تبرز قضية المياه كإحدى أهم جوانب المعاناة الإنسانية للسكان المدنيين في خضم الثورة السورية. بعد أن اسُتخدمت المياه كوسيلة لتحقيق المكاسب العسكرية والسياسية والاقتصادية، وأصبحت متلازمة إلى حد كبير مع تغيرات السيطرة العسكرية ومناطق النفوذ. مما أثر بشكل حاد على توافر ها في غالبية المدن والأرياف، وحمل العديد من التداعيات السلبية على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للسكان. وتحاول هذه الورقة التحليلية تسليط الضوء على هذا الجانب الإنساني الهام بهدف الحفاظ على الأمن المائي في جميع المناطق السورية واستمرار ديموميته.
تشكل المياه أحد أهم مقومات استمرارية الحياة والمورد الأكثر تأثيراً في حياة السكان في جميع مناطق سورية. إلا أنه ومنذ بداية عام 2011 بدأت تبرز قضية المياه كإحدى أهم التحديات المرتبطة بالمعاناة الإنسانية للسكان المدنيين. وذلك بعد أن استخدمت أطراف الصراع المياه كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية. كما أصبح هذا المورد متلازماً إلى حد كبير مع تغيرات السيطرة العسكرية ومناطق النفوذ لهذه الأطراف، مما أثر بشكل حاد على توافر المياه في غالبية المدن والأرياف السورية نتيجة لتدهور البنية التحتية للمياه وفقدان وتضرر أكثر من نصف القدرة على الإنتاج الكلي للمياه. وقد حمل هذا الوضع الجديد العديد من التداعيات السلبية على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للسكان داخل المدن والأرياف.
وانطلاقاً من ذلك تبرز إشكالية هذه الورقة في الإحاطة بواقع السيطرة العسكرية على الموارد والمرافق المائية في ظل الصراع الدائر في سورية مع قلة الدراسات المتخصصة والمتكاملة في هذا الصدد، وتتركز أهدافها الأساسية في تسليط الضوء على واقع ممارسات القوى العسكرية تجاه الموارد المائية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، والمعاناة التي يتكبدها السكان جراء حرمانهم من المياه وصعوبة الوصول إليها، وتحليل المنظور المستقبلي لهذه القوى في السيطرة على الموارد والمرافق المائية ودراسة التداعيات المستقبلية لعسكرة المياه على واقع الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للسكان.
وتخلص الورقة إلى أن تنوع القوى العسكرية وتوزعها على امتداد الأرض السورية إلى جانب سيولة المشهد العسكري يحمل معه العديد من التحديات في ظل تبادل السيطرة بين هذه القوى، والقدرة على التحكم بالموارد المائية في المناطق الخاضعة لها، ومدى إدراكها لأهمية المورد المائي كعامل للاستقرار وتوطيد السلطة في مناطق سيطرتها وفقاً لأجندتها المستقبلية. وسيلقي كل ذلك بثقله على الموارد المائية من خلال الاستنزاف الكبير لها، نتيجة افتقاد هذه القوى القدرة على إدارة وتنمية الموارد المائية في هذه المرحلة الانتقالية للحفاظ على الأمن المائي واستمرار ديموميته. مع ما سيحمله كل ذلك من زيادة معاناة السكان نتيجة نقص المياه وتلوثها وصعوبة الحصول عليها.
تواترت التقارير التي تؤشر للواقع المائي المتردي في سورية ومستقبل مواردها المائية المهددة، في ظل تصاعد الأعمال العسكرية والتدمير الممنهج للبنية التحتية، وما تبعها من محاولة الأطراف العسكرية السيطرة على هذه الموارد لفرض نفوذها وتحقيق بعض المكاسب على حساب المعاناة الإنسانية للأفراد في مناطق سيطرتها، وهو ما يمثل أحد الأوجه الخفية لهذا الصراع.
ووفقاً للمعطيات التي حملتها هذه التقارير تضاءلت قدرة السكان في الحفاظ على النفاذ المستدام إلى كميات كافية من المياه بجودة مقبولة، وازدادت معدلات التلوث بشكل كبير، رافعة بذلك حالة الفقر المائي لدى الأفراد بسبب استمرار التناقص في حصة الفرد من الموارد المائية المتاحة، ومنذرة بأزمة مائية قادمة ستشكل تهديداً فعلياً للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للسكان في ظل تفاقم الظروف المعيشية للأفراد وارتفاع أسعار مياه الشرب في العديد من المدن والأرياف.
إن تنوع القوى العسكرية وتوزعها على امتداد الأرض السورية والسيولة المستمرة للمشهد العسكري يحمل معه العديد من التحديات الحالية والمستقبلية للأمن المائي. في ظل تبادل السيطرة بين هذه القوى، والقدرة على التحكم بالموارد المائية في المناطق الخاضعة لها، ومدى إدراكها لأهمية المورد المائي كعامل للاستقرار وتوطيد السلطة وفقاً لأجندتها الحالية والمستقبلية، ومدى قدرتها كذلك على إدارة وتنمية هذا المورد في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة للحفاظ على الأمن المائي.
إن التفاوت في كمية ونوعية الموارد المائية والتوزعات السكانية المتباينة بين المناطق السورية المختلفة عبر العقود الماضية نتيجة للعديد من العوامل البيئية والسياسية أسهمت إلى حد كبير في اندلاع الثورة السورية ([1])، وقد أدى طول أمد الصراع وعدم وجود أفق واضح لنهايته إلى سعي القوى المتحاربة على الأرض للسيطرة على أكبر قدر ممكن من هذه الموارد وتسخيرها لتحقيق أهدافها، رغم كل التبعات التي يمكن أن تخلفه هذه السيطرة من تدهور الأمن المائي نتيجة تدمير البنية التحتية لشبكات المياه والسدود، ومحطات الطاقة التي تستخدم في تشغيل مرافق المياه في العديد من المدن والأرياف.
تشمل الموارد المائية التقليدية في سورية الموارد المائية السطحية التي تتكون من مجموعة من المجاري المائية أي الأنهار الداخلية والخارجية وموارد المياه الجوفية، إضافة إلى الموارد المائية غير التقليدية التي تشمل مياه الصرف الصحي والزراعي والصناعي ومياه التحلية. وتوصف الموارد المائية في سورية بالقليلة والمحدودة، وقد صنفت سورية في مجموعة البلاد الفقيرة بالماء منذ عام 2000، حيث تحدد العوامل الطبيعية والجغرافية والسياسية حجم هذه الموارد.
الشكل (1) يبين توزع الأحواض المائية في سورية مع حجم توافر المياه في هذه الأحواض
المصدر: محمد العبدالله، 2015، الأمن المائي في سورية: دراسة تحليلية لواقع الموارد المائية المتاحة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، تركيا.
ويبلغ عدد الأحواض المائية الرئيسية التي تختزنها الأراضي السورية سبعة أحواض مائية هي حوض الفرات وحلب، وحوض دجلة والخابور، وحوض الساحل، وحوض البادية، وحوض العاصي، وحوض بردى والأعوج، وحوض اليرموك. كما يوجد عدد من السدود الكبيرة والمتوسطة ضمن هذه الأحواض ومن أهمها سد الفرات وتشرين والبعث والوحدة والرستن وقطينة وتلدو ومحردة ويبين الشكل (1) توزع هذه الأحواض والسدود ضمن أراضي سورية وحجم المياه المتاحة في هذه الأحواض حتى نهاية عام 2011. حيث يقدر مجموع كمية الموارد المائية في سورية ما بين (18.209-16.375) مليار م3/سنة من المياه.
وتمثل السيطرة على الموارد المائية هدفاً استراتيجياً للقوى العسكرية المتصارعة في سورية، حيث يمنح التحكم في إمدادات المياه سيطرة استراتيجية لهذه القوى على المدن والأرياف.
في سعيها لتحقيق ما أطلق عليه " مشروع الاتحاد الفيدرالي " تسعى قوات سورية الديمقراطية في استراتيجيتها المستقبلية للسيطرة على الموارد المائية من يد تنظيم الدولة وقوى المقاومة الوطنية بوجود دعم دولي. وإذا ما تحقق لها ذلك فإن الاتحاد الفيدرالي سيكون واقعاً ضمن أغنى ثلاث أحواض مائية في سورية والمتمثلة بكل من أحواض الفرات ودجلة والعاصي، والتي تحتوي على أهم الأنهار والسدود والبحيرات والمياه الجوفية في سورية. وقد عقدت الهيئات التابعة للإدارة الذاتية اجتماعات مع خبراء في الموارد المائية لدراسة أوضاع المياه في مقاطعة الجزيرة ووضع تصور مستقبلي لها ([2]). ويبين الشكل (2) مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية حتى تاريخ 15 تموز لعام 2016.
عمد تنظيم الدولة منذ ظهوره على الساحة السورية إلى الاستخدام الاستراتيجي للموارد الطبيعية كجزء أساسي من استراتيجيته التوسعية واستئصال كل من يرفض أفكاره المتطرفة في سعيه لإقامة “دولة الخلافة". وبدى هذا واضحاً في حجم الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها التنظيم في سبيل السيطرة على مرافق المياه واستخدامها كسلاح لتعزيز أهدافه السياسية والعسكرية والاقتصادية، فسعى جاهداً للسيطرة على السدود وخزانات المياه الضخمة ذات الأهمية الاستراتيجية في حوضي الفرات ودجلة. وكان من أهمها سد الفرات وتشرين والبعث، لأنه وجد في ذلك منفذاً له لتعظيم نفوذه وإلحاق الضرر بمناطق أكبر دون الحاجة إلى الاحتلال العسكري المباشر([3]). ويبين الشكل (2) مناطق سيطرة تنظيم الدولة حتى تاريخ 15 تموز لعام 2016.
الشكل (2) خارطة توزع أماكن نفوذ القوى العسكرية في سورية
المصدر: مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، وحدة المعلومات، 15-07-2016
يدرك نظام الأسد في رؤيته المستقبلية أهمية الحفاظ على المناطق الحيوية ذات الموارد الطبيعية في حال عدم تمكنه من السيطرة على كامل الأرض السورية. وقد تجسد هذا بشكل واضح في مشروعه بتحديد مناطق النفوذ الأكثر أولوية لديه تحت مسمى " سورية المفيدة " والذي لا يزيد عن 25% من مجمل مساحة البلد كما يوضحه الشكل (3)، والذي تدعمه كل من روسيا وإيران للإبقاء على موطئ قدم لهما في سورية بعد انتهاء الصراع ([4]). وتعتبر هذه المنطقة قلب سورية الحيوي استراتيجياً فضلاً عن كونها الأكثر كثافة ديمغرافياً ([5]).
الشكل (3) يبين مشروع سورية المفيدة
المصدر: مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، وحدة المعلومات، 15-07-2016
وبعد توالي خسائر النظام العسكرية واستنزافه على مدار الأعوام الماضية يحاول النظام جاهداً الحفاظ على مشروعه المستقبلي وتجسيده على أرض الواقع والذي يعد الملاذ الأخير له ولمناصريه بعد أن تلاشى أمله باستعادة السيطرة على كامل مساحة البلد([6]). ووفقاً للتصور المقترح لسورية المفيدة فسيكون حوضي العاصي والساحل وجزء من حوض بردى في المجال الحيوي بحيث يضمن النظام موارد مائية كافية تفي باحتياجاته المستقبلية. إلى جانب استفادته من كونه المنفذ الوحيد على البحر الأبيض المتوسط لما سيمنحه من ميزة استراتيجية كبيرة للاستفادة من الموارد الطبيعية الوفيرة في منطقة الساحل وسهل الغاب.
بدى واضحاً في الصراع السوري وجود العديد من الأمثلة التي تعكس سعي القوى العسكرية المختلفة لاستخدام الموارد المائية كسلاح ضد بعضها البعض خلال الأعوام الخمس الماضية على أكثر من جبهة قتال. ويعد سلاح المياه وسيلة فاعلة من وجهة نظر هذه القوى للتوسع والاحتفاظ بالسيطرة في مناطق الصراع، كما أصبح قطع مياه الشرب وسيلة إضافية في الحصار ومصدر دخل لبعض القوى العسكرية، وسوقاً جديدة تحولت فيها مياه الشرب إلى سلعة باهظة الثمن، مع ما يلحقه ذلك من الأذى للمدنيين، إضافة إلى تحول هذه القضية إلى وسيلة ابتزاز في حالات عدة.
إلى جانب ذلك يشكّل تواجد معظم الموارد المائية السطحية في الأرياف بتحويلها إلى خطوط تماس بين القوى العسكرية المتصارعة، الأمر الذي يضع المدن بشكل دائم في خطر تأمين المياه لسكانها الذين تضاعف عددهم مع ارتفاع وتيرة الصراع وازدياد عدد النازحين.
تجنبت قوى المقاومة الوطنية استخدام المياه كسلاح في وجه القوى العسكرية الأخرى، إلا أن الهجمة الشرسة لنظام الأسد وحلفائه ألجأت هذه القوى إلى استخدام هذا المورد للتخفيف من المعاناة الإنسانية للسكان في بعض المناطق. ففي وادي بردى في ريف دمشق اضطرت قوى المقاومة الوطنية في شهر حزيران من عام 2015 إلى استخدام المياه كسلاح لمواجهة قوات نظام الأسد، من خلال قيامها بتهديد النظام بتفجير نبع الفيجة لوقف عملياته بعد قيامه باستهداف المنطقة بمئات البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية التي أحدثت دماراً هائلاً وأدت إلى تخلخلات طبقية تسببت في تحويل مجرى خروج المياه من الينابيع إلى مجارٍ أخرى في طبقات الأرض بدل أن تجري باتجاه حوض مياه نبع الفيجة. كما قامت هذه القوى بمساومة النظام على سماحها بضخ مياه عين الفيجة إلى مدينة دمشق مقابل التوصل إلى هدنة مؤقتة معه تضمن تطبيق جملة من المطالب الإنسانية للسكان تمثلت بشكل رئيسي في إيقاف كافة أنواع القصف واستهداف المدنيين على الحواجز، والإفراج الفوري عن كافة النساء المعتقلات وإدخال المواد الغذائية والطبية والمحروقات للمنطقة ([7]).
اتبع نظام الأسد في قمعه للثورة السورية سياسة الأرض المحروقة، وكان تركيزه منصباً على تدمير البنية التحتية في المدن الخارجة عن سيطرته، وتنوعت ممارسات قوات النظام في استخدام المياه لإلحاق أكبر ضرر ممكن لسكان هذه المدن.
في مدينة حلب، التي تعد أبز الأمثلة على استخدام مياه الشرب كسلاح في ظل الصراع الدائر حالياً، تحولت أزمة المياه إلى معاناة تلازم كل من تبقى من سكان هذه المدينة، فبعد سيطرة تنظيم الدولة على محطتي الخفسة والبابيري الواقعتان في الريف الشرقي لمدينة حلب في شهر شباط من عام 2014 امتنعت مؤسسة الكهرباء التابعة لنظام الأسد عن تزويد المحطتين بالكهرباء مما أدى إلى توقفهما عن العمل ([8])، ثم عادتا للعمل على خلفية إجراء مفاوضات مع نظام الأسد من جهة النصرة ومنظمة الهلال الأحمر وبعض أهالي مدينة حلب من جهة أخرى. ويعد استمرار تدفق المياه النظيفة أمراً منقذاً لحياة سكان المدينة، وضرورة لمنع انتشار الأمراض التي تنقلها المياه.
وفي محافظة درعا قامت الأجهزة الرسمية التابعة لنظام الأسد بحرمان السكان والأراضي الزراعية من المياه القادمة من جبل العرب، بعد أن قام النظام ببناء سدود تجميعية وسطحية في محافظة السويداء. وأدت هذه الإجراءات إلى جفاف العديد من السدود التجميعية ومنها سد درعا الشرقي أكبر سدود المنطقة التي تصل سعته الاستيعابية إلى 15 مليون م3 ويغذي مساحات شاسعة من المنطقة الشرقية لمدينة درعا تبلغ تقريباً 10000 دونم ([9])، وهو ما ينذر بتدهور الغطاء النباتي وتصحر المنطقة. بعد أن كانت هذه السدود توفر مياه الري لمئات الهكتارات من الأراضي الزراعية وتربية الماشية ([10]).
في محافظة دمشق قام النظام بقطع مياه الشرب عن مخيم اليرموك بتاريخ 9 أيلول 2014. كما قام النظام في مدينة دمشق بتحويل مياه الصرف الصحي إلى حي جوبر المحاصر كوسيلة عقاب جماعي لأهالي الحي بهدف نشر الأمراض والأوبئة ولإغراق الأقبية التي يتحصن فيها المدنيين ([11]).
