منذ وصوله للحكم في العام 2002، يدرك جيداً حزب العدالة والتنمية الدور الكبير للجيش التركي في الحياة السياسية، والحساسية العالية لهذا الجيش تجاه الإسلاميين ووصولهم للحكم، بالمقابل يعي الجيش التركي ميل العدالة والتنمية لتقليص نفوذه في الحياة السياسية؛ لذلك لم تخلو العلاقة بين الطرفين من المناكفات والأخذ والجذب طيلة 14 عام من حكم العدالة والتنمية، وبناءً عليه تحاول هذه الورقة التحليلية، الإجابة على السؤال الرئيسي التالي كيف يمكن تفسير هذا التحرك الانقلابي من قبل مجموعة من الجيش التركي؟، وماهي تداعيات فشله على السياسية التركية الداخلية، وخارطة علاقاتها الخارجية.

مقدمة

أقدمت مجموعة من الجيش التركي في الخامس عشر من تموز الفائت على محاولة انقلابية كان مصيرها الفشل، المحاولة التي تعد الخامسة من نوعها منذ قيام الجمهورية التركية 1923، حيث سبقها أربعة انقلابات ناجحة كان أولها على الحكومة المنتخبة برئاسة، عدنان مندريس 1960، في حين كان الثاني في العام 1971 وهو ما عرف "بانقلاب المذكرة"، حيث تم بتوجيه أمر استقالة من الجيش إلى رئيس الحكومة، سليمان ديميريل دون استخدام القوة العسكرية، أما الثالث فقد كان أشدها دموية وحصل في العام 1980 وقاده الجنرال، كنعان إيفرين، ليطيح بالحكومة السادسة التي شكلها سليمان ديميريل، بينما سمّي الرابع بانقلاب" ما بعد الحداثة"، والذي جرى عام 1997 على حكومة حزب الرفاه برئاسة، نجم الدين أربكان، أول رئيس وزراء في تركيا بتوجه إسلامي صريح، حيث عقب هذا الانقلاب تم حظر حزب الرفاه واعتقلت قياداته بما فيهم أربكان ورئيس بلدية اسطنبول آنذاك، رجب طيب أردوغان .
ولعل الانقلابات الأربعة التي سبقت انقلاب تموز الفاشل تشترك بمجموعة من النقاط أهمها:

•    الذريعة الدائمة للانقلابات هي حماية المبادئ الأتاتوركية التي قامت عليها الجمهورية التركية وعلى رأسها العلمانية، كون الجيش التركي ومنذ تأسيس الجمهورية اضطلع دستورياً بدور الحامي للجمهورية وقيمها.
•    الظرف السياسي والاقتصادي السابق للانقلابات كان مهيأ، من حيث وجود ركود وتراجع في المؤشرات الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة وتدني مستوى المعيشة، بالإضافة لحالة من الفوضى السياسية والصراعات بين الأحزاب التي كانت في بعض الحالات دموية كما في انقلابي 1971 و1980، الأمر الذي كان يساهم بخلق حاضنة شعبية للانقلاب.
•    قيادة الانقلابات كانت تشتمل على كبار الضباط في الجيش التركي، بالإضافة إلى الوحدات التي تمثل القوة الضاربة لهذا الجيش، وخصوصاً الجيش الأول التركي، وهو الأكثر تعصباً للقيم العلمانية داخل الجيش.
•    وجود غطاء ومباركة دولية للانقلابات، وبخاصة من شركاء تركيا في حلف الناتو الذين يرغبون بالحفاظ على الصورة التي تخدم مصالحهم للجمهورية التركية، كدولة علمانية تقف في وجه الامتداد الإسلامي خاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية في طهران، وفي وجه تمدد الاتحاد السوفييتي سابقاً في الشرق الأوسط ومن بعده روسيا.

ومنذ وصوله للحكم في العام 2002، أدرك جيداً حزب العدالة والتنمية الدور الكبير للجيش التركي في الحياة السياسية، والحساسية العالية لهذا الجيش اتجاه الإسلاميين ووصولهم للحكم، لذا حاول على امتداد الأربعة عشر عاماً الماضية إجراء تغييرات تشريعية ودستورية تخفف من سيطرة هذا الجيش على الحياة السياسية، تحت غطاء تلبية متطلبات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي مستفيداً في هذا الإطار من كون الاتجاه نحو الغرب هو مطلب أتاتوركي ويلقى تأييداً من كل أطياف الشعب بمن فيهم العلمانيين والليبراليين.

بالمقابل كان الجيش التركي يعي جيداً هذا الميل لتقليص نفوذه من قبل حزب العدالة والتنمية، لذلك لم تخلُ العلاقة بين الطرفين من المناكفات والتجاذبات طيلة الفترة الماضية من حكم العدالة والتنمية، لكن الإنجازات التي حققها العدالة والتنمية خلال زمن قياسي، والتي تمثلت بنهضة حقيقية على مستوى الاقتصاد والبنية التحتية والصحة والتعليم والعلاقات الخارجية لتركيا، وقفت في وجه أي محاولة من قبل الجيش للإطاحة به، وذلك بسبب التأييد الشعبي الكبير للحزب داخلياً والارتياح الأمريكي لتجربة العدالة والتنمية كحزب إسلامي وسطي يشكل نموذجاً للإسلاميين الذين تبحث عنهم الولايات المتحدة الأمريكية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 .

بناءً عليه تحاول هذه الورقة التحليلية الإجابة على السؤال الرئيسي التالي: كيف يمكن تفسير هذا التحرك الانقلابي من قبل مجموعات داخل الجيش التركي؟ وماهي تداعيات فشله على السياسية التركية الداخلية وخارطة علاقاتها الخارجية؟

ويتفرع عن هذا السؤال الرئيسي مجموعة من الأسئلة الفرعية، كالتالي:

1.    ما هي الظروف التي هيأت مناخاً مناسباً للتحرك من وجهة نظر الانقلابيين على الصعيدين الداخلي والخارجي؟
2.    هل فعلاً كان هذا الانقلاب مفاجئاً وغير متوقع بالنسبة للحكومة التركية؟
3.    ما هي أسباب فشل هذا الانقلاب؟
4.    هل يعتبر رد فعل الحكومة التركية غير مسبوق ومبالغ فيه؟
5.    ما هي انعكاسات تلك المحاولة على صعيد السياسة الداخلية والخارجية التركية؟

أولاً: العلاقة بين الجيش وحكومة العدالة والتنمية

يبدو أن لبعض عناصر الجيش التركي أسبابها لحمل الضغينة تجاه حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان. فعلى مدار التاريخ التركي، تمتع الجيش بسطوة كبيرة على الشؤون السياسية في البلاد، وقد نفذ أربع انقلابات عسكرية، مُجبراً السياسيين على الاستقالة وتعامل مع نفسه دائماً على أنه الحارس الأوحد للديمقراطية العلمانية، والذي لا يخضع للمُساءلة.

ومنذ وصوله إلى السلطة عام 2002، انبرى حزب العدالة والتنمية لتقليص النفوذ السياسي للجنرالات، ولتحقيق شروط الانضمام للاتحاد الأوروبي، حيث شرعت أنقرة بإجراءات لجعل الجيش خاضعاً بشكل أكبر للسلطة المدنية. وقلصت صلاحيات المحاكم العسكرية لصالح المزيد من الصلاحيات للمحاكم المدنية فأصبحت الحكومة تلعب دوراً أكثر فاعلية في تعيين القادة الكبار للجيش. وفي أبريل/نيسان 2007، تعرض الجيش لضربة قوية بعد أن نشر على صفحته الإلكترونية إنذاراً سُمي فيما بعد بـ "الانقلاب الإلكتروني"، يُحذر فيه حزب العدالة والتنمية من مغبة دعم عبد الله غول المعروف بانتمائه التقليدي للتيار الإسلامي، والذي تلبس زوجته الحجاب في انتخابات الرئاسة.

أثار الأمر حينها حفيظة حزب العدالة والتنمية وأنصاره ودفعهم إلى تأكيد موقفهم وإيصال غول إلى منصب الرئاسة. وهكذا فمن خلال محاولته التدخل ضد الحزب ذو الجماهيرية الكبيرة عرض الجيش نفوذه لضربة قاسية، وفي أقرب انتخابات بعد "الانقلاب الإلكتروني" ازداد التصويت لحزب العدالة والتنمية بنسبة 13%.

وفي العام 2008، أطلق حلفاء الحكومة في جهاز القضاء من أنصار فتح الله غولن تحقيقات واسعة حول أنشطة ضباط الجيش في قضية " أرغينيكون" وقضية "المطرقة"، والتي اتهم فيها بعض عناصر الجيش بتدبير انقلاب ضد حزب العدالة والتنمية، حيث جرى حبس العشرات من الجنرالات وتم احتجاز المئات من المسؤولين العسكريين المُتقاعدين.

وفي سبتمبر/ أيلول من العام 2010 أجرت الحكومة التركية، استفتاءً على تعديل بعض بنود الدستور التركي القائم حالياً، والذي وصفه الرئيس أردوغان بـ"دستور الانقلابيين"، باعتبار أن من شرعه في 1982 هم قادة الانقلاب العسكري الثالث بزعامة كنعان إفرين. وتضمنت تلك التعديلات حزمة متعلقة بتقليص سلطة الجيش، وهيئة الأركان، والمحاكم العسكرية، والقوى القومية التركية المتشددة على الحياة السياسية، والمدنية الاجتماعية، لصالح تمكين السلطة السياسية المدنية والمؤسسات المدنية للدولة، وعدم جواز مقاضاة المدنيين أمام المحاكم العسكرية في غير زمن الحرب، وحصر مهام المحاكم العسكريّة بالنظر في العمليات العسكرية والعسكريين. والأهم كان تعديل المادة 15 التي كانت تحصن الانقلابيين من المحاكمة، حيث تم تعديلها بأثر رجعي، الأمر الذي أدى لمحاكمة قادة انقلاب 1980 في عام 2012، وقادة انقلاب 1997 في 2013.

تُوج الصراع بين الحزب والجيش بالاستقالة الجماعية للمجلس العسكري التركي الأعلى في أواخر يوليو/تموز 2011، الاستقالة التي اعتبرت آنذاك علامة فارقة على استسلام الجيش للمدنيين، وفي أغسطس/آب 2013 عينت الحكومة قادة جدداً للجيش في إطار تغييرات شاملة في القيادات الكبرى تؤكد سيطرتها على القوات المسلحة، وقدرتها على تحجيم دور الجيش الذي ظل يهيمن خلال حقبة طويلة على الحياة السياسية في البلاد. وقرر مجلس الشورى العسكري الأعلى -في اجتماع ترأسه رئيس الوزراء أردوغان-تعيين الجنرال خلوصي أكار قائدا للقوات البرية، وتعيين نائب الأميرال بولنت بستان أوغلو قائداً للقوات البحرية، والفريق أكين أوزترك قائداً للقوت الجوية، والجنرال ثروت يوروك قائداً لقوات الأمن.

