مركز عمران للدراسات الاستراتيجية - Omran Center
Omran Center

Omran Center

تداعيات الحركية الروسية على الملف السنوي، هو عنوان الدراسة الثانية في الكتاب السنوي الثالث: "تحديات النهوض الوطني إبان التدخل الروسي".
تركز الدراسة على حيثيات هذا التدخل ومسار حركته المحلية، وذلك للوقوف على مدى ضبط موسكو لعناصر "هندسة الحل السياسي المرتجى" ورغبتها في إحداث متغيرات نوعية في أضلع هذا الحل لا سيما فيما يرتبط بالمعارضة الصلبة، كما اختبر الباحث في دراسته الثنائية الوظيفية التي تقوم موسكو بالعمل عليها والمتمثلة بـ(الضامن، الحليف) وما تفرزه من تناقضات تصعب إنجاز "استراتيجية الخروج الروسي الآمن".

 

خلال مقابلته الدكتور عمار قحف المدير التنفيذي لمركز عمران يقدم لمحة موجزة عن الكتاب السنوي الثالثـ والمصدر في شهر آذار عام 2017، بعنوان: "تحديات النهوض الوطني إبان التدخل الروسي".

 

عقد مسار الإدارة المحلية بمركز عمران للدراسات الاستراتيجية، لقاءاً حوارياً بعنوان "إمكانيات تفعيل البنى والفواعل المحلية المهجرة في البيئات الجديدة "، وذلك بتاريخ 16 أيار 2017، في مقر وحدة المجالس المحلية بمدينة غازي عنتاب التركية، ويأتي هذا اللقاء ضمن سلسلة لقاءات حوارية دورية يجريها المسار مع المجالس المحلية القائمة في مناطق سيطرة المعارضة أو ممثلين عنهم في الداخل التركي، وقد تركز اللقاء حول النقاط الآتية:

  1. أهم الأدوار التي يمكن أن تقوم بها الفواعل المحلية في البيئات التي هجرت إليها إذ اتخذت عدد من المجالس المحلية قراراً بحل نفسها بعد الانتقال إلى الشمال، حيث عمدت إلى إعادة إنتاج نفسها ضمن منظومات وظيفية غير تمثيلية تقوم بأدوار وقتية مرتبطة بمصالح المهجرين، فيما حافظت مجالس محلية أخرى على كياناتها وبدأت بالاضطلاع بأدوار جديدة يفرضها وجودها خارج حدودها الإدارية؛
  2. علاقة المجالس المحلية المهجرة أو الفواعل الناشئة بعد حل المجالس المهجرة مع المجتمعات المضيفة والفاعلين المحليين؛
  3. تحليل البيئة القانونية للمجالس المهجرة أو الهيئات البديلة الناشئة وعلاقاتها القانونية مع المجالس المحلية القائمة ووضعها القانوني سيما وأن ثمة تسهيلات قانونية قدمتها الحكومة المؤقتة بالنسبة لاعتماد المجالس المهجرة.

عقد اللقاء فيزيائياً وعبر منصة الــ  WebEx وحضره عدداً من الشخصيات الفاعلية أهمها؛ وزير الإدارة المحلية في الحكومة المؤقتة، مدير المجالس المحلية في الحكومة المؤقتة، مدير وحدة المجالس المحلية، وأعضاء من مجالس محافظة دمشق، حلب، وإدلب ومدن داريا، منغ، والزبداني، وبلدات قدسيا ومضايا....

خلص اللقاء في ختامه إلى عدد من التوصيات جاء فيها؛

  • التأكيد على استمرار الدور المحوري للمجالس المحلية المهجرة والاستفادة من الصيغ القانونية والمرونة التي تتيحها وزارة الإدارة المحلية لإعادة تشكيل مجالس خارج نطاق حيزها الجغرافي كما كان بداية الثورة للتأكيد على دورها التمثيلي السياسي باعتبارها صيغ ممثلة لمجتمعاتها وبإشراف مجالس المحافظة أو الوزارة، وممارسة دورها في رعاية شؤون سكانها، علاوةً عن متابعتها لملف الملكيات العقارية في مناطقها. ومخاطر تحويلها للجان إغاثية "مجتمع مدني"، أو ترك المنظمات للعمل دون رقابة، أو منح النظام وإعطائه شرعية سياسية باعتباره يمثل هذه المناطق من خلال أجهزته ومؤسساته؛
  • استعراض تجارب عدد من المجالس كالزبداني وداريا وحلب وهي مهمة من حيث الاستفادة من النقاط الإيجابية والمشكلات التي تواجهها ومشاركتها من المجالس المهجرة الأخرى لتعميم التجارب؛
  • دعم المجالس المحلية المستضيفة وضرورة تشكيل لقاءات مشتركة معها للتباحث بالصيغ الممكنة للعمل مع المهجرين والمجالس المهجرة (طرحت فكرة مذكرات تفاهم وهو تجربة يمكن تعميمها لمعالجة إشكالية التداخل الوظيفي والموارد والعمل) من خلال لجان أو مندوبين تتابع شؤون المهجرين؛
  • استغلال الاتفاقيات السياسية المؤقتة راهناً "الهدن، مناطق وقف التصعيد" وإدراج بند خاص بالعودة الطوعية للاجئين والنازحين لأماكن إقامتهم الأصلية دون قيد أو شرط وبرعاية أممية تستند لدور محوري للمجالس في عملية التنفيذ، إضافة لمنح المجالس المهجرة الحق بالعمل من جديد ضمن مناطقها الأصلية، كذلك الحد من تسرب السكان المحليين لخارج سورية من خلال العمل على إيجاد مناطق توطين مؤقتة لهم كما في مناطق درع الفرات؛
  • تعزيز حضور المجالس المحلية السياسية وفق صيغ تدعم دورها وهو ما يتطلب هيكلية متماسكة تربط المجالس ببعضها مع الحكومة المؤقتة لدعم حضورها السياسي في مفاوضات الحل السياسي وبما يمكنها قدرة على طرح ملفاتها؛
  • الاستمرار في توثيق جرائم التهجير وجمع القرائن والأدلة اللازمة لتشكيل ملف قانوني متكامل، يتيح إمكانية متابعته دولياً لملاحقة ومحاسبة المسؤولين عن هذه العمليات باعتبارها جرائم حرب (إنشاء المركز السوري لحقوق المهجرين قسراً لتفعيل الموضوع إعلامياً ونقله من النقاش الإعلامي للنقاش الثوري ومتابعته دولياً؛
  • مسح شامل للمهجرين قسرياً في مناطق الشمال السوري بالتعاون مع المجالس المحلية والهيئات المدنية الفاعلة؛
  • الاستفادة من أدبيات النضال الفلسطيني فيما يتعلق بحقوق المهجرين وكيفية الدفاع عنها.

 

 

ملخص تنفيذي

  • هدفت جولة الأستانة الأخيرة إلى تهدئة الجبهات الغربية من أجل التركيز على الجبهات الشرقية في الرقة ودير الزور، حيث أن الأخيرة باتت أكثر أهمية للنظام وللروس من إدلب والغوطة.
  • انتهت جنيف 6 بدون نتائج بانتظار الحسم العسكري في الشرق، ولا يتوقع لجنيف استعادتها لاعتبارها دون وضوح الموقف الميداني ورغبة القوى الكبرى في الحل.
  • لن يكون حسم المعارك في الشرق سهلاً ولا سريعاً نظراً لهشاشة وعدم احتراف القوى المحلية المستخدمة للسيطرة من قبل الروس والأمريكان.
  • لن تهدأ الجبهات الغربية أيضاً مع محاولات هيئة تحرير الشام التمدد وإنهاك القوى المعتدلة.
  • سيكون هناك سباق محموم من الغرب وكذلك الروس على التواصل مع المجالس المحلية من أجل توسيع النفوذ أثناء المرحلة الانتقالية.
  • على المعارضة السياسية توحيد وفود التفاوض والعمل على زيادة كفاءتها وشرعيتها، وعلى المعارضة العسكرية دعم المعارضة السياسية في جهودها وتقدم رؤى حول دورها في المستقبل.
  • على المجالس المحلية التركيز على دورها الخدمي وتعزيز كفاءتها وقدراتها لمواجهة متطلبات المرحلة والابتعاد عن التسييس المحلي وعن التجاذبات الإقليمية والدولية للمحافظة على دورها في المستقبل.

خريطة رقم (1) معركة شرق حمص وصحراء الشام

مقدمة

انتهت جولتان تفاوضيتان جديدتان بخصوص سورية إلى تأجيل الحديث الجاد في التسوية إلى ما بعد وضوح نتائج المعركة على الشرق السوري. وأخرجت الأستانة اتفاق مناطق التهدئة بضمان الروس والأتراك والإيرانيين وبدون وجود أي من السوريين من ضمن الموقعين. كذلك لم تخرج جولة جنيف 6 عن إطار التوقعات بعدم الجدية. وقد وظف الروس مخرجات تفاوض الأستانة كتكتيك للتغطية على تحويل العمليات العسكرية من الغرب للشرق، ولتفويت جولة جنيف الأخيرة. يرى الروس والإيرانيين والنظام السوري أن الأولوية الآن لصد التمدد الأمريكي على الحدود السورية العراقية، باعتبار أن الجبهات الغربية يمكن العودة لها لاحقاً. يتسابق الجميع نحو الرقة ودير الزور بحجة طرد داعش، لكن الهدف هو الاستحواذ على أكبر مساحة استراتيجية ممكنة تتحول إلى أوراق في جولات تفاوضية قادمة. ولا يبدو أن المعركة ستكون سريعة في الشرق، كما لا يتوقع أن تكون الأمور هادئة في الغرب.

تُعالج هذه الورقة سياق اتفاق مناطق التهدئة وتستشرف مآلات الوضع في كامل سورية، بينما تنتهي بتوصيات للمعارضة السورية (السياسية والعسكرية والمجالس المحلية) لتطوير شرعيتها وآليات تفاوضها. وترى الورقة أن كلاً من الروس والأمريكان يستعينون بقوات محلية غير مدربة وغير محترفة ما يجعل السيطرة على مسار العمليات صعباً للغاية ومستحيل التوقع، إضافة إلى ارتفاع تكلفة الضحايا من المدنيين. هذا الوضع المضطرب سيستمر لفترة ليست بالقصيرة خصوصاً مع عدم وجود إطار سياسي لاستيعاب الأوضاع بعد هزيمة داعش وهروب عناصرها إلى مناطق جديدة. في المقابل، ستستمر التفاعلات في الغرب خصوصاً مع استمرار هيئة تحرير الشام في إنهاك العناصر المعتدلة واستقطاب أفرادها أو القضاء عليها. كذلك سيكون هناك سباق دولي على المجالس المحلية باعتبارها الحصان الأسود لجلب الاستقرار في مناطق التهدئة عبر توزيع المساعدات، وإدارة عودة اللاجئين وإعادة الإعمار حال استقرار الأوضاع.

تهدئة في الغرب واشتعال في الشرق

بينما نتنقل الأنظار نحو الرقة ودير الزور في شرق سورية يتم تهدئة الأوضاع في غربها لتوفير الجهود وتركيزها على المعركة المقبلة. لم تكن مناطق التهدئة الأربع المقترحة في مؤتمر الأستانة الأخير، والواقعة جميعاً في غرب سورية، إلا تعبيراً عن احتياج الروس والإيرانيين لتجميد الصراع هناك حتى يتسنى لهم تأمين الحدود الشرقية مع العراق وضمان ألا تقع دير الزور في يد الأمريكيين. فبالنسبة للروس، لابد أن تكون السيطرة على الحدود العراقية من نصيب دمشق من منطلق سيادي، وبالنسبة للإيرانيين فإن دير الزور أساسية لتأمين طريق من طهران إلى بيروت عبر دمشق. وفي خضم هذا التحول الكبير في مسار المعارك انتهى مؤتمر جنيف كما بدأ، بانتظار استقرار موازين القوى العسكرية التي ستفرز وضعاً تفاوضياً ولاعبين جدد.

التفت النظام وحلفاؤه متأخراً إلى خطر سقوط الحدود مع العراق في يد قوات الجبهة الجنوبية والأكراد الممولين والمسلحين أمريكياً. وقد أنهكت الحرب النظام وأجهزت على قواته، وشتت الجبهات المفتوحة بطول الغرب السوري جهود حلفاءه. فكان لابد من إعادة تموضع القوات الروسية والمليشيات العراقية واللبنانية لتتمكن من السيطرة على دير الزور قبل وصول الأمريكان إليها. كذلك تسارعت جهود الإيرانيين والروس للسيطرة على القبائل الشرقية وإدماج قواتهم في الفيلق الخامس. يضاف إلى ذلك هروع حزب الله إلى إخلاء مواقعه على الحدود اللبنانية السورية للجيش اللبناني، وفي الجنوب السوري للقوات الروسية متوجهاً إلى تدمر. فلا تخلوا تحركات حزب الله الأخيرة من رسائل تهدئة للداخل اللبناني وكذلك لإسرائيل، لكنها أيضا تهدف إلى حماية خط إمداده الاستراتيجي.

ركزت الأخبار القادمة من سورية على نبأ قصف طيران التحالف الأمريكي لقافلة عسكرية لأحد حلفاء النظام عند اقترابها من معبر التنف الذي سيطرت عليه فصائل معارضة مؤخراً. وقد يُؤشر هذا لطبيعة التصميم الأمريكي على حماية حلفائها والتقدم نحو دير الزور واستكمال السيطرة على الحدود السورية العراقية. أمام هذا التطور لا توجد مؤشرات على نجاح المليشيات الإيرانية بدعم روسي في ضمان خلو المسار من إيران إلى بيروت من أي معوقات. قد يتفاوض الروس نيابة عن الإيرانيين لفتح الطريق، لكن هذا سيكون بثمن باهظ حال حيازة الأمريكيين لأوراق حيوية مثل الحدود ودير الزور.

لم تُعبر اتفاقية مناطق التهدئة من المنظور الروسي إذاً عن نوايا لتقسيم سورية بأكثر مما عبرت عن رغبة في تهدئة مؤقتة لستة شهور أو سنة لمناطق لا جدوى من القتال فيها مثل محيط دمشق، أو بحاجة إلى تهدئة إسرائيل فيها مثل الجنوب، أو بتولي الأتراك والفصائل المعتدلة مسؤوليتها مثل إدلب. ولا يرى الروس في إدلب أولوية مقارنة بدير الزور، كما لا يرون النصرة خطراً حالاً مقارنة بتمدد القوى المدعومة أمريكياً في الشرق وسيطرتها على الحدود مع العراق، حيث أن هذا يُغير كثيراً من معادلات استقرار النظام في دمشق ويهدد سيطرة إيران على سورية. ففي لحظة ما قد يغري الأمريكيين قوتهم فيبدأوا في التحرك غرباً باتجاه مناطق النظام بعد استبدالهم داعش بالأكراد أو الفصائل الموالية لهم. ولن يكون ذلك وضعاً مؤاتياً للنظام ولا لحلفائه.

قد تُغري وعود الاتفاق الأخير بالتفاؤل، لكن هذا يتلاشى مع عدم وجود أي آليات للتطبيق ولا للمتابعة والتقويم. وهناك دوماً حديث عن قوات دولية وآليات للمراقبة وضامنين وإمكانية لدخول المساعدات وعودة اللاجئين وإعادة إعمار البنية التحتية، لكن كل هذا مرهون بتثبيت التهدئة والتعاون في محاربة المتطرفين. هنا يكمن مثار الخلاف المستقبلي حول مدى التزام الفصائل بالتهدئة التي ستكون ضمناً قرينة لقتالهم لهيئة تحرير الشام. أن تحالف النصرة الأخير لا يمكن التصدي له بدون حل سياسي أشمل يعمل على إزالة دوافع العديد من الفصائل الصغيرة والأفراد للعمل معهم أو الاحتماء بهم، إضافة إلى توفير حوافز لهم للانخراط في عمل وطني عسكري أو سياسي يحقق أهداف الثورة.

هذا الفخ ينسحب إلى تركيا التي من المتوقع أن تضطلع بدور أكبر في تحقيق الاستقرار في إدلب. فبدون غطاء سياسي يتمثل في حل شامل للقضية قد تجد تركيا نفسها في مواجهة غير محسوبة ولا مرغوبة مع تشكيلات عسكرية يمكنها أن تهدد العمق بسهولة نسبية. ولا يوجد في الاتفاق ذاته ما يبرر وجود تركيا فيه ولا سكوتها عن وجود إيران كضامن فيه. لكن بالنظر إلى حاجة تركيا لقطع الطريق على قوات سورية الديمقراطية ومنع تمددهم باتجاه الرقة يمكن فهم تضامن الأتراك مع الروس في ذلك. ولا ينظر الأتراك إلى دعم الأمريكان لقوات حماية الشعب الكردية بعين الرضا ولا يسعدهم ازدياد قوتهم العسكرية وانخراطهم في ترتيبات إقليمية تسمح لهم بمقعد دائم على موائد الحل في المستقبل. إضافة إلى أن سيطرة الأمريكان، سواء عبر قوات حماية الشعب الكردية (PYD) المهيمنة على تحالف "قسد" أو عبر فصائل الجنوب، على الحدود السورية العراقية يزيد من النفوذ الأمريكي في كلتا البلدين وبالتالي يثير الكثير من مخاوف الأتراك حول تقليص نفوذهم الإقليمي. في هذه اللحظة يجد الأتراك أنفسهم في جانب الروس والإيرانيين، أمام قوات حماية الشعب الكردية (PYD)، وبالتالي الأمريكان، ولو ضمناً.

لم يهتم الأمريكان والأوروبيون بالأستانة من البداية لعدم رغبتهم في التخلي عن قيادة التفاوض للروس، وللمحافظة على مسار جنيف، وكذلك اتساقاً مع استراتيجية تهميش إيران في الصراع. ولم يهتم كذلك الأمريكان بسقوط حلب ولا بأمر إدلب لعدم سيطرتهم الكاملة على فصائلها الوطنية منها والراديكالية. في المقابل ركزوا كل جهودهم مؤخراً لانتزاع الشرق من داعش وتعزيز وجودهم وشرعية القوات المتحالفة معهم. هذا التحرك يخلق وضعاً جديداً لا يجد فيه النظام وحلفاؤه فيه بداً من التفاوض بجدية. تجسد هذا الموقف الأمريكي من اتفاق مناطق التهدئة عبر تشكيكهم في تطبيقه وانتقادهم لوجود إيران كضامن فيه. وفي اتساق تام مع موقفهم المتجاهل لمسار الأستانة، لم يعلق الاتحاد الأوروبي على الاتفاق ولم يلتقط أياً من الطعوم التي مررها الروس في الاتفاق مثل الحديث عن دخول المساعدات وعودة اللاجئين أو إعادة الإعمار.

