الفعاليات

ملخص تنفيذي

  • بعد انقطاع دام تسعة أشهر ونيف، ذهب النظام إلى الجولة السادسة من اجتماعات اللجنة الدستورية بعد أن أتم استرداد السيطرة الكاملة على درعا ليُنهي فيها الحالة الخاصة التي عاشتها الجبهة الجنوبية وما شكلته من مصدر قلق له، بالإضافة إلى إتمام "استحقاق الانتخابات" الذي أعاد فيه استخدام ذات أدوات التحشيد؛ ناهيك عما أحدثه مشروع خط الغاز العربي في تحسين الأجواء السياسية لنظام الأسد من جهة التطبيع المحدود معه، مما لم تمانعه الولايات المتحدة الأمريكية.
  • في الجولة السادسة لاجتماعات اللجنة الدستورية؛ طرح النظام ورقة متعلقة بالسيادة، أراد من خلالها التأكيد على "الاستعراض السياسي" دون أن يقدم مضموناً دستورياً يعالج الإشكاليات المركبة في الدولة ومؤسساتها. بينما قدم وفد المعارضة مضموناً دستورياً بالغ الأهمية ويتعلق بالجيش والقوات المسلحة والأمن والاستخبارات. إلا أنه لم يلحظ مبادئ العلاقات المدنية الأمنية. في حين قدّم وفد المجتمع المدني ورقة تتعلق بسيادة القانون كانت ملمة بضرورة التوسع بهذا المبدأ وعدم الاعتماد على العموميات.
  • يحكم الاتجاه العام لمسار الدستورية عدة سيناريوهات لا تصب بمجملها في تحقيق الانتقال والتحول الديمقراطي، كالمراوحة بالمكان أو زيادة الزخم دون الوصول لتفاهمات ناجزة. أو -ووفقاً لما تشير له عدة معطيات- مرتبطة بالتطبيع مع النظام؛ فإنه ربما تنجز مقاربة ما دون سياسية للتكيف مع ما أفرزته نتائج المشهد الأمني والعسكري في سورية.
  • من الأهمية بمكان دعم التباحث بين القوى السورية الوطنية لتوسيع مساحات الفعل الممكنة. كصيانة الحوامل الاجتماعية وقضايا العقد الاجتماعي ودعم التنظيمات المدنية والفعاليات السياسية والنقابية؛ وحشد الطاقات لتثبيت مبدأ المحاسبة والعدالة.

 

تمهيد

بعد تعثر متوقع لخمس جولات، اختتمت في 22 تشرين الأول/أكتوبر 2021 أعمال الجولة السادسة لاجتماعات اللجنة الدستورية السورية في جنيف "بخيبة أمل" حسب وصف المبعوث الدولي جير بيدرسون. وأتت هذه الجولة بعد انقطاع دام تسعة أشهر ونيف؛ تبلورت خلالها سياقات أمنية وسياسية صبت نتائجها في صالح النظام؛ ليطرح مجدداً ذات السؤال مرة أخرى، ما النتيجة؟ وما المخرج المنتظر؟ وما مدى تأثُر وتأثير السياق السياسي والأمني على هذه الاجتماعات؟ وما هي المقترحات المتمخضة عن هذه الجولة وما دلالتها؟

هذا ما ستحاول الإحاطة التحليلية هذه تبيانه، من خلال تثبيت أثر السياقات الأمنية والسياسية المتشكلة على حركية ونتائج العملية الدستورية. بالإضافة إلى توضيح الجدوى السياسية لتلك العملية بمجملها وتفصيلاتها، في محاولة لتلمّس اتجاهاتها العامة وسبل تحسين تموضع الشرط الوطني في هذه العملية.

مخرجات صفرية

بعد تثبيت أن الإشكال في سورية مرتبط بشكل جوهري بالحكم وليس فكرة "مدخل الحل دستوري" -رغم أنه أحد أوجه الإشكال-، فإنه يجدر التأكيد على عادة النظام بعدم ذهابه لأي جولة مفاوضات إلا بعد أن يُضيف لأوراق قوته ورقة أخرى. وقد تجلت ورقة النظام الإضافية في الجولة السادسة باسترداد السيطرة الكاملة على درعا ليُنهي فيها الحالة الخاصة التي عاشتها الجبهة الجنوبية وما شكلته من مصدر قلق له، بالإضافة إلى إتمام "استحقاق الانتخابات" الذي أعاد فيه استخدام ذات أدوات التحشيد؛ ناهيك عما أحدثه مشروع خط الغاز العربي في تحسين الأجواء السياسية لنظام الأسد من جهة التطبيع المحدود معه، مما لم تمانعه الولايات المتحدة الأمريكية.

يمكن ربط أسباب التعثر والاستعصاء إلى جملة من المعطيات، منها ما هو متعلق بعدم رغبة الدول الفاعلة بالانتقال من التوافق الأمني إلى التوافق السياسي وبالتالي جعل منصات التفاوض بمثابة "مسارح استعراض صفرية المخرج"؛ ومنها ما هو مرتبط بالسيولة العارمة التي شهدها التعريف الإجرائي للقرار 2254 والذي تم تحييد العديد من بنوده خلال سير العملية السياسية الأمميةُ لاسيما المادة الرابعة التي اختزلت لصالح لجنة دستورية انبثقت عن مؤتمر سوتشي 30/1/2018. إلا أن الأبرز من هذا وهذاك أن فلسفة عمل النظام لا يمكن أن تتكيف مع أي إصلاح ولو كان متناهي الصغر، حتى في أقصى حالات ضعفه. مما يرجع إلى أن بنية نظام الأسد وشبكاته قائمة على فكرة التحكم بالدولة والمجتمع والمواطن، من خلال سيطرة أمنية تأتي على رأس أولويات تلك البنية. من جهة ثانية؛ فإن اختزال الحل بعملية دستورية هائمة التعريف وغير منضبطة بأجندة متفق عليها، وغير مجدولة زمنياً سيحول دون خروج مسيرة اللجنة الدستورية عمّا خلص إليه مسار جنيف بجولاته العشرة.

يُبين الجدول أدناه الخط الزمني الخاص باللجنة الدستورية وأعمالها والذي يؤكد المخرج الصفري حتى الآن؛ وما يلحظ في هذه الجولة -وإن كانت دون نتائج تذكر- أنه تم طرح مضامين دستورية من وفد المعارضة ووفد المجتمع المدني.

 "مقترحات" لمضامين دستورية: تبايُن بالجدية والمحتوى

بعد سجالات طويلة في الجولات السابقة حول الأجندة والمواقف السياسية ومنهجية السلوك، وتقديم مقترحات عامة من قبل وفد المعارضة ووفد المجتمع المدني، تم هندسة الجولة السادسة من قبل المبعوث الدولي لطرح مضامين دستورية يمكن أن تمهد لبدء مفاوضات عملية؛ وبطبيعة الحال – كما هو متوقع- لم ينتج عن هذه الجولة أي أثر.

طرح النظام ورقة خاصة متعلقة بالسيادة، ومكونة من ست نقاط تحت عنوان "سيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدة أراضيها" (انظر الملحق رقم 1). أراد النظام من هذه الورقة التأكيد على "الاستعراض السياسي" دون أن يقدم مضموناً دستورياً من شأنه معالجة الإشكاليات المركبة في الدولة ومؤسساتها، والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية. وبطبيعة الحال لم يخل هذا الاستعراض من التأكيد على رسائل عدة منها: التماهي العضوي بين النظام والدولة من حيث أن سيادة الثانية مرتبطة بالأولى؛ والرفض المطلق لفكرة خروج مناطق عن سيطرة النظام؛ ناهيك عن الرسائل الموجهة لـ"قسد" ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية والتي تحدد وبوضوح رفض التفاوض حول مركزية الدولة/ النظام واحتكار القوة والموارد؛ كما تمسك وفد النظام بشعارات "العروبة" في رسالة يغازل فيها بعض الدول العربية التي تُهندس عودته للمظلة العربية.

أما بالنسبة لورقة وفد المعارضة فقد طرحت مضموناً دستورياً متعلقاً بالجيش والقوات المسلحة والأمن والاستخبارات. ولهذا المضمون أهمية خاصة (انظر الملحق رقم 2)؛ فلطالما غابت المحددات الناظمة لعمل أجهزة الأمن والدفاع عن المبادئ الدستورية باستثناء العبارات العامة الخالية من أي وزن قانوني، مما جعل ممارساتها وسياساتها خاضعة لرؤية النظام بشكل مطلق؛ حتى أن المرسوم الجمهوري المتعلق بإحداث المخابرات العامة أتى في ظل حالة الطوارئ ولم ينشر في الصحف والإعلام وكذلك القوانين واللوائح الناظمة لعمل الجيش. فباستثناء المراسيم المتعلقة بالخدمة العسكرية والرواتب والزيادات فإنه لا يوجد أي محدد قانون واضح لعملها – غير التقني والفني – لا سيما في علاقتها مع المؤسسات المدنية وأدوارها الوظيفية داخل الدولة.

وعلى الرغم من أهمية تعريف أدوار تلك المؤسسات، إلا أنه غاب عن هذا المضمون عدة أمور لا يمكن تأجيلها لقوانين لاحقة، بل ينبغي أن تكون واضحة وغير قابلة للتفسيرات المتعددة درءاً لاستخدام تلك التفسيرات من قبل مشرّع النظام بما يؤدي إلى تغييرات صورية ليس إلا، وهذه الأمور هي:

  • تبعية المؤسسة العسكرية والأمنية لسلطة مدنية منتخبة (مثلاً الوزير مدني)؛
  • التأسيس المعمق لمبدأ العلاقات المدنية الأمنية، وخضوع المؤسسة الأمنية والعسكرية للمراقبة والمحاسبة؛
  • صياغة الاستراتيجيات الأمنية العامة لا سيما المهددات بما يضمن المشاركة المحلية؛
  • إنهاء التحزب السياسي داخل مؤسسة الجيش وما يستلزمه ذلك من تغييرات في شروط الانتساب؛
  • إعادة هيكلة الأمن عبر إنشاء جهاز الأمن الوطني وتتبيعه لسلطة مدنية؛
  • إعادة هيكلة الجيش بما يؤسس لجيش وطني غير حزبي، وهو ما يستدعي فك الارتباط المؤسساتي والقانوني والسياسي بين حزب البعث والجيش من جهة، وإنهاء سياسة احتكار مراكز القوة والتأثير في الجيش لصالح شبكات النظام ومواليه من جهة أخرى.

من جهته قدم وفد المجتمع المدني ورقة تتعلق بسيادة القانون. مما كان بمثابة إشارة مهمة للتمايز عن مفهوم السيادة الذي أراده النظام أن ينحصر فيه (انظر الملحق رقم 3). وأتت الورقة ملمة بضرورة التوسع بهذا المبدأ وعدم الاعتماد على العموميات، -إذ تم تفصيلها في (15 نقطة)- كما كانت متيقظة لأي محاولة تفسيرية تصادر الحق القانوني عبر إلغاء التحصينات الفردية. وربما كان من الأفضل لهذه الورقة أن تركز أيضاً على مراجعة كافة القوانين والإجراءات التي تضمن إنهاء مفاعيل المادة الثامنة (مبدأ الحزب القائد للدولة والمجتمع)، مع التأكيد على إعادة صياغة القوانين المعنية بعمل الأجهزة الأمنية والجيش في البرلمان ودسترتها.

متلازمتي التجميد والسيولة

يحكم الاتجاه العام لمسار الدستورية مجموعة من المحددات المرتبطة بمتغيرات ثلاث: حركية المسار؛ وخارطة الفواعل الدولية؛ والسياق السياسي والأمني. ووفقاً لذلك يمكن رسم عدة سيناريوهات لا تصب بمجملها في تحقيق الانتقال والتحول الديمقراطي، مما بدوره يعلي ضرورة التباحث بين القوى السورية الوطنية.

  1. المراوحة بالمكان: جنيف كمسرح استعراض للنظام

وهو سيناريو مرجح إذ يدعمه ثلاثة مؤشرات: أولها الحركة غير المنتجة لمسار العملية الدستورية والتي تعتمد مبدأ عقد الجولة دون إلزام بالتفاعل والإنتاج؛ وثانيها عدم وضوح مناخات التلاقي السياسي بين الفواعل الدولية، وبمعنى آخر عدم توفر الإرادة الدولية التي تترجم التفاهمات الأمنية المؤقتة إلى اتفاق سياسي مستدام، أما المؤشر الثالث فيتعلق بالانزياحات السياسية التي يفرزها منطق "تجميد الصراع"، كالاستثناءات الأمريكية في موضوع العقوبات أو تحسين التموضع السياسي للنظام من خلال المظلة العربية؛ أو تلك المتعلقة بالمشهد الأمني وترتيباته شرق النهر وغربه والتي تتعزز بها أوراق روسيا التفاوضية.

  1. تفاصيل جديدة دون الوصول لتفاهمات ناجزة

على الرغم من إشارات المبعوث الدولي غير المتفائلة بإحراز أي تقدم؛ إلا أنه لا يمكن إغفال بعض المتغيرات التي تضغط على النظام للانخراط بجدية بالمحادثات الدستورية عبر أطروحات تفصيلية. ومن هذه المتغيرات الضغط الروسي الذي يحرص على تحصيل هذا الانخراط من أجل مكاسب سياسية ما في شرق النهر أو غربه؛ أو بهدف تعزيز "مقاربة شرعنة وتعويم الأسد"، وهنا قد تكون مقاربة النظام قائمة على مجموعة ركائز (مستمدة من تصريحاته المستمرة) نذكر منها:

  • أن ما يقدم هي مقترحات دستورية تعالج ضمن الأطر القانونية والدستورية "للدولة السورية"؛
  • أن يتم الدفع باتجاه نقاشات دستورية لا تقترب من منظومة التحكم والتأثير؛
  • أن يتم التأكيد على مركزية دمشق كمرجعية لهذه الأطروحات الدستورية؛
  • ألا يتحدد المسار بجدول زمني وأن تبقى الأمور مفتوحة.

 

  1. "مقاربة ما" تؤخر "السياسي" لصالح ما دونه

يُنبئ مسار العملية السياسية وتحولاته بارتباطه بمسارات رديفة تؤثر على منهجية العمل، كمسار أستانا الذي نقل العملية السياسية من سلال أربع إلى لجنة دستورية، ومما يشجع مرة أخرى على وجود هكذا مسار (أو ربما مقاربة) هو الموقف الأمريكي غير المكترث بدفع الملف السوري للأمام. فموسكو ومن خلفها طهران سيعملان على استثمار أطروحات البحث عن مقاربات ما دون سياسية كتلك التي تمت في إطار "خط الغاز العربي" أو التي ستتم عبر الدعم الإنساني وجهودات المجتمع الإقليمي والدولي لتعزيز أطر "العودة الطوعية". وكذلك من المقاربات المتوقعة تفعيل مسار عربي يخفف من عزلة الأسد من بوابات اقتصادية وأمنية معينة مقابل إعطاء زخم شكلاني لمسار العملية السياسية الذي يتفق الجميع على أنه دخل في نفق مظلم.

ختاماً

يمكن القول أنه في ظل السياق أعلاه، لا تنذر المعطيات المتشكلة بحدوث "انفراجات" محتملة بمسيرة العملية السياسية ومتطلبات التغيير السياسي في سورية وما يستلزمه من انتقال وتحول ديمقراطي، فاجتماعات اللجنة الدستورية لن تفضي لمخرج يحقق ما تضمنته القرارات الدولية، طالما أن الإلزام الدولي غائب من جهة، وتنخرط بسياقات سياسية وأمنية تزيد سيولة العملية السياسية وتجعلها متعلقة بمعالجة النتائج لا الأسباب من جهة ثانية.

هذا يعيد ضرورة التركيز مجدداً على أسئلة الفعل السوري الوطني وضرورة توسيع مساحاته الممكنة. كصيانة الحوامل الاجتماعية وقضايا العقد الاجتماعي؛ وإنتاج مقاربات لطبيعة الحكم المستقبلي في سورية؛ ناهيك عن دعم التنظيمات المدنية والفعاليات النقابية؛ وحشد الطاقات بكل المستويات لتثبيت مبدأ المحاسبة والعدالة.

الملاحق

أولا: ملحق رقم (1) ورقة السيادة التي طرحها وفد النظام في جنيف في الجولة السادسة من اجتماعات اللجنة الدستورية

  • الجمهورية العربية السورية دولة مستقلة ذات سيادة تامة، لا تقبل التدخل في شؤونها الداخلية بأي شكل كان، وهي موحدة أرضا وشعبا وغير قابلة للتجزئة، ولا يجوز التنازل عن أي جزء منها.
  • تعد أي مشاريع أو توجهات انفصالية أو شبه انفصالية مهما كانت صيغتها مناقضة لمبدأ وحدة الأراضي السورية، ومخالفة لإرادة الشعب السوري، وينظم قانون الإدارة المحلية سلطات وصلاحيات مجالس الوحدات الإدارية.
  • للدولة السورية الحق الحصري في السيادة الكاملة على مجموع الإمكانات والموارد الطبيعية والثروات الباطنية في أراضيها كافة، وفي إدارتها والإشراف على استثمارها.
  • الجمهورية العربية السورية جزء من الوطن العربي، وتعتز بانتمائها العربي، وتعمل على دعم وتعزيز التعاون والتضامن العربي بهدف تحقيق وحدة الأمة العربية."
  • تسعى الجمهورية العربية السورية لتحقيق السلم والأمن الدوليين في ظل احترام القانون الدولي وقيم الحق والعدالة."

ثانياً: ملحق رقم (2) الورقة التي تقدمت بها المعارضة في الجولة السادسة من اجتماعات اللجنة الدستورية

 

ثالثاً: ملحق رقم (3) ويبين الورقة التي قدمها وفد المجتمع المدني في الجولة السادسة من اجتماعات اللجنة الدستورية.

 

التصنيف تقدير الموقف

ممثلاً بالمدير التنفيذي د. عمار القحف ومدير البحوث أ. معن طلاع؛ أقام مركز عمران للدراسات الاستراتيجية #ورشة_عمل في المنتدى الشبابي-الباب في مدينة #الباب بريف حلب الذي تأسس بمبادرة مشتركة مع مركز عمران، حضر الورشة عدد من الشخصيات السياسية والفاعلين المحليين لمدينة الباب، وذلك بهدف #تعزيز_الحوار_المجتمعي.

تضمنت الورشة عدة محاور منها #العملية_السياسية والدستورية، والسياق الدولي والميداني، إضافة لـ #مساحات_العمل_الوطني محلياً.

التصنيف الفعاليات

عقد مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، أحد مؤسسات المنتدى السوري، ووحدة المجالس المحلية، ندوة حوارية بالتعاون مع مكتب الائتلاف الوطني السوري في اعزاز، بعنوان "مشهد العملية السياسية في سورية والمطلوب وطنياً"، وذلك في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 في مقر الائتلاف بمدينة اعزاز، سورية.

تركزت محاور الندوة على قراءة مشهد العملية السياسية والواقع الميداني المحلي، وتعزيز مساحات العمل الوطني المطلوب. حضر الندوة عدد من منظمات المجتمع المدني وممثلي الهيئات السياسية ومجالس المحافظات إضافة لهيئات حكومية محلية ورئيس الائتلاف والامين العام واعضاء في الهيئة السياسية.

هدفت الورشة إلى تعزيز الحوار بين الفاعلين المحليين والمجتمعيين والسياسيين لاستكشاف المساحات الوطنية المفقودة للتأثير في العملية السياسية محلياً ووطنياً.

التصنيف الفعاليات

مُلخّصٌ تنفيذيّ

تتناول هذه الدراسة المسألة الدستورية في سورية من عدة زوايا، أولها: التركيز على أهمية عملية الصياغة الدستورية بحد ذاتها، وذلك بالتأكيد على العناصر الضرورية لشرعنة المنتج النهائي (الدستور). أما القسم الثاني: فيناقش القضايا الخلافية التي ستواجه القائمين على عملية الصياغة، ومن أهمها قضية الهوية، ومساحة الحقوق والحريات، واللامركزية، وشكل النظام السياسي، ويقدم القسم الثالث: خلاصات وتوصيات للمختصين وصانعي القرار.

أولاً: يستعرض القسم الأول أهمية عملية الصياغة الدستورية كمصدر أساسي لشرعية الوثيقة الدستورية، ويوصي بضرورة الاستفادة من التجربة الإنسانية. يتناول هذا القسم بعض التجارب الفاشلة في عملية الصياغة (حالتي العراق ومصر)، وتجربتين ناجحتين (جنوب أفريقيا وتونس)، ويستخلص العناصر المطلوبة لعملية صياغة سليمة.

ثانياً: يستعرض هذا القسم أهم الإشكاليات التي تعاني منها سورية اليوم، وهي: قضية الهوية، وعلاقة الدين بالدولة، وموضوع الحقوق والحريات الأساسية، بما فيها مشاركة المرأة بشكل حقيقي وفعال، وكيفية طمأنة المكونات العرقية والدينية والطائفية، وموضوع اللامركزية، وأخيراً التوافق على تركيبة النظام السياسي. يتم مناقشة هذه القضايا ضمن سياق التجارب الدستورية السورية السابقة، وتجارب بعض الدول العربية المشابهة لها.

ثالثاً: يقدم القسم الثالث مجموعة من الخلاصات والتوصيات بناء على التحليل في القسمين السابقين، أهمها:

  1. فيما يتعلق بعملية الصياغة الدستورية، تخلص الورقة إلى أهمية أن تستند هذه العملية إلى مجموعة من المبادئ الجوهرية، ومنها: الشفافية، والتشاركية، وتغليب روح التوافق والإجماع، والعهدة الوطنية (أن تكون عملية بأيدٍ سورية ومن أجل سورية).
  2. أما الخلاصة والتوصيات بالنسبة للقضايا الخلافية، فتشير التجربة التاريخية والتجارب المماثلة أن التوصل إلى حلول وسطية لقضية الهوية ودور الدين، تقوم على احترام رأي الأغلبية، من دون القفز على حقوق الأقليات، وذلك بتغليب روح التوافق القائم على طمأنة الأغلبية للأقليات. وتوصي الورقة بإعطاء أكبر هامش للحقوق والحريات، مع اعتماد المرجعيات الحقوقية الدولية، وتوسيع تجربة الحكم المحلي التي شهدتها البلاد، بعيد فقْدِ النظام السيطرة على مساحات هامة من البلاد. وأخيراً، توصي الورقة باعتماد النظام السياسي شبه الرئاسي (أو المختلط كما يُسمى أحياناً)، الذي يحتفظ بأهم مزايا النظام البرلماني، ويقسم السلطة التنفيذية بين رئيس منتخب لفترة محددة، ورئيس وزراء تختاره الأغلبية الحزبية في البرلمان، ويكون مسؤولاً أمامها.

وختاماً، فإن السياق المنطقي لصياغة دستور جديد لسورية يجب أن يبدأ بتشكيل هيئة حكم انتقالي، تشرف على عملية انتخاب جمعية تأسيسية، تقوم بعملية صياغة الدستور، وتدير حواراً مجتمعياً حولها، وذلك في إطار حل سياسي على أساس وثيقة جنيف لعام 2012 وقرار مجلس الأمن رقم 2254، وتترافق مع مصالحة وطنية، وعدالة انتقالية، وإعادة تشكيل للقطاع الأمني.

مقدمة

تشكل مسألة صياغة دستور جديد لسورية المستقبل أحد أهم عناصر الحل السياسي للقضية السورية. ومع أن هذه القضية مدرجة على كافة المستويات، إلا أنها لم تحظ بنقاش واف يتناسب مع أهميتها. ستناقش هذه الورقة أهم أبعاد المسألة الدستورية، وهي: أهمية عملية الصياغة الدستورية وجديتها، ثم تناقش القضايا الخلافية المتوقعة، ومنها مسألة الهوية وشكل النظام السياسي، وأخيراً تخلص إلى بعض التوصيات التي يُؤمل أن تكون مفيدة للمختصين وصانعي القرار حول عملية صياغة الدستور المطلوب.

بداية، فإن الدستور هو القانون الأساسي الذي يحدد شكل النظام السياسي ويحكم سلوك الدولة، على أساس المبادئ المترسخة التي توافق عليها المجتمع من خلال عقد اجتماعي بين مختلف المكونات المجتمعية، وآخر سياسي بين الدولة والمجتمع. وعلى الرغم من اختلاف الدساتير، فإن أغلبها يشتمل على وصفٍ لهيكلة النظام السياسي، وتنظيم علاقة السلطات ببعضها، والقيود المفروضة على وظائف الإدارات الحكومية المختلفة، وذلك من خلال تحديد مدى وطريقة ممارسة سلطاتها السيادية. وتعكس الدساتير الحديثة حدود وممارسات السلطة السياسية من خلال شمولها على آليات مؤسساتية لحماية مصالح وحريات وحقوق المواطنين، بما في ذلك الأقليات.