بعد ذلك الحين ظهرت عدة مؤشرات تدل على ابتعاد الجيش عن الحياة السياسية، وخضوعه لسلطة الحكومة المدنية المنتخبة، ولعل أصدق تعبير عن تلك الحالة كان في ديسمبر/كانون الثاني 2013، حيث تعهد الجيش بعدم التدخل فيما وُصف بأنه "فضيحة فساد" تتعلق بالحكومة، دعت بسببها المعارضة جماهيرها إلى تنظيم مظاهرات للمطالبة برحيل الحكومة. وأكدت القوات المسلحة التركية أنها "ستحرص بشدة على تفادي الجدل السياسي وتبعد نفسها عن أية آراء وتشكيلات سياسية". ثم مرر البرلمان التركي في شباط فبراير 2014 تعديلات جديدة على قانون الجيش صادق عليها رئيس الجمهورية عبد الله غل. ويقضي أبرز هذه التعديلات بفتح الطريق أمام إمكانية محاكمة رئيس هيئة الأركان العامة وقادة القوات المسلحة وقوات الدرك أمام محكمة الديوان العليا بدل المحكمة الجنائية، في حال ارتكابهم جرائم تتعلق بمناصبهم، الأمر الذي يعني تطويق الحكومة المدنية لأي إمكانية لانقلاب الجيش عليه.، وتمت ترجمة حالة الهدوء في العلاقة بين الجيش والحكومة إلى جملة من أحكام البراءة صدرت عن المحاكم التركية في عامي 2014-2015 بحق ما يقارب 300 ضابط، اتهموا بالتآمر ومحاولة الانقلاب على حكومة العدالة والتنمية في قضايا "أرغنيكون" و" المطرقة".

ما استعرضناه من سياق العلاقة بين حكومة العدالة والتنمية والجيش التركي، يشير إلى حالة من عدم الثقة المتبادلة بين الطرفين، اتسمت بمحاولات احتواء دور الجيش في الحياة السياسة وإعادته إلى دوره الطبيعي في حماية الحدود فقط من جانب الحكومة، مقابل حالة من عدم القبول والمقاومة المستمرة من قبل الجيش -الذي يعتبر نفسه الحامي للمبادئ العلمانية-لخسارة موقعه المسيطر على المشهد السياسي التركي.

لذا فإن الجيش التركي وإن بدا بمجمله قد رضخ للحكومة وابتعد عن التدخل في الشأن الداخلي، إلا أن انقلاب تموز الفاشل قد بين وجود مجموعة داخل هذا الجيش ترفض هذا الخضوع، وأنها كانت تنتظر اللحظة المناسبة للانقلاب على حكومة العدالة والتنمية وإعادة الحالة التركية إلى ما كانت عليه قبل العام 2002، مدفوعين على ما يبدو بقناعة أن ما تعيشه تركيا من حالة عزلة خارجية وتوترات داخلية قد يخلق لهم غطاءً دولياً للانقلاب.

ثانياً: الوضع الخارجي والانعطافة الخاطفة (رفع الغطاء الدولي)

يبدو أن الانعطاف الخاطف في العلاقات الخارجية التركية، والذي سبق الانقلاب بفترة وجيزة؛ كسر من حالة العزلة التي كانت تعيشها الحكومة التركية، وحرم الانقلابيين من استغلالها كغطاء دولي لتحركهم، لذا من الأهمية بمكان دراسة هذا الانعطاف والتحول كمرحلة سابقة للانقلاب، وأساس لاستشراف التحولات التي ستشهدها السياسة التركية الداخلية والخارجية بعده، فبقدر ما كان الانقلاب الفاشل في تركيا 15تموز 2016 مفاجئاً؛ بقدر ما كانت بعض أسبابه مفسرة للتحول في السياسة الخارجية التركية الذي حدث قبل أسبوعين فقط، والذي تمثل بحدثين هامين جداً:

الأول: المرونة التي أبداها الرئيس رجب طيب أردوغان فيما يتعلق بالمطالب الروسية لإعادة العلاقات بين البلدين إثر الخلاف حول إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا.

 الثاني: تسوية الخلاف مع إسرائيل المتعلق بسفينة مرمرة وإبداء مرونة حول شرط رفع الحصار عن غزة لإعادة تطبيع العلاقات تدريجياً مقابل الاعتذار والتعويض لذوي الضحايا.

إن تلك المصالحات المفاجئة والمتزامنة الحدوث بفارق يوم واحد كانت صادمة للجميع، حيث اقتصرت معظم التحليلات التي تناولتها على ربطها بحالة العزلة الدولية التي باتت تعيشها تركيا مع ازدياد أعدائها بعد أزمة الطائرة الروسية، وحالة الجفاء والفتور بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية بسبب تضارب وجهات النظر حول الأزمة السورية، وانقطاع العلاقة مع مصر بعد انقلاب السيسي، ومع العراق على خلفية محاولة دخول الجيش التركي إلى شمال العراق، وتوتر العلاقات التركية الإيرانية بسبب الملف السوري وتقارب تركيا مع السعودية، بالإضافة إلى تعرقل تطبيق اتفاق أنقرة مع الاتحاد الأوروبي حول اللاجئين، والذي كان يمكن أن يشكل أحد بنوده والمتعلق بإعفاء الأتراك من تأشيرة الدخول إلى الاتحاد الأوروبي خطوة باتجاه انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بحيث باتت تركيا تتجه نحو صفر أصدقاء بدل من صفر مشكلات وهي الاستراتيجية المعلنة لحزب العدالة والتنمية منذ وصوله للحكم.

ولكن لم يكن متوقعاً أن تنعكس تلك الأزمات على الداخل التركي، والتي تمثلت بتحدٍ اقتصادي نتيجة العقوبات التي فرضتها موسكو على المنتجات التركية وتعليق بعض الاتفاقيات الهامة المتعلقة بالطاقة بين البلدين، إضافة لارتفاع وتيرة العمليات الإرهابية التي ضربت المدن التركية الكبرى (أنقرة واسطنبول) وانهيار اتفاق التهدئة مع حزب العمال الكردستاني وعودة الاضطرابات إلى محافظات الجنوب التركي وخسائر القوات التركية التي تجاوزت الخمسمائة جندي خلال عام، وازدياد احتمالات تشكل إقليم كردي في سورية قد يصل ببعض الضباط الأتراك للانقلاب.

إلا أن ما رشح من معلومات حول الانقلاب يشير إلى أن هذا التحرك العسكري كان ضمن حسابات الحكومة التركية، وأنها باغتته بتغييرات على صعيد السياستين الداخلية والخارجية ساهمت بإحباط إمكانية استغلال الانقلابيين لتوتر العلاقات الخارجية التركية وإشكاليات السياسة الداخلية بين حزب العدالة والتنمية وأحزاب المعارضة بأطيافها المتنوعة لتشكيل غطاء شرعي للانقلاب، مما جعل الانقلاب حركة ارتجالية من ضباط تحت المراقبة غامروا بالتحرك كخيار أخير، قبل أن يتم اجتثاثهم في اجتماع مجلس شورى الجيش التركي المقرر بعد شهر من تاريخ الانقلاب. وضمن هذا السياق يمكن فهم سبب عزم حكومة بن علي يلديريم على إعادة هيكلة العلاقات الخارجية التركية والعودة إلى سياسة صفر مشاكل، لرفع أي غطاء دولي محتمل لأي تحرك عسكري متوقع داخل صفوف الجيش.

إسرائيل وموسكو (الملفات متشابكة)

يشير حرص تركيا على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، والذي أنهى التوتر المتصاعد منذ عام 2010، بالتوازي مع تحسين العلاقات مع روسيا، إلى أنها تسعى إلى خلق فضاءات للمناورة في سياستها الخارجية، وهو ما يعود إلى اعتبارات عديدة، يرتبط بعضها بالتطورات المتسارعة التي تشهدها الساحة الداخلية التركية، ويتعلق بعضها الآخر بالتداعيات التي فرضتها تلك السياسة على مصالح تركيا التي تواجه تحديات عديدة خلال الفترة الحالية في ظل تصاعد العمليات الإرهابية في بعض المدن الرئيسية واستمرار الأزمة السورية دون تسوية.

قد يفسر اتجاه تركيا نحو تسوية المشكلات العالقة مع كل من روسيا وإسرائيل في وقت واحد في ضوء اعتبارات عدة، نذكر أهمها:

أولاً: احتواء المشكلات

تسعى أنقرة إلى العودة من جديد لتبني سياسة تقليل الأعداء مع بعض القوى المعنية بأزمات الشرق الأوسط، بعد أن تصاعدت تلك الإشكالات بدرجة غير مسبوقة، سواء مع روسيا بسبب أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في نوفمبر 2015، أو مع إسرائيل بسبب أزمة الهجوم الإسرائيلي على "أسطول الحرية" في عام 2010، أو مع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل الخلاف حول التعامل مع تطورات الأزمة في سورية، لاسيما فيما يتعلق بالموقف من دور الميليشيات الكردية في الحرب ضد تنظيم "داعش" ومن إقامة منطقة آمنة في شمال سورية، أو مع إيران التي تتباين مصالحها وسياستها مع تركيا بشكل كامل في سورية. وقد انعكس هذا التوجه الجديد الذي تتبناه أنقرة في تصريحات رئيس الوزراء، بن علي يلدرم، والتي أكد فيها أن "تركيا تسعى إلى تقليص الأعداء وزيادة الأصدقاء"، هذا التصريح تحديدًا يشير إلى حرص يلدرم على انتهاج سياسة جديدة تعيد فتح علاقات توترت سابقاً من خلال "تصفير المشكلات" مع دول الجوار، والتي بدا أنها واجهت عقبات عديدة بسبب تحول أنماط علاقات تركيا مع معظم تلك الدول من التعاون إلى الصراع والخلاف في الأعوام الأخيرة.