عدم الحسم في الشرق ونيران هادئة في الغرب

بالنظر إلى تشكيلات القوات المتسابقة نحو الرقة ودير الزور نجد أن أغلبها غير نظامية وغير محترفة باستثناء قوات حزب الله. وهذا سيؤثر بشكل كبير على مسار المعارك الذي سيكون متعرجاً وكذلك على سرعة الحسم الذي سيستغرق وقتاً. كما لن يتمكن مقاتلو قوات سورية الديمقراطية من تحقيق الاستقرار في المناطق التي سيسيطروا عليها حتى لو تمكنوا من طرد داعش. فمن المحتمل أن يكون هناك مقاومة عربية كبيرة لوجودهم خصوصاً في حالة ارتكابهم لمجازر أو لانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان ضد المدنيين العرب. وسيعيق هذا تقدمهم لما بعد الرقة باتجاه الجنوب، وقد يعجل بانسحابهم منها تاركين وراءهم فراغاً سيُربك الأمريكان كما المكونات المحلية في هذه المناطق. أيضاً هناك مغاوير الثورة وأسود الشرقية وكتائب الشهيد أحمد العبدو، وقوات أحمد الجربا في الحسكة، وكلها تتمتع بنفس عدم الاحتراف وعدم الانضباط.

في المقابل تعتمد قوى الروس والإيرانيين والنظام على تشكيلات لا تزيد كثيراً في احترافها وعدم انضباطها. مع هذا الفراغ حول دير الزور لن تتمكن القوات المدعومة روسياً من ملئه بسهولة بواسطة قوات غير مدربة من القبائل أو بمليشيات شيعية تخلق مقاومة حيثما حلت أو حتى بقوات حزب الله الأكثر تدريباً. تؤشر هذه المعطيات أن هذا الوضع القلق قد يستمر لفترة ما من الزمن، وأن عدم الحسم قد يكون سيد الموقف لفترة ليست بالقصيرة.

لا يعني الانشغال العسكري عن الغرب خروجه الكامل من دائرة التفاعل. فمن المتوقع أن تستمر تفاعلات الفصائل المعتدلة منها والراديكالية لكسب مزيد من النفوذ والتأييد الشعبي. فمع تدريب الأتراك لفصائل درع الفرات ومحاولة توحيدهم قد تظهر فرصة لبناء كيان منظم يمثل المعارضة ويستطيع أن يفرض سيطرته على إدلب في لحظة ما. قد يبدو هذا بعيداً، لكن لا مفر منه للحفاظ على ما تبقى من مناطق تحت سيطرة قوى المعارضة. ولن تنتظر هيئة تحرير الشام حتى تتوحد الفصائل ضدها، بل ستستمر في إنهاكها وقضم مناطق وموارد منها حتى تستحوذ عليها تماماً قبل أن تنتقل لمواجهة العالم كما تتخيل. لحسن حظ القوى المعتدلة، لا لحسن تخطيطها ولكن لظروف موضوعية، لا يوجد أفق لهذا المشروع. بل على العكس، قد يكون أحد أهداف مناطق التهدئة الأساسية هو إتاحة الفرصة لسيادة المتطرفين قبل تبرير إبادتهم لاحقاً عندما تنضج الظروف. هنا قد يجد المعتدلين أنفسهم وجهاً لوجه أمام المتشددين، والخاسر هي قوى المعارضة.

إن أحد التفاعلات الهامة أيضاً هو تفعيل دور المجالس المحلية كعنصر قادر على بناء شرعية محلية وكمنسق للمساعدات الإنسانية وكلاعب تنموي مستقبلي حال استقرار الأوضاع سواء في ظل انتقال سياسي شامل أو تحت هدن مطولة. يتسابق جميع اللاعبين الآن، بما فيهم الروس، لتوثيق العلاقة مع مجالس إدلب المحلية. ويريد الأوروبيون والأمريكان أن يعمقوا التعاون القائم بينهم وبين المجالس لتطوير إداراتها وتعزيز مواردها. ولا يخلو الأمر من توسيع لنفوذهم لما وراء العسكريين الذين سيخفت نفوذهم بمجرد انتفاء الحاجة لخدماتهم. هذا أيضاً هو مقصد الروس من سعيهم للتواصل مع المجالس، فهم يحتاجون إلى توسيع دائرة نفوذهم لتشمل مناطق المعارضة سواء لاستيعابها سياسياً، أو لاستخدامها ضد الإيرانيين والأسد في وقت من الأوقات، أو حتى لتدميرها حالما انتفت الحاجة إليها أو كانت عقبة أمام طموحاتهم.

توصيات للمعارضة واللاعبين الدوليين

  1. المعارضة السياسية

لم تكن المعارضة السورية ضمن الموقعين على الاتفاق كما الحكومة السورية. ويعكس هذا التجاهل للسوريين مدى سيطرة القوى الدولية والإقليمية على الأوضاع ومدى هوان السوريين، نظاماً ومعارضة، في أعين حلفائهم. جدير بالملاحظة هنا أن مؤتمر الأستانة لم يُقدم للمعارضة السورية منصة لتقدم طلباتها وتمثيل شعبها وتحوَّل وفدها إلى مراقب للتفاعلات بين القوى الدولية والإقليمية كما الوضع في جنيف. لا حاجة إلى بيان غياب التأثير لكليهما بأكثر من ذلك. إن هناك الكثير من الهوامش والمساحات يمكن للمعارضة السياسية التركيز عليها، نقترح بعضه هنا:

  • الحوار مع الحلفاء لتشكيل وفد موحد للأستانة وجنيف: قد يكون من الضيم مطالبة المعارضة السورية بتوحيد جهودها في ظل تجاهل حلفائها لها، لكن الواقع يؤكد على ضرورة الضغط على الحلفاء من أجل تحقيق التوحيد. وهناك حاجة للحديث مع السعوديين والأتراك لتمكين إعادة بناء وفد موحد للأستانة وجنيف يعمل على التكامل بين المؤتمرين وعلى تشكيل المسار التفاوضي. قد يقلل كلا الوفدين من أهمية ذلك، لكن الحد الأدنى من القوة التفاوضية يفترض التوحد وهذا لا يتوافر حتى الآن. سيستغرق توحيد الوفدين جهوداً كبيرة ووقتاً ليس بالقصير، حتى يتحقق هذا يجب التنسيق بين الوفود على المستوى السياسي والفني.
  • رفع الجاهزية الفنية للتفاوض حول الملفات المتخصصة: هناك حاجة لتوفير المتخصصين في تنسيق العمليات الإنسانية، وملفات عودة اللاجئين وإعادة الإعمار مع وفود التفاوض. إن هناك اعتقاد خاطئ بأن التفاوض مع النظام وحلفائه سيكون حول الدستور والانتخابات، لكن في الحقيقة هناك الكثير من التفاصيل المتعلقة، على سبيل المثال، بتنفيذ وقف إطلاق النار مثل رسم خطوط التماس وتحديد المناطق العازلة وتشكيل قوات المراقبة، والتي تحتاج إلى متخصصين على إطلاع كامل بالأوضاع وعلى تواصل بوفد التفاوض وكذلك مع اللاعبين على الأرض.

كذلك يسود تصور بأن أحد العسكريين من الفصائل أو الضباط المنشقين قد يقوم بهذه المهمة، وهذا خطأ كبير. حيث أن المعرفة والمهارات الفنية المتعلقة بوقف إطلاق النار تتجاوز في كثير من الأحيان الخبرة العسكرية إلى ضرورة الإلمام بخبرات دولية في وقف إطلاق النار، ومعرفة بآليات المراقبة ومتطلباتها المادية، وإلمام بأوليات القانون الدولي الناظمة للعملية وكافة أطرافها. وبدون وجود هذه الجاهزية الفنية بشكل ملائم سيقوم الوفد إما بالتوقيع على ما لا يتوافق مع مصلحة السوريين، أو رفض التوقيع على اتفاقيات كان بالإمكان تحسينها في حال وجود خبرات فنية ملاءمة. خياران أحلاهما مر.

  • زيادة شرعية الوفد التفاوضي: إن أحد المعضلات الأساسية للمعارضة السورية هي عدم تحدثها للشعب السوري الذي من المفترض أنها تمثله، وضعف تواصلها مع اللاعبين المحليين.
    • الحديث للشعب السوري: هناك حاجة لتحسين التواصل مع السوريين في الداخل والخارج عبر توجيه خطابات ورسائل مستمرة قبل جولات التفاوض توضح الأهداف وأثناء التفاوض توضح القضايا وبعد التفاوض لتوضيح النتائج وشرح المسار المستقبلي. ومن الطبيعي جداً في حالة تشرذم وفود التفاوض وعدم قدرتها على تحقيق الحد الأدنى من انضباط أعضائها أن تضيع الرسالة الموجهة إلى السوريين ويضيع معنى تمثيل الوفد لمطالب السوريين.
    • التواصل مع المكونات المحلية: هناك حاجة للحصول على دعم الفصائل المعتدلة وإظهار ذلك في رسائل الوفد. هذه مهمة سياسية للوفد تتحقق بمساعدة الحلفاء وبدونها تنتفي سلطة الوفد الرمزية والعملية على طاولة التفاوض أمام النظام. أيضاً لابد من تمثيل مكونات الحوكمة المحلية بتأمين احتياجاتها عبر التشكيلات السياسية للمعارضة. فعندما يعجز التشكيل السياسي عن توفير احتياجات قاعدته المؤسسية والشعبية تصبح شرعيته محل شك كبير.
  1. المعارضة العسكرية

قد ترى المعارضة العسكرية في السياسيين أنهم غير جديرين بتمثيل تضحيات السوريين على الأرض، لكن دون بناء بديل سياسي يحظى بشرعية دولية لن تستطيع المعارضة العسكرية تحويل تضحياتها إلى بناء سياسي مستدام. ولا تبدو مهمة المعارضة العسكرية سهلة على الإطلاق، فبجوار مهمتهم للدفاع عن الأرض والعرض ومكافحة المعتدين والمتطرفين، يجب عليهم أيضاً أن يدعموا العملية السياسية عبر فريق تفاوض واحد. لا يسمح الوزن التفاوضي لجسم المعارضة ككل بتشتيت الجهود بين أكثر من فريق على أكثر من مائدة. كما لا يوجد هناك وزن سياسي، ولا إمكانات مادية ولا دعم فني كافيين. في مثل هكذا وضع ستضطر المعارضة لقبول ما يفرض عليهم ولا عزاء للشهداء. ولتلافي مثل هذا المصير، يمكن لجسم المعارضة العسكرية عمل التالي:

  • الضغط لتشكيل وفد تفاوضي موحد: لا يمكن لضغط من المعارضة السياسية على دول الإقليم والداعمين أن ينجح دون مشاركة الفصائل على الأرض لهذه الجهود. فلابد من توضيح الحاجة الماسة لذلك والرغبة في الدعم المادي والمعنوي لجهد تفاوضي موحد يمثل المعارضة بأغلب تياراتها.
  • تقديم رؤية عن دورهم في المرحلة الانتقالية: يتوقع من الفصائل أن تقدم رؤية تُجيب على أسئلة محورية بخصوص قدرتهم على توفير الأمن، والاندماج في جيش موحد، والسيطرة على السلاح، وكذلك مستقبل المقاتلين بعد انتهاء الحرب. إن عدم وجود أو وضوح الإجابة على هذه الأسئلة سيصعب عملية التفاوض، وكذلك سيهدر حقوق هؤلاء المقاتلين بما سيحبطهم ويحولهم لمشكلة أخرى برسم الانفجار.
  1. المجالس المحلية

من أجل أن يتم الحفاظ على المجالس المحلية ورفع قدراتها ومنع الاستغلال السياسي الإقليمي والدولي لها يقترح التالي:

  • التركيز على الطابع الاحترافي للمجالس في تقديم خدماتها وخدمتها لجميع السوريين بدون تمييز.
  • تعزيز شرعية المجالس عبر الحفاظ على دورية الانتخابات والنأي بها عن التجاذبات السياسية الأيديولوجية المحلية.
  • الحفاظ على الطابع المدني لعضوية ولوظيفة المجالس بعيداً عن تدخلات المعارضة العسكرية، وبما يكفل لكافة المواطنين المشاركة والتفاعل معها.
  • ينبغي أن تطالب المجالس المحلية بتحييدها عن الصراع العسكري وتحريم استهدافها من أي جهة كانت، وألا يخضع وجود وحماية المجالس لعملية التفاوض السياسي.
  • تعزيز العلاقات البينية بين المجالس المحلية في المحافظات ومع مجالس المحافظات.
  • الشفافية في جميع تعاملات المجالس مع المانحين لتجنب شبهة الانخراط في تحالفات إقليمية أو دولية تضر في المستقبل.
  1. الولايات المتحدة وأوروبا

يمكن للولايات المتحدة وأوروبا المساهمة في تحسين مضمون المفاوضات الجارية في الأستانة وجنيف وكذلك تسهيل الانتقال المؤسسي في المرحلة الانتقالية عبر التالي:

  • الانخراط أكثر في مفاوضات الأستانة ولو على مستوى تحسين الاتفاقات وضمان وجود آليات تنفيذية لها ومتابعة التنفيذ. حيث سيضعف هذا الأمر من إمكانية تجاهل نتائج الاتفاقات من قبل الدول الموقعة وسيعزز من الموقف المسؤول للولايات المتحدة وأوروبا تجاه القضية السورية.
  • دعم تشكيل وفد سوري واحد ورفده بالإمكانات المادية والفنية المطلوبة. ومن المهم هنا التأكيد على أهمية إتاحة تشكيل كفاءات سورية فنية داخل الوفد بدلاً من فرض شركات استشارات أجنبية بتكاليف مرتفعة ونتائج مشكوك في جدواها.
  • احترام مهنية واحتراف المجالس المحلية ودعمها بما لا يضعها في مرمى نيران التجاذب الدولي والإقليمي.
  1. روسيا

يمكن لروسيا أن تصل لنتائج أفضل وأسرع في جهودها الدبلوماسية لحل النزاع وتحسين مضمون المفاوضات الجارية في الأستانة وجنيف وكذلك تسهيل الانتقال المؤسسي في المرحلة الانتقالية عبر التالي:

  • عدم تقويض شرعية وفد المعارضة بإظهار حسن النية بعدم قصف قوات المعارضة ومنع النظام وحلفائه الإيرانيين من قصفهم.
  • التواصل مع الوفد قبل الجولات التفاوضية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عبر الأتراك، وذلك من أجل تحسين محتوى النقاشات وبالتالي مخرجات التفاوض. يجب أن يحصل وفد المعارضة على كافة المعلومات التي تمكنه من تمثيل مطالبه بشكل فعّال وتحويلها لنتائج ملموسة بعد التفاوض.
  • تسهيل وصول المساعدات الإنسانية لمناطق المعارضة لبناء الثقة مع المواطنين السوريين المعارضين للأسد وكذلك تدعيم شرعية وفد التفاوض.
  • التعامل مع المجالس المحلية باعتبارها ممثلة شرعية للسكان وتدعيم دورها كمقدم للخدمات والأمن في مناطق المعارضة وعدم محاولة استقطابها بما سيؤدي لفقدانها لشرعيتها وكذلك للدعم المحلي والمالي لها.

لبى مركز عمران ممثلاّ بالباحث محمد العبدالله من مسار التنمية والاقتصاد، دعوة لحضور مؤتمر عقدته مؤسسة بصمات من أجل التنمية في مدينة استانبول بتاريخ 22-23 أيار 2017، بعنوان: "من هنا الطريق - ملتقى إرادة الحياة لبناء المجتمع السوري".

ركز الهدف الأساسي للمؤتمر على ترسيخ عمليات التنمية المستدامة في المجتمعات المنكوبة ودعم المشاريع التي تلاقي حاجات الشعب السوري عبر المحاور التالية:

  • تسليط الضوء على دور الأسرة وأهمية تماسكها.
  • تشارك المعرفة حول آليات وطرق تعافي المجتمع السوري ونهوضه في الداخل ودول الجوار.
  • تحقيق استجابة نوعية وكمية في استدامة مشاريع التنمية البشرية والانسانية على صعيد الأفراد والمنظمات.
  • تأمين دعم مادي للمشاريع الخدمية الإنسانية في الداخل السوري وبلدان الجوار.
  • تحسين عملية النقل والتغطية الإعلامية في المجال الإنساني لدى الأفراد والمؤسسات.
  • توفير منصة تواصل تفاعلية بين المنظمات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني المحلية والدولية وأصدقاء الشعب السوري حول العالم.
تأتي أهمية مؤتمر "الطريق من هنا" من كونه ملتقى دولي جمع المعنيين في الفكر الاجتماعي وبناء الإنسان لإبراز أهمية الاستدامة في بناء المجتمعات، ومساعدة الشعب السوري في مختلف مجالات التنمية الإنسانية.

 

تناولنا في المقال السابق "اللامركزية في سورية وتطلعات بعض القوى الدولية والإقليمية" توجهات بعض الفاعلين الدوليين والإقليميين بالنسبة لملف اللامركزية في سورية، ونستعرض في هذا المقال التوجهات اللامركزية في الدساتير السورية - باعتبارها بصورة أو بأخرى وثيقة العقد الاجتماعي الذي توافقت عليه المجتمعات السورية - والتي تم اعتمادها منذ نشوء الكيان السوري عام 1918، وسنتكلم عن الفرصة الكامنة في البناء على بعضها في تعزيز التوجه نحو اللامركزية في سورية بوصفه خيار مناسب للبنية المجتمعية السورية، ويتماشى مع توجهات الفاعلين الدوليين.

