مقالات

ملخص: على الرغم مما مرت به الثورة السورية من أطوار وكل ما أفرزته خلالها من هيئات وتجمعات (عسكرية، سياسية، مدنية، دينية) تولت إدارتها باختلاف الآليات والأدوات والشخوص وسطوة متغيرات الظرف الدولي والإقليمي؛ إلا أنها إلى اليوم لم تستطع إنتاج البديل المؤسساتي لنظام الحكم القائم والذي يعتبر الآلية الأكثر إلحاحاً  في هذه المرحلة، والمتمثل بضرورة الانتقال من فكر الثورة إلى منطق الدولة والمبادرة لامتلاك وظائفها وممارساتها، الانتقال الذي لا يرتبط بالضرورة بانتهاء الثورة وإعلان انتصارها، وإنما يمثل واحداً من سبل نجاحها، فهو ارتقاء بالفكر والتوجيه والتنفيذ، أي إعادة إدارة الفكر الثوري بمنطق دولتي.

توطئة

إن الثّورة كمصطلحٍ سياسيّ تعني الخروج عن الوضع الرّاهن وتغييره، باندفاعٍ يحرّكه عدم الرّضا، والتطلّع نحو الأفضل، وذلك لتحقيق مطالب، وتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبية هذه المطالب أو غير المؤمن بها أساساً. والسعي لتنفيذ برنامج من المنجزات الثّوريّة غير الاعتياديّة أساسه الرغبة في إرساء واقع جديد. وبهذا المعنى تقع الثورات في عدة تصنيفات وتختلف عن بعضها بالأدوات، وأبرز تلك الأنواع التي عرفها التاريخ:

1.    الثورة الشعبيّة، مثل: الثّورة الفرنسيّة عام 1789، وثورات أوروبا الشرقيّة عام 1989، وثورة أوكرانيا المعروفة بالثّورة البرتقالية في نوفمبر 2004.

2.    الثورة العسكريّة: وهي الّتي يقودها العسكر على أساس احتجاجات وغضب شعبي ضد نظام الحكم القائم، مثل: الانقلابات الّتي سادت أمريكا اللاتينية في حقبتي الخمسينيّات والستينيّات من القرن العشرين.

3.    حركة المقاومة ضد المستعمر، مثل: الثورة الجزائريّة 1954، والثورة الفيتنامية 1946، والثورة الفلسطينية 1936.

4.    الانقلاب العسكري: وهو قيام أحد العسكريين بالوثوب للسّلطة من خلال قلب نظام الحكم، بغية التمسّك بالسّلطة، والحصول على مكاسب شخصيّة من كرسي الحكم، ولعل آخر تلك الانقلابات في العصر الحالي ما قام به المشير عبد الفتاح السيسي في مصر بعد انقلابه على الرئيس المنتخب محمد مرسي.

وبمحاولة تصنيف الثورة السورية ضمن أحد الأنواع السابقة نجد أنها وبعد خمسة أعوام من انطلاقتها قد مرت بأطوار عدة، لتجمع بين أكثر من نوع، ففي بداية اندلاعها كانت تقع ضمن التصنيف الأول كثورة شعبية ضد نظام الحكم، لتنتقل بحامل العنف المفرط من قبل النظام إلى طور الثورة العسكرية، وساهم في ذلك موجة الانشقاقات العسكرية عن نظام الأسد، فاختلفت أدواتها ومعطياتها كما اختلفت آليات أعدائها. واليوم ومع قيام النظامين الروسي والإيراني والمليشيات (اللبنانية، العراقية، الأفغانية) بالتدخل بشكل مباشر وعلني لدعم نظام الأسد عسكرياً واقتصادياً ولوجستياً على الأرض، تبدأ الثورة السورية بالتبلور باتجاه حركة مقاومة وطنية ضد محتل.

وعلى الرغم مما مرت به الثورة السورية من أطوار وكل ما أفرزته خلالها من هيئات وتجمعات (عسكرية، سياسية، مدنية، دينية) تولت إدارتها باختلاف الآليات والأدوات والشخوص وسطوة متغيرات الظرف الإقليمي والدولي؛ إلا أنها إلى اليوم لم تستطع إنتاج البديل المؤسساتي لنظام الحكم القائم، والذي يعتبر الآلية الأكثر إلحاحاً في هذه المرحلة، والمتمثل اليوم بضرورة الانتقال من فكر الثورة إلى منطق الدولة والمبادرة لامتلاك وظائفها وممارساتها.

فالثورة تمثل حالة من الانتفاضة الشعبية لتحصيل حقوق ومطالب ومحاولة لإرساء مبادئ وثوابت جديدة، إلا أن ترجمة تلك المبادئ والإنذار ببداية تطبيقها يتم عبر: فكر، وإدارة، وتنفيذ، بمنطق ووظائف الدولة، التي يحتكم أداؤها  لمؤسسات ذات هيكلية واضحة تحتوي وحدات عمل منظمة، وتحديد دقيق للمهام والمسؤوليات، استناداً إلى مركزية القرار واتجاه واضح للأوامر الصاعدة والهابطة، إلى جانب آليات محاسبة، أي إن الإدارة بمنطق الدولة هي الترجمة الحقيقية للفكرة ونقلها من الحالة الثورية وما تتضمنه من عبثية على مستوى الإدارة ورومنسية في التعاطي مع الحدث، إلى الحالة الواقعية المنظمة التي يبدأ بها البناء على أساس المنطلقات الفكرية للثورة وعلى أنقاض الهدم الذي خلَفته آلياتها، وهذا لا يعني أن الانتقال إلى منطق الدولة يرتبط بالضرورة بانتهاء الثورة وإعلان انتصارها، وإنما يمثل أحد سبل نجاحها، فهو ارتقاء بمفهوم الفكر والتوجيه والتنفيذ، وإعادة إنتاج وتصدير الفكر الثوري بمنطق دولتي.

بالمقابل فإن هذا الانتقال عملياً يعتبر مهمة دقيقة ومعقدة، تحتاج لمراحل عدة وتستند إلى مجموعة من القواعد والمحددات، والأهم من ذلك تتطلب نقلة نوعية في الفكر والإيمان به قبل استحداث أي آليات لتطبيقه وترجمته، كما تتطلب جهداً وبحثاً وافياً لدراسة ومراجعة المراحل السابقة واستخلاص أهم ما فيها من مكامن قوة ومثالب ضعف، للشروع بمرحلة جديدة ومواجهة ما لا يقل صعوبة عن الثورة، والمتمثل ببناء المؤسسات والمحافظة على روح الفكرة الثورية مع اختلاف آليات التنفيذ.

وإذ يستتبع هذا الانتقال نظرياً التركيز على بناء مؤسسات دولة وإعادة تأهيل الكوادر واستقطاب أخرى جديدة؛ فإن هناك ما يعد أهم بالنسبة للثورة السورية وظيفياً أثناء البحث في هذا الانتقال. وبناء عليه تقدم هذه الورقة -ملامح لتصور نظري تأسيسي-حول ضرورات وأولويات هذا الانتقال بناء على خصوصية الثورة السورية، لتترك للباحثين هامشاً واسعاً في دراسة وتفصيل الآليات بما يخدم الفكرة بشكل أوسع وأشمل وأدق، وينقلها بمحددات واضحة من الجانب الفكري التنظيري إلى المجال العملي التطبيقي. وعليه تبحث هذه الورقة في خمس نقاط أساسية كأولويات وضرورات في الانتقال بفكر الثورة السورية إلى ممارسات وآليات ووظائف الدولة.

أولاً: رجالات الدولة

وإن كان الانتقال من الحالة الثورية إلى فكر الدولة يحتاج إلى مجموعة خطوات وآليات، فإن إيجاد رجالات دولة حقيقيين في مختلف المجالات، يعون أهمية وخطورة المرحلة وحجم التحديات والمسؤوليات التي ستفرزها، هو أساس هذا الانتقال والأرضية والحامل الأهم. إذ إن هناك فارقاً كبيراً جداً بين الثائر ورجل الدولة، الثائر الذي تحكمه أيديولوجيا الثورة، ورجل الدولة الذي لابد وأن يحكمه الواقع ويتحلى بقدرة قراءته والاشتقاق منه والتحرك ببراغماتية عالية عبر هوامشه المتاحة.

لذلك لابد كأساس في هذا الانتقال من مراجعات حقيقية لقيادات الثورة السورية وممثليها وتحديداً من الطيف السياسي، والتقييم بشكل حقيقي إن كانوا يستطيعون تحمل هذه المسؤولية أو إن كانوا أصلاً مهيئين لقيادة مرحلة الدولة، مقابل البحث بشكل جدي عن قيادات قادرة على استيعاب المرحلة، مع التركيز على الفارق بين الثائر ورجل الدولة، وإدراك حقيقة أن من فشل في قيادة العمل الثوري أساساً وهم كثر في صفوف الثورة السورية لن ينجح في قيادة مرحلة الانتقال إلى ممارسات الدولة سواء على المستوى الفكري أو الوظيفي.

وأثناء البحث والإعداد لتلك القيادات لابد من مراعاة مجموعة عوامل لا يمكن تجاوزها نتيجة خصوصية الوضع السوري، ولعل أبرزها:

أ‌-    كف البحث عن القائد الرمز، والذي يبدو أنه باء بالفشل بعد خمسة أعوام، نتيجة أسباب ذاتية وموضوعية، حيث إن القيادة بهذا المعنى الكاريزمي في جزء منها فطرة، وبجزء آخر صناعة، وإلى الآن لم يظهر من يمتلك تلك الفطرة في المعارضة السياسية، كما لم تتوفر المؤسسة التي تتولى تلك الصناعة. لذلك لابد من التوقف عن ارتقاب خروج هذا القائد، والتوجه لبناء المؤسسات التي تمثل التجربة الأقرب للثورة السورية والأكثر واقعية وهي القادرة على إنتاج قادة والحفاظ على عامل الديمومة وقطع الطريق بوجه أي استئثار بالسلطة وإعادة إنتاج دكتاتوريات.

ب‌-    إن إغفال مفهوم القائد الرمز لا يعني إنهاء مفهوم القيادة، والذي يؤمّن بالدرجة الأولى وحدة واتساق القرار، إلا أنه وفي حالة الثورة السورية يمكن اتباع نظرية الفارابي في اختيار قائد المدينة الفاضلة، حيث أوضح الفارابي خلال محاولاته لإضفاء الواقعية على نظرية أفلاطون في المدينة الفاضلة، وبالأخص عبر تحديد مجموعة الصفات لقائد هذه المدينة؛ أنه وفي حال لم تتوافر تلك المحددات في شخص واحد فيمكن اللجوء لأكثر من شخص وقد يصلون إلى ستة رجال يتقاسمون تلك الصفات والمهام( )، أي إنه يشير إلى مفهوم التكامل بما يقترب من مجلس حكماء، وبالتالي نواة لمؤسسة.

ت‌-    إن من أهم شروط ومواصفات أولئك القادة المرتقبين تشربهم وإيمانهم بالفكر المؤسساتي، وليس الفكر الوصولي السلطوي، ما يجعل معيار الكفاءة والأداء هو الأساس في اختيارهم وليس أداءهم الثوري والنضالي أو عدد السنوات التي قضوها في سجون الأسد، وليس المقصود هنا عدم تحليهم بفكر ثوري بقدر ما يعني الإيمان بأن ترجمة هذا الفكر لا سبيل لها إلا عبر العمل المؤسساتي.

ث‌-    ضرورة ابتعاد تلك الشخصيات عن أي أيديولوجيا حزبية، تلك التي تحكم على المسارات وفق أحكام نهائية وقوالب جاهزة، في حين لابد أن تتمتع تلك القيادات بهامش حر دون أي قيود أيديولوجية، وذلك لقراءة الواقع والالتزام بمعطياته والاشتقاق منه، مع الحفاظ على مؤسسات الثورة السورية كبوصلة وعامل رقابة على عمل تلك القيادات. 

بالمقابل فإن تقديم قيادات لبناء مؤسسات دولة تمثل الثورة السورية، لن يمر بهذه السهولة في الوقت الذي أنتجت فيه الثورة على مر الأعوام الفائتة مجموعة كبيرة من القادة الثوريين. كما أن العلاقة بين الطرفين ستكون حذرة ولو جمعهم الهدف، وذلك بحكم اختلاف آليات التنفيذ، لذلك فإن وعي الجانب الثوري بمسؤولية هذا الانتقال وما يترتب عليه، مسألة لا تقل أهمية عن خلق قيادات.

ثانياً: الوعي الثوري بضرورة الانتقال

وإذ يتطلب نقل الدفة الثورية باتجاه العمل المؤسساتي وجود رجالات دولة حقيقيين، إلا أنه وفي الوقت نفسه يحتاج ما لا يقل أهمية عن ذلك، والذي قد يعتبر الضمان الأساسي لهذ الانتقال؛ وهو الوعي والمسؤولية من الجانب الثوري(العسكري) وإدراكه لحساسية المرحلة وعدم الاستئثار بأي آلية من شأنها أن تساعد الكادر الجديد، وذلك لن يتم إلا بإحصاء مجموع الأخطاء التي ارتكبت في الحالة الثورية والإيمان بالقدرة على تجاوزها عبر فكر ومؤسسات الدولة. أي أنها أشبه بمرحلة لإعادة توزيع السلطات، تقوم خلالها الجهات الثورية وتحديداً العسكرية بتسليم مجموع المسؤوليات المتعددة التي استأثرت بها خلال سنوات الثورة سواء لعدم ثقتها بالجانب الإداري السياسي أو لطموحات في السيطرة أو نتيجة غياب البديل المؤسساتي، وإيكال تلك المهام والمسؤوليات إلى كوادر اختصاصية والعودة إلى مربع مهامها الأساسية (الجبهة) وفصل السلطات مع توحيد الهدف.

إن وعي الجانب الثوري (العسكري) وإيمانه بالانتقال إلى ممارسات ووظائف الدولة وضرورة استحداث كادر جديد لهذه المهمة، لا يعني أبداً تراجعاً في أداء الجهات الثورية أو تنازلاً، وإنما يستدعي إيماناً بأن هذه العملية خطوة إلى الأمام في طريق نجاح الثورة، وهذا ما أدركه العديد من القادة الثوريين على مر التاريخ، سواء أثناء استمرار الثورة أو بعد نجاحها، ففي عام 1980 قام الجنرال الفيتنامي، فو نجوين جياب،-من أهم قادة الثورة الفيتنامية-، بالتنازل عن السلطة الثورية لصالح الدولة، موضحاً أن ما قاده هو مرحلة ثورة واليوم لابد من البدء ببناء الدولة، والتي تتطلب دماء مختلفة ونقل السلطة الثورية إلى قيادة جديدة.

وفي زمن الربيع العربي يعد رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي السابق، مصطفى عبد الجليل، مثالاً جلياً لضرورة وعي الجانب الثوري وإدراكه لضرورة بناء مؤسسات الدولة وبالتالي نقل السلطة، والذي عبر عنه عبد الجليل بتنازله عن قيادة المجلس الوطني الانتقالي. مقابل كفاءة الطرف الذي سيستلم زمام القيادة من جهة أخرى، حيث ما تبع قرار عبد الجليل من فشل في الإدارة الليبية لا يتحمل هو مسؤوليته، وإنما من آلت إليهم تلك السلطة ولم يكونوا أهلاً لها.  أي أن هذا الانتقال في السلطات سيمثل اختباراً وظيفياً للطرفين، للجهات الثورية من جهة، حيث سيعتبر امتحاناً حتى لمستوى الوطنية الذي يقتضي التشارك والتنسيق لبلوغ هدف هذه الثورة، في حين سيشكل اختباراً لأهلية وأداء الجهة المكلفة وقدرتها على بناء ثقة مع الهيئات الثورية واستثمار وتوظيف هذ الثقة بالشكل الصحيح.

بالمقابل فإن الجانب السياسي المكلف بإدارة وتنظيم هذا الانتقال يستطيع أن يلجأ إلى مجموعة من الخطوات التي قد تساعده في إقناع الجهات الثورية العسكرية على الدخول في العملية المؤسساتية المنظمة، ولعل أبرزها:

أ‌-    إشراك المؤسسة العسكرية الثورية في هذا الانتقال، والتركيز على أهم الفاعلين على الأرض.

ب‌-    تقديم الضمانات الكافية لتبديد هواجس الطرف العسكري من الإدارة الجديدة، وإبرام مذكرات تنسيق وتفاهم.

ت‌-    استثمار الهيئات والفعاليات الدينية في توجيه خطاب داخلي من شأنه الضغط على الجانب العسكري للدخول بهذا الانتقال، بحكم أن تلك المؤسسات تحوز على ثقة العسكر ذي الغالبية الإسلامية أكثر من المؤسسات السياسية.

ثالثاً: كوادر ومؤسسات الدولة

في عام 1988 أعلن ياسر عرفات من الجزائر قيام الدولة الفلسطينية على الورق، فتطلبت جهداً كبيراً للبدء ببناء مؤسساتها من الصفر، والتي أفرغت من مضمونها فيما بعد عبر مؤتمر أوسلو، ولكن سورية اليوم ليست دولة من العدم حيث لايزال هناك مجال في استثمار بقايا بُنى مؤسسات الدولة وكوادرها، تلك التي لا يمكن للثورة أن تبدأ بامتلاك وظائف الدولة وممارساتها دون الاعتماد على بعض مؤسسات وكوادر الحقبة القديمة.

وفي حالة الثورة السورية فإن عنصر الكوادر الاختصاصية متوافر، فليس المقصود هنا الاعتماد على موالي النظام، وإنما الاعتماد على كوادر الدولة ذات الخبرة التي انشقت عنه في بداية الثورة وتم تهميشها، بمختلف الاختصاصات (الاقتصاد، الأمن والدفاع، السياسة، القضاء، العلوم، الفنون)، حيث أن استثمار هذه الكوادر خلال هذه المرحلة، إلى جانب الكوادر المؤهلة في صفوف المعارضة يعتبر ضرورة ملحة لا يمكن تجاوزها للعبور إلى فكر الدولة وممارساتها، وذلك لمجموعة أسباب، أبرزها:

أ‌-    إن مرحلة الإعداد لامتلاك وظائف الدولة وممارساتها يحتاج إلى أصحاب اختصاص وليس بنادق، أي مجموعات وأفراد تكنوقراط، يتم تحويلهم إلى مكامن قوة واستثمارهم في مختلف مراحل هذا الانتقال الذي يبدأ تأهيلياً ثم ينتقل وظيفياً. 

ب‌-    هؤلاء العناصر المؤجلة تمتلك من الفكر الثوري الحد الأدنى الذي دفعها للانشقاق عن نظام الأسد، وبالتالي فإن الأرضية الوطنية والانتماء الثوري متوافران بالحد الأدنى، ما سيشكل مزيجاً مهماً بين الاختصاص والفكر الثوري، والذي سيشكل بدوره بوصلة لعمل تلك المؤسسات وعامل أمان.

ت‌-    إن تدعيم أجسام المعارضة بهذه الكوادر يعني تقديمها ضمن أي حل سياسي مرتقب، وبالتالي المشاركة في إدارة وبناء مؤسسات الدولة بفكر ثوري، حيث أن خلاف ذلك يعني اعتماد المعارضة السورية على مؤسسات الدولة التابعة للنظام بما فيها من كوادر، وذلك يعني على المدى البعيد احتمالية إنتاج ثورة مضادة تقودها أركان الدولة القديمة، كما حدث في ثورتي مصر وتونس التي أطاحتا برأس النظام وأبقيتا على مؤسسات الدولة التابعة له، والتي أنجبت فيما بعد موجة الثورة المضادة.

ث‌-    إن تشكيل مؤسسات الدولة المرتقبة بناء على كوادر اختصاصية وطنية، ليس من شأنه سحب وظائف الدولة من نظام الأسد وتقليصه فقط، وإنما أيضاً يعد سحب سلطات من جهات أخرى على المدى البعيد، تلك السلطات التي أورثتها سطوة وقوة السلاح لبعض العسكر على الأرض، والتي تحتاجها المؤسسات الجديدة لدعم وظائفها كدولة في المناطق المحررة، حيث أن تجربة المؤسسات ستساهم في تعزيز الحكم المدني (اللاعسكري) بشكل أو بآخر، وبالتالي تقويض سلطات العسكر تدريجياً.

ج‌-    عبر تلك المؤسسات المرتقبة وما تحتويه من كوادر مختصة سيتم إعداد وتنظيم خريطة واضحة للملفات العالقة التي سيتم التفاوض عليها ضمن أي تسوية، (ملف التنمية، إعادة الإعمار، الجيش، الأمن، اللاجئين، مكافحة الإرهاب) وغيرها من الملفات التي ستشكل بمجملها برنامجاً واضحاً لطالما افتقدته المعارضة السورية، وبالتالي البدء بتقديم إجابة عملية وعلمية لسؤال ماذا بعد الأسد.

ح‌-    إن عدم التحرك بشكل سريع لتجميع هذه الكوادر واستثمارها وتأهيل أخرى واستقطاب غيرها وفق مؤسسات، ينذر بخطورة كبيرة، حيث هناك من لايزال يمتلك هذه الوظائف مثل نظام الأسد، الذي مازال بعرف بعض المنظمات والجهات الدولية الرسمية يمثل الدولة ومؤسساتها، مقابل من يسعى اليوم إلى تحصيلها من أجسام وفصائل عسكرية والتي باتت تعي جيداً بعد خمسة أعوام من الصراع المسلح أهمية امتلاك هذه الوظائف، فكان أن بدأت بالإعداد لذلك عبر تأهيل كوادرها والسيطرة على مفاصل مهمة (القضاء، التعليم، الخدمات)، بل وبعضها انفرد في المفاوضات والعلاقات الخارجية، ما ينذر أنه وفي حال التراخي من جانب المعارضة  السياسية في البحث عن سبل وآليات امتلاك زمام المبادرة لهذا الانتقال، سيؤدي ذلك لتشكيل مجموعة دول داخل الدولة، ما سيعقد الوضع بالنسبة للمعارضة السورية أكثر. 
إن اللحظة التي يتم البدء فيها بإعداد وتأهيل تلك الكوادر ضمن مجموعات بمختلف الاختصاصات تعمل على دراسات لتوصيف الواقع ثم الانطلاق برسم سياسات ومخططات واضحة للتنفيذ ضمن مؤسسات قائمة على مبدأ فصل السلطات، هو بداية امتلاك لجزء أساس من آليات الدولة، كما أن هذا الإعداد ليس بالضرورة يتناقض مع استمرار العمل المسلح ضد نظام الأسد، وإنما يستمر بشكل مواز له إلى أن يشمله.

رابعاً: دمج الثورة بالدولة

إن تحقيق الانتقال إلى وظائف وممارسات الدولة لا يعني أبداً إلغاء فكرة الثورة أو تهميشها أو التنازل عن أهدافها، فالثورة بمعناها الوظيفي حالة مستمرة ومتجددة، وإنما المقصود به تشذيب الفكرة الثورية وتدعيمها عبر دمجها بمؤسسات الدولة وتحويل الثورة إلى فكرة وبوصلة، أي الإبقاء على الحالة الثورية كموجه للعمل وتحويل الآليات إلى صيغة مؤسساتية تؤدي وظائف الدولة.

من ناحية أخرى فإن دمج الثورة كفكرة  بممارسات ووظائف الدولة، قد يقود إلى نتائج مهمة جداً على المدى البعيد وتحديداً في الحالة السورية، لعل أبرزها؛ خلق حالة الانتماء المفقود على مدى أربعين عاماً،  حيث أن أحداً لا يستطيع الإنكار أن فكرة الانتماء الوطني لسورية بالعموم تراجعت بدرجة كبيرة منذ انقلاب 1963، وذلك بسبب ممارسات الأسد الأب والابن في اختزال مفاهيم الأرض والوطن والهوية بالحزب الواحد والعائلة الواحدة، وهذا ما ساهم بانحسار حالة الانتماء الوطني، فحتى عندما قامت الثورة السورية فإن ما حملته من انتماء هو للدم الذي أريق، فانتفضت محافظة تلو الأخرى نخوة واستجابة للدم.

وفي ظل غياب هذه الحالة والتي لابد منها لاستمرار أي دولة بالمعنى (الفكري، العاطفي) فلابد من خلق انتماء للمولود الجديد المتمثل بالثورة، تلك التي بدأ الكثير من السوريين ينفر عنها بسبب نتائجها وتداعياتها المؤقتة، دون أن يفرق أن تلك الآثار، إنما هي صناعة الآليات وليس الفكرة، لذلك فإن دمج الثورة كفكرة بمؤسسات الدولة، سيعيد للفكرة الثورية أصالتها وبريقها، ويبدأ بناء عليها وعبر مؤسسات بخلق حالة انتماء للفكرة ذاتها، والتي ستسهم على المدى البعيد بخلق فكر جمعي لطالما افتقدته الثورة السورية منذ بدايتها، هذا الفكر الذي  سيكون أشمل وأعمق من مجرد أطروحة إسقاط النظام.

خامساً: العزل والاحتواء

إن نظرة  الطيف السياسي اليميني في العالم بالعموم رافضة للثورات وتحديداً بالمعنى والشكل الذي يشجعه اليسار، وذلك بناء على ما يتبنوه من نظرية (الهندسة الاجتماعية) والتغيير التدريجي في المجتمعات، بعيداً عما يعتبرونه آليات عنفية تسوقها الثورات، والتي ينظرون إليها كتغير جذري وغير طبيعي وصحي في المجتمعات، وتهديم للأساسات من جذرها وعزل أخرى بشكل نهائي، وبناء عليه فإنهم يتهمون الثورة الفرنسية بالفشل، والتي سحقت الملكية بنقلة غير طبيعية إلى الاشتراكية كما انتقلت بفرنسا من دولة كاثوليكية إلى إلحاد، وكذلك أطردوا هذا الوصف على (ماو) الذي نقل المجتمع الصيني عبر ثورته من مجتمع زراعي إلى اشتراكي صناعي، التجربة التي كلفت أرواح الملايين من الصينيين بسبب فشلها، وكذلك الثورة البلشفية التي حملت المجتمع الروسي من ملكية قيصرية إلى اشتراكية، فأدت إلى أزمات اقتصادية خانقة أودت إلى مجاعة.

وقد توضحت تلك النظرة بشكل أدق عبر كتابات أحد أكبر منظري اليمين، (كارل بوبر) 1950 في كتابه الذي لخص تلك النظرة بتحليل نقدي لليسار تحت عنوان the poverty of Historicism)) أو (فقر الحتمية التاريخية)، حيث رأى بوبر أن الثورات عندما تنشب فإنها تحمل ما سماه (Blue print) أو النموذج الجاهز مسبق الصنع والبعيد عن الواقع، وتسعى إلى تقديسه وعزل وسحق مخالفيه، دون مراعاة الواقع، ما يسبب نقلات خطيرة وغير صحية اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وإذ تبدو نظرة اليمين متطرفة وغير منصفة بمجملها للثورات؛ إلا أنها قد تكون مصيبة بعض الشيء بإشكالية العزل، المطب الذي تقع فيه أغلب الثورات، أو حركات التغيير السياسي، حيث أن مقتل الانتقال العراقي بعد الغزو الأمريكي 2003 كان قانون اجتثاث البعث، فما انتقلت به الحكومة العراقية لم يكن منطق دولة بقدر ما كان فكراً مليشيوياً دفع باتجاه عزل سياسي للبعث الذي كان يمثل الدولة بكل كوادرها وأركانها، ما أدى لإخفاق (سياسي، عسكري، أمني، إداري) لايزال العراق يعاني من نتائجه إلى الآن، لذلك فإن الانتقال إلى إدارة الثورة بمنطق وآليات الدولة يستوجب الابتعاد عن أي فكرة للعزل السياسي، والتعامل بفكر الدولة في الاحتواء على مستوى الخطاب (سياسي، ديني، مجتمعي) والوظائف والممارسات الفعلية.

خلاصة

إن إحداث هذا الانتقال في إدارة وتوجيه الثورة السورية وفق فكر ووظائف وآليات دولة، لا يعتبر أبداً ترفاً سياسياً بعد خمسة أعوام من العمل الثوري، وما أنتج من تجارب لابد من الوقوف عليها وأخذ الدروس منها، واستنباط خطط استراتيجية بعيدة عن المرحلية وردّات الفعل، بناءً على قراءة المحددات الأمنية المحلية ومراعاة عدم تعارضها مع النظام الأمني الإقليمي والدولي.

إن مسؤولية هذا الانتقال إنما تقع على عاتق المعارضة السورية ككل بشقيها السياسي والعسكري؛ فعلى الصعيد السياسي لابد من اختيار صفوة الساسة من صفوف المعارضة السورية، واستبعاد كل من افتقدوا الأهلية السياسية، ولم يرتقِ أداؤهم لحجم المسؤولية، كما لم يتكيف فكرهم السياسي وضرورات المرحلة. مقابل استقطاب دماء جديدة وكوادر شبابية، استكمالاً لهذا لانتقال النوعي، وذلك لا سبيل له إلا عبر حركة انقلابية بنفس ثوري، سريعة وجريئة وحاسمة داخل جسم المعارضة السياسية.

أما على الصعيد العسكري، فلابد وأن يدرك القادة العسكريون بأن الانتقال إلى منطق الدولة وممارساتها ووظائفها، ما هو إلا تنظيم للعمل المسلح وحصد نتائج فعلية له واستثمارها بالشكل الأمثل، فليس بالضرورة أن يحدث التقدم العسكري فرقاً سياسياً في كل الأحيان، بل قد يكون العكس، حيث أن الفترة الحالية من عمر الثورة السورية تعد الأكثر انتكاسة للنظام على الصعيد العسكري وخسارة مناطق نفوذ لصالح مختلف الأطراف، إلا أنه وبالوقت نفسه  يحقق تقدماً سياسياً وتموضعاً دولياً وإقليمياً أفضل من المعارضة، وإن كان ذلك يعزى لشيء فإنما يعزى لما يزال يمتلكه الأسد من وظائف الدولة، والتي يبتز عبرها المجتمع الدولي إلى اليوم.

إن أساس هذا الانتقال هو الإيمان بالعمل المؤسساتي واليقين أنه الطريق الأكثر نجاعة لإحداث فرق في مسار الثورة السورية ضمن هذه المرحلة الحرجة، والانطلاق من حقيقة أن الثورة هي جزء من التغير وليست هي التغيير، وإنما هناك آليات ومراحل أخرى لا تكتمل مسيرة التغيير دونها، كما لا تقل صعوبة عن الثورة ذاتها.

 

([1]) للاطلاع على تلك الصفات، راجع كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها) للفارابي، ص 32-35.

الأربعاء كانون1/ديسمبر 18
أطلق مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ومعهد السياسة و المجتمع، كتابه الجديد بعنوان: “حرب الشمال: شبكات المخدرات في سوريا، الاستجابة الأردنية وخيارات الإقليم”، ويحلل الكتاب ظاهرة شبكات تهريب المخدرات المنظمة في…
نُشرت في  الكتب 
الإثنين تموز/يوليو 22
المُلخَّص التنفيذي: قسَّمت الدراسة مبناها المنهجي وسياقها المعلوماتي والتحليلي إلى فصول ثلاثة، مثّل الفصل الأول منها: مدخلاً ومراجعة لتاريخ القبائل والعشائر في الجغرافية السورية بشكل عام وفي محافظتي حلب وإدلب…
نُشرت في  الكتب 
الأربعاء آب/أغسطس 23
يأتي نشر هذا الكتاب في وقت عصيب على سورية، خاصة في أعقاب الكارثة الطبيعية التي حلت بالبلاد، إضافة إلى الزلازل السياسية التي شهدها الشعب السوري منذ بداية الثورة السورية عام…
نُشرت في  الكتب 
يرى المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف، في تصريح صحفي لجريدة عنب…
الثلاثاء نيسان/أبريل 02
شارك الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية الأستاذ سامر الأحمد ضمن برنامج صباح سوريا الذي…
الأربعاء تشرين2/نوفمبر 29
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في فعاليات المنتدى الاقتصادي الخليجي…
الجمعة تشرين2/نوفمبر 24
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في رؤية تحليلية للحرب على…
الإثنين تشرين2/نوفمبر 20