ثانياً: تقليص وتفكيك حجم الضغوط

تعرضت تركيا لعدة ضغوطات بسبب سياستها الخارجية، لا سيما تجاه الأزمة السورية، حيث بدا جلياً أن الأكراد حاولوا استثمار التوتر التركي –الروسي من أجل الحصول على مكاسب سياسية من أنقرة. وقد كان إسقاط مقاتلي حزب العمال الكردستاني لمروحية تركية بصاروخ روسي الصنع في مايو 2016، فضلاً عن التقارب الملحوظ بين روسيا والأكراد، والذي انعكس في الزيارات التي قام بها بعض المسؤولين الأكراد إلى موسكو، إشارة إلى التداعيات السلبية التي يمكن أن ينتجها استمرار التوتر في العلاقات بين أنقرة وموسكو، وبعبارة أخرى، فإن أنقرة سعت من خلال تقليص حدة التوتر في العلاقات مع موسكو، إلى فرض مزيد من الضغوط على الأكراد، في ظل الصراع المتصاعد بين الطرفين، سواء بسبب اتهام تركيا للأكراد بممارسة أنشطة إرهابية، أو بسبب مخاوفها من احتمالات تعزيز دورهم في سورية في ظل الدعم الدولي الذي تحظى به بعض الميليشيات الكردية بسبب دورها في الحرب ضد "تنظيم الدولة الاسلامية". ومثل ذلك بدوره محوراً للخلاف مع بعض القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي ترى أن الدور الذي تقوم به الميليشيات الكردية حيوي في إلحاق أكبر قدر من الخسائر في صفوف التنظيم. وقد كانت تلك المخاوف سبباً في الجهود الحثيثة التي بذلتها أنقرة من أجل منع الأكراد من المشاركة في المفاوضات التي تجري بين النظام السوري ووفد المعارضة في جنيف للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية، والتي توقفت في الفترة الحالية بسبب استمرار الملفات الخلافية العالقة بين الأطراف المعنية بالأزمة.

ثالثاً: التنسيق السياسي الأمني

تسعى تركيا إلى رفع مستوى التنسيق السياسي والأمني مع كل من روسيا وإسرائيل في التعامل مع تطورات الأزمة السورية، خاصة في ظل الأهمية التي تبديها موسكو وتل أبيب لتلك الأزمة، حيث تحولت الأولى إلى طرف رئيسي في الصراع بعد رفع مستوى انخراطها العسكري والسياسي في الأزمة، فيما تتابع الثانية بدقة تطورات المواجهات المسلحة بين النظام السوري وحلفائه، لا سيما حزب الله اللبناني، وقوى المعارضة المسلحة إلى جانب نشاط التنظيمات الإرهابية، خاصة "تنظيم الدولة ".

وهنا، فقد تعتبر أنقرة أن تحسين العلاقات مع كل من موسكو وتل أبيب يمكن أن يساعدها بإعادة تفعيل دورها في "الأزمة" السورية، الذي تراجع في الفترة الماضية، بسبب اتساع نطاق الخلاف مع واشنطن حول الموقف من الدور الكردي في الحرب ضد "تنظيم الدولة" وإقامة منطقة آمنة في شمال سورية، فضلاً عن اتجاه واشنطن إلى التفاهم مع موسكو حول الوصول إلى تسوية سياسية "للأزمة" بشكل، ربما ينتج تداعيات لا تتوافق بدرجة ما مع مصالح أنقرة. فضلاً عن ذلك، فإن رفع مستوى التنسيق السياسي والعسكري من خلال تحسين العلاقات مع موسكو وتل أبيب يمكن أن يساعد أنقرة في التعامل مع التهديدات التي تتعرض لها بسبب تصاعد حدة العمليات الإرهابية التي تقع داخل المدن التركية الرئيسية مثل اسطنبول وأنقرة.

رابعاً: المصالح الاقتصادية

كان للمصالح الاقتصادية دورها في اتجاه تركيا إلى تحسين العلاقات مع روسيا وإسرائيل، حيث بدا واضحاً أن التوتر في العلاقات مع موسكو فرض خسائر عديدة على الاقتصاد التركي بسبب تراجع السياحة الروسية وتقييد استيراد المواد الغذائية من تركيا، في الوقت الذي عاني فيه الاقتصاد من تحديات عديدة، لا سيما وأن روسيا تزود تركيا بأكثر من 70% من وارداتها من الغاز الطبيعي وبأسعار تفضيلية، الأمر الذي يجعل من الصعب على الأتراك إيجاد بدائل عن الغاز الروسي. إضافة إلى ذلك يلحظ ارتباط الطرفين بمشاريع استراتيجية مثل العقد الروسي لإنشاء محطة نووية لتوليد الطاقة الكهربائية بقيمة 20 مليار دولار في مدينة مرسين التركية، وخط السيل التركي الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، والذي يعد استراتيجياً لروسيا بقدر ما يخدم المصلحة التركية بالتحول إلى ممر لنقل الطاقة إلى أوروبا. وهنا يلعب الغاز الإسرائيلي المكتشف حديثاً في حقول البحر المتوسط دوراً في حاجة الطرفين التركي والإسرائيلي إلى تصفية الخلافات بينهما، كون تركيا ترغب باستيراد الغاز الإسرائيلي لتنويع مصادرها. وبالمقابل تعتبر إسرائيل السوق التركية سوقاً واعدة ومغرية بالنسبة لها، كما تحاول تركيا استجرار الصادرات الإسرائيلية من الغاز للمرور عبر أراضيها، لقطع الطريق على المشروع الذي تعتزم إسرائيل إقامته بالتعاون مع قبرص واليونان لمد خط أنابيب ينقل غاز إسرائيل وقبرص عبر البحر إلى اليونان ومن ثم إلى أوروبا، وهو ما تم الاتفاق بين الدول الثلاثة على تشكيل لجنة لدراسته عقب اجتماع جمع قادة البلدان في كانون الثاني/يناير 2016.

ثالثاً: الوضع الداخلي (مؤشرات)

منذ وصوله للحكم في العام 2002، استطاع حزب العدالة والتنمية تحقيق نقلة نوعية شاملة في تركيا على صعيد الاقتصاد التركي والبنية التحتية والصحة والتعليم والعلاقات الخارجية من حيث الانفتاح على المنطقة العربية وإنجاز العديد من الشروط اللازمة لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، الأمر الذي وسع من قاعدته الشعبية وزاد من حجم التأييد له في الشارع التركي، مما انعكس في قدرته على البقاء في السلطة لمدة 14 عاماً. ولكن ومع بداية الربيع العربي في العام 2011 وانخراط تركيا كداعم واضح لتطلعات الشعوب، وخاصة الثورة السورية، بدأت تظهر بعض المؤشرات المعارضة للسياسة التي ينتهجها العدالة والتنمية في الأوساط السياسية والعسكرية نتيجة الأعباء التي تركتها سياسة الانخراط في الشرق الأوسط على الوضع الداخلي التركي. لذلك يبدو أن انعكاس أزمات تركيا الخارجية على الوضع الداخلي بشكل أزمات مركبة (سياسية، أمنية، اقتصادية)، شكل مؤشرات وثغرات يبدو أن الانقلابيين التقطوها وتصوروا بأنها يمكن أن تعطي لتحركهم زخماً شعبياً وغطاءً شرعياً.

ويمكن إجمال أبرز توترات الوضع الداخلي التركي خلال السنوات الخمس الماضية في النقاط التالية:

•    "الأزمة" السورية: عاد الملف السوري بتداعيات عدة على حكومة العدالة والتنمية، حيث رتب أعباء مالية على كاهل تركيا، فعلاوة على الاستنزاف المادي بسبب التكلفة الباهظة لدعم المعارضة المسلحة ولصد طموحات حزب العمال الكردستاني في سورية، تحملت أيضاً تكلفة باهظة لإيواء 3 ملايين من اللاجئين السوريين.
•    الصعود الإسلامي: يُعد توجه تركيا نحو العالم العربي والإسلامي سياسياً واقتصادياً قُبيل أحداث الربيع العربي أحد أسباب الاحتقان الداخلي بين أحزاب المعارضة وجماعة غولن مع حزب العدالة الحاكم. وتتهم أحزاب المعارضة حزب العدالة بأنه دعم أحزاباً إسلامية للوصول للحكم في دول عربية بما يُعتبر لدى البعض مؤشرات داخلية خطرة على علمانية الجمهورية التركية. كما أن دور تركيا في دعم التحالف الإسلامي على الإرهاب الذي دعت إليه السعودية وغيره من المبادرات مع الدول المسلمة تم تصديره بأنه ابتعاد عن الحليف الأمريكي والأوروبي، ولا يخفى أن هذه المواقف لاقت إعجاباً وتأييداً من بعض الأطراف الغربية. كما أن "الخطاب الإسلامي" المتزايد للحزب وانفتاحه المتزايد مع الحركات الإسلامية في الدول العربية أدى لمزيد من الاحتقان الداخلي.
•    الاحتجاجات الشعبية: في الثامن والعشرين من أيار 2013 اندلعت في تركيا موجة من الاحتجاجات الشعبية على تعامل أجهزة الأمن التركية مع اعتصام قريب من "حديقة غيزي "، يناهض سياسات الحكومة البيئية وخطتها في توسيع ساحة تقسيم في تلك المنطقة. إلا أنّ ما أجّج تلك الاحتجاجات هو الدعاية التحريضية التي استغلتها المعارضة التركية حول ما يرونه تضييقاً على الحريّات، و"فضائح الفساد التي طالت حزب العدالة والتنمية نفسه وعدداً من وزرائه، وتزايدِ سطوة الحزب الحاكم وتهديد مبادئ الدولة التركية العلمانيّة وغير ذلك".
•    النظام الرئاسي: طرح الرئيس رجب طيب أردوغان تحويل النظام التركي إلى نظام رئاسي، الأمر الذي أدى إلى تصاعد الأصوات المعارضة لهذا الطرح في الشارع التركي، وانعكس ذلك في نتائج انتخابات حزيران/ يونيو 2015 والتي لم يتمكن فيها الحزب من الحصول على الأغلبية البرلمانية اللازمة لتشكيل الحكومة بمفرده، حيث حاز على 41% من الأصوات فقط، وترافق ذلك بصعود نجم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي.
•    أزمات اقتصادية: كان لتوتر علاقات تركيا مع محيطها الإقليمي، ودخولها في صدامات دبلوماسية مع روسيا بعد إسقاطها لطائرة روسية على الحدود التركية السورية، وتعرضها لعقوبات روسية آثار صعبة على الاقتصاد التركي، من حيث تراجع السياحة والصادرات التركية وارتفاع نسبة التضخم، الأمر الذي انعكس على المستوى المعيشي للمواطن التركي.
•    توترات حزبية: ظهرت تجاذبات داخل حزب العدالة والتنمية كانت تتفاعل منذ فترة ليست بالقصيرة، بين طرفين داخل الحزب، طرف يمسك بزمام الأمور، يتلقى التوجيهات من الرئيس رجب طيب أردوغان بشكل مباشر، وطرف آخر أقل حجماً وأضعف تأثيراً يلتف حول رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو، وانتهت تلك التوترات بغياب عبد الله غول عن المشهد السياسي واستقالة أحمد داوود أوغلو.
•    الحريات العامة: ارتفعت وتيرة حملات منظمة ضد الحكومة التركية ترفع ادعاءات قمع الحريات العامة من قبل منظمات حقوقية وصحفية، وبلغت تلك الحملات أوجها في قضية محاكمة الصحفي جان دوندار في أيار/مايو 2016، والتي حضرها ستة من قناصل الدول الأوروبية في خطوة استفزازية للحكومة التركية تعبر عن احتجاج غربي على تلك المحاكمة.
•    التهديد الأمني: انهيار اتفاق الهدنة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، واستئناف الأخير لعملياته الإرهابية الموجهة ضد الجيش التركي، والتي أدت إلى قتل مئات الجنود الأتراك، بالإضافة لإعلان داعش عن تبني العديد من الهجمات الإرهابية على الأراضي التركية، الأمر الذي أدى إلى تشكل حالة من القلق في الشارع التركي نتيجة ما يراه البعض تقصيراً أمنياً داخل الجيش التركي والأحزاب التركية المعارضة وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري حول الأخطاء التي ترتكبها الحكومة في تعاطيها مع الملف السوري.