"يشكل عهد الاستقلال القصير نسبيًا استثناءً في تناول اللامركزية بشكلها الإداري، أما منظومات الحكم السورية التي تخللت الانتداب والأنظمة الانقلابية وصولًا إلى عصر الطاغية الأسد ووريثه"

انفرط العقد العثماني عن تركة ممتدة تمثلت في شقها الشامي بعدد من الأقضية والأقاليم والمتصرفيات التي جسدت تجاوبًا مع الامتدادات الطبيعية للمجتمعات المتنوعة في هذه المنطقة والتي توجه العهد الفيصلي إلى إعادة رسمها لا مركزيًا (اتحاديًا فيدراليًا) على أسس جغرافية بحتة (داخلية تضم دمشق وحلب، جنوبية تضم فلسطين وشرق الأردن، ساحلية تضم الساحل السوري الحالي ولبنان بالإضافة للمنطقة الشرقية التي انضمت لاحقًا)، فيما عمل الانتداب المباشر على التعاطي اللامركزي (الكونفيدرالي) معها على أسس انتقائية.

ويشكل عهد الاستقلال القصير نسبيًا استثناءً في تناول اللامركزية بشكلها الإداري، أما منظومات الحكم السورية التي تخللت الانتداب والأنظمة الانقلابية وصولًا إلى عصر الطاغية الأسد ووريثه، فقد حاولت جميعًا الالتفاف عليها تارة ومحاولة العبث بها تارة أخرى أو على الأقل تجاهل صوتها المدوي.

التأم المؤتمر السوري العام في أواخر حزيران عام 1919م وانبثقت عنه لجنة خاصة برئاسة هاشم الأتاسي، مهمتها صياغة دستور المملكة السورية، والذي أُقِر في 13/7/1920 ووصف نظام الحكم بأنه ملكي نيابي، فيما تناولت المادة الثانية منه شكل الدولة وعرفتها كدولة اتحادية (فيدرالية)، حيث نصت على "المملكة تتألف من مقاطعات تشكل وحدة سياسية لا تقبل التجزئة"، وهذه المقاطعات هي سورية الداخلية (حلب ودمشق والمنطقة الشرقية) وجنوب سورية (فلسطين وشرق الأردن) إضافة إلى الساحل الشامي وعاصمتها دمشق.

أصدرت سلطة الانتداب ابتداءً من العام 1920 مجموعة من القرارات التي قسمت ما بقي من سورية بعد انفصال فلسطين وشرق الأردن بموجب اتفاقية سايكس بيكو، فأُعلنت دولة لبنان الكبير ودولة دمشق ودولة حلب ودولة جبال العلويين ودولة الدروز، فيما بقيت المنطقة الشرقية تحت الحكم الفرنسي المباشر.

"بنى دستور 1930 على الحالة التي آل إليها شكل الدولة أخيرًا، حيث عادت الدول المنشأة بإرادة فرنسية باستثناء لبنان وجبل الدروز والمنطقة الشرقية (التي ظلت تحت الحكم الفرنسي المباشر) إلى مركزية دمشق، وبالتالي لم يتناول دستور 1930 شكل الدولة"

إلا أن برلمان دولة حلب اتخذ قرارًا بإعلان الاتحاد مع دولة دمشق ودولة جبال العلويين في أول اجتماع له سنة 1922، وتواصلت المطالبات لتحقيق هذا الاتحاد ليقر الجنرال غورو القانون الأساسي للاتحاد السوري في 28/7/ 1922 والذي هو دستور للدولة الاتحادية الفيدرالية التي تضم كل من دمشق وحلب وجبال العلويين، إلا أن هذا الاتحاد الفيدرالي لم يدم طويلًا إذ حل بدلًا عنه في العام 1925 دولة مركزية بين دمشق وحلب (عاصمتها دمشق) وبقيت دولة جبال العلويين مستقلة، كما يشير إلى ذلك الدكتور عبد الحميد العواك في كتابه "الفيدرالية في سورية والإشكاليات المعاصرة".

بنى دستور 1930 على الحالة التي آل إليها شكل الدولة أخيرًا، حيث عادت الدول المنشأة بإرادة فرنسية باستثناء لبنان وجبل الدروز والمنطقة الشرقية (التي ظلت تحت الحكم الفرنسي المباشر) إلى مركزية دمشق، وبالتالي لم يتناول دستور 1930 شكل الدولة، وإنما تحدثت المادة الثانية منه عن أن "سورية وحدة سياسية لا تتجزأ".

أما دستور 1950 أو ما عُرف بدستور الاستقلال، فجسد توجهًا حقيقيًا نحو اللامركزية الإدارية وهو الحالة الفريدة والسبّاقة على كل دساتير الدولة السورية الحديثة سابقًا ولاحقًا.

إذ تناول الدستور في 6 مواد منه (126-127-128-129-130-131) التقسيم الإداري لأراضي "الجمهورية السورية" وتحدث عن توسيع صلاحيات رؤساء الوحدات الإدارية ورؤساء المصالح في المراكز والمحافظات، كما حدد الملامح العامة للهيكليات الإدارية في مجالس المحافظات ونظمها الداخلية وآليات الانتخاب والترشيح، واستعرض صلاحيات مجالس المحافظات ضمن قطاعاتها الإدارية ودورها في تنظيم البلديات ضمنها، وأدوارها في مجال الخدمات ومجال استثمار الموارد وإدارتها وفي إدارة الأنشطة الاقتصادية والعمليات التنموية، كما نص على تحديد أسس المالية المحلية ومحددات الجباية والضرائب وغير ذلك.

تم لاحقًا تعطيل دستور 1950 من قبل الحكومات الانقلابية لُيستعاض عنه بمجموعة من البلاغات العسكرية أو مشاريع الدساتير الفاقدة للمشروعية الشعبية والتي لم يبصر الكثير منها النور إضافة إلى دستور الوحدة بين مصر وسورية، حيث كرست جميعًا سلطة مركزية بيد الأنظمة العسكرية.

وقد افتتح الأسد الأب انقلابه العسكري أو ما أسماه الحركة التصحيحية بتشكيل هيئة تأسيسية انبثقت عن مجلس شعب معين حزبيًا وأمنيًا وعهد إليها صياغة دستور 1973 الذي تناول في ثلاث مواد منه (10-129-130) منح صلاحيات شكلية وغير واضحة لما أسماها مجالس الشعب المحلية وأحال حدود صلاحياتها وآليات عملها وسلطاتها وشكل علاقتها بالسلطة المركزية إلى قوانين لاحقة أو سكت عنها لصالح التحكم بها من خلال البلاغات الأمنية وتوجيهات القيادة القطرية اللتين تدوران في فلك الأسد، مما يعني مركزية شديدة بيد السلطة المطلقة في دمشق.

أما في عهد الأسد الوريث فقد تعاظمت ارتدادات التهميش للأطراف والتعاطي المركزي الشديد في الغالب على مدى العقود السابقة من عمر الكيان السوري الناشئ، وتفجرت الثورة السورية في العام 2011 ضد الاستبداد والفساد، وسارع النظام إلى طرح إصلاحات شكلية على المستوى الدستوري وعلى مستوى القوانين وعلى المستوى التنفيذي.

فشكل الأسد الابن لجنة خبراء غير برلمانية عملت على صياغة دستور 2012، والذي استعرض في المادة 131 منه مبدأ لامركزية السلطات والمسؤوليات في الوحدات المحلية وعلاقتها بالسلطة المركزية وأحال تفاصيل تطبيق اللامركزية وشكل علاقة المركز بالوحدات الإدارية إضافة إلى تفاصيل تطبيق المادتين 12 و130 المتعلقتين بتعريف الوحدات المحلية والتقسيم الإداري لـ"الجمهورية العربية السورية" إلى القانون 107 الذي أعد من قبل خبراء إداريين في العام 2009 ورفض الأسد تطبيقه لأنه يمنح صلاحيات أكبر للوحدات الإدارية على حساب المركز على أساس اللامركزية الإدارية. 

"رغم إهمال الدساتير السورية بصورة عامة لموضوع اللامركزية، فمن المهم القول إن التوجه نحوها في دستوري 1950 و2012، إنما نشأ استجابة للحاجة المجتمعية للامركزية التي تم تجاهلها في الدساتير السورية الأخرى"

ورغم صدور القانون 107 كمحاولة لامتصاص الغضب الشعبي بالتوجه نحو اللامركزية، فإن القانون ولوائحه التنفيذية ظلا حبرًا على ورق في مناطق سيطرة النظام، فيما عمدت الحكومة المؤقتة إلى استصدار لائحة تنفيذية للقانون 107 بما يتوافق مع ظروف المناطق المحررة.

ورغم إهمال الدساتير السورية بصورة عامة لموضوع اللامركزية، فمن المهم القول إن التوجه نحوها في دستوري 1950 و2012، إنما نشأ استجابة للحاجة المجتمعية للامركزية التي تم تجاهلها في الدساتير السورية الأخرى، باعتبار المشروعية الشعبية التي حظي بها دستور 1950 أو بالنظر إلى كون الإشارة الخاطفة للامركزية في دستور 2012 جزءًا من الخطوات الشكلية لامتصاص الغضب الشعبي، وهي مقدمات دستورية يمكن أن تشكل سوابق بالإمكان البناء عليها في دعم التوجه نحو اللامركزية في سورية.

وهي تشكل إذا ما أضيف لها اعتماد مناطق النظام (ولو شكليًا) ومناطق المعارضة لأساس قانوني واحد هي القانون 107، فرصة كامنة في إضفاء شرعية قانونية محلية ودولية لكل البنى المحلية القائمة في سورية وتزيد من فرص التعاطي الدولي معها بما في ذلك الفاعل الروسي والتركي الذي تحدثنا في المقال السابق عن توجهاتهما لتشجيع المجالس المحلية في سورية والدفع نحو اللامركزية.

 

نشر على موقع نون بوست: http://www.noonpost.org/content/17862

 

لا تشي الإشارات التي تطلقها الجهات الدولية والإقليمية المعنية بالشأن السوري بين الفينة والأخرى حول اللامركزية ودعم البنى المحلية الناشئة إبان الحرب السورية، إلا بتصورات متقاربة لعدد من الفاعلين الدوليين والإقليميين لصيغة الانطلاق صوب الحل في سورية خارج صندوق المعضلات المزمنة (بقاء الأسد – الدستور – ترتيبات التفاوض –الإرهاب – وقف إطلاق النار ..إلخ).

لم تنتظر التسريبات الصحفية لمقترح روسي للدستور في سورية وقتاً طويلاً قبل أن تُطرح مسودته على الوفد العسكري للمعارضة الحاضر في الأستانة ، حيث تحدثت هذه المسودة عن تقييد السلطة المركزية في دمشق لصالح صلاحيات واسعة للمناطق وفق إدارات محلية إضافة إلى بند خاص يراعي منح صلاحيات حكم ذاتي للكرد في مناطق نفوذهم، في حين أضافت تسريبات لاحقة من كواليس المطبخ الروسي التركي معطيات جديدة عن رغبة روسية وحماس تركي لإقامة مجالس محلية منتخبة في مناطق المعارضة (يمكن رد فكرة إقامة مجالس محلية منتخبة في مناطق المعارضة رغم وجود تجارب ناشئة إلى ضعف اطلاع الروس على الأقل على تفاصيل هذه التجربة).

"ملامح خطة الإدارة الأمريكية الجديدة في سورية وتركيزها على دعم البنى الإدارية الناشئة إبان الحرب -كخطوة مبكرة ضمن مسار يفضي أخيراً إلى الإطاحة بالأسد"

تستطيع تدوير عجلة المصالح البينية للمناطق المحررة وتلك الخاضعة لسلطة النظام في دمشق، أما ما سربته وكالة الأسوشيتد بريس أخيراً حول ملامح خطة الإدارة الأمريكية الجديدة في سورية وتركيزها على دعم البنى الإدارية الناشئة إبان الحرب -كخطوة مبكرة ضمن مسار يفضي أخيراً إلى الإطاحة بالأسد ضمن مقاربة تستوجب استدامة المنجزات المحققة من كسب المعركة ذات الأولوية على تنظيم داعش -فمن شأنه أن يكمل أجزاءٍ كبيرة من الصورة المنقوصة لتصور الحل في سورية.

أساسه التحرك بجدية أكبر في مسألة وقف إطلاق النار بعد أن يكتمل رسم حدود مناطق نفوذ تديرها إدارات محلية أكثر طواعية للفاعلين الدوليين والإقليميين (حيث يتكفل هؤلاء الفاعلون بمنحها ما تفتقر إليه من موارد وشرعية دولية الأمر الذي يمنحها القدرة الكافية لتدعيم وجودها المحلي والحصول على الحدود الدنيا للمشروعية المحلية ) في الوقت عينه يتم رسم خارطة التوافقات الدولية بعيداً عن سورية ضمن اتفاق يترجم في دستور جديد يثبت الوقائع اللامركزية الراهنة. 

"إيران تتجه أكثر صوب خلق واقع ديمغرافي جديد في سورية ومناطق نفوذ استيطانية إحلالية بعيداً عن التوجه نحو تمكين الواقع المحلي الناشئ ضمن أنماط حكم أو إدارة لامركزية"

على الأرض وبصرف النظر عن إيران التي تتجه أكثر صوب خلق واقع ديمغرافي جديد في سورية ومناطق نفوذ استيطانية إحلالية بعيداً عن التوجه نحو تمكين الواقع المحلي الناشئ ضمن ضمن أنماط حكم أو إدارة لامركزية، تدعم تركيا بحماس البنى المحلية الناشئة في مناطق درع الفرات وتعمل على تمكينها من النجاح في امتحان الخدمة والإدارة والتنمية وصولاً إلى تحقيق قدر أكبر من المشروعية المحلية، في الوقت الذي يزداد فيه رسوخ البنى الإدارية القائمة في مناطق سيطرة الاتحاد الديمقراطي ضمن الفضاءات التي يوفرها تحالفه مع الولايات المتحدة.

فيما يمكن تلمس توجهات غربية متسارعة نحو دعم اتجاه المجالس المحلية في مناطق المعارضة لتحقيق المزيد من الاستقلالية عن الأجسام العسكرية المتغولة في مقابل توفير حدود جيدة من الدعم ، أما روسيا فتحاول الحفاظ على المحتوى المحلي الجديد للمناطق الخارجة من عمليات التقليم الديمغرافي لتثبيت هذا الواقع ضمن الحدود التي يمكن أن يرسمها تواجد شرطة عسكرية روسية في عدد من هذه المناطق بالشكل الذي يسمح بعودة بعض مؤسسات الدولة ويحد من عودة النظام إليها (يشار هنا إلى بعض الضمانات التي قدمت لمن بقي من سكان منطقتي الزبداني وقدسيا بريف دمشق ودور روسي فيما بعد اتفاقي حلب و الوعر.

في الوقت الذي يمكن فيه دعم البنى المحلية الناشئة في مناطق النظام والتي ضعف تدريجياً ارتباطها بالمركز لصالح قوى عسكرية محلية أو عابرة للنظام، أما الخطة الأمريكية المشار إليها آنفاً فيمكن أن تترجم إلى مدى القبول بلا مركزيات تساهم في الحفر تدريجياً حول سلطة الأسد على نمط استراتيجية اسقاط النظام العراقي السابق التي استُهلت بإدارات محلية أقرب إلى منظومات الحكم في شماله وجنوبه بعد تحرير الكويت وصولاً إلى إسقاط النظام في 2003.

من جهة أخرى يمكن إدراك التوجهات الدولية والإقليمية نحو اللامركزية في سورية بدوافع تحكمها القناعة بفعالية منح دور أكبر للبنى المحلية في صناعة حل أكثر استدامة أو الرغبة في تصدير تجارب ناجحة في الإدارة اللامركزية ، ويمكن وفق ذلك أن يؤشر التوجه الروسي لدعم اللامركزية في سورية إلى إدراك منطقي لحقيقة التركيبة السورية وتعقيداتها مشفوعاً بتطلعات الكرد الحالية لنمط معين من اللامركزية واحتمال اتضاح تطلعات مكونات طائفية أخرى (الدروز والعلويون) نحو اللامركزية في حال استمر التداعي المطرد لمركزية دمشق، إذا ما قررت روسيا المضي قدماً في رسم خطوط الحل في سورية وفق رؤيتها وبما يمنح هذا الحل فرص الديمومة والاستمرار، وهو أيضاً يلامس ميلاً تركياً للدفع بهذه الرؤية كون أن التعاطي العثماني القديم كان مبنياً على مرونة لامركزية على مستوى كل الولايات تجلت أكثر ما تجلت في النطاق الشامي أحد أهم الأمصار العثمانية وأيضاً في رغبة تركيا المستمرة في تصدير نجاحاتها في مجالات اللامركزية والإدارة المحلية.

ربما يدعمها ما ذكرناه من فرص حقيقية ناجمة عن الحالة التي أوجدها انحسار تراجع مركزية النظام بصورة عامة ، الأمر الذي ربما أدركه الروس بخطوطه العامة وآثاره الواضحة المتجسدة بالشروخ المجتمعية التي تسببت بها حالة الحرب المستمرة في سورية والتي ما كانت لتستمر وتتنامى لولا وجود خلل بنيوي أصيل ومزمن في شكل الدولة في سورية ، في حين تفاوت تجاوب الدساتير السورية الخمسة (1920-1930-1950-1973-2011)مع مسألة شكل الدولة وأيضاً مع الحقائق المجتمعية القائمة على تباينات تحكمها الجغرافيا والثقافة وحتى الاقتصاد.

"المعطيات التاريخية والحالية تشير إلى أن الاستجابة الواقعية لمطلب اللامركزية كفهم حقيقي لطبيعة العلاقات البينية للمجتمعات السورية لم تأتي غالباً من الحكومات السورية القائمة"

إذا نحينا جانباً ما يقال كثيراً في هذه المناسبات عن دفع روسي أو أمريكي أو إقليمي باتجاه التقسيم باعتبار أن الحديث الروسي والأمريكي يدور دائماً حول التركيز أكثر على وحدة سورية ولاعتبارات التخوفات الإقليمية من انتقال عدوى الأحلام الانفصالية إليها، وإذا نحينا أيضاً الحديث المكرر دوماً عن دور فرنسي في خلق الظروف المواتية قديماً على المستوى المجتمعي من خلال تشجيعها للحياة الطائفية مطلع العشرينيات من القرن الماضي إبان انتدابها على سورية وصولاً إلى تقسيم المقسم الوليد من عهد سايكس بيكو إلى خمس دويلات مستقلة عام 1920 (دولة حلب – دولة لبنان الكبير – دولة دمشق – دولة جبل العلويين – دولة جبل الدروز).