استغلت جبهة فتح الشام طيلة سنوات الصراع الماضية قدرتها على قطع مياه الشرب عن مدينة حلب كوسيلة لتحقيق مكاسب ميدانية ومادية كبيرة عن طريق الوقود الفائض الذي تم إرساله لتشغيل محطات التوليد وإعادة ضخ مياه الشرب.
وفي عام 2014 وبعد سيطرتها على عدد من الأحياء في مدينة حلب، أصدرت الإدارة العامة للخدمات التابعة لجبهة فتح الشام والهيئة الشرعية لفصائل قوى المقاومة الوطنية في أوائل شهر نيسان في عام 2014 قراراً يقضي بوقف عمل مضخة سليمان الحلبي مما أدى إلى انقطاع المياه عن كافة أحياء مدينة حلب سواء الواقعة تحت سيطرة هذه القوى أو الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد. كذلك قامت الهيئة في نهاية شهر نيسان في نفس العام بقطع التيار الكهربائي عن مدينة حلب بالكامل وأعلنت مطالبها المتضمنة توقف قوات النظام عن القصف اليومي بالبراميل والصواريخ على الأحياء السكنية في المناطق المحررة مقابل قيام الهيئة بالعمل على إعادة خدمة التيار الكهربائي. وكانت هذه الخطوة بعد أن قام النظام بقصف شبكات المياه ومحطة الكهرباء التي تغذي محطة المياه مما أدى إلى توقف ضخ المياه إلى المنازل وحرمان المدنيين من حقهم فيها، وزيادة معاناتهم في الحصول عليها نتيجة التحكم الكبير بأسعارها مع غياب الرقابة عليها، مما اضطرهم للانتظار في طوابير أمام آبار المياه غير المعقمة وصنابير مياه المساجد. كما لا يختلف حال المدنيين في مناطق سيطرة النظام عن حال نظرائهم في المناطق المحررة، بفعل تسلط لجان الدفاع الوطنّي على آبار المياه، واستخدامها لمصالهم الشخصية، إلى جانب المعاملة السيئة للمدنيين وإهانتهم من قبل ميليشيات النظام ([12]).
يعد تنظيم الدولة القوة العسكرية الوحيدة التي لجأت إلى الاستخدام الاستراتيجي للمياه كسلاح، فقد تمكَّن التنظيم بعد سيطرته على سد الفرات من حجز أكبر مستودع مائي ومنحه فرصة للسيطرة على المياه والكهرباء وتحقيق بعض المكاسب المادية، واستخدام السد كسلاح حرب ضد أعدائه عبر التهديد بإغراق المدن والمناطق المطلة على نهر الفرات عبر تحَّكُمِه بتدفق المياه وتسميمها، إلى جانب استخدام السد كذلك في التحصن وتخزين الأسلحة، أو حتى إحداث شلل في حياة المواطنين من خلال قدرته على التحكم في مياه السد عبر بناء السدود على النهر للاحتفاظ بالمياه وتجفيف مناطق معينة، وبهذه الطريقة يخفض من تزويد المياه للقرى والتجمعات السكنية. ومن جانب آخر يقوم التنظيم بإغراق بعض المناطق بإبعاد ساكنيها لمناطق أخرى وتدمير سبل عيشهم ([13]). وبالتالي مثلت هذه السيطرة سلاحاً تكتيكياً رئيسياً للتنظيم داخل سورية، لقناعته بعدم إمكانية قصفه من قبل أعدائه وعدم التسبب بكارثة إنسانية تتمثل في غمر مياهه لمدينتي الرقة ودير الزور إذا ما تم تدمير السد ([14]). لكن بالمقابل يوجد تخوف كبير من قبل المراقبين لمجريات الصراع بقيام التنظيم بتفجير السد إذا ما شعر بالخطر.
أعلنت قوات سورية الديمقراطية بتاريخ 26 كانون الأول لعام 2015 سيطرتها على سد تشرين الواقع على نهر الفرات في ريف حلب الشرقي، وذلك بعد مواجهات عنيفة مع تنظيم الدولة. حيث قامت هذه القوات بإغلاق عنفات السد مما أدى إلى ارتفاع منسوب المياه، مهدداً بإغراق أكثر من 470 قرية على ضفاف نهر الفرات ([15]). وتزامن ظهور هذه المشكلة مع فرار مهندسي السد اللذين يديرون عمله بعد الاشتباكات العنيفة للسيطرة عليه. ومنع عودتهم بعد توقف الاشتباكات من قبل قوات سورية الديمقراطية بحجة تسليم السد لهيئة الطاقة في "مقاطعة كوباني"، لتبقى مهمة هذه القوات محصورة بتأمين حماية السد ([16]).
يدفع المواطن السوري خلال سنوات الصراع الدائر في سورية الثمن الأكبر ضريبة تشبثه بأرضه حرماناً واعتقالاً ونزوحاً وقتلاً وتهجيراً. فالكثير من السكان تعايش مع واقع الصراع والقصف والدمار والخوف وفقدان أدنى مقومات الحياة، إلا أن صمودهم تجاه فقدان المياه أمر لا يمكن تحمله إذا ما طالت فترة انقطاعه.
يجدر القول هنا بإن استخدام سلاح قطع المياه المباشر وغير المباشر عن السكان في المدن كأسلوب من أساليب الحرب يرقى إلى جريمة حرب وهو عمل إجرامي غير مقبول يهدد حياة المدنيين، كما أن مسؤولية احترام حقوق المدنيين تقع على عاتق جميع أطراف الصراع )[17](.
وفي هذا الصدد صرحت ممثلة اليونيسيف في سورية أن جميع أطراف النزاع في سورية استخدمت المياه كسلاح في الحرب، مما أدى إلى حرمان الملايين من المدنيين من الحصول على المياه النقية للشرب والاستخدام المنزلي. وأشارت الممثلة أن الأساليب التي اتبعتها هذه الأطراف شملت القيام بقطع المياه من المصدر، والغارات الجوية والهجمات البرية على مرافق المياه وإعاقة وصول العاملين المدنيين للحفاظ على وإصلاح وتشغيل المرافق. وقد وثقت اليونيسيف مثل هذه الأساليب في كل من حلب ودمشق ودرعا وحماة. وفي عام 2015 وحده واجه أكثر من خمسة ملايين سوري نقصاً حاداً في المياه مهدداً للحياة بسبب اتباع هذه الأساليب ([18]). حيث يقدر أن نسبة 70% من السكان في سورية لا يحصلون على مياه الشرب الآمنة بشكل منتظم ([19]) كما أدى تعطل محطات معالجة المياه إلى زيادة ملحوظة في الأمراض التي تنقلها المياه الملوثة مثل التيفوئيد خاصة في المنطقة الشرقية لصعوبة تزويد هذه المناطق بالمواد الكيمائية اللازمة لتعقيم هذه المياه ([20]).
من جهتها قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن شبكة المياه في سورية معرضة لخطر الانهيار مع استمرار الصراع، وهو ما يزيد من خطر انتشار الأوبئة الصحية مثل التيفوئيد والكوليرا. وأضافت اللجنة أن إمدادات المياه تنقطع لأيام في المرة الواحدة عن الملايين في حلب ودمشق، وهو أسلوب تستخدمه كل الأطراف المتحاربة لممارسة السيطرة في المدن المقسمة([21]).
وفي الجنوب السوري يعاني المزارعون نقصاً شديداً في مياه الري، إضافة لعشرات المدن والقرى التي تعاني العطش، خاصة في ريف درعا الشرقي، بسبب سرقة وتخريب المضخات وانقطاع التغذية الكهربائية المتواصل، وأدى غياب الحراسة لمناطق الضخ إلى خروج الكثير من هذه المضخات عن الخدمة والتي كانت تقوم بنقل المياه من ينابيع زيزون وتل شهاب لبعض قرى ومدن محافظتي درعا والسويداء ([22]).
إن المتتبع لواقع الموارد المائية السورية عبر العقود الماضية يلحظ بوادر لحدوث فجوة مائية بسبب الاستنزاف والتلوث الكبير للموارد المائية الذي شهدته سورية خلال هذه العقود، وقد ازداد هذا الأمر سوءاً مع بداية عام 2011، بسبب التدمير الممنهج لهذه الموارد من قبل قوات النظام واستغلال القوى العسكرية الأخرى لهذه الموارد كسلاح ضد بعضها. فبعد مرور خمس سنوات من الصراع تأثرت البنية التحتية للمياه في البلاد بشكل كبير، حيث يقدر أن نصف إجمالي الطاقة الإنتاجية قد ضاع أو تلف ([23]). إضافة إلى الآثار المحتملة على كل من السكان والتنمية المستدامة وعمليات إعادة الإعمار. تشير بيانات البنك الدولي أن الخسائر في قطاع المياه هي الأعلى حيث بلغت 121 مليون دولار ([24])، كما أدى الصراع إلى مقتل وفرار العديد من العاملين في قطاع المياه والصرف الصحي. وبات ما يقرب من ثلثي السوريين يحصلون على المياه من مصادر تتراوح درجة خطورتها بين المتوسطة والعالية ([25]). وانخفض معدل توفر المياه من 75 لتر لكل شخص يومياً إلى 25 لتر ([26]). وتقدر وزارة الموارد المائية الخسائر الناجمة عن الصراع حتى الآن بنحو 74 مليار ليرة سورية ([27]).
في ضوء التوقعات الآنية والمنظورة حول التغيرات التي ستشهدها سورية في هيكل السكان والاقتصاد في السنوات القليلة القادمة، وما سيترتب عليها من زيادة الطلب على الموارد المائية اللازمة لعملية إعادة الإعمار والتنمية، فإن السؤال الذي سَيُطرح من قبل الجهات التي سيعهد إليها بهذه المهمة يتركز حول مدى كفاية مواردنا المائية من حيث الكم والنوع لتلبية الاحتياجات المطلوبة لها، ويبقى الجواب على هذا السؤال رهناً للتطورات الجارية على الأرض. فمع استمرار الصراع سيزداد حجم الاستنزاف الكبير لهذه الموارد، وسيزداد حجم الدمار الذي سيلحق ببنيتها التحتية، إضافة إلى زيادة حجم التلوث الكبير الذي سيصيبها، وما سيترتب على ذلك من تكاليف اقتصادية كبيرة ستمثل إحدى أبرز التحديات التي ستواجه الشعب السوري في المرحلة القادمة. وسيتطلب ذلك مستقبلاً المزيد من تنسيق الجهود بين القيادة العسكرية، وبين جهود بناء السلام المحلي من قبل القيادة السياسية، فيما يتعلق بالقضايا ذات البعد البيئي، والتي تعد إدارة الموارد المائية أحد مفاصلها الرئيسية.
إضافة إلى ما سبق فإن فقدان المياه يمثل أحد الأسباب الرئيسية لنزوح عدد كبير من السكان إلى مناطق بعيدة عن الصراع في وقت قصير. الأمر الذي سيترتب عليه العديد من الآثار والانعكاسات المستقبلية السلبية على كمية ونوعية الموارد المائية المتاحة.
وقد ظهر هذا التأثير بشكل خاص في موارد المياه الجوفية، والتي تشير الكثير من التقارير الداخلية إلى وجود استنزاف كبير لها من خلال الحفر العشوائي للآبار في غالبية المناطق السورية، إضافة أيضاً إلى التلوث الحاصل في العديد من مصادر المياه السطحية والجوفية ومرد ذلك إلى غياب الرقابة اللازمة للحد من هذه الأعمال، وعدم القدرة في ذات الوقت على تأمين المتطلبات اللازمة للسكان من المياه. إضافة إلى أن الهجمات والهجمات المضادة لأطراف الصراع دمرت العديد من مرافق معالجة مياه الصرف الصحي، مما أدى إلى تلوث مياه الشرب. ورغم صدور العديد من الإرشادات الصحية المتعلقة بضرورة غلي المياه الآتية من الصنابير والآبار إلا أن ارتفاع أسعار الوقود في العديد من المناطق حال دون تمكن الأهالي من القيام بذلك.
على الرغم من هذه المؤشرات التي تنذر بالخطر، فإن القوى العسكرية على الأرض تعيش حالة الإنكار للمنعكسات السلبية لهذه الأزمة، ولم تتخذ التدابير اللازمة للاستجابة لتداعياتها السلبية. وينصب تركيزها على دعم جبهات القتال، فيما تترك إدارة وصيانة الموارد المائية لمجموعة قليلة من الوكالات الدولية وأصحاب الاختصاص المقيمين في الداخل وسيقود أي تعطل في تزويد السكان بالمياه أو تلوثها إلى حركة نزوح كبيرة للسكان داخل سورية أو إلى دول الجوار.
ووفقاً لما تقدم فلا بد من وضع المياه كأولوية لدى منظمات الأمم المتحدة بالنسبة للشرب والصرف الصحي والري، وأن الفشل في عمل هذا سوف يضع سورية في خطر المأساة الوشيكة والتي يمكن أن تكون أكبر في نطاقها من قدرة السكان على تحمل تبعاتها. ولا بد أن يكون لحماية الموارد المائية أولوية لدى القائمين على الشأن المائي عبر السعي إلى حماية نوعية الموارد المائية من التلوث. ذلك أن هذه الموارد تعد من أهم الموارد الطبيعية في سورية والتي ستتحكم بتوزيع السكان وأنشطتهم الاقتصادية في المستقبل، وهي بذلك تعد من أهم مرتكزات الأمن الغذائي والأمن الوطني. وسيدعو ذلك إلى ضرورة تقدير قيمة هذه الموارد عند إعداد المشاريع ووضع الخطط الخاصة بعمليات التنمية وإعادة الإعمار، إلى جانب السعي الدائم إلى تحقيق الفاعلية المطلوبة في إدارة هذه الموارد لتنميتها والمحافظة عليها من النفاد، وتحقيق المتطلبات اللازمة للأمن المائي. وتمثل ندرة هذه الموارد وتزايد الطلب عليها في سورية تحدياً مهماً، والتي أدت سياسات نظام الأسد على مر العقود الماضية إلى تدهورها واستنزافها بشكل كبير، مع ما يتطلبه ذلك من ضرورة التقييم المستمر لهذه الموارد من حيث مصادرها وتوزيعها وتقييم الطلب عليها وتحديد التغيرات الحاصلة فيها في ظل الظروف الحالية.
بعد مرور ست أعوام على الصراع الدائر في سورية يجد الملايين من سكان هذا البلد أنهم قد تركوا تحت القصف الممنهج من قبل قوات النظام وحلفائه، وانتهاكات تنظيم الدولة وقوات سورية الديمقراطية مع عدم وجود وازع أخلاقي يردع أياً منهم عن استخدام هذا المورد الطبيعي الأكثر حيوية لتحقيق أهدافها. وعلى الرغم من إدراك هذه الفصائل أن استخدام المياه كسلاح تكتيكي من قبلها قد تسبب في احراز بعض الخسائر العسكرية للأطراف الأخرى الداخلة في الصراع، إلا أنها تدرك تماماً أن استخدام المياه كسلاح عسكري تكتيكي عديم الفائدة نسبياً ولكن يمكن اعتباره أداة فاعلة للسيطرة السياسية وفقاً لأجندتها المستقبلية، مع تجاهلها للآثار السلبية التي سببها الاستخدام العسكري للمياه على حياة المدنيين واستقرارهم الاقتصادي والاجتماعي نتيجة تعرضهم للأخطار الناجمة عن نقص المياه وتلوثها.
إن العواقب الإنسانية المترتبة عن النقص في إمداد المياه وتلوثها نتيجة استخدامها كسلاح من المحتمل أن تدوم تأثيراتها لفترة طويلة في المستقبل مهما كانت نتيجة الصراع الدائر حالياً. ويمكننا تلمس آثار ذلك بشكل واضح في المعاناة التي سببها نقص المياه في مناطق الصراع من ارتفاع أعداد السكان النازحين والمهجرين من مناطقهم إلى مناطق أخرى. إضافة إلى زيادة تفشي الأمراض المنقولة عبر المياه الملوثة والنقص في مياه الصرف الصحي ومستلزمات النظافة في غالبية مخيمات النزوح.
في ظل ما سبق فإن الفشل في الاستجابة لأزمة المياه الحالية سوف تزيد من زعزعة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة. وبالتالي لا بد من تكاتف جهود جميع الفاعلين في القضية السورية ووضع المياه كأولوية بالنسبة لكل من الشرب والصرف الصحي والري، وأن عدم القدرة على تحقيق متطلبات ذلك سوف يضع سورية في خطر المأساة الوشيكة والتي يمكن أن تكون أكبر في نطاق تداعياتها السلبية من قدرة السكان على تحمل هذه التداعيات وتبعاتها المستقبلية.
([1]) تعامل نظام الأسد على مر العقود الماضية مع الموارد المائية باعتبارها قضية أمن قومي محاطة بـثقافة السرية، وكان أي نقاش حاسم في هذا الشأن غير مقبول. وظل يعمل قطاع المياه السوري في حقيقتين. من جهة هناك الرواية الرسمية التي تصور سورية على أنها شحيحة المياه بشكل طبيعي وتعمل بنشاط على تحديث قطاع المياه لديها، ومن ناحية أخرى، هناك واقع على الأرض يتمثل بنظام إدارة مياه غير فعال وفاسد مكَّن من استغلال موارد المياه والأراضي على نطاق واسع وأحدث المزيد من الفقر والحرمان والهجرة الداخلية وسط المجتمعات الريفية.
([2]) هيئة الري والزراعة في مقاطعة الجزيرة، تاريخ 12-5-2016: https://goo.gl/QO7zJB
([3]) Tobias von Lossow, Water as Weapon: IS on the Euphrates and Tigris, German Institute for International and Security Affairs, January 2016.
([4]) مفهوم سورية المفيدة وتطبيقاته، قناة الجزيرة الفضائية، برنامج الواقع العربي، 29-9-2015: http://goo.gl/RUqO9s
([5])"سوريا المفيدة" آخر الأوراق الروسية لإنقاذ الأسد، تقرير خاص، 01-10-2015، الخليج أونلاين: http://goo.gl/xxm8Dh
([6]) عدنان عبد الرزاق، الأسد يكرس سورية المفيدة، 30-05-2016، موقع العربي الجديد الإلكتروني: https://goo.gl/2O5BN3
([7]) وادي بردى: النظام يصعد .. والمعارضة تذكر بشروطها لتزويد دمشق بالمياه، 21-6-2015، جريدة المدن الإلكترونية: http://goo.gl/ASP4Eb
([8]) وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة " يونيسيف"، يعد مرفق معالجة المياه في الخفسة أحد أهم المرافق في سورية، حيث تنتج المحطة ما معدله 400 مليون لتر من مياه الشرب يومياً. حيث تقوم المحطة بسحب المياه من نهر الفرات، الذي يعتبر المصدر الوحيد لمياه الشرب لأكثر من مليوني شخص لكامل مدينة حلب والمناطق الشرقية من المحافظة.
([9])دقّ ناقوس الخطر. جفاف سد مدينة درعا يهدد حياة الناس وزراعتهم، 15-04-2014، موقع أورينت نت: http://o-t.tv/_9
([10])النظام السوري يعاقب درعا بمنع المياه عنها، 17-05-2016، الجزيرة نت، http://goo.gl/poEedu
([11])نظام الأسد ينتقم من حي جوبر المحاصر بإغراقه بمياه الصرف الصحي، الهيئة السورية للإعلام، 22-05-2016: https://goo.gl/a5Vndq
([12]) جبهة فتح الشام هي المسؤولة عن قطع المياه عن مدينة حلب، تقرير صادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان بتاريخ14-5-2014: http://goo.gl/G22DgE
([13]) Matthias von heın, Islamic state using water as a weapon, 3/3/2016: deutsche welle: http://goo.gl/KIG6bB
([14])كيف يستخدم تنظيم «الدولة الإسلامية» المياه كسلاح في العراق وسوريا؟، 8 فبراير ,2016، موقع ساسة بوست: http://goo.gl/3BuZ1x
([15]) محمد خالد، 31/12/2015، سد تشرين في خطر: داعش أم سورية الديموقراطية، جريدة المدن الإلكترونية. http://goo.gl/RZAv20
([16]) يشير تقرير خاص لجريدة عنب بلدي بعنوان: سد تشرين.. الإنجاز الأكبر لـ “سوريا الديمقراطية” منذ تأسيسها، أشار ت فيه إلى أن مياه نهر الفرات غمرت 7 قرى في ريف حلب الشرقي عقب سيطرة قوات سورية الديمقراطية على سد تشرين في منطقة منبج وتوقف عنفاته عن العمل. وفي بيان لها حول الموضوع وجهت وزارة الطاقة والثروة المعدنية في الحكومة السورية المؤقتة بتاريخ 30 كانون الأول، نداءً إلى هيئة الأمم المتحدة والهلال والصليب الأحمر وجميع المنظمات والدول الفاعلة في الملف السوري لاتخاذ إجراءات فورية لتحييد سد تشرين الكهرمائي عن أي عمل عسكري في محيطه. وطالب البيان كذلك ببذل جميع الجهود للسماح بإعادة الكادر الفني العامل في السد سابقًا لإدارته وتشغيله من حيث تمرير المياه وتوليد الكهرباء، وأكدت الوزارة أنها تواصلت مع الحكومة التركية لإيقاف المياه عن السد إلى حين عودته للخدمة: http://goo.gl/IHeglU
([17]) يوجد عدد من الاتفاقيات التي تصنف استخدام المياه كسلاح باعتبارها جريمة حرب. ومن أهمها البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقيات جنيف المتعلق بحماية ضحايا النازعات المسلحة غير الدولية (المادة 49) والذي ينص على أن " تجويع المدنيين كأسلوب للقتال محرم. ووفقاً لذلك يحظر مهاجمة أو تدمير أو إزالة أو تعطيل أي مواد لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب والإمدادات وأعمال الري ". ويتعين على الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف تقديم الأشخاص للمحاكمة أو تسليمهم ممن يزعم بأنهم ارتكبوا الانتهاكات المشار إليها في هذا البروتوكول. كما تحدّد الفقرة 1 من المادة 11 من شرعة حقوق الإنسان، " أنّ للإنسان الحقَّ في تأمين مستوىً معيشيٍّ كافٍ يضمن له الكرامة الإنسانية والحياة، ومن ضمنها الماء. وأنّ الحقّ في الماء هو حقٌّ لا يمكن فصله عن الحقّ في أعلى مستوىً من الصحّة الجسمي ".
([18])ممثلة اليونيسف: جميع الأطراف استخدمت المياه كسلاح بالحرب السورية، مقابلة إذاعية على راديو روزانة بتاريخ 9-3-2016 : http://rozana.fm/ar/node/18267
([19]) خطة الاستجابة الإنسانية في سورية لعام 2016، والخطة الإقليمية للاجئين والصمود 2016-2017، مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
([20]) Nouar Shamout, Syria Faces an Imminent Food and Water Crisis, 24 June 2014, chatham house, the Royal Institute of International Affairs, UK.
([21])الصليب الأحمر يحذر من انتشار أوبئة في سورية بسبب مشكلة المياه، إذاعة الحرة، 03-09-2015:http://goo.gl/JICPbl
([22])ينابيع المياه بجنوب سوريا تذهب هدرا.. وإسرائيل المستفيدة، عربي 21، 30-03-2016: http://goo.gl/SpR28t
([23])Syria: Water used as weapon of war, 02-9-2015, The International Committee of the Red Cross https://www.icrc.org/en/document/syria-water-used-weapon-war
([24])The Importance of Planning Syria’s Eventual Reconstruction, May 24, 2016, The World Bank: http://goo.gl/KhwFnS
([25]) الموجز الاقتصادي الفصلي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا: الآثار الاقتصادية للحرب والسلام، العدد (6)، يناير 2016، البنك الدولي.
([26]) - Running dry: Water and sanitation crisis threatens Syrian children، unicef: http://goo.gl/GKjfVS
([27]) يصعب تحديد قيمتها الفعلية بالدولار بدقّة لكونها قيمة تراكمية في ظل الارتفاع المتواصل لسعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية، إلا أن القيمة بالتأكيد تتجاوز النصف مليار دولار.
أجرى مركز عمران للدراسات الاستراتيجية استطلاعاً لرأي المجالس المحلية العاملة في مناطق سيطرة القوى الوطنية، شمل الاستطلاع 105 مجالس في المحافظات السورية الآتية: دمشق؛ ريف دمشق؛ حلب؛ إدلب؛ درعا؛ القنيطرة؛ حمص؛ حماة؛ اللاذقية.
وفي حين قدمت القراءة الأولى للاستطلاع تحليلاً للدور السياسي الذي يمكن أن تؤديه المجالس في المرحلة الحالية والانتقالية، فإن القراءة الحالية ستتناول الدور الإداري والخدمي للمجالس المحلية حالياً وفي المرحلة الانتقالية، من حيث تحديد النطاق الجغرافي للخدمات، وطبيعة الفئات المستهدفة بالخدمات، وما هي أولويات المجالس في الجانب الخدمي. إضافةً لتحديد تموضع المجالس ضمن خارطة العمل المحلي الخدمي ودرجة مركزية الأدوار الإدارية التي تقوم بها على المستوى المحلي، والعوائق التي تحول بينها وبين قيامها بأدوارها. كما سيتم تناول طبيعة الأنشطة الاقتصادية القائمة في مناطق عمل المجالس وأهم مواردها المالية، وما هي الأسباب الكامنة وراء ضعف الجباية المحلية، والتطرق إلى آليات تدخل المجالس المحلية في عملية التنمية من خلال اضطلاعها بالأدوار الإدارية والخدمية.
ملخص تنفيذي
أجرى مركز عمران للدراسات الاستراتيجية استطلاعاً لرأي المجالس المحلية العاملة في مناطق سيطرة القوى الوطنية، شمل الاستطلاع 105 مجالس في المحافظات السورية الآتية: دمشق؛ ريف دمشق؛ حلب؛ إدلب؛ درعا؛ القنيطرة؛ حمص؛ حماة؛ اللاذقية.
وفي حين قدمت القراءة الأولى للاستطلاع تحليلاً للدور السياسي الذي يمكن أن تؤديه المجالس في المرحلة الحالية والانتقالية، فإن القراءة الحالية ستتناول الدور الإداري والخدمي للمجالس المحلية حالياً وفي المرحلة الانتقالية، من حيث تحديد النطاق الجغرافي للخدمات، وطبيعة الفئات المستهدفة بالخدمات، وما هي أولويات المجالس في الجانب الخدمي. إضافةً لتحديد تموضع المجالس ضمن خارطة العمل المحلي الخدمي ودرجة مركزية الأدوار الإدارية التي تقوم بها على المستوى المحلي، والعوائق التي تحول بينها وبين قيامها بأدوارها. كما سيتم تناول طبيعة الأنشطة الاقتصادية القائمة في مناطق عمل المجالس وأهم مواردها المالية، وما هي الأسباب الكامنة وراء ضعف الجباية المحلية، والتطرق إلى آليات تدخل المجالس المحلية في عملية التنمية من خلال اضطلاعها بالأدوار الإدارية والخدمية.
وقد خلصت نتائج استطلاع الرأي إلى ما يلي:
• تضطلع أغلب المجالس المحلية بدور إداري وخدمي مركزي ضمن مناطق عملها؛
• يغلب على خدمات المجالس المحلية تغطيتها للحيز الجغرافي الذي يقع ضمن نطاقها الإداري؛
• تقدم غالبية المجالس المحلية خدماتها للسكان المحليين والنازحين على حدٍ سواء؛
• يحتل قطاع البنية التحتية المرتبة الأولى في سلم أولويات عمل المجالس المحلية، فيما يحوز الدفاع المدني على أدنى هذه المراتب؛
• تتصدر قلة الموارد المالية قائمة العوامل التي تحد من قدرة المجالس المحلية على توفير الخدمات؛
• تتنوع الأنشطة الاقتصادية القائمة في مناطق عمل المجالس المحلية بين أنشطة خدمية وزراعية وتجارية، في حين يغيب عنها النشاط الصناعي؛
• ما تزال المجالس المحلية تعتمد على الدعم المالي الذي توفره المنظمات المانحة، مع تنامي اعتمادها على الضرائب من خلال تفعيل آليات الجباية المحلية؛
• يعد انخفاض القدرة الاقتصادية للسكان المحليين العامل الأهم في ضعف الجباية المحلية؛
• تتركز آليات تدخل المجالس المحلية في عملية التنمية على التنسيق مع الجهات الداعمة بشكل رئيسي.
معلومات الاستطلاع
- تاريخ الدراسة: من 1-1-2016 إلى 3-2-2016
- التنفيذ: مركز عمران للدراسات الاستراتيجية
- عينة الاستطلاع: 105 مجلس محلي
جدول توزع العينة
منهجية البحث
1. مجتمع العينة
تم اختيار عينة غرضية من ضمن المجالس المحلية للمحافظات والمجالس الفرعية التابعة لها، وذلك في المناطق الخارجة كلياً أو جزئياً عن سيطرة نظام الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية والإدارة الذاتية الكردية، نظراً لقدرة المجالس في هذه المناطق على القيام بأدوار عدة ضمن الحدود الإدارية لمناطقها.
2. حجم العينة وتوزيعها
شملت عينة الاستطلاع 105 مجلساً محلياً من إجمالي عدد المجالس البالغ 427. حيث استجاب من كوادر تلك المجالس 62 رئيس مجلس و32 عضو مكتب تنفيذي و11 عضو، فيما توزعت العينة على محافظات دمشق وريف دمشق وحلب وإدلب ودرعا والقنيطرة وحمص وحماه اللاذقية، وتفاوت توزع العينة على المجالس الفرعية وفقاً لتفاوت عدد المجالس الفرعية في كل محافظة.
3. وثوقية العينة
حرص الباحثون على طرح أسئلة الاستبيان وعرضها على المستجيبين بغض النظر عن آرائهم الشخصية أو توقعهم لاتجاه نتائج الاستطلاع، كما تم التركيز على صياغة الأسئلة بطريقة محايدة لا تؤثر على آراء المستجيب.
4. مدة الاستطلاع
استغرقت عملية الاستطلاع ما يزيد عن الشهر، حيث بدأ التواصل مع المجالس المحلية اعتباراً من 1-1-2016 وحتى 3-2-2016، تلا ذلك عملية تفريغ البيانات ثم تحليلها واستخلاص النتائج النهائية.
5. منهجية التحليل
تم تقسيم عملية التحليل إلى جزأين وفق هدف الدراسة المتمثل في رصد توجهات المجالس المحلية ومدى اضطلاعها بأدوارها على المستويين الإداري والسياسي، وبالتالي فإن هذا القسم من التحليل يتناول نتائج الاستطلاع ضمن التساؤلات التي تم طرحها حول الدور الإداري والخدمي للمجالس المحلية ومدى حيازتها لأهم مقوماته ومسؤولياته.
وتأتي عملية إدماج عملية الاستطلاع للدورين السياسي والإداري من منطلق وجود جدلية مستمرة بين فاعلية دور المجالس المحلية في الدفع السياسي ودورها الرئيس في إدارة المجتمعات المحلية وتحقيق مصالحها وتمثيلها.
المقدمة
يشكل توفير الخدمات الأساسية أحد المسؤوليات التي تعمل عليها الدولة عبر مؤسساتها لتحقيق استقرار وتنمية مجتمعها. وقد شهد الوضع الإداري والخدمي في سورية قبل الثورة تراجعاً حاداً لوحظ من خلال الاختناقات الخدمية التي تكرّرت دون أن يكون هنالك مقاربة شاملة لمعالجتها، وهو ما حوّل الأزمات من قطاعية إلى بنيوية كشفت عجز نظام الأسد عن إدارة الدولة والمجتمع، الأمر الذي أدى إلى جانب عوامل أخرى لقيام الثورة السورية والتي هدفت إلى إيجاد نظام سياسي جديد يتمتع بالشرعية والفاعلية.
وكأسلوب لمعاقبة المناطق التي خرجت عن سيطرته، لجأ نظام الأسد إلى حرمانها من الخدمات عبر إيقاف تزويدها بها وتعمد إلحاق الضرر بمنشآتها الخدمية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك، التدهور السابق لقطاع الخدمات قبل الثورة، يتضح حجم المشكلة التي كان على المجالس المحلية أن تواجهها لتوفير الخدمات للسكان باعتبارها هيئات تمثيلية خدمية.
وفي حين تناولت دراسة سابقة لاستطلاع رأي قام به مركز عمران لمئة وخمس مجلس محلي حول الدور السياسي للمجالس المحلية، ستركز هذه الدراسة على دورها الإداري، من حيث طبيعته ونطاق خدمات المجالس جغرافياً وديمغرافياً وأولوياتها والعوائق التي تحدّ من قدرتها على توفير الخدمات، إضافةً إلى تحديد المصادر المالية للمجالس ومنها الجباية المحلية وعوامل ضعفها، وصولاً إلى الدور التنموي للمجالس وآليات تدخلها في هذا المجال.
الدور الإداري للمجالس
أحدث الصراع الدائر في سورية طلباً متزايداً على الخدمات مما شكّل عبئاً إضافياً على الإدارات المحلية المكلفة بإدارة شؤون السكان، وتعتبر المجالس المحلية إحدى هذه الإدارات بما تحوزه من شرعية التمثيل. لذا كان من المهم تناول الدور الإداري والخدمي للمجالس من حيث طبيعته، ونطاق الخدمات والأولويات في هذا المجال، والتحديات التي تواجه المجالس في توفير الخدمات للسكان.
ويتراوح الدور الإداري والخدمي للمجالس بين المركزي والثانوي، فإما أن تقوم بتأدية هذا الدور بمفردها بما يتوفّر لها من إمكانيات وموارد أو أن تؤديه بالتشارك مع هيئات محلية أخرى توافقاً أو تنافساً. وتظهر نتائج استبيان دور المجالس المحلية في المرحلة الحالية والانتقالية محوريّة الدور الإداري والخدمي للمجالس سواءً باعتبارها الجهة الوحيدة وهو ما أجاب به 50% من عينة الاستبيان، أو باعتبارها جهة مركزية إلى جانب جهات عدّة وهو ما أفاد به ما نسبته 41%، في حين وصف 7% دور مجالسهم بأنه يقتصر على التنسيق، مقابل 2% يعتقدون بأنه دور ثانوي.
ولعلّ أبرز ما يفسر مركزية دور المجالس المحلية في توفير الخدمات، الأسباب الآتية:
1. استقطاب الكوادر المتخصّصة: وهو ما تعمل عليه المجالس بشكل حثيث من خلال إجراء مسابقات تعيين تستند إلى معايير مهنية. وهذا الدور يزداد أهمية خاصة مع كثرة الحديث عن وقف إطلاق النار وتفعيل المسار السياسي حيث أن المجالس المحلية هي أحد الجهات المرشحة لاستقطاب المدنيين المتخصصين ممن حارب في صفوف الفصائل العسكرية؛
2. الخبرات المكتسبة: حيث أتيح لكوادر المجالس اكتساب خبرة نوعية في إدارة العمل الخدمي العام سواءً ممّا تحقق لها في ورشات التدريب أو ما اكتسبته خلال عملها الميداني؛
3. الاستقرار المؤسساتي: الذي يتيح للمجالس تنفيذ برامجها في قطاع الخدمات والتي غالباً ما تستلزم وقتاً زمنياً طويلاً؛
4. العلاقات البينية: كلما تمتّعت المجالس بعلاقات إيجابية مع الهيئات المحلية العسكرية منها والمدنية، تمكنت من تعزيز دورها الخدمي بسبب ما توفره تلك الهيئات لها من دعم مجتمعي ولوجستي؛
5. توفر الجهات الداعمة: على الرغم مما يواجه المجالس من عجز مالي يعيق دورها الخدمي، إلا أن توفر جهات داعمة يمكّنها من لعب دور متقدم في توفير الخدمات.
يغلب على خدمات المجالس المحلية تغطيتها للنطاق الجغرافي الذي يقع ضمن نطاقها الإداري، حيث أجاب 63% من العينة عن وصول خدمات مجالسهم إلى كافة مناطق القطاع الإداري الذي يتولون إدارته، في حين أجاب 32% بأن الخدمات تصل إلى غالبية المنطقة الجغرافية التي تتبع لهم إدارياً وليس كلها، وأفاد ما نسبته 5% بأن خدماتهم مقتصرة على أجزاء فقط من النطاق الجغرافي لوحداتهم الإدارية.
ويمكن أن تفسّر شمولية خدمات المجالس للوحدات الإدارية التي تديرها بما يلي:
1. قدرة المجالس على التحرك بحرية ضمن مناطق عملها مع تراجع التهديدات الأمنية التي تحد من حركتها؛
2. توفر عدد كاف من الكوادر كفيل بتخديم النطاق الإداري لمنطقة عمل المجالس؛
3. تقسيم النطاق الإداري إلى قطاعات جغرافية يسهل تخديمها؛
4. توفر دعم لوجستي من قبل فصائل المقاومة الوطنية مما يتجلى بتوفير الحماية والمواصلات لكوادر المجلس؛
5. وجود دعم مجتمعي يزيد من تقبّل دور المجالس ويسهّل عمل كوادرها.
وبالنظر إلى التركيبة السكانية للمجتمعات المحلية يلاحظ تغيّرها بفعل حركات الانزياح الديموغرافي بحثاً عن الأمن ومتطلبات المعيشة، وهو ما أحدث نقاشاً حول فئة السكان التي يتوجب على المجالس تخديمها، إضافةً إلى مدى أحقيّة مشاركة النازحين في المجالس تشكيلاً أو انتخاباً. ووفقاً لنتائج الاستبيان لا تفرق معظم المجالس بين السكان الأصليين والنازحين في عملها الخدمي، حيث أجاب 95% من العينة بأن خدماتهم تشمل الفئتين معاً، في حين أجاب 3% باقتصارها على السكان الأصليين دون النازحين، مقابل 2% قالوا بأنها مخصّصة للنازحين إلى المناطق التي تديرها مجالسهم.
ويمكن أن يعزى توجه المجالس لعدم التمييز في خدماتها بين السكان الأصليين والنازحين إلى ما يلي:
1. توفر موارد كافية تمكن المجالس من تخديم كلا الشريحتين؛
2. استقرار النازحين في المجتمعات المضيفة وهو ما يسهّل على المجالس تخديمهم؛
3. اعتبار المجالس النازحين لمناطق عملها مواطنين لهم نفس الحقوق والواجبات في جميع الأراضي السورية.
وتعمل المجالس على توفير خدماتها وفق سلم أولويات يتم تحديده بناءً على معرفة احتياجات مجتمعاتها، وقد أظهرت نتائج الاستبيان ترتيب المجالس لأولوياتها الخدمية وفق الآتي:
1. خدمات البنية التحتية بما يشمله ذلك من صيانة شبكات الطرق والمياه والصرف الصحي والمنشآت العامة؛
2. خدمة التعليم وتأمين مستلزمات العملية التعليمية (رواتب مدرسين، طباعة كتب مدرسية، تنظيم الامتحانات)؛
3. خدمة الإغاثة في المرتبة الثالثة من خلال توفير السلال الإغاثية بالتعاون مع الجهات الداعمة والهيئات المحلية؛
4. خدمات الصحة عبر توفير المراكز الصحية ومستلزماتها الطبية؛
5. الدفاع المدني من حيث تأمين الآليات وتدريب الكوادر.
ويمكن أن تعزى النتيجة السابقة إلى وجود تحول في نمط الإدارة المتّبع من قبل المجالس من الإدارة العفوية القائمة على ردود الفعل إلى الإدارة المنظّمة التي تتوخى تحقيق أهداف محددة بآليات واضحة، حيث يلاحُظ احتلال قطاع البنية التحتية الأولوية في سلم أولويات خدمات المجالس المحلية، لما له من دور في تحقيق الاستقرار للمجتمعات المحلية، علماً أن المجالس تواجه تحدياً كبيراً في عملية إصلاح هذا القطاع نظراً لحجم الضرر الذي لحق به جرّاء استهدافه المنظّم من قبل قوات الأسد والفصائل الموالية له. في حين يفسر حلول الدفاع المدني في أدنى سلم أولويات المجالس بوجود هيئات مستقلّة متخصّصة تمارس عملها في هذا المجال بالتعاون مع المجالس.
وتواجه المجالس المحلية عدة تحديات تؤثر سلباً على قدرتها في توفير الخدمات، جاءت وفق الترتيب الآتي حسب ما أظهرته نتائج الاستبيان: 1) ضعف الموارد المالية، 2) قلة الكوادر، 3) صعوبات أمنية، 4) مشاكل إدارية، 5) تدخل فصائل المقاومة الوطنية في عمل المجالس.
تعمل المجالس المحلية في بيئة متغيرة وذات مخاطر عالية تؤدي إلى خلق هذه التحديات، ويمكن أن يفسر تصدّر عامل قلّة الموارد المالية قائمة التحديات بالآتي:
1. ضعف قدرة المجالس على استجلاب الدعم من الجهات المانحة؛
2. تراجع حجم تمويل الجهات المانحة وهو ما يلاحظ من تقليص برامجها التدخلية؛
3. ضعف تطوير المجالس لمواردها الذاتية لأسباب موضوعية وذاتية.
البيئة الاقتصادية للمجالس
تحتاج المجالس إلى موارد مالية كافية لتتمكن من توفير خدماتها للسكان، وكلما نجحت المجالس في تنويع مواردها المالية، تمكّنت أكثر من توفير الخدمات بشكل مستقرّ وبنوعيّة أفضل. وتعتبر البيئة الاقتصادية التي تعمل فيها المجالس إحدى العوامل المؤثرة في حجم ونوعية مواردها المالية. ويلاحظ من نتائج الاستبيان، التنوع في النشاط الاقتصادي لمناطق عمل المجالس بحيث يتضمن كلاً من الأنشطة الخدمية 54% والزراعية 42% والتجارية 4%، في حين يغيب عنها النشاط الصناعي.
ويمكن تفسير هذه النتيجة بالآتي:
1. افتقاد البنية التحتية والكوادر المدربة اللازمة لتوطين الصناعة؛
2. هجرة رؤوس الأموال اللازمة لتأسيس نشاط صناعي؛
3. تعرض المنشآت الصناعية الكبيرة الخاصة والعامة للتدمير وعمليات النهب أو نقلها لمناطق تقع تحت سيطرة نظام الأسد أو إلى خارج سورية؛
4. عدم استقرار إمدادات الطاقة والمواد الأولية وهو ما يزيد من تكاليف الإنتاج؛
5. اعتماد المناطق التي تديرها المجالس في توفير مستلزماتها من المواد المصنعة إما على نظام الأسد أو على دول الجوار وهو ما أضعف فرص قيام نشاط صناعي محلي؛
مما تفيد به النتائج أيضاً وجود تنوع في الموارد المالية للمجالس بحيث تشمل موارد ذاتية وخارجية رتبتها المجالس المحلية من حيث وفرتها وفق الآتي:
1. دعم المنظمات بما فيها المنظمات الحكومية وغير الحكومية الإقليمية منها والدولية؛
2. الضرائب والرسوم المحلية التي تتقاضاها المجالس من المكلفين مالياً؛
3. الدعم الذي توفره مؤسسات المعارضة الرسمية كالائتلاف الوطني والحكومة السورية المؤقتة؛
4. الإيرادات المالية الناجمة عن مشاريع إنتاجية تعود ملكيتها للمجالس وأيضاً تشغيل واستثمار الأملاك العامة التي تديرها ضمن نطاقها الإداري؛
5. الإيرادات المالية الناجمة عن الهبات والتبرعات التي يقدمها الأفراد بشكل مباشر وغير مباشر؛
ويمكن تفسير توجه المجالس للاعتماد المتزايد على الضرائب بعدة أسباب منها:
1. رغبة المجالس في تنويع مواردها الذاتية خاصة مع تراجع الموارد الخارجية؛
2. رغبة المجالس في توفير خدمات مستقرة للسكان المحليين؛
3. أحقيتها في فرض الضرائب استناداً إلى ما تتمتع به من شرعية.
وقد لجأ عدد من المجالس لتفعيل الجباية المحلية بهدف التقليل من العجز المالي الذي تعاني منه. وتشير الوقائع إلى انخفاض الإيرادات المالية المتحققة عن الجباية في مناطق عمل المجالس مقارنة بمثيلتها في مناطق سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" ومناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية. وقد رتبت العينة الأسباب التي تحد من فاعلية الجباية المحلية وفق الآتي:
1. انخفاض مستوى دخل السكان المحليين؛
2. ضعف تعاون السكان المحليين مع جهود المجالس المحلية في هذا المجال؛
3. غياب آلية موحدة لتنظيم الجباية؛
4. ضعف تعاون فصائل المقاومة الوطنية مع المجالس؛
5. ضعف الشفافية المالية للمجالس وهو ما يحول دون التزام السكان بدفع ما عليهم من مستحقات مالية.
ورغم ما حققته المجالس من تقدم ملحوظ فيما يتعلق باحتساب الضرائب وآليات جبايتها إلا أنها لم تبلغ بعد حجم الإيرادات المتحصلة في مناطق سيطرة كل من تنظيم "الدولة الإسلامية" والإدارة الذاتية. وعن أسباب ضعف الجباية يأتي في مقدمتها انخفاض القدرة الاقتصادية للسكان المحليين نتيجة عدة عوامل:
1. ارتفاع نسبة البطالة إلى مستويات قياسية نتيجة غياب مشاريع إنتاجية توفر فرص عمل كافية؛
2. اعتماد قسم كبير من السكان على المساعدات الإنسانية لتوفير متطلباتهم الحياتية؛
3. انخفاض قيمة الليرة السورية التي ما تزال تعتبر العملة الرسمية المتداولة وهو ما أثر سلباً على مداخيل السكان التي تعتبر بالأصل شحيحة.
ولعل أبرز ما يفسر النتائج التي خلص إليها الاستبيان فيما يتعلق بأسباب ضعف الجباية المحلية هو الآتي:
1. عدم قناعة المكلفين مالياً بدفع ما عليهم من التزامات لا سيما وأن لديهم تساؤلات حول الشفافية المالية للمجالس واعتراضات حول نوعية الخدمة المقدمة لهم واستقرارها؛
2. الطواعية في دفع الالتزامات المالية وغياب إجراءات ملزمة بحق المتخلفين عن الدفع؛
3. ضعف حس المسؤولية والالتزام لدى قسم كبير من المكلفين مالياً واعتبار التهرب من دفع الضرائب أمراً لا يستوجب المساءلة المجتمعية ولا القانونية؛
دور المجالس المحلية في التنمية
واصل الاقتصادي السوري تدهوره بفعل الإدارة غير الرشيدة من قبل نظام الأسد، إضافة إلى ما خلفته الحرب من آثار سلبية عليه. وقد انعكس ذلك سلباً على السكان وتجلى في فقدان العديد منهم لمصدر رزقه وتحول جزء كبير منهم إلى متلقين للدعم الذي توفره الهيئات المحلية والمنظمات الداعمة. وقد أدى تفاقم المعاناة الإنسانية والمعيشية مع استمرار الحرب وانخفاض الموارد المتاحة لحدوث تحول في طبيعة تدخل المنظمات الداعمة في المجتمعات المحلية حيث أصبحت تركز بشكل أكبر على المقاربة التنموية لتوفير مصادر رزق للسكان. وتعتبر المجالس المحلية أحد الفاعلين في هذا المجال وتتنوع أشكال التدخلات التي تقوم بها والتي رتبتها عينة المجالس حسب الآتي:
1. التنسيق مع الجهات الداعمة في توطين مشاريع التنمية المحلية؛
2. إقامة مشاريع تنموية بما يتوفر لها من موارد مالية؛
3. تقدم الدعم المادي لمشاريع تنموية؛
4. بناء قدرات السكان المحليين من خلال ما توفره لهم من تدريب؛
5. توفير استشارات ودعم فني للمشاريع التنموية؛
ويمكن تفسير هذا التوجهات وأولوياتها بالآتي:
1. ضعف قدرة المجالس الذاتية على إقامة مشاريع تنمية محلية نتيجة ضعف الموارد؛
2. توقف العديد من مشاريع التنمية التي بدأتها المجالس نتيجة عدم توفر الدعم المادي الكافي والأوضاع الأمنية غير المستقرة؛
3. عدم جاهزية المجالس للعب دور محوري في عملية التنمية من حيث الكوادر والآليات؛
4. تركيز المجالس جهودها في قطاع الخدمات على حساب مشاريع التنمية؛
5. منافسة هيئات محلية ذات إمكانيات كبيرة للمجالس في مجال التنمية وهو ما يضعف حضورها في هذا المجال؛
الخاتمة
تظهر نتائج الاستبيان مركزية الدور الخدمي للمجالس وشمولية خدماتها من حيث النطاق الجغرافي والديمغرافي بحيث تشمل القطاع الإداري الذي تديره وكلاً من السكان المحليين والنازحين دون تمييز، وتُقدم المجالس خدماتها وفق أولويات يأتي في مقدمتها قطاعي البنية التحتية والتعليم. وتواجه المجالس تحديات عدة تحد من دورها الخدمي ومن أبرزها قلة الموارد المالية وقلة الكوادر وهو ما يتطلب منها العمل على صياغة استراتيجية متكاملة لمعالجة مكامن الضعف وتعزيز نقاط قوتها في هذا المجال.
وبالنظر إلى البيئة الاقتصادية لمنطقة عمل المجالس، فيلاحظ تنوع النشاط الاقتصادي القائم فيها يأتي في مقدمتها النشاط الخدمي ثم الزراعي ثم التجاري، في حين يغيب النشاط الصناعي عن مناطق عمل عينة المجالس لأسباب موضوعية وذاتية. وتترك البيئة الاقتصادية أثرها على الموارد المالية للمجالس والتي تشمل: الضرائب والرسوم المحلية، وإيرادات المشاريع التنموية، وموارد خارجية تتضمن الدعم الذي توفره الجهات المانحة ومؤسسات المعارضة والأفراد. وفي حين أظهرت النتائج استمرار اعتماد المجالس على الإيرادات الخارجية كمورد مالي إلا أنها أظهرت في الوقت نفسه تقدم الضرائب كمورد ذاتي يعاني من مشاكل عدة أبرزها انخفاض مستوى دخل السكان المحليين وعدم تعاونهم مع جهود المجالس في الالتزام بسداد ما عليهم من التزامات مالية.
ونتيجة استمرار الصراع وتنامي حجم الاحتياجات الإنسانية اضطرت الجهات المانحة والمجالس المحلية لتبني حلول تنموية على حساب التدخلات النقدية والعينية المباشرة بما يسهم في توفير مصادر دخل للسكان وإحداث تغيير نوعي في المجتمعات المحلية. وتعتبر المجالس أحد الفاعلين في عملية التنمية وتسهم في ذلك من خلال ما تقوم به من دور تنسيقي نظراً لضعف مقوماتها الذاتية.
منذ وصوله للحكم في العام 2002، يدرك جيداً حزب العدالة والتنمية الدور الكبير للجيش التركي في الحياة السياسية، والحساسية العالية لهذا الجيش تجاه الإسلاميين ووصولهم للحكم، بالمقابل يعي الجيش التركي ميل العدالة والتنمية لتقليص نفوذه في الحياة السياسية؛ لذلك لم تخلو العلاقة بين الطرفين من المناكفات والأخذ والجذب طيلة 14 عام من حكم العدالة والتنمية، وبناءً عليه تحاول هذه الورقة التحليلية، الإجابة على السؤال الرئيسي التالي كيف يمكن تفسير هذا التحرك الانقلابي من قبل مجموعة من الجيش التركي؟، وماهي تداعيات فشله على السياسية التركية الداخلية، وخارطة علاقاتها الخارجية.
مقدمة
أقدمت مجموعة من الجيش التركي في الخامس عشر من تموز الفائت على محاولة انقلابية كان مصيرها الفشل، المحاولة التي تعد الخامسة من نوعها منذ قيام الجمهورية التركية 1923، حيث سبقها أربعة انقلابات ناجحة كان أولها على الحكومة المنتخبة برئاسة، عدنان مندريس 1960، في حين كان الثاني في العام 1971 وهو ما عرف "بانقلاب المذكرة"، حيث تم بتوجيه أمر استقالة من الجيش إلى رئيس الحكومة، سليمان ديميريل دون استخدام القوة العسكرية، أما الثالث فقد كان أشدها دموية وحصل في العام 1980 وقاده الجنرال، كنعان إيفرين، ليطيح بالحكومة السادسة التي شكلها سليمان ديميريل، بينما سمّي الرابع بانقلاب" ما بعد الحداثة"، والذي جرى عام 1997 على حكومة حزب الرفاه برئاسة، نجم الدين أربكان، أول رئيس وزراء في تركيا بتوجه إسلامي صريح، حيث عقب هذا الانقلاب تم حظر حزب الرفاه واعتقلت قياداته بما فيهم أربكان ورئيس بلدية اسطنبول آنذاك، رجب طيب أردوغان .
ولعل الانقلابات الأربعة التي سبقت انقلاب تموز الفاشل تشترك بمجموعة من النقاط أهمها:
• الذريعة الدائمة للانقلابات هي حماية المبادئ الأتاتوركية التي قامت عليها الجمهورية التركية وعلى رأسها العلمانية، كون الجيش التركي ومنذ تأسيس الجمهورية اضطلع دستورياً بدور الحامي للجمهورية وقيمها.
• الظرف السياسي والاقتصادي السابق للانقلابات كان مهيأ، من حيث وجود ركود وتراجع في المؤشرات الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة وتدني مستوى المعيشة، بالإضافة لحالة من الفوضى السياسية والصراعات بين الأحزاب التي كانت في بعض الحالات دموية كما في انقلابي 1971 و1980، الأمر الذي كان يساهم بخلق حاضنة شعبية للانقلاب.
• قيادة الانقلابات كانت تشتمل على كبار الضباط في الجيش التركي، بالإضافة إلى الوحدات التي تمثل القوة الضاربة لهذا الجيش، وخصوصاً الجيش الأول التركي، وهو الأكثر تعصباً للقيم العلمانية داخل الجيش.
• وجود غطاء ومباركة دولية للانقلابات، وبخاصة من شركاء تركيا في حلف الناتو الذين يرغبون بالحفاظ على الصورة التي تخدم مصالحهم للجمهورية التركية، كدولة علمانية تقف في وجه الامتداد الإسلامي خاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية في طهران، وفي وجه تمدد الاتحاد السوفييتي سابقاً في الشرق الأوسط ومن بعده روسيا.
ومنذ وصوله للحكم في العام 2002، أدرك جيداً حزب العدالة والتنمية الدور الكبير للجيش التركي في الحياة السياسية، والحساسية العالية لهذا الجيش اتجاه الإسلاميين ووصولهم للحكم، لذا حاول على امتداد الأربعة عشر عاماً الماضية إجراء تغييرات تشريعية ودستورية تخفف من سيطرة هذا الجيش على الحياة السياسية، تحت غطاء تلبية متطلبات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي مستفيداً في هذا الإطار من كون الاتجاه نحو الغرب هو مطلب أتاتوركي ويلقى تأييداً من كل أطياف الشعب بمن فيهم العلمانيين والليبراليين.
بالمقابل كان الجيش التركي يعي جيداً هذا الميل لتقليص نفوذه من قبل حزب العدالة والتنمية، لذلك لم تخلُ العلاقة بين الطرفين من المناكفات والتجاذبات طيلة الفترة الماضية من حكم العدالة والتنمية، لكن الإنجازات التي حققها العدالة والتنمية خلال زمن قياسي، والتي تمثلت بنهضة حقيقية على مستوى الاقتصاد والبنية التحتية والصحة والتعليم والعلاقات الخارجية لتركيا، وقفت في وجه أي محاولة من قبل الجيش للإطاحة به، وذلك بسبب التأييد الشعبي الكبير للحزب داخلياً والارتياح الأمريكي لتجربة العدالة والتنمية كحزب إسلامي وسطي يشكل نموذجاً للإسلاميين الذين تبحث عنهم الولايات المتحدة الأمريكية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 .
بناءً عليه تحاول هذه الورقة التحليلية الإجابة على السؤال الرئيسي التالي: كيف يمكن تفسير هذا التحرك الانقلابي من قبل مجموعات داخل الجيش التركي؟ وماهي تداعيات فشله على السياسية التركية الداخلية وخارطة علاقاتها الخارجية؟
ويتفرع عن هذا السؤال الرئيسي مجموعة من الأسئلة الفرعية، كالتالي:
1. ما هي الظروف التي هيأت مناخاً مناسباً للتحرك من وجهة نظر الانقلابيين على الصعيدين الداخلي والخارجي؟
2. هل فعلاً كان هذا الانقلاب مفاجئاً وغير متوقع بالنسبة للحكومة التركية؟
3. ما هي أسباب فشل هذا الانقلاب؟
4. هل يعتبر رد فعل الحكومة التركية غير مسبوق ومبالغ فيه؟
5. ما هي انعكاسات تلك المحاولة على صعيد السياسة الداخلية والخارجية التركية؟
أولاً: العلاقة بين الجيش وحكومة العدالة والتنمية
يبدو أن لبعض عناصر الجيش التركي أسبابها لحمل الضغينة تجاه حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان. فعلى مدار التاريخ التركي، تمتع الجيش بسطوة كبيرة على الشؤون السياسية في البلاد، وقد نفذ أربع انقلابات عسكرية، مُجبراً السياسيين على الاستقالة وتعامل مع نفسه دائماً على أنه الحارس الأوحد للديمقراطية العلمانية، والذي لا يخضع للمُساءلة.
ومنذ وصوله إلى السلطة عام 2002، انبرى حزب العدالة والتنمية لتقليص النفوذ السياسي للجنرالات، ولتحقيق شروط الانضمام للاتحاد الأوروبي، حيث شرعت أنقرة بإجراءات لجعل الجيش خاضعاً بشكل أكبر للسلطة المدنية. وقلصت صلاحيات المحاكم العسكرية لصالح المزيد من الصلاحيات للمحاكم المدنية فأصبحت الحكومة تلعب دوراً أكثر فاعلية في تعيين القادة الكبار للجيش. وفي أبريل/نيسان 2007، تعرض الجيش لضربة قوية بعد أن نشر على صفحته الإلكترونية إنذاراً سُمي فيما بعد بـ "الانقلاب الإلكتروني"، يُحذر فيه حزب العدالة والتنمية من مغبة دعم عبد الله غول المعروف بانتمائه التقليدي للتيار الإسلامي، والذي تلبس زوجته الحجاب في انتخابات الرئاسة.
أثار الأمر حينها حفيظة حزب العدالة والتنمية وأنصاره ودفعهم إلى تأكيد موقفهم وإيصال غول إلى منصب الرئاسة. وهكذا فمن خلال محاولته التدخل ضد الحزب ذو الجماهيرية الكبيرة عرض الجيش نفوذه لضربة قاسية، وفي أقرب انتخابات بعد "الانقلاب الإلكتروني" ازداد التصويت لحزب العدالة والتنمية بنسبة 13%.
وفي العام 2008، أطلق حلفاء الحكومة في جهاز القضاء من أنصار فتح الله غولن تحقيقات واسعة حول أنشطة ضباط الجيش في قضية " أرغينيكون" وقضية "المطرقة"، والتي اتهم فيها بعض عناصر الجيش بتدبير انقلاب ضد حزب العدالة والتنمية، حيث جرى حبس العشرات من الجنرالات وتم احتجاز المئات من المسؤولين العسكريين المُتقاعدين.
وفي سبتمبر/ أيلول من العام 2010 أجرت الحكومة التركية، استفتاءً على تعديل بعض بنود الدستور التركي القائم حالياً، والذي وصفه الرئيس أردوغان بـ"دستور الانقلابيين"، باعتبار أن من شرعه في 1982 هم قادة الانقلاب العسكري الثالث بزعامة كنعان إفرين. وتضمنت تلك التعديلات حزمة متعلقة بتقليص سلطة الجيش، وهيئة الأركان، والمحاكم العسكرية، والقوى القومية التركية المتشددة على الحياة السياسية، والمدنية الاجتماعية، لصالح تمكين السلطة السياسية المدنية والمؤسسات المدنية للدولة، وعدم جواز مقاضاة المدنيين أمام المحاكم العسكرية في غير زمن الحرب، وحصر مهام المحاكم العسكريّة بالنظر في العمليات العسكرية والعسكريين. والأهم كان تعديل المادة 15 التي كانت تحصن الانقلابيين من المحاكمة، حيث تم تعديلها بأثر رجعي، الأمر الذي أدى لمحاكمة قادة انقلاب 1980 في عام 2012، وقادة انقلاب 1997 في 2013.
تُوج الصراع بين الحزب والجيش بالاستقالة الجماعية للمجلس العسكري التركي الأعلى في أواخر يوليو/تموز 2011، الاستقالة التي اعتبرت آنذاك علامة فارقة على استسلام الجيش للمدنيين، وفي أغسطس/آب 2013 عينت الحكومة قادة جدداً للجيش في إطار تغييرات شاملة في القيادات الكبرى تؤكد سيطرتها على القوات المسلحة، وقدرتها على تحجيم دور الجيش الذي ظل يهيمن خلال حقبة طويلة على الحياة السياسية في البلاد. وقرر مجلس الشورى العسكري الأعلى -في اجتماع ترأسه رئيس الوزراء أردوغان-تعيين الجنرال خلوصي أكار قائدا للقوات البرية، وتعيين نائب الأميرال بولنت بستان أوغلو قائداً للقوات البحرية، والفريق أكين أوزترك قائداً للقوت الجوية، والجنرال ثروت يوروك قائداً لقوات الأمن.
بعد ذلك الحين ظهرت عدة مؤشرات تدل على ابتعاد الجيش عن الحياة السياسية، وخضوعه لسلطة الحكومة المدنية المنتخبة، ولعل أصدق تعبير عن تلك الحالة كان في ديسمبر/كانون الثاني 2013، حيث تعهد الجيش بعدم التدخل فيما وُصف بأنه "فضيحة فساد" تتعلق بالحكومة، دعت بسببها المعارضة جماهيرها إلى تنظيم مظاهرات للمطالبة برحيل الحكومة. وأكدت القوات المسلحة التركية أنها "ستحرص بشدة على تفادي الجدل السياسي وتبعد نفسها عن أية آراء وتشكيلات سياسية". ثم مرر البرلمان التركي في شباط فبراير 2014 تعديلات جديدة على قانون الجيش صادق عليها رئيس الجمهورية عبد الله غل. ويقضي أبرز هذه التعديلات بفتح الطريق أمام إمكانية محاكمة رئيس هيئة الأركان العامة وقادة القوات المسلحة وقوات الدرك أمام محكمة الديوان العليا بدل المحكمة الجنائية، في حال ارتكابهم جرائم تتعلق بمناصبهم، الأمر الذي يعني تطويق الحكومة المدنية لأي إمكانية لانقلاب الجيش عليه.، وتمت ترجمة حالة الهدوء في العلاقة بين الجيش والحكومة إلى جملة من أحكام البراءة صدرت عن المحاكم التركية في عامي 2014-2015 بحق ما يقارب 300 ضابط، اتهموا بالتآمر ومحاولة الانقلاب على حكومة العدالة والتنمية في قضايا "أرغنيكون" و" المطرقة".
ما استعرضناه من سياق العلاقة بين حكومة العدالة والتنمية والجيش التركي، يشير إلى حالة من عدم الثقة المتبادلة بين الطرفين، اتسمت بمحاولات احتواء دور الجيش في الحياة السياسة وإعادته إلى دوره الطبيعي في حماية الحدود فقط من جانب الحكومة، مقابل حالة من عدم القبول والمقاومة المستمرة من قبل الجيش -الذي يعتبر نفسه الحامي للمبادئ العلمانية-لخسارة موقعه المسيطر على المشهد السياسي التركي.
لذا فإن الجيش التركي وإن بدا بمجمله قد رضخ للحكومة وابتعد عن التدخل في الشأن الداخلي، إلا أن انقلاب تموز الفاشل قد بين وجود مجموعة داخل هذا الجيش ترفض هذا الخضوع، وأنها كانت تنتظر اللحظة المناسبة للانقلاب على حكومة العدالة والتنمية وإعادة الحالة التركية إلى ما كانت عليه قبل العام 2002، مدفوعين على ما يبدو بقناعة أن ما تعيشه تركيا من حالة عزلة خارجية وتوترات داخلية قد يخلق لهم غطاءً دولياً للانقلاب.
ثانياً: الوضع الخارجي والانعطافة الخاطفة (رفع الغطاء الدولي)
يبدو أن الانعطاف الخاطف في العلاقات الخارجية التركية، والذي سبق الانقلاب بفترة وجيزة؛ كسر من حالة العزلة التي كانت تعيشها الحكومة التركية، وحرم الانقلابيين من استغلالها كغطاء دولي لتحركهم، لذا من الأهمية بمكان دراسة هذا الانعطاف والتحول كمرحلة سابقة للانقلاب، وأساس لاستشراف التحولات التي ستشهدها السياسة التركية الداخلية والخارجية بعده، فبقدر ما كان الانقلاب الفاشل في تركيا 15تموز 2016 مفاجئاً؛ بقدر ما كانت بعض أسبابه مفسرة للتحول في السياسة الخارجية التركية الذي حدث قبل أسبوعين فقط، والذي تمثل بحدثين هامين جداً:
الأول: المرونة التي أبداها الرئيس رجب طيب أردوغان فيما يتعلق بالمطالب الروسية لإعادة العلاقات بين البلدين إثر الخلاف حول إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا.
الثاني: تسوية الخلاف مع إسرائيل المتعلق بسفينة مرمرة وإبداء مرونة حول شرط رفع الحصار عن غزة لإعادة تطبيع العلاقات تدريجياً مقابل الاعتذار والتعويض لذوي الضحايا.
إن تلك المصالحات المفاجئة والمتزامنة الحدوث بفارق يوم واحد كانت صادمة للجميع، حيث اقتصرت معظم التحليلات التي تناولتها على ربطها بحالة العزلة الدولية التي باتت تعيشها تركيا مع ازدياد أعدائها بعد أزمة الطائرة الروسية، وحالة الجفاء والفتور بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية بسبب تضارب وجهات النظر حول الأزمة السورية، وانقطاع العلاقة مع مصر بعد انقلاب السيسي، ومع العراق على خلفية محاولة دخول الجيش التركي إلى شمال العراق، وتوتر العلاقات التركية الإيرانية بسبب الملف السوري وتقارب تركيا مع السعودية، بالإضافة إلى تعرقل تطبيق اتفاق أنقرة مع الاتحاد الأوروبي حول اللاجئين، والذي كان يمكن أن يشكل أحد بنوده والمتعلق بإعفاء الأتراك من تأشيرة الدخول إلى الاتحاد الأوروبي خطوة باتجاه انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بحيث باتت تركيا تتجه نحو صفر أصدقاء بدل من صفر مشكلات وهي الاستراتيجية المعلنة لحزب العدالة والتنمية منذ وصوله للحكم.
ولكن لم يكن متوقعاً أن تنعكس تلك الأزمات على الداخل التركي، والتي تمثلت بتحدٍ اقتصادي نتيجة العقوبات التي فرضتها موسكو على المنتجات التركية وتعليق بعض الاتفاقيات الهامة المتعلقة بالطاقة بين البلدين، إضافة لارتفاع وتيرة العمليات الإرهابية التي ضربت المدن التركية الكبرى (أنقرة واسطنبول) وانهيار اتفاق التهدئة مع حزب العمال الكردستاني وعودة الاضطرابات إلى محافظات الجنوب التركي وخسائر القوات التركية التي تجاوزت الخمسمائة جندي خلال عام، وازدياد احتمالات تشكل إقليم كردي في سورية قد يصل ببعض الضباط الأتراك للانقلاب.
إلا أن ما رشح من معلومات حول الانقلاب يشير إلى أن هذا التحرك العسكري كان ضمن حسابات الحكومة التركية، وأنها باغتته بتغييرات على صعيد السياستين الداخلية والخارجية ساهمت بإحباط إمكانية استغلال الانقلابيين لتوتر العلاقات الخارجية التركية وإشكاليات السياسة الداخلية بين حزب العدالة والتنمية وأحزاب المعارضة بأطيافها المتنوعة لتشكيل غطاء شرعي للانقلاب، مما جعل الانقلاب حركة ارتجالية من ضباط تحت المراقبة غامروا بالتحرك كخيار أخير، قبل أن يتم اجتثاثهم في اجتماع مجلس شورى الجيش التركي المقرر بعد شهر من تاريخ الانقلاب. وضمن هذا السياق يمكن فهم سبب عزم حكومة بن علي يلديريم على إعادة هيكلة العلاقات الخارجية التركية والعودة إلى سياسة صفر مشاكل، لرفع أي غطاء دولي محتمل لأي تحرك عسكري متوقع داخل صفوف الجيش.
إسرائيل وموسكو (الملفات متشابكة)
يشير حرص تركيا على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، والذي أنهى التوتر المتصاعد منذ عام 2010، بالتوازي مع تحسين العلاقات مع روسيا، إلى أنها تسعى إلى خلق فضاءات للمناورة في سياستها الخارجية، وهو ما يعود إلى اعتبارات عديدة، يرتبط بعضها بالتطورات المتسارعة التي تشهدها الساحة الداخلية التركية، ويتعلق بعضها الآخر بالتداعيات التي فرضتها تلك السياسة على مصالح تركيا التي تواجه تحديات عديدة خلال الفترة الحالية في ظل تصاعد العمليات الإرهابية في بعض المدن الرئيسية واستمرار الأزمة السورية دون تسوية.
قد يفسر اتجاه تركيا نحو تسوية المشكلات العالقة مع كل من روسيا وإسرائيل في وقت واحد في ضوء اعتبارات عدة، نذكر أهمها:
أولاً: احتواء المشكلات
تسعى أنقرة إلى العودة من جديد لتبني سياسة تقليل الأعداء مع بعض القوى المعنية بأزمات الشرق الأوسط، بعد أن تصاعدت تلك الإشكالات بدرجة غير مسبوقة، سواء مع روسيا بسبب أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في نوفمبر 2015، أو مع إسرائيل بسبب أزمة الهجوم الإسرائيلي على "أسطول الحرية" في عام 2010، أو مع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل الخلاف حول التعامل مع تطورات الأزمة في سورية، لاسيما فيما يتعلق بالموقف من دور الميليشيات الكردية في الحرب ضد تنظيم "داعش" ومن إقامة منطقة آمنة في شمال سورية، أو مع إيران التي تتباين مصالحها وسياستها مع تركيا بشكل كامل في سورية. وقد انعكس هذا التوجه الجديد الذي تتبناه أنقرة في تصريحات رئيس الوزراء، بن علي يلدرم، والتي أكد فيها أن "تركيا تسعى إلى تقليص الأعداء وزيادة الأصدقاء"، هذا التصريح تحديدًا يشير إلى حرص يلدرم على انتهاج سياسة جديدة تعيد فتح علاقات توترت سابقاً من خلال "تصفير المشكلات" مع دول الجوار، والتي بدا أنها واجهت عقبات عديدة بسبب تحول أنماط علاقات تركيا مع معظم تلك الدول من التعاون إلى الصراع والخلاف في الأعوام الأخيرة.
ثانياً: تقليص وتفكيك حجم الضغوط
تعرضت تركيا لعدة ضغوطات بسبب سياستها الخارجية، لا سيما تجاه الأزمة السورية، حيث بدا جلياً أن الأكراد حاولوا استثمار التوتر التركي –الروسي من أجل الحصول على مكاسب سياسية من أنقرة. وقد كان إسقاط مقاتلي حزب العمال الكردستاني لمروحية تركية بصاروخ روسي الصنع في مايو 2016، فضلاً عن التقارب الملحوظ بين روسيا والأكراد، والذي انعكس في الزيارات التي قام بها بعض المسؤولين الأكراد إلى موسكو، إشارة إلى التداعيات السلبية التي يمكن أن ينتجها استمرار التوتر في العلاقات بين أنقرة وموسكو، وبعبارة أخرى، فإن أنقرة سعت من خلال تقليص حدة التوتر في العلاقات مع موسكو، إلى فرض مزيد من الضغوط على الأكراد، في ظل الصراع المتصاعد بين الطرفين، سواء بسبب اتهام تركيا للأكراد بممارسة أنشطة إرهابية، أو بسبب مخاوفها من احتمالات تعزيز دورهم في سورية في ظل الدعم الدولي الذي تحظى به بعض الميليشيات الكردية بسبب دورها في الحرب ضد "تنظيم الدولة الاسلامية". ومثل ذلك بدوره محوراً للخلاف مع بعض القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي ترى أن الدور الذي تقوم به الميليشيات الكردية حيوي في إلحاق أكبر قدر من الخسائر في صفوف التنظيم. وقد كانت تلك المخاوف سبباً في الجهود الحثيثة التي بذلتها أنقرة من أجل منع الأكراد من المشاركة في المفاوضات التي تجري بين النظام السوري ووفد المعارضة في جنيف للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية، والتي توقفت في الفترة الحالية بسبب استمرار الملفات الخلافية العالقة بين الأطراف المعنية بالأزمة.
ثالثاً: التنسيق السياسي الأمني
تسعى تركيا إلى رفع مستوى التنسيق السياسي والأمني مع كل من روسيا وإسرائيل في التعامل مع تطورات الأزمة السورية، خاصة في ظل الأهمية التي تبديها موسكو وتل أبيب لتلك الأزمة، حيث تحولت الأولى إلى طرف رئيسي في الصراع بعد رفع مستوى انخراطها العسكري والسياسي في الأزمة، فيما تتابع الثانية بدقة تطورات المواجهات المسلحة بين النظام السوري وحلفائه، لا سيما حزب الله اللبناني، وقوى المعارضة المسلحة إلى جانب نشاط التنظيمات الإرهابية، خاصة "تنظيم الدولة ".
وهنا، فقد تعتبر أنقرة أن تحسين العلاقات مع كل من موسكو وتل أبيب يمكن أن يساعدها بإعادة تفعيل دورها في "الأزمة" السورية، الذي تراجع في الفترة الماضية، بسبب اتساع نطاق الخلاف مع واشنطن حول الموقف من الدور الكردي في الحرب ضد "تنظيم الدولة" وإقامة منطقة آمنة في شمال سورية، فضلاً عن اتجاه واشنطن إلى التفاهم مع موسكو حول الوصول إلى تسوية سياسية "للأزمة" بشكل، ربما ينتج تداعيات لا تتوافق بدرجة ما مع مصالح أنقرة. فضلاً عن ذلك، فإن رفع مستوى التنسيق السياسي والعسكري من خلال تحسين العلاقات مع موسكو وتل أبيب يمكن أن يساعد أنقرة في التعامل مع التهديدات التي تتعرض لها بسبب تصاعد حدة العمليات الإرهابية التي تقع داخل المدن التركية الرئيسية مثل اسطنبول وأنقرة.
رابعاً: المصالح الاقتصادية
كان للمصالح الاقتصادية دورها في اتجاه تركيا إلى تحسين العلاقات مع روسيا وإسرائيل، حيث بدا واضحاً أن التوتر في العلاقات مع موسكو فرض خسائر عديدة على الاقتصاد التركي بسبب تراجع السياحة الروسية وتقييد استيراد المواد الغذائية من تركيا، في الوقت الذي عاني فيه الاقتصاد من تحديات عديدة، لا سيما وأن روسيا تزود تركيا بأكثر من 70% من وارداتها من الغاز الطبيعي وبأسعار تفضيلية، الأمر الذي يجعل من الصعب على الأتراك إيجاد بدائل عن الغاز الروسي. إضافة إلى ذلك يلحظ ارتباط الطرفين بمشاريع استراتيجية مثل العقد الروسي لإنشاء محطة نووية لتوليد الطاقة الكهربائية بقيمة 20 مليار دولار في مدينة مرسين التركية، وخط السيل التركي الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، والذي يعد استراتيجياً لروسيا بقدر ما يخدم المصلحة التركية بالتحول إلى ممر لنقل الطاقة إلى أوروبا. وهنا يلعب الغاز الإسرائيلي المكتشف حديثاً في حقول البحر المتوسط دوراً في حاجة الطرفين التركي والإسرائيلي إلى تصفية الخلافات بينهما، كون تركيا ترغب باستيراد الغاز الإسرائيلي لتنويع مصادرها. وبالمقابل تعتبر إسرائيل السوق التركية سوقاً واعدة ومغرية بالنسبة لها، كما تحاول تركيا استجرار الصادرات الإسرائيلية من الغاز للمرور عبر أراضيها، لقطع الطريق على المشروع الذي تعتزم إسرائيل إقامته بالتعاون مع قبرص واليونان لمد خط أنابيب ينقل غاز إسرائيل وقبرص عبر البحر إلى اليونان ومن ثم إلى أوروبا، وهو ما تم الاتفاق بين الدول الثلاثة على تشكيل لجنة لدراسته عقب اجتماع جمع قادة البلدان في كانون الثاني/يناير 2016.
ثالثاً: الوضع الداخلي (مؤشرات)
منذ وصوله للحكم في العام 2002، استطاع حزب العدالة والتنمية تحقيق نقلة نوعية شاملة في تركيا على صعيد الاقتصاد التركي والبنية التحتية والصحة والتعليم والعلاقات الخارجية من حيث الانفتاح على المنطقة العربية وإنجاز العديد من الشروط اللازمة لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، الأمر الذي وسع من قاعدته الشعبية وزاد من حجم التأييد له في الشارع التركي، مما انعكس في قدرته على البقاء في السلطة لمدة 14 عاماً. ولكن ومع بداية الربيع العربي في العام 2011 وانخراط تركيا كداعم واضح لتطلعات الشعوب، وخاصة الثورة السورية، بدأت تظهر بعض المؤشرات المعارضة للسياسة التي ينتهجها العدالة والتنمية في الأوساط السياسية والعسكرية نتيجة الأعباء التي تركتها سياسة الانخراط في الشرق الأوسط على الوضع الداخلي التركي. لذلك يبدو أن انعكاس أزمات تركيا الخارجية على الوضع الداخلي بشكل أزمات مركبة (سياسية، أمنية، اقتصادية)، شكل مؤشرات وثغرات يبدو أن الانقلابيين التقطوها وتصوروا بأنها يمكن أن تعطي لتحركهم زخماً شعبياً وغطاءً شرعياً.
ويمكن إجمال أبرز توترات الوضع الداخلي التركي خلال السنوات الخمس الماضية في النقاط التالية:
• "الأزمة" السورية: عاد الملف السوري بتداعيات عدة على حكومة العدالة والتنمية، حيث رتب أعباء مالية على كاهل تركيا، فعلاوة على الاستنزاف المادي بسبب التكلفة الباهظة لدعم المعارضة المسلحة ولصد طموحات حزب العمال الكردستاني في سورية، تحملت أيضاً تكلفة باهظة لإيواء 3 ملايين من اللاجئين السوريين.
• الصعود الإسلامي: يُعد توجه تركيا نحو العالم العربي والإسلامي سياسياً واقتصادياً قُبيل أحداث الربيع العربي أحد أسباب الاحتقان الداخلي بين أحزاب المعارضة وجماعة غولن مع حزب العدالة الحاكم. وتتهم أحزاب المعارضة حزب العدالة بأنه دعم أحزاباً إسلامية للوصول للحكم في دول عربية بما يُعتبر لدى البعض مؤشرات داخلية خطرة على علمانية الجمهورية التركية. كما أن دور تركيا في دعم التحالف الإسلامي على الإرهاب الذي دعت إليه السعودية وغيره من المبادرات مع الدول المسلمة تم تصديره بأنه ابتعاد عن الحليف الأمريكي والأوروبي، ولا يخفى أن هذه المواقف لاقت إعجاباً وتأييداً من بعض الأطراف الغربية. كما أن "الخطاب الإسلامي" المتزايد للحزب وانفتاحه المتزايد مع الحركات الإسلامية في الدول العربية أدى لمزيد من الاحتقان الداخلي.
• الاحتجاجات الشعبية: في الثامن والعشرين من أيار 2013 اندلعت في تركيا موجة من الاحتجاجات الشعبية على تعامل أجهزة الأمن التركية مع اعتصام قريب من "حديقة غيزي "، يناهض سياسات الحكومة البيئية وخطتها في توسيع ساحة تقسيم في تلك المنطقة. إلا أنّ ما أجّج تلك الاحتجاجات هو الدعاية التحريضية التي استغلتها المعارضة التركية حول ما يرونه تضييقاً على الحريّات، و"فضائح الفساد التي طالت حزب العدالة والتنمية نفسه وعدداً من وزرائه، وتزايدِ سطوة الحزب الحاكم وتهديد مبادئ الدولة التركية العلمانيّة وغير ذلك".
• النظام الرئاسي: طرح الرئيس رجب طيب أردوغان تحويل النظام التركي إلى نظام رئاسي، الأمر الذي أدى إلى تصاعد الأصوات المعارضة لهذا الطرح في الشارع التركي، وانعكس ذلك في نتائج انتخابات حزيران/ يونيو 2015 والتي لم يتمكن فيها الحزب من الحصول على الأغلبية البرلمانية اللازمة لتشكيل الحكومة بمفرده، حيث حاز على 41% من الأصوات فقط، وترافق ذلك بصعود نجم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي.
• أزمات اقتصادية: كان لتوتر علاقات تركيا مع محيطها الإقليمي، ودخولها في صدامات دبلوماسية مع روسيا بعد إسقاطها لطائرة روسية على الحدود التركية السورية، وتعرضها لعقوبات روسية آثار صعبة على الاقتصاد التركي، من حيث تراجع السياحة والصادرات التركية وارتفاع نسبة التضخم، الأمر الذي انعكس على المستوى المعيشي للمواطن التركي.
• توترات حزبية: ظهرت تجاذبات داخل حزب العدالة والتنمية كانت تتفاعل منذ فترة ليست بالقصيرة، بين طرفين داخل الحزب، طرف يمسك بزمام الأمور، يتلقى التوجيهات من الرئيس رجب طيب أردوغان بشكل مباشر، وطرف آخر أقل حجماً وأضعف تأثيراً يلتف حول رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو، وانتهت تلك التوترات بغياب عبد الله غول عن المشهد السياسي واستقالة أحمد داوود أوغلو.
• الحريات العامة: ارتفعت وتيرة حملات منظمة ضد الحكومة التركية ترفع ادعاءات قمع الحريات العامة من قبل منظمات حقوقية وصحفية، وبلغت تلك الحملات أوجها في قضية محاكمة الصحفي جان دوندار في أيار/مايو 2016، والتي حضرها ستة من قناصل الدول الأوروبية في خطوة استفزازية للحكومة التركية تعبر عن احتجاج غربي على تلك المحاكمة.
• التهديد الأمني: انهيار اتفاق الهدنة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، واستئناف الأخير لعملياته الإرهابية الموجهة ضد الجيش التركي، والتي أدت إلى قتل مئات الجنود الأتراك، بالإضافة لإعلان داعش عن تبني العديد من الهجمات الإرهابية على الأراضي التركية، الأمر الذي أدى إلى تشكل حالة من القلق في الشارع التركي نتيجة ما يراه البعض تقصيراً أمنياً داخل الجيش التركي والأحزاب التركية المعارضة وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري حول الأخطاء التي ترتكبها الحكومة في تعاطيها مع الملف السوري.
لقد عمل حزب العدالة على إجراء العديد من المراجعات الداخلية لمحاولة احتواء التوترات الداخلية ومعالجة أسبابها سواء المفتعلة من جهات مصلحية أو دولية أو الحقيقية -وخاصة بعد انتخابات حزيران/يونيو 2015-، والتي من شأنها سحب المبررات الموجبة لأي انقلاب محتمل. ومن أبرز الإجراءات الداخلية:
1. إدراك حزب العدالة والتنمية لما حملته نتيجة انتخابات حزيران/يونيو 2015 من مضامين، وتنامي أطروحات تشكيل حكومة ائتلافية جامعة. فدخل مع باقي الأحزاب في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية، واستغلّ جيّداً إعلان حزب الحركة القومي اليميني عن رفضه المشاركة في حكومة ائتلافية مع "العدالة والتنمية"، وهو ما فعله حزب الشعوب الديموقراطي، وكذلك حزب الشعب الجمهوري، الذي قدّم مطالب وشروطاً شبه تعجيزية. وقدم حزب العدالة والتنمية نفسه بصفته الحزب الوحيد القادر على قيادة تركيا وتوحيد الصف الداخلي، وإعادة الاستقرار السياسي الاقتصادي الأمني لها، متّهماً أحزاب المعارضة بالمسؤولية عن حالة عدم الاستقرار لرفضها تشكيل ائتلاف مستقر.
2. غيّر حزب العدالة والتنمية كذلك تكتيكاته واستراتيجيته الانتخابية بالكامل، حيث أعاد تشكيل لائحة مرشحيه، لتكون أكثر قبولاً، خصوصاً في المناطق الكردية، وأنجز تفاهمات مع زعماء العشائر وقادتها.
3. قاد رئيس الوزراء زعيم الحزب، أحمد داود أوغلو الحملة الانتخابية للحزب، وغاب الرئيس رجب طيب أردوغان عن واجهة الحملة، كما تم إبعاد بند النظام الرئاسي المثير للجدل عن جدول الأعمال، تلك الإجراءات ساهمت بازدياد شعبية الحزب التي تراجعت في انتخابات يونيو خلال خمسة أشهر فقط لترتفع بمعدل 9% في انتخابات نوفمبر 2015 ليحصد الحزب 317 مقعداً من أصل 550 مقعداً في البرلمان التركي، مع تراجع شعبية باقي الأحزاب.
4. قدرة قيادة حزب العدالة والتنمية على تصفية الخلافات داخل الحزب بهدوء وعبر التفاهمات، وعدم تصدير تلك الأزمة إلى خارج نطاق الحزب، حيث ظهر الحزب موحد الصفوف وصعب التفتيت من الداخل، الأمر الذي عبر عنه رئيس الحزب المستقيل داوود أوغلو في كلمته الشهيرة 5 مايو /أيار 2016 التي أعلن فيها عدم ترشحه لرئاسة الحزب.
5. تعيين بن علي يلدرم رئيساً للحكومة، وهو "رائد التنمية ومهندس تطوير البنية التحتية التركية"، في رسالة تثبت التزام حزب العدالة والتنمية بخطته التنموية وصولاً إلى تحقيق رؤيته لتركيا 2023، وقد بدأ يلدرم منذ الأيام الأولى لتوليه الحكومة بطرح مشروعات تنموية خاصة في الولايات ذات الأغلبية الكردية، وأعلن عن تقريب مواعيد افتتاح بعض المشروعات الاستراتيجية مثل مشروع نفق أوراسيا.
رابعاً: الانقلاب الفاشل ورد فعل الحكومة
شكلت جملة العوامل الداخلية والخارجية على ما يبدو مجالاً يمكن استغلاله للانقلاب على حكومة العدالة والتنمية، والتي تشير عدم قدرتها على كشف الموعد الدقيق لتحرك الانقلابيين مسبقاً؛ إلى أنها أمِنَت في الفترة الأخيرة جانب الجيش. ولعل تأجيل تسريح بعض الضباط المشكوك فيهم إلى آب/أغسطس موعد انعقاد المجلس الأعلى للقوات التركية قد يدلل على ذلك، ومنهم قائد الانقلاب أكين أوزتورك الجنرال الذي أقيل من رئاسة القوات الجوية التركية، ولكنه بقي عضواً في المجلس الأعلى، لذا يبدو أنه اختار التحرك في هذا الوقت.
بالمقابل يبدو أن الانقلابيين غاب عنهم دراسة مزاج الشارع التركي وهو أمر معتاد في تعاطي العسكر مع المدنيين، لذا استخدموا الوسائل التقليدية للانقلاب ونزلت الدبابات إلى الشوارع وتمت السيطرة بالقوة على وسائل الإعلام، وأذيع البيان الأول للانقلابيين، موجهين عبره رسالتين الأولى: كانت للداخل التركي وتمحورت حول حماية قيم الجمهورية والعلمانية. والثانية: كانت للخارج وحملت إشارات لتغيير السياسة الخارجية التركية، حيث تم التعبير عن رغبة الانقلابيين بتأسيس علاقات أقوى مع المنظمات والمجتمع الدوليين "لإحلال السلام والاستقرار العالمي"، ولعل تلك الرسالتين تدعمان ما تقدم من تحليل حول علاقة الظروف الداخلية والخارجية التي تمر بها تركيا وتوقيت تحرك الانقلابيين.
حسم الشعب التركي خياره ليلة الانقلاب ودافع عن خياره الديمقراطي وحكومته الشرعية، وأفشل المحاولة الانقلابية في موقف بطولي يعبر عن ديمقراطية راسخة ورفض العودة إلى عصر الانقلابات وعدم الاستقرار، لتبدأ بعدها قوات الأمن الداخلي التركية بتصفية فلول الانقلابيين، ومن يقف وراء تلك المحاولة الفاشلة من عسكريين ومنتسبين إلى ما يعرف بـ "جماعة الخدمة " أو "الكيان الموازي" التابع لفتح الله غولن، والذي اتهمته الحكومة التركية بالوقوف خلف تلك المحاولة. وشنت الشرطة التركية حملة اعتقالات طالت بحسب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطاب متلفز يوم السبت 23 تموز/ يوليو، " 13165 من بين هؤلاء 8838 عسكريا و2101 من القضاة والمدعين العامين و1485 من الشرطة، و52 من رؤساء الخدمة العامة و689 مدنيا"، وبحسب الرئيس" تم غلق 934 مدرسة و15 جامعة، إلى جانب 104 منظمات و1125 جمعية. وقد تمت مصادرة كل ممتلكاتهم من قبل الدولة" ، كمابلغ عدد من تسريحهم من وظائفهم 45 ألف موظف في مختلف المؤسسات التركية.
حملة الاعتقالات والتسريحات تلك رغم أنها تمت في سياق قانوني ودستوري إلا أنها أحدثت ضجة إعلامية كبرى، وأثارت عاصفة من التصريحات الأوروبية والأمريكية التي اعتبرت ما يحدث "عملية انتقامية" من طرف الحكومة، لكن رد فعل الأخيرة على الانقلاب والذي شكل فرصة لها لاجتثاث "الكيان الموازي" من جذوره، يلاقي تأييداً شعبياً في تركيا كونه لم يخرج عن إطار المألوف التركي في مثل هذه الحالات، فالاعتقالات والتسريح في المؤسسات العسكرية والمدنية هو ما كان يحدث عقب أي انقلاب في تركيا، والفارق هنا أن الانقلاب كان فاشلاً فقامت الحكومة بتلك الاعتقالات وليس العكس.
ففي الانقلاب الأول الذي شهدته تركيا في العام 1960 تم إقالة 235 قائداً وأكثر من 3000 ضابط مكلف على التقاعد؛ وتم تسريح أكثر من 500 قاض ونائب عام، و1400 من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات؛ وتم إعدام رئيس الحكومة عدنان مندريس ووزير الخارجية فطين زورلو ووزير المالية حسن بولاتكان. أما الانقلاب الثاني والذي عرف بانقلاب المذكرة، دون تدخل الجيش بقوات على الأرض، فقد أعقبه تعطيل الدستور وحظر للعديد من الأحزاب والنقابات العمالية والتنظيمات الشبابية.
وفي 1980 كانت حصيلة انقلاب كنعان إيفرين اعتقال 650 ألف شخص، ومحاكمة 230 ألف شخص، و517 حكماً بالإعدام، و299 حالة وفاة بسبب التعذيب، كما انتحر 43 شخصاً وقُتل 16أثناء هروبهم، واعتبر الآلاف في عداد المفقودين، ناهيك عن إقالة 3654 مدرساً و47 قاضياً و120 أستاذاً جامعياً، ورصدت الأجهزة الأمنية التابعة للانقلاب مليون ونصف مواطن تركي وقيدتهم في سجلات الأمن كمطلوبين أمنياً وخطر على الأمن القومي التركي، وفر 30 ألف شخص من المعارضين والمفكرين وطلبوا حق اللجوء السياسي خارج تركيا، وتم إسقاط الجنسية عن ما يقارب 13 ألف مواطن تركي.
في حين أعقب انقلاب "ما بعد الحداثة" عام 1997 حظر لحزب الرفاه بحكم قضائي وفقاً لقانون 1982 بتهمة "السعي إلى تطبيق الشريعة وإقامة النظام الرجعي"، وتم إيداع رئيس الحزب نجم الدين أربكان في السجن مع مجموعة من قادة حزبه ومنهم رجب طيب أردوغان، وحرمان بعضهم من العمل السياسي لمدة 5-10 سنوات.
خامساً: المآلات المحتملة
رغم فشل الانقلاب، إلا أنه سيشكل تحولاً كبيراً ومنعطفاً هاماً في الحياة السياسية التركية عامةً وفي مسيرة حزب العدالة والتنمية بشكلٍ خاص، وسيرتب عليه تسريع وتيرة التغيرات الداخلية والخارجية التي بدأها قبل الانقلاب؛ لاستدراك الأخطاء التي تم استغلالها من قبل الانقلابيين. وبناءً على ذلك يمكن استخلاص بعض النتائج التي ستتمخض عن تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة، على صعيد السياسة التركية الداخلية والخارجية:
على الصعيد الداخلي:
1. ستشهد الفترة المقبلة تركيز اً لجهود الحكومة التركية على استكمال ما بدأته فوراً عقب الانقلاب من عملية "اجتثاث" نهائي لما يسمى الكيان الموازي الموالي لفتح الله غولن، ومحاولات تطهير كافة المؤسسات التركية من أنصاره، وبخاصة القضاء والتعليم.
2. استمرار عملية إعادة الهيكلة الشاملة للجيش وقوى الأمن الداخلي والشرطة التركية، والتي كانت بداياتها من اجتماع المجلس الأعلى للجيش التركي، والذي عُقد قبل موعده الرسمي بأيام.
3. ازدياد شعبية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه في الشارع التركي، الأمر الذي سيخلق غطاءً شعبياً للحملة التي يشنها على الكيان الموازي، ولكن هذا لا يمنع أن التوسع في الاعتقالات والتسريح من العمل، والذي طال عشرات الآلاف في المؤسسات التركية المختلفة قد يخلق حالة من الخلل الأمني أو المجتمعي في الأيام المقبلة ناتجة عن فقد الوظائف.
4. موقف الأحزاب التركية الداعم للحكومة الشرعية والرافض للانقلاب، سيُساهم بتخفيف حدة التجاذبات والاستقطاب التي كانت سائدة بينها وبين العدالة والتنمية ويهيئ للدخول في مرحلة جديدة مبنية على أسس من التفاهم، وهذا سيتطلب من حزب العدالة والتنمية التعامل مع هذا الموقف الإيجابي بحذر من ناحية التغييرات الهيكلية التي سيجريها في الجيش والقضاء وباقي المؤسسات التركية كي لا تفهم باتجاه تعميق سيطرته على مرافق الدولة والحكم، كما تتطلب الأيام القادمة تأجيل أو التدرج في طرح تعديل النظام التركي وتحويله إلى نظام رئاسي، وهو ما ترفضه الأحزاب المعارضة جميعها.
5. على الرغم من توجيه الجيش التركي ضربة جوية لمواقع حزب العمال الكردستاني في العراق بعد خمسة أيام على محاولة الانقلاب، في رسالة تحذيرية لعدم استغلال ما حدث في تصعيد هجماته، إلا أن حجم الاعتقالات الكبير الذي طال قيادات عسكرية وأمنية، مقابل إعادة هيكلة تلك المؤسسات؛ لا بد أن يلقي بظلاله على الوضع الأمني داخل تركيا على المدى القصير والمتوسط من حيث احتمال ازدياد عمليات حزب العمال الكردستاني و"داعش".
على الصعيد الخارجي:
سادت في تركيا بعد الانقلاب حالة من الخذلان على المستوى الشعبي والرسمي نتيجة للمواقف المتأنية في إدانة الانقلاب في لحظاته الأولى من كافة الدول تقريباً، وعلى رأسها حلفاء تركيا في الناتو (الأمريكان والأوربيون)، لذا فإنه من المتوقع أن تشمل إعادة الهيكلة حتى العلاقات الخارجية التركية، على أساس الانقلاب وما تلاه من مواقف للدول، وما سيرشح في الأيام القادمة حول احتمالات تورط بعض الدول في التخطيط للانقلاب، وعليه:
1. لا يبدو أن حالة الفتور في العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية ستنتهي قريباً، خصوصاً بعد الموقف الأمريكي المتأخر في إدانة الانقلاب، وإثارة تساؤلات كثيرة حول دور أمريكي محتمل في الانقلاب بعد اكتشاف تورط قاعدة إنجيرلك فيه، ورغم تشديد الرئيس التركي عقب الانقلاب على استراتيجية العلاقة مع واشنطن إلا أن تلبية واشنطن لطلب أنقرة في تسليم فتح الله غولن سيشكل اختبار ثقة بين الطرفين وسيكون له انعكاسات كبرى على العلاقة بين البلدين، هذا بالإضافة إلى ملف دعم الولايات المتحدة الأمريكية لقوات سورية الديمقراطية، والتي تشكل عمودها الفقري مليشيات الـ PYD الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني .
2. العلاقة مع الاتحاد الأوروبي لن تكون أفضل حالاً مما كانت عليه قبل الانقلاب، بل من الممكن أن يزداد ملف تطبيق الاتفاق الثنائي حول اللاجئين وملف انضمام تركيا تعقيداً، خصوصاً عقب الموقف المتأخر للاتحاد الاوروبي ومعظم أعضائه من الانقلاب، ومن ثم سلسلة من الانتقادات الحادة على لسان فريدريكا موغريني وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي للإجراءات التركية عقب الانقلاب، والتهديد بحرمان تركيا نهائياً من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إذا تمت إعادة عقوبة الإعدام.
3. حالة الفتور التي تعمقت بعد الانقلاب بين تركيا وحلفاءها "الناتويين"؛ ستدفع تركيا لاستكمال ما بدأت به قبيل الانقلاب من مصالحة مع روسيا وإسرائيل وتسريع إعادة العلاقات معهما إلى شكلها الأمثل كونها بحاجة لدعمهما في ما تقوم به من إجراءات داخلية بعد الانقلاب، ولتعزيز دورها في المشهد الإقليمي على مستوى القضيتين السورية والفلسطينية، بعد أن تم تطويق هذا الدور بفعل التقارب الأمريكي الروسي من جهة و التنسيق الإسرائيلي الروسي في ما يخص سورية من جهة أخرى، بالإضافة إلى الضرورة الأمنية والاقتصادية التي تفرض على تركيا تسريع التطبيع على كافة المستويات مع روسيا وإسرائيل، ولعل زيارة الرئيس التركي المرتقبة لروسيا في التاسع من الشهر الجاري، ستحمل إجابات حول نتائج هذا التقارب على الصعيدين الداخلي والخارجي التركي وبخاصة حول الملف السوري .
4. قد يؤدي الموقف الإيراني المبكر في رفض الانقلاب ودعم الحكومة الشرعية في تركيا، رغم الخلافات بين البلدين حول عدة قضايا وبخاصة الملف السوري، إلى تعميق التعاون بين البلدين وخصوصاً فيما يخص الملف الكردي وحزب العمال الكردستاني، والذي أعلن في آذار /مارس الماضي استئنافه العمل العسكري في إيران بعد 23 عام على توقفه، أما فيما يخص الملف السوري فلا فرص لهذا التعاون خصوصاً في ظل التقارب التركي الروسي والتركي السعودي.
5. على مستوى العلاقات العربية، فالواضح أن العلاقة التركية القطرية ستبقى كما كانت هي الأقوى، كون موقف قطر الرسمي كان من أوائل المواقف الداعمة للحكومة وبدا الدعم القطري واضحاً من خلال موقف أمير قطر وطبيعة تغطية قناة الجزيرة لأحداث الانقلاب. أما العلاقات السعودية فستبقى تنمو نحو التحسن ومزيد من التنسيق الأمني والعسكري. أما الموقف المصري من الانقلاب فيشير إلى صعوبة إجراء مصالحة قريبة مع تركيا، وكذلك الأمر بالنسبة للعراق والذي يرفض توغل القوات التركية في أراضيه ومشاركة قوات تركية في معركة الموصل القريبة، وهو ما أكد عليه وزير الخارجية العراقي في كلمته لمؤتمر القمة العربية الأخير في نواكشوط التي ربط فيها المصالحة مع تركيا بوقف دخول قواتها إلى الأراضي العراقية.
على مستوى الملف السوري:
أ. الصعيد الميداني: كان لانشغال الحكومة التركية بالوضع الداخلي عقب الانقلاب، أثراً خطيراً بدأت تتبدى ملامحه على الوضع الميداني وبخاصة في الشمال السوري، حيث كثف النظام وروسيا غاراتهم على حلب مستهدفة مقومات الصمود وأهمها المستشفيات بعد قطع طريق الكاستيلو، مما مهد إلى إطباق الحصار على حلب لكسب نقاط قوة تفاوضية للنظام وروسيا، ولكن الرد الكبير لفصائل المعارضة المسلحة في حلب وقلب الطاولة على النظام وروسيا، حيث باتت مناطق سيطرة النظام في حلب تقع تحت حصار المعارضة، من الممكن أن يعكس رغبة تركية في استباق زيارة الرئيس التركي إلى روسيا بانتصار على الأرض يعزز قدراتها على المناورة حول الملف السوري، ويشكل ورقة للضغط على موسكو لفرض هدنة في الشمال السوري، وهنا تلتقي الرغبة التركية والأمريكية. كما قد ينعكس هذا التقارب بشكل تخفيض الدعم الروسي لقوات سورية الديمقراطية.
ب. الصعيد السياسي: أثارت المصالحات التركية مع روسيا وإسرائيل وإعلان أنقرة رغبتها في العودة إلى تبني سياسة صفر مشاكل في علاقاتها الخارجية مع مجيئ حكومة بن علي يلدريم، العديد من الشكوك حول إمكانية تغير الموقف التركي من الأزمة السورية، خصوصاً بعد صدور تسريبات –نفتها الحكومة التركية-حول إمكانية القبول ببقاء الأسد لفترة انتقالية،الأمر الذي يشير إلى مرونة تركية اتجاه الرؤية الروسية في حل الأزمة السورية. واليوم وبعد الانقلاب الفاشل والحاجة التركية إلى العلاقة مع موسكو، فهناك احتمال كبير لقيام أنقرة بالضغط على المعارضة السورية للتنازل عن بعض المطالب بهدف الوصول إلى انتقال سياسي.
الخاتمة
كان انقلاب 15 تموز الفاشل نتيجة لتفاعل جملة من العوامل الداخلية والخارجية في تركيا، والتي شكلت للمتربصين بحزب العدالة والتنمية على ما يبدو فرصة للتحرك ضده، ولكن مرونة الحزب في التعاطي مع الملفات الداخلية والعلاقات الخارجية، بالإضافة إلى كم الإنجازات الكبير الذي حققه خلال 14 عام من الحكم ساهم في وأد هذا التحرك، وسيعطي الفرصة للحزب لاستكمال مسيرته في تثبيت قواعد الديمقراطية في تركيا عبر التغييرات البنيوية والتشريعية التي يجريها بهدف طي صفحة تدخل الجيش في الحياة السياسية، والقضاء على ما يسمى بالكيان الموازي؛ الأمر الذي سيدعم الجبهة الداخلية التركية، ويفتح المجال أمام تركيا للتعاطي بأريحية أكبر مع الملفات الإقليمية .
بتاريخ 30 تموز 2016، استضافت قناة دار الإيمان الفضائية ضمن نشرتها الإخبارية، الدكتور عمار قحف، المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية. للتعليق على التطورات الأخيرة وحصار مدينة حلب حيث يتم حبس أكثر من 300 ألف من المدنيين، وأن السكان لا يثقون بدعوات الروس للملاجئ الإنسانية التي تهدف إلى تغيير ديمغرافي وطرد المواطتين من بلدهم. ما فائدة مدينة حلب بدون أهلها وكيف يتم ادعاء العمل على حل سياسي مع استمرار سلاح التجويع والحصار لإرغام السكان على الصلح مع من قتل أكثر من نصف ملبون سوري وهجر أكثر من نصف السوريين.
كان استحقاق إعادة إنتاج دور الدولة وفق رؤية الثورة، في المناطق التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد، ولا زال الاستحقاق الأكثر تحدياً، مع ما تطلبه ذلك من تعزيز مشاركة المجتمع في إدارة مصالحه ومساءلة الجهات التنفيذية والتقريرية (أو التشريعية فيما يتعلق باتخاذ القرار والمساءلة) على المستوى المحلي والرقابة على أدائها بما يضمن تحقيق سلطة المجتمع ككل وكسر تغوّل المنظومات العسكرية على المجتمع، وصولاً إلى تعزيز سلطة المجتمع بدءاً من المستويات المحلية ومروراً بتعزيز المشاركة الشعبية على مستوى القرار الوطني وتجاه استحقاقات رسم خارطة المستقبل وتقرير المصير.
في الوقت الذي استمر فيه التعاطي الدولي والإقليمي مع الملف السوري انطلاقاً من التفاعل بين الرؤى السياسية المختلفة للحل من جهة وانعكاسات الواقع الميداني والعسكري على تقييم هذه الرؤى وفعاليتها وواقعيتها، وفي المقابل مدى فرض الواقع الميداني لمقاربات جديدة للحل السياسي، فإن المقدمات التي ريما تغيب عن حسابات أصحاب المصلحة الرئيسيين في الملف السوري هو مدى انعكاس الحالة الاجتماعية وتأثيرها في بناء هذه الرؤى وبروز آثارها المباشرة على الواقع الميداني وأيضاً في اعتبارات الحل السياسي واستدامته.
لا يمكن فهم القضية السورية وصولاً إلى صياغة جملة من المبادئ المؤسسة لآليات التعاطي مع الملف وإداراته وحل إشكالياته دون الرجوع إلى جذر المشكلة السورية المتمثل في وهن العقد الاجتماعي وهشاشته بنتيجة تهميش المجتمع السوري وتغييبه عن المشاركة في إدارة مصالحه والرقابة على أداء الدولة وأجهزتها، وأيضاً في تحقيق المجتمعات لذواتها وحيازة مواردها بعدل وتكافؤ، ما يعزز الانتماء إلى الرابطة الوطنية ويفكك حالة الخصومة وحتى العداء بين الدولة والمجتمع ، الأمر الذي بالغ النظام في إهماله وصولاً إلى الانفجار السوري العظيم .
كان امتحان الإدارة المحلية للمناطق التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد في سوريا بمثابة الاستحقاق الأهم الذي واجهته المجتمعات المحلية في المناطق الثائرة ، من حيث إعادة إنتاج دور الدولة في هذه المناطق وفق رؤية الثورة، وما يتطلبه ذلك من تعزيز مشاركة المجتمع في إدارة مصالحه ومساءلة الجهات التنفيذية والتقريرية (أو التشريعية فيما يتعلق باتخاذ القرار والمساءلة)على المستوى المحلي والرقابة على أدائها بما يضمن تحقيق سلطة المجتمع ككل وكسر تغوّل المنظومات العسكرية على المجتمع، وصولاً إلى تعزيز سلطة المجتمع بدءاً من المستويات المحلية ومروراً بتعزيز المشاركة الشعبية على مستوى القرار الوطني وفي استحقاقات رسم خارطة المستقبل وتقرير المصير.
في ضوء ما سبق قدّم نموذج الإدارة المحلية رسالتين عمليتين:
كانت الأولى لنظام الأسد وعنوانها قدرة المجتمعات المحلية على إعادة إنتاج الدولة وفق نموذج اللامركزية، الأمر الذي استدعى من النظام التركيز على استهداف المجالس المحلية تارةً و مهادنتها تارةً أخرى عبر الضغط على حاجتها الدائمة لتأمين الخدمات، وذلك بهدف تهميش دورها ضمن مجتمعاتها بشكل مباشر من خلال إحياء بلدياته ضمن مناطقها كأحد استحقاقات الهدن أو عدم التعرض، وضخ الدعم المستمر لهذه البلديات بموارد الخدمة والإدارة رغم افتقارها للشرعية الثورية وشرعية التمثيل الشعبي، أو بشكل غير مباشر عبر احتكاره لتأمين الخدمات القطاعية من تعليم وكهرباء وصحة وغيرها ضمن مناطق هذه المجالس.
وأما الرسالة الثانية فتوجهت للفاعلين الدوليين والإقليميين حيث قدمت المجالس المحلية نفسها كبديل عن نظام الأسد، والضامن لمؤسسات الدولة ومنظوماتها عبر اعتماد لوائح قانونية ومعايير لجودة الحكم الرشيد يزداد التوافق عليها بين المجالس يوماً بعد يوم (يمكن التدليل على ذلك باعتماد معظم المجالس المحلية للائحة التنفيذية للقانون 107 الصادرة عن الحكومة السورية المؤقتة مع مراعاة خصوصيات كل مجلس وأيضاً بإطلاق الحكومة المؤقتة بالتعاون مع منظمة التعاون الألمانية GIZ "مشروع معايير أداء المجالس المحلية في سوريا" والذي اعتمد بشكل أساسي على المجالس نفسها في رسم إطار هذه المعايير وتحديدها)، الأمر الذي يعزز شرعية هذه المجالس بالمجمل، وفي نفس الوقت ضمان مصالح السكان المحليين بغض النظر عن أي مصلحة أخرى من خلال تمثيلهم والتعبير عن تطلعاتهم ، ما منحها المشروعية الكافية للقيام بهذا الدور وهو ما استدعى من بعض الأطراف الإقليمية والدولية السعي للتخفيف من آثار هذا الدور عبر دفع بعض منظمات المجتمع المدني المحلية لمزاحمة المجالس المحلية على الأدوار المنوطة بها لتحقيق رؤى الداعمين وتوجهاتهم، وأحياناً من خلال السكوت على تجاوزات بعض الفصائل القريبة من هذه الدول ومزاحمتها أيضاً لدور المجالس المحلية .
ورغم كل القصور الذي شاب أداء الكثير من المجالس المحلية نتيجة للأسباب الموضوعية آنفة الذكر وغيرها أو نتيجة لأسباب ذاتية مرتبطة ببنية هذه المجالس وآليات عملها، فإن قدرة المجالس المحلية على الارتقاء بأدائها وإثبات دورها في مجتمعاتها تزداد يوماً بعد يوم.
ويلمس المراقب لمنحى عمل المجالس المحلية في سوريا تطوراً ملحوظاً في وعي الإدارة المحلية لدى المجتمع المحلي ووعي للمجالس المحلية نفسها بذاتها وأهمية دورها ومحوريته، وأيضاً أهمية مأسسة هذه المجالس وحيازتها لأدوات الإدارة والخدمة وتعزيز الموارد ورفدها ذاتياً، حيث بدأ يُلحظ تزايد اعتماد المجالس المحلية لآليات مؤسسية معيارية كاعتماد آليات الشكاوى والجباية المحلية إضافةً إلى إدارة فعاليات التنمية المحلية وغير ذلك.
يضاف إلى ما سبق جملة من الأدوار التي ينبغي على المجالس المحلية القيام بها بصورة مؤقتة تبعاً لطبيعة الظرف الذي تعيشه البلاد وضعف الحالة المركزية التي تنظم عمل المجالس المحلية ضمن إطار دولتي، إضافةً إلى الهواجس المتزايدة من إعادة إنتاج المنظومات العسكرية الحاكمة(حيث تتدرج العلاقة مع البنى العسكرية من الصدام أو التنافس إلى النأي بالنفس إلى التفاهم وتقاسم الأدوار)، والعودة إلى دائرة تهميش السكان في المرحلة الحالية من خلال عدم استثمار المستوى التمثيلي الذي يميز المجالس المحلية وحضورها في تقديم الخدمات وإدارتها، في التفاعلات السياسية عبر الدفع السياسي أو المشاركة السياسية في رسم معالم الحل وملامح المستقبل بحسب درجة تردد أداء البنى السياسية الثورية. حيث أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز عمران للدراسات الاستراتيجية على 104 مجالس محلية، (ضمن دراسة بعنوان دور المجالس المحلية في المرحلة الحالية والانتقالية) أن أغلبية المجالس تنظر بإيجابية لهذه البنى (الموقف من الهيئة العليا للتفاوض) في حين يرى قرابة نصف هذه المجالس أن دورها سياسي وخدمي في ذات الوقت. ويعود ذلك إلى أن أغلب المجالس المحلية كانت إفرازاً طبيعياً لحالة البنى الثورية التي وجدت نفسها في مواجهة أسئلة المجتمع المحلي فيما يتعلق بإدارة مصالحه وتقديم الخدمات له فتحولت صوب عمل المجالس المحلية بما يحمله من أبعاد خدمية إدارية ونحو العمل السياسي، مدفوعةً برؤيتها السياسية كقوى ثورية طالبت منذ البداية بالتغيير السياسي، فيما آثرت مجالس أخرى الاكتفاء بالأدوار الخدمية التي تميز مهام المجالس المحلية في حالات الاستقرار.
لا تشكل النقاط الإيجابية التي سلط هذا المقال الضوء عليها في أداء ومنظور عمل المجالس المحلية طابعاً عاماً يسم عمل كل المجالس المحلية في سوريا، وإنما يمثل ميلاً محموداً لسيرورة نسق تفكير المجالس تتفاوت في تحقيقه واقعياً ولكنها تسعى إليه، وهو ما سوف نتناوله تفصيلاً في مقالات قادمة.
تمثلت أبرز التغيرات على مواقع النفوذ في الجبهات الشمالية وجبهات مدينة دمشق، حيث استطاعت قوات النظام السيطرة على أجزاء من مزارع داريا الجنوبية في دمشق، كما تستمر قوات النظام في السيطرة على نقطة الجامع في مزارع الملاح واستهداف جزء من طريق الكاستلو، مما أجبر قوات الثورة السورية من إيقاف الحركة من وإلى مدينة حلب.
وبخصوص معارك منبج لم تطرأ تغيرات كبيرة، فالمدينة مازالت محاصرة وتنظيم الدولة مستمر بالهجوم على أرياف المدينة في محاولة منه لاسترجاع بعض النقاط، ووجب الذكر أن عدد غارات التحالف في النصف الأول من مشهر تموز بلغ 185 غارة على مدينة منبج و 7 غارات فقط على مدينة الراعي.
وبالانتقال إلى الجبهات الوسطى، حيث تتسم المعارك أيضاً بين التنظيم والنظام في تدمر ومحيطها بالكر والفر دون تحقيق أي تقدم بارز لأي طرف على حساب الآخر. أما باقي الجبهات السورية شهدت مناوشات واشتباكات تراوحت شدتها بين الخفيفة والمتوسطة.
خريطة خاصة توضح مواقع الغارات والقصف التي تتعرض له مدينة حلب من كافة الأطراف المتنازعة باللإضافة إلى مواقع السيطرة والنفوذ في المدينة ومحيطها حتى تاريخ 3 تموز 2016.
خريطة خاصة توضح مواقع الغارات والقصف التي تتعرض له مدينة حلب من كافة الأطراف المتنازعة باللإضافة إلى مواقع السيطرة والنفوذ في المدينة ومحيطها حتى تاريخ 10 تموز 2016.
وجب الإشارة أن كافة الأخبار التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام حول سيطرة النظام على طريق الكاستلو غير صحيحة والطريق ما زال تحت سيطرة قوى الثورة السورية ولكن النظام استطاع رصد جزء منه نارياً.
خريطة خاصة توضح مواقع الغارات والقصف التي تتعرض له مدينة حلب من كافة الأطراف المتنازعة باللإضافة إلى مواقع السيطرة والنفوذ في المدينة ومحيطها حتى تاريخ 7 تموز 2016. وجب الإشارة أن قوات النظام وميلشيات القدس الفلسطينية تقدمت في مزارع الملاح والأن بات يفصلها عن طريق الكاستلو ومحاصرة مدينة حلب أقل من 2 كم.