لقد عمل حزب العدالة على إجراء العديد من المراجعات الداخلية لمحاولة احتواء التوترات الداخلية ومعالجة أسبابها سواء المفتعلة من جهات مصلحية أو دولية أو الحقيقية -وخاصة بعد انتخابات حزيران/يونيو 2015-، والتي من شأنها سحب المبررات الموجبة لأي انقلاب محتمل. ومن أبرز الإجراءات الداخلية:

1.    إدراك حزب العدالة والتنمية لما حملته نتيجة انتخابات حزيران/يونيو 2015 من مضامين، وتنامي أطروحات تشكيل حكومة ائتلافية جامعة. فدخل مع باقي الأحزاب في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية، واستغلّ جيّداً إعلان حزب الحركة القومي اليميني عن رفضه المشاركة في حكومة ائتلافية مع "العدالة والتنمية"، وهو ما فعله حزب الشعوب الديموقراطي، وكذلك حزب الشعب الجمهوري، الذي قدّم مطالب وشروطاً شبه تعجيزية. وقدم حزب العدالة والتنمية نفسه بصفته الحزب الوحيد القادر على قيادة تركيا وتوحيد الصف الداخلي، وإعادة الاستقرار السياسي الاقتصادي الأمني لها، متّهماً أحزاب المعارضة بالمسؤولية عن حالة عدم الاستقرار لرفضها تشكيل ائتلاف مستقر.
2.    غيّر حزب العدالة والتنمية كذلك تكتيكاته واستراتيجيته الانتخابية بالكامل، حيث أعاد تشكيل لائحة مرشحيه، لتكون أكثر قبولاً، خصوصاً في المناطق الكردية، وأنجز تفاهمات مع زعماء العشائر وقادتها.
3.    قاد رئيس الوزراء زعيم الحزب، أحمد داود أوغلو الحملة الانتخابية للحزب، وغاب الرئيس رجب طيب أردوغان عن واجهة الحملة، كما تم إبعاد بند النظام الرئاسي المثير للجدل عن جدول الأعمال، تلك الإجراءات ساهمت بازدياد شعبية الحزب التي تراجعت في انتخابات يونيو خلال خمسة أشهر فقط لترتفع بمعدل 9% في انتخابات نوفمبر 2015 ليحصد الحزب 317 مقعداً من أصل 550 مقعداً في البرلمان التركي، مع تراجع شعبية باقي الأحزاب.
4.    قدرة قيادة حزب العدالة والتنمية على تصفية الخلافات داخل الحزب بهدوء وعبر التفاهمات، وعدم تصدير تلك الأزمة إلى خارج نطاق الحزب، حيث ظهر الحزب موحد الصفوف وصعب التفتيت من الداخل، الأمر الذي عبر عنه رئيس الحزب المستقيل داوود أوغلو في كلمته الشهيرة 5 مايو /أيار 2016 التي أعلن فيها عدم ترشحه لرئاسة الحزب.
5.    تعيين بن علي يلدرم رئيساً للحكومة، وهو "رائد التنمية ومهندس تطوير البنية التحتية التركية"، في رسالة تثبت التزام حزب العدالة والتنمية بخطته التنموية وصولاً إلى تحقيق رؤيته لتركيا 2023، وقد بدأ يلدرم منذ الأيام الأولى لتوليه الحكومة بطرح مشروعات تنموية خاصة في الولايات ذات الأغلبية الكردية، وأعلن عن تقريب مواعيد افتتاح بعض المشروعات الاستراتيجية مثل مشروع نفق أوراسيا.

رابعاً: الانقلاب الفاشل ورد فعل الحكومة

شكلت جملة العوامل الداخلية والخارجية على ما يبدو مجالاً يمكن استغلاله للانقلاب على حكومة العدالة والتنمية، والتي تشير عدم قدرتها على كشف الموعد الدقيق لتحرك الانقلابيين مسبقاً؛ إلى أنها أمِنَت في الفترة الأخيرة جانب الجيش. ولعل تأجيل تسريح بعض الضباط المشكوك فيهم إلى آب/أغسطس موعد انعقاد المجلس الأعلى للقوات التركية قد يدلل على ذلك، ومنهم قائد الانقلاب أكين أوزتورك الجنرال الذي أقيل من رئاسة القوات الجوية التركية، ولكنه بقي عضواً في المجلس الأعلى، لذا يبدو أنه اختار التحرك في هذا الوقت.

بالمقابل يبدو أن الانقلابيين غاب عنهم دراسة مزاج الشارع التركي وهو أمر معتاد في تعاطي العسكر مع المدنيين، لذا استخدموا الوسائل التقليدية للانقلاب ونزلت الدبابات إلى الشوارع وتمت السيطرة بالقوة على وسائل الإعلام، وأذيع البيان الأول للانقلابيين، موجهين عبره رسالتين الأولى: كانت للداخل التركي وتمحورت حول حماية قيم الجمهورية والعلمانية. والثانية: كانت للخارج وحملت إشارات لتغيير السياسة الخارجية التركية، حيث تم التعبير عن رغبة الانقلابيين بتأسيس علاقات أقوى مع المنظمات والمجتمع الدوليين "لإحلال السلام والاستقرار العالمي"، ولعل تلك الرسالتين تدعمان ما تقدم من تحليل حول علاقة الظروف الداخلية والخارجية التي تمر بها تركيا وتوقيت تحرك الانقلابيين.

حسم الشعب التركي خياره ليلة الانقلاب ودافع عن خياره الديمقراطي وحكومته الشرعية، وأفشل المحاولة الانقلابية في موقف بطولي يعبر عن ديمقراطية راسخة ورفض العودة إلى عصر الانقلابات وعدم الاستقرار، لتبدأ بعدها قوات الأمن الداخلي التركية بتصفية فلول الانقلابيين، ومن يقف وراء تلك المحاولة الفاشلة من عسكريين ومنتسبين إلى ما يعرف بـ "جماعة الخدمة " أو "الكيان الموازي" التابع لفتح الله غولن، والذي اتهمته الحكومة التركية بالوقوف خلف تلك المحاولة. وشنت الشرطة التركية حملة اعتقالات طالت بحسب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطاب متلفز يوم السبت 23 تموز/ يوليو، " 13165 من بين هؤلاء 8838 عسكريا و2101 من القضاة والمدعين العامين و1485 من الشرطة، و52 من رؤساء الخدمة العامة و689 مدنيا"، وبحسب الرئيس" تم غلق 934 مدرسة و15 جامعة، إلى جانب 104 منظمات و1125 جمعية. وقد تمت مصادرة كل ممتلكاتهم من قبل الدولة" ، كمابلغ عدد من تسريحهم من وظائفهم 45 ألف موظف في مختلف المؤسسات التركية.

حملة الاعتقالات والتسريحات تلك رغم أنها تمت في سياق قانوني ودستوري إلا أنها أحدثت ضجة إعلامية كبرى، وأثارت عاصفة من التصريحات الأوروبية والأمريكية التي اعتبرت ما يحدث "عملية انتقامية" من طرف الحكومة، لكن رد فعل الأخيرة على الانقلاب والذي شكل فرصة لها لاجتثاث "الكيان الموازي" من جذوره، يلاقي تأييداً شعبياً في تركيا كونه لم يخرج عن إطار المألوف التركي في مثل هذه الحالات، فالاعتقالات والتسريح في المؤسسات العسكرية والمدنية هو ما كان يحدث عقب أي انقلاب في تركيا، والفارق هنا أن الانقلاب كان فاشلاً فقامت الحكومة بتلك الاعتقالات وليس العكس.

ففي الانقلاب الأول الذي شهدته تركيا في العام 1960 تم إقالة 235 قائداً وأكثر من 3000 ضابط مكلف على التقاعد؛ وتم تسريح أكثر من 500 قاض ونائب عام، و1400 من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات؛ وتم إعدام رئيس الحكومة عدنان مندريس ووزير الخارجية فطين زورلو ووزير المالية حسن بولاتكان. أما الانقلاب الثاني والذي عرف بانقلاب المذكرة، دون تدخل الجيش بقوات على الأرض، فقد أعقبه تعطيل الدستور وحظر للعديد من الأحزاب والنقابات العمالية والتنظيمات الشبابية.

وفي 1980 كانت حصيلة انقلاب كنعان إيفرين اعتقال 650 ألف شخص، ومحاكمة 230 ألف شخص، و517 حكماً بالإعدام، و299 حالة وفاة بسبب التعذيب، كما انتحر 43 شخصاً وقُتل 16أثناء هروبهم، واعتبر الآلاف في عداد المفقودين، ناهيك عن إقالة 3654 مدرساً و47 قاضياً و120 أستاذاً جامعياً، ورصدت الأجهزة الأمنية التابعة للانقلاب مليون ونصف مواطن تركي وقيدتهم في سجلات الأمن كمطلوبين أمنياً وخطر على الأمن القومي التركي، وفر 30 ألف شخص من المعارضين والمفكرين وطلبوا حق اللجوء السياسي خارج تركيا، وتم إسقاط الجنسية عن ما يقارب 13 ألف مواطن تركي.

في حين أعقب انقلاب "ما بعد الحداثة" عام 1997 حظر لحزب الرفاه بحكم قضائي وفقاً لقانون 1982 بتهمة "السعي إلى تطبيق الشريعة وإقامة النظام الرجعي"، وتم إيداع رئيس الحزب نجم الدين أربكان في السجن مع مجموعة من قادة حزبه ومنهم رجب طيب أردوغان، وحرمان بعضهم من العمل السياسي لمدة 5-10 سنوات.

خامساً: المآلات المحتملة

رغم فشل الانقلاب، إلا أنه سيشكل تحولاً كبيراً ومنعطفاً هاماً في الحياة السياسية التركية عامةً وفي مسيرة حزب العدالة والتنمية بشكلٍ خاص، وسيرتب عليه تسريع وتيرة التغيرات الداخلية والخارجية التي بدأها قبل الانقلاب؛ لاستدراك الأخطاء التي تم استغلالها من قبل الانقلابيين. وبناءً على ذلك يمكن استخلاص بعض النتائج التي ستتمخض عن تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة، على صعيد السياسة التركية الداخلية والخارجية:

على الصعيد الداخلي:

1.    ستشهد الفترة المقبلة تركيز اً لجهود الحكومة التركية على استكمال ما بدأته فوراً عقب الانقلاب من عملية "اجتثاث" نهائي لما يسمى الكيان الموازي الموالي لفتح الله غولن، ومحاولات تطهير كافة المؤسسات التركية من أنصاره، وبخاصة القضاء والتعليم.
2.    استمرار عملية إعادة الهيكلة الشاملة للجيش وقوى الأمن الداخلي والشرطة التركية، والتي كانت بداياتها من اجتماع المجلس الأعلى للجيش التركي، والذي عُقد قبل موعده الرسمي بأيام.
3.    ازدياد شعبية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه في الشارع التركي، الأمر الذي سيخلق غطاءً شعبياً للحملة التي يشنها على الكيان الموازي، ولكن هذا لا يمنع أن التوسع في الاعتقالات والتسريح من العمل، والذي طال عشرات الآلاف في المؤسسات التركية المختلفة قد يخلق حالة من الخلل الأمني أو المجتمعي في الأيام المقبلة ناتجة عن فقد الوظائف.
4.    موقف الأحزاب التركية الداعم للحكومة الشرعية والرافض للانقلاب، سيُساهم بتخفيف حدة التجاذبات والاستقطاب التي كانت سائدة بينها وبين العدالة والتنمية ويهيئ للدخول في مرحلة جديدة مبنية على أسس من التفاهم، وهذا سيتطلب من حزب العدالة والتنمية التعامل مع هذا الموقف الإيجابي بحذر من ناحية التغييرات الهيكلية التي سيجريها في الجيش والقضاء وباقي المؤسسات التركية كي لا تفهم باتجاه تعميق سيطرته على مرافق الدولة والحكم، كما تتطلب الأيام القادمة تأجيل أو التدرج في طرح تعديل النظام التركي وتحويله إلى نظام رئاسي، وهو ما ترفضه الأحزاب المعارضة جميعها.
5.    على الرغم من توجيه الجيش التركي ضربة جوية لمواقع حزب العمال الكردستاني في العراق بعد خمسة أيام على محاولة الانقلاب، في رسالة تحذيرية لعدم استغلال ما حدث في تصعيد هجماته، إلا أن حجم الاعتقالات الكبير الذي طال قيادات عسكرية وأمنية، مقابل إعادة هيكلة تلك المؤسسات؛ لا بد أن يلقي بظلاله على الوضع الأمني داخل تركيا على المدى القصير والمتوسط من حيث احتمال ازدياد عمليات حزب العمال الكردستاني و"داعش".

على الصعيد الخارجي:

سادت في تركيا بعد الانقلاب حالة من الخذلان على المستوى الشعبي والرسمي نتيجة للمواقف المتأنية في إدانة الانقلاب في لحظاته الأولى من كافة الدول تقريباً، وعلى رأسها حلفاء تركيا في الناتو (الأمريكان والأوربيون)، لذا فإنه من المتوقع أن تشمل إعادة الهيكلة حتى العلاقات الخارجية التركية، على أساس الانقلاب وما تلاه من مواقف للدول، وما سيرشح في الأيام القادمة حول احتمالات تورط بعض الدول في التخطيط للانقلاب، وعليه:

1.    لا يبدو أن حالة الفتور في العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية ستنتهي قريباً، خصوصاً بعد الموقف الأمريكي المتأخر في إدانة الانقلاب، وإثارة تساؤلات كثيرة حول دور أمريكي محتمل في الانقلاب بعد اكتشاف تورط قاعدة إنجيرلك فيه، ورغم تشديد الرئيس التركي عقب الانقلاب على استراتيجية العلاقة مع واشنطن إلا أن تلبية واشنطن لطلب أنقرة في تسليم فتح الله غولن سيشكل اختبار ثقة بين الطرفين وسيكون له انعكاسات كبرى على العلاقة بين البلدين، هذا بالإضافة إلى ملف دعم الولايات المتحدة الأمريكية لقوات سورية الديمقراطية، والتي تشكل عمودها الفقري مليشيات الـ PYD الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني .
2.    العلاقة مع الاتحاد الأوروبي لن تكون أفضل حالاً مما كانت عليه قبل الانقلاب، بل من الممكن أن يزداد ملف تطبيق الاتفاق الثنائي حول اللاجئين وملف انضمام تركيا تعقيداً، خصوصاً عقب الموقف المتأخر للاتحاد الاوروبي ومعظم أعضائه من الانقلاب، ومن ثم سلسلة من الانتقادات الحادة على لسان فريدريكا موغريني وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي للإجراءات التركية عقب الانقلاب، والتهديد بحرمان تركيا نهائياً من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إذا تمت إعادة عقوبة الإعدام.
3.    حالة الفتور التي تعمقت بعد الانقلاب بين تركيا وحلفاءها "الناتويين"؛ ستدفع تركيا لاستكمال ما بدأت به قبيل الانقلاب من مصالحة مع روسيا وإسرائيل وتسريع إعادة العلاقات معهما إلى شكلها الأمثل كونها بحاجة لدعمهما في ما تقوم به من إجراءات داخلية بعد الانقلاب، ولتعزيز دورها في المشهد الإقليمي على مستوى القضيتين السورية والفلسطينية، بعد أن تم تطويق هذا الدور بفعل التقارب الأمريكي الروسي من جهة و التنسيق الإسرائيلي الروسي في ما يخص سورية من جهة أخرى، بالإضافة إلى الضرورة الأمنية والاقتصادية التي تفرض على تركيا تسريع التطبيع على كافة المستويات مع روسيا وإسرائيل، ولعل زيارة الرئيس التركي المرتقبة لروسيا في التاسع من الشهر الجاري، ستحمل إجابات حول نتائج هذا التقارب على الصعيدين الداخلي والخارجي التركي وبخاصة حول الملف السوري .
4.    قد يؤدي الموقف الإيراني المبكر في رفض الانقلاب ودعم الحكومة الشرعية في تركيا، رغم الخلافات بين البلدين حول عدة قضايا وبخاصة الملف السوري، إلى تعميق التعاون بين البلدين وخصوصاً فيما يخص الملف الكردي وحزب العمال الكردستاني، والذي أعلن في آذار /مارس الماضي استئنافه العمل العسكري في إيران بعد 23 عام على توقفه، أما فيما يخص الملف السوري فلا فرص لهذا التعاون خصوصاً في ظل التقارب التركي الروسي والتركي السعودي.
5.    على مستوى العلاقات العربية، فالواضح أن العلاقة التركية القطرية ستبقى كما كانت هي الأقوى، كون موقف قطر الرسمي كان من أوائل المواقف الداعمة للحكومة وبدا الدعم القطري واضحاً من خلال موقف أمير قطر وطبيعة تغطية قناة الجزيرة لأحداث الانقلاب. أما العلاقات السعودية فستبقى تنمو نحو التحسن ومزيد من التنسيق الأمني والعسكري. أما الموقف المصري من الانقلاب فيشير إلى صعوبة إجراء مصالحة قريبة مع تركيا، وكذلك الأمر بالنسبة للعراق والذي يرفض توغل القوات التركية في أراضيه ومشاركة قوات تركية في معركة الموصل القريبة، وهو ما أكد عليه وزير الخارجية العراقي في كلمته لمؤتمر القمة العربية الأخير في نواكشوط التي ربط فيها المصالحة مع تركيا بوقف دخول قواتها إلى الأراضي العراقية.

على مستوى الملف السوري:

أ‌.    الصعيد الميداني: كان لانشغال الحكومة التركية بالوضع الداخلي عقب الانقلاب، أثراً خطيراً بدأت تتبدى ملامحه على الوضع الميداني وبخاصة في الشمال السوري، حيث كثف النظام وروسيا غاراتهم على حلب مستهدفة مقومات الصمود وأهمها المستشفيات بعد قطع طريق الكاستيلو، مما مهد إلى إطباق الحصار على حلب لكسب نقاط قوة تفاوضية للنظام وروسيا، ولكن الرد الكبير لفصائل المعارضة المسلحة في حلب وقلب الطاولة على النظام وروسيا، حيث باتت مناطق سيطرة النظام في حلب تقع تحت حصار المعارضة، من الممكن أن يعكس رغبة تركية في استباق زيارة الرئيس التركي إلى روسيا بانتصار على الأرض يعزز قدراتها على المناورة حول الملف السوري، ويشكل ورقة للضغط على موسكو لفرض هدنة في الشمال السوري، وهنا تلتقي الرغبة التركية والأمريكية. كما قد ينعكس هذا التقارب بشكل تخفيض الدعم الروسي لقوات سورية الديمقراطية.

ب‌.    الصعيد السياسي: أثارت المصالحات التركية مع روسيا وإسرائيل وإعلان أنقرة رغبتها في العودة إلى تبني سياسة صفر مشاكل في علاقاتها الخارجية مع مجيئ حكومة بن علي يلدريم، العديد من الشكوك حول إمكانية تغير الموقف التركي من الأزمة السورية، خصوصاً بعد صدور تسريبات –نفتها الحكومة التركية-حول إمكانية القبول ببقاء الأسد لفترة انتقالية،الأمر الذي يشير إلى مرونة تركية اتجاه الرؤية الروسية في حل الأزمة السورية. واليوم وبعد الانقلاب الفاشل والحاجة التركية إلى العلاقة مع موسكو، فهناك احتمال كبير لقيام أنقرة بالضغط على المعارضة السورية للتنازل عن بعض المطالب بهدف الوصول إلى انتقال سياسي.