باعتبار أن سلطة الانتداب عادت وانقلبت على التقسيم لصالح حالة اتحادية لامركزية رسمتها في سورية الوليدة وسمتها الاتحاد السوري ضمت دولتي دمشق وحلب وجبل العلويين (انفصلت الأخيرة وعادت دولة مستقلة حتى عام 1930 لتنتظم ضمن العقد السوري من جديد ) لتسلم فيما بعد وبصورة تدريجية بدءاً من العام 1924 وحتى توقيع معاهدة الاستقلال عام 1936 ،قياد الدول الخمسة إلى مركزية دمشق (حيث ضاقت ذرعاً بعبء هذه الأقاليم وتفاوتاتها ورغبت بإعادة الحمل إلى المركز)، فإن المعطيات التاريخية والحالية تشير إلى أن الاستجابة الواقعية لمطلب اللامركزية كفهم حقيقي لطبيعة العلاقات البينية للمجتمعات السورية لم تأتي غالباً من الحكومات السورية القائمة.

بل أدركتها الدول التي انتُدبت على سورية رسمياً أو ضمنياً ليس حرصاً على وحدة سورية بقدر ماهو تجاوب غير ناجح مع استحقاقات ديمومة مشاريعها أو رغبة منها في تلبية مطالب مجتمعية فئوية في مقابل تثبيت مكتسبات استراتيجية في البلاد وهو في كل حال منبثق من إعادة غير حميدة لهندسة الخارطة السورية بصورة لاتتماشى مع الامتدادات الطبيعية للبيئات السورية وتداخلاتها -والتي نجحت اللامركزية العثمانية إلى حد كبير في التجاوب معها – بقصد تظهير الأقليات وتفتيت الأكثرية ضمن الكيانات الناشئة.

"لا تُعنى هذه القوى بحال بضرورة انتظام هذه القطاعات الوليدة ضمن عقد وطني جامع، لكن ما يهم لفت النظر إليه هنا هو البناء على هذه التوجهات وتوظيفها في تعزيز البنى المحلية الناشئة على امتداد الساحة السورية"

في النهاية يمكن أن ندرك بصورة أو بأخرى أن توجهات القوى الكبرى على نحو الخصوص لتثبيت الخرائط الإدارية الناشئة بفعل حالة الحرب ، وتعزيز مكتسبات كل الأطراف ضمن كل قطاع من هذه القطاعات الوليدة، يأتي في سبيل منح التوجهات التي تدفع بها كل من هذه القوى دفعا مجتمعياً تحتياً (من الأدنى إلى الأعلى ) من قبل كل الأطراف، ولا تُعنى هذه القوى بحال بضرورة انتظام هذه القطاعات الوليدة ضمن عقد وطني جامع، لكن مايهم لفت النظر إليه هنا هو البناء على هذه التوجهات وتوظيفها في تعزيز البنى المحلية الناشئة على امتداد الساحة السورية ، والعمل على جعلها أكثر استقلالاً عن تأثيرات القوى العسكرية والبحث عن مقاربات عابرة للثورة والنظام بينها، بمايسهم بإكمال صورة أكثر اتساقاً عن المشهد الإداري في سورية القادمة يتميز بالمرونة والواقعية والاستدامة والقبولية.

سنتناول في المقال القادم عرضاً موجزاً عن الأسس الدستورية للامركزية في سورية من خلال المرور على الدساتير السورية الأساسية التي تم ارساؤها منذ قيام الكيان السوري، باعتبار أن الدستور يمثل بشكل أو بآخر وثيقة العقد الاجتماعي الذي توافقت عليه المجتمعات السورية.

 

المصدر موقع نون بوست: https://www.noonpost.org/content/17763

 

أدى تأزم الصراع السوري بفعل التدخل الخارجي إلى تشظي الجغرافية السورية لمناطق نفوذ تديرها عدة قوى خارجية بامتداداتها المحلية، علاوةً عن تفتت النسيج المجتمعي السوري وتآكل الهوية السورية لصالح انبعاث هويات فرعية على أسس مذهبية أو عرقية. وفي حين يبدو الواقع السوري كارثياً بلغة الأرقام من حيث حجم الخسائر في البنية المادية والرأسمال البشري، فإن بناء المستقبل يتطلب معالجة الملفات الكبرى سواءً تلك المؤجلة منذ تشكيل الدولة السورية فيما يتصل باستحقاقات الحكم والتنمية والهوية الوطنية، أو تلك الناجمة عن الصراع وفي مقدمتها التغير الديمغرافي. وفي هذا الصدد، تتجلى أهمية مشروع المجالس المحلية كحامل وطني قادر على التعامل مع الاستحقاقات الكبرى المطروحة، ومنها ملف التغير الديمغرافي لما تمتلكه من كمون يرتكز على شرعيتها وإمكانياتها.  

انخرطت عدة قوى في ممارسات التغير الديمغرافي، ولكن ما يضفي على الممارسات الإيرانية سمة خاصة أنها تعد جزء أساسي من استراتيجية متكاملة للتحكم بسورية من خلال التمكين، حيث تسعى إيران جاهدة ما أمكنها لاستغلال ظروف الصراع لإحداث تغير ديمغرافي في عدد من العقد الاستراتيجية الواقعة ضمن محيط العاصمة دمشق وداخلها وعلى امتداد الخط الذي يصلها بالساحل، إضافة للمناطق الحدودية المحاذية للبنان، والعمل على رعاية تلك المناطق سياسياً وأمنياً، وتضمين المستوطنين الجدد "الوافدين" ضمن مؤسسات الدولة وبالأخص الأمنية والعسكرية منها، بما يعزز قدرتها على التحكم بالجغرافية السورية راهناً من جهة، والتأثير على معادلات السياسية السورية مستقبلاً من جهة أخرى.

يمكن التأريخ لبدء عمليات التغير الديمغرافي مع حملة القصير "أيار 2013"، ليشهد هذا المسار نمواً مضطرداً مع مطلع 2014، حيث يقدر عدد المناطق المستهدفة بالتغير الديمغرافي بما يزيد عن 127 منطقة، كان لمحافظات حمص ودمشق وريفها النصيب الأكبر منها. أما عدد السكان المهجرين قسرياً فيتجاوز 2 مليون نسمة، ومن أكبر عمليات التهجير التي تمت تلك التي شهدها حي الوعر وأحياء حلب الشرقية إضافة للمناطق المشمولة باتفاقية المدن الأربعة. أما الأدوات المستخدمة لإنفاذ عمليات التغير الديمغرافي فمتنوعة وتشتمل على المجازر والحصار والضغط العسكري كآليات عسكرية، إضافة لاتفاقيات الإخلاء والتسوية كآليات سياسية، علاوةً عن الآليات القانونية كشراء العقارات وإحداث مناطق جديدة للتنظيم العقاري، كما هو قائم في المزة وكفرسوسة في محافظة دمشق (المرسوم التشريعي رقم /66/ تاريخ 18/9/2012)، إضافة لمناطق باب عمرو والسلطانية وجوبر في محافظة حمص (المرسوم رقم 5 لعام 1982 وتعديلاته) فيما يعرف باسم مشروع حلم حمص!؟

أما عن مراحل التهجير، فتبدأ بإنزال العقاب الجماعي بحق المناطق المستهدفة، ثم تطهيرها مكانياً من سكانها المحليين لتصبح البيئة جاهزة للمرحلة الأخيرة والأخطر من عملية التغير الديمغرافي وهي الإحلال السكاني، الذي تم جزئياً في مناطق عدة أهمها، القصير والسيدة زينب وداخل أحياء دمشق. ولتمكين المستوطنين الجدد "الوافدين"، يتم العمل على تسخير مؤسسات الدولة لخدمتهم ونقل الملكيات العقارية لهم، واختلاق الأعذار والحجج للحيلولة دون عودة السكان الأصليين من خلال فرض ما يعرف بالموافقة الأمنية.

تتمثل خطورة عمليات التغير الديمغرافي بالآثار الكارثية التي أحدثتها في بنية المجتمع السوري، من حيث ترسيخها لخطوط الانقسام بين السوريين على أسس مذهبية وعرقية، إضافة لعرقلتها إنجاز ملفي عودة النازحين والمهجرين وإعادة الإعمار مستقبلاً.

وفي ظل التعاطي السلبي من قبل المجتمع الدولي، بل وتواطؤه المفضوح في عمليات التغير الديمغرافي، وضعف فعالية المعارضة السياسية في إثارة الملف تفاوضياً، وأمام مثابرة إيران وأذرعها المحلية لنسف ما تبقى من عرى تماسك المجتمع السوري، تبدو المسؤولية كبيرة على عاتق القوى المحلية وفي مقدمتها المجالس المحلية للاعتماد على نفسها، والتعاطي مع ملف التغير الديموغرافي بمسؤولية نابعة من تمثيلها لمجتمعاتها المحلية التي هُجرت والدفاع عن حقوقها. وفي حين تواصل عدة مجالس محلية مهام التوثيق العقاري والمدني من خلال مديريات تُعنى بهذا الأمر، سواءً على مستوى مجالس المحافظات أو المجالس الفرعية كما في دوما، الأتارب، إعزاز، درعا، سراقب والرستن..إلخ، فإن المسؤولية أكبر على عاتق المجالس المهجرة، إذ أنها معنية أكثر من غيرها في حفظ الذاكرة المحلية لمجتمعاتها والاستمرارية بالمطالبة بحقوق سكانها المهجرين، وهو ما يمكن العمل عليه من خلال إعادة تفعيل نفسها من جديد في البيئات التي وفدت إليها، وممارسة دورها في رعاية شؤون سكانها، إضافة لإثارتها لموضوع التهجير القسري في المحافل الدولية الحقوقية والقانونية، علاوةً عن متابعتها لملف الملكيات العقارية في مناطقها.

إضافة لما سبق، يمكن استغلال الاتفاقيات السياسية المؤقتة راهناً "الهدن، مناطق وقف التصعيد" وإدراج بند خاص بالعودة الطوعية للاجئين والنازحين لأماكن إقامتهم الأصلية دون قيد أو شرط وبرعاية أممية تستند لدور محوري للمجالس في عملية التنفيذ، إضافة لمنح المجالس المهجرة الحق بالعمل من جديد ضمن مناطقها الأصلية، كذلك الحد من تسرب السكان المحليين لخارج سورية من خلال العمل على إيجاد مناطق توطين مؤقتة لهم كما في مناطق درع الفرات، علاوةً عن الاستمرار في توثيق جرائم التهجير وجمع القرائن والأدلة اللازمة لتشكيل ملف قانوني متكامل، يتيح إمكانية متابعته دولياً لملاحقة ومحاسبة المسؤولين عن هذه العمليات باعتبارها جرائم حرب.

 

المصدر شبكة شام: https://goo.gl/ZdgtMP

 

الملخص التنفيذي

  • بيّن معهد الدراسات الاستراتيجية أن الضربة الأمريكية أتت نتاج رغبة ترامب في إظهار حزمه وقوته العسكرية والمشاركة في لعبة الشطرنج العسكرية مع روسيا في الشرق الأوسط، وعلى عكس نبرة الخطاب المتوافق مع الخط السياسي الرسمي تساءل الكاتب " كالينين" إلى متى سندعم الأسد؟ وهو وراء عداوة العالم لروسيا، فيما أكد الخبير السياسي "فيتالي نعومكين" أن التعاون بين أمريكا وروسيا سيستمر، فالضربة تهدف أصلاً إيصال رسالة إلى الرئيس الصيني المتواجد في واشنطن في حينها، وبيان جاهزية واشنطن لضرب كوريا الشمالية.
  • عرض الرئيس الإيراني على روسيا استخدام قواعدها الجوية لمتابعة الحرب على الإرهاب، الأمر الذي خبراء روس بأنه سيعود بالعديد من الفوائد كإمكانية فتح كريدور جوي وخاصة للصواريخ المجنحة من طراز (كاليبر) إضافة للحصول على معلومات استطلاعية أوسع وأسرع، وفيما يتعلق بالعلاقة العسكرية الثنائية، تحدثت الصحف الروسية عن إمكانية قيام قاعدة بحرية إيرانية في اللاذقية بموجب اتفاقية بين روسيا وإيران بضوء أخضر من الأسد.
  • اقتصادياً: خلص عدد من الباحثين الروس إلى أن الوثيقة الصادرة عن اجتماع الدول العشرين الأخير لم تأت بشيء جديد، بحكم الخلافات بين أعضاء المجموعة؛ وعالمية ظاهرة الاقتصاد؛ أما محلياً، تسائلت صحيفة "مسكوفسكي كمساموليتس" رغم وعود رئيس الوزراء ميدفيدف منذ عشر سنوات بحل المشكلة، لماذا ثلث سكان روسيا محرومون من الغاز؟ واستعرضت نسب تأمين المواطن في دول الاتحاد السوفييتي السابق واتت روسيا بعد كلاً من أرمينيا 93%، أذربيجان 80%، أوزبكستان 75%، بلاروسيا 73.9%، أوكرانيا 72%، بلاروسيا 73.9%، أوكرانيا 72%. 
  • عسكرياً: تم الحديث عن الدعم الروسي للأكراد والاتفاق القاضي بتدريب موسكو لـقوات الـ YPG ورفع عددها الى 100 ألف مقاتل؛ وادخال القاذفة الاستراتيجية TY-160M2 في الخدمة: المجهزة بالمعدات التقنية والالكترونية التي تحميها من التشويش، كما أنها تتمكن من التصدي للأنظمة الصاروخية المضادة للطيران، وتحمل الصواريخ القادرة على تدمير أي هدف.
  • أمنياً: استحوذت قضية التفجير الذي هز مترو الأنفاق في مدينة سانت بتربورغ الحيز الأكبر لدى الفعاليات البحثية والإعلامية الروسية، إذ تم التركيز على عدة قضايا أهمها: خطورة التعايش مع فكرة الاختراق والتفجيرات؛ ارتباط تلك التفجيرات بالعمليات العسكرية في سورية؛ دلالات المكان؛ تواجد "داعش" في روسيا والحديث عن وجود أكثر من ألف روسي مع الدولة الاسلامية يتحركون بحرية من خلال جواز السفر الروسي.

أولاً: كيف تفاعل الإعلام الروسي الضربة الأمريكية؟

بعيد مجزرة الكيماوي التي ارتكبتها قوات النظام في خان شيخون تسارع الاعلام الروسي لتبني رواية مركز حميميم التابع لوزارة الدفاع التي لم تحمل النظام مسؤولية هذا الهجوم، وبذات الوقت اهتمت الفعاليات البحثية والإعلامية الروسية بقراءة أية تطورات محتملة من قبل الإدارة الأمريكية، وفي هذا الصدد تساءل المحلل الروسي "فلاديمير بلخوين" بمقالة له في صحيفة "نيزافيسيمايا" هل سيضرب ترامب سورية؟ إذ عزز "بلخوين" فرضية الضربة المحتملة مستدلاً بذلك على عدة مؤشرات منها([1]):

  1. "الغضب" الذي اعترى ترامب في مؤتمره الصحفي (الذي تحدث فيه عن المجزرة) وتوعده بعمل ما -دون الإفصاح عنه-إذ كان بمثابة مؤشر جدي على نية الإدارة الأمريكية بعمل عسكري.
  2. تصريحات نائب ترامب بأن دمشق مسؤولة عن الغارة الكيمائية وواشنطن لن تستثني أي خيار بما فيه العسكري.
  3. تأييد أنصار الرئيس من الجمهوريين للخيار العسكري مستدلاً بتصريحات السيناتور "تون كوتون" التي عبر فيها عن عدم شعوره بالأمان طالما محور روسيا إيران سورية يفعلون ما يشاؤون في سورية مضيفاً وعلى بشار أن يرحل.

من جهته استبعد الخبير العسكري "يوري بنكا تشيف" قيام الولايات المتحدة الأمريكية بعمليات عسكرية فورية قد تؤدي إلى إحداث خسائر في القوات الروسية، وقد يعتمد الطيران بدون طيار وسيلة لتصفية الأسد، إلا أن لدى موسكو الوقت الكافي لمنع هذا الاحتمال. إلا أن الأحداث بينت أن ردة الفعل الأمريكي كانت بمثابة "ضربة عقابية" للنظام، عبر استهداف مطار الشعيرات بحماه بـ 59 صاروخ توماهوك، سارعت موسكو لاستنكار وإدانة هذا الفعل ولوحت بانهاء التنسيق الجوي المشترك بينها وبين الولايات المتحدة، ترافق ذلك بزيارة قام بها وزير الخارجية الأمريكية لموسكو اهتمت بها صحيفة "اوترا" الروسية، وصدرت مجموعة من الخلاصات أهمها:

  • أن العلاقات الروسية الأمريكية تشهد أدنى مستوى لها وأن طروحات وزير الخارجية الأمريكي المتعلقة بتشكيل لجان عمل لدراسة وأسباب التوتر تؤكد على تعمق حجم الخلاف لا سيما فيما يتعلق بقضية "الرئيس السوري".
  • أن موقف أمريكا بات أكثر حسماً حيال تلك القضية، فهي "لم تعد ترى لبشار الأسد أي موقع في السلطة في سورية".

ونوهت الصحيفة بذات السياق إلى استمرار تأزم العلاقات الروسية البريطانية التي وصلت لدرجة إهانة روسيا وخاصة من المندوب البريطاني الذي دخل في مشادة كلامية مع المندوب الروسي.

أما معهد الدراسات الاستراتيجية فقد أفرد من خلال باحثيه تحليلاً موسعاً للضربة الجوية الأمريكية حيث خلص لرأي مفاده: "أن ترامب اتخذ هذا القرار نتيجة موجة الانتقادات الموجهة له من جمهور كبير من المحللين سواء في أمريكا أو من خارجها ويتضمن رغبة ترامب في إظهار حزمه وقوته العسكرية، راغباً في المشاركة في لعبة الشطرنج العسكرية مع روسيا في الشرق الأوسط، وقد تكون أيضا رسالة للرئيس الصيني المتواجد في أمريكا بأنه قادر على ضرب كوريا الشمالية إذا لم تتمكن الصين من حلها، فالنظرة السريعة على الأحداث تدل على أن القرار تم اتخاذه على عجل، ولا يخلو من الانفعالية، ولمثل هذه القرارات نتائج خطيرة لا يمكن التنبؤ بها، وهي بذلك تعمل على تغييب القانون الدولي وإلغاء كثير من المبادئ التي تمنع حصول صراعات دولية.