أهمية العملية الدستورية

تعتبر التجربة الإنسانية في الصياغة الدستورية غنية في تقديم نماذج ناجحة في تحقيق أهدافها، بينما تشير تجارب أخرى إلى فشل كبير أدى إلى تكرار التجربة مراراً قبل الوصول إلى صيغ مقبولة من قِبل القوى السياسية والمجتمعية المشكِّلة لهذه الدول. ولعله من المفيد هنا الإشارة إلى بعض الحالات الاستثنائية التي دفعت القادة المسؤولين عن بناء الدولة إلى تأجيل الخوض في القضايا الخلافية للعملية الدستورية حتى أجل غير مسمى، هذا هو حال التجربة الإسرائيلية التي قرر سياسيوها، بعيد الإعلان عن قيام “كيانهم/دولتهم”، عن تأجيل كتابة دستور لمعرفتهم أن الخوض في مسائل مثل تعريف من هو اليهودي، ومناقشة الخلاف الموجود بين اليهود المتدينين والعلمانيين قد يفجر صراعاً، شعر القادة في ذلك الوقت أن الدولة الناشئة بغنى عنه، وانتهى الأمر بعدم اعتماد دستور مكتوب. وبالطبع، فإن المملكة المتحدة التي تعدُّ أعرق دولة مترسخة في تقاليدها البرلمانية ليس فيها دستور مكتوب، بل مجموعة من الوثائق والأعراف والتقاليد والقوانين والسوابق التي تقوم مقام الدستور بشكله الرسمي.

الدرس الآخر الهام في عملية الصياغة الدستورية هو مدى جدية القوى السياسية الفاعلة في التوصل إلى حالة دستورية حقيقية، تلخص المبادئ والأسس المتفق عليها بين المكونات المجتمعية، وترسي دعائم دولة القانون، وتفصّل دور المؤسسات، وتحدد حقوق وواجبات المواطنة. للتدليل على هذه النقطة من المهم الإشارة إلى أن أغلب الدول الاستبدادية فيها دساتير تحتوي على كافة المتطلبات الأساسية لوثيقة يمكن أن تشكّل نواة لحالة دستورية حقيقية، بيد أن الممارسة العملية بعيدة كل البعد عن ذلك. يلخص ناثان براون في كتابه، الدساتير في عالم غير دستوري، الدوافع الحقيقة لتبني دساتير في المنطقة العربية قبل الربيع العربي، بقوله: "إن الهدف الحقيقي هو دعم مكانة السلطة السياسية في الدولة العربية، وليس إيجاد حالة دستورية أساسها دولة القانون". ويفصّل براون في الأهداف الثلاثة للعملية الدستورية في المنطقة العربية، وهي: 1) استخدام الصياغة الدستورية كرمز لسيادة الدول الناشئة، خاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال، 2) الهدف الثاني للعملية الدستورية هو تحديد التوجه الأيديولوجي للنظام السياسي، ولعل دساتير المرحلة البعثية في سورية مثال على ذلك، 3) أما الهدف الثالث فهو توضيح شكل النظام السياسي وكيفية انتقال السلطة.([1]) ومع ذلك، فقد ساهمت عملية صياغة دساتير في المنطقة العربية في التذكير بأهمية الحالة الدستورية، أي قيام الحكم على أساس من الشرعية قوامها حكم القانون، خاصة فيما يتعلق بتضمين الدساتير العربية على حقوق أساسية للمواطنين، في مقابل السلطة التنفيذية المتغوِّلة. لكن النخب السياسية في الدول العربية، بشكليها الجمهوري والملكي، استطاعت إفراغ هذه النصوص من محتواها باللجوء إلى عدة استراتيجيات، ومنها:

  1. تعليق العمل بالدستور: لقد لجأت بعض الأنظمة السياسية في المنطقة العربية إلى هذا الأسلوب، وذلك من خلال فرض حالة الطوارئ، باسم مجابهة عدو خارجي، أو بذريعة نشر الأمن والاستقرار، أو محاربة الإرهاب، ولعل مثال النظام السوري الذي أبقى على حالة الطوارئ منذ عام 1963 وحتى عام 2012، هو خير مثال على ذلك.
  2. العمل الجزئي بالدستور: غالباً ما لجأت الأنظمة العربية إلى تطبيق بعض المواد التي تخدم مصالحها، خاصة الفقرات التي تعطي رأس السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة. فعندما يكون الرئيس في دستور سورية لعام 1973 هو رئيس الدولة، وهو من يعيّن رئيس الوزراء والحكومة ويعزلهما، إضافة إلى صلاحياته التشريعية والقضائية، وهو القائد العام للقوات المسلحة، والأمين العام للحزب الحاكم، ورئيس الجبهة الوطنية التقدمية، في مثل هذه الحالة يغدو الرئيس "دكتاتوراً دستورياً".
  3. التفسير الدستوري: مع أن أغلب الدساتير في الدول الاستبدادية تنشأ عن سلطة قضائية "مستقلة"، وفي بعض الأحيان تنص على إيجاد محاكم دستورية مهمتها الفصل في دستورية القوانين، فإن الممارسة الحقيقية قد أرست تبعية السلطة القضائية للسلطة التنفيذية، الأمر الذي أجهض إمكانية قيام السلطة القضائية بمهامها، وأرجع الأمر إلى السلطة التنفيذية من خلال عملية قضائية مشوهة، أو قضاة "تابعين" لرأس السلطة التنفيذية أو أجهزته الأمنية.

الخلاصة، إن العبرة ليست في وجود دستور مكتوب يحتوي على نصوص قد ترسي قواعد حياة سياسية على أساس قانوني، بل في الممارسة الحقيقة وجدية النخب السياسية، وخاصة الفئة الحاكمة منها، في أن تعكس ممارساتها النصوص الدستورية التي أقرَّتها. ومن هنا فإن عملية الصياغة الدستورية في مراحل التحول من الحكم الدكتاتوري إلى دولة القانون هي بداية الطريق إلى الحكم القانوني الشرعي.

يقدم القسم التالي ملخصاً عن بعض التجارب القاصرة والناجحة لعملية الصياغة الدستورية.

أولاً: التجارب القاصرة

  1. تجربة العراق لعام 2005: يعتبر دستور العراق الذي أُقرَّ عام 2005 من الدساتير المتطورة، لاحتوائه على عدة عناصر مهمة لإعادة تنظيم الحياة السياسية في العراق، ومنها الفيدرالية، وإيجاد صيغة يمكن أن تكون مقبولة حول هوية الدولة، وإعطاء حقوقٍ أكبر للمواطن، وأخيراً تبنِّيه للنظام البرلماني في مرحلة ما بعد حكم الحزب الواحد الذي استمر من عام 1968 وحتى عام 2003. تتمثَّل نقطة الضعف الرئيسية في الدستور العراقي في عملية الصياغة التي افتقدت إلى الشرعية، فقد تمت الصياغة في ظل الاحتلال الأمريكي الذي كانت معاقبة العرب السنَّة جزءاً أساسياً من سياسته، بذريعة أن صدام حسين كان عربياً سنيّاً، وأنه أقصى الشيعة العرب والأكراد السنّة من العملية السياسية. وسبق عملية الصياغة خطوات عملية لإقصاء العرب السنّة وإعادة الاعتبار إلى "الأغلبية" الشيعية، منها: إقصاء المنتسبين لحزب البعث من المشاركة في النظام السياسي الجديد، وحلُّ القوات المسلحة، وهو ما انعكس بشكل أساسي في عملية ممنهجة لتهميش العرب السنّة، خاصة الفئة البيروقراطية/التكنوقراطية منها، مع أن فئات من العرب السنّة قد عانوا من حكم صدام كما عانت الطوائف الأخيرة، إذ لم يكن صدام حسين طائفياً عندما يتعلق الأمر بتهديد حكمه، ولعل مقتل ابن خاله عدنان خير الله، وزير الدفاع وقتها، وصهريه حسين وصدام كامل، أمثلة شاهدة على ذلك.

ولعل الرؤية التي حملها أول حاكم أمريكي للعراق -بعيد الاحتلال الأمريكي عام 2003 - بول بريمر بأن نظام صدام حسين أقرب للنظام النازي، وهو فهم مشوه للطبيعة الاستبدادية لذلك النظام، قد ساهمت بعملية إقصاء الطائفة السنيّة من العملية السياسية. هذه الخلفية السياسية لعملية صياغة الدستور ما كان لها أن تكوّن البيئة الصحيحة لعملية لم تستمر أكثر من ثلاثة أشهر، وتمت بمقاطعة شبه كاملة للعرب السنّة (كان 17 عضواً عربياً سنياً من أصل 275 في الجمعية التأسيسية)، ومشاركة عالية من المكونين الآخرين (العرب الشيعة والأكراد)، الأمر الذي دفع بعض العرب السنّة، خاصة من أنصار النظام السابق، إلى اللجوء لاستخدام العنف بعد إقرار الدستور، حيث شهد عاما 2006-2007 أعلى مستويات العنف ضد المحتل الأمريكي وبداية للصراع الطائفي بين السنّة والشيعة.([2])

الدرس العراقي يتلخص بأن إقصاء أي مكون مهما كان حجمه من المشاركة في الصياغة الدستورية، سيسحب جزءاً من شرعية المنتج النهائي، مهما كانت جودة محتوياته. ومع أن الإدارة الأمريكية حاولت تصحيح المسار، من منطلق محاصرة التنظيمات الإرهابية المتنامية، وذلك في عام 2008، عندما قام الجنرال ديفيد بيترايوس بتجنيد أبناء القبائل العرب السنّة لمحاربة تنظيم القاعدة في العراق، وسميّت تلك القوات بقوات "الصحوات"، إلا أن النجاح كان جزئياً. لأن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي جاء من خلال العملية السياسية التي أسّس لها دستور عام 2005، رفض الإيفاء - بحكم خلفيته وتخوفه الطائفي - بوعد كان قد قطعه للأمريكان بإدماج قوات الصحوة ضمن القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. وكان الهدف من إدماج قوات الصحوة إعادة نوع من التوازن لهذه المؤسسات بعد أن سيطرت عليها الأحزاب الشيعية المؤيّدة لإيران. وكان من نتائج هذا الرفض قيام حركة سلمية شعبية داخل المناطق السنية، تم تجاهل مطالبها، واعتقال قادتها وتصفيتهم، ومن ثم قمع هذا الحراك، كل هذا أدى إلى ظهور النسخة الثانية مما سمي بتنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي تسبب في المزيد من العنف والمآسي لكافة مكونات الشعب العراقي، وتطلب تحالفاً دولياً لهزيمته، وكان من نتائجه غير المحسوبة ترسيخ هيمنة إيران على المشهد السياسي العراقي.([3])

  1. التجربة المصرية لعامي 2012 و2014: تم إقرار الدستور الأول بعد ثورة يناير 2011، في ظل رئاسة محمد مرسي، حيث تم التصويت عليه باستفتاء شارك به 33 بالمائة ممن يحق لهم التصويت، وحصل على نسبة 64 بالمائة من أصوات الذين شاركوا في التصويت. ورغم بعض الانتقادات التي وجهت للدستور، خاصة ممن عارضوا حركة الإخوان المسلمين وحكم الرئيس مرسي، فإن كثيراً من المحللين قد اعتبروه الأكثر تطوراً وتقدمية في تاريخ الدساتير المصرية. فمن الأمثلة على ذلك، التوسع في باب الحقوق والواجبات، وفرض قيود واضحة على صلاحيات الرئيس وطريقة اختياره. لا شك أن منتقدي الدستور ركزوا على بعض الغموض الذي كان متضمناً في بعض المواد، كالمادة 219 الشارحة لمبادئ الشريعة الإسلامية، الأمر الذي قد يعطي المفسرين لهذه المواد أدوات لسحب بعض الحقوق التي تم إقرارها، باسم مخالفتها لفهمهم لما هو شرعي.

الإشكال الأساسي كان في عملية الصياغة التي لم تستوفِ شرط المشاركة المناسبة من كافة مكونات المجتمع المصري، الأمر الذي أضعف من شرعية الوثيقة الجديدة. وبتفصيل أكثر، فقد كان هناك اتفاق على أن تتضمن الجمعية الدستورية تمثيلاً متساوياً للقوى الإسلامية والليبرالية، لكن مقاطعة أغلبية القوى غير الإسلامية لعملية الصياغة، دفع بالفريق الآخر للإصرار على الاستمرار بعملية الصياغة، وإتمام كتابة الوثيقة، وإقرارها، وطرحها للاستفتاء العام، وتوقيع الرئيس عليها. هذا الإصرار على إتمام العملية على عجالة أدى إلى معارضة الوثيقة من قبل كافة القوى التي شعرت أنه تم استبعادها - رفضت بعض هذه القوى المشاركة في عملية الصياغة - وأصرت على عدم الاعتراف بشرعية "الدستور" الجديد، رغم إيجابياته الكثيرة. ويمكن الإشارة إلى أن واحداً من مطالب المعارضة التي طالبت برحيل مرسي قبل أقل من عام على حكمه، كانت تعديل بعض المواد التي أثارت حفيظة القوى الليبرالية التي قاطعت عملية الصياغة.([4]) ومع أن كثيراً من التقارير تؤكد قبول الرئيس مرسي بمطلب تعديل المواد المثيرة للجدل في الدستور - بعيد تصاعد المعارضة والتظاهرات ضده - كما قبل مطلب تشكيل حكومة وفاق وطني، إلا أن رفضه التنحي باسم التمسك بالشرعية لم يكن كافياً للمعارضة والمؤسسة العسكرية.([5])

أما بالنسبة لدستور عام 2014، فقد عالج بعض القصور الموجود في دستور عام 2012، خاصة بعض المواد الإشكالية التي تمت الإشارة إليها، إلا أن إقصاء القوة الإسلامية الأساسية المتمثلة في الإخوان المسلمين في أعقاب الانقلاب العسكري على الرئيس مرسي، قد كرر الخطأ نفسه في عملية الصياغة. ليس هذا وحسب، بل إن الدستور جاء ليكون على قياس المؤسسة العسكرية، برمزها اللواء عبد الفتاح السيسي، ويقنن مرة ثانية لإقصاء الإسلام السياسي بتبني مادة تنص صراحة على عدم السماح بتشكيل أحزاب سياسية على أساس العرق والجنس والدين.([6]) وتكفي الإشارة إلى أن إقرار الدستور الجديد في استفتاء شعبي جاء في أعقاب قرار النظام العسكري الجديد حلّ جماعة الإخوان وتصنيفها كجماعة إرهابية،([7]) وهي الجماعة عينها التي فازت بأكثر من 37 بالمائة من الأصوات في أول انتخابات حرة ونزيهة لمجلسي الشعب والشورى، كما فاز مرشحها محمد مرسي في أول انتخابات رئاسية تنافسية حرة ونزيهة في تاريخ مصر الحديث. المفارقة الثانية، أنه وعلى الرغم من وجود نصٍّ يمنع قيام الأحزاب السياسية على أساس ديني، فقد تم استثناء حزب النور السلفي من هذا الأمر، لأنه ممن أيدوا الانقلاب على مرسي، وتمت مكافأة الحزب بأن "فاز" بعض أعضائه في الانتخابات البرلمانية التي جرت في ظل رئاسة السيسي عام 2015.

ثانياً: التجارب الناجحة

  1. تجربة جنوب أفريقيا: من التجارب الناجحة في الصياغة الدستورية تجربة جنوب أفريقيا التي أعقبت نهاية نظام الفصل العنصري عام 1991. ويمكن تلخيص عناصر النجاح في تلك التجربة في عدة أمور: أولها: أن الطرفين الرئيسيين اللذين قادا تجربة التحول الديمقراطي، وهما: المؤتمر الوطني الإفريقي برئاسة نيلسون مانديلا، ونظام الأقلية البيضاء الحاكم (الحزب الوطني) الذي ترأسه دبليو دي كليرك، توافقا على وثيقة، كانت بمثابة دستور مؤقت، حكمت فترة الانتقال الديمقراطي التي استمرت لمدة عامين، وشملت ملحقاً من 34 مادة لا يجب تجاوزها أو انتهاكها. لقد مثلت هذه المواد مبادئ وضمانات تحقق حكم الأغلبية التي يمثلها المؤتمر الوطني الإفريقي، لكن من دون سحب بعض امتيازات وصلاحيات الأقلية البيضاء، خاصة فيما تعلق بحقوق الملكية الفردية.

العنصر الثاني للنجاح: تمثّل في تصاحب هذا الاتفاق مع آليات قابلة للتطبيق، ومنها تشكيل محكمة دستورية، كان لها صلاحية مراجعة الدستور الجديد، بعد إقراره من قبل الجمعية التأسيسية التي سيطر على تركيبتها الحزب الوطني الإفريقي، وقبلَ طرحه على الاستفتاء العام. وبالفعل فقد تمت مراجعة مشروع الدستور الدائم من المحكمة الدستورية، وتم إرجاعه إلى الجمعية التأسيسية، لوجود مادتين قد خالفتا المبادئ ما فوق الدستورية التي تم التوافق عليها كأساس لعملية الانتقال الديمقراطي. وباختصار، فقد كانت هناك إرادة حقيقية لإرساء قواعد جديدة للعبة السياسية، تضع حداً لنظام الفصل العنصري، وتعطي الأغلبية السوداء الحقوق الأساسية التي حُرمت منها لفترة طويلة، ومنها الحق في تشكيل حكومة أغلبية، لكن من دون أن تهمّش الأقلية البيضاء، وهي المعادلة الدقيقة التي كانت وراء سر نجاح عملية صياغة الدستور في ذلك البلد.([8])

  1. التجربة التونسية 2011-2014: تعتبر التجربة التونسية في عملية صياغة الدستور التي أعقبت الثورة التونسية من التجارب الناجحة التي استفادت من بعض الثغرات التي مرت بها تجارب دول الربيع العربي الأخرى، وعكست بشكل جلي الإرادة السياسية الجادة لأغلب القوى التونسية في إرساء نظام سياسي جديد، على أساس القطيعة مع نظامي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وهما النظامان اللذان قاما على أساس إقصائي للإسلام السياسي، والتستر وراء العلمانية والتقدمية لترسيخ حكم الفرد. وتمثلت خلفية عوامل النجاح في عملية الصياغة الدستورية في الخطوات الصحيحة التي واكبت عملية التحول الديمقراطي، ومنها: انسحاب الجيش وسماحه للقوى السياسية بتشكيل توافقاتها، والترخيص بالعمل السياسي لكافة القوى السياسية، وعلى رأسها حركة النهضة التي كانت تمثّل القوة المعارضة الحقيقة، والدور الذي لعبته الشخصيات التكنوقراطية وقادة المجتمع المدني في لحظات محورية. وعلى غير التجربة الليبية، فلم يمثّل رحيل الرئيس بن علي فراغاً مؤسساتياً، إذ قام بعض التكنوقراط من النظام السابق، وعلى رأسهم رئيس البرلمان السابق، فؤاد المبزع (كرئيس انتقالي)، والوزير السابق والرئيس الحالي الباجي قائد السبسي (رئيس وزراء انتقالي)، بلعب دور في إدارة المرحلة الانتقالية، وتسليم السلطة للحكومة التي أفرزتها انتخابات الجمعية التأسيسية في أكتوبر 2011. أما عناصر النجاح في عملية الصياغة الدستورية،([9]) بعد انتخاب المجلس الوطني التأسيسي، فقد تمثّلت فيما يلي:
  • الروح التشاركية التي أبدتها حركة النهضة الفائز الأكبر في انتخابات المجلس التأسيسي، فقد حصدت 89 مقعداً من 217. وعلى الرغم من عدم حصول حركة النهضة على أغلبية في المجلس التأسيسي، فقد كان عدد المقاعد التي حصلت عليها أكبر من مجموع ما حصلت عليه الأحزاب الثلاثة التي تلتها. مع ذلك، قررت الحركة، وبإيجابية كبيرة تجاه الأحزاب الأخرى، بإدارة المرحلة الانتقالية - بما فيها عملية صياغة الدستور - بالمشاركة وليس التفرد. وهكذا شكلت حركة النهضة "ترويكا" (أي تحالف ثلاثي)، مع الحزبين الثاني والرابع في المجلس التأسيسي، فاستلم رئاسة الوزارة حزب النهضة، بينما تم التوافق على الناشط الحقوقي وزعيم حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، المنصف المرزوقي لرئاسة الجمهورية، ورئيس تجمع التكتل (الحزب الرابع في الانتخابات) مصطفى بن جعفر لرئاسة المجلس الوطني التأسيسي.
  • لعل عنصر النجاح الثاني هو روح التفاهم والتوافق والتسويات التي سادت عملية الصياغة. فقد تم تشكيل عدد من اللجان من كافة القوى، أوكل إلى كل منها أحد المواضيع الحساسة والخلافية، وتم تشكيل لجنة وفاقية تألفت من رئيس المجلس ورؤساء الكتل في المجلس للتوصل إلى تسويات مرضية.
  • أما العنصر الثالث فتمثل في قبول الأغلبية (حركة النهضة) التنازل لتطمين الأقلية (القوى العلمانية واليسارية تحديداً) بأنها لا تسعى لاستغلال لحظة أنها تمثل الحزب الأكبر في المجلس لكي تفرض تصورها ورؤيتها على الآخرين، وقد تبدى هذا في قبولها صيغة "باهتة" فيما يتعلق بدور الدين في الدولة، إذ قبلت بعد نقاش داخلي مسؤول أن تتنازل عن المطلب التقليدي للحركات الإسلامية بالإشارة إلى  كون الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع، فلقد قبلت حركة النهضة بما نصت عليه الدساتير التونسية السابقة بأن دين الدولة الإسلام، كما نصت على حيادية الدولة الإيجابية تجاه الدين، مع ضمان حرية الاعتقاد ورفض التكفير والحض على الكراهية.([10])
  • العنصر الرابع في نجاح التجربة تمثّل في دور المجتمع المدني، والنقابات المهنية في تسهيل الحوار، في وقت تعالت فيه روح الاستقطاب بعيد اغتيال الناشطين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهيمي، ومحاولة بعض القوى المعارضة التي شكلت جبهة الإنقاذ، للانقلاب على العملية الدستورية، مستغلة التراجعات التي شهدتها دول الربيع العربي، وخاصة مصر بعد الانقلاب على الرئيس محمد مرسي. لقد لعبت قوى المجتمع المدني، خاصة الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، والهيئة الوطنية للمحامين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، دور الوسيط في الحوار بين مجموعة "الترويكا" التي كانت تسيطر على الجمعية العمومية، وبين جبهة الإنقاذ التي جمعت كافة القوى المناهضة لأحزاب الترويكا، إضافة إلى ممثلي الدولة العميقة الذين أعادوا تشكيل صفوفهم، وبعض القوى الشبابية التي تم تجنيدها من قوى الثورة المضادة داخلياً وإقليمياً. ولعل التسوية التي قادت إليها وساطة قوى المجتمع المدني قد أنقذت العملية الديمقراطية في تونس، الأمر الذي أهَّل منظمات المجتمع المدني الأربع لنيل جائزة نوبل للسلام.([11]) وعلى الرغم من أن عميلة الصياغة الدستورية في تونس قد استغرقت وقتاً أطول مما كان متفقاً عليه، فإن الدرس المستقى منها أن التأني هو أفضل من التسرع إذا كان على حساب الروح التوافقية والتشاركية، وهما من متطلبات عملية الصياغة.

وباختصار، إن الهدف من عرض بعض التجارب الفاشلة والناجحة للعملية الدستورية التأكيد على أهمية عملية الصياغة، بحد ذاتها، لأنها أحد أهم مصادر الشرعية للوثيقة التي تنبثق عنها، فكلما كانت العملية شاملة لكافة القوى السياسية، وغلبت عليها روح التوافق والتشاركية، وضمنت مطالب الأغلبية من دون أن تكون على حساب أي أقلية - مهما كان حجمها المجتمعي أو السياسي -  كانت الوثيقة أكثر شرعية ومدعاة لاحتكام الجميع إليها. ولو أردنا تطبيق العناصر اللازمة في عملية الصياغة على الدساتير السورية لوجدنا أن أكثر الدساتير اقتراباً من التجارب الناجحة - في الحالة السورية - هو دستور عام 1950، فقد شاركت أغلب القوى السياسية في صياغته، وغلبت عليه الروح التوافقية بين القوى المجتمعية والسياسية، في لحظة نُضجٍ في الممارسة السياسية لم يكتب لها الاستمرار، وأدى التنافس السياسي والإيديولوجي إلى استقطاب دفع بأغلبية القوى السياسية، خاصة القومية الثورية منها، إلى تبرير إقصاء الآخرين بكافة الطرق المشروعة وغير المشروعة، الأمر الذي أعطى العقيد أديب الشيشكلي مبرراً للالتفاف على الدستور - الإنجاز، ومحاولة صياغة نظام سياسي "رئاسي" ضمنه الدستور الذي أعقبه وتم تفصيله على مقاسه. أما الدساتير الفاشلة بامتياز، استناداً إلى متطلبات الصياغة الشرعية، فهما دستورا عامي 1973 و2012. وتكفي الإشارة هنا إلى أن الوثيقتين تمت كتابتهما في ظل سيطرة الأب الشاملة على العملية السياسية، ووحشية الابن في قمع أكبر حركة معارضة في تاريخ حكم الأسدين.