الخاتمة

كان انقلاب 15 تموز الفاشل نتيجة لتفاعل جملة من العوامل الداخلية والخارجية في تركيا، والتي شكلت للمتربصين بحزب العدالة والتنمية على ما يبدو فرصة للتحرك ضده، ولكن مرونة الحزب في التعاطي مع الملفات الداخلية والعلاقات الخارجية، بالإضافة إلى كم الإنجازات الكبير الذي حققه خلال 14 عام من الحكم ساهم في وأد هذا التحرك، وسيعطي الفرصة للحزب لاستكمال مسيرته في تثبيت قواعد الديمقراطية في تركيا عبر التغييرات البنيوية والتشريعية التي يجريها بهدف طي صفحة تدخل الجيش في الحياة السياسية، والقضاء على ما يسمى بالكيان الموازي؛ الأمر الذي سيدعم الجبهة الداخلية التركية، ويفتح المجال أمام تركيا للتعاطي بأريحية أكبر مع الملفات الإقليمية .

التصنيف أوراق بحثية
الخميس, 22 تشرين1/أكتوير 2015 22:14

إعادة إدارة الفكر الثوري بمنطق دولتي

ملخص: على الرغم مما مرت به الثورة السورية من أطوار وكل ما أفرزته خلالها من هيئات وتجمعات (عسكرية، سياسية، مدنية، دينية) تولت إدارتها باختلاف الآليات والأدوات والشخوص وسطوة متغيرات الظرف الدولي والإقليمي؛ إلا أنها إلى اليوم لم تستطع إنتاج البديل المؤسساتي لنظام الحكم القائم والذي يعتبر الآلية الأكثر إلحاحاً  في هذه المرحلة، والمتمثل بضرورة الانتقال من فكر الثورة إلى منطق الدولة والمبادرة لامتلاك وظائفها وممارساتها، الانتقال الذي لا يرتبط بالضرورة بانتهاء الثورة وإعلان انتصارها، وإنما يمثل واحداً من سبل نجاحها، فهو ارتقاء بالفكر والتوجيه والتنفيذ، أي إعادة إدارة الفكر الثوري بمنطق دولتي.

توطئة

إن الثّورة كمصطلحٍ سياسيّ تعني الخروج عن الوضع الرّاهن وتغييره، باندفاعٍ يحرّكه عدم الرّضا، والتطلّع نحو الأفضل، وذلك لتحقيق مطالب، وتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبية هذه المطالب أو غير المؤمن بها أساساً. والسعي لتنفيذ برنامج من المنجزات الثّوريّة غير الاعتياديّة أساسه الرغبة في إرساء واقع جديد. وبهذا المعنى تقع الثورات في عدة تصنيفات وتختلف عن بعضها بالأدوات، وأبرز تلك الأنواع التي عرفها التاريخ:

1.    الثورة الشعبيّة، مثل: الثّورة الفرنسيّة عام 1789، وثورات أوروبا الشرقيّة عام 1989، وثورة أوكرانيا المعروفة بالثّورة البرتقالية في نوفمبر 2004.

2.    الثورة العسكريّة: وهي الّتي يقودها العسكر على أساس احتجاجات وغضب شعبي ضد نظام الحكم القائم، مثل: الانقلابات الّتي سادت أمريكا اللاتينية في حقبتي الخمسينيّات والستينيّات من القرن العشرين.

3.    حركة المقاومة ضد المستعمر، مثل: الثورة الجزائريّة 1954، والثورة الفيتنامية 1946، والثورة الفلسطينية 1936.

4.    الانقلاب العسكري: وهو قيام أحد العسكريين بالوثوب للسّلطة من خلال قلب نظام الحكم، بغية التمسّك بالسّلطة، والحصول على مكاسب شخصيّة من كرسي الحكم، ولعل آخر تلك الانقلابات في العصر الحالي ما قام به المشير عبد الفتاح السيسي في مصر بعد انقلابه على الرئيس المنتخب محمد مرسي.

وبمحاولة تصنيف الثورة السورية ضمن أحد الأنواع السابقة نجد أنها وبعد خمسة أعوام من انطلاقتها قد مرت بأطوار عدة، لتجمع بين أكثر من نوع، ففي بداية اندلاعها كانت تقع ضمن التصنيف الأول كثورة شعبية ضد نظام الحكم، لتنتقل بحامل العنف المفرط من قبل النظام إلى طور الثورة العسكرية، وساهم في ذلك موجة الانشقاقات العسكرية عن نظام الأسد، فاختلفت أدواتها ومعطياتها كما اختلفت آليات أعدائها. واليوم ومع قيام النظامين الروسي والإيراني والمليشيات (اللبنانية، العراقية، الأفغانية) بالتدخل بشكل مباشر وعلني لدعم نظام الأسد عسكرياً واقتصادياً ولوجستياً على الأرض، تبدأ الثورة السورية بالتبلور باتجاه حركة مقاومة وطنية ضد محتل.

وعلى الرغم مما مرت به الثورة السورية من أطوار وكل ما أفرزته خلالها من هيئات وتجمعات (عسكرية، سياسية، مدنية، دينية) تولت إدارتها باختلاف الآليات والأدوات والشخوص وسطوة متغيرات الظرف الإقليمي والدولي؛ إلا أنها إلى اليوم لم تستطع إنتاج البديل المؤسساتي لنظام الحكم القائم، والذي يعتبر الآلية الأكثر إلحاحاً في هذه المرحلة، والمتمثل اليوم بضرورة الانتقال من فكر الثورة إلى منطق الدولة والمبادرة لامتلاك وظائفها وممارساتها.

فالثورة تمثل حالة من الانتفاضة الشعبية لتحصيل حقوق ومطالب ومحاولة لإرساء مبادئ وثوابت جديدة، إلا أن ترجمة تلك المبادئ والإنذار ببداية تطبيقها يتم عبر: فكر، وإدارة، وتنفيذ، بمنطق ووظائف الدولة، التي يحتكم أداؤها  لمؤسسات ذات هيكلية واضحة تحتوي وحدات عمل منظمة، وتحديد دقيق للمهام والمسؤوليات، استناداً إلى مركزية القرار واتجاه واضح للأوامر الصاعدة والهابطة، إلى جانب آليات محاسبة، أي إن الإدارة بمنطق الدولة هي الترجمة الحقيقية للفكرة ونقلها من الحالة الثورية وما تتضمنه من عبثية على مستوى الإدارة ورومنسية في التعاطي مع الحدث، إلى الحالة الواقعية المنظمة التي يبدأ بها البناء على أساس المنطلقات الفكرية للثورة وعلى أنقاض الهدم الذي خلَفته آلياتها، وهذا لا يعني أن الانتقال إلى منطق الدولة يرتبط بالضرورة بانتهاء الثورة وإعلان انتصارها، وإنما يمثل أحد سبل نجاحها، فهو ارتقاء بمفهوم الفكر والتوجيه والتنفيذ، وإعادة إنتاج وتصدير الفكر الثوري بمنطق دولتي.

بالمقابل فإن هذا الانتقال عملياً يعتبر مهمة دقيقة ومعقدة، تحتاج لمراحل عدة وتستند إلى مجموعة من القواعد والمحددات، والأهم من ذلك تتطلب نقلة نوعية في الفكر والإيمان به قبل استحداث أي آليات لتطبيقه وترجمته، كما تتطلب جهداً وبحثاً وافياً لدراسة ومراجعة المراحل السابقة واستخلاص أهم ما فيها من مكامن قوة ومثالب ضعف، للشروع بمرحلة جديدة ومواجهة ما لا يقل صعوبة عن الثورة، والمتمثل ببناء المؤسسات والمحافظة على روح الفكرة الثورية مع اختلاف آليات التنفيذ.

وإذ يستتبع هذا الانتقال نظرياً التركيز على بناء مؤسسات دولة وإعادة تأهيل الكوادر واستقطاب أخرى جديدة؛ فإن هناك ما يعد أهم بالنسبة للثورة السورية وظيفياً أثناء البحث في هذا الانتقال. وبناء عليه تقدم هذه الورقة -ملامح لتصور نظري تأسيسي-حول ضرورات وأولويات هذا الانتقال بناء على خصوصية الثورة السورية، لتترك للباحثين هامشاً واسعاً في دراسة وتفصيل الآليات بما يخدم الفكرة بشكل أوسع وأشمل وأدق، وينقلها بمحددات واضحة من الجانب الفكري التنظيري إلى المجال العملي التطبيقي. وعليه تبحث هذه الورقة في خمس نقاط أساسية كأولويات وضرورات في الانتقال بفكر الثورة السورية إلى ممارسات وآليات ووظائف الدولة.

أولاً: رجالات الدولة

وإن كان الانتقال من الحالة الثورية إلى فكر الدولة يحتاج إلى مجموعة خطوات وآليات، فإن إيجاد رجالات دولة حقيقيين في مختلف المجالات، يعون أهمية وخطورة المرحلة وحجم التحديات والمسؤوليات التي ستفرزها، هو أساس هذا الانتقال والأرضية والحامل الأهم. إذ إن هناك فارقاً كبيراً جداً بين الثائر ورجل الدولة، الثائر الذي تحكمه أيديولوجيا الثورة، ورجل الدولة الذي لابد وأن يحكمه الواقع ويتحلى بقدرة قراءته والاشتقاق منه والتحرك ببراغماتية عالية عبر هوامشه المتاحة.

لذلك لابد كأساس في هذا الانتقال من مراجعات حقيقية لقيادات الثورة السورية وممثليها وتحديداً من الطيف السياسي، والتقييم بشكل حقيقي إن كانوا يستطيعون تحمل هذه المسؤولية أو إن كانوا أصلاً مهيئين لقيادة مرحلة الدولة، مقابل البحث بشكل جدي عن قيادات قادرة على استيعاب المرحلة، مع التركيز على الفارق بين الثائر ورجل الدولة، وإدراك حقيقة أن من فشل في قيادة العمل الثوري أساساً وهم كثر في صفوف الثورة السورية لن ينجح في قيادة مرحلة الانتقال إلى ممارسات الدولة سواء على المستوى الفكري أو الوظيفي.

وأثناء البحث والإعداد لتلك القيادات لابد من مراعاة مجموعة عوامل لا يمكن تجاوزها نتيجة خصوصية الوضع السوري، ولعل أبرزها:

أ‌-    كف البحث عن القائد الرمز، والذي يبدو أنه باء بالفشل بعد خمسة أعوام، نتيجة أسباب ذاتية وموضوعية، حيث إن القيادة بهذا المعنى الكاريزمي في جزء منها فطرة، وبجزء آخر صناعة، وإلى الآن لم يظهر من يمتلك تلك الفطرة في المعارضة السياسية، كما لم تتوفر المؤسسة التي تتولى تلك الصناعة. لذلك لابد من التوقف عن ارتقاب خروج هذا القائد، والتوجه لبناء المؤسسات التي تمثل التجربة الأقرب للثورة السورية والأكثر واقعية وهي القادرة على إنتاج قادة والحفاظ على عامل الديمومة وقطع الطريق بوجه أي استئثار بالسلطة وإعادة إنتاج دكتاتوريات.

ب‌-    إن إغفال مفهوم القائد الرمز لا يعني إنهاء مفهوم القيادة، والذي يؤمّن بالدرجة الأولى وحدة واتساق القرار، إلا أنه وفي حالة الثورة السورية يمكن اتباع نظرية الفارابي في اختيار قائد المدينة الفاضلة، حيث أوضح الفارابي خلال محاولاته لإضفاء الواقعية على نظرية أفلاطون في المدينة الفاضلة، وبالأخص عبر تحديد مجموعة الصفات لقائد هذه المدينة؛ أنه وفي حال لم تتوافر تلك المحددات في شخص واحد فيمكن اللجوء لأكثر من شخص وقد يصلون إلى ستة رجال يتقاسمون تلك الصفات والمهام( )، أي إنه يشير إلى مفهوم التكامل بما يقترب من مجلس حكماء، وبالتالي نواة لمؤسسة.

ت‌-    إن من أهم شروط ومواصفات أولئك القادة المرتقبين تشربهم وإيمانهم بالفكر المؤسساتي، وليس الفكر الوصولي السلطوي، ما يجعل معيار الكفاءة والأداء هو الأساس في اختيارهم وليس أداءهم الثوري والنضالي أو عدد السنوات التي قضوها في سجون الأسد، وليس المقصود هنا عدم تحليهم بفكر ثوري بقدر ما يعني الإيمان بأن ترجمة هذا الفكر لا سبيل لها إلا عبر العمل المؤسساتي.

ث‌-    ضرورة ابتعاد تلك الشخصيات عن أي أيديولوجيا حزبية، تلك التي تحكم على المسارات وفق أحكام نهائية وقوالب جاهزة، في حين لابد أن تتمتع تلك القيادات بهامش حر دون أي قيود أيديولوجية، وذلك لقراءة الواقع والالتزام بمعطياته والاشتقاق منه، مع الحفاظ على مؤسسات الثورة السورية كبوصلة وعامل رقابة على عمل تلك القيادات. 

بالمقابل فإن تقديم قيادات لبناء مؤسسات دولة تمثل الثورة السورية، لن يمر بهذه السهولة في الوقت الذي أنتجت فيه الثورة على مر الأعوام الفائتة مجموعة كبيرة من القادة الثوريين. كما أن العلاقة بين الطرفين ستكون حذرة ولو جمعهم الهدف، وذلك بحكم اختلاف آليات التنفيذ، لذلك فإن وعي الجانب الثوري بمسؤولية هذا الانتقال وما يترتب عليه، مسألة لا تقل أهمية عن خلق قيادات.

ثانياً: الوعي الثوري بضرورة الانتقال

وإذ يتطلب نقل الدفة الثورية باتجاه العمل المؤسساتي وجود رجالات دولة حقيقيين، إلا أنه وفي الوقت نفسه يحتاج ما لا يقل أهمية عن ذلك، والذي قد يعتبر الضمان الأساسي لهذ الانتقال؛ وهو الوعي والمسؤولية من الجانب الثوري(العسكري) وإدراكه لحساسية المرحلة وعدم الاستئثار بأي آلية من شأنها أن تساعد الكادر الجديد، وذلك لن يتم إلا بإحصاء مجموع الأخطاء التي ارتكبت في الحالة الثورية والإيمان بالقدرة على تجاوزها عبر فكر ومؤسسات الدولة. أي أنها أشبه بمرحلة لإعادة توزيع السلطات، تقوم خلالها الجهات الثورية وتحديداً العسكرية بتسليم مجموع المسؤوليات المتعددة التي استأثرت بها خلال سنوات الثورة سواء لعدم ثقتها بالجانب الإداري السياسي أو لطموحات في السيطرة أو نتيجة غياب البديل المؤسساتي، وإيكال تلك المهام والمسؤوليات إلى كوادر اختصاصية والعودة إلى مربع مهامها الأساسية (الجبهة) وفصل السلطات مع توحيد الهدف.

إن وعي الجانب الثوري (العسكري) وإيمانه بالانتقال إلى ممارسات ووظائف الدولة وضرورة استحداث كادر جديد لهذه المهمة، لا يعني أبداً تراجعاً في أداء الجهات الثورية أو تنازلاً، وإنما يستدعي إيماناً بأن هذه العملية خطوة إلى الأمام في طريق نجاح الثورة، وهذا ما أدركه العديد من القادة الثوريين على مر التاريخ، سواء أثناء استمرار الثورة أو بعد نجاحها، ففي عام 1980 قام الجنرال الفيتنامي، فو نجوين جياب،-من أهم قادة الثورة الفيتنامية-، بالتنازل عن السلطة الثورية لصالح الدولة، موضحاً أن ما قاده هو مرحلة ثورة واليوم لابد من البدء ببناء الدولة، والتي تتطلب دماء مختلفة ونقل السلطة الثورية إلى قيادة جديدة.

وفي زمن الربيع العربي يعد رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي السابق، مصطفى عبد الجليل، مثالاً جلياً لضرورة وعي الجانب الثوري وإدراكه لضرورة بناء مؤسسات الدولة وبالتالي نقل السلطة، والذي عبر عنه عبد الجليل بتنازله عن قيادة المجلس الوطني الانتقالي. مقابل كفاءة الطرف الذي سيستلم زمام القيادة من جهة أخرى، حيث ما تبع قرار عبد الجليل من فشل في الإدارة الليبية لا يتحمل هو مسؤوليته، وإنما من آلت إليهم تلك السلطة ولم يكونوا أهلاً لها.  أي أن هذا الانتقال في السلطات سيمثل اختباراً وظيفياً للطرفين، للجهات الثورية من جهة، حيث سيعتبر امتحاناً حتى لمستوى الوطنية الذي يقتضي التشارك والتنسيق لبلوغ هدف هذه الثورة، في حين سيشكل اختباراً لأهلية وأداء الجهة المكلفة وقدرتها على بناء ثقة مع الهيئات الثورية واستثمار وتوظيف هذ الثقة بالشكل الصحيح.

بالمقابل فإن الجانب السياسي المكلف بإدارة وتنظيم هذا الانتقال يستطيع أن يلجأ إلى مجموعة من الخطوات التي قد تساعده في إقناع الجهات الثورية العسكرية على الدخول في العملية المؤسساتية المنظمة، ولعل أبرزها:

أ‌-    إشراك المؤسسة العسكرية الثورية في هذا الانتقال، والتركيز على أهم الفاعلين على الأرض.

ب‌-    تقديم الضمانات الكافية لتبديد هواجس الطرف العسكري من الإدارة الجديدة، وإبرام مذكرات تنسيق وتفاهم.

ت‌-    استثمار الهيئات والفعاليات الدينية في توجيه خطاب داخلي من شأنه الضغط على الجانب العسكري للدخول بهذا الانتقال، بحكم أن تلك المؤسسات تحوز على ثقة العسكر ذي الغالبية الإسلامية أكثر من المؤسسات السياسية.

ثالثاً: كوادر ومؤسسات الدولة

في عام 1988 أعلن ياسر عرفات من الجزائر قيام الدولة الفلسطينية على الورق، فتطلبت جهداً كبيراً للبدء ببناء مؤسساتها من الصفر، والتي أفرغت من مضمونها فيما بعد عبر مؤتمر أوسلو، ولكن سورية اليوم ليست دولة من العدم حيث لايزال هناك مجال في استثمار بقايا بُنى مؤسسات الدولة وكوادرها، تلك التي لا يمكن للثورة أن تبدأ بامتلاك وظائف الدولة وممارساتها دون الاعتماد على بعض مؤسسات وكوادر الحقبة القديمة.

وفي حالة الثورة السورية فإن عنصر الكوادر الاختصاصية متوافر، فليس المقصود هنا الاعتماد على موالي النظام، وإنما الاعتماد على كوادر الدولة ذات الخبرة التي انشقت عنه في بداية الثورة وتم تهميشها، بمختلف الاختصاصات (الاقتصاد، الأمن والدفاع، السياسة، القضاء، العلوم، الفنون)، حيث أن استثمار هذه الكوادر خلال هذه المرحلة، إلى جانب الكوادر المؤهلة في صفوف المعارضة يعتبر ضرورة ملحة لا يمكن تجاوزها للعبور إلى فكر الدولة وممارساتها، وذلك لمجموعة أسباب، أبرزها:

أ‌-    إن مرحلة الإعداد لامتلاك وظائف الدولة وممارساتها يحتاج إلى أصحاب اختصاص وليس بنادق، أي مجموعات وأفراد تكنوقراط، يتم تحويلهم إلى مكامن قوة واستثمارهم في مختلف مراحل هذا الانتقال الذي يبدأ تأهيلياً ثم ينتقل وظيفياً. 

ب‌-    هؤلاء العناصر المؤجلة تمتلك من الفكر الثوري الحد الأدنى الذي دفعها للانشقاق عن نظام الأسد، وبالتالي فإن الأرضية الوطنية والانتماء الثوري متوافران بالحد الأدنى، ما سيشكل مزيجاً مهماً بين الاختصاص والفكر الثوري، والذي سيشكل بدوره بوصلة لعمل تلك المؤسسات وعامل أمان.

ت‌-    إن تدعيم أجسام المعارضة بهذه الكوادر يعني تقديمها ضمن أي حل سياسي مرتقب، وبالتالي المشاركة في إدارة وبناء مؤسسات الدولة بفكر ثوري، حيث أن خلاف ذلك يعني اعتماد المعارضة السورية على مؤسسات الدولة التابعة للنظام بما فيها من كوادر، وذلك يعني على المدى البعيد احتمالية إنتاج ثورة مضادة تقودها أركان الدولة القديمة، كما حدث في ثورتي مصر وتونس التي أطاحتا برأس النظام وأبقيتا على مؤسسات الدولة التابعة له، والتي أنجبت فيما بعد موجة الثورة المضادة.

ث‌-    إن تشكيل مؤسسات الدولة المرتقبة بناء على كوادر اختصاصية وطنية، ليس من شأنه سحب وظائف الدولة من نظام الأسد وتقليصه فقط، وإنما أيضاً يعد سحب سلطات من جهات أخرى على المدى البعيد، تلك السلطات التي أورثتها سطوة وقوة السلاح لبعض العسكر على الأرض، والتي تحتاجها المؤسسات الجديدة لدعم وظائفها كدولة في المناطق المحررة، حيث أن تجربة المؤسسات ستساهم في تعزيز الحكم المدني (اللاعسكري) بشكل أو بآخر، وبالتالي تقويض سلطات العسكر تدريجياً.

ج‌-    عبر تلك المؤسسات المرتقبة وما تحتويه من كوادر مختصة سيتم إعداد وتنظيم خريطة واضحة للملفات العالقة التي سيتم التفاوض عليها ضمن أي تسوية، (ملف التنمية، إعادة الإعمار، الجيش، الأمن، اللاجئين، مكافحة الإرهاب) وغيرها من الملفات التي ستشكل بمجملها برنامجاً واضحاً لطالما افتقدته المعارضة السورية، وبالتالي البدء بتقديم إجابة عملية وعلمية لسؤال ماذا بعد الأسد.

ح‌-    إن عدم التحرك بشكل سريع لتجميع هذه الكوادر واستثمارها وتأهيل أخرى واستقطاب غيرها وفق مؤسسات، ينذر بخطورة كبيرة، حيث هناك من لايزال يمتلك هذه الوظائف مثل نظام الأسد، الذي مازال بعرف بعض المنظمات والجهات الدولية الرسمية يمثل الدولة ومؤسساتها، مقابل من يسعى اليوم إلى تحصيلها من أجسام وفصائل عسكرية والتي باتت تعي جيداً بعد خمسة أعوام من الصراع المسلح أهمية امتلاك هذه الوظائف، فكان أن بدأت بالإعداد لذلك عبر تأهيل كوادرها والسيطرة على مفاصل مهمة (القضاء، التعليم، الخدمات)، بل وبعضها انفرد في المفاوضات والعلاقات الخارجية، ما ينذر أنه وفي حال التراخي من جانب المعارضة  السياسية في البحث عن سبل وآليات امتلاك زمام المبادرة لهذا الانتقال، سيؤدي ذلك لتشكيل مجموعة دول داخل الدولة، ما سيعقد الوضع بالنسبة للمعارضة السورية أكثر. 
إن اللحظة التي يتم البدء فيها بإعداد وتأهيل تلك الكوادر ضمن مجموعات بمختلف الاختصاصات تعمل على دراسات لتوصيف الواقع ثم الانطلاق برسم سياسات ومخططات واضحة للتنفيذ ضمن مؤسسات قائمة على مبدأ فصل السلطات، هو بداية امتلاك لجزء أساس من آليات الدولة، كما أن هذا الإعداد ليس بالضرورة يتناقض مع استمرار العمل المسلح ضد نظام الأسد، وإنما يستمر بشكل مواز له إلى أن يشمله.

رابعاً: دمج الثورة بالدولة

إن تحقيق الانتقال إلى وظائف وممارسات الدولة لا يعني أبداً إلغاء فكرة الثورة أو تهميشها أو التنازل عن أهدافها، فالثورة بمعناها الوظيفي حالة مستمرة ومتجددة، وإنما المقصود به تشذيب الفكرة الثورية وتدعيمها عبر دمجها بمؤسسات الدولة وتحويل الثورة إلى فكرة وبوصلة، أي الإبقاء على الحالة الثورية كموجه للعمل وتحويل الآليات إلى صيغة مؤسساتية تؤدي وظائف الدولة.

من ناحية أخرى فإن دمج الثورة كفكرة  بممارسات ووظائف الدولة، قد يقود إلى نتائج مهمة جداً على المدى البعيد وتحديداً في الحالة السورية، لعل أبرزها؛ خلق حالة الانتماء المفقود على مدى أربعين عاماً،  حيث أن أحداً لا يستطيع الإنكار أن فكرة الانتماء الوطني لسورية بالعموم تراجعت بدرجة كبيرة منذ انقلاب 1963، وذلك بسبب ممارسات الأسد الأب والابن في اختزال مفاهيم الأرض والوطن والهوية بالحزب الواحد والعائلة الواحدة، وهذا ما ساهم بانحسار حالة الانتماء الوطني، فحتى عندما قامت الثورة السورية فإن ما حملته من انتماء هو للدم الذي أريق، فانتفضت محافظة تلو الأخرى نخوة واستجابة للدم.

وفي ظل غياب هذه الحالة والتي لابد منها لاستمرار أي دولة بالمعنى (الفكري، العاطفي) فلابد من خلق انتماء للمولود الجديد المتمثل بالثورة، تلك التي بدأ الكثير من السوريين ينفر عنها بسبب نتائجها وتداعياتها المؤقتة، دون أن يفرق أن تلك الآثار، إنما هي صناعة الآليات وليس الفكرة، لذلك فإن دمج الثورة كفكرة بمؤسسات الدولة، سيعيد للفكرة الثورية أصالتها وبريقها، ويبدأ بناء عليها وعبر مؤسسات بخلق حالة انتماء للفكرة ذاتها، والتي ستسهم على المدى البعيد بخلق فكر جمعي لطالما افتقدته الثورة السورية منذ بدايتها، هذا الفكر الذي  سيكون أشمل وأعمق من مجرد أطروحة إسقاط النظام.

خامساً: العزل والاحتواء

إن نظرة  الطيف السياسي اليميني في العالم بالعموم رافضة للثورات وتحديداً بالمعنى والشكل الذي يشجعه اليسار، وذلك بناء على ما يتبنوه من نظرية (الهندسة الاجتماعية) والتغيير التدريجي في المجتمعات، بعيداً عما يعتبرونه آليات عنفية تسوقها الثورات، والتي ينظرون إليها كتغير جذري وغير طبيعي وصحي في المجتمعات، وتهديم للأساسات من جذرها وعزل أخرى بشكل نهائي، وبناء عليه فإنهم يتهمون الثورة الفرنسية بالفشل، والتي سحقت الملكية بنقلة غير طبيعية إلى الاشتراكية كما انتقلت بفرنسا من دولة كاثوليكية إلى إلحاد، وكذلك أطردوا هذا الوصف على (ماو) الذي نقل المجتمع الصيني عبر ثورته من مجتمع زراعي إلى اشتراكي صناعي، التجربة التي كلفت أرواح الملايين من الصينيين بسبب فشلها، وكذلك الثورة البلشفية التي حملت المجتمع الروسي من ملكية قيصرية إلى اشتراكية، فأدت إلى أزمات اقتصادية خانقة أودت إلى مجاعة.

وقد توضحت تلك النظرة بشكل أدق عبر كتابات أحد أكبر منظري اليمين، (كارل بوبر) 1950 في كتابه الذي لخص تلك النظرة بتحليل نقدي لليسار تحت عنوان the poverty of Historicism)) أو (فقر الحتمية التاريخية)، حيث رأى بوبر أن الثورات عندما تنشب فإنها تحمل ما سماه (Blue print) أو النموذج الجاهز مسبق الصنع والبعيد عن الواقع، وتسعى إلى تقديسه وعزل وسحق مخالفيه، دون مراعاة الواقع، ما يسبب نقلات خطيرة وغير صحية اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وإذ تبدو نظرة اليمين متطرفة وغير منصفة بمجملها للثورات؛ إلا أنها قد تكون مصيبة بعض الشيء بإشكالية العزل، المطب الذي تقع فيه أغلب الثورات، أو حركات التغيير السياسي، حيث أن مقتل الانتقال العراقي بعد الغزو الأمريكي 2003 كان قانون اجتثاث البعث، فما انتقلت به الحكومة العراقية لم يكن منطق دولة بقدر ما كان فكراً مليشيوياً دفع باتجاه عزل سياسي للبعث الذي كان يمثل الدولة بكل كوادرها وأركانها، ما أدى لإخفاق (سياسي، عسكري، أمني، إداري) لايزال العراق يعاني من نتائجه إلى الآن، لذلك فإن الانتقال إلى إدارة الثورة بمنطق وآليات الدولة يستوجب الابتعاد عن أي فكرة للعزل السياسي، والتعامل بفكر الدولة في الاحتواء على مستوى الخطاب (سياسي، ديني، مجتمعي) والوظائف والممارسات الفعلية.

خلاصة

إن إحداث هذا الانتقال في إدارة وتوجيه الثورة السورية وفق فكر ووظائف وآليات دولة، لا يعتبر أبداً ترفاً سياسياً بعد خمسة أعوام من العمل الثوري، وما أنتج من تجارب لابد من الوقوف عليها وأخذ الدروس منها، واستنباط خطط استراتيجية بعيدة عن المرحلية وردّات الفعل، بناءً على قراءة المحددات الأمنية المحلية ومراعاة عدم تعارضها مع النظام الأمني الإقليمي والدولي.

إن مسؤولية هذا الانتقال إنما تقع على عاتق المعارضة السورية ككل بشقيها السياسي والعسكري؛ فعلى الصعيد السياسي لابد من اختيار صفوة الساسة من صفوف المعارضة السورية، واستبعاد كل من افتقدوا الأهلية السياسية، ولم يرتقِ أداؤهم لحجم المسؤولية، كما لم يتكيف فكرهم السياسي وضرورات المرحلة. مقابل استقطاب دماء جديدة وكوادر شبابية، استكمالاً لهذا لانتقال النوعي، وذلك لا سبيل له إلا عبر حركة انقلابية بنفس ثوري، سريعة وجريئة وحاسمة داخل جسم المعارضة السياسية.

أما على الصعيد العسكري، فلابد وأن يدرك القادة العسكريون بأن الانتقال إلى منطق الدولة وممارساتها ووظائفها، ما هو إلا تنظيم للعمل المسلح وحصد نتائج فعلية له واستثمارها بالشكل الأمثل، فليس بالضرورة أن يحدث التقدم العسكري فرقاً سياسياً في كل الأحيان، بل قد يكون العكس، حيث أن الفترة الحالية من عمر الثورة السورية تعد الأكثر انتكاسة للنظام على الصعيد العسكري وخسارة مناطق نفوذ لصالح مختلف الأطراف، إلا أنه وبالوقت نفسه  يحقق تقدماً سياسياً وتموضعاً دولياً وإقليمياً أفضل من المعارضة، وإن كان ذلك يعزى لشيء فإنما يعزى لما يزال يمتلكه الأسد من وظائف الدولة، والتي يبتز عبرها المجتمع الدولي إلى اليوم.

إن أساس هذا الانتقال هو الإيمان بالعمل المؤسساتي واليقين أنه الطريق الأكثر نجاعة لإحداث فرق في مسار الثورة السورية ضمن هذه المرحلة الحرجة، والانطلاق من حقيقة أن الثورة هي جزء من التغير وليست هي التغيير، وإنما هناك آليات ومراحل أخرى لا تكتمل مسيرة التغيير دونها، كما لا تقل صعوبة عن الثورة ذاتها.

 

([1]) للاطلاع على تلك الصفات، راجع كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها) للفارابي، ص 32-35.

التصنيف مقالات الرأي