وفي ذات التحليل ذكر مدير معهد الدراسات الاستراتيجية "فرادكوف"، مجموعة نقط تحليلية نذكر أهمها([2]):

  1. أن مثل هذا الحدث ليس حدثاً عادياً، لأن أي عملية لا تأخذ القدر الكافي من التأني ستؤدي إلى ضياع التحكم بالحدث، وبالتالي إلى احتمالات خطيرة غير مرغوب فيها.
  2. في مصلحة من وما هو الهدف من عدم وجود تفاهم على ما يجري في سورية خاصة، والشرق الوسط بشكل عام. في ظل تنامي تهديد الأمن والسلم الدوليين.
  3. مهما تكن الظروف فيجب أن يتم العمل على تقليل الخسائر البشرية وتخفيف التوتر العالمي وفي كل الأحوال يجب عدم السماح بحصول اصطدام بين روسيا وأمريكا لما لهذا الموضوع من خطر على العالم بأكمله.

أما الباحثة "إيلينا سوبونينا" فقد كتبت مقالاً في صحيفة "ايزفستيا" بعنوان "ترامب يكافئ المسلحين السوريين" ذكرت فيه: ( أن الهجوم الصاروخي على مطار الشعيرات لم يغير في ميزان القوى على الأرض، وبقي التفوق للقوات الحكومية، والوضع الآن مختلف عن عام 2015 عندما كان "المتمردون" على مشارف العاصمة دمشق، فهجمات الجيش السوري الذي تدعمه روسيا وإيران مستمرة على معاقل "الإرهابيين" الذين تجمعوا في إدلب نتيجة تحرير شرق حلب،  ولم تحقق الضربة هدفها، فها هو الطيران يقلع من مطار الشعيرات بينما تتابع روسيا اتصالاتها مع شيوخ القبائل لتامين المصالحات،  وعلى الرغم من الخسائر المتواضعة المادية والبشرية، إلا أن النتائج السياسية مخيفة ففي قاعدة الشعيرات يعمل الإيرانيون والاخصائيين الروس على محاربة الإرهاب القريب من مطار الشعيرات في الرقة، إلا أن ترامب أعطى الأمل للإرهابيين لتنشيط عملياتهم الإرهابية في سورية([3]).

بالمقابل وعلى عكس نبرة الخطاب المتوافق مع الخط السياسي الروسي الرسمي، تساءلت صحيفة "غازيتا الروسية" بقلم الكاتب "ايفانت كالينين" إلى متى سندعم الأسد وهو وراء عداوة العالم لروسيا؟ وأشارت للعديد من النقط المدللة على تبعات دعم الأسد، نبينها في الآتي([4]):

  • احتمال قيام ترامب بتنفيذ عقوبات جديدة على روسيا بسبب دعمها للأسد.
  • تصريحات وزير الخارجية التركي بأن على روسيا اعادة النظر في موقفها من الأسد ومستقبله في العملية السلمية.
  • إلغاء وزير الخارجية البريطاني زيارته لروسيا مصرحاً بأن تواطؤ روسيا مع الأسد سبباً كافياً لإلغاء الزيارة.
  • اعتبار وزير الدفاع البريطاني روسيا (الوسيط في نزع السلاح الكيماوي السوري) شريكة في القتل ومسؤولة عن أرواح أكثر من 70 قتيلاً.
  • أعطت الغارة زمام المبادرة للدول الأوروبية في الساحة الدولية.
  • انتقادات مندوبة أمريكا في مجلس الامن والتي صرحت أن سقوط الأسد يعتبر أولوية أمريكية إضافة الى ضرورة الحد من نفوذ إيران في سوريا وأضافت في تصريح لرويترز أن أمريكا بصدد تشديد العقوبات على روسيا وإيران وأنها لا تتصور سورية سلمية برئاسة الأسد إلا أن وزير الخارجية الأمريكي فكان أقل حدة عندما قال: ان الأولوية لمحاربة تنظيم الدولة، وبعدها نلتفت لاستقرار سورية،
  • مؤسسات إعلامية تابعة لوزارة الخارجية الروسية في تعليقاتها تتحدث عن عدم معرفة او عدم فهم موسكو لما يجري في سورية.

أما وكالة انترفاكس فقد أجرت لقاء مع المحلل والخبير السياسي "فيتالي نعومكين" مدير معهد الدراسات الشرقية في أكاديمية العلوم الروسية الذي استعرض مآل العلاقة الروسية الأمريكية بعد الضربة، إذ أكد على أن التعاون بين أمريكا وروسيا سيستمر، لأن الضربة كانت تهدف أصلاً إيصال رسالة إلى الرئيس الصيني المتواجد في واشنطن في حينها، وبيان جاهزية واشنطن لضرب كوريا الشمالية. وأكد على أن لديه من الحقائق بحيث لا يستبعد قيام أمريكا بضرب كوريا الشمالية حيث يبدي الخبراء رأياً استراتيجياً مفاده إن لم يضرب الآن فسيصبح الوقت متأخراً، وأكد في هذا الصدد على أن أمريكا مهتمة الآن بالمنطقة الاسيوية والمحيط الهادئ([5]).

وفي ذات السياق المتعلق بتتبع تطورات العلاقة الروسية الأمريكية، فقد ذكرت وكالة "تاس" عن "ميخايل فرادكوف" مدير معهد الدراسات الاستراتيجية قوله حول زيارة تيرلسون ونتائجها بأن تقرير نيلسون لترامب سيؤثر على مستقبل العلاقة بين روسيا وأمريكا، موضحاً أن ساعتين من المحادثات مع بوتين كافية لتقدير الموقف الروسي الذي سيعرضه على ترامب والذي من المفترض أن يعمل على تهدئة الوضع وإقامة حوار حقيقي بين روسيا وأمريكا، وأكد أنه على روسيا انتظار رد فعل ترامب الذي عرف برغبته بإظهار حزمه واثبات ذاته. ونوه "فرادكوف" أنه ومهما تكن الحالة، فلا بد من إظهار المسؤولية وأن تسعى روسيا للاستفادة من كل الظروف لتكون علاقتها مع أمريكا أفضل، أو على الأقل ألا تذهب للأسوء، وفيما يتعلق بمحاربة الإرهاب تحدث "فرادكوف" عن محاولة روسيا اشراك الولايات المتحدة، إلا أن مثل هذه الضربات المفاجئة تقوض الجهود، وأَملَ أن تفهم الإدارة الامريكية أن موسكو لن نسمح بتكرارها وأن اعتماد حجج وذرائع لتغيير الأنظمة في العالم سيؤدي الى ضرب القوانين الدولية وبالتالي تغيير النظرة الى الأمم المتحدة ودورها([6]).

ثانياً: تطورات العلاقة الإيرانية الروسية 

زار مؤخراً الرئيس الإيراني موسكو مع وفد عالي المستوي بهدف التأكيد على التحالف الروسي الإيراني، وقد تم خلال هذه الزيارة توقيع سلة من الاتفاقيات، أهمها([7]): 1) إلغاء التأشيرة بين البلدين؛ 2) التعاون في مجال كهربة المواصلات؛ 3) انشاء مشاريع إنسانية؛ 4) نقل الوقود النووي؛ 5) تنسيق المواقف النفطية بين البلدين وتوحيد المواقف تجاه منظمة أوبك.

ونوهت الصحف الروسية إلى أنه وخلال الزيارة عرضت إيران على روسيا استخدام قواعدها الجوية بشكل مؤقت لمتابعة الحرب على الإرهاب، حيث نقلت صحيفة "الكمسامولسكايا" آراء بعض الخبراء عن ذلك، ومنهم الخبير العسكري "ألكسي بورزينكو" و "ايغور كلروتشينجو" الذين تحدثا عن الفائدة المرجوة من استخدام روسيا للقواعد الإيرانية مبينة بما يلي([8]):

  • إمكانية فتح كريدور جوي وخاصة للصواريخ المجنحة من طراز (كاليبر).
  • توفير واضح ولموس في كميات الوقود اللازمة.
  • إمكانية الحصول على معلومات استطلاعية أوسع وأسرع.
  • إمكانية التدخل السريع في حال العمليات المفاجئة.
  • إمكانية تحميل القاذفات كمية من القنابل والصواريخ أكثر.

والجدير بالذكر هنا أيضاً، أنه أثناء تلك الزيارة، أوردت صحيفة روسيا اليوم التابعة لوكالة الانباء الوطنية الروسية ИР مقالا بعنوان وزير الدفاع الإيراني ينصح الأمريكيين بمغادرة الخليج، ونوهت الصحيفة إلى تصريح "جوزيف مونيل" قائد القيادة العسكرية المركزية الأمريكية في مجلس الشيوخ في مجال التعاون الفني مع الحلفاء في الشرق الأوسط عن نية الولايات المتحدة تصدير صواريخ بالستية لمنطقة الخليج العربي، وفي الرد على هذه النوايا، نصح وزير الدفاع الإيراني الأمريكيين بمغادرة منطقة الخليج لعدم إحراج دول المنطقة، ووجه هذا النقد (حسب الصحيفة) "بطريقة شرقية" حين قال: هل من المعقول دخول سارق مسلح الى بيت ما؟ هل يعتقد انه سيفرش له سجادة حمراء؟ ألا إن هذا من وحشية العصر، وذكرت الصحيفة أنه من المعلوم أن العلاقات الإيرانية الأمريكية شهدت شيئا من الدفء في عهد أوباما حيث وقع الاتفاق النووي الذي أقر فيه الموقعون بسلمية البرنامج النووي الإيراني، وتم على أثره تخفيض العقوبات المفروضة على إيران، في حين لم يخف الجمهوريون انتقاداتهم لأوباما وعلاقته بإيران، الا أن قدوم ترامب إلى السلطة أعاد هذه العلاقة الى التعقيد من جديد([9]).

أما فيما يتعلق بالعلاقة العسكرية الثنائية، نشرت كل من صحيفة "بليت اكسببيرت" إضافة "لوكالة الأنباء الوطنية في صحيفة روسيا اليوم" موضوعاً بالغ الأهمية حول مدى إمكانية قيام قاعدة عسكرية إيرانية في سورية، هذا الأمر الذي نفاه الجنرال الايراني "رسول ساناي راد" ممثل القيادة العسكرية الإيرانية واصفاً هذه الأنباء "بالمغلوطة" تهدف لزعزعة الاستقرار وخلق عدم الثقة بين الدول في المنطقة مستنكراً سكوت الصحافة نفسها عن وجود القوات الأمريكية غير الشرعي في سورية، مضيفاً أن الوجود الإيراني في سوريا يقتصر على المستشارين العسكريين بناء على طلب الحكومة السورية، ولا تخطط طهران لبناء أي قاعدة عسكرية في سورية. إلا أن الصحافة الأمريكية (وفق تلك الصحفيتين) تؤكد على اقتراب طهران من إنشاء قاعدة بحرية في اللاذقية بموجب اتفاقية بين روسيا وإيران بضوء أخضر من بشار الأسد، وذلك لقاء الدعم المادي والعسكري الايراني لسورية خلال سنوات الحرب، وبذات الموضوع نوه الإعلام الروسي إلى تصريح رئيس الوزراء الاسرائيلي في 9/3/2017 الرافض لإقامة تلك القاعدة عسكرية التي (برأيه) تسعى لبناء البنية التحتية لقاعدة بحرية مستقرة، وهذا من شأنه دعم محور إيران حزب الله وبالتالي تسهيل نقل الأسلحة الى حزب الله عبر سورية، كما أنها تزعزع الأمن والاستقرار في هذه المنطقة حسب وزارة الخارجية الإسرائيلية، أما "ألكسي نوفوبتشونوف" الباحث في معهد التخصصات المتعددة، فقد علق على هذا الموضوع بقوله إن ذلك يخص أربع دول سوريا وروسيا وإيران وتركيا المتحالفة لحل القضية السورية دون تجاهل دور اسرائيل التي تسعى للاستفادة من الازمة لصالحها تحت مقولة الرابح هو الذي يطلق الطلقة الأخيرة([10]).

ثالثاً: المتابعات الروسية للقضايا الاقتصادية المحلية والإقليمية والدولية

أجرى معهد الدراسات الاستراتيجية ندوة شارك فيها عدد من الباحثين الاقتصاديين والماليين في المعهد لمناقشة الوثيقة الصادرة عن اجتماع الدول العشرين الذي تم في مدينة بادن في 17/3/2017 والذي جمع وزراء المالية وممثلي البنوك المركزية في الدول العشرين اجتماعا في مدينة بادن تلك الوثيقة التي ستقدم لقادة تلك الدول في شهر حزيران القادم في ألمانيا)، وخلصت هذه الندوة إلى ما يلي([11]):

  • أن الوثيقة المنبثقة عن الاجتماع لم تأت بشيء جديد، مختلفة بذلك تماماً عن تلك الاجتماعات المنعقدة منذ عشر سنوات إبان الأزمة الاقتصادية التي كادت تعصف بالاقتصاد العالمي ووجدوا لها آنذاك الحلول المناسبة.
  • إعادة أسباب عدم التوصل لنتائج نوعية لـ:
  • الخلافات الواضحة بين أعضاء المجموعة وجو التوتر الذي ساد المناقشة.
  • عالمية ظاهرة الاقتصاد، إذ أن المجتمعون يبحثون الوضع الاقتصادي في هذه البلدان بينما هو ظاهرة عالمية، عدا عن ذلك فان كل دولة تخطط اقتصادها وفقا لمصالحها الوطنية ولا يمكن لأية قرارات أن تكون ناجحة إلا بمدى تناسبها مع الاقتصاديات الأخرى بما فيها الاقتصاديات الحديثة مثل أمريكا.
  • ان الوضع الحالي شبه مستقر مع معدل نمو منخفض وعدم وجود أزمات مالية.
  • دخول الصين باقتصادها المتنامي بقوة في الاقتصاد الدولي.
  • وصول ترامب المتشدد الى السلطة والخوف من انتشار هذه الحالة الى أوروبا.
  • انعدام التعاون بين دول هذه المجموعة لوضع نظام ضريبي موحد.

ولأن الوضع الاقتصادي يشهد (وبسهولة) تدفق الكتل النقدية الكبيرة عبر البنوك وبشكل كبير مؤثراً على الوضع المالي العالمي (بحسب الندوة)، فإن الرابح في هذه الحالة تلك الدول التي تتمتع بكتل نقدية كبيرة حيث ستضطر الدول الأقل ملاءة الى تكييف وضعها النقدي بما يتلاءم مع الوضع العالمي على الرغم من الخسائر الممكنة. واستناداً لذلك ذكرت الندوة أنه "لا يتوقع عند عرض الوثيقة على قادة هذه الدول في ألمانيا الخروج بنتائج واضحة، والأغلب أن تستمر السياسات المعمول بها حالياً، كما أن ميركل بحسب الندوة ستقف ضد أي قرارات لا تحمل نتائج معروفة".

وفي سياق اقتصادي إقليمي دللت المحررة "اولغا موزيك" في جريدة "بليت اكسببيرت" على ارهاصات حرب نفطية ما بين روسيا والمملكة العربية السعودية، حيث تبدي الدول ضمن أوبك وخارجها عدم ارتياحها من حصصها النفطية وتواجدها في السوق النفطية منوهة المحررة إلى أن اتفاق أوبك عمل على استقرار الأسعار، إلا أن السعودية تبدي امتعاضها   لتحملها الضغط الأكبر من تخفيض الإنتاج، حيث فقدت الكثير من عملائها ومازالت صامتة، وأن روسيا لا يمكنها أن تقف متفرجة عما يجري، وأنها ستسعى بشكل حثيث لكسب عملاء أساسيين كالصين والهند.

 لذلك ووفقاً لـ "موزيك" قررت السعودية العودة إلى سوقها القديمة وهي أوروبا بسعر جديد، كما أنها دخلت المنطقة الآسيوية من خلال العقود المبرمة خلال زيارة الملك سليمان إلى تلك المنطقة التي كانت تعد المنتجات النفطية الروسية مصدرها الأساس وبالتالي فإن التوقعات تشير إلى فقدان موسكو لهؤلاء الزبائن. وتؤكد "موزيك" أنه إذا ما قررت أمريكا الاعتماد على نفطها، فلا بد للسعودية وغيرها من النظر للسوق الأوروبية الأمر الذي سينشأ عنه عدم استقرار وحرباً في الأسعار، وقد أشار المحللون إلى أن هذه الحرب قد بدأت فعلاً، فها هي روسيا تتهم أرامكو بإغراق السوق الأوروبية.

تذكر المحررة أن الحرب غير مرتبطة في الأسعار فقط، وإنما هناك أيدي غريبة تعمل على إشعالها، عدا عن إمكانية عدم تمديد اتفاقية أوبك التي تحدد الكميات المنتجة لكل دولة. وأوصت المحررة بناءً على أراء العديد من المحللون الذين أكدوا على عدم رغبة روسيا والسعودية بالدخول في حرب أسعار، أنه الأفضل للجميع توحيد استراتيجية الدخول الى السوق الاوربية بدون خسائر، وأن اتفاق روسيا والسعودية يمكنهم تجاوز إيران والعراق في حرب الأسعار، وكذلك الحد من تأثير الدول الداخلة في منظمة أوبك على اعتبار أنهما الدولتين الأكثر انتاجاً([12]).

أما فيما يتعلق في الاقتصاد المحلي، فقد نشرت صحيفة "مسكوفسكي كمساموليتس" مقالا للكاتب "نيقولاي ماكاييف" بعنوان" لماذا ثلث سكان روسيا محرومون من الغاز؟ إذ أكد على أن هذه المشكلة من أهم المشاكل التي يعاني منها سكان روسيا، حيث القسم الأكبر يعتمدون على الفحم والحطب للتدفئة، وعلى الرغم من كل الوعود المعطاة لحل هذه المشكلة فلا شيء يلوح في الأفق، فمنذ عشر سنوات وعد رئيس الوزراء ميدفيدف بحل المشكلة، إلا أنها بقيت بدون حل، وبقي المواطن هو الذي يدفع ضريبة تقصير الحكومة.

وأكد "ماكاييف": (أن الحل ممكن إذا ما أريد له ذلك، عبر وضع استثمارات حقيقية في هذا القطاع، ولو صدقت الوعود الحالية فإنه في أحسن حالات تأمين الغاز يمكن أن يصل إلى 90 % في عام 2030، وزاد الكاتب من وتيرة انتقاده للدولة عبر قوله "أليس من المعيب أن دولة تعتبر من أكثر الدول انتاجاً للغاز في العالم يعيش قسم كبير من سكانها بدون غاز، وهذا ما صرح به ميدفيدف في عام 2007، ولكن يبدو أن بيع الغاز الى أوروبا أكثر فائدة من استخدامه محلياً وأن الحطب والفحم أرخص من الغاز، وبنظرة بسيطة للمقارنة فإننا نرى نسب تأمين المواطن في دول الاتحاد السوفييتي السابق كما يلي: أرمينيا 93%، أذربيجان 80%، أوزبكستان 75%، بلاروسيا 73.9%، أوكرانيا 72%، بلاروسيا 73.9%، أوكرانيا 72%([13]).

رابعاً: شؤون عسكرية وأمنية روسية

تابعت الفعاليات الإعلامية الروسية الحركة العسكرية الروسية وتطورات المشهد الأمني المحلي، وركزت على العديد من القضايا، إلا أن أهمها يتمثل في:

  • الدعم الروسي للأكراد بوصول قواتها الى عفرين، إذ أدى ظهور صور لجنود روس بالقرب من عفرين إلى طرح تساؤلات عن علاقة روسيا في الميليشيات الكردية في المنطقة، وما بين أخذ وصد وانكار موسكو للواقع وتواجدها الفعلي، صرح الجنرال اندريه فالكون لوسائل الاعلام: "أن القوات الموجودة في المنطقة هي من مركز حميميم لمراقبة وقف إطلاق النار"، بينما صرح ممثل الميليشيا الكردية عن توقيع اتفاق مع موسكو يقضي بتدريب هذه الميليشيا ورفع عددها الى 100 ألف مقاتل، من جهة أخرى أكد مصدر روسي بأنهم سيتعاملون مع الإدارة المحلية الكردية حيث هذه المناطق تقع تحت مسؤولية الجانب الروسي، ونوه الاعلام الروسي إلى أن هذه العلاقة لن تريح كلاً أنقرة والنظام السوري ، فهذا ما عبر عنه أردوغان أثناء زيارته لموسكو ومطالبته روسيا بالتوقف عن دعم الأكراد، كما يبدي الجانب السوري عدم ارتياحه إلا أنه لا يستطيع فعل شيء([14]).
  • ادخال القاذفة الاستراتيجية TY-160M2 في الخدمة: وبعد عمل استغرق 3 سنوات لتحديث القاذفة للحصول على النموذج الجديد (البجعة البيضاء) الاستراتيجية حاملة الصواريخ، فإن هذه الطائرة ستكون منافسة لمثيلاتها الأميركية، وتتحدث الصحف الروسية عن الميزات الفنية والتعبوية للطائرة والتي كان مقرراً إدخالها في الخدمة عام 2015، إلا أن الزيادة في تحسين المواصفات أدى الى التأخير، ويذكر أن مسافة الطيران فيها تصل 10.500 كم مجهزة بالمعدات التقنية والالكترونية التي تحميها من التشويش، كما أنها تتمكن من التصدي للأنظمة الصاروخية المضادة للطيران، وتحمل الصواريخ القادرة على تدمير أي هدف([15]).

وقد استحوذت قضية التفجير الإرهابي الذي هز مترو الأنفاق في مدينة سانت بتربورغ الحيز الأكبر لدى الفعاليات البحثية والإعلامية الروسية، وسيقف التقرير عند أهمها:  إذ قدم مركز كارنيغي تحليله الخاص عن طريق الباحثة "تاتيانا خروليوفا" تحت عنوان: "الاحساس بالمصيبة وكيف غيرت التفجيرات مدينة سانت بيتربورغ"، حيث قالت "خروليوفا" أنه (من البديهي أن ذلك لم يكن يحدث مصادفة، والجميع يفهم ألا إجراءات جديدة للأمن يمكن أن تشكل ضمانا لعدم التكرار، والشيء المعروف أن مثل هذه التفجيرات تترك الناس يعيشون بحذر وخاصة بعد الحدث مباشرة فالناس نزلت للميترو ولكن الكل في عربات المترو ينظر لجاره ولمن يحمل محفظة يمكن أن تنفجر، إلا أن هذا الشعور سيزول يوماً بعد يوم وتعود الحياة إلى طبيعتها، ويبقى الاحساس بالمصيبة لفترة ثم يزول، ويبقى شعوراً غامضاً عن امكانية حدوث مثل هذه التفجيرات بحيث اصبحت هذه المدينة لا تختلف عن مثيلاتها من الدول الاوربية تتعايش مع واقعها الجديد([16]).

كما أوردت صحيفة نيزافيسيماي العديد من المقالات التحليلية في هذا السياق، فالكاتب "قسطنطين ريموتشكوف" أبدى وجهة نظره في ذلك بقوله: (إن هذه التفجيرات مرتبطة بالعمليات العسكرية في سورية، وها هي داعش تريد الحضور بهذه الطريقة)، مضيفاً (أنه يجب الا ننسى تفجير الطائرة في سيناء المصرية التي أعقبت إعلان روسيا المشاركة الفعالة في الحرب في سورية هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التفجيرات حصلت في المدينة الآمنة، وهي مدينة بوتين، وكذلك أثناء وجود بوتين فيها، والأغرب من ذلك أن المنفذ هو من الجنسية الروسية، حيث يوجد أكثر من ألف روسي مع الدولة الإسلامية وهم يتحركون بحرية من خلال جواز السفر الروسي، وهذا شيء مرعب يجعل السكان يعيشون في خوف دائم. ([17])

بينما نوهت "ايكاترينا بالغوفا" إلى أنه وفقاً لقرار مجلس الوزراء، فقد تم تشكيل مجموعة للتدخل السريع في شؤون مترو الأنفاق غير القانونية وستجهز بجميع المعدات والتجهيزات اللازمة لعملها وسيتم تقييم عملها خلال ثلاثة أشهر من بدء عملها علماً أنه ذهب ضحية التفجيرات 14 قتيلاً وعدد من الجرحى([18]).

الخاتمة

لعل الحدث الأبرز التي شهده شهر نيسان تلك التفجيرات التي هزت مدينة سانت بيتربورغ، التي أوضحت الأوساط الروسية على خطورة مؤشرات وصول داعش للعمق الروسي، وأن هناك العديد من يربط هذا التطور بسياسات روسيا في سورية والمنطقة.

وفيما يتعلق بتداعيات وتطورات الهجوم الكيماوي على خان شيخون يؤكد تقرير الرصد هذا على صلابة الموقف الروسي تجاه القضية السورية بشكل عام وموقفه من الأسد بشكل خاص بعد الهجوم، فالخطاب البحثي والإعلامي الروسي رغم بعض الأصوات المعارضة إلا أنه بغالبيته اتسق مع خطاب القيادة الروسية التي مازالت ممعنة في قلب الحقائق وتطويعها لخدمة الهدف الجيوسياسي الروسي.

وأظهر التقرير مدى الاهتمام الروسي بمتابعة حيثيات الرد الأمريكي، منوهاً إلى أن التوجه العام خلص إلى ضعف نتائج الضربة الأمريكية على المستوى العسكري، وأعاد سبب هذه الضربة لأسباب محلية أمريكية ولضرورات توجيه رسالة للصين وكوريا الشمالية حيث مسرح الأحداث العديد من التصريحات والاستفزازات العسكرية والتهديدات المتبادلة بين الأطراف. وعلى صعيد العلاقات الروسية الإيرانية، لحظ التقرير مدى استراتيجية هذه العلاقة والتي تعمقت خلال زيارة الرئيس الإيراني لموسكو وحجم ونوعية الاتفاقيات المبرمة وخاصة في المجال العسكري، هذا المجال الذي تدلل المؤشرات الإعلامية على إمكانية بناء قاعدة إيرانية في اللاذقية من جهة، وتطوير موسكو لأبحاثها في تطوير ترسانتها العسكرية من خلال القاذفة الاستراتيجية MK160m2 . 

كما تابعت الدوائر الاقتصادية البحثية نتائج قمة العشرين على مستوى ووراء المالية، وقللت من أهمية تلك النتائج، كما توقفت تلك الدوائر على نتائج زيارة ملك السعودية للصين من خلال سعي السعودية لمزاحمة روسيا في أسواقها النفطية، ولعل الحدث الأبرز اقتصادياً زيادة حدة وتيرة النقد للحكومة الروسية فيما يتعلق بالنقص الكبير لمادة الغاز في روسيا على الرغم من أنها أكبر الدولة المنتجة له.  

 


([1]) فلاديمير موخين: " هل يهاجم ترامب سوريا " صحيفة نيزافيسيمايا , 06/04/2017، الرابط     http://www.ng.ru/world/2017-04-06/100_war060417.html

 

([2])  انظر مجموعة التحاليل التي أوردها فرادكوف:" مدير معهد الدراسات الاستراتيجية " بتاريخ 07/04/2017 على الرابط https://riss.ru/analitycs/39777/

([3]) الباحثة ايلينا سوبولينا:" ترامب يكافئ المسلحين السوريين "، صحيفة "ايزفستيا"، تاريخ 10/4/2017، الرابط: https://goo.gl/sQp4Fo

([4]) ايفانت كالينين: " الى متى سندعم الأسد وهو وراء عداوة العالم لروسيا"، صحيفة غازيتا , 09/04/2017، الرابط: https://goo.gl/4k68Fn

([5])  فيتالي نعومكن: " لقاء مع وكالة انترفاكس الروسية " , 09/04/2017، الرابط http://www.interfax.ru/interview/557595

([6]) مقابلة ميخايل فرادكوف مع وكالة "تاس" للمزيد انظر الرابط      http://tass.ru/politika/418166  

([7]) تقرير حول الزيارة: عباس جمعة، صحيفة كمسامولسكايا برافدا، بتاريخ 28/3/2017، http://www.kp.ru/daily/26659/3680067 

([8])  تقرير لديميتري سميرنوف، صحيفة كمسامولسكايا برافدا، بتاريخ 28/3/2017.  http://www.kp.ru/daily/26658/3680325    

([9]) أنظر: صحيفة روسيا اليوم التابعة لوكالة الانباء الوطنية الروسية ИР بتاريخ 31/30/2017 وفق الرابط: https://goo.gl/CsN1Bp

([10]) فاسيلي يابافا:" حول إقامة قاعدة عسكرية إيرانية"،صحيفة بليت اكسبورت بتاريخ 13/3/2017 وفق الرابط:          http://ria.ru/syria/20170313/1489834619.htm

([11]) ندوة في معهد الدراسات الاستراتيجية حول قمة العشرين    https://riss.ru/analitycs/39731

([12]) نيقولاي ماكاييف: " اولغا موزيك: رائحة حرب نفطية بين السعودية وروسيا"، صحيفة مسكوفسكايا، بتاريخ11/4/2017، الرابط: https://goo.gl/dGgFAa

([13])  نيقولاي ماكاييف: " لماذا ثلث سكان روسيا محرومون من الغاز؟ " كمسا موليتس بتاريخ 11/4/2017، الرابط: https://goo.gl/41WaeK

([14]) فلاديمير موخين: " الدعم الروسي للأكراد بوصول قواتها الى عفرين"، صحيفة نيزافيسيمايا بتاريخ 11/4/  2017، https://goo.gl/VhIqAv

([15])ألكسندر ايلين: ادخال القاذفة الاستراتيجية TY-160M2 في الخدمة، موقع يترو الالكتروني بتاريخ 12/4/2017، https://goo.gl/l7ckuR

([16]) تاتيانا خروليوفا:" الاحساس بالمصيبة وكيف غيرت التفجيرات مدينة سانت بيتربورغ، مركز كارينغي، 15/4/2017، https://goo.gl/ExcdkW

([17]) في تعليقه على التفجيرات الكاتب "قسطنطين ريموتشكوف"لصحيفة نيزافيسيمايا، تاريخ: 3/4/2017، https://goo.gl/56Pccv

([18]) تعقيب ايكاترينا بلوغوفا  لوكالة kp hgv,sdmبتاريخ 5/4/ 2017     http://www.kp.ru/online/news/2706094/

ملخص تنفيذي

  • تبدو معركة الرقة بظروفها السياسية والعسكرية عملية استنساخ لمعركة الموصل، فمن الناحية السياسية تم إطلاق المعركة في مناخ متوتر محلياً وإقليمياً حول الأطراف المشاركة فيها، مقابل ضبابية تعتري مصير المدينة بعد التحرير. أما من الناحية العسكرية فقد استخدم التنظيم الاستراتيجية ذاتها التي استخدمت في الموصل، والتي تقوم على استنزاف القوات المهاجمة عبر المفخخات، ثم الانسحاب من الأطراف للتترس داخل المدينة في محاولة لفرض نمط حرب المدن على واقع المعركة.
  • عكست المراحل الأولى لمعركة الرقة حالة ضعف "قوات سوريا الديمقراطية" وعجزها عن الاستمرار بالمعركة منفردة، حيث احتاجت إلى تغطية نارية كبيرة جداً من التحالف الدولي، وتدخل مباشر من القوات الأمريكية والفرنسية على شكل عمليات إنزال لحسم المعارك الكبرى كالسيطرة على سد الفرات ومطار الطبقة العسكري.
  • إن المناخ السياسي المتوتر الذي يلف انطلاق معركة الرقة، وما رافقه من تعقيدات وتشابك مصلحي على المستوى الإقليمي والدولي؛ سينعكس بالضرورة على سيناريوهات حسم المعركة، وما سيليها من معارك ضد تنظيم الدولة في سوريا.
  • خلصت الدراسة إلى أربعة سيناريوهات محتملة لحسم معركة الرقة وما يليها من معارك ضد تنظيم الدولة في سوريا، تتراوح بين استمرار أمريكا باعتمادها القوات الكردية كطرف وحيد وما يترتب على ذلك من خلافات مع تركيا، أو صياغة تفاهمات جديدة بين تركيا والولايات المتحدة، وبين سيناريو تفاهم روسي أمريكي يسحب نموذج "منبج" إلى الرقة، مقابل ما قد يشكله اجتماع أستانة الأخير من مقدمة لسيناريو رابع يقوم على فتح أمريكا المجال لمشاركة جميع الأطراف في المعركة.
  • يبدو أن أهم إنجازات العودة الأمريكية هو تقويض تفاهمات ما بعد حلب، والتي أرستها روسيا، في محاولة لفرض تفاهمات جديدة تتوافق مع العودة الأمريكية إلى الانخراط المباشر بقضايا الشرق الأوسط، وتحديداً الملف السوري.

مدخل

في تاريخ 18 أيار/ مايو 2016 أطلقت قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، والتي يشكل تنظيم "وحدات حماية الشعب الكردية" "YPG"عمادها الرئيس؛ حملة عسكرية بهدف السيطرة على مدينة الرقة من تنظيم الدولة "الإسلامية"، وذلك بدعم وإسناد جوي من التحالف الدولي ومشاركة عدد محدود من القوات الأمريكية والفرنسية. المعركة التي تم إيقافها من قبل "قسد" في 31 أيار/مايو 2016 معللة ذلك بشدة مقاومة التنظيم وكثرة انتشار الألغام في أرياف الرقة، وبالتزامن مع ذلك تم الإعلان عن بدء معركة منبج والتي سيطرت عليها "قسد" في 12 آب 2016. لتعود وتستأنف معركة الرقة التي حققت في مراحلها الأولى والثانية والثالثة الأهداف المطلوبة منها، والمتمثلة في قطع اتصال فرعي تنظيم الدولة "الإسلامية" في سوريا والعراق وعزل وتطويق مدينة الرقة، تمهيداً للهجوم عليها، وهو هدف المرحلة الرابعة الجارية حالياً.

ولعل المعركة بظروفها السياسية والعسكرية تُعتبر عملية استنساخ لمعركة الموصل، فمن الناحية السياسية تم إطلاق المعركة في مناخ متوتر محلياً وإقليمياً حول الأطراف المشاركة فيها، مقابل ضبابية تعتري مصير المدينة بعد التحرير. أما من الناحية العسكرية فقد استخدم التنظيم الاستراتيجية ذاتها التي استخدمت في الموصل، والتي تقوم على استنزاف القوات المهاجمة عبر المفخخات وليس المواجهة المباشرة، وثم الانسحاب من الأطراف للتترس داخل المدينة في محاولة لفرض نمط حرب المدن على واقع المعركة، بالإضافة لذلك عكست المعركة حالة ضعف قوات سوريا الديمقراطية وعجزها عن خوض المعركة منفردة، حيث احتاجت إلى تغطية نارية كبيرة جداً من التحالف الدولي، وتدخل مباشر من القوات الأمريكية والفرنسية على شكل عمليات إنزال لحسم المعارك الكبرى كالسيطرة على سد الفرات ومطار الطبقة العسكري.

وعليه تسعى هذه الدراسة إلى تحليل المناخات والظروف السياسية المرافقة لمعركة الرقة، بالإضافة إلى تفكيك المصالح المتضاربة والمتشابكة للأطراف المحلية والإقليمية والدولية المعنية بها، في محاولة لاستشراف السيناريوهات التي يمكن أن تحدد مصير المدينة بعد التحرير، ومسار المعارك اللاحقة ضد تنظيم الدولة في سوريا، والتي قد تنعكس بدورها على الحل السياسي وشكل الدولة السورية مستقبلاً.

أولاً: المناخات السياسية قبل المعركة

أثار إطلاق التحالف الدولي لمعركة الرقة بالاعتماد على طرف وحيد هو قوات سوريا الديمقراطية، موجة من المواقف الرافضة والمنتقدة من قبل باقي القوى الفاعلة على الأرض السورية، والتي تم استثناؤها إلى الآن من المشاركة في المعركة، ولكن بالمقابل عكس هذا السلوك الأمريكي المشابه لظروف إطلاق معركة الموصل أمرين؛ الأول: حاجة التحالف الملحة لفتح معركة في سوريا دعماً لمعركة الموصل، والثاني: هو رغبة واشنطن بأن تكون المعركة موجهة لحرب التنظيم فقط دون أن توظف في صالح أي طرف من الأطراف المشاركة فيها. ولذلك يبدو أن اختيار "وحدات الحماية الكردية" في سوريا، جاء لسهولة تطويعهم ضمن المصلحة الأمريكية بالقياس مع تركيا وروسيا، واللتين تبقى مشاركتهما في معركة الرقة الحقيقية، والتي لم تبدأ بعد رهناً بمرونتهما وقدرتهما على تنسيق مصالحهما مع الرؤية الأمريكية لحرب التنظيم، وشكل الحل السياسي في سوريا إجمالاً. ولكن مأزق اختيار الشريك وتوزيع الأدوار يبدو بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية أكثر صعوبة في معركة الرقة منه في الموصل، وذلك لأسباب سياسية وعسكرية مختلفة عن الوضع في العراق، وأهمها:

أ‌.       الأسباب العسكرية

إن معركة الرقة ستكون أصعب كون المساحة الجغرافية لسيطرة التنظيم بدأت بالانحسار بعد خسارته مناطق واسعة في العراق، ما سيدفعه للتمسك أكثر بالمدن التي بحوزته في سوريا وبخاصة الرقة، ثم إن المراحل التي تم إنجازها في إطار عملية تطويق الرقة والتي خاضتها قوات سورية الديمقراطية أثبتت عدم قدرة تلك القوات منفردة على حرب التنظيم في سورية، خاصة بالنظر إلى تعداد قواتها والتي تقارب الـ30 ألف مقاتل، وهي تقديرات مشكوك فيها، ولكن حتى لو سلمنا بصحة تلك التقديرات فإن معركة الموصل والتي شارك فيها ما يقارب 120 ألف مقاتل لم تحسم بعد، فكيف يمكن أن تحسم معارك سوريا مع التنظيم بـ30 ألف مقاتل.