القضايا الخلافية في العملية الدستورية

لعل من عناصر النجاح لأي وثيقة دستورية أن تحاول تقديم حلول للإشكاليات السياسية الآنية التي تعاني منها البلاد، وفي الوقت نفسه تعكس توافقات تتجاوز تلك اللحظة، ليُكتب لها نصيب من الاستمرارية والدوام، وتُبقي باب التعديل مفتوحاً لتعالج القضايا المستجدة. وبالنظر إلى أهم الإشكاليات التي تعاني منها سورية اليوم فيمكن تلخيص أهم القضايا السياسية الإشكالية، وهي قضايا مترابطة بـقضية الهوية، وعلاقة الدين بالدولة، وموضوع الحقوق والحريات الأساسية، بما فيها مشاركة المرأة بشكل حقيقي وفعال، وكيفية طمأنة المكونات العرقية والدينية والطائفية، وأخيراً التوافق على تركيبة النظام السياسي. سيتم مناقشة هذه القضايا على ضوء كيفية تعاطي التجارب الدستورية السورية السابقة، وتلك القريبة منها في الدول العربية التي مرت بتجارب متشابهة.

وقبل الخوض في النقاش التفصيلي، لعل من المفيد الإشارة إلى أن الدولة السورية، ورغم حداثتها، قد مرت بعدة تجارب في الصياغة والحياة الدستورية، أهمها:([12])

  1. القانون الأساسي (دستور 1920): كان هذا القانون الأساسي للمملكة السورية التي تنادى أعيان سورية وممثلوها في المؤتمر السوري الأول لعام 1919، بالأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سورية، وأقر المؤتمرُ ذلك الدستور في جلساته المنعقدة في الفترة من 3 آذار/مارس 1919 إلى 19 تموز/يوليو 1920.
  2. دستور دولة سورية الصادر في 14 أيار/مايو 1930: وكان هذا الدستور خلاصة المشروع الذي أقرته الجمعية التأسيسية عام 1928 في ظل الاحتلال الفرنسي، وقام المندوب السامي الفرنسي بالاعتراض عليه بحجة تعارض بعض مواده مع وثيقة الانتداب، لكنه لم يلبث أن أعاد إصداره مع إضافة مادة تعطي المندوب حق تعطيله. وقد تم العمل بهذا الدستور بعد الجلاء الفرنسي مباشرة، في 17 نيسان/إبريل 1947، بعد شطب المادة (116)، وهي المادة التي أضافها المندوب السامي الفرنسي.
  3. دستور عام 1950: جاء هذا الدستور نتيجة انتخابات الجمعية التأسيسية التي أعقبت الإطاحة بحكم حسني الزعيم، وتمت بعدها إعادة الحياة الدستورية. وتم العمل بهذا الدستور حتى الانقلاب الثاني للعقيد أديب الشيشكلي، حيث عُطل العمل به في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1951.
  4. دستور عام 1953: تمت صياغة هذا الدستور على عجل ليحل بديلاً لدستور عام 1950، وتم تفصيله على مقاس الزعيم الشيشكلي. وأُقرَّ في 11 تموز/يوليو 1953، وتم إلغاء العمل به بعيد استقالة الشيشكلي في 24 شباط/فبراير 1954.
  5. العودة إلى دستور عام 1950، في الفترة ما بين سقوط حكم الرئيس الشيشكلي إلى قيام دولة الوحدة في 23 شباط/فبراير 1958: وفي هذه الفترة أُعيد البرلمان (الجمعية التأسيسية) المنتخبة عام 1949، لإكمال مدتها على أساس دستور 1950، مع بعض التعديلات.
  6. دستور الجمهورية العربية المتحدة 1958: وهو دستور دولة الوحدة بين مصر وسورية، وتم العمل به بدءاً من 22 شباط/فبراير 1958 وحتى قيام حركة الانفصال في 28 أيلول/سبتمبر 1961.
  7. دستور الجمهورية العربية السورية 1962: وهو دستور عام 1950 مع بعض التعديلات. استمر العمل بهذا الدستور حتى انقلاب 8 آذار/مارس 1963.
  8. دستورا عامي 1964 و1969 (المؤقتان) الصادران بعيد استلام حزب البعث السلطة.
  9. الدستور المؤقت للجمهورية العربية السورية 1971: وقد صدر في أعقاب ما سمي "بالحركة التصحيحية"، في 16 شباط/فبراير 1971.
  10. مشروع دستور (اتحاد الجمهوريات العربية) بين مصر وسورية وليبيا: صدر في 1 أيلول/سبتمبر 1971، وبقي هذا الدستور حبراً على ورق.
  11. دستور عام 1973: ويمكن تسميته بدستور حافظ الأسد، وتم العمل به من وقت صدوره في 13 آذار/مارس 1973، وحتى عام 2012.
  12. دستور عام 2012: دستور بشار الأسد، وجاء كمحاولة لامتصاص بعض مطالب الثورة السورية، مع إبقاء كثير من الفقرات على مقاس بشار الأسد، وقد تم اعتماده في نهاية شهر شباط/فبراير 2012.

إن أهمية استعراض التجارب الدستورية المتنوعة للدولة السورية يكمن في أن هذه التجارب حاولت التعاطي مع القضايا/الإشكاليات السياسية الملحة في وقتها، وقدمت اجتهادات في التعاطي مع القضايا التي ستتم مناقشتها هنا. وعموماً، يمكن تقسيم التجارب الدستورية في سورية إلى ثلاثة نماذج: أولها: لم يُكتب له حظ التطبيق الفعلي كدستور 1920، ودستور اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة، ثانيها: الدساتير المؤقتة، ومنها دستور الجمهورية العربية المتحدة، والدساتير المؤقتة التي أصدرها حزب البعث بعد استلامه السلطة، وهي دساتير 1964، و1969 و1971، وهي متشابهة جداً، وأخيراً: الدساتير التي تم العمل بها، وهي دساتير عام 1930، ودستور عام 1950، ودستور عام 1973، وأخيراً دستور عام 2012. وسيتم التركيز على الفئة الثالثة من الدساتير عند معالجة القضايا الخلافية.

أولاً: قضية الهوية ودور الدين في الدولة

تشير أغلب الدساتير إلى هوية الأمة التي تعدُّ المكون الأساسي للدولة. وباستعراض أغلب الدساتير العربية، نرى أنها تشير إلى الهوية العربية/الإسلامية لهذه الدول. من الناحية العملية، تعاني الدولة العربية المعاصرة - ومنها سورية - من أزمة هوية نتيجة أن أغلبية الدول العربية تم تشكليها من قبل قوى استعمارية غربية لم تأخذ بعين الاعتبار رغبات ومطالب السكان المحليين. ويمكن تلخيص أزمة الهوية في الدولة العربية المعاصرة بما اصطلح عليه بعض علماء السياسة بالتناقض والتعارض بين الدولة والأمة (المجتمع السياسي) المكون لها. بمعنى آخر، هناك عدم توافق بين الإقليم المشكِّل للدولة وبين المجتمع السياسي المكون لها.([13]) فمثلاً، عند الحديث عن الدولة الفرنسية، فلا يوجد تناقض بين الأمة الفرنسية والدولة الفرنسية. هذا الواقع مختلف تماماً في أغلب الدول العربية، وعلى رأسها سورية. فلم يكن هناك "أمة سورية"، قبل حصول سورية على استقلالها، بل مجتمعات متنوعة، ذات أغلبية عربية ومسلمة (من الطائفة السنية)، مع وجود أكراد (أغلبهم مسلمون سنة)، وأقليات من الأرمن والشركس، وأقليات دينية من المسيحيين العرب (بأغلبية أرثوذوكسية)، ومن العلويين، والدروز، واليهود (وهذه الأقليات الدينية باستثناء الأرمن عربية بامتياز). وبعد فشل تجربة الحكم الفيصلي المقتضبة - بسبب الاحتلال الفرنسي - تم تقسيم "سورية الكبرى" إلى أربع دول، وهي: سورية، ولبنان، والأردن، وفلسطين. محاولة تشكيل أمة "سورية" واجهتها تحديات من الولاءات الضيقة للشعب السوري، ومنها الولاء للطائفة والإثنية والقبيلة، وولاءات "ما فوق الوطنية"، وهي العروبة والإسلام.

لقد كان تحدي بناء هوية وطنية للشعب السوري بتنوعه، من أكبر التحديات التي واجهت النخب الحاكمة منذ الاستقلال. مع ذلك أدركت النخب الحاكمة أنها بحاجة للإشارة إلى الهوية العربية/الإسلامية لسورية كنوع من الاعتراف بأن الدول "القُطرية" التي أوجدها الاستعمار البريطاني - الفرنسي، هي كيانات مصطنعة، لم يكن لشعوبها دور في إنشائها. ولذا فإن الإشارة إلى الهوية العربية/الإسلامية لسورية لم يكن مجرد انعكاس للواقع الديمغرافي (حوالي 90 بالمائة من العرب، و74 بالمائة من المسلمين السنة)، بل كان محاولة لتعميق استقلال الدولة الناشئة، والسعي إلى تغيير واقع التقسيم الذي أوجده الاستعمار، من خلال إعادة تشكيل الدولة القطرية في إطار "قومي/عروبي" أوسع. ولم يكن غريباً أن تحاول الوثائق الدستورية المتتالية إقرار أن الشعب السوري جزء من "الأمة العربية"، وإلى وجود إشارة إلى الهوية الإسلامية، لتعكس بذلك هوية الأغلبية لكن بشكل غير مرض، حيث اعتبرت بعض الأقليات أنها مُقصاة من هذا التعريف. ولعل أكبر تحد واجه التعريف العربي/الإسلامي لسورية كان من الأقليات التي لم تشعر أنها مشمولة بأحد هذين المكونين للهوية. فمثلاً، لم يستسغ الأكراد، وهم القومية الثانية في سورية، يوماً إطلاق تسمية "الشعب العربي السوري" على السوريين. ولم يكن الحال أفضل بالنسبة لغير المسلمين عندما اشترطت الدساتير المتعاقبة منذ دستور عام 1950 أن يكون رئيس الدولة مسلماً.

لقد حاولت الدساتير المتتالية تقديم صيغ مختلفة لموضوع هوية الدولة السورية ودور الدين في الدولة، لتعكس النقاش الدائر في وقتها حول هذه القضية. فباستعراض سريع للوثائق الدستورية السابقة نرى أن الإشارة إلى الهوية العربية من الثوابت في كافة الوثائق الدستورية، لكنه يحتل مكانة كبيرة في الفترة الممتدة من 1950- 1970، وهي مرحلة المد القومي، إذ لم يكن الحديث عن الهوية العربية أمراً نظرياً، بل شهدت هذه الفترة تجربة الوحدة مع مصر (1958-1961)، وعدة محاولات لإيجاد "اتحادات" عربية، كان آخرها "اتحاد الجمهوريات العربية" في عام 1971 مع مصر وليبيا، وكان من المفروض أن تنضم إليها السودان، لكن هذا الاتحاد لم ير النور إلا في الوثائق التي تم الاتفاق عليها، ولم يدخل أبداً حيز التنفيذ. وفيما يلي عرضٌ موجزٌ لكيفية تعاطي الوثائق الدستورية المختلفة مع قضية الهوية العربية وعلاقة الدين بالدولة:

في أولى محاولات الصياغة الدستورية نص القانون الأساسي (الدستور) الذي وضعه المؤتمر السوري في مواده العامة على أن "حكومة المملكة السورية العربية حكومة مدنية نيابية عاصمتها دمشق الشام ودين ملكها الإسلام".([14]) وحددت المادة الثالثة أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في جميع المملكة السورية. أما بالنسبة لدور الدين في المملكة الوليدة فقد نصت المادة السادسة من الفصل الثاني: "على الملك حين جلوسه أن يقسم أمام المؤتمر يميناً باحترام الشرائع الإلهية وبالأمانة للأمة وبمراعاة القانون الأساسي". وتتكرر الإشارة إلى الصفة العربية، باشتراط أن يكون الحاكم العام للمقاطعة (وهذه إشارة إلى المقاطعات الثلاث المشكِّلة للمملكة هي سورية العثمانية، أي الداخل والساحل والجنوب)، اشترطت أن يكون الحاكم "سورياً عربياً" متصفاً بالصفات المشروطة في عضوية مجلس الشيوخ".([15]) وأخيراً، هناك عدة إشارات إلى "الأمة العربية" في بيان المؤتمر السوري الذي تمت بناء عليه مبايعة فيصل الأول بن الحسين ملكاً على سورية. وتحديداً هناك تصريح من المؤتمرين بأننا "اجتمعنا بصفتنا ممثلي الأمة السورية في جميع أنحاء القطر العربي السوري تمثيلاً تاماً، وقررنا بإجماع الرأي استقلال بلادنا السورية، التي منها فلسطين بحدودها الطبيعية...".([16]) لقد جاء ذكر الهوية العربية لسورية منسجماً مع المرحلة التي كانت تمر بها البلاد، وهي مرحلة خروج القوات التركية من سورية، بدفع وقيادة من الحلفاء الغربيين. ولذا حاولت الوثيقة الإشارة إلى الهوية الجديدة للبلاد لتمييزها عن الدولة العثمانية، حيث كانت الرابطة الإسلامية هي مصدر شرعية الحكم العثماني. كما أن المشاركين في المؤتمر السوري أرادوا من خلال صياغة القانون الأساسي التأكيد على أن الأمة السورية قادرة على نيل استقلالها وحكم ذاتها أمام مطامع الدول الغربية التي لم تمهل الدولة الوليدة أكثر من ثلاثة أشهر، ليحل الاستعمار الفرنسي مكان الحكم العثماني. أما عن دور الدين في المملكة الوليدة، فلقد اقتصر على اشتراط أن يكون الملك "مسلماً"، وعلى أن يحترم مليك البلاد "كافة الشرائع الإلهية"، دون الإشارة إلى دور محدد للشريعة أو الفقه الإسلامي في التشريع. ومع أن القانون الأساسي غير واضح في تبنيه نظام "الملكية الدستورية" بشكله المعاصر، فقد حاول محاكاة هذا النموذج لكن دون تبنّيه بشكل صريح، إذ أُعطي الملك فيصل صلاحيات تنفيذية وتشريعية أكثر من تلك التي استقر عليها ملوك الديمقراطيات الغربية. ومع أن هذا يعني أن منصب "رئيس الوزراء"، وهو المنصب التنفيذي الأول في الملكيات الدستورية، يمكن أن يؤول لغير المسلم لكن حقيقة أن الملك له صلاحيات أكبر من كونه رئيس الدولة الرمزي عنى استبعاد غير المسلمين من هذا الموقع.

وتتراجع الإشارة إلى الهوية العربية لسورية في دستور عام 1930، وهو الدستور الذي صاغته الجمعية التأسيسية التي تم انتخابها في ظل الانتداب الفرنسي في عام 1928. وعلى الرغم من أنه من بين مسؤوليات سلطة الانتداب إيجاد قانون أساسي للبلاد فقد ماطل المندوبون الفرنسيون لسنوات في السماح للسوريين في صياغة دستور لهم، وعندما أقرت الجمعية التأسيسية مشروع الدستور اعترض المفوض السامي الفرنسي على ست مواد نصت على استقلال سورية الكامل ووحدتها، وهو ما اعتبره المفوض السامي يتناقض مع "الانتداب". وأخيراً، وبعد عدة محاولات من تعطيل انعقاد الجمعية التأسيسية التي رفضت تدخلات الحاكم الفرنسي، وجد المفوض الفرنسي نفسه مجبراً على إصدار الدستور كما أقرته الجمعية التأسيسية التي سيطر على تركيبتها نواب "الكتلة الوطنية"، بشرط إضافة مادة أخيرة، تنص على ألا يتعارض أي حكم من أحكام الدستور مع التعهدات التي قطعتها فرنسا - لأنها الدولة المنتدبة المسؤولة أمام عصبة الأمم - على نفسها فيما يختص بسورية.([17])

وبالعودة إلى موضوع الهوية، نص الدستور على المواد التالية:([18])

  1. سورية دولة مستقلة ذات سيادة، لا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها.
  2. سورية وحدة سياسية لا تتجزأ.
  3. سورية جمهورية نيابية دين رئيسها الإسلام، وعاصمتها مدينة دمشق.

لقد عكست هذه المواد حرص القادة الوطنيين في ذلك الوقت، على تأكيد حق سورية في الحصول على استقلالها، وعلى المحافظة على وحدتها، بعد أن اُستقطع منها لبنان وفلسطين وإمارة شرق الأردن، وأُعطي لواء اسكندرون نوعاً من الحكم الذاتي، وقسمت سورية الواقعة تحت الانتداب الفرنسي إلى أربع دويلات هي: دويلة دمشق، دويلة حلب، دويلة العلويين، دويلة الدروز. ولعل اللغة التي صاغتها الجمعية التأسيسية للمادة الثانية نصت على أن: "البلاد السورية المنفصلة عن الدولة العثمانية ذات وحدة سياسية لا تتجزأ، ولا عبرة لكل تجزئة طرأت عليها منذ الحرب العالمية حتى اليوم".([19]) ويمكن النظر إلى دور الدين في الوثيقة بحصره في ديانة رئيس الجمهورية، إضافة إلى المادة ما قبل الأخيرة، وهي المادة التي تعطي "الطائفة الإسلامية" حق إدارة الأوقاف الإسلامية، من خلال ممثلين منتخبين يحدد القانون كيفية انتخاب هذه المجالس وصلاحياتها.([20]) ومع أن النظام السياسي الذي قرره هذا الدستور هو أقرب للنظام البرلماني - من غير المستبعد أن يكون متأثراً بالجمهورية الفرنسية الرابعة - فهذا يعني أن منصب رئيس الوزراء مفتوح لكافة أطياف الشعب. لكن وبقراءة متأنية لنصوص الدستور وصلاحيات الرئاسة يبدو أنه يرسخ نموذج النظام شبه الرئاسي، حيث يقتسم الرئيس صلاحيات السلطة التنفيذية مع رئيس الوزراء، الأمر الذي يعني إقصاء غير المسلمين عن هذا المنصب. وعلى غير غرار دستور المملكة السورية، فقد تم العمل بهذا الدستور، ضمن حدود ما سمح به الانتداب الفرنسي، خاصة في الفترة التي أعقبت توقيع معاهدة 1936 بين فرنسا وسورية، حيث جرت انتخابات على أساس هذا الدستور، وتألفت حكومة وطنية برئاسة هاشم الأتاسي، وترأس الوزارة جميل مردم بك، وكان الملفت فيها تشكيل وزارتين للخارجية والدفاع لأول مرة منذ العهد الفيصلي. واستمرت هذه الحكومة حتى قام المفوض السامي الفرنسي بتعليق الدستور وحل مجلس النواب في تموز/يوليو 1939. وعندما حصلت سورية على استقلالها عام 1946، تم العمل بهذا الدستور، بعد إلغاء المادة 116 التي أعطت المندوب السامي حق تعطيل أي حكم يتناقض مع الانتداب.

الوثيقة الدستورية الثالثة التي اعتبرت الأكثر "ديمقراطية" في تاريخ سورية المعاصر هي دستور عام 1950. يتضمن الفصل الأول بمواده الأربع الأولى تحديد الهوية للجمهورية الجديدة على النحو التالي: فعلى الرغم من عدم تضمين صفة "العربية" في اسم الجمهورية، إذ تم الاكتفاء بتسمية الجمهورية بـ"الجمهورية السورية"، إلا أن المواد التالية قد نصت صراحة على الهوية العربية - الإسلامية لسورية. فقد نصت المادة الأولى على ما يلي: 1) سورية جمهورية عربية ديمقراطية نيابية ذات سيادة تامة، 2) وهي وحدة سياسية لا تتجزأ ولا يجوز التخلي عن جزء من أراضيها، 3) والشعب السوري جزء من الأمة العربية. أما المادة الثانية فقد نصت على أن: "السيادة للشعب لا يجوز لفرد أو جماعة ادعاؤها". وفيما يتعلق بدور الدين، فقد نصت المادة الثالثة على ما يلي: 1) دين رئيس الجمهورية الإسلام، 2) الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع، 3) حرية الاعتقاد مصونة والدولة تحترم جميع الأديان السماوية وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على ألا يخل ذلك بالنظام العام، 4) الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية. وأخيراً، نصت المادة الرابعة على أن: اللغة العربية هي اللغة الرسمية.([21]) وبتحليل سريع لكيفية تعاطي هذا الدستور مع قضية الهوية يمكن الإشارة إلى الأمور التالية: أولاً: يعتبر هذا الدستور هو الأول الذي تمت صياغته بعيداً عن التهديدات والتأثيرات الاستعمارية، وجاء نتيجة مداولات الجمعية التأسيسية، وفي لحظة تشاركية وتوافقية فريدة، جعلت كثيراً من السوريين ينظرون إليها بنوع من الحنين إلى الماضي (النستالجيا)، إذ تقدم تلك المرحلة بديلاً واقعياً لممارسات النظام السياسي في مرحلة احتكار حزب البعث، وعائلة الأسد للسلطة. ثانياً: رغم عدم تضمين وصف "العربية" في اسم الجمهورية، فإن الهوية العربية لسورية كانت واضحة لتعكس صعوداً للقومية العربية. ولعل تدليلاً إضافياً على تأثير المد القومي العربي يتجلى في القَسَم المطلوب تأديته من قبل أعضاء مجلس النواب، وهم أصحاب السلطة التشريعية في البلاد، وهذا نصه: "أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً لدستور البلاد مدافعاً عنه وعن استقلال الوطن وحريات الشعب ومصالحه وأمواله وكرامته، وأن أحترم قوانين البلاد وأقوم بمهمة النيابة بشرف وصدق وإخلاص وأن أعمل لتحقيق وحدة الأقطار العربية".([22]) ويتشابه معه قَسَم رئيس الجمهورية في تعهده باحترام الدستور وحريات الشعب والإخلاص للنظام الجمهوري والمحافظة على استقلال الوطن "والدفاع عن سلامة أرضه وأن أعمل على تحقيق وحدة الأقطار العربية".([23]) ثالثاً: وكما هو الحال في دستور عام 1930، استمر تقليد اشتراط أن يكون دين رئيس الجمهورية الإسلام، لكن وفي حال التزام النظام السياسي بقواعد النظام البرلماني الصرف، بإعطاء الصلاحيات التنفيذية لرئيس الوزراء الذي يتم اختياره لأنه باعتباره زعيم أكبر الكتل البرلمانية، فهذا يعني أن منصب رئيس الوزراء هو أعلى منصب تنفيذي متاح لغير المسلمين. ذلك مع بقاء منصب الرئاسة رمزياً، كما هو الأمر في النظام البرلماني الصرف. الجدة فيما يتعلق بهذا الدستور تكمن في نصه على أن الفقه الإسلامي هو "المصدر الرئيسي للتشريع"، يوازيه التأكيد على حرية الاعتقاد، واحترام الدولة لجميع الأديان السماوية، وكفالة حرية القيام بجميع الشعائر. ولعل هذه الإضافة عائدة إلى تأثير الإسلام السياسي الذي كان حاضراً في الجمعية التأسيسية، من خلال جماعة الإخوان المسلمين، وبعض الشخصيات الإسلامية المستقلة.

ولم يختلف دستور عام 1953 الذي قدمه الزعيم أديب الشيشكلي، عن سلفه، فيما يتعلق بالهوية العربية والإسلامية للجمهورية السورية، ما خلا إضافة إلى المادة الأولى في بندها الثالث لتشير إلى ما يلي: "والشعب السوري جزء من الأمة العربية. وعلى الدولة أن تسعى، في ظل السيادة والنظام الجمهوري لتحقيق وحدة هذه الأمة".([24]) ويمكن تفسير هذه الإضافة إلى شعور الزعيم الشيشكلي بتنامي الشعور القومي في البلاد، فأراد بذلك مجاراة الأحزاب القومية، من بعث وغيره. الأمر الأهم، أنه في الإبقاء على أن "دين رئيس الجمهورية هو الإسلام" في نظام هو الأقرب للنظام الرئاسي، حرمان لغير المسلمين من فرصة الارتقاء إلى هذا الموقع، وهذا أمر مختلف عندما كان النظام أقرب للنظام البرلماني في ظل الأنظمة السابقة.

وبعد استقالة الرئيس الشيشكلي، نتيجة لمطالبات شعبية ومن بعض الوحدات العسكرية، في 25 شباط/فبراير 1954، عاد الرئيس هاشم الأتاسي لسدة الرئاسة لإكمال ولايته الدستورية وتشكيل حكومة تشرف على إجراء انتخابات نيابية ورئاسية، حيث انتخب الرئيس شكري القوتلي رئيساً للجمهورية في 6 أيلول/سبتمبر 1955، واستمر العمل بدستور عام 1950 حتى قيام دولة الوحدة بين مصر وسورية في شباط/فبراير 1958، بينما اعتُبر الدستور الذي وضع في عهد الرئيس الشيشكلي باطلاً.

عكَسَ دستور الجمهورية العربية المتحدة الذي جاء مقتضباً من 73 مادة اللحظة القومية العاطفية، وتم الإسراع في تشكيل مؤسسات لم تحظ بكثير من التفكير والتدبير بشكل يحفظ مصالح القطرين المشكِّلين للاتحاد. ولم يشمل الجزء المتعلق بالهوية حيزاً كبيراً في الوثيقة الدستورية التي جاءت بها دولة الوحدة، فقد اقتصرت المادة الأولى على أن "الدولة العربية المتحدة جمهورية ديمقراطية مستقلة ذات سيادة وشعبها جزء من الأمة العربية".([25]) أما الأمر الملفت للنظر فهو غياب أي إشارة إلى دور الدين في الدولة، سواء بالنسبة لهوية الدولة، أو شرط الرئاسة، أو دور الشريعة أو الفقه الإسلامي في التشريع. وانعكست المشاعر القومية العربية بشكل أوضح في بيان إعلان الجمهورية العربية المتحدة، وفي كلمات الرئيسين شكري القوتلي وجمال عبد الناصر الموجهة إلى مجلسي النواب السوري ومجلس الأمة المصري.

لقد كان فشل أول تجربة اتحادية للدول العربية نكسة للقوى القومية، خاصة الناصرية والبعثية والقوميين العرب. ومع أن فشل دولة الوحدة كان مدعاة لبعض النخب السياسية لتفكّر بشكل عقلاني بالتركيز على تقوية الهوية الوطنية قبل الخوض في تجارب وحدوية غير مدروسة، دفع هذا الفشل بعض الأحزاب القومية، خاصة حزب البعث الذي شعرت قياداته بأنها استُغلت من قبل النظام المصري، إلى تبني التفكير الإنقلابي للوصول إلى الحكم بأي وسيلة، وذلك لتقديم نموذج قومي مختلف عن التجربة الناصرية. ومن هنا كانت تجربة الانفصال وقتية، إذ تعالت لغة المزايدات لدى كافة القوى السياسية العروبية في سورية، مدعية أنها ستعيد تجربة الوحدة، لكن بشكل أفضل وأنضج. ومن هنا لم يتسنَّ لفترة الحكم الانفصالي صياغة دستور جديد بقدر ما اعتمدت دستور عام 1950 بتعديلات جزئية. النقطة المضيئة الوحيدة في فترة الانفصال كانت الانتخابات البرلمانية الحرة النزيهة التي شهدتها البلاد لآخر مرة، ، بمشاركة أغلبية القوى السياسية.

وبعد انقلاب 8 آذار/مارس 1963 وحتى اعتماد دستور 1973، صدر دستوران مؤقتان يمكن تسميتهما بدساتير حزب البعث، أولهما: في 25 نيسان/إبريل 1964، وثانيهما: في 1 أيار/مايو 1969، وتم تعديله بعد انقلاب الأسد في 16 شباط/فبراير 1971. وتتشابه هذه الدساتير المؤقتة في معالجتها لموضوع الهوية بتركيز أكبر على الالتزام بالوحدة العربية، وتحديد النظام السياسي والاقتصادي بأنه نظام "الديمقراطية الشعبية" وتبني النظام "الاشتراكي". فمثلاً تنص المادة الأولى في دستور عام 1964، على ما يلي: 1) القطر السوري جمهورية ديمقراطية شعبية اشتراكية ذات سيادة وهو جزء من الوطن العربي، 2) الشعب العربي في سورية جزء من الأمة العربية يؤمن بالوحدة ويناضل في سبيل تحقيقها، 3) السيادة في القطر السوري للشعب.([26]) أما عن دور الدين في الدولة، فتنص المادة الثالثة على أن دين رئيس الجمهورية الإسلام (تختفي هذه المادة في الدساتير المؤقتة لعامي 1969 و1971)، والفقه الإسلامي مصدر "رئيسي" للتشريع، وليس المصدر "الرئيسي"، كما نص على ذلك دستور عام 1950. وهكذا يتضح أن الهوية في هذه الدساتير المؤقتة معرَّفة من خلال عدسة حزب البعث العربي الاشتراكي. ولأول مرة تتم إضافة مادة إلى دستور عام 1969 لتتكرر في الدستور المؤقت لعام 1971، ودستور حافظ الأسد لعام 1973، وهي: "الحزب القائد في المجتمع والدولة، هو حزب البعث العربي الاشتراكي".([27]) هناك أيضاً بعض التفاصيل ذات العلاقة بالهوية في التغييرات التي أحدثتها دساتير حزب البعث، ومنها الإشارات المتكررة إلى التزام النظام بتحقيق أهداف الحزب في الوحدة العربية والعمل على تحقيقها. فمثلاً، تنص المادة 37 من دستور 1964 على نوعية القَسَم لأعضاء المجلس الوطني كما يلي: "أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً لدستور البلاد مدافعاً عنه وعن استقلال الوطن ومصالح الشعب وأن أحترم قوانين البلاد وأقوم بمهمتي بشرف وأن أعمل لتحقيق أهداف الثورة في الوحدة والحرية والاشتراكية". تراجع دور الدين في الدولة، وهذا متوقع من حزب "علماني تقدمي"، لكن هذا التراجع لم يلغِ دور الدين تماماً، بل تم التقليل منه ليكون الفقه الإسلامي مصدراً "رئيسياً" للتشريع، وليس المصدر "الرئيسي"، كما نصت على ذلك الدساتير السابقة. أمر آخر مثير للنظر، أنه في القَسَم المذكور لأعضاء مجلس الشعب في دستوري 1969 و1971، تم حذف الذات الإلهية من القسم، ليكون على النحو التالي: "أقسم بشرفي ومعتقدي أن أحافظ مخلصاً على النظام الديمقراطي الشعبي وأن أحترم الدستور والقوانين، وأن أرعى مصالح الشعب وسلامة الوطن، وأن أعمل وأناضل لتحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية".([28])

وأخيراً، هناك تشابه بين دستوري عام 1973 و2012 (دستورا حافظ وبشار الأسد)، في موضوع الهوية ودور الدين في الحياة العامة، مع بعض التغييرات ذات المغزى. ففي دستور 1973، يحدد الفصل الأول في مبادئه السياسية هوية البلاد على النحو التالي: 1) الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية ذات سيادة لا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها، وهي عضو في دولة اتحاد الجمهوريات العربية، 2) القطر العربي السوري جزء من الوطن العربي، 3) الشعب في القطر العربي السوري جزء من الأمة العربية يعمل ويناضل لتحقيق وحدتها الشاملة.([29]) أما دستور عام 2012 فينص في مادته الأولى على: 1) الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية ذات سيادة تامة، ولا يجوز التنازل عن أيٍّ من أراضيها، وهي جزء من الوطن العربي، 2) الشعب في سورية جزء من الأمة العربية.([30]) الفارق الواضح بين الصيغتين، غياب وصف "الشعبية الاشتراكية" في الدستور الثاني، وتراجع التزام الشعب السوري في العمل والنضال لتحقيق الوحدة الشاملة. وكلا الأمرين يعكسان أيديولوجية حزب البعث، الأمر الذي يعني التخلي عن هذا الجانب من الأيديولوجية البعثية في دستور الابن. وهناك تباين في القَسَم الدستوري المتضمن تحت المادة السابعة في كلا الدستورين، فهو في دستور 1973 كما يلي: "أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصاً على النظام الجمهوري الديمقراطي الشعبي، وأن أحترم الدستور والقوانين، وأن أرعى مصالح الشعب وسلامة الوطن، وأن أعمل وأناضل لتحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية". أما في دستور الابن، فهو: "أقسم بالله العظيم أن أحترم دستور البلاد وقوانينها ونظامها الجمهوري، وأن أرعى مصالح الشعب وحرياته، وأحافظ على سيادة الوطن واستقلاله وحريته والدفاع عن سلامة أرضه، وأن أعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية ووحدة الأمة العربية". ومرة ثانية، هناك تخلٍ عن الأهداف الثلاثة لحزب البعث - حُملت على أنها أهداف الأمة العربية - ألا وهي: الوحدة والحرية والاشتراكية. مع ذلك، يُبقي القَسَم في دستور الابن على تعهد بتحقيق "العدالة الاجتماعية ووحدة الأمة العربية"، وهي أهداف أكثر غموضاً، لكنها بالتأكيد تخلٍ واضح عن أهداف حزب البعث "الحاكم".

أما عن دور الدين، فهناك تشابه في الصياغة، مع إضافة منطقية في دستور 2012. فقد نص دستور عام 1973 على ما يلي: 1) دين رئيس الجمهورية الإسلام، 2) الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع.([31]) ويتبنى دستور 2012 اللغة نفسها في مادته الثالثة، مضيفاً البندين التاليين: 1) تحترم الدولة جميع الأديان، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن لا يخل ذلك بالنظام العام، 2) الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية.([32])

ثانياً: الحقوق والحريات

لم تغب الحقوق والحريات العامة عن الوثائق الدستورية السابقة بقدر ما هي مقيدة أحياناً، خاصة في حالة الحقوق السياسية، وأنها الجزء الأكبر الذي لا يطبَّق في هذه الدساتير. والحقيقة فإن تفحصاً دقيقاً لقسم الحقوق والحريات والمواطنة يشير إلى اقتراب أكثر الدساتير من المعايير الدولية لحقوق الإنسان وحرياته. وفيما يلي بعض الملاحظات المقارنة:

  1. من الأمور الملفتة للنظر أن أول التجارب الدستورية (دستور المملكة السورية لعام 1920) كان متطوراً جداً في القسم المتعلق بالحقوق والحريات. فقد جاء الفصل الثالث تحت عنوان "في حقوق الأفراد والجماعات"، ليشمل سبع عشرة مادة متضمنة للحقوق التالية: حق الجنسية، المساواة أمام القانون، احترام الحرية الشخصية، حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية، حرمة التعذيب، حق تأليف الجمعيات، حرمة المساكن، احترام الملكية الخاصة، حرية المطبوعات، مجانية التعليم في مراحله الأولى، حق المحاكمة أمام المحاكم المختصة، وحرمة النفي الإداري.([33])
  2. حافظ دستور عام 1930 على الحقوق والحريات عينها المنصوص عليها في الدستور السابق، وفصل في بعضها. ففي مجال حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية، على سبيل المثال هناك تفصيل أكبر مما ورد في الدستور السابق. إذ تنص المادة 15 على ما يلي: "حرية الاعتقاد مطلقة. تحترم الدولة جميع المذاهب والأديان الموجودة في البلاد وتكفل وتحمي حرية القيام بجميع شعائر الأديان على ألا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب. وتضمن أيضاً لجميع الأهالي على اختلاف طوائفهم احترام مصالحهم الدينية وأحوالهم الشخصية". وتضيف المادة 28 كفالة حقوق الطوائف الدينية، وحقها بإنشاء مدارس خاصة بها.([34])
  3. يُعتبر دستور عام 1950 الأكثر شمولاً وتفصيلاً في باب الحقوق والحريات. والحقيقة أن الدساتير التي أعقبته بدأت تقليد "التقييد" لبعض هذه الحقوق والحريات، كما سيتضح لاحقاً. يأتي قسم الحقوق والحريات في هذا الدستور في الفصل الثاني، تحت عنوان "المبادئ الأساسية". وما يميز هذا الدستور عن سابقيه أنه يزيد من هذه الحقوق ويغنيها تفصيلاً. فمثلاً، في باب حق التجمع والتظاهر السلمي، يضيف المادة التالية: "للسوريين حق تأليف أحزاب سياسية على أن تكون غاياتها مشروعة ووسائلها سلمية وذات نظم ديمقراطية".([35]) ومثال آخر هو التفصيل المتضمن تحت المادة العاشرة فيما يتعلق بحق المواطن بالمحاكمة العادلة، إذ تشمل المادة على أحد عشر بنداً تفصيلاً، تبدأ بافتراض البراءة، وأسلوب التوقيف، وتجريم التعذيب، وحق الدفاع، ورفض المحاكم الاستثنائية والعسكرية، وأخيراً حق النقض. هذا الحيز الذي احتلته الحقوق والحريات في هذا الدستور، هو أحد أسباب اعتباره الأكثر "ديمقراطية" بين التجارب الدستورية. إذ لم يكتف هذا الدستور بالتأكيد على الحريات العامة، بل أكد على الحقوق الاجتماعية - الاقتصادية، كحق العمل والتعليم والضمان الاجتماعي.
  4. على الرغم من قيام الرئيس الشيشكلي بإلغاء دستور عام 1950، وتقديم دستور بديل عنه، فمن المفارقة أن دستور عام 1953 الذي قدمه كبديل للدستور الملغى قد أخذ الكثير منه. ليس هذا فحسب، بل حاول الرئيس الشيشكلي تحسين بعض الفقرات عن الدستور الملغى. فمثلاً، يعتمد دستور الشيشكلي أكثر المواد الواردة في باب المبادئ الأساسية المستقاة من دستور عام 1953، ويعنونه بـ"الضمانات الديمقراطية"، ويزيد أحياناً في بعض التفاصيل الشارحة للحقوق والحريات. ففي باب حق العمل، وتحت المادة التاسعة والثلاثين، هناك تفصيل لكيفية حماية الدولة لحق العمل، ومن ذلك تحديد ساعات العمل، وتعويض العمال في بعض الحالات الخاصة كالمرض والعجز، وإيجاد الشروط الخاصة بعمل المرأة والأحداث بما يكفل حمايتهم. ويفصل في الفقرة التالية: "جعل أجور النساء في حالة تماثل الظروف مساوية لأجور الرجال".([36]) لكن المفارقة أن هذا الدستور هو الوحيد الذي أشار بشكل صريح على: "لا يُقبل ترشيح المرأة لرئاسة الجمهورية".([37])

يظهر التراجع في الحقوق والحريات في الدساتير اللاحقة، وذلك إما من خلال تقليص مساحتها أو تقييدها، والأهم من ذلك الالتفاف على تطبيقها. ففي دستور الجمهورية العربية المتحدة، مثلاً، يتم اختزال الحقوق والحريات تحت الباب الثالث، بعنوان "الحقوق والواجبات العامة". فإذا تم استثناء المادة 11 التي تتحدث عن واجب الدفاع عن الوطن والجندية الإجبارية، لا يبقى في الدستور إلا أربع مواد، وهي: 1) المساواة أمام القانون، 2) لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، 3) حظر تسليم اللاجئين السياسيين، 4) الحريات العامة مكفولة في حدود القانون.([38]) وتعكس لغة المادة الرابعة الروح التقييدية للحريات، بربطها بحدود القانون الصادر في أغلب الأحيان عن السلطة التنفيذية. وتستمر الدساتير الثلاثة المؤقتة التي صدرت في عهد حزب البعث بتقييدها للحقوق والحريات، لتنسجم مع رؤية حزب البعث الريادية للمجتمع والدولة، ومع إعادة تعريفها لمفاهيم كالحرية لتعني حرية الوطن أولاً ثم حرية الفرد. فلو أخذنا الدستور المؤقت لعام 1969، وهو مشابه لدستوري عام 1964 ودستور 1971، يتم اختزال الحقوق والحريات لتقتصر على المساواة أمام القانون، وتكافؤ الفرص، وحق المحاكمة (لكن يختفي هنا تجريم التعذيب، وعدم اللجوء إلى المحاكم الاستثنائية)، وسرية المراسلات، وعدم جواز إبعاد المواطن، وحق التعليم والعمل، والمساهمة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعب، لكن حسب القانون.([39]) فمثلاً، لو أخذنا حق المساهمة في الحياة السياسية لوجدنا أن هذا الحق قد تم تقييده بتبني المادة السابعة التي تنص على أن: "الحزب القائد في المجتمع والدولة، هو حزب البعث العربي الاشتراكي". وبمعنى آخر، وبتبني هذه المادة، وهي المادة المستنسخة من تجارب الدول الشيوعية، فإن الإطار الوحيد للحياة السياسية والعمل النقابي هو من خلال هذا الحزب. فحتى عندما يقدم الدستور المؤقت لعام 1969 إضافة جديدة في الإشارة إلى دعم حق المرأة في المشاركة في الحياة العامة فإنه يأتي ضمن تعريف النظام البعثي للحياة العامة على النحو التالي: "على الدولة أن توفر للمرأة جميع الفرص التي تتيح لها المساهمة الفعالة في الحياة العامة وأن تعمل على إزالة القيود التي تمنع تطويرها، بما يمكنها من المشاركة في بناء المجتمع العربي الاشتراكي".([40])

وينهج دستورا عامي 1973 و 2012 طريقة الدساتير المؤقتة السالفة نفسها في تقييد الحريات والحقوق، مقارنة بدستور عام 1950. ويتضح هذا التقييد في الممارسات التالية: 1) ربط الحقوق والحريات بتوجهات الحزب الحاكم، 2) تعليق العمل بهذه الحقوق والحريات المنصوصة بالاستناد إلى الأحكام العرفية المفروضة منذ عام 1963-2012، 3) تجاهل هذه البنود بشكل كلي أو كامل. من الأمثلة على تراجع بعض الحريات غياب بعض المواد التي تمنع محاكمة المواطنين أمام محاكم استثنائية أو عسكرية. أما من الأمثلة على تحديد الحريات من خلال وضعها بصيغة شرطية المادة التي تتحدث عن حرية التعبير في دستور عام 1973 المتضمنة: "لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكتابة وكافة وسائل التعبير الأخرى، وأن يسهم في الرقابة والنقد والبناء بما يضمن سلامة البناء الوطني والقومي ويدعم النظام الاشتراكي، وتكفل الدولة حرية الصحافة والطباعة والنشر وفقاً للقانون".([41]) لكن وللحقيقة، فإن دستوري عامي 1973 و2012 يتضمنان أغلب الحقوق والحريات الموجودة في دساتير الدول المتطورة، لكن الإشكال هو في عدم احترام هذه الحقوق والحريات. فمثلاً، أعاد دستور 1973 المادة المتعلقة بتحريم التعذيب، وكذا دستور 2012، لكن تكفي الإشارة إلى أن سورية، خاصة بعد الثورة السورية عام 2011، قد تكون هي الأسوأ في العالم في نسبة المعتقلين السياسيين الذين تمت تصفيتهم بشكل منهجي تحت التعذيب.([42]) كما أزال دستور عام 2012 شرطية الحقوق والحريات، كما وردت في الدستور السابق، لكنها بقيت مواداً نظرية ليس لها علاقة بالواقع، فمن الحقوق المنصوص عليها: "للمواطنين حق الاجتماع والتظاهر سلمياً والإضراب عن العمل في إطار مبادئ الدستور وينظم القانون ممارسة هذه الحقوق".([43])

ثالثاً: اللامركزية

ترتبط اللامركزية في الحكم بتركيبة النظام السياسي. فكلما كان النظام ديمقراطياً اتجه إلى إعطاء صلاحيات أكبر للوحدات المشكلة للنظام السياسي. وبالتعريف فإن من سمات الأنظمة السلطوية تفضيل المركزية ليسهل لها السيطرة والتحكم. من الملفت للنظر في قراءة التجارب الدستورية المتنوعة للدولة السورية ميلها إلى الاقتضاب والعمومية عند الحديث عن اللامركزية، وفي أغلب الأحيان إحالة الموضوع إلى قوانين تفصل هذه القضية.

في أول تجربة دستورية قدم ممثلو المؤتمر السوري نوعاً من اللامركزية التي كانت أقرب ما تكون إلى النظام الفيدرالي، إذ شمل الدستور باباً كاملاً حول "المقاطعات"، وهي الوحدات المكونة للمملكة السورية (الداخل والساحل والجنوب: سورية ولبنان وفلسطين والأردن). ففي الفصل الحادي عشر يحدد دستور عام 1919 مبدأ إدارة المقاطعات عن طريق "اللامركزية في إدارتها الداخلية ما عدا الأمور العامة التي تدخل في خصائص الحكومة العامة (المركزية)"، كما تحدد المواد اللاحقة طريقة إدارة المقاطعات عن طريق مجالس نيابية منتخبة وحاكم عام يعينه الملك، وإيجاد آلية لحل الخلافات بين مجالس المقاطعات والحكومة المركزية عن طريق مجلس الشيوخ (المركزي).([44]) وعلى الرغم من أن هذا الدستور لم يطبق فعلياً بسبب الاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان، إلا أنه قدم منظوراً متطوراً لفكرة اللامركزية والحوكمة المحلية.

أما دستور عام 1930، فلم يفصل في اللامركزية واكتفى في بابه الأخير تحت عنوان أحكام مختلفة بالنص على: "يوضع قانون خاص بشأن حدود المناطق الإدارية وتنظيمها وصلاحياتها تراعى فيه الحالة الخاصة ببعض هذه المناطق".([45]) وهنا نرى تميزاً في دستور عام 1950 الذي اشتمل على فصل كامل بعنوان "التقسيمات الإدارية"، ولعل أهم عناصره تقسيم أراضي الجمهورية إلى محافظات، تُدار من قبل مجالس يُنتخب ثلاثة أرباعها ويعين الربع الباقي، وتقوم المجالس بانتخاب رئيسها ومكتبها التنفيذي. كما حدد هذا القسم إحدى عشرة صلاحية، ومنها: الصحة ومكافحة الأمية، وتوفير المياه الصالحة، وتنشيط السياحة، ورعاية الأعمال الخيرية، وتنظيم واستثمار الصيد البحري والنهري والبري. وأخيراً، حدد موارد المحافظات، وكيفية الصرف على مشاريعها.([46])

ولعل أكبر فشل في تجاهل أهمية اللامركزية في الحكم قد تجلى في تجربة دولة الوحدة حيث أصر الطرف المصري، وبعض مؤيديه من السوريين، على إقامة دولة وحدة اندماجية بدلاً من نظام فيدرالي يراعي خصوصية القطرين. يرسخ الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة فكرة الدولة الموحدة المركزية، وكذا الممارسة الفعلية التي حرص الطرف المصري على ترسيخها. ولعل من المفيد التذكير بأن أغلبية المتحمسين لفكرة الوحدة مع مصر لم يتخلوا عن الفكرة كمبدأ، وإنما طرحوا فكرة الاتحاد الفيدرالي بين البلدين بدلاً من نموذج الوحدة الاندماجية. وبالطبع، فإن أجواء الانقسامات والمزايدات، إضافة إلى التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية، قد دفعت السياسيين والعسكريين السوريين إلى القبول بكافة شروط عبد الناصر للوحدة، ومنها: إجراء استفتاء شعبي على الوحدة، وحل الأحزاب السياسية، وانسحاب الجيش من السياسة. ومع أن بعض هذه الشروط قد تبدو منطقية للوهلة الأولى، إلا أن المقصود منها إضعاف وتحييد الزعماء السياسيين السوريين لتأمين تبعية الإقليم السوري لمصر. وتلخص إحدى الدراسات التقييم الذي قدمه كثيرون ممن كتبوا عن تجربة الوحدة بما يلي: "وكان الخطأ الفادح في محاولة المصريين تطبيق النظام المركزي القائم في مصر على سورية، والهدف من ذلك إقامة دولة اندماجية، متجاهلين أو جاهلين خصائص المجتمع السوري، والفروق السياسية والاجتماعية والجغرافية القائمة بين القطرين".([47])

وبعد انقلاب البعث، يدخل مصطلح "الديمقراطية الشعبية" الدساتير المؤقتة الثلاثة للأعوام 1964، و1969، و1971، ليربط الحكم - بما في ذلك الحكم المحلي - بحزب البعث. ويخلو دستور عام 1964 من أي إشارة إلى اللامركزية، بينما يشتمل الدستوران الباقيان على فصل حول "مجالس الشعب المحلية". ويعتمد الدستوران اللغة ذاتها، وذلك بالإشارة إلى أن مجالس الشعب المحلية هي أجهزة الدولة في الوحدات الإدارية، مع تحديد الوحدات الإدارية بقانون، ثم تُفصل ذلك المادة التالية بنصها: "يحدد قانون الإدارة المحلية اختصاصات مجالس الشعب وطريقة انتخابها وتكوينها وحقوق وواجبات أعضائها، وجميع الأحكام المتصلة بها".([48])

ويلحق دستور حافظ الأسد لعام 1973 موضوع اللامركزية بالسلطة التنفيذية، ويعتمد اللغة نفسها المشار إليها في الدستورين السالفين. وبما أن الدستور أحال هذا الموضوع إلى القانون، فقد تم إصدار القانون (15) لعام 1971، الذي وضح التقسيمات الإدارية، وتم فيما بعد تطوير القانون، مع إنشاء وزارة الإدارة المحلية. الملاحظ من خلال القانون وكذا الممارسة العملية في فترة الأسد الأب ما يلي: 1) رغم طرح مبدأ "الديمقراطية الشعبية"، فقد بقيت السمة الغالبة على العلاقة بين الحكومة والمجالس المحلية تميل لصالح المركزية الشديدة؛ 2) هيمنة حزب البعث على الإدارة المحلية بكونه الحزب القائد للمجتمع والدولة،([49]) 3) خضوع الإدارة المحلية، كباقي مفاصل الدولة، للمراقبة الأمنية الصارمة.

ومع أن دستور الأسد الابن أبقى على إحالة موضوع الإدارة المحلية للقانون، فقد كانت الجدة في تبنيه لمبدأ اللامركزية بشكل واضح: "يرتكز تنظيم وحدات الإدارة المحلية على تطبيق مبدأ لا مركزية السلطات والمسؤوليات..."، وأضاف في المادة التالية: "يكون لوحدات الإدارة المحلية مجالس مُنتخبة انتخاباً عاماً وسرياً ومباشراً ومتساوياً".([50]) ومع أن قانون الإدارة المحلية الجديد صدر في أجواء ما بعد الثورة المنادية بمزيد من الحقوق والحريات على حساب المركز، فإنه اعتمد رغم أسبقيته على دستور عام 2012، فقد جاء قانون رقم (107) ليعيد النظر في التقسيمات الإدارية إلى: محافظات، مدن، بلدان، بلديات، وأكد على لا مركزية السلطات والمحليات، إلا أن إحدى الدراسات التي رصدت القانون في النظرية والتطبيق قد توصلت إلى خلاصتين: أولاهما: الاستمرار في اعتماد المركزية كنهج في تنظيم الإدارة المحلية، وثانيهما: استمرار تبعية نظام الإدارة المحلية لحزب البعث، على الرغم من إلغاء الدور الاستثنائي لحزب البعث في دستور عام 2012.([51])

رابعاً: النظام السياسي

شهدت سورية عدة نماذج للأنظمة السياسية من خلال دساتيرها المختلفة. ففي الفترة الانتقالية البسيطة بين خروج الأتراك من سورية وبداية الاستعمار الفرنسي، تبنى أعضاء المؤتمر السوري نظام الحكم الملكي النيابي، وتمت المناداة بفيصل بن الحسين ملكاً على البلاد. وكان المنطق السياسي لتبني هذا النظام السياسي يستند إلى حجتين: أولاهما: أن الحكم الملكي النيابي تدرج من الملكية المطلقة المستبدة (متجسدة في الحكم العثماني) إلى النظام الجمهوري الذي قد لا يكون الشعب السوري مستعداً له. أما الحجة الثانية: فتتمثل في مكافأة الدور الذي لعبه الأمير فيصل في تحرير البلاد العربية من الحكم التركي، والخبرة التي كسبها في التعاطي مع الدول الغربية.([52]) وعلى الرغم من أن هذا النظام لم يُكتب له البقاء إلا لأشهر معدودة، إذ وضع إنذار "غورو" الشهير نهاية مبكرة لأول تجربة في الحكم النيابي (الملكي الدستوري)، فإن معالم هذا النظام قد تم تحديدها في حكومة مسؤولة أمام مجلس نواب منتخب بوجود الملك فيصل الذي أُعطي صلاحيات أكبر مما هو معتاد في الملكيات الدستورية، وهو أمر متوقع في مرحلة انتقالية افتقدت فيها القوى السياسية التجربة والخبرة. الأمر المثير الثاني في هذا النظام السياسي: هو تبني نوع من "اللامركزية الإدارية" التي تقترب من الحكم الفيدرالي بين المقاطعات الثلاث المشكِّلة للمملكة السورية، مع إعطاء المقاطعات صلاحيات واسعة، بما في ذلك تشكيل مجالس نيابية خاصة بها، وتعيين "حكام" من قبل الملك، يكونون مسؤولين أمام هذه المجالس. الأمر الأخير: تبنى المؤتمر السوري في هذا الدستور نظام المجلسين للسلطة التشريعية، النواب والشيوخ، مع إعطاء صلاحيات هامة لمجلس الشيوخ، وذلك لإحداث توازن بين المركز والمقاطعات. وبالطبع، فإن عدم تطبيق هذا النظام السياسي قد حرم السوريين من تجربة فريدة، كان من الممكن أن ترسخ حكماً ملكياً دستورياً، أو نموذجاً آخر، بين الحكم المطلق والدستوري، مماثل لتجربة حكم الأسرة الهاشمية في الأردن.

ثم شهدت سورية أولى تجاربها مع الحكم الجمهوري النيابي، والذي تجسد من خلال دستوري عام 1930 و1950. وفي كلا النموذجين تتوضح معالم نظام أقرب للبرلماني، لكن فيه بعض خصائص النظام المختلط (شبه الرئاسي)، إذ يعطي في كلا الحالتين صلاحيات أكبر لرئيس الجمهورية (المنتخب من خلال مجلس النواب) من تلك المعروفة في النظام البرلماني الصرف. فمثلاً: من صلاحيات رئيس الجمهورية عقد المعاهدات والتوقيع عليها، كما نص ذلك دستور عام 1930، وهو يختار رئيس الوزراء والوزراء بناء على اقتراح رئيسهم، وله حق حل مجلس النواب بموافقة مجلس الوزراء.([53]) ويضاف إلى ذلك صلاحيات أخرى لرئيس الجمهورية في دستور عام 1950، وهي إعلان الحرب وعقد الصلح، بقرار من مجلس الوزراء بعد استشارة مجلس الدفاع الوطني، إضافة إلى أن الرئيس هو القائد الأعلى للجيش وهو رئيس مجلس الدفاع الوطني.([54]) كما أن غياب إشارة واضحة إلى أن الرئيس ملزم باختيار رئيس وزراء - يكون رئيس الأغلبية البرلمانية أو ائتلاف حاكم يتمتع بدعم الأغلبية - تعطي الرئيس في كلا الحالتين دوراً أكبر في النظام السياسي على حساب رئيس الوزراء. مع ذلك، فإن النظام السياسي الجمهوري النيابي كما تم تحديد مبادئه العامة في كلا الدستورين قد شكل خطوة متقدمة جداً في تبني نظام ديمقراطي، لم يتسنَّ له الاستمرار بسبب تدخل العسكر في السياسية، وذلك مع الانقلابات الثلاثة التي شهدتها سورية في عام 1949، والانقلاب الرابع (الثاني للعقيد الشيشكلي في عام 1951)، ثم صعود الأحزاب القومية "العقائدية"، ومزايداتها التي دفعت بأغلبية القادة السياسيين لتسليم حكم البلاد إلى الرئيس جمال عبد الناصر تحت مسمى دولة الوحدة. وأخيراً، كان للتدخلات الخارجية لكل من محوري العراق من ناحية، والسعودية ومصر من ناحية ثانية دور كبير في تعميق الخلافات والانقسامات الداخلية للأحزاب والقوى السياسية السورية التي شعرت أنها بحاجة لدعم الدول العربية في وجه تنامي المطامع الإسرائيلية.([55]) لكن وقبل المضي قدماً في الحكم على التجارب اللاحقة، من المهم التركيز على مزايا النظام الجمهوري النيابي، على الرغم من عدم مجاراته للنظام البرلماني الصرف. في كلتا الحالتين، صاغ مشروعي الدستورين جمعيةٌ تأسيسيةٌ منتخبة، سيطر عليها الوطنيون - حتى في ظل الانتداب الفرنسي - الأمر الذي دفع سلطات الانتداب للضغط من أجل تعديل بعض الفقرات التي تركز على استقلال ووحدة البلاد، أو تعطيل العمل بالدستور تماماً، كما فعل المندوب السامي عدة مرات. الأمر الثاني: أن ممثلي الشعب السوري في الجمعيتين كانوا على وعي بالقضية الأساسية التي واجهتهم (الاستقلال ووحدة الأراضي السورية في دستور 1930)، والتركيز على سيادة الأمة والأهداف الأساسية التي تم تحديدها في مقدمة دستور 1950، وهي: إقامة العدل، ضمان الحريات الأساسية للمواطنين، نشر روح الإخاء وتنمية الوعي الاجتماعي بين المواطنين، دعم واجب الدفاع عن الوطن والجمهورية والدستور، تحرر المواطنين من الفقر والمرض والجهل، كفالة المساواة في الواجبات والحقوق، تقوية الشخصية الفردية. الخاصية الثانية للنظام الجمهوري البرلماني، كما جاء في دستور عام 1950، هو نصه الواضح على أن "السيادة للشعب، لا يجوز لفرد أو جماعة ادعاؤها".([56]) ومع إضافة بند في المبادئ الأساسية المتضمنة في الحقوق والحريات على حق السوريين في حق تأليف الأحزاب، بشرط أن تكون غاياتها ووسائلها سلمية وذات نظم ديمقراطية، يكون الدستور قد رسخ أكثر المعايير ديمقراطية للممارسة السياسية. ملاحظة أخرى حول النظام الجمهوري النيابي: إن إعطاء رئيس الجمهورية بعض الصلاحيات التنفيذية له مزايا وسلبيات، من المزايا الواضحة أن دور رئيس الجمهورية المنتخب من قبل مجلس النواب قد يكون هاماً في المراحل الانتقالية، وعندما تكون الحياة الحزبية ضعيفة يمارس الرئيس دوراً "وطنياً" جامعاً، فوق الأحزاب والمناكفات السياسية. لكن الخطورة في حالة عدم وجود قيود واضحة على صلاحيات الرئيس أو فترة حكمه يمكن أن يتحول الرئيس بسهولة إلى "ديكتاتور". لقد كان المشرعون على وعي بهذا الاحتمال في كلا الدستورين، فمن الضمانات لعدم تحول الرئيس إلى حاكم مستبد في دستوري 1930 و1950 النص الواضح على تحديد مدة الرئاسة بخمس سنوات، لا يجوز تمديدها إلا بعد مرور خمس سنوات كاملة على انتهاء فترة الرئاسة.([57]) لكن الغموض في دستور عام 1950 يتمثل في عدم نصه على أن رئيس الجمهورية محكوم باختيار رئيس الوزراء بالأغلبية البرلمانية أو ائتلاف الأغلبية، كما هو متعارف عليه في الأنظمة البرلمانية. وباختصار، فإن تركيبة النظام السياسي، بشكله الجمهوري النيابي، والتوسع في الحقوق والحريات، وإيجاد صيغ توافقية لقضايا الهوية، وعدم السماح لأي فرد أو جماعة باحتكار تمثيل الشعب، ورفع القيود عن تشكيل الأحزاب السياسية، كل ذلك جعل من دستور عام 1950 الدستور الأكثر "ديمقراطية" في تاريخ سورية.

وعلى الرغم من إبقاء العقيد الشيشكلي على كثير من مواد دستور 1950، إلا أنه حوَّر تركيبة النظام السياسي باتجاه النظام الرئاسي. فلكي يقوي من منصب الرئاسة جعل دستور الشيشكلي انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرة، وألغى منصب رئيس الوزراء، وحصر السلطة التنفيذية كلها في رئيس الجمهورية، يمارسها نيابة عن الشعب، ووسع من صلاحيات الرئيس بشكل كبير.([58]) وبالطبع فقد افتقد هذا الدستور إلى الشرعية، وذلك للطريقة التي تم بها تمريره، إذ قام العميد الشيشكلي، بكونه اعتباره رئيساً للأركان، بإرسال الدستور إلى رئيس الوزراء، اللواء فوزي سلو، ليتم العمل به بدلاً من دستور 1950. وعلى الرغم من إجراء انتخابات رئاسية جرت في أجواء مقاطعة عامة من القوى السياسية، نجح فيها الشيشكلي، فقد كان الإجماع في العودة إلى دستور عام 1950، بعيد استقالة الشيشكلي ومغادرته البلاد. وتم اعتبار الدستور الذي تبناه الشيشكلي ونظامه السياسي الرئاسي لاغياً.

وأما النظام السياسي للجمهورية العربية المتحدة، فقد كان نظاماً رئاسياً، لم يكن مجلس الأمة المعين ليشكل نوعاً من الرقابة والتوازن مع الصلاحيات الرئاسية (checks and balances)، الأمر الذي عنى، خاصة مع وجود شخصية كاريزامتية كعبد الناصر، تحول النظام السياسي إلى نظام "استبدادي". ولم تساعد المركزية العالية: (حيث تحكمت القاهرة بأغلب القرارات، وغابت الحياة الحزبية) على تقبل السوريين للنظام السياسي الوحدوي.([59])

ومع انقلاب 8 آذار/مارس عام 1963 دخلت سورية نفق النظام السياسي القائم على الحزب الواحد، والمتأثر بتجارب الدول الشيوعية. وتُعتبر الفترة بين الانقلاب الأول (1963) وانقلاب حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970 مرحلة انتقالية، شهدت بداية تخلص حزب البعث من شركاء انقلاب آذار/مارس من الناصريين والمستقلين، ثم تخلص أعضاء القيادة القطرية من القيادة "اليمينية" التقليدية (ومنها المؤسسون للحزب)، بعد عام 1966. وأخيراً حُسم الصراع بين صلاح جديد وحافظ الأسد لصالح الأخير، الذي تمكن أخيراً من تأسيس نظام سياسي فريد، سيتم التوسع في عناصره وتركيبته، على أساس من دستور عام 1973.

يحدد دستور 1973، (دستور حافظ الأسد)، خمسة منطلقات رئيسية للنظام السياسي، وهي: 1) إن الثورة العربية ضرورة لتحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية، 2) لا يمكن تحقيق إنجازات حقيقية لأي قطر عربي في ظل واقع التجزئة، 3) يُعتبر النظام الاشتراكي الضرورة الأساسية لتأطير نضال الجماهير في معركتها ضد الصهيونية والإمبريالية، 4) الحرية حق مقدس، و"الديمقراطية الشعبية هي الصيغة المثالية التي تكفل للمواطن ممارسة حريته التي تجعل منه إنساناً كريماً". وترتبط حرية المواطن بحرية الوطن التي لا يصونها إلا المواطنون الأحرار و"لا تكتمل حرية المواطن إلا بتحرره الاقتصادي والاجتماعي"، 5) إن حركة الثورة العربية جزء أساسي من حركة التحرر العالمي.([60])

باستثناء النقطة الرابعة التي تؤطر قضية "الحرية" بنظام "الديمقراطية الشعبية"، تبقى النقاط الأربعة الأخرى أقرب للشعارات التي كانت رائجة ضمن الأدبيات الحزبية للأحزاب القومية في تلك الفترة. الديمقراطية الشعبية كما ترجمتها أغلب الممارسات للأنظمة السياسية التي تبنت هذا الشكل من الحكم، ما هي إلا كناية عن رفض النظام الديمقراطي التمثيلي (بشكله الغربي)، وتبني نظام استبدادي باسم الحزب الواحد، أو الحاكم الملهم، أو مجلس قيادة الثورة. في حالة دستور الأسد فإن هذه الممارسة مؤطرة من خلال احتكار حزب البعث للعملية السياسية، أضاف إليها الأسد بعض الشخصيات التي قبلت هذا الأمر الواقع من بقايا الأحزاب القومية الأخرى، والتي تم تضمينها في "الجبهة الوطنية التقدمية".([61])

السمة الثانية للنظام السياسي، كما صاغه الأسد، يتمثل في: المركزية الشديدة للنظام "الرئاسي"، لكن من دون وجود المراقبة والتوازن بين السلطتين التشريعية والقضائية مع السلطة التنفيذية أو في تقييد فترة حكم الرئيس. لقد أطر دستور 1973 الصيغة "القانونية" لاستمرار الأسد في الحكم مدى الحياة، وكذلك تمركز كافة السلطات في يديه. ومن هنا تأتي أهمية "الحزب الحاكم" ومجلس الشعب في إيجاد أداة "شرعية" للاستفتاءات الرئاسية التي كانت تتم كل سبع سنوات، وفاز فيها الأسد الأب بنسبة لم تقل أبداً عن نسبة (99.9%) المعهودة. الأمر الثاني الذي حاول الدستور التفصيل فيه هو: تعدد الصلاحيات التنفيذية والتشريعية والقضائية والحزبية الواسعة لرئيس الجمهورية. وعلى الرغم من أوجه التشابه بين النظام السياسي للأسد وتلك الأنظمة السلطوية التي اعتمدت تجربة الحزب الواحد، فقد تميز النظام السوري بالخصائص التالية: 1) تحكم فرد واحد، وهو الرئيس الأسد، بالنظام السياسي، ونجاحه في استئصال أو ترويض كافة أشكال المعارضة السياسية، منهياً بذلك عقوداً من الاضطرابات والفوضى السياسية، 2) الدور المحوري للمؤسسة الأمنية والعسكرية في ضمان استمرار واستقرار النظام، 3) التوازن الدقيق بين عمل الأجهزة الأمنية التي تسيطر عليها شخصيات من الطائفة العلوية وبين المؤسسات الحزبية والبيروقراطية (المذكورة في الدستور)، والتي تعكس تمثيلاً يكاد يقترب من التركيبة السكانية، مع تفضيل أبناء الريف على حساب أهل المدينة في كلتا الحالتين.([62])

لقد رسخ حافظ الأسد "الازدواجية" في تركيبة النظام السياسي بين المؤسسات الرسمية التي نص عليها الدستور (مجلس الشعب للسلطة التشريعية، ومجلس القضاء الأعلى والمحكمة الدستورية العليا للسلطة القضائية، وحزب البعث كحزب حاكم) وبين الأجهزة الأمنية المتشعبة، ومسؤولي الأمن في المؤسسة العسكرية الذين تربطهم "عصبية" الانتماء الطائفي والعائلي مع الرئيس الأسد. وهكذا أوجد الأسد نوعاً من "التقسيم الوظيفي" بين المؤسسات الرسمية وبين دائرة صنع القرار الحقيقية (الرئيس ومساعديه من قادة الأجهزة الأمنية)، وبين باقي مؤسسات الدولة والحزب التي اقتصرت على تنفيذ وتبرير توجهات وسياسات النظام. ملاحظة أخيرة: في ظل نظام الأسد الأب، لم يكن من السهولة فهم تركيبة وآلية عمل النظام السياسي من خلال قراءة الدستور، وذلك بسبب "الباطنية السياسية" التي اعتمدها النظام في الممارسة. من الأمور المعروفة أن النسخة الأولى من مشروع دستور عام 1973 حذفت كل ما تعلق بالدين، كاشتراط أن يكون الرئيس مسلماً أو أن يكون للفقه الإسلامي دور في التشريع كما نصت الدساتير السابقة، لكن عندما قامت معارضة شعبية واسعة من المجتمع السوري، قبِل الأسد الرضوخ إلى المطالب الشعبية. ولحل إشكالية الخلفية الطائفية للأسد - منحدر من الطائفة العلوية - أوعز الأسد لمفتي الجمهورية حينها، الشيخ أحمد كفتارو، ولرئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان، موسى الصدر، بإصدار فتاوى تؤكد أن الطائفة العلوية هي طائفة مسلمة تنتمي إلى المذهب الشيعي الجعفري (الإثنا عشري)، وبذا تم حل الإشكال الدستوري.([63]) المثال الثاني حول انفصال الدستور عن الواقع يتمثل في: تعطيل القسم المتعلق بالحريات والحقوق عن التنفيذ، إما استناداً إلى حالة الطوارئ السائدة منذ عام 1963، أو إلى تجاهل كامل لهذه النصوص باسم أولويات أخرى كمقاومة العدو الصيهيوني والإمبريالي أو التصدي للمؤامرات الخارجية.

لقد ورث بشار الأسد نظاماً سياسياً، كان يدرك أن أي محاولة لإصلاحه قد تؤدي إلى تقويضه. وشهد العالم لحظة غير مسبوقة في "المرونة الدستورية"، تمثلت في تعديل المادة 83 من الدستور السوري، في أقل من عشرين دقيقة، فقد تم تغيير المادة المتعلقة بعمر الرئيس من أربعين سنة إلى أربع وثلاثين سنة. وعلى الرغم من المطالب الشعبية بضرورة الإصلاح السياسي المتدرج للانتقال إلى نظام تعددي يضع حداً لتجربة حكم الحزب الواحد وذلك بإلغاء المادة الثامنة، كأضعف الإيمان، ورفع حالة الطوارئ، وإطلاق الحريات، لم يستجب الأسد لأي من هذه المطالبات إلا بعد قيام الثورة السورية بأكثر من عام.

وبدراسة متأنية للتغييرات في النظام السياسي لدستور عام 2012، يتضح أن بشار الأسد أراد البرهنة على أنه أجرى تعديلات أساسية تتجاوب مع كثير من المطالب الشعبية، فقدم بعض التنازلات النظرية، كإنهاء حكم الحزب الواحد، إلا أنه تم تفصيل الدستور الجديد على مقاس الأسد لضمان استمراره في الحكم حتى عام 2028 على أقل تقدير. فمن بين التنازلات المتعلقة بالنظام السياسي، كما أشار إليها الدستور الجديد، ما يلي: 1) تشمل مقدمة الدستور إشارات إلى حكم القانون، ومجموعة من المبادئ الأساسية، منها حكم الشعب القائم على "الانتخاب والتعددية السياسية والحزبية وحماية الوحدة الوطنية والتنوع الثقافي والحريات العامة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص والمواطنة وسيادة القانون"،([64]) 2) إلغاء المادة الثامنة التي كانت متضمنة في الدساتير البعثية السابقة، واستبدالها بمادة تنص على أن النظام السياسي يقوم على مبدأ التعددية السياسية وتتم ممارسة السلطة الديمقراطية عبر الاقتراع،([65]) 3) كفالة الدستور الجديد للتنوع الثقافي للمجتمع السوري بجميع مكوناته، وتعدد روافده باعتباره تراثاً وطنياً يعزز الوحدة الوطنية،([66]) 4) التخلي عن النظام الاقتصادي الاشتراكي،([67]) 5) التوسع في باب الحقوق والحريات، وإضافة فصل حول سيادة القانون، 6) اعتماد مبدأ الانتخابات الرئاسية التنافسية، بدلاً من طريقة الاستفتاء على المرشح الأوحد التي اعتمدها النظام منذ عام 1973.

لكن كثيراً من هذه الإيجابيات - من الناحية النظرية - تتلاشى بتقييد الحياة الحزبية من خلال اشتراط البند الرابع من المادة الثامنة على ما يلي: "لا يجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب أو تجمعات سياسية على أساس ديني أو طائفي أو قبلي أو مناطقي أو فئوي أو مهني، أو بناءً على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون".([68]) ومع أن بعض هذه التقييدات قد تكون منطقية بالنسبة لنظام سياسي جاد في عملية الانتقال الديمقراطي، إلا أن الهدف العام منها في حالة دستور بشار هو إقصاء تيارات سياسية كاملة عن العمل السياسي، كتيارات الإسلام السياسي، أو الأحزاب الكردية أو أي حزب لا يتفق مع أجندة الجهات المختصة المناط بها تقرير كيفية تطبيق هذه المادة. أما تفصيل هذا الدستور على مقاس بشار الأسد فهو في كيفية اختيار الرئيس، فبالإضافة إلى اشتراط أن يكون الرئيس "مسلماً"، ومتماً الأربعين من عمره، تضيف المادة الرابعة والثمانون ما يلي: أن يكون متمتعاً بحقوقه المدنية والسياسية، وغير محكوم بجرم شائن ولو رد إليه اعتباره، ألا يكون متزوجاً من غير سورية، وأن يكون مقيماً في الجمهورية العربية السورية لمدة لا تقل عن عشر سنوات إقامة دائمة متصلة عند تقديم طلب الترشيح. إضافة إلى ذلك، فإن الطريقة الوحيدة للترشيح للرئاسة تتم عن طريق حصول المرشح على تأييد 35 عضواً من مجلس الشعب.([69]) إن أي متابع للكارثة السورية يعلم علم اليقين أن هذه المواد والاشتراطات ما هي إلا لحرمان السوريين الذين عارضوا بشار الأسد واضطروا إلى مغادرة البلاد من حق المنافسة على المنصب الأهم في النظام السياسي، وبالتالي إقصاء أغلبية المعارضين من حق الترشح. وكما أظهرت التجربة السورية وغيرها من التجارب العربية، فإن من يُسمح لهم بالترشح من الداخل عادة من عملاء النظام، وذلك بهدف إعطاء عملية الاقتراع مسحة التنافس. وهكذا، فلو تجاوزنا افتقاد الدستور إلى الشرعية بسبب غياب العملية الدستورية، فإن الفشل الكبير في هذا الدستور في المواد المشار إليها، والهادفة إلى إلغاء مبدأ التناوب السلمي على السلطة، وهو التقليد الذي قامت ثورات الربيع العربي لوضع حد له. ما يقدمه دستور الابن تنازلات في قضايا لا تؤثر على تركيبة النظام السياسي، وتحاكي تلك التنازلات التي قدمها النظام المصري في عام 2005، وهي التي سمحت بتعدد المرشحين الرئاسيين، لكنها لم تُصغ بهدف إحداث تغيير ديمقراطي حقيقي.

خلاصة واستنتاجات

إن نقطة البداية في أي عملية صياغة دستورية تكمن في التسليم بأن الوثيقة النهائية تستمد جزءاً كبيراً من شرعيتها من العملية نفسها. النقطة الثانية: تتمثل في قناعة المصممين بأنه يمكن التوصل إلى حلول توفيقية لكافة القضايا العالقة والجدلية إذا ما توفرت الإرادة السياسية لدى المكونات المجتمعية الرئيسية ممثلة بقوى سياسية مسؤولة ولديها قيادات تتجاوز اهتماماتها المسائل الآنية. ثالثاً: فإن أي عملية دستورية لا تضع غايتها تغيير قواعد النظام السياسي للانتقال من دولة الاستبداد والفساد وحكم العائلة والمافيا إلى سعة الديمقراطية ودولة القانون، وترسخ مبدأ التبادل السلمي للسلطة، محكوم عليها بالفشل. وفيما يلي بعض التفصيل لهذه النقاط الثلاث:

أولاً: أهمية العملية الدستورية

يمكن لأي فرد أو مجموعة بحثية كتابة مجموعة من المبادئ والأحكام المنظمة لعمل منظومة سياسية، قد تجاري بمحتواها عنان القيم المثالية والأهداف المنشودة، وتكون أساساً لوثيقة دستورية، لكن مثل هذه الجهود لا يمكن أن ترقى إلى ما يُصطلح عليه بالعملية الدستورية السليمة، لأن الاحتكام لهذه المبادئ والقيم يستند إلى التسليم والقبول بعملية الصياغة. هذه الفكرة البسيطة كانت فتحاً في عام 1918، عندما طرحها عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في محاضرته الشهيرة "السياسة كمهنة"، وحدد فيها أنواع الشرعية الثلاثة، أولها: الشرعية المستمدة من القيم التقليدية، وثانيها: القائمة على الإمكانيات الاستثنائية للشخصية الكاريزماتية، وأخيراً: الشرعية القائمة على أساس "القواعد القانونية المقبولة".([70]) لقد كان فيبر محقاً بأن التطور البشري يسير باتجاه الشرعية العقلانية القانونية المستندة إلى القبول بـ "قواعد اللعبة"، وهو ما يتم مأسسته من خلال العملية الدستورية. إن ما أعطى شرعية لدساتير عام 1919 و1930، وخاصة دستور عام 1950، أنها تمت من خلال عملية ساهمت فيها أغلب مكونات المجتمع السياسي السوري في وقتها، ومرت بمراحل الصياغة القانونية والنقاش السياسي من خلال مجالس تأسيسية، تم انتخابها لهذا الغرض (في 1928 و1950)، وأخيراً أخذت حظها من الحوار والنقاش، حتى تم إقرارها في الجمعيات التأسيسية ومن خلال استفتاءات شعبية لاحقاً.

واستناداً إلى دراسة التجربة السورية، وبعض التجارب المعاصرة، فقد قام فريق اليوم التالي الذي اجتمع على مدار أكثر من ستة أشهر في بدايات الثورة السورية في النصف الأول من عام 2012، بهدف تقديم خارطة طريق للانتقال الديمقراطي في سورية، قدم الفريق المعني بالتصميم الدستوري بعض التوصيات للعناصر المطلوبة في عملية صياغة دستورية شرعية، ومن أهمها:

  1. يجب أن تتجاوز عملية صياغة الدستور مجرد كتابة دستور جديد، إلى المساهمة في تقوية هوية وطنية سورية، وترعى مبدأ الوحدة الوطنية، وتعمق الثقة بين كافة مكونات المجتمع السياسي السوري.
  2. يجب أن تستند عملية الصياغة الدستورية إلى مجموعة من المبادئ الجوهرية، ومنها: الشفافية، والتشاركية، وتغليب روح التوافق والإجماع، والعهدة الوطنية (أن تكون عملية بأيدٍ سورية ومن أجل سورية).
  3. إيجاد إطار قانوني انتقالي يضمن حقوقاً وحريات جوهرية، ويقدم خارطة طريق لعملية التفاوض على صياغة الدستور الدائم، وضمانات دستورية (مبادئ فوق دستورية) يتم التوافق عليها.
  4. يجب صياغة ومناقشة الدستور في جمعية تأسيسية منتخبة، تُمثل فيها كافة مكونات المجتمع السوري، إلى أقصى حد ممكن، ويمكن أن يُطرح الدستور بعد ذلك على استفتاء شعبي (حقيقي وليس صوري كما كانت تفعل الأنظمة السلطوية).
  5. هناك ضرورة لوجود برنامج للتوعية والتواصل مع المكونات المجتمعية خلال كافة مراحل الصياغة الدستورية.([71])

وبالانتقال إلى الواقع السياسي، لا بد من التعليق على النقاش والجهود الدولية الجارية حول الدستور بأنها لم تصل إلى أي نتيجة ملموسة، وذلك إما لأنها حاولت سحب الأمر من يد السوريين، عندما قدم الطرف الروسي "دستوراً" جاهزاً للمفاوضين السوريين في الآستانة يضمن بقاء الأسد في السلطة،([72]) أو عندما حاول بعضهم اختزال العملية السياسية في "السلة الدستورية"، وأخيراً محاولات اختزال السلة الدستورية في اقتراح تعديلات على دستور عام 2012، لتقليص صلاحيات الرئيس لحساب رئيس الوزراء، ونقل بعض الصلاحيات إلى المجالس المحلية، وتأسيس غرفة برلمانية ثانية، والتأكيد على حياد المؤسسة العسكرية والأمنية.([73]) إن أغلب الجهود المذكورة تقف وراءها القيادة الروسية، لتحويل "النصر العسكري" التي أحرزته مع حليفتها إيران ووكيلها النظام السوري إلى نصر سياسي. من الواضح أن كافة هذه الجهود قد باءت بالفشل، إما لأنها حاولت الالتفاف على السوريين، أو أنها خالفت متطلبات عملية الصياغة الدستورية، ومنها التسلسل المنطقي للأشياء. فمثلاً، قبلت الأطراف السورية المعارضة، ومنها الائتلاف الوطني وهيئة المفاوضات الأولى والثانية بمرجعية وثيقة جنيف لعام 2012، والقرارات الأممية المتعلقة بقضية الانتقال السياسي في سورية، وخاصة قرار مجلس الأمن رقم 2254، لأنها قدمت سياقاً منطقياً قائماً على أساس تشكيل هيئة حكم انتقالي، بصلاحيات تنفيذية كاملة، تقوم بقيادة مرحلة انتقالية، يكون من عناصرها إجراء انتخابات لجمعية تأسيسية، تقوم بصياغة دستور جديد للبلاد، يرافقه مصالحة وطنية، وعدالة انتقالية، وإصلاح للقطاع الأمني، ومن ثم تجري انتخابات رئاسية وبرلمانية على أساس الدستور الجديد.

إن المحاولات القائمة على تحوير هذا السياق من شأنه إطالة عمر الأزمة لأنها تتعاطى مع أعراضها، لكنها لا تقدم حلولاً جذرية لها. هذه القضية كانت حاضرة في وعي السوريين الذين تم استطلاع آراءهم على أولوية صياغة دستور جديد، فقد رأت أغلبية ساحقة ممن تم استطلاع آراءهم في مناطق النظام والمعارضة ومناطق سيطرة الأكراد والسوريين في الخارج، بأن الأوضاع الحالية (تم الاستطلاع في عام 2017)، غير مناسبة لصياغة دستور كامل للبلاد، وأن الأولويات تتمثل في وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح المعتقلين، وفك الحصار، وهزيمة داعش، وإخراج المقاتلين الأجانب، بينما كان موضوع صياغة دستور دائم لسورية في ذيل الأولويات، وأيدها (18%) فقط من المُستطلع رأيهم.([74]) وكبديل، فقد كان تفضيل أغلبية المستجيبين لتبني دستور مؤقت، أو إعلان دستوري يحكم المرحلة الانتقالية. وبالنسبة لطريقة صياغة الدستور، فقد كان التفضيل لطريقة التوافق بين القوى السياسية، بعد انتهاء المرحلة الانتقالية (40.6%)، بينما كان الخيار الثاني صياغة دستور عن طريق جمعية تأسيسية منتخبة (30.3%)، وجاء خيار لجنة خبراء متخصصة في الدرجة الثالثة (25.3%).([75]) أخيراً، لا يمكن الحديث عن أي عملية سياسية، لها علاقة بالانتقال السياسي، بما في ذلك الصياغة الدستورية، من دون إيجاد الآليات المناسبة لإشراك ما يقرب من 6 ملايين لاجئ سوري في هذه العملية، وعدد أكبر من النازحين داخل البلاد. وبالطبع، فهذا يتطلب جهوداً دولية كبيرة، وتعاوناً من الدول المستضيفة للاجئين.

ثانياً: القضايا الخلافية

أما الخلاصة والتوصيات بالنسبة للقضايا الخلافية، فتشير التجربة التاريخية والتجارب المماثلة أن التوصل إلى حلول وسطية يتطلب إشراك كافة القوى السياسية، وتغليب روح التوافق القائم على تطمين الأغلبية للأقليات. وفيما يلي اقتراحات مستخلصة من التجربة الدستورية السورية حول أهم القضايا الخلافية:

  1. هوية سورية: كما هو واضح فإن الإجماع الذي رأيناه في ذكر الهوية العربية في كافة الوثائق الدستورية المتعاقبة، كان انعكاساً للواقع الديمغرافي للبلاد (حيث لم تقل نسبة العرب في أي مرحلة عن 90 بالمائة من السكان)، ومحاولة للتعاطي مع أزمة الهوية الناشئة من تشكيل الدولة القطرية من قبل الدول الاستعمارية. أما في فترة الخمسينيات إلى السبعينيات من القرن المنصرم فلقد كانت هناك مبالغة كبيرة في تحديد أهداف سورية من خلال أيديولوجية حزب البعث والحديث عن "الوحدة العربية"، بينما كانت الممارسة الواقعية ترسيخاً للتجزئة، وحكم الأقلية/العائلة منذ السبعينيات. لقد أنتجت الإشارات/المزايدات المتكررة عن الهوية العربية، وخاصة وصف السوريين بالشعب العربي، نوعاً من رد الفعل عند القومية الثانية في سورية، وهي القومية الكردية. وترافق ذلك مع الممارسات القمعية المزدوجة التي تعرض لها المواطنون الكرد، باعتبارهم "رعايا" لدى نظام لا يعترف بالمواطنة، وهذا هو الظلم العام الذي وقع على أغلبية السوريين، وظلم خاص لأنهم "أكرادٌ". فلقد تم حرمان الأكراد من حقوقهم الأساسية، ومنها الحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وفوق كل ذلك حرمان جزء من المكون الكردي من حق الجنسية في قضية الإحصاء الشهيرة عام 1962.

لقد دفعت الممارسات التمييزية ضد الأكراد السوريين إلى رد فعل معاكس، يصل إلى مداه الأقصى في مطالبة بعض السياسيين الأكراد بتشكيل كيان كردي منفصل عن سورية. ومع أنه من حيث المبدأ لا يجوز حرمان أي شعب من حق تقرير المصير، فإن الواقع الإقليمي قد عقَّد من هذا الأمر، خاصة لانقسام الشعب الكردي بين دول أربع: إيران والعراق وتركيا وسورية. وعلى مدى عقود طويلة اختلفت معاناة الأكراد من قطر لآخر، إلا أن المطالبة بالحقوق المتساوية بقيت هي القاسم الأعظم. في الحالة السورية، تعالت الأصوات الكردية بالمطالبة بالحقوق العادلة، بدءاً بحقوق المواطنة وانتهاء بالمطالبة بدولة كردية مستقلة. ومع انطلاق الثورة السورية، كانت أغلبية المكون الكردي ضمن الحالة المعارضة، وناضلت في كافة المفاصل للحصول على تعهدات من الفصائل العربية المعارضة بحقوق حُرمت منها لعقود طويلة. وعلى الرغم من الحدة في النقاشات والعناد والمكابرة من الطرفين فقد تم التوصل إلى بعض التفاهمات التي تصلح أن تكون أساساً للحديث عن موضوع الهوية في سورية المستقبل.

وللحقيقة فإن أحد الدروس المستفادة من تجربة المعارضة أن الحدة في النقاش والتطرف في المطالب لم تخلق أجواءً صحيةً دائماً للتوصل إلى توافقات مقبولة من الجميع، فعلى سبيل المثال دفعت الفصائل الكردية المعارضة إلى المطالبة بحذف صفة "العربية" من اسم سورية ليكون "الجمهورية السورية"، كما عليه الأمر مع دستور عام 1950. ومع أن عدم وجود هذه الصفة لن يغير هوية الأغلبية العربية ولن يؤثر على "عروبتهم"، كما أن وجودها في باقي المراحل لم يعط القوى السياسية العربية مزايا إضافية أمام نظام الأسدين. مع ذلك تبقى الحقائق الديمغرافية والشفافية والحوار الهادئ أساساً للتوصل إلى تفاهمات حول هذه القضية. ومن هنا، فإن الإبقاء على عروبة سورية، في عنوان الجمهورية، أو في المبادئ الأساسية، قد يكون مقبولاً من المكون الكردي وباقي المكونات غير العربية مهما كانت صغيرة، إذا قابلها اعتراف بالتنوع وشمول لباقي هذه المكونات. فمن الأمثلة التوافقية لحل هذه القضية، الاقتراحات التي قدمها فريق عمل الورشة الدستورية في مشروع "اليوم التالي"، في الحديث عن مبادئ أساسية للدستور القادم. فمقابل الاعتراف بوحدة سورية واستقلالها، وأنها جزء من العالم العربي - يرفض بعضهم مصطلح الوطن العربي - يمكن النص على شمول سورية لكافة المكونات، وعلى رأسها المكون الكردي. فقد جاءت الصيغة المقترحة كما يلي: "الاعتراف بالأكراد والتركمان والسريان والآشوريين والشركس والأرمن كجزء من النسيج الوطني السوري".([76]) وباختصار، فإن التشاركية المؤدية إلى توافق هو الطريقة الوحيدة للتوصل إلى حل لهذه القضية. فمثلاً، إن مطالبة المكون الكردي قد تلقى قبولاً من بعض القوى السياسية العربية (خاصة الليبرالية منها) بحذف أو "تخفيف" الإشارة إلى الهوية العربية، لكن الإصرار والحدة في طرح هذه القضية قد يولد تطرفاً مقابلاً، والحسم في هذه الحالة في الاحتكام إلى الاستفتاء الذي لن يكون في صالح الأقلية.

هذا ما يقد يُفسر دعم أغلبية المستجيبين لاستطلاع فريق اليوم التالي الأخير حول الهوية العربية، إذ طالبت نسبة (77.8%) بضرورة حضور الهوية العربية في الدستور القادم، بينما عارضت نسبة (67%) حذف كلمة "العربية" من الاسم الرسمي للجمهورية السورية.([77])

  1. دور الدين في الدولة: كما ورد في عرض التجربة الدستورية التاريخية فإن الدين كان حاضراً دائماً بشكل أو بآخر في الدساتير السابقة. وهنا لابد من الإشارة إلى عدة أمور، أولها: ضرورة التفريق بين الإشارة إلى الدين، وخاصة الدين الإسلامي، وعلاقته مع الدولة كنوع من الهوية، وبين دور الدين كمصدر للتشريع. ففي الحقيقة عندما تؤكد أغلبية دساتير الدول العربية على أن دين الدولة "الإسلام" فهذا مؤشر على أن الإسلام هو دين الأغلبية في هذه البلدان، وهو إشارة إلى الهوية أكثر منه مؤشر على دوره في إدارة الدولة. مع ذلك، لم تشر الدساتير السورية السابقة، بما فيها دستور عام 1950، إلى أن دين الدولة الإسلام، مع أن المكون المسلم في سورية يشكل الغالبية العظمى. تشير أغلب الإحصائيات الغربية إلى أن المسلمين السنّة يقتربون من 80 بالمائة من السكان، وإذا تم إدماج المكون العلوي تحت الدين الإسلامي (كما كان الحال مع الأسدين الأب والابن) لوصلت النسبة إلى أكثر من 90 بالمائة، وفي هذا انعكاس لتراجع نسبة المكون المسيحي منذ الاستقلال، من هنا فقد استبدلت الدساتير السورية الإشارة إلى أن دين الدولة الإسلام، بمقولة إن دين رئيس الدولة - باعتباره من الأغلبية الساحقة - هو الإسلام.

وعندما حاول حافظ الأسد الالتفاف على هذا النص، قامت مظاهرات واسعة، اضطر بعدها إلى إعادة النص كما هو في الدساتير السابقة، وحرص دائماً على الإقرار بالشهادتين، خاصة في أوائل الثمانينيات أثناء الحملة على الأخوان والمكون الإسلامي، وأداء الصلوات في المناسبات الدينية مع "أرباب الشعائر الدينية". وكما ذكرنا سابقاً، فإن النص على أن دين رئيس الجمهورية الإسلام في ظل نظام برلماني صرف، لا يحمل تمييزاً كبيراً، خاصة وأن المنصب التنفيذي الأهم، رئاسة الوزراء، متاح للجميع. الإشكالية في تبني النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي، حيث يتمتع الرئيس بصلاحيات تنفيذية، في هذه الحالة هناك حرمان لغير المسلمين (مهما كانت نسبتهم) من شرف التنافس على هذا المنصب. ولا يحتاج المرء إلى خيال خصب ليتصور أن أغلبية السوريين، بمن فيهم المسلمون الملتزمون، سيفضلون رئيساً ديمقراطياً، ولو كان غير مسلم، على رئيس مسلم ديكتاتوري.

من هنا، فإن التوصية بأنه لا مانع من الإبقاء على شرط الإسلام لرئيس الدولة، في حالة النظام البرلماني الصرف، ففي هذه الحالة لن تكون سورية أكثر ديمقراطية أو أقل تديناً من المملكة المتحدة. أما إذا كان تفضيل السوريين للنظام الرئاسي أو شبه الرئاسي الذي يعطي صلاحيات تنفيذية لمنصب الرئاسة، فالأولى بسورية أن تلغي هذا الشرط، وتصر على المحددات الدستورية التي تمنع الرئيس، مهما كان دينه من إساءة استخدام سلطاته. الأمر الثاني: وتماشياً مع الاتجاه نحو العلمانية التي يتغنى بها النظام السوري، عندما تكون مناسبة، فقد تم التخفيف من دور الدين في دساتير ما قبل حكم البعث إلى ما بعده ليصبح "الفقه الإسلامي مصدراً رئيسياً للتشريع"، بدل أن كان "المصدر الرئيسي" للتشريع، كما هو حال دستور عام 1950.

وفي كلتا الحالتين لم تتحول سورية في ظل البعث إلى دولة مدنية علمانية بالمعنى الحقيقي، فلقد شهدت سورية تنامي ظاهرة المد الإسلامي، كما كان هو الحال في باقي دول المنطقة، إضافة إلى تحكم النظام واستغلاله للمؤسسة الدينية الرسمية. وعلى الرغم من أن نظامي الأسد الأب والابن حاولا تحييد الدين، كما يفهمه تيار الإسلام السياسي، عن الحياة العامة، فلم يستطيعا وضع حد لانتشار ظاهرة التدين في المجتمع السوري على مدى العقود الماضية. وكما هو الحال مع القسم المتعلق بالحقوق والحريات، فإن القسم المتعلق بدور الفقه الإسلامي "كمصدر للتشريع"، لم ينل حظاً كبيراً من التطبيق، في نظام حافظ وولده. وأخيراً، لم يكن "إسلام" حافظ الأسد وولده، والنص على دور الفقه الإسلامي كمصدر للتشريع ليقف في وجه الرئيسين "المسلِمَين" لمنعه من انتهاك حقوق المسلمين، والإسلاميين تحديداً، وهم الذين مثلوا الأعداء التاريخيين للنظام، وعانوا على يديه ما لم يعانه أي مكون آخر.

تواجه سورية اليوم نوعين من الضغوط في هذه القضية، أحدهما خارجي، تقوده روسيا وبعض الدول الغربية التي حرصت على تحييد دور الدين في الوثائق التي صاغتها، وأصرت على التأكيد على "علمانية" الدولة السورية، باسم المحافظة على الأقليات، وخاصة الأقلية العلوية، وتؤيد هذا التوجه الأقليات الدينية والعرقية، بما فيها بعض المكونات المسلمة كالعلويين والدروز، وغير المسلمين (المسيحيون تحديداً)، وحتى بعض السنة كقسم كبير من المكون الكردي، وأخيراً العلمانيون العرب السنة. مقابل ذلك، هناك المكون السني من المتدينين والملتزمين، أو المنتمون إلى الإسلام السياسي، إضافة إلى التيارات السلفية التي نمت في ظل قمع نظام الأسد للثورة السورية، ترى هذه الفئات – وهي ليست صغيرة من حيث العدد والوزن - ضرورة نص الدستور القادم على دور للإسلام في الحياة العامة، فلم يكن غريباً أن تكون نسبة المؤيدين من المستجيبين لاستطلاع اليوم التالي، على مدار عام 2017 قد بلغت (77.9%) من الراغبين بنص الدستور على أن تكون الشريعة مصدراً "رئيسياً" للتشريع،([78]) وفي ذلك استمرارية لكافة الدساتير السابقة، بما فيها دستور بشار الأسد لعام 2012.

أمام هذا الخلاف، فإن بعض التوصيات التي توصل لها فريق اليوم التالي في عام 2012، قد تكون مفيدة. العنصران اللذان تم التوافق عليهما من الفريق الذي ضم ممثلين لتيارات فكرية ودينية وسياسية متنوعة، هما: 1) الشريعة الإسلامية والديانة المسيحية والرسالات الدينية والإنسانية الأخرى مصادر ملهمة للتشريع، 2) الدولة محايدة فيما يتعلق بمسألة الدين، تحترم قيمه ولا تجبر الناس عليه أو تمنعهم عنه.([79]) وبالنسبة للإسلاميين فإن هذه الصيغة هي أضعف مما جاء في دستور بشار الأسد لعام 2012، الذي نص في مادته الثالثة على: 1) دين رئيس الجمهورية الإسلام، 2) الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع، 3) تحترم الدولة جميع الأديان، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن لا يخل ذلك بالنظام العام، 4) الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية.([80]) التوافق العام الذي قبلت به أغلبية من الإسلاميين هو في القبول بسورية دولة "مدنية ديمقراطية". ومع أن بعضهم يفهم من الدولة المدنية أنها المقابل لحكم العسكر (فحكم العسكر بالتعريف غير ديمقراطي)، فإن مصطلح المدنية كان أقرب إلى أنها الدولة غير الدينية (الثيوقراطية)، وهذا المصطلح كان أكثر قبولاً عند الإسلاميين من مصطلح العلمانية سيء السمعة، خاصة وأنه يرتبط بأذهانهم بالتجربة التركية في ظل أتاتورك، وتجربة إيران/الشاه.

لعل من شروط التوصل إلى توافق في هذه القضية القيام بحملة توعية في صفوف الإسلاميين للتفريق بين العلمانية التي تعادي الدين (العلمانية اللايكية) التي جاءت من التجربة الفرنسية، وبين النموذج (الأنكلوسكسوني) للعلمانية، وهو النموذج الذي لا يعادي الدين، بل يتعامل معه بحيادية إيجابية. ولعل هذا ما نص عليه النموذج الأمريكي الذي لا يتبنى ديناً (أو تفسيراً مسيحياً معيناً)، وإنما يحترم جميع الأديان. ولعل من المفيد هنا تذكير الإسلاميين بأن الإنجاز الذي حققه حزب العدالة والتنمية في تركيا تمثل في إعادة تعريف "العلمانية" من العلمانية المعادية للدين إلى العلمانية المحايدة تجاه الدين. ولعل هذا هو السبب الرئيس في نجاح الحزب، (ذو المرجعية الإسلامية) من حكم هذا البلد العلماني العريق.

  1. الحقوق والحريات: لعل من الآثار الجانبية للحكم الاستبدادي أنه يقوي الإحساس لدى ضحاياه بضرورة احترام حقوق وحريات الإنسان الأساسية. في هذه النقطة، لن يكون من الصعوبة التوسع في تبني حقوق الإنسان وحرياته، والاستفادة من آخر تجارب الشعوب التي ناضلت في سبيل حريتها وكرامتها. في هذا الإطار، هناك ثلاث نقاط تستوجب الإشارة، وقد تكون بحاجة لمزيد من النقاش المستفيض، الأولى: ما المرجعية المقبولة لحقوق الإنسان في الدستور المقبل؟ والثانية: ما الضمانات الدستورية اللازمة لحماية حقوق الأفراد والأقليات الدينية والعرقية؟ والثالثة: ما درجة التمثيل السياسي النسائي التي تعكس التوجه إلى المساواة الجندرية في الدستور بين الرجل والمرأة؟ في الموضوع الأول، وبالنسبة لشعب عانى الأمرين في ظل حكم الأسدين، فلا عجب أن تحتل هذه القضية أولوية مطلقة، فمن أجل حريته وكرامته قدم الشعب السوري التضحيات الغالية من القتلى والجرحى والمعتقلين والمشردين، ما لم يقدمه شعب آخر. ولذا فمن المنطقي التوقع بأنه إذا أُعطي السوريون الحرية في هذه القضية، فإنهم سيدفعون إلى أن يتضمن الدستور كافة الحقوق والحريات السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية التي وردت في الدساتير السابقة، وأن تكون الشرعية الدولية لحقوق الإنسان هي المرجعية، بحيث لا يتمكن حاكم قادم من الالتفاف حول الحريات السياسية والحقوق المدنية، باسم الخصوصية الثقافية، أو المقاومة والصمود، أو تحت أي شعار آخر. ولعل مؤشراً واضحاً في الاستطلاع الذي أجراه فريق اليوم التالي قد رسخ هذه النتيجة، إذ أيدت أغلبية ساحقة (91.6%) من المستطلع رأيهم، الذين تم سؤالهم عن نص الدستور حول ضرورة التزام الدولة السورية بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان.([81]) الأمر الثاني: كلما نص الدستور على ضمانات أكبر للمكونات ذات الأقلية العددية كانت التجربة الدستورية أدعى للنجاح. إن التجربة العملية للدولة السورية منذ الاستقلال لم تأخذ طابع تمييز الأغلبية ضد الأقليات، ما خلا تمييز النظام البعثي (الأقلوي) ضد المكون الكردي.

لقد استأثر المكون العلوي منذ انقلاب البعث عام 1963 بامتيازات استثنائية، تمثلت في احتكار هذا المكون للمؤسسة الأمنية، والسيطرة التدريجية على المؤسسة العسكرية، ومن خلالها تمت السيطرة على كثير من المفاصل السياسية والبيروقراطية في الدولة، وأخيراً على الأنشطة الاقتصادية الكبرى في البلاد، من خلال رمرمة الاقتصاد (نسبة إلى احتكار رامي مخلوف لأهم الأنشطة الاقتصادية في ظل بشار الأسد). الضمانات المطلوبة للأقليات في أي دستور مقبل هامة لطمأنتها، وبشكل خاص طمأنة المكون العلوي تحديداً بأنه لن يكون هناك عمليات انتقامية من ضحايا العنف الذي مارسه نظام الأسد ضد أغلبية الشعب السوري. ولعل أفضل ضمان أن تترافق الضمانات الدستورية مع عدالة انتقالية ومصالحة وطنية.

أما بالنسبة لباقي الأقليات، فمن المهم معالجة الظلم الذي وقع على المكون الكردي، وطمأنة المكون المسيحي للتمسك ببلاده، وعدم إشعاره بالغربة في وطنه. وبالنسبة لأغلبية الشعب السوري، وعلى رأسه الأقليات العددية، فإن تبني اللامركزية الإدارية سيكون مكملاً عملياً للحقوق والحريات. أما بالنسبة للقضية الثالثة وهي موضوع المساواة بين المرأة والرجل: فهناك تطورات إيجابية يمكن الإفادة منها. أولى هذه الإيجابيات أن المرأة قد ساهمت في الثورة السورية وضحت كالرجل أو أكثر. لقد فتحت الثورة السورية آفاقاً جديدة للمرأة السورية، وأخرجتها من دائرة استغلال النظام الأسدي لقضية المرأة باسم العلمانية والتقدمية، لتصل إلى قناعة أن المساواة الجندرية يجب ألا تبقى حكراً ً على الأنظمة "التقدمية"، كما أنها ليست مضمونة بشعارات من قبل قوى معارضة تنادي بالحرية والديمقراطية. لقد بلورت بعض الناشطات السوريات مطالبهن بضرورة تحقيق التمثيل النسوي الفعلي في كافة مفاصل العملية السياسية، بما في ذلك عملية البحث عن حل سياسي، وصياغة الدستور، والتمثيل في المؤسسات السياسية لسورية المستقبل.

ومن الجهود المبذولة في عملية التحضير لعملية دستورية متوافقة مع النوع الاجتماعي (الجندر) اقترحت بعض الناشطات الممثلات لجمعيات نسوية سورية بعض المبادئ الدستورية الحساسة لموضوع مشاركة المرأة، ومنها: 1) يكفل الدستور تحقيق المساواة التامة بين النساء والرجال في حقوق المواطنة بما يضمن تمتعهن بكافة الحقوق والحريات، 2) يكفل الدستور وتلتزم الدولة بتمكين النساء من المشاركة في الحياة العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وضمان حق متساوٍ للنساء والرجال في شغل جميع المناصب في الدولة وجميع مراكز صنع القرار.([82]) كما نجحت نساء سوريات في فرض نسبة تمثيل للمرأة لا تقل عن ثلاثين في المئة في بعض مؤسسات المعارضة، وهذا ما التزمت به هيئة المفاوضات في رؤيتها التي طرحتها للحل السياسي. وأخيراً، لا بد من وضع إطار قانوني لحماية حقوق المرأة، بعد إقرار الدستور، ومنها إيجاد الآليات المساعدة للمرأة لخوض المعترك السياسي، وذلك من خلال توفير فرص التعليم والتدريب والدعم الأسري. ولعله من المفيد في المراحل الأولى، إيجاد نوع من التمييز الإيجابي من خلال إلزام الأحزاب السياسية بتخصيص مواقع متقدمة للنساء على قوائمها الانتخابية، كما تفعل كثير من دول شمال أوروبا.

  1. النظام السياسي: بالانطلاق من التجربة التاريخية لسورية، يتضح أن البلاد قد تبنت، ولو لفترات بسيطة، أشكالاً عديدة للأنظمة السياسية، ومنها البرلماني، وشبه الرئاسي، والرئاسي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن النظام السياسي الذي هندسه حافظ الأسد على أساس من دستور عام 1973، واستمر في عهد ولده لم يكن نظاماً رئاسياً حقيقياً.

فالنظام الرئاسي الذي يمثل نظام الولايات المتحدة نموذجه، يقوم على أساس (checks and balance) المراقبة والتوازن بين السلطات المستقلة: التشريعية والتنفيذية والقضائية. في النظام الأسدي، كان هناك سلطة واحدة متغولة لشخص الرئيس على كافة السلطات، وتلعب المؤسسات التشريعية (مجلس الشعب)، والقضائية (المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء) أدواراً تزينية لهيكل نظام يشبه ما تعارفت عليه الدول بالأنظمة السياسية. ويكاد توصيف تقرير الأمم المتحدة عن حالة الحرية في العالم العربي يقترب من إدراك طبيعة النظام السوري عندما يصف تغول السلطة التنفيذية على باقي السلطات بحالة "الثقب الأسود" في الفضاء تدور باقي المؤسسات في فلكه، إضافة إلى اعتماد المؤسسة الرئاسية على أجهزة القمع بكافة أشكالها، لتجسد حالة الاستبداد المطلق.([83])

ومن هنا، فإن التحدي الأكبر في بناء حياة دستورية حقيقية لسورية المستقبل تكمن في تبني نظام سياسي تتوفر فيه شروط أساسية أهمها تخفيض صلاحيات السلطة التنفيذية المتمثلة في مؤسسة الرئاسة. ولذا لم يكن غريباً أن تتجه المعارضة السورية، منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، إلى الإشارة إلى تفضيلها للنظام البرلماني، باعتباره النموذج المقابل للنظام الرئاسي، إضافة إلى الحنين إلى النظام السياسي الذي جسده دستور عام 1950 الذي اعتبر الأكثر ديمقراطية في تاريخ البلاد. وللحقيقة، فإن النقاش حول النظام السياسي الأفضل للدول التي تمر بانتقال ديمقراطي لم يكن حاسماً في أفضلية النظام البرلماني على الرئاسي. ومن الأمثلة على الأدبيات المتوفرة حول توصية تبني النظام البرلماني على الرئاسي في الفترات الانتقالية، ما كتبه آرند ليبهارت بعنوان: "خيارات دستورية للديمقراطيات الجديدة". يؤكد ليبهارت أن الأنظمة الرئاسية، مع نظام انتخاب الدوائر الفردية، تميل إلى تقوية نموذج ديمقراطية حكم الأغلبية التي غالباً ما تكون الفائز الوحيد في حال تبني هذا النظام في المراحل الانتقالية.

أما الأنظمة البرلمانية، وهي التي يوصي بها ليبهارت، إذا ما ترافقت مع نظام الانتخاب النسبي، فإنها تشجع روح التوافق في الحياة السياسية، وتحفز التشاركية بين القوى السياسية. ويخلص ليبهارت إلى تفوق النظم البرلمانية في المجالات التالية: حقوق الأقليات، وتزايد نسبة المشاركة السياسية، وتقليل نسبة التفاوت الاقتصادي بين المكونات المجتمعية.([84]) ومع أن توصيات ليبهارت كانت بشكل أساسي لدول أمريكا اللاتينية، فقد تبنت أغلب هذه الدول في مراحل تحولها النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي. النقطة الأساسية في النقاش - بغض النظر عن تبني أي من الأنظمة السياسية - أن تكون السلطة التشريعية منوطة ببرلمان منتخب، يمارس صلاحيته التشريعية بشكل كامل، كما يمارس دوراً رقابياً على السلطة التنفيذية. لكن نقطة الضعف الكبيرة في تبني نظام برلماني في لحظة التحول، فيما لو طُبقت على الحالة السورية، تكمن في عدم وجود أحزاب سياسية قوية، وهي عماد نجاح النظام البرلماني. لذا، فإن التوصية في تبني النموذج شبه الرئاسي (أو المختلط كما يُسمى أحياناً)، الذي يحتفظ بأهم مزايا النظام البرلماني، ويقسم السلطة التنفيذية بين رئيس منتخب لفترة محددة، ورئيس وزراء تختاره الأغلبية الحزبية في البرلمان، ويكون مسؤولاً أمامها.

ويمكن تلخيص مزايا هذا النظام بما يلي: 1) يقدم هذا النظام حلاً وسطاً بين النظامين الرئاسي والبرلماني، ويحاول تجاوز سلبيات كل منهما، 2) يُضعف هذا النظام الصلاحيات الرئاسية، مما يخفف من احتمال استبداد الرئيس، 3) يقلل من احتمالات عدم الاستقرار في مرحلة الانتقال، بوجود رئيس فوق الأحزاب يكون بمثابة الضابط لتنافسها، 4) يحقق توازناً للسلطات بين الجهات السياسية الثلاث: الرئيس، والبرلمان، والحكومة برئاسة رئيس الوزراء الذي تختاره الأغلبية البرلمانية. وبالطبع فلهذا النظام سلبياته، خاصة في حالة وصول رئيس ذي توجهات شعبوية (بوتين)، أو في حالة تحكم جهة كالمؤسسة العسكرية بالرئيس (بوتفليقة)، ومع ضعف البرلمان والحياة الحزبية يمكن أن ينحرف هذا النظام إلى نظام استبدادي. ومما يعزز من فرص نجاح النظام شبه الرئاسي، استقلالية السلطة القضائية، وتبني اللامركزية الإدارية، التي يمكن أن يعززها وجود برلمان بغرفتين (نواب وشيوخ)، يكون فيه مجلس الشيوخ ممثلاً للمحافظات، ووجود رئيس توافقي.

والخلاصة، فإن صياغة دستور جديد لسورية يتطلب من الناحية النظرية عملية تتحقق فيها التشاركية والتوافق والملكية الوطنية، تبدأ بهيئة حكم انتقالي محايدة وشاملة لكافة مكونات المجتمع السوري - مهما كان حجمها - وتشرف على عملية انتخاب جمعية تأسيسية، مهمتها صياغة دستور جديد قائم على التجربة التاريخية للبلاد وعلى تجارب الدول الناجحة، تقدم مسودتها إلى استفتاء حقيقي، تسبقه عملية حوار جاد وتوعية حول العملية الدستورية ونشر ثقافة التوافق. ومن الطبيعي أن تكون هذه العملية في سياق حل سياسي على الأسس التي تبنتها الأمم المتحدة، تترافق مع مصالحة وطنية، وعدالة انتقالية، وإعادة تشكيل للقطاع الأمني. وأخيراً، فإن عملية الصياغة الدستورية السليمة هي بداية لحياة دستورية ترسي دعائم دولة القانون، وتحفظ حقوق وحريات مواطنيها، وتطلق طاقات أبنائها في التنمية والإبداع. وبما أن الأنظمة الديمقراطية - نتاج الحياة الدستورية -  عرضة للتراجع فهي بحاجة للرعاية المستدامة. 


([1]) Nathan J. Brown, Constitutions in a Nonconstitutional World: Arab Basic Laws and the Prospects for Accountable Government (Albany, NY: State University of New York Press, 2002), p. 195-6

([2]) حول العملية الدستورية في العراق، انظر:

Jonathan Morrow, “Iraqi Constitutional Process II: An Opportunity Lost,” USIP Special Report 155, November 2005; and Julia Choucair-Vizoso, “Iraq” in Ellen Lust, ed. The Middle East, 14th ed. (Thousand Oaks, CA: SAGE, 2017), pp. 498-9.

([3]) حول علاقة ظهور داعش وعلاقتها بتهميش المكون السني، انظر:

“The Rise of ISIS,” Frontline, 28 October, 2004. https://www.pbs.org/wgbh/frontline/film/rise-of-isis/

([4]) انظر ملخص الأزمة الدستورية في عهد مرسي:

“Q & A Egypt Constitutional Crisis,” BBC News, 24 December 2012. https://www.bbc.com/news/world-middle-east-20554079

([5]) انظر على سبيل المثال: "الساعات الأخيرة قبل الانقلاب.. كيف أدار السيسي لعبة "الخداع الاستراتيجي" ضد مرسي؟"، الجزيرة نت، 24 فبراير 2019، https://www.aljazeera.net/programs/al-jazeeraspecialprograms/2019/2/24/

([6]) المادة الرابعة والسبعون، دستور مصر الصادر عام 2014https://www.constituteproject.org/constitution/Egypt_2014.pdf?lang=ar

([7]) تم تصنيف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية في ديسمبر 2013، بينما تم إقرار الدستور الذي يمنع تشكيل أحزاب على أساس الدين في 18 يناير 2014.

([8]) حول ملخص لعملية الصياغة الدستورية في جنوب أفريقيا، انظر:

“The Drafting and Acceptance of the Constitution,” South African History Online, no date

https://www.sahistory.org.za/article/drafting-and-acceptance-constitution

([9]) انظر على سبيل المثال،

Laryssa Chomiak & Robert Parks, “Tunisia,” in Ellen Lust, ed. The Middle East, 14th ed. (Thousand Oaks, CA: SAGE, 2017), pp. 808-854.

Mohamed-Salah Omri, “The Tunisian Constitution: The Process and the Outcome,” Academia, February 12, 2014.

https://www.academia.edu/6166557/The_Tunisian_Constitution_The_process_and_the_outcomes

([10]) المادة الأولى والسادسة، دستور تونس، https://majles.marsad.tn/uploads/documents/TnConstit_final_1.pdf

([11]) لقد استحقت اللجنة الرباعية الفوز في جائزة نوبل للسلام لعام 2015 لدورها المحوري في إنقاذ عملية التحول الديمقراطي، انظر على سبيل المثال، "الرباعي الراعي للحوار الوطني بتونس...نوبل للسلام"، الجزيرة نت، 11/10/2015، http://www.aljazeera.net/encyclopedia/events/2015/10/11

([12]) تم جمع الدساتير السورية، حتى دستور عام 1973، في: مازن يوسف صباغ، سجل (الدستور) السوري. دمشق: دار الشرق للطباعة والنشر، 2010.

([13]) من الكتب التي عالجت خصوصية التناقض بين الأمة والدولة:

Raymond Hinnebusch, The International Politics of the Middle East. 2nd edition. Manchester: Manchester University Press, 2015.

([14]) المادة الأولى من الفصل الأول للقانون الأساسي- الدستور- للمملكة السورية، متضمن في كتاب مازن يوسف صباغ، سجل (الدستور) السوري، مرجع سابق، ص. 81.

([15]) المادة 134.

([16]) نص البيان متضمن في كتاب مازن يوسف الصباغ، ص. 69-75.

([17]) المادة 116، من دستور عام 1930.

([18]) المواد الثلاث الأولى، وبالإضافة إلى المادة الرابعة التي تتحدث عن العلم السوري، هي الأحكام الأساسية للفصل الأول، في الدولة وأراضيها، دستور عام 1930.

([19]) المادة الثانية كما جاءت في مشروع الدستور لعام 1928، لكن المفوض السامي الفرنسي عدلها عندما أصدر الدستور عام 1930.

([20]) المادة 114.

([21]) نص الدستور متضمن في سجل (الدستور) السوري، مرجع سابق، ص. 245-298.

([22]) المادة السادسة والأربعون.

([23]) المادة الخامسة والسبعون.

([24]) المادة الأولى من دستور 1953.

([25]) الباب الأول الدولة العربية المتحدة، من دستور الجمهورية العربية المتحدة، متضمن في سجل (الدستور) السوري، مرجع سابق، ص. 429-446.

([26]) نص دستور 1969 متضمن في المرجع السابق، ص. 518-533.

([27]) تأتي هذه المادة تحت رقم المادة السابعة في دستوري 1969 و1971، لكنها تتعدل في دستور الأسد لعام 1973، لتنص على ما يلي: "حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية". المادة الثامنة.

([28]) المادة 51 في كلا الدستورين.

([29]) البنود من واحد إلى ثلاثة من المادة الأولى، دستور 1973.

([30]) المادة الأولى من دستور 2012.

([31]) المادة الثالثة من دستور 1973.

([32]) البندان الثالث والرابع من المادة الثالثة، دستور 2012.

([33]) الفصل الثالث: في حقوق الأفراد والجماعات، من المادة التاسعة وحتى السادسة عشر.

([34]) الحقوق والحريات متضمنة في الفصل الثاني من الدرس، بعنوان "في حقوق الأفراد"، دستور عام 1930.

([35]) البند الأول للمادة الثامنة عشر، دستور عام 1950.

([36]) الفقرة هاء من البند الثالث، المادة التاسعة والثلاثون، دستور عام 1950.

([37]) المادة الثانية والثمانون من دستور عام 1953.

([38]) المادة السابعة إلى العاشرة، في الباب الثالث، دستور الجمهورية العربية المتحدة، عام 1958.

([39]) المواد 21 إلى 41 تحت باب حقوق وواجبات المواطنين والتنظيمات الجماهيرية والجمعيات التعاونية، الدستور المؤقت للجمهورية العربية السورية، 1969.

([40]) المادة 24 من الباب الثاني، دستور عام 1969.

([41]) المادة 34، من الفصل الرابع، دستور عام 1973.

([42]) انظر على سبيل المثال

“If the Dead Could Speak: Mass Deaths and Torture in Syria’s Detention Facilities,” Human Rights Watch, December 16, 2015.

https://www.hrw.org/report/2015/12/16/if-dead-could-speak/mass-deaths-and-torture-syrias-detention-facilities#

([43]) المادة الرابعة والأربعون، من الباب الثاني: الحقوق والحريات وسيادة القانون، دستور عام 2012.

([44]) المواد 122-144، دستور عام 1919.

([45]) المادة 109، دستور عام 1930.

([46]) الفصل السادس، التقسيمات الإدارية، دستور عام 1950.

([47]) أمل مخائيل بشور، دراسة في تاريخ سورية السياسي المعاصر. بيروت: توزيع جروس برس، بلا تاريخ، ص. 455.

([48]) الفصل الثالث، مادة 67 و68، الدستور المؤقت لعام 1969، وعام 1971.

([49]) وحدة المعلومات بمركز عمران، "في واقع الإدارة المحلية في مناطق سيطرة النظام المركزية"، مجموعة من الباحثين، حول المركزية واللامركزية في سورية: بين النظرية والتطبيق. الكتاب السنوي الرابع، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 2018، ص. 162.

([50]) المادة الحادية والثلاثون بعد المئة، دستور عام 2012.

([51]) "في واقع الإدارة المحلية في مناطق سيطرة النظام المركزية"، مرجع سابق، ص. 166-168.

([52]) انظر، "مضبطة الأسباب الموجبة للدستور (القانون الأساسي) التي أقرت من قبل المؤتمر السوري، متضمنة في سجل (الدستور) السوري، مرجع سابق، ص. 109-132.

([53]) المواد 74-77 من دستور عام 1930.

([54]) المادة 82 و83 من دستور عام 1950.

([55]) حول الدور الذي لعبته الدول الإقليمية في هذه الفترة، وعلاقة القوى السورية معها، انظر:

Patrick Seale, The Struggle for Syria: A Study of Post-War Arab Politics 1945-1958, 2nd ed., (London: I B Tauris, 1986)

([56]) البند الثاني من المادة الثانية، دستور عام 1950.

([57]) المادة 68 في دستور 1930، و73 في دستور 1950.

([58]) انظر، الفصل الثاني (السلطة التنفيذية)، رئيس الجمهورية، دستور 1953.

([59]) كان هذا أحد شروط عبد الناصر للوحدة، وهو حل الأحزاب السياسية، بما فيها حزب البعث، وتأطير الحياة الحزبية من خلال حزب واحد حاكم.

([60]) المقدمة، دستور 1973.

([61]) المادة الثامنة، دستور 1973.

([62]) للتفصيل حول تركيبة النظام السوري، نجيب الغضبان، "الاستمرارية والتغيير في النظام السوري"، ملف الأهرام الاستراتيجي، السنة السادسة، العدد 67، تموز/يوليو 2000.

([63]) الرواية موثقة في أكثر من دراسة، ومنها:

Patrick Seale, Asad of Syria: The Struggle for the Middle East (Berkeley: University of California Press, 1988), p. 173.

([64]) المقدمة، دستور 2012.

([65]) المادة الثامنة، دستور 2012.

([66]) المادة التاسعة، دستور 2012.

([67]) الفصل الثاني، "المبادئ الاقتصادية"، دستور 2012.

([68]) البند الرابع في المادة الثامنة، دستور 2012.

([69]) المادتان: الرابعة والثمانون والخامسة والثمانون، دستور 2012.

([70]) Max Weber, “Politics as a Vocation,” from H. H. Gerth and C. Wright Mills, eds. Trans. From Max Weber: Essays in Sociology (New York: Galaxy, 1958), pp. 77-87

([71]) مشروع اليوم التالي، "الفصل الخامس: التصميم الدستوري"، دعم الانتقال الديمقراطي للسلطة في سورية، منظمة اليوم التالي، 2012، ص. 79-93.

([72]) تعقيباً على ذلك قامت أربعون منظمة وهيئة سورية بالتوقيع على بيان يؤكد أن السوريين هم المعنيون بكتابة دستور بلادهم، ورفضوا أن يتم الحديث عن دستور دائم في هذه الظروف. انظر، اليوم التالي، أي دستور تحتاج سورية؟ استنبول: اليوم التالي، تموز/يوليو 2018، ص. 1.

([73]) تم نسب ورقة تفاوضية، تقدمت بها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأردن والسعودية إلى المبعوث الدولي ستيفان ديمستورا، بعنوان "الإصلاح الدستوري"، قبيل لقاء فيينا في بداية غام 2018.

([74]) اليوم التالي: أي دستور تحتاج سورية؟ مرجع سابق، ص. 7-8.

([75]) المرجع السابق، ص. 9-10.

([76]) مشروع اليوم التالي، مرجع سابق، ص. 89.

([77]) أي دستور تحتاج سورية؟ مرجع سابق، ص. 20.

([78]) المرجع السابق، ص. 19.

([79]) مشروع اليوم التالي، مرجع سابق، ص. 89.

([80]) المادة الثالثة، دستور عام 2010.

([81]) أي دستور تحتاج سوريا؟ ص. 19.

([82]) تجمع سوريات من أجل الديمقراطية، المبادئ الدستورية المتوافقة مع النوع الاجتماعي (الجندر)، بروكسل 2016، ص. 3 .

([83]) UNDP. Arab Human Development Report 2004. (New York, NY: UNDP, 2005).

([84]) Arend Lijphart, “Constitutional Choices For New Democracies,” in Larry Diamond and Marc F. Plattner, eds. The Global Resurgence of Democracy (Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press, 1996), pp. 162-74.

التصنيف أوراق بحثية

مشاركة الباحث في مسار الإدارة المحلية، محمد منير الفقير، على قناة دار الإيمان الفضائية، للحديث حول الورقة التي أصدرها ‫ ‏مركز عمران للدراسات الاستراتيجية‬ مؤخراً تحت عنوان: "دور ‫‏المجالس المحلية‬ في المرحلة الحالية والانتقالية: قراءة تحليلية في نتائج استطلاع رأي".
تناولت المقابلة توضيحاً لأهم الاستنادات التي اعتمدها الباحثون في إعدادهم للورقة.

ملخص تنفيذي

قام مركز عمران للدراسات الاستراتيجية بإجراء استطلاع رأي للمجالس المحلية العاملة في مناطق سيطرة القوى الوطنية، شمل 105 مجالس في المحافظات السورية الآتية: دمشق؛ ريف دمشق؛ حلب؛ إدلب؛ درعا؛ القنيطرة؛ حمص؛ حماة؛ اللاذقية. يُركّز الاستطلاع على طبيعة الدور الذي تمارسه المجالس المحلية في مناطق سيطرة فصائل المقاومة الوطنية بشكل خاص وفي كافة المحافظات السورية بشكل عام، بالتزامن مع المساعي الدبلوماسية الأممية لإيجاد تسوية للقضية السورية، على اعتبار أنَّ المجالس المحلية تُشكل أحد أبرز الحوامل الُمهيئة للاستقرار في المرحلتين الحالية والانتقالية.

وقد خلصت نتائج استطلاع الرأي إلى ما يلي:

•    تمارس المجالس المحلية دوراً خدمياً بالدرجة الأولى مُستندة على شرعيتها المبنية على قبول المواطنين، ولكنها تمتلك في نفس الوقت كُمونَ ومقومات الفاعلية السياسية؛
•    تغلب آليتي التوافق والانتخاب على تشكيل المجالس، في حين يلحظ اعتماداً أضعف على آليتي التعيين والمبادرة الفردية؛
•    تعتبر العلاقة التي تربط المجالس المحلية بغيرها من مؤسسات المعارضة الرسمية وفصائل المقاومة الوطنية إيجابية عموماً؛
•    رغم وجود ميل عام لدى عينة المجالس لقبول مبدأ التفاوض على المستوى الوطني، إلا أن ذلك لا ينسحب على قبولها لاتفاقيات الهدن المحلية؛
•    أكدت غالبية العينة على ضرورة حصر موضوع التفاوض ببحث قضية تشكيل هيئة الحكم الانتقالي؛
•    حازت الهيئة العليا للتفاوض على دعم أغلبية العينة، في حين تبنت النسبة المتبقية موقفاً مغايراً لذلك؛
•    أكدت عينة المجالس على أن عقدة الأسد تمثل العائق الأبرز الذي يحول دون نجاح العملية التفاوضية؛
•    يتبنى ما يزيد عن ثلثي العينة اللامركزية الإدارية ضمن إطار وطني كنمط لإدارة سورية وتحقيق مطالب المجتمعات المحلية وتنميتها؛
•    يأتي الجانب الخدمي والسلم الأهلي في سلم أولويات عمل المجالس المحلية في المرحلة الانتقالية.


تمهيد

تُعتبر المجالس المحلية أحد أهم إفرازات الثورة السورية لتعبيرها عن التحول الذي طرأ على طبيعة العلاقة مع المركز من جهة، ولكونها أداة لإدارة المرحلة الحالية والانتقالية من جهة أخرى. وعقب مرور ما يقارب الأربع سنوات على نشأة المجالس المحلية وما حققته من منجزات وما أثير حولها من إشكالات، ومع وجود مساعٍ دولية لدفع العملية السياسية التفاوضية واستثمار المجالس في هذا المجال نظراً لدورها الحالي الذي يكسبها شرعية حقيقية منبثقة من الأرض، فإنه من الأهمية بمكان دراسة دور المجالس في المرحلة الحالية والانتقالية في كلا المجالين الخدمي والسياسي بهدف تحليل طبيعة ذلك الدور والعوامل المؤثرة فيه، وصولاً إلى اقتراح توصيات من شأنها تمكين المجالس المحلية كأحد محركات الدفع السياسي.

تُسلط هذه الورقة التحليلية الضوء على الدور السياسي للمجالس المحلية وتجلياته كما في نموذج اتفاقات الهدن المحلية الجزئية، وتُحاول تحليل طبيعة علاقة المجالس مع قوى المعارضة العسكرية والسياسية، وتصوراتها حول العملية التفاوضية من حيث موقفها من التفاوض كوسيلة للحل ومحددات رؤيتها السياسية وعلاقتها بالهيئة العليا للتفاوض، وأخيراً تبحث طبيعة ومعوقات الدور الذي من الممكن أن تؤديه المجالس المحلية في المرحلة الانتقالية.

المجالس المحلية: دور خدمي قائم ومقومات لدور سياسي ناشئ

تتنوع آليات تشكيل المجالس المحلية ما بين انتخاب وتوافق إلى تعيين ومبادرة فردية، حيث أظهرت نتائج الاستطلاع أن غالبية المجالس المستطلعة تشكَّلت عبر آلية التوافق المحلي حيث أشار 57% إلى ذلك مقارنة بـ 38% من العينة أشارت إلى الاستناد على آلية الانتخاب. وأظهرت النتائج بالمقابل ضعف الاعتماد على آليتَي التعيين والمبادرة الفردية في التشكيل حيث بلغتا مجتمعتين ما نسبته 5% من إجمالي إجابات العينة.

1


**يُمكن أن يُفسّر اعتماد التوافق كآلية سائدة حالياً لتشكيل المجالس بغياب عوامل الاستقرار الأمني وحركات الانزياح الديمغرافي التي لا تتيح لجميع السكان المحليين المشاركة بالانتخابات، إضافة إلى قدرة هذه الآلية على تجاوز إشكاليات تقنية تكتنف العملية الانتخابية (لوائح الناخبين، القانون الانتخابي، الدوائر الانتخابية، عملية الاقتراع) وهو ما يحتاج إلى خبرات قانونية وتخصصية قد لا تتوافر بالضرورة على نطاق واسع في المجتمعات المحلية.
وبمقارنة نتائج الدراسة الحالية مع نتائج سابقة خلصت إليها دراسة مؤشرات احتياجات المجالس التي قامت بها وحدة المجالس المحلية بالتعاون مع مركز عمران فإنه يلحظ تنامٍ طفيف في الاعتماد على الانتخابات كآلية للتشكيل، حيث ارتفعت النسبة من 35.75% في الدراسة السابقة لتصل إلى 38% في الدراسة الراهنة، وهو ما تدلل عليه الوقائع الميدانية من حيث تنظيم عملية انتخابات محلية تطورت من حيث آليات التمثيل وحجم المشاركة كما هو الحال في الغوطة الشرقية. وبغض النظر عن آلية التشكيل انتخاباً كانت أم توافقاً فإنها تعتبر دليل على وجود مشاركة السكان في المجالس وهو ما يمنحها شرعية لا تتوافر لدى العديد من الإدارات المحلية القائمة ولا الكيانات السياسية في سورية.


أما من حيث الأدوار التي مارستها المجالس المحلية في مناطق سيطرة فصائل المقاومة الوطنية فقد تفاوتت حسب ما أتيح لها من إمكانيات وما تحقق لها من قبول محلي وشبكة علاقات ضمن السياق الذي تعمل فيه.  وقد أظهرت نتائج الاستطلاع توصيف 57% من العينة لدور مجالسهم بأنه خدمي يقوم على تقديم الخدمات المحلية للسكان في مجالات الإغاثة والبنية التحتية والصحة والتعليم، في حين أجاب 42% بأنه دور ثنائي يشمل إضافةً إلى تقديم الخدمات على دور سياسي من أبرز تجلياته: إصدار مواقف وبيانات سياسية، حضور فعاليات سياسية، تنظيم مظاهرات، عقد مصالحات مجتمعية، إجراء مفاوضات محلية مع النظام والقوات الموالية له. أما النسبة المتبقية من العينة وتبلغ 1% فعرَّفَت دورها بأنه سياسي بحت.

2


**تجلى الدور الخدمي للمجالس بشكل أكبر من الجانب السياسي رغم امتلاك المجالس كموناً عالياً ومقومات الفاعلية السياسية وهي:
1.    الشرعية المحلية المستمدة من تمثيلها للسكان المحليين عبر انتخابات أو توافقات محلية؛
2.    الدور الوظيفي الملاحظ في نجاحها النسبي في الاضطلاع بممارسة وظائف الدولة في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد وقدرتها على تمثيل جميع مكونات المجتمع المحلي واتجاهاته السياسية والفكرية واستقطاب الكفاءات وتأهيل قادة المجتمع المحلي للمشاركة في إدارة الشأن العام؛
3.    الاعتراف السياسي من قبل جميع الأطراف حيث اضطر النظام للتعامل مع بعضها وعقد معها مفاوضات (اتفاق الزبداني) وكذلك المنظمات الإقليمية والدولية التي تعتبر الكثير من المجالس المحلية شريكاً أساسياً في تنفيذ عملياتها الإنسانية، كذلك المعارضة السورية والفاعليات المحلية والدول التي تواصلت معها ورتبت شراكات معها فضلاً عن حضورها في وثائق الحل السياسي.
ويمكن إيجاز أبرز ما يُعيق إمكانية تطور الدور السياسي للمجالس بما يلي:
1.    نظرة القائمين عليها بأنها هيئات يغلب عليها الطابع الخدمي؛
2.    تضارب المصالح وتنازع الأدوار بين المجالس المحلية من جهة والقوى العسكرية والسياسية للمعارضة من جهة أخرى؛
3.    غياب عملية سياسية مستقرة تتيح للمجالس ممارسة دور متقدم يتجاوز الدور الخدمي.


المجالس المحلية وقوى المعارضة: منظور إيجابي لعلاقات متشابكة

أظهرت نتائج الاستطلاع تقييماً مقبولاً بشكل عام من قبل عينة المجالس لعلاقتهم بمؤسسات المعارضة الرسمية كالائتلاف الوطني والحكومة السورية المؤقتة، حيث وصف 37% من العينة علاقتهم بالائتلاف بالإيجابية عموماً مقابل 25% ممن رأوا بأنها سلبية، ووصفها 38% بأنها مقبولة. وفيما يتعلق بالحكومة المؤقتة، عبَّر 45% من العينة عن تقييم إيجابي للعلاقة معها مقابل 21% وصفوها بالسلبية، و34% أشاروا بأنها مقبولة.

 3


وينسحب التقييم الإيجابي أيضاً على العلاقة التي تربط المجالس بفصائل المقاومة الوطنية، حيث عبَّر ما نسبته 89% من العينة بأنها جيدة جداً أو جيدة، فيما أفاد 10% أنها مقبولة، مقابل 1% وصفوها بالسلبية.

 4


**تتحدد علاقة المجالس بمؤسسات المعارضة الرسمية بعدة متغيرات أبرزها:

1.    الدعم المادي؛
2.    الشرعية السياسية والدولية؛
3.    الدور الوظيفي؛
4.    العلاقات الشخصية.

وبناء على ما سبق يمكن تفسير التقييم الإيجابي لهذه العلاقة بما يلي:

1.    إدراك المجالس أن ضعف دور مؤسسات المعارضة الرسمية يتصل بعوامل موضوعية، كالإرادة الإقليمية والدولية، أكثر مما يتصل بعوامل ذاتية ذات صلة بالمعارضة نفسها؛
2.    اعتقاد المجالس بأهمية وجود جهة مركزية تنسق عمل المجالس المحلية وتدير أولويات عملها إضافة إلى الحاجة لوجود حامل سياسي على المستوى الوطني يزيح عن كاهل المجالس المحلية هذا العبء ويصرفها باتجاه ميادين الخدمة والإدارة المحلية؛
3.    وجود علاقات شخصية بين أعضاء المجالس وشخصيات المعارضة الرسمية، إضافةً إلى عضوية بعض أعضاء المجالس في بُنى المعارضة السياسية الرسمية؛
4.    وجود اعتمادية نسبية من قبل المجالس على هذه المؤسسات كقنوات رسمية للتواصل مع الجهات الداعمة.

ومن جهة أخرى، تطورت علاقة المجالس المحلية مع فصائل المقاومة الوطنية من تضارب مصالح إلى علاقات تتسم بالإيجابية دون أن ينفي ذلك استمرار التنافس بينهما ولكن بأشكال أخرى، ويمكن تفسير هذا التحول بعدة عوامل أبرزها:

1.    إدراك الفصائل لأهمية مشروع المجالس في إدارة شؤون المجتمعات المحلية وأن تعاونهم معها في حل قضايا المجتمع المحلي يسهم في تعزيز شرعيتها؛
2.    التحول في آليات تدخل الفصائل في المجالس من تدخل مباشر كان يمارس على اختيار المجالس وعملها إلى آخر يتم من خلال قنوات مجتمعية (هيئات محلية ووُجهاء) وهو ما ساهم في تخفيف الاحتكاك السلبي بين الطرفين.



منظور المجالس للعملية التفاوضية: قبول مشروط بحل سياسي محفوف بالمعوقات

حظيت مقولة الحل السياسي للقضية السورية بقبول إقليمي ودولي لاسيما بعد تنامي التهديدات الأمنية والأزمات الإنسانية للصراع وتجاوزهما حدود الجغرافية السورية. وفي إطار دفع العملية التفاوضية تم إصدار عدد من القرارات الأممية وتشكيل هيئة عليا للتفاوض لتكون طرفاً مفاوضاً لنظام الأسد انبثقت عن مؤتمر الرياض للمعارضة السورية بعد أن كان التفاوض على المستوى الوطني من اختصاص الائتلاف الوطني، وتم عقد جولة من المباحثات إلا أنها لم تُحقق إنجازاً يُذكر في جسر الهوة بين طرفي التفاوض. وعلى اعتبار أنَّ المجالس المحلية هيئات شرعية تُمثل رأي السكان المحليين، إضافةً إلى أنه سبق لها القيام بمفاوضات محلية مع نظام الأسد في عدة حالات غلب عليها الطابع المحلي ومن أهمها اتفاقيات الهدن، كان من المهم استطلاع رأيها حول العملية التفاوضية. وقد عبَّر 57% من عينة المجالس عن قبولها لفكرة التفاوض مع نظام الأسد من حيث المبدأ كوسيلة للحل النهائي في حين عارض ذلك 38% من العينة نفسها، وعزف 5% عن التعبير عن رأيهم حيال فكرة التفاوض.

5

ومن الجدير بالذكر أن قبول المجالس المحلية للتفاوض مع نظام الأسد لا ينسحب على قبولها لاتفاقيات الهدن المحلية، حيث عارض ثلثا العينة اتفاقيات الهدن المحلية باعتبارها تصُبّ في مصلحة نظام الأسد، مقابل تأييد ما يزيد عن ريع العينة بقليل لفكرة الهدن باعتبارها تصُب في إنعاش المجتمعات المحاصرة، في حين عزف 15% من العينة عن إبداء رأيهم في هذا الموضوع.

6


**عقد النظام السوري وحلفاؤه منذ بداية عام 2013 عدداً من الهدن مع الفاعلين المحليين في المناطق التي خرجت عن سيطرته، تتركز في مناطق ذات أهمية استراتيجية كالموقع الجغرافي أو الثقل الديمغرافي وهو ما يتبين من خلال انتشارها في محيط العاصمة وحمص ودرعا وحماة. وقد بلغ عددها تقريباً -بغض النظر عن استمراريتها أو انتهائها-ما يزيد عن 27 هدنة يُضاف إليها عدد من الهدن التي ما يزال التفاوض بشأنها قائماً في عدة مناطق من محافظات القنيطرة ودرعا وريف دمشق.

وقد لجأ النظام إلى الهدن كحلول تسكينية محدودة مدفوعاً بعاملين أساسيين:

1.    عسكري-أمني: فنظراً لعدم قدرته على الحسم العسكري في ظل انخفاض قدرته التعبوية على شن عمليات عسكرية بشكل متزامن في عدة مناطق لجأ النظام إلى المفاضلة بين مناطق استراتيجية وأخرى يمكن الاستغناء عنها تكتيكاً؛
2.    سياسي: دفع النظام رؤيته للحل السياسي القائمة على تحوير المطالب من حل سياسي شامل يقوم على إعادة توزيع السلطة وإشراك ممثلين عن قوى المجتمع السوري في الحكم بما يكسر من احتكار السلطة والموارد إلى مطالب محلية تتمحور حول مطالب إنسانية بالدرجة الأولى. بالمقابل اضطُرت عدد من المجالس المحلية للقبول بالهدن لتحقيق مكاسب محلية في مقدمتها إنهاء المأساة الإنسانية في ظل استمرار الصراع واستنزاف كلا الطرفين وترهل استجابة المجتمع الدولي لمطالب الشعب السوري. ويمكن الاستدلال على ما سبق بنوعية المطالب التي تضمنتها اتفاقيات الهدن وفي مقدمتها رفع الحصار وإخراج المعتقلين ووقف القصف وإعادة الخدمات الأساسية.

ويمكن أن يفسر الموقف الرافض لاتفاقيات الهدن والذي بلغ ثلثي العينة بما يلي:

1.    الأثر المتدني للهدن على أحوال ومعيشة المجتمعات المحلية وهو ما تعزز صحته الوقائع الميدانية؛
2.    عدم التزام نظام الأسد بالبنود الواردة في اتفاقيات الهدن لا سيما فيما يتعلق بإخراج المعتقلين والسماح للمواد الإغاثية بالدخول للمناطق المحاصرة فضلاً عن تقييد حركة السكان المحليين في مناطق الهدن؛
3.    غياب ضمانات جدية لاتفاقيات الهدن وضعف آليات مراقبتها؛
4.    الخشية من التأثير السلبي لاتفاقيات الهدن على الحراك الثوري من خلال اختراقه أمنياً وإغراق مناطق الهدن بالأزمات.


وعلى الرغم من قبول المجالس لفكرة التفاوض مع نظام الأسد إلا أنهم يشترطون اتخاذ الأخير إجراءات محددة رتبتها المجالس من حيث أولويتها وفق الآتي:

1.    وقف إطلاق النار والقصف الجوي؛
2.    سحب الميليشيات الأجنبية؛
3.    إطلاق سراح المعتقلين؛
4.    فك الحصار عن المناطق المحاصرة؛ وأخيراً إدخال المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة من الصراع.

7

وفي حين يتمسك وفد الأسد بموقفه القائم على أولوية محاربة الإرهاب ويعتبره بوابة الحل السياسي، تُصرّ المعارضة والقوى الوطنية على ثوابتها في ضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات كاملة لإدارة ملفات المرحلة الانتقالية. وحول رأي المجالس المحلية فيما يخصّ أولويات التفاوض، أكدت غالبية العينة بما نسبته 89% على ضرورة حصر موضوع التفاوض ببحث قضية هيئة الحكم الانتقالية، في حين رأى 9% بوجوب تطرق المفاوضات لموضوعَي هيئة الحكم الانتقالية ومحاربة الإرهاب.

8

وفيما يخص موقف المجالس المحلية من الهيئة العليا للمفاوضات ومدى تمثيلها لها، أظهرت النتائج أن 55% من العينة يرَون أن هيئة التفاوض تُمثل المجالس، في حين تبنَّت النسبة المتبقية موقفاً مُغايراً.

9

أما فيما يخص إجراءات التفاوض وسياق العملية التفاوضية، فقد أبدت غالبية المجالس المحلية تأييدها لإجراء التفاوض، إلا أنها في الوقت نفسه لا تنظر بإيجابية إلى السياق والتوجه الذي ستبدأ من خلاله العملية السياسية نظراً لاعتقادها بوجود العديد من المعوّقات التي تحول دون نجاح العملية التفاوضية والتي رتبتها المجالس المحلية كالآتي:

1.    عقدة الأسد؛
2.    غياب إجماع دولي؛
3.    غياب جهة تمثل السكان؛
4.    الفصائل العسكرية؛
5.    المعارضة السياسية.

10


**ينطلق قبول المجالس المحلية لمبدأ التفاوض مع نظام الأسد من عدة اعتبارات، أهمها:

1.    وجود قناعة لدى المجالس بصعوبة الحسم العسكري وفق معايير الواقعية السياسية وخاصة بعد التدخل الروسي، مقابل وجود قبول إقليمي ودولي لأطروحة الحل السياسي لتسوية الصراع؛
2.    استثمار أداة المفاوضات لتحقيق مكاسب خدمية وإنسانية وحقوقية؛
3.    إحراج النظام سياسياً واختبار جديته في التوصل لحل سياسي.

وإن كانت المجالس تميل للقبول بالتفاوض إلا أنه قبول مشروط بمحددات تشكل مجتمعة السقف السياسي المجمع عليه من قبل المجالس وهي:

1.    وقف إطلاق النار وإيقاف العمليات العسكرية؛
2.    سحب الميليشيات الأجنبية من الأرض السورية؛
3.    تحقيق المطالب الإنسانية التي نصت عليها القرارات الأممية من إطلاق سراح المعتقلين وفك الحصار عن المناطق المحاصرة وإدخال المساعدات الإنسانية دون قيود؛
4.    الحفاظ على وحدة سورية وإدارتها من خلال هيئة حكم انتقالية لا مكان للأسد فيها؛
5.    إعادة تشكيل المؤسسة الأمنية والعسكرية على أسس وطنية؛
6.    محاسبة المتورطين في ارتكاب جرائم بحق الشعب السوري.

ويلحظ من ترتيب المجالس لإجراءات ما قبل التفاوض تركيزها على المطالب ذات الطابع الأمني والعسكري عوضاً عن تركيزها على المطالب الإنسانية، ويمكن تفسير ذلك باعتقاد المجالس بأن ما تواجهه من أزمات إنسانية هو نتيجة لتأزم الوضع الميداني، وبالتالي فإن وقف التصعيد العسكري وسحب الميليشيات سيعزز من قدرتها على التعامل مع الملفات الإنسانية والأزمات الخدمية. ورغم تأييد ما يزيد عن نصف عينة المجالس بقليل للهيئة العليا للتفاوض إلا أن النسبة المتبقية لا تعتبر الهيئة ممثلة لها وهي تمثل كتلة حرجة لا يستهان بها، ويمكن تفسير موقفها بعاملين رئيسين وهما:

1.    طريقة تشكيل الهيئة العليا للتفاوض وشعور المجالس باستمرار تهميشها؛
2.    ضعف التواصل بين الهيئة العليا للتفاوض والمجالس المحلية للاستماع إلى رأي الأخيرة حول مجريات الأحداث ومعرفة آخر التطورات السياسية من قبل الهيئة باعتبار أن المجالس معنية بالأمر أكثر من غيرها لاحتكاكها اليومي بالسكان المحليين وتمثيلها لهم.


وضمن تصورات الحل السياسي تُطرح قضية شكل الدولة والصيغة الأمثل لإداراتها، حيث تتراوح الطروحات بين اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية. وبالنظر إلى موقف المجالس المحلية حيال نمطي الإدارة فقد أظهرت النتائج تبني ما يزيد عن ثلثي العينة بقليل للامركزية الإدارية، مقابل تبني ما يقارب ثلث العينة للامركزية السياسية.

16

كما أشارت غالبية العينة إلى ضرورة وجود إطار ناظم لعملها على المستوى الوطني وهو ما عبر عنه 98% من العينة، مقابل معارضة 2% لهذا التوجه.

12


**إن ميل المجالس المحلية للامركزية الإدارية كنمط لإدارة الدولة السورية ينبع من حرصها على وحدة سورية واعتقادها بأن منح المجتمعات المحلية صلاحيات أوسع ضمن اللامركزية الإدارية كفيل بأن يحقق مطالبها في الجوانب الخدمية والتنموية والثقافية، بالمقابل فإن اللامركزية السياسية من شأنها أن تؤدي إلى إيجاد كيان سياسي هش قوامه وحدات سياسية متنافسة فيما بينها وهو ما ينبئ بصراعات مستمرة. وفيما يخص تأييد المقترح بخصوص تشكيل إطار وطني ناظم لعمل المجالس فإنه ينبع من التزام المجالس بالشراكة على المستوى الوطني مع الإدارات المحلية من جهة وقناعتها بأنها بحاجة إلى إطار وطني يُنسق الأولويات ويشكل مرجعية إدارية لها في مزاولة مهامها.


دور مأمول وتحديات قائمة للمجالس في المرحلة الانتقالية

تُعتبر المجالس المحلية أحد الآليات التي يُعول عليها لإدارة المرحلة الانتقالية بحكم شرعيتها من جهة وما تراكم لديها من خبرات في إدارة ملفات هذه المرحلة من جهة أخرى. وفيما يتعلق بترتيب المجالس لأولوياتها في المرحلة الانتقالية فقد جاءت وفق الآتي:

1.    توفير الخدمات الأساسية؛
2.    تعزيز السلم الأهلي؛
3.    توفير الأمن المحلي والتنمية الاقتصادية؛
4.    دفع العملية السياسية.

13

وأشارت نتائج الاستطلاع إلى إدراك المجالس المحلية أنَّ دورها في المرحلة الانتقالية منوطٌ بقدرتها على التعامل مع التحديات التي ستُواجهها والتي رتبتها وفق الآتي:

1.    ضعف الموارد؛
2.    التجاذب السياسي والانقسام المجتمعي؛
3.    الحصول على الشرعية؛
4.    صعوبات أمنية.

14


**يفسر تركيز المجالس المحلية على أولوية توفير الخدمات في المرحلة الانتقالية بقناعتها بأن دورها خدمي بالدرجة الأولى وهو ما أظهرته نتيجة سابقة ذات صلة بالموضوع، بالإضافة إلى اعتقادها بأن الخدمات هي الحاجة الأبرز للسكان المحليين وأن نجاحها في توفيرها يمنحها الشرعية المحلية ثم الدولية، كما يُسهم في استعادة الأمن والاستقرار للمجتمعات المحلية. وتدرك المجالس أيضاً أن العائق الأكبر أمام ممارسة مهامها في المرحلة الانتقالية يكمُن في ضعف الموارد وهو ما يفسر بحجم الطلب الكبير على الخدمات المهيئة للاستقرار من قبل السكان المحليين.


الخاتمة

تُمارس المجالس المحلية بشكل عام ثلاثة أدوار وهي:

1.    الدور الخدمي؛
2.    الدور السياسي؛
3.    الدور التنموي.

ورغم أن نتائج الاستطلاع أظهرت ميل المجالس المحلية في مناطق سيطرة فصائل المقاومة الوطنية للتركيز على الدور الخدمي على حساب الدور السياسي لاعتبارات عدة، إلا أنها مارست الفعل السياسي في عدة مناسبات ومن أبرز تجلياته: إصدار بيانات ومواقف سياسية تمثل رأي المواطنين الذين منحوها الشرعية الحقيقية على الأرض، حضور فعاليات سياسية، تنظيم مظاهرات، عقد مصالحات مجتمعية، إجراء مفاوضات محلية مع النظام والقوات الموالية له، إبداء الرأي في العملية التفاوضية.

وفي ظل الحراك السياسي القائم لدفