صفوف المقاتلين الإيرانيين والمنتمين للفصائل المدعومة منها.
خريطة (2): توضح خطوط الممر الآمن "الكوريدور الإيراني" برًا باللون الأسود، وجوًا باللون الأبيض ([7])
بذلك يمكن اعتبار الانتشار والنفوذ الإيراني محددًا مهمًا لتوجهات النظام السوري أمام فرص توسع الحرب، فوفقًا لعقيدة "وحدة الساحات" التي لاقت رواجًا خلال المرحلة السابقة لطوفان الأقصى، فإن ترقب انخراط النظام السوري في جبهة رديفة لبقية محور المقاومة كان منطقيًا، لا سيما وأن جبهة الجولان تحظى برمزية كبرى في سردية النظام السوري منذ 1970، إلا أن حالة السكون هي التي سادت خلال شهور الحرب الثلاثة عشر، ومع تكثف الضغوط من كلا الجانبين؛ إسرائيل والفصائل المدعومة من إيران لدفع النظام نحو التحرك والاشتباك في الصراع، إذ تستهدف إسرائيل بالغارات والمسيرات والمدفعية بشكل شبه يومي المواقع الحساسة لإيران في سوريا([8])، وإحدى هذه الضربات تعتبر منعطفًا إقليميًا وهي الغارة التي استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع أبريل/نيسان الماضي. في حين تستهدف الفصائل المدعومة من إيران جبهة الجولان بشكل متكرر، وبما يمكن اعتباره ضغطًا على النظام السوري للتحرك أمام إسرائيل، إذ يُفهم من عقيدة "وحدة الساحات" أن التنسيق بين الجبهات بين أطراف المحور يعتبر أمرًا ضروريًا، خاصة لضمان عدم تقاسم الشرعية الناتجة عن القتال في هذه الجبهات، وعلى أية حال، فإن كلًا من الضربات الإسرائيلية والتحركات الفعلية على الأرض؛ والمسيرات والصواريخ الباليستية التي تستهدف الجولان المحسوبة على النظام السوري؛ لم تدفع النظام سوى لإصدار البيانات والاستنكار، الأمر الذي يطرح تساؤلات وراء الصمت الحازم للنظام أمام هذه التطورات.
يمكن فهم توجه النظام للإبقاء على توافق شكلي مع إيران بالحد الأدنى، عبر التماهي مع أنشطة الفصائل المدعومة إيرانيًا المتواجدة في مناطق سيطرة النظام السوري، وبقاء هذه الجغرافيا كممر إسناد عوضًا عن تحولها لجبهة قتال فاعلة للاشتباك مع إسرائيل([9])، وهو ما يضمن مسافة كافية بعيدة عن الدخول المباشر في مشهد الحرب الإقليمية، ويوضح ذلك الموقف الصارم من النظام لهياكله العسكرية والأمنية، وتحديدًا للفرقة الرابعة من عدم الانخراط الفعلي مع الأنشطة الإيرانية في سوريا أو استهداف الأميركيين والإسرائيليين([10])، بالمقابل تُفهم الضربة التي نفذتها مسيرة إسرائيلية على "فيلا" تابعة لماهر الأسد في 30 سبتمبر/أيلول 2024، والتي تشير مصادر عن تردد قيادات تابعة لحزب الله والحرس الثوري والتجمع فيها([11])؛ على أنها رسالة تحذيرية من إسرائيل للنظام لعدم الاصطفاف المباشر مع إيران.
بالمقابل يمكن اعتبار أن استئصال الوجود الإيراني في سوريا مصلحة غير معلنة للنظام السوري، حيث تتناقل تقارير وجود حالة من تسريب المعلومات والإحداثيات عن أماكن التمركز الإيراني من قبل بعض أجهزة النظام لإسرائيل([12])، ويشير ذلك لتوفر الرغبة لدى النظام السوري للتحلل من النفوذ الإيراني أو خفض حدته على أقل تقدير، في حين تبقى مسألة القدرة على ذلك موضع شك، لا سيما في ضوء الانتشار الواسع لإيران في سوريا. وعلى كل تبقى إشكالية فهم توجهات النظام لعبور الحالة الضبابية الراهنة في الشرق الأوسط، والوسائل الممكنة لذلك؛ عرضة للتطورات الإقليمية الآخذة بالتسارع بمرور الوقت.
استراتيجية تمرير الوقت وأولوية حسم الصراع المحلي
يعتبر حسم الصراع المحلي في سوريا الأولوية الكبرى للنظام السوري في المرحلة الراهنة، إذ يُدرك النظام أن الانخراط في أية عمليات عسكرية ضد إسرائيل مباشرة، أو التوجه لإسناد حزب الله في لبنان؛ لن يتأتى إلا على حساب تعقيدات المشهد المحلي وخطوط السيطرة المحلية المستقرة -إلى حد كبير- منذ سنة 2020 بعد اتفاق التهدئة بين تركيا وروسيا([13])؛ ولفهم المشهد الجيوسياسي في الصراع المحلي السوري، توضح خريطة السيطرة والنفوذ في الجغرافيا السورية التالية بين الأطراف الرئيسية جانبًا من هذه التعقيدات، خاصة في ضوء حالة الترقب والاستنفار على خطوط الجبهات المشتركة فيما بينها. وهذه الأطراف تظهر في الخريطة (3)، وعلى النحو التالي:
خريطة (3): توضح مناطق توزيع السيطرة والنفوذ بين الأطراف المحلية في الصراع السوري،
وحتى منتصف نوفمبر – تشرين ثاني 2024([14])
أولًا، النظام السوري مدعومًا من إيران وروسيا؛ وهو الطرف الأبرز محليًا، حيث تمتد مناطق سيطرته لتشمل تقريبًا 63% من الجغرافية السورية، وبشكل محدد في وسط وجنوب سوريا مع الساحل السوري، مع التأكيد على أن جزءًا كبيرًا من هذه المنطقة هي صحاري فارغة بلا موارد طبيعية أو كثافة سكانية -باستثناء مراكز المدن والأرياف- على عكس مناطق سيطرة الأطراف المحلية الأخرى، قسد والمعارضة السورية. كما أن جملة من عوامل التفوق العسكري تقوي من موقف النظام السوري أمام الأطراف الأخرى، حيث يعتبر الطرف الأكثر تسليحًا، ويحظى بالتفوق الجوي، والدعم الروسي والإيراني الكبير، وبالتالي يمكن اعتباره الطرف الأقرب لحسم الصراع إذا ما عاد التصعيد المباشر إلى الواجهة مجددًا. كما تضفي موجه التطبيع الدبلوماسي المزيد من الثقل على موقف النظام، لا سيما وأنها تمهد لاستعادة الشرعية السياسية التي هي موضع شك منذ بدء الأحداث في 2011، وبالتالي فإن مزيدًا من الثقل السياسي والرضا الدولي آخذ في التبلور عبر التطبيع الدبلوماسي مع النظام السوري.
ثانيًا، قوات سوريا الديمقراطية (قسد)؛ تسيطر القوات الكردية على مناطق شمال شرق سوريا، ويبلغ إجمالي مساحة السيطرة على الأرض تقريبًا 25%، وهي ثاني أبرز طرف محلي من حيث المساحة، وتستند قسد إلى الدعم الأميركي، وبعض التفاهمات الجزئية مع النظام السوري حول بعض القضايا ذات المصلحة المشتركة أمام المعارضة السورية المدعومة من تركيا، في حين تتخذ قسد من محاربة تنظيم داعش دعامة رئيسية للبقاء ولاستمرار الدعم الأميركي، وبالعودة لملف مكافحة الإرهاب في شمال شرق سوريا([15])، وتجدد الاشتباكات مع العشائر العربية([16])؛ تتجه قسد لإعادة تحفيز الدعم الأميركي مراهنة على المؤسسات الأميركية أمام توجهات ترامب السابقة والمتوقعة مع عودته؛ لسحب القوات الأميركية من سوريا([17])، وإذا ما حدث ذلك قد يؤدي لانكشاف قسد عسكريًا أمام النظام السوري والمعارضة السورية.
ثالثًا، المعارضة السورية؛ تشمل مناطق سيطرة المعارضة مناطق شمال غرب سوريا، وتمتد مدعومة من تركيا أيضًا للشريط الحدودي في مناطق عمليات درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، وتنقسم هذه المناطق بين سيطرة الجيش الوطني السوري المعارض، وهيئة تحرير الشام في إدلب. مع ضرورة التأكيد على أن مكونات المعارضة السورية لا تنسجم بشكل تام مع هيئة تحرير الشام، حيث توجد حكومتان وجيشان مختلفان بين إدلب وشمال غرب سوريا، وبالتالي لا ينبغي النظر لها على أنها مناطق سيطرة واحدة ومتجانسة.
مما سبق، فإن جملة من المتغيرات قد توضح كذلك توجهات عودة التصعيد في شمال غرب سوريا، خاصة أن استهداف النظام السوري للمناطق الساخنة جنوب إدلب مستمرة ولم تتوقف خلال السنة الماضية([18])، سواء بالمسيرات أو بالاشتباكات المتقطعة. يضاف لذلك وجود حالة من الترقب لمسار المفاوضات التركية مع النظام السوري، والذي يواجه حالة من التقطع تبعًا للقضية الخلافية المركزية المتمثلة في مطالب النظام لسحب القوات التركية من الأراضي السوري كشرط للدخول في المفاوضات.
في المحصلة، تبقى حالة التداخل والتعقيد بين أطراف الصراع الرئيسية في سوريا هي المهيمنة على المشهد، ويستمر توازن القوى العسكري بين الأطراف المحلية هو الضامن العملي لاستمرار الوضع الراهن في خريطة السيطرة والنفوذ، ولكن على المدى القريب والمتوسط مستقبليًا؛ يبقى الحسم العسكري في عدة مناطق بين الأطراف المحلية هو المسار الأرجح والأقرب للتحقق، خاصة مع غياب أي بوادر للتحرك ضمن نطاق المسارات السياسية في المسألة السورية، كما أن جملة من الصراعات الدولية تزاحم القضية السورية في الاهتمام الدولي، سواء في الشرق الأوسط أو في أوكرانيا، وبالتالي، فقد تمهد المرحلة الفاصلة من الآن ولحين تولي دونالد ترامب للرئاسة الأميركية فعليًا في يناير/كانون ثاني 2025؛ لحدوث جولة تصعيد عسكري جديدة في سوريا، خاصة وأن هذه المرحلة قد تعتبر فرصة تسمح لإعادة تشكيل مشهد النفوذ والسيطرة في سوريا.
ومن هذا المنطلق؛ فإن توجه النظام السوري نحو تطبيق السكون في الجبهة الجنوبية ولبنان أمام إسرائيل، يمكن فهمه على اعتبار إدراك النظام السوري ضرورة البقاء كلاعب رئيسي في الصراع المحلي، والاستمرار بصورة الطرف الأقرب لحسم الصراع لصالحه، في ضوء الدعم الروسي وبروز توجهات دولية لإعادة تأهيل النظام سياسيًا، وهو ما قد يتنافى مع التوجه للاشتباك أو التدخل في أي جبهة قتالية ضمن المعادلات الإقليمية بين إيران وإسرائيل.
عين على الداخل؛ المحددات والقيود
أفرزت سنوات الصراع السوري جملة من الأزمات المركبة التي تتعقد بمرور الأحداث والسنوات عليها، كأزمات اللجوء والنزوح السوري، حيث يبرز المشهد المفكك والمعقد لمناطق النفوذ المختلفة تصورات عن مدى عمق الصراع وتعقده، ومدى تضارب أو تقاطع مصالح الأطراف المختلفة المحلية والإقليمية والدولية، وتسلط هذه الجزئية الضوء على محددات رئيسية تُوجِه سلوك النظام السوري في ضوء الأجواء الإقليمية المضطربة والتصعيد المتسارع بين إيران وحلفائها في المنطقة من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى في ظل حربها على غزة ولبنان، وتحديدًا الظروف المحلية التي تحيط بالنظام في المناطق القابعة لسيطرته وعلى مستويَين اقتصادي وسياسي.
يواجه النظام أزمات اقتصادية خانقة، إذ يمكن وصف الوضع الاقتصادي القائم باقتصاد الصراع؛ فمنذ بداية النزاع في سوريا سنة 2011؛ تعاطى النظام مع الأزمات المحلية في مناطق سيطرته بإدارة غير فاعلة، عبر صعود من هم دون مؤسسات الدولة؛ كأمراء الحرب وقادة ميليشيات، فضلًا عن تشكُل شبكات اقتصادية مرتبطة بالمقربين من الدائرة الضيقة الحاكمة للنظام السوري. حيث تمتد تداعيات هذا المشهد الاقتصادي المعقد نحو الشعب السوري بفقدان العديد من المواطنين السوريين لوظائفهم وتهجيرهم بالتزامن مع التدمير الكبير في البنى التحتية ومصادر الخدمات الأساسية، كنتيجة لاستخدام الوسائل الخشنة لقمع مطالب السوريين، بالإضافة لتنامي نفوذ الشبكات الإجرامية في مناطق سيطرة النظام، خاصة المعنية بإنتاج وتهريب المخدرات([19])، وخطف المدنيين، وفرض الحواجز والسلب([20])، والتي تمتد تداعياتها أمنيًا لخارج سوريا ونحو الإقليم.
هذا النسق ولّد أزمات متجذرة في الاقتصاد السوري، لكن دون الإغفال عن العوامل الأخرى الخارجية، كانهيار النظام الاقتصادي اللبناني، والذي يشكل خطوة مفصلية في انهيار النظام الاقتصادي السوري، يضاف لذلك حُزم العقوبات الأميركية كـ"قانون قيصر" على الحكومة السورية والأفراد والشركات التي تتعامل مع رئيس النظام السوري، والتي تؤثر بشكل رئيسي في إضفاء المزيد من التعقيدات الاقتصادية على مسارات أبرزها الأنشطة المتعلقة بقضايا إعادة الإعمار دون وجود تسوية سياسية حقيقية تتوافق مع قرار مجلس الأمن 2254، حيث تُظهر الممارسة العملية لاقتصاد النظام بأنه لا يعتمد على شبكة العلاقات الاقتصادية الرسمية في المستوى الخارجي([21])، بل يقوم بذاته وعلى ذاته بتوظيف الموارد الداخلية، كما أن النظام مستمر في اتخاذ إجراءات تساهم في تعزيز الأزمة الاقتصادية المحلية بمسارها الحالي، ويؤيد ذلك سلوكه على مستوى الاقتصاد المحلي، حيث يشير باحثون إلى أن موازنة النظام للعام 2023 لم تقدم أي حلول للأزمة الاقتصادية، وحتى لو كانت جزئية، بل تعمل على المحافظة بقاء النظام في السلطة دون الاهتمام بحال المواطنين والأوضاع المعيشية التي يتعرضون لها، من انهيار في القدرة الشرائية والارتفاع العام في الأسعار([22])، يعزز ذلك أزمة الكهرباء التي يعاني منها السوريون في المناطق الخاضعة لسيطرته([23]).
بذلك، تنعكس مظاهر عدم الرضا الاقتصادي للسوريين على أرض الواقع، وتمتد سياسيًا في السويداء، إذ عوملت تلك المحافظة بخصوصية منذ اندلاع الأحداث، نظرًا لوجود المكون الدرزي فيها، إلا أن المفارقة تظهر في أن خصوصيتها لم تكن مستدامة، وكانت نتيجة لوعود بالإصلاح الاقتصادي وتقليص التهميش الذي طالما تعرضت له، فقد أتمت احتجاجات السويداء السلمية عامًا على قيامها منذ أغسطس/آب 2023، وقد لعبت الظروف الاقتصادية الصعبة وعدم القدرة على تحقيق أقل المتطلبات الأساسية للحياة بجوار عوامل أخرى دورًا أساسيًا في تفاقم الاحتجاجات، لكن الطبيعة الاقتصادية لها لم تنفك حتى اتخذت طابعًا سياسية أيضًا([24])، والتي تمثلت بتصاعد حدة الاحتجاجات بقيام عدد من المحتجين في السويداء عدة مرات بإتلاف وتمزيق رموز النظام السوري كصور بشار الأسد والتأكيد على المطالب كإسقاط النظام، وتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، والكشف عن المعتقلين وبيان مصير المختفيين قسرًا([25]).
في حين تخنق الأزمات الاقتصادية والسياسية الشارع السوري وتثقل كاهل مؤسسات النظام المُنهكة، فقد أنتجت الحرب الإسرائيلية على لبنان مأزقًا جديدًا تمثل بموجة تهجير للسوريين واللبنانيين في لبنان نحو الأراضي السورية، وبعضها لمناطق سيطرة النظام والأخرى نحو المعارضة السورية في شمال غرب سوريا، وقد كان من اللافت تعامل النظام مع "الوافدين اللبنانيين" على حد تعبيره، حيث قام بتجهيز عدد من مراكز لإيواء للنازحين اللبنانيين، كما سمحت الهيئة الناظمة للاتصالات تسهيل بيع الخطوط الخلوية مع منحهم باقات انترنت مجانية، إلا أن المفارقة تظهر في تمسك النظام بقانون يسمح بدخول السوريين من لبنان إلى سوريا شريطة دفع مبلغ 100 دولار للسماح لهم بالدخول([26])، وتم لاحقًا تعليق العمل بهذا القانون مؤقتًا نظرًا لكثافة موجات لجوء العائدين من لبنان([27]).
التغييرات المحلية؛ رسائل متعددة
على المستوى السياسي، قام النظام السوري بإصدار حزمة من القوانين والتغييرات الهيكلية في مؤسسات النظام، والتي قد تكون محاولات جديدة لإعادة تقديم نفسه في الساحة الإقليمية والدولية بصورة أكثر قبولًا، بالتزامن مع تجاهل الحلول السياسية الجادة للأزمة السورية وفقًا لمطالب السوريين، إلا أن تلك المحاولات تشوبها عدة ثغرات، وفيما يلي استعراض لجملة من أبرز المراسيم والتشريعات التي اتخذت شكل "الإصلاحات" خلال العام الجاري:
- يعتبر الإصلاح العسكري الأمني والسياسي من أبرز ملامح توجهات النظام خلال السنة الماضية، حيث أعلن منذ بداية العام الجاري عن طريق أمني جديد يتضمن إعادة هيكلة وتعيينات جديدة، كان أكثرها وضوحًا تغيير رئيس مكتب الأمن الوطني، علي مملوك، وتعيين اللواء، كفاح الملحم، فضلًا عن إعادة تنظيم وهيكلة القوات المسلحة بهدف تشكيل جيش احترافي عبر جعل منظومته تعتمد بشكل أكبر على المتطوعين، من خلال عقود تطوع جديدة تضمنت ميزات، وإغراءات مالية للتشجيع على التطوع، ويترافق مع ذلك التعديلات على الخدمة العسكرية في سوريا للمتخلفين عنها على سبيل التسهيل للسوريين في الداخل والخارج، إلا أن هذه الخطوات لها دلالاتها الخاصة، خاصة وأنها تطرح تساؤلات حول مدى فاعليتها لمعالجة قضايا ومشكلات المواطن السوري، إلا أنها ترفد الخزينة العامة للنظام بالعملة الصعبة بطبيعة الحال، لا سيما مع تفكك دور الدولة الحقيقي واختزاله في أي أدوار تصب في هدفه بالبقاء والنجاة، حيث يؤيد ذلك جملة الاختلالات السياسية والاقتصادية والأمنية التي فسخت الاستقرار المجتمعي ما قبل 2011.
- يتقاطع مع ذلك؛ المرسوم التشريعي رقم (27) الذي صدر عن النظام في سبتمبر/أيلول العام الجاري، الذي يمنح عفوًا عامًا عن جملة من الجرائم الانتقائية قبل تاريخ صدوره، حيث شمل العفو جرائم الفرار الداخلي والخارجي المنصوص عنها في قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية، ولم يشمل من وصفهم المرسوم بالمتوارين عن الأنظار والفارين من وجه العدالة، شريطة تسليم أنفسهم خلال 3 أشهر لمن فر فرارًا داخليًا، و4 أشهر للفرار الخارجي([28]).
حيث يقع هذا المرسوم ضمن سلسلة من المراسيم التي تصدر من جانبه بشكل متكرر ومكثف بعد عام 2011، لكن ما يثير الانتباه في هذا المرسوم، هو التوقيت الذي يأتي به، حيث توجد جملة من العناصر والعوامل التي ترتبط بالرسائل التي يحاول إيصالها النظام من خلاله للداخل والخارج، حيث يعمل النظام بعد التسويات التي قام بها في الجنوب السوري، أي بعد عام 2018 إلى تصدير أفكار الاستقرار السياسي والأمني في المناطق الخاضعة لسيطرته، فيعتبر المرسوم بذلك أحد الوسائل الذي يسعى ليحقق انعكاسًا عن حسن نيته ورغبته في تقديم خطوات "حقيقية" تجاه أزمة اللاجئين السوريين التي تعاني منها دول الجوار، وللاجئين أنفسهم من أجل تشجيعهم للعودة إلى سوريا، ويأتي ذلك كله ضمن متغيرات دولية رئيسية؛
أولًا، تراجع الاهتمام الدولي بجوانب الأزمة السورية، لا سيما مسألة اللاجئين وتراجع التمويل الدولي المقدم لهم في الدول المستضيفة للجوء السوري، وهو الأمر الذي ولد ضغطًا حقيقيًا على اللاجئين وعلى الدول المستضيفة إقليميًا ودوليًا، والذي انعكس بشكل ممارسات عنيفة ضد اللاجئين في كل من تركيا ولبنان. ثانيًا، يتشكل المتغير في المكتسبات السياسية التي حققها النظام خلال السنة الماضية، وتحديدًا تطبيع إيطاليا مع النظام السوري، وبالتالي يُفهم أنه قد يقرأ المرسوم باعتباره خطوة أمامية مقابلةً للتطبيع مع الدول الأخرى، والذي يأتي بعد استمرار مسار التطبيع العربي بتعيين السعودية سفيرًا لها في دمشق، وفي الإطار الأوسع لذلك كله فالمتغير الثالث؛ المؤطر في سياق الحرب على غزة، والتي كانت فرصة ذهبية للنظام في ضوء الانشغال الإقليمي والدولي لصالحه على المستويين الخارجي، والمستوى الداخلي.
في ذات السياق؛ قام بشار الأسد بتعيين، محمد غازي الجلالي، رئيسًا جديدًا للحكومة السورية خلفًا لحسين عرنوس، نتيجة لتزايد الضغط على النظام السوري وتصاعد وتيرة التصعيد في المنطقة، وبصرف النظر عن الأسباب الموضوعية التي أشار لها رئيس الحكومتين السابقتين حسين عرنوس (2020-2024) بكونها خارجة عن إرادة الدولة والحرب الوجودية التي تتعرض لها سوريا([29]). كما يعتبر التوجه لتغيير الحكومة في هذا التوقيت ذو دلالات للخارج تصب في ذات الهدف لتصدير أفكار الاستقرار، وكان من اللافت تعيين النظام لوزير الخارجية السابق فيصل المقداد نائبًا للرئيس، تحت مسمى نائب رئيس الجمهورية لشؤون السياسة الخارجية والإعلامية، إذ كان المنصب شاغرًا منذ العام ([30])2014، ويُقرأ هذا التعيين على أنه محاولة لإزالة الحرج والمسؤولية عن بشار الأسد وإبعاده إعلاميًا قدر المستطاع في ضوء الحرب على غزة وانتقالها للبنان مع تواضع التصريحات والمواقف السورية الصادرة عن جانبه.
يوضح ذلك ردة فعل النظام وموقفه من اغتيال إسرائيل لحليفه الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، والتي تظهر ما هو أبعد من ذلك، إذ اكتفى ببيان يدين فيه الاعتداء الإسرائيلي ويصفه بـ "الدناءة"، مع الإعلان عن الحداد الرسمي لمدة 3 أيام، تنكس خلالها الأعلام عن السفارات والمقرات([31])، وقد أشار في البيان على عدم نسيان الشعب السوري لمواقف نصر الله الداعمة، حيث قاتل الحزب منذ عام 2013 إلى جانب قوات النظام بشكل علني، وساهم في تعديل كفة القوة العسكرية لصالح النظام بعد تدخله عسكريًا([32])، إلا أن موقف النظام لم يتجاوز حدود التصريحات، والتي يعتقد أنها في الحد الأدنى مقارنة بحجم الحدث الذي يتعرض له حزب الله ومعه محور المقاومة.
تعكس المعطيات والمؤشرات السابقة توجهات النظام السوري في السياق الإقليمي، فحيث أن النظام يواجه عدة أزمات سياسية واقتصادية مركبة ومتشابكة؛ ومع التغييرات المحلية سياسيًا وإداريًا بهدف إعادة انتاج صورة أخرى عن النظام السوري، والاستمرار في تهيئة مناخ محلي جاذب لتطبيع العلاقات مع الدول الأخرى؛ فيستنتج مما سبق أن النظام حتى وأن تولدت لديه الرغبة في لعب دور أكبر في السياق الإقليم، فإن جملة المحددات المحلية لا تدعم مثل هذا التوجه، في ظل تباين الأولويات عن التوجه العام لإيران، وغياب الرغبة للانخراط.
رهانات دمشق: مفترقات الطرق وهوامش الحركة
يتضح مما سبق أن النظام السوري ماضٍ في استراتيجية تمرير الوقت، والحفاظ على الوضع الراهن بمكتسباته، بهدف محاولة تجنب التورط في مواجهة مباشرة كطرف ضمن "محور المقاومة"، وعبور الضباب الإقليمي بأقل خسائر ممكنة، حيث يدرك النظام الخطر الوجودي الذي قد ينبثق عن أي تحرك غير محسوب لصالح إيران أو حزب الله، لا سيما في سياق معادلة صفرية تنتهجها إسرائيل، وتوفر الإرادة الإسرائيلية لتوسيع رقعة الحرب ضد النفوذ الإيراني في الإقليم بعد الحرب على غزة، وغياب الكبح الأميركي لهذه التوجهات؛ والتي تنعكس بوضوح في رفع الضغط والتصعيد العسكري للحد الأقصى في مواجهة حزب الله منذ منتصف سبتمبر/أيلول، والتحركات المباشرة شمال الجولان المحتل، ناهيك عن القصف شبه اليومي للأراضي السورية، وبالتالي، المزيد من فرص التدخل العسكري الإسرائيلي المباشر على الأراضي السورية.
وأمام تعقيدات هذا المشهد بقيود الداخل وتحولات الإقليم؛ فإن براغماتية دمشق تظهر بصورة تفضيل الخيار العربي والروسي في مقابل الاصطفاف مع إيران، وتفضيل المكتسبات الدبلوماسية طويلة الأمد التي يمكن وصفها برهان المصير. فمنذ عودة النظام السوري لجامعة الدول العربية في مايو/أيار 2023، وتفكك الموقف الأوروبي الموحد من النظام بعد تطبيع إيطاليا متبوعًا بتعيين مبعوث خاص للاتحاد الأوروبي لسوريا مؤخرًا([33])، والانفتاح التركي المتسارع على التفاوض المباشر مع النظام([34])، وضبابية توجهات إدارة ترامب نحو تطبيع الدول مع النظام السوري؛ فإن مزيدًا من هوامش الحركة تتاح للتحلل من النفوذ الإيراني، وهو ما يتلاقى مع أهداف النظام غير المعلنة.
في المقابل، فإن كثافة ومدى النفوذ الإيراني في سوريا، والكلف الباهظة التي تكبدتها طهران للتمدد داخل مناطق سيطرة النظام السوري؛ تعتبر أبرز التحديات خاصة وأن فرص تخليها عن مكتسباتها في سوريا لن تتم بسهولة؛ بل على العكس، فإن ردود فعل إيران والفصائل المحسوبة عليها في سوريا ستبقى غير متوقعة لفترة غير يسيرة من الوقت، خاصة إذا ما تفاقم الضغط الأميركي في عهد ترامب على إيران كما هو متوقع مع عودته.
رهانٌ آخر يظهر في أولوية حسم الصراع المحلي في عدة مناطق كهدف رئيسي للنظام السوري في هذه المرحلة، خاصة أن متطلبات مرحلة الانفتاح الدبلوماسي وتجاوز العزلة التي فُرضت على النظام غربيًا؛ يتطلب الترويج لفكرة أن النظام قادر على السيطرة على الأرض وتحقيق درجة من الاستقرار، والتعاطي مع مطالب دول الجوار بخفض حدة القضايا الأمنية وتحقيق درجة من الاستقرار وبشكل خاص ف المناطق الحدودية المحيطة بسوريا.
وأمام تعدد الأطراف وتعقيدات المشهد الجيوسياسي في خارطة الصراع السوري، والتي تُعبر عن درجة عالية من عدم اليقين حول مستقبل حسم الصراع عسكريًا، خاصة في ضوء المحددات التالية؛ الانكفاء الروسي في سوريا تبعًا لأولية الحرب في أوكرانيا، استمرار تدفق المقاتلين والخبراء الإيرانيين ومن محور المقاومة نحو الأراضي السورية، التوجه الأميركي المحتمل لسحب القوات الأميركية من شمال شرق سوريا، تعدد الأطراف المحلية مع الجاهزية للاشتباك على خطوط التماس مع مناطق سيطرة النظام السوري، أو بين المعارضة السورية وقسد وهيئة تحرير الشام؛ فإن فُرص عودة التصعيد العسكري في سوريا تزداد بمرور الوقت.
خاتمة
في ضوء تزايد حالة عدم الوضوح حول حدود الحرب الإسرائيلية في الشرق الأوسط، ومدى انعكاس النوايا الإسرائيلية شمال الجولان لتحركات فعلية على شكل توغل بري في مناطق سيطرة النظام السوري، وبالتالي تطور الصراع ليشمل الجنوب السوري؛ فإن مستقبل نأي النظام السوري بنفسه عن إيران ومحور المقاومة يبقى موضع اختبار، وحدود القدرة على المناورة تبقى موضع شك، فمع رهانه على الانفتاح الدبلوماسي، وما قد يتضمنه من إعادة انتاج للنظام على المستوى الدولي، وتوفر فرص لإعادة الإعمار عربيًا أو حتى من بعض الدول الغربية؛ فإن هذه المكتسبات تمثل رهانات للنظام في المرحلة القادمة من منطلق براغماتية ذاتية يتقنها النظام في تجاوز المتناقضات، ولكن يبقى الحديث عن القدرة على التحلل من النفوذ الإيراني في سوريا موضع اختبار ونقاش، خاصة أن هذا النفوذ يتجسد على شكل انتشار عسكري في سوريا ممتد لأكثر من عقد من الزمن، وبالتالي، لا يعتقد أن يتم التحلل منه بسهولة وإن توفرت الإرادة الكافية لذلك، لا سيما في ضوء الطموح الجيوسياسي الإيراني في الشرق الأوسط، وفي ضوء ما تمثله الجغرافيا السورية من قيمة استراتيجية في حسابات طهران وللممر الآمن نحو لبنان وغرب المتوسط. وبالتالي، فإن مستقبل المشهد الحالي لاصطفاف النظام السوري إذا ما استطاع تجاوز الحالة الضبابية في الشرق الأوسط سيفضي إلى ترقب واحد من حدثين كبيرين؛ الأول، يتمثل في تحقيق المزيد من المكتسبات الدبلوماسية وتعزيز التطبيع الدبلوماسي، والثاني يتمثل بعودة الصراع بين النظام السوري وقسد والمعارضة السورية، مدفوعًا برغبة حسم الصراع عسكريًا، والترتيبات الإقليمية المرتقبة لمخرجات الحرب على غزة.
في ضوء ما سبق؛ يظهر التفاهم بين الأطراف الأجنبية الرئيسية الثلاث في سوريا؛ روسيا وتركيا وإيران عبر مسار استانا كفرصة حاسمة لضمان الإبقاء على التفاهمات الثلاثية البينية، والتي يعتبر نجاحها عاملًا مهمًا لضمان عدم عودة حالة الفوضى المطلقة بين الأطراف المحلية، كما يؤيد كل مما سبق التحول في الإدارة الأميركية بتولي ترامب للرئاسة، المدفوع بإنهاء الحروب كما وعد انتخابيًا، والراغب بشدة بسحب الوجود العسكري الأميركي من سوريا، حيث يرى فيه عبئًا على الولايات المتحدة، وهذه العوامل مجتمعة يمكن اعتبارها دوافع لتجاوز النظام لتعقيدات المشهد الحالي في سوريا والشرق الأوسط.
رابط الورقة على موقع معهد السياسة والمجتمع:
([1])"خشية الغارات الإسرائيلية.. منح عائلات ضباط من “حزب الله” وجنسيات غير سورية منازل في اللاذقية". المرصد السوري لحقوق الإنسان، 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. https://bitly.cx/hgcjr .
([2])"إسرائيل تزيل ألغامًا قرب الجولان: هل تستعد لهجوم أوسع؟"، العربية، 15 أكتوبر/تشرين الأول 2024، https://bitly.cx/CfePlW
([3]) خريطة خاصة بمركز عمران للدراسات الاستراتيجية ومعهد السياسة والمجتمع، تستند البيانات الواردة فيها للتقارير الإعلامية والمصادر المحلية من تصميم الباحث نوار شعبان.
([4]) رشيد حوراني، عبد الوهاب عاصي، عبد العظيم المغربل، ومحمد سعيد مصري، "سلطة الظلّ: الفرقة الرابعة في سورية"، مركز جسور للدراسات، 31 أكتوبر/تشرين الأول 2024، https://bitly.cx/th30O
([5]) نزار عبد القادر، "مستقبل الوجود الإيراني في سوريا." مركز الإمارات للسياسات. 23 فبراير/شباط 2021، الرابط: https://bitly.cx/Laxw8q
([6]) صالح حميد، "وثيقة مسربة.. إيران أنفقت 50 مليار دولار بسوريا وتستعيدها كديون"، قناة العربية، 10 أغسطس/آب 2023، الرابط: https://bitly.cx/cxox
([7]) خريطة خاصة بمركز عمران للدراسات الاستراتيجية ومعهد السياسة والمجتمع، تستند البيانات الواردة فيها للتقارير الإعلامية والمصادر المحلية من تصميم الباحث نوار شعبان.
[8] "Israel’s attacks on Syria explained." Al Jazeera, 12 October 2024. Link: https://bitly.cx/raVTQ
([9]) صبا عبد اللطيف، "الجغرافية السورية كخيار إيراني للتصعيد ضد إسرائيل"، 16-10-2024، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية. https://bitly.cx/DaCtxQ
([10]) المرصد السوري لحقوق الإنسان، "بعد قوات النظام.. قيادة الفرقة الرابعة تعطي أوامر بعدم استهداف الأمريكيين والإسرائيليين في سورية"، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2024، الرابط: https://bitly.cx/JhnWO
([11]) المرصد السوري لحقوق الإنسان، "ما مصير ماهر الأسد؟.. إسرائيل تستهدف فيلا للفرقة الرابعة في ريف دمشق"، 30 سبتمبر/أيلول 2024، https://bitly.cx/DewiGK
([12])"دمشق تصادر ممتلكات أمراء حرب.. ما علاقة التصعيد بين الاحتلال و'حزب الله'؟" عربي21، 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. https://bitly.cx/Lqvn
([13]) فلاديمير سولداتكين وماريا كيسيلوفا، "اتفاق روسيا وتركيا على وقف إطلاق النار في إدلب بسوريا"، رويترز، 5 مارس/آذار 2020، https://bitly.cx/h3L5
([14]) خريطة خاصة بمركز عمران للدراسات الاستراتيجية ومعهد السياسة والمجتمع، تستند البيانات الواردة فيها للتقارير الإعلامية والمصادر المحلية من تصميم الباحث نوار شعبان.
([15]) سليمان، عبد الحليم. "الأمن الكردي يلاحق فلول 'داعش' حول محيط 'الهول' السوري." اندبندنت عربية، 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. https://bitly.cx/P6fYON
([16])"سوريا: اشتباكات عنيفة بين العشائر وقسد»." الديار، 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. https://bitly.cx/AYAzRz
([17]) MacDonald, Alex. "Trump Wants Troops Out of Northern Syria, Says Robert F Kennedy Jr." Middle East Eye, November 7, 2024. https://bitly.cx/7FX6
([18])"تصاعد قصف النظام السوري يفاقم أزمة النزوح بريف إدلب." الجزيرة نت، 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. https://bitly.cx/yXDk
([19]) "Syria Has Become a Narco-State." The Economist, July 19, 2021. https://bitly.cx/tZnj
([20]) "الخطف بمناطق سيطرة النظام السوري: عصابات عدة وظاهرة لها شقان." الحرة، 17 سبتمبر/أيلول 2024. https://bitly.cx/T4hh
([21]) دور النظام السوري في الأزمة الاقتصادية، 06 أكتوبر/تشرين الاول 2023، مركز كاندل انظر: https://bitly.cx/Vkuk .
([22]) مناف قومان، موازنة حكومة النظام 2023، 06 أكتوبر/تشرين الاول 2022، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية انظر: https://bitly.cx/1yZC .
([23]) أين تتجه أزمة الكهرباء في سوريا ولبنان والعراق، 20 مايو/أيار 2024، موقع الجزيرة نت انظر: https://bitly.cx/cNsa6.
([24]) كيف أشعلت الأزمة الاقتصادية في سوريا موجة الاحتجاجات في السويداء؟، 08 سبتمبر/أيلول 2023، BBC News عربي انظر: https://bitly.cx/FAlh3g.
([25]) احتجاجات السويداء مستمرة رغم الضغوط المتزايدة، 07 يونيو/حزيران 2024، منتدى فكرة انظر: https://bitly.cx/C2wbQ.
([26]) مئة دولار شرط دخول السوري إلى وطنه، 28 سبتمبر/أيلول 2024، القدس العربي انظر: https://bitly.cx/JZRGR.
([27]) ماذا بعد تعليق نظام الأسد "ضريبة 100 دولار" على عودة السوريين؟، 03 أكتوبر/تشرين الاول 2024، موقع الجزيرة نت انظر: https://bitly.cx/LgLEzF.
([28]) بشار الأسد يصدر "عفوًا عامًا" ويضع شروطًا للاستفادة منه، 23 أيلول 2024، موقع الجزيرة نت انظر: https://bitly.cx/Oc8a.
([29]) محمد غازي الجلالي أول رئيس للحكومة السورية من الجولان المحتل، 14 سبتمبر/أيلول 2024، صحيفة الشرق الأوسط انظر: https://bitly.cx/aYFVn.
([30]) بشار الأسد يصدر مرسوم تشكيل حكومة جديدة وأبرز التغييرات في الخارجية، القدس العربي انظر: https://bitly.cx/gac9VC.
([31]) "دمشق: صور نصر الله ومجالس عزاء وقلق من تصعيد إسرائيلي"، 01 أكتوبر/تشرين الأول 2024، الموقع الإلكتروني لصحيفة المدن، https://bitly.cx/7aPN0
([32]) النظام السوري يعلق على اغتيال حسن نصر الله: "عدوان دنيء"، 28 سبتمبر/أيلول 2024، تلفزيون سوريا انظر: https://bitly.cx/sKNz.
([33])"The EU Commission to Appoint Special Envoy to Syria Amid Push for Refugee Returns." The National, October 28, 2024. https://bitly.cx/idITTa.
([34]) Cafiero, Giorgio. "Why Turkey is Accelerating Towards Normalisation with Syria." The New Arab, August 29, 2024. https://bitly.cx/WnT3.