بطاقة تعريفية لأبرز معارك "قسد" ضد تنظيم الدولة 2016 -2017، مقياس الفعالية من 1 إلى 10،

جدول رقم (1)، المصدر: وحدة الرصد في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية

 

ب‌.  الأسباب السياسية

تتعلق الناحية السياسية بتشابك المصالح الإقليمية والدولية وانعدام الفاعلية المحلية في الحالة السورية بشكل أكبر بكثير من الحالة العراقية، ففي العراق على الرغم من ارتباط حكومة بغداد بإيران؛ إلا أنها حكومة تتمتع بالشرعية الدولية وتمتلك قوات حكومية وهوامش سيادية أكثر بكثير من حكومة الأسد، بالإضافة إلى أن إقليم كردستان هو كيان سياسي ناجز وغير إشكالي مع باقي القوى العراقية، وليس مليشيا تسعى لتحقيق مشروع كما هو الحال مع حزب الاتحاد الديمقراطي"PYD" في سوريا، أما عن عدد الفاعلين الإقليميين والدوليين فهو أقل في الحالة العراقية منها في السورية، الأمر الذي يحصرها في إطار الأزمة الإقليمية بين تركيا وإيران، ويلغي العامل الدولي بين روسيا وأمريكا، والذي يضيف مزيداً من التعقيدات في الحالة السورية.

إن تلك التعقيدات والتشابك المصلحي على المستوى الإقليمي والدولي، سينعكس بالضرورة على سيناريوهات حسم معركة الرقة، وما سيليها من معارك ضد التنظيم في سوريا، وهو ما توضحه ردود فعل الأطراف المنخرطة في الأزمة السورية على إطلاق معركة الرقة بشكلها الحالي، إذ تتوزع التصورات المتضاربة للفاعليين المحليين والإقليمين وفقاً لما يلي:

1.    تركيا (خطوط الأمن القومي)

بالنسبة لتركيا تشكل مشاركة قوات سوريا الديمقراطية في معركة تحرير الرقة؛ خطاً أحمرَ يتعلق بأمنها القومي، لذلك جاء رد الفعل التركي قوياً عبر تصريحات صدرت عن الرئيس التركي وغيره من المسؤولين، ووصلت إلى حد التهديد بإغلاق قاعدة "إنجيرليك" والمجال الجوي التركي في وجه قوات التحالف في حال أصرَّ الأخير على التحالف مع سوريا الديمقراطية([1])،  وكرد فعل عن تقاعس الولايات المتحدة والتحالف الدولي في دعم معركة درع الفرات، و التي خاضتها القوات التركية بالتعاون مع فصائل المعارضة السورية، وبالتنسيق مع الروس، مقابل تعاون خجول وتنسيق هش مع الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي يعطي مؤشراً عن إمكانية أن تفتح أنقرة معركة باتجاه الرقة بالتنسيق مع قوات المعارضة السورية دون التنسيق مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي، وقد تكون بالتنسيق مع الروس لمنع تمدد قوات سوريا الديمقراطية وحيازتها مساحات جديدة من الأراضي السورية، ويعزز هذا الاحتمال تصريحات أنقرة بإنهاء معركة درع الفرات وعزمها فتح معارك أخرى في سوريا بهدف تحرير الرقة([2]) ودعمها لتشكيل قوات درع الشرقية والتي قوامها كتائب من المنطقة الشرقية في سوريا تعمل في ريف حلب الشمالي([3])، خصوصاً بعد إهمال واشنطن للمقترحين التركيين حول تحرير الرقة بالتعاون بين الجيش التركي والفصائل العربية([4])، مقابل فشل اجتماع وزراء دفاع الولايات المتحدة وروسيا وتركيا الذي عقد في أنطاليا التركية في السابع من آذار المنصرم بالتوصل إلى تفاهمات حول الأطراف المشاركة في معركة الرقة .

لذا فإن تعاطي واشنطن مع الفيتو التركي حول شراكتها مع "سوريا الديمقراطية" في معركة الرقة، يُشكل اختباراً حقيقياً للعلاقة مع أنقرة، وهو ما عبر عنه مسؤولون أتراك صراحة بأن "تمسك واشنطن بمشاركة وحدات الحماية الكردية سيكون له تداعيات على العلاقات بين البلدين"([5]).

2.    روسيا (مأزق الخيارات)

تَعتبر موسكو الانخراط الأمريكي المباشر في حرب تنظيم الدولة وزيادة عدد القوات الأمريكية في سوريا، انتقاصاً من هيمنتها السياسية وتفردها بمشهد القوة العسكرية على الأرض، والذي ساد في عهد إدارة أوباما، بل إن انطلاق معركة الرقة دون التنسيق مع موسكو وإعلان الولايات المتحدة رفضها إشراك قوات النظام أو المليشيات الإيرانية في المعركة، والذي يعني ضمناً عدم مشاركة موسكو؛ دفع المسؤولين الروس إلى طلب إشراكهم في المعركة عبر تصريحات عدة، عبّرت عن رغبة موسكو في التعاون مع قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي في تحرير الرقة، حتى بعد الفتور الذي أصاب العلاقة بين موسكو وواشنطن غداة الضربة الأمريكية لمطار الشعيرات، وإعلان روسيا تعليق التنسيق العسكري مع واشنطن في سوريا، عاد وزير الخارجية الروسي ليوجه رسائل ودية للأمريكان فيما يخص معركة الرقة، حيث شدد لافروف على ضرورة التعاون([6]) "وتوحيد الجهود بين روسيا والتحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في سورية". ولكن بالرغم من حاجة الولايات المتحدة للمشاركة الروسية في معركة الرقة؛ إلا أنها ترفض محاولات موسكو لتعويم حليفها الأسد من خلالها، وترهن أي دور محتمل لموسكو في الرقة أو ما بعد الرقة بالتوصل إلى تفاهم حول حل سياسي في سوريا يتضمن مصير الأسد، وهو ما يبدو صعباً إلى الآن.

تعيش روسيا ذات المأزق الأمريكي في معركة الرقة، وهو  حسم قرارها باختيار حلفائها، فهي أمام خيارين، إما التخلي عن التحالف مع الأسد وإيران والتقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو الاستمرار في تحالفها معهما، وبالتالي التخلي عن دورها الدولي "كشريك في الحل" لتكون جزءاً من المشكلة، ولكن يبدو أن موسكو تحاول خلق خيار ثالث؛ عبر اللعب على هوامش الخلاف بين الولايات المتحدة وتركيا حول معركة الرقة ومشاركة الكرد فيها، الخيار الذي يمكن أن يكون مخرجاً لجميع الأطراف كما حدث في منبج، يستهدف حفز الولايات المتحدة على التعاون العسكري معها في الرقة، عبر  مشاركة قوات النظام في المعركة ودخولها إلى مناطق معينة ترسم حدود التماس بين سوريا الديمقراطية والقوات المدعومة من تركيا على أن يكون ذلك تحت تنسيق روسي- أمريكي مشترك، على اعتبار أن هذا الطرح يضمن عدم فك التفاهمات القائمة، والتي تمخضت في مرحلة ما بعد سقوط حلب، خاصة التقارب الروسي التركي، حيث أن التحركات العسكرية لقوات النظام السوري لا يرفضها الأتراك كليةً لكونها تسهم في قطع تواصل المناطق الكردية الثلاث، القامشلي وعين العرب (كوباني) الواقعتين شرق نهر الفرات وعفرين الواقعة غرب النهر، وهو ما تريده أنقرة([7])، كما أن الفكرة نفسها تضمن عدم إهدار فرص تحسن العلاقات الأمريكية التركية عبر المتغير الكردي الذي سيتم تحجيمه وفقاً لهذا الطرح([8]).

3.    إيران (الحذر من كل الأطراف)

رفضت إيران الوجود الأمريكي الجديد في سوريا، نافية الأنباء القائلة بأن دخول الولايات المتحدة لشمال سوريا تم بناءً على تفاهمات ثنائية بينهما([9]). حيث عكس هذا الموقف الإيراني والذي جاء على لسان رئيس البرلمان علي لارجاني، تخوفاً إيرانياً ليس فقط من استثناء إيران من عملية الحرب على الإرهاب، وإنما من جملة من التغيرات الاستراتيجية في المواقف اتجاهها، وبخاصة موقف إدارة ترامب، والذي اعتبرها الراعي الرئيس للإرهاب في المنطقة، ووضعها وميليشياتها في كفة واحدة مع باقي التنظيمات الإرهابية الموجودة في سوريا، لذا فإن إيران تواجه تحديات استراتيجية قد تؤثر على مستقبل دورها وطموحاتها الإقليمية في المنطقة، فثمة صعوبات ستواجهها في ملفات المنطقة التي يتقاطع فيها دورها مع سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة؛ وهي تحديداً الملف العراقي (تقارب حكومة بغداد مع واشنطن على خلفية معركة الموصل، وازدياد معدلات الوجود العسكري الأمريكي هناك)، والملف السوري (إرسال قوات مارينز أمريكية لشمال سوريا)([10]).

بالمقابل تبدو إيران مرتابة من نشاط موسكو على المستوى الإقليمي، والمتمثل بالتقارب مع أنقرة ودخول قوات تركية إلى الشمال السوري، الأمر الذي يؤثر على نفوذها، إضافة إلى المستوى الدولي المتمثل بإمكانية التضحية بإيران وميلشياتها في صفقة روسية أمريكية تحفظ مصالح موسكو، خصوصاً بعد دخول إسرائيل كمتغير في علاقة الطرفين يضغط باتجاه إنهاء وجود المليشيات الإيرانية في سوريا.

4.    قوات سوريا الديمقراطية (النفاذ من الشقوق)

يستغل حزب الاتحاد الديمقراطي المأزق الأمريكي في اختيار الشريك، ويقدم نفسه دائماً على أنه أهون الشرور بالنسبة لأمريكا، لذلك فهو يحاول جاهداً أن يبدي مرونة إزاء المطالب الأمريكية في معركة الرقة، من خلال زيادة عدد المقاتلين العرب في قوات سورية الديمقراطية، والإعلان إن إدارة الرقة ستكون لمجلس محلي من أهلها ولكن ضمن مشروع "الأمة الديمقراطية" على حد تعبير صالح مسلم([11])، ورغم النجاح الظاهري للحزب وميليشيا الـPYD التابعة له في تصدر مشهد معركة الرقة، إلا أن محاولات الأخير في اللعب مع الكبار على المستوى الإقليمي والدولي، والنفاذ من شقوق الخلافات التركية الأمريكية والروسية الأمريكية، تجعل من مشروعه الانفصالي رهناً لتفاهمات الكبار، و لعل ما حدث في منبج خير دليل على ذلك.

أما على صعيد العلاقة مع أنقرة؛  فقد صعدت قوات سوريا الديمقراطية من حدة تصريحاتها اتجاه المشاركة التركية في معركة الرقة، محاولةً إملاء شروطها على الولايات المتحدة للمشاركة في المعركة، حيث صرح طلال سلو عن إبلاغه المسؤولين الأميركيين بأنه " لا يمكن أن يكون لتركيا دور في الحملة لاستعادة مدينة الرقة"([12])، ولكن رد التحالف الدولي على لسان المتحدث باسمه، جون دوريان، لم يحسم أمر مشاركة تركيا من عدمه، حيث أشار إلى أن "الدور المحتمل لتركيا ما زال موضع نقاش على مستوى قيادة الجيش وعلى المستوى الديبلوماسي"، و"إننا منفتحون على دور لتركيا في تحرير الرقة وسنواصل المشاورات للوصول إلى نتيجة منطقية أياً كانت"([13]).

ومقابل تصريحات قوات سوريا الديمقراطية، والتردد الأمريكي، فإن أنقرة انتقلت مرة أخرى من مستوى التهديد إلى مستوى التحرك على غرار ما جرى في منبج، حيث تلوح في الأفق ملامح عملية عسكرية تركية ضد الأكراد في شمال سورية، في ظل تقارير عن حشود للجيش التركي على الحدود، وقصف طال تجمعات لقوات حزب العمال الكردستاني في سوريا، وفي هذا الإطار تحولت القوات الأمريكية إلى قوات فض اشتباك مجدداً بين تركيا والأكراد، حيث قامت بنشر قوات على الحدود السورية التركية تحسباً لاندلاع مواجهات مباشرة، ولكن هذا لا يعني ميلاً من جانبها لصالح الأكراد؛ فما تزال الولايات المتحدة تدرس بدائل لخطة أوباما حول تحرير الرقة، والتي اعتبرتها إدارة ترامب مليئة بالثغرات وبالتحديد فيما يخص استبعاد تركيا، ولكن المؤكد من خلال الموقف الأمريكي أن الأكراد لن يبقوا في الرقة بعد تحريرها وهو ما عبر عنه صراحة وزير  الدفاع الأمريكي السابق، أشتون كارتر، والذي صرح بأن "الأكراد يدركون أنهم سيضطرون للانسحاب من الرقة بعد تحريرها، إذ يجب أن يتم تسليم المدينة لـ"قوات عربية" فور هزيمة داعش"، وبدورها، حذرت سامانثا باور، المندوبة الأمريكية السابقة لدى الأمم المتحدة، من أن البدء في تنفيذ هذه الخطة سيضر  بالعلاقات مع تركيا، بالإضافة إلى وضع واشنطن في موقف محرج بتقديم الدعم لطرف ينفذ هجمات دموية في أراضي دولة عضو في حلف الناتو([14]).

ثانياً: انطلاق المعركة والواقع الميداني

في ظل هذا المناخ المتوتر سياسياً؛ أعلنت "قسد" عن بدء معركة تحرير مدينة الرقة وأريافها تحت اسم "غضب الفرات"، بهدف عزل المدينة انطلاقاً من الأرياف الجنوبية لمدينة عين عيسى، وبدعم ومؤازرة كثيفة من طيران التحالف استطاعت "قسد" السيطرة على حوالي 500 كم²، وتم الإعلان عن نهاية المرحلة الأولى في 14/11/2016.

جدول رقم (2)

 وركزت الحملة منذ بدايتها على الريف الجنوبي لعين عيسى، وهي مناطق يسهل السيطرة عليها بالمقارنة مع المناطق السكنية، ولكن على الرغم من ذلك لم يكن الأمر بهذه البساطة، حيث اعتمد فيها التنظيم على سياسة ألغام الأفراد والآليات التي نشرها في المناطق المحيطة بعين عيسى بشكل عشوائي مما كبد قوات "قسد" العديد من الخسائر، وكانت ألغام التنظيم السبب الرئيس لكثافة غارات التحالف على مناطق لا تحصينات فيها للتنظيم.

بدأت المرحلة الثانية من معركة "غضب الفرات" في 10/12/2016، بهدف السيطرة على الريف الغربي لمدينة الرقة على امتداد نهر الفرات.  ولعل أبرز التطورات في تلك المرحلة تمثل بإعلان "قسد" انضمام أطراف جديدة للمعركة وهي:

  1. قوات النخبة التابعة لتيار الغد السوري (أحمد الجربا بعد عقده اتفاقية مع حركة المجتمع الـديمقراطي TEV-DEM).
  2. المجلس العسكري لدير الزور.
  3. انضمام مباشر من بعض القبائل العربية في المنطقة.

وخلال الإعلان أكدت الناطقة باسم غرفة عمليات غضب الفرات "جيهان شيخ أحمد" على نجاح التنسيق بشكل فعال في المرحلة السابقة مع قوى التحالف الدولي وبأن التنسيق مستمر.

استمرت المرحلة الثانية حتى 16/01/2017، وخلالها تم السيطرة على مواقع هامة كثيرة منها "قلعة جعبر" الأثرية، ومساحة تبلغ 2480 كم².

 

جدول رقم(3)

أعلنت "قسد" في 4 شباط 2017، عن بدء المرحلة الثالثة من معركة "غضب الفرات"، وتركزت أهداف هذه المرحلة على: قطع الاتصالات بين الرقة ودير الزور والتقدم نحو "عاصمة" تنظيم «الدولة الإسلامية» من الشمال والغرب.

 جدول رقم (4)

وفي منتصف شهر آذار 2017 اشتدت غارات طائرات التحالف على مدينة الطبقة وأريافها، حيث تجاوز عدد غارات التحالف من 17 آذار حتى 26 آذار الـ 125 غارة، ثم في 25 آذار بدأ هجوم بري على سد الفرات في الطبقة والذي يمتد لـ 4 كلم، وفي 26 آذار تعرض السد إلى غارات عدة من طائرات التحالف أدت إلى خروجه عن العمل.

وعلى الرغم من كثافة الغارات عجزت وحدات الحماية الكردية عن التقدم في السد، معلله ذلك بكثرة ألغام داعش، وفي اليوم نفسه، وبحسب مصادر خاصة حدث إنزال مظلي لقوات أمريكية في الجهة الغربية من ريف الطبقة كما عبرت قوات وحدات الحماية النهر، وبدأ هجوم على المطار العسكري من المحاور الجنوبية دون الهجوم على المدينة.

وفي مساء 26 آذار نشر قيادي في وحدات الحماية السيطرة على المطار، وبعد السيطرة على مطار الطبقة بدأت القوات الكردية وبإشراف أمريكي وفرنسي تام بالعمل على السيطرة على أرياف المدينة بغرض محاصرتها والذي حدث في منتصف شهر نيسان، وانتقل الصراع إلى داخل المدينة مع كثافة الغارات من طيران التحالف، حيث وصل عدد غارات التحالف على الطبقة وأريافها في شهر نيسان إلى 215 غارة، والتي كانت أعلى نسبة من الغارات بالمقارنة مع أهداف التحالف الأخرى في شهر نيسان، الموضحة بالشكل البياني التالي:

 جدول رقم (5)

القوى المشاركة بهجوم الطبقة: كانت عمليات الإنزال الجوي جنوب نهر الفرات أمريكية بامتياز، بينما تواجدت القوات الفرنسية في "جعبر" على الطرف الآخر، وهي التي أمّنت قوارب عسكرية لنقل وحدات الحماية إلى الطرف الأخر. حاولت قوات التحالف تأمين مطار الطبقة ليصبح مركز إمداد وانطلاق لهم، ثم محاصرة الطبقة، أما وحدات الحماية YPG"" فهي موجودة فقط لحماية ظهر قوات التحالف والتمركز بعد مغادرتها.

خريطة رقم (1) توضح الوضع الميداني في محيط مدينتي الرقة والطبقة بتاريخ 7 شباط 2017 و7 أيار 2017

وعلى الرغم من أن سوريا الديمقراطية أعلنت عن إطلاق المرحلة الرابعة من عملية غضب الفرات، وأن المراحل السابقة قد حققت أهدافها، إلا أنها لم تستطع السيطرة على مدينة الطبقة حتى تاريخ 4 أيار 2017، وذلك باتفاق ضمن خروجاً آمناً لعناصر تنظيم داعش مع عوائلهم إلى محافظة دير الزور([15])؛ أي إن معركة مدينة الطبقة ورغم كثافة غارات الطيران ومشاركة قوات أجنبية برية دامت أكثر من شهر، ولم تشهد معارك مباشرة حقيقية مع التنظيم.

في 13 نيسان أعلنت قوات سوريا الديمقراطية عن انطلاق المرحلة الرابعة من عملية غضب الفرات، والتي تهدف إلى تطهير ما تبقى من الريف الشمالي لمدينة الرقة، ووادي جلاب من إرهابيي داعش، وفق ما ورد في بيان صادر عن بيان لقيادة غرفة عمليات غضب الفرات([16]).

تكلفة المعركة (البنية التحتية والمدنيين):

دمرت غارات التحالف في شهر أيلول 2016 الجسور المتبقية العابرة للفرات بين الحدود العراقية وشرق الرقة كافة؛ بالإضافة إلى ذلك، دمرت غارات إضافية جسريْ المدينة في 3 شباط 2017. كما تضرر سد الفرات نتيجة الاشتباكات، حيث إن وضع السد الآن غير جيد مع ارتفاع مستوى المياه إلى 10 أمتار منذ بداية العام، ومع تعطيل الضربات الأمريكية للأجهزة التي تتحكم بالسد وبتخفيف مياهه، خاصة مع بدء ذوبان الثلوج وارتفاع منسوب المياه أكثر.

توقف سد الفرات عن العمل بسبب الاشتباكات بين القوات الكردية ومقاتلي "داعش"، إضافة إلى قصف التحالف الدولي مناطق بقرب السد، ومخاوف دولية من انهياره مما يعني ارتفاع منسوب المياه التي تحتجز خلفه إلى أكثر من 10 مليار مُكعب متر، مما يُنذر بغمر ثلث مساحة سوريا، بالإضافة إلى أراضٍ واسعة في العراق تصل إلى مدينة الرمادي، في حال انهيار السد.

جميع المشافي في ريف الرقة أصبحت خارج الخدمة، والمشفى الوحيد المتبقي في مدينة الرقة بات يعمل بربع طاقته، على الرغم من أن المدينة تحوي حوالي مئتي ألف مدني([17]). وفي 21 آذار 2017 استشهد وأصيب أكثر من 200 مدني، في قصف جوي نفذته طائرات تابعة لقوات التحالف الدولي على مدرسة يقطنها نازحون في بلدة "المنصورة" بريف الرقة([18]).

ليعود طيران التحالف في 22 آذار 2017 ويرتكب مجزرةً مروعة جديدة في مدينة الطبقة غربي الرقة، وذلك إثر استهداف طائراته لفرن وسوق في الحي الثاني من المدينة، وقد استشهد أكثر من 25 مدنياً، وجرح أكثر من 40 شخصاً جراء تلك الغارات التي شنها التحالف على الطبقة([19]).

وفي تاريخ 22 نيسان 2017 استشهد 5 مدنيين وأصيب آخرون جراء قصف طيران التحالف من جديد على مدينة الطبقة، بينما شهد تاريخ 11 نيسان 2017 مقتل 18 عنصراً من قوات سورية الديمقراطية، وذلك إثر غارة لقوات التحالف استهدفت مواقعهم "بالخطأ"، حيث أصدرت قوات التحالف بياناً أوضحت فيه أن "الضربة تمت بناءً على طلب من القوات الشريكة التي حددت موقعاً مستهدفاً، قالت إنه موقع قتالي لتنظيم داعش"، مضيفاً أن "الهدف كان في الحقيقة موقعاً قتالياً متقدماً لقوات سورية الديمقراطية"، ومشيراً إلى أن الضربة وقعت جنوب مدينة الطبقة([20]).

ثالثاً: سيناريوهات الحسم

رغم أن قوات سوريا الديمقراطية إلى الآن تتصدر المشهد، وتبدو أنها القوة المرشحة لتحرير مدينة الرقة؛ إلا أن جملة من العوامل تُظهر أن هذا ليس هو السيناريو الوحيد المرجح لمعركة تحرير الرقة، فالأمر ليس منوطاً فقط بالقوة التي تنفذ الهجوم، وإنما بإدارة المدينة بعد التحرير، وملاحقة فلول "داعش" ومعركة دير الزور اللاحقة والحاسمة كآخر معقل للتنظيم في سوريا. ويمكن إجمال العوامل المؤثرة في رسم ملامح السيناريوهات الممكنة للمعركة بما يلي:

  • عدم قدرة قوات سوريا الديمقراطية على خوض المعركة منفردة، الأمر الذي رتب على قوات التحالف الانخراط بشكل مباشر في تحرير بعض النقاط الهامة، وزيادات متلاحقة في أعداد القوات الأمريكية في سوريا، هذا بالإضافة إلى أخطاء تحديد الأهداف التي ارتكبتها سوريا الديمقراطية، والتي تسببت بخسائر بشرية كبيرة بين المدنيين.
  • جغرافية محافظة الرقة المفتوحة على محافظات الحسكة ودير الزور المفتوحة على العراق في الجنوب الشرقي، وغرباً على محافظتي حماة وحمص، وشمالاً باتجاه تركيا، الأمر الذي يعقد المعركة من خلال تعدد القوى المحلية والإقليمية المتطلعة للمشاركة في المعركة، والتي تملك نقاط اشتباك مع المحافظة.
  • الصراع على تركة التنظيم والتي تشكل مساحات جغرافية هامة؛ ترتبط بشكل مباشر بمآلات الحل السياسي في سوريا، الأمر الذي أخضع المعركة للمصالح المتضاربة بين الأطراف المحلية والإقليمية الدولية المنخرطة في الأزمة السورية.
  • مأزق إدارة ترامب، والتي وجدت نفسها أمام خطة مليئة بالثغرات بحسب تعبيرهم، وضعتها الإدارة السابقة لتحرير الرقة تقوم على الاعتماد على الأكراد وتسليحهم، ولكنها تتعارض مع توجه الإدارة الجديدة نحو تحسين العلاقة مع تركيا وزيادة التنسيق مع روسيا لصياغة حل سياسي للأزمة السورية.

وبناءً على تلك العوامل يُمكن رسم ملامح سيناريوهات أربعة لمعركة الرقة، وهي:

السيناريو الأول

استمرار الولايات المتحدة الأمريكية بالاعتماد على قوات سورية الديموقراطية وحدها، وتفعيل دور الفصائل العربية المنخرطة في صفوف تلك القوات بشكل حقيقي، وليس ديكورياً كما يحدث الآن، لتكون معادل قوة لـPYD داخل قوات سوريا الديمقراطية، ومن ثم تسليم الرقة لمجلس محلي يمثل كل المكونات وهو ما يجري الإعداد له حالياً، وما يدعم احتمالية هذا الخيار هو زيادة عدد القوات الأمريكية في سوريا، ووضع ألف جندي أمريكي في الكويت كاحتياط للمشاركة في المعارك الدائرة مع التنظيم في سوريا والعراق، بالإضافة إلى منح الرئيس ترامب للجيش صلاحية تحديد مستويات القوات في العراق وسوريا([21])، وفي ظل هذا السناريو قد تتمكن الولايات المتحدة من إنجاز معركة الرقة، ولكن بجهد كبير وانخراط مباشر وفترة زمنية طويلة، وستبقى الإشكالات السياسية عالقة، وخصوصاً مع تركيا، لتُرحّل ذات الإشكاليات إلى معركة ما بعد الرقة، وفي ظل إصرار تركيا وجديتها في منع سيطرة "سوريا الديمقراطية" على مزيد من الأراضي، وتقطيع أوصال المناطق التي بحوزتها، فقد يؤدي تأزم الموقف مع الولايات المتحدة؛ إلى أن يكون المخرج الوحيد لهذا السيناريو هو مخرج منبج، وهو ما تطمح إليه موسكو أي استغلال الخلافات الأمريكية التركية لطرح مشاركة قوات النظام في المعركة.

السيناريو الثاني

التعاون الأمريكي التركي واستبعاد الأكراد؛ وذلك وفق الخطتين التركيتين، إما الدخول إلى الرقة من تل أبيض وإفساح قوات سوريا الديمقراطية ممراً للقوات التركية بعرض 25كم، وهذا معناه خسارة الـPYD لتل أبيض وقطع الاتصال بين القامشلي وعين العرب (كوباني) وهو أمر شبه مستحيل، أو الدخول من الباب وهذا يعني إما الصدام مع قوات النظام أو التنسيق معها، ولا يبدو إلى الآن أن الاستغناء الكامل عن قوات سوريا الديمقراطية وارد في احتمالات الإدارة الأمريكية، كما أن الخيار بمشاركة قوات عربية مدعومة من تركيا إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية هو أمر غير وارد أيضاً، وهو مرفوض من تركيا ومن سوريا الديمقراطية، فالمعركة بالنسبة لتركيا لا تقبل القسمة على اثنين وبخاصة مع الكرد .

السيناريو الثالث

التوصل إلى اتفاق أمريكي روسي حول صيغة الحل في سوريا، يترتب عليه تحييد تركيا ومشاركة قوات النظام إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية، وهو أمر لا ترفضه الأخيرة، وما يعزز هذا الاحتمال هو سعي النظام المحموم للتقدم في ريف حلب الشرقي للوصول إلى الحدود الإدارية لمحافظة الرقة (محور خناصر الرقة)، وتعزيز وجوده في "أثريا" على طريق مدينة الطبقة، بالإضافة إلى تواجده في تدمر والتي تمثل نقطة في البادية على طريق تدمر الرقة، وهو ما يحاول تعزيزه للسيطرة على نقاط أكبر في البادية عبر مهاجمة مناطق سيطرة "أسود الشرقية" في الأيام الماضية([22])، يضاف لذلك النقاط العسكرية التي يمتلكها النظام في دير الزور وبخاصة في الريف الغربي المتصل مع الرقة، أو مطار دير الزور العسكري في الريف الشرقي للمحافظة والذي ينتهي بالحدود السورية العراقية، الأمر الذي يفرض عسكرياً على التحالف الدولي التعاون مع قوات النظام إن لم يكن في معركة الرقة فسيكون في معارك ما بعد الرقة .

السيناريو الرابع

قد يشكل اجتماع أستانة الأخير، وما تمخض عنه من توافق حول إقامة أربع "مناطق منخفضة التوتر"؛ مقدمة لسيناريو رابع يقوم على فتح الولايات المتحدة الأمريكية المجال لمشاركة جميع الأطراف في معركة الرقة وما بعدها، عبر محاور يتم توزيعها بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام والمعارضة المدعومة من تركيا، حيث تقوم القوات الأمريكية والروسية بتنسيق الأدوار بين القوى المنخرطة في المعركة بشكل يضمن فاعليتها، ويمنع الاحتكاك أو الاشتباك بينها، وما يدعم فرضية هذا السيناريو، هو التوافق على خطة المناطق منخفضة التوتر، والذي يشمل هدنة بين قوات النظام والمعارضة وتثبيت لمناطق النفوذ بشكل يسمح للطرفين بتركيز جهودهم لحرب تنظيم الدولة، كما أن رعاية تركيا وروسيا لهذا الاتفاق والمناخ الإيجابي للقاء الذي جمع الرئيسين التركي والروسي قبل الاتفاق، يحمل دلالات على وجود تفاهمات مرضية لتركيا حول معركة الرقة، كما أن الموقف الأمريكي المرحب بالاتفاق يحمل إشارة لاحتمال تفاهم ثلاثي حول المعركة، خصوصاً وأن روسيا أعادت العمل باتفاق التنسيق الجوي مع الولايات المتحدة في سوريا، والذي كانت جمدته بعد ضرب الأخيرة لمطار الشعيرات، ولكن يبدو أن ملامح هذا التفاهم الثلاثي ستتضح بشكل أكبر بعد اللقاء المرتقب بين الرئيس التركي ونظيره الأمريكي في منتصف الشهر الجاري .

 

خريطة رقم (2)

الخاتمة

يبدو أن الوجود الأمريكي في سوريا لحرب تنظيم الدولة، والذي يمثل متغيراً جديداً في معادلة القوة السورية، أضفى على المشهد مزيداً من التعقيد والتشابك بين مصالح أطراف متنافرة، تحاول الولايات المتحدة الاستفادة منها وتحجيمها بالوقت ذاته، وعليه كان أهم إنجازات الدخول الأمريكي هو تقويض تفاهمات ما بعد حلب والتي أرستها روسيا، في محاولة لفرض تفاهمات جديدة تتوافق مع العودة الأمريكية إلى الانخراط المباشر بقضايا الشرق الأوسط، ولكن تلك التفاهمات الجديدة لا تزال غير واضحة المعالم، ويبدو أنها مؤجلة إلى ما بعد القضاء على تنظيم الدولة، والتي تشكل معركة الرقة وما بعدها نقطة ارتكاز  لتلك التفاهمات، ومحدداً لمصير وشكل سوريا التي سيتم التوافق عليه بين أطراف الصراع الإقليمية والدولية .

 


([1]) فابريس بالونش، معركة استعادة الباب تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وتركيا، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى 2017، متوافر على الرابط: https://goo.gl/PFTMX9

([2]) تركيا تعلن انتهاء عملية درع الفرات، موقع الجزيرة نت، متوافر على الرابط: https://goo.gl/rA6rof

([3]) “جيش درع الشرقية” تشكيلٌ جديد لمواجهة ثلاث قوىً شرق سوريا، جريدة عنب بلدي، متوافر على الرابط: https://goo.gl/y4zVWx

([4]) تعرف على خطة تركيا لتحرير الرقة السورية، موقع تركيا الآن، متوافر على الرابط: https://goo.gl/cmJr9X

([5]) تنسيق روسي أمريكي تركي بشأن سوريا، موقع الجزيرة نت، متوافر على الرابط: https://goo.gl/O7cAC6

([6]) موسكو تعرض «تعاوناً» مع الأميركيين في سورية، صحيفة الحياة، متوافر على الرابط: https://goo.gl/JedtYH

([7]) صافيناز أحمد، منبج والرقة. التداخلات الدولية والإقليمية وخرائط النفوذ الجديدة في سوريا، مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، متوافر على الرابط: https://goo.gl/PyVtoS

([8]) إبراهيم حميدي، "مفاجأة موسكو بين منبج والباب: إغراء واشنطن وتقليص منطقة أنقرة"، جريدة الحياة، متوافر على الرابط: https://goo.gl/VnGkKn

([9]) لاريجاني: تدخل أمريكا في سوريا ليس لصالحها. وحضور قوات المارينز لم يكن بالتنسيق مع طهران. ولا نهدف إلى تحقيق مصالح خاصة في سوريا، موقع صحيفة رأي اليوم، متوافر على الرابط: https://goo.gl/PRk0SA

([10]) صافيناز أحمد، منبج والرقة... التداخلات الدولية والإقليمية وخرائط النفوذ الجديدة في سوريا، مرجع سبق ذكره.

([11]) إبراهيم حميدي، "مفاجأة موسكو بين منبج والباب: إغراء واشنطن وتقليص منطقة أنقرة"، جريدة الحياة، مرجع سبق ذكره.

([12]) «المارينز» في سورية لتسريع معركة الرقة... و «طمأنة» تركيا، جريدة الحياة، متوافر على الرابط: https://goo.gl/UELPQg

([13]) المرجع السابق.

([14]) بعد تخليه عن خطة أوباما. ترامب يبحث عن طريقه إلى الرقة، موقع روسيا اليوم، متوافر على الرابط: https://goo.gl/jvyX8p

([15]) "داعش" ينسحب من الطبقة بموجب اتفاق مع "قسد"، صحيفة العربي الجديد، متوافر على الرابط: https://goo.gl/3cZcD3

([16]) المرحلة الرابعة لـ"غضب الفرات": محاولة الوصول إلى تخوم الرقة، صحيفة العربي الجديد، متوافر على الرابط: https://goo.gl/JTHxLS

([17]) الرقة.. بين مجازر التحالف والتمهيد لما بعد داعش، جريدة عنب بلدي، متوافر على الرابط التالي: https://goo.gl/OiQTJ0

([18]) مجزرة جديدة يرتكبها التحالف الدولي في "المنصورة" بريف الرقة، جريدة زمان الوصل، متوافر على الرابط: https://goo.gl/6VUbGZ

([19]) التحالف الدولي يرتكب مجزرة مروعة في الطبقة، موقع الرقة بوست، متوافر على الرابط: https://goo.gl/pp2wLv

([20]) المرحلة الرابعة لـ"غضب الفرات": محاولة الوصول إلى تخوم الرقة، صحيفة العربي الجديد، مرجع سبق ذكره.

([21]) ترامب يمنح البنتاجون سلطة تحديد مستويات القوات بالعراق وسوريا، وكالة رويترز للأنباء، متوافر على الرابط: https://goo.gl/7Er9oO

([22])"أسود الشرقية": النظام يحاول التقدم في ريف السويداء الشرقي، موقع ميكروسيريا، متوافر على الرابط: https://goo.gl/zB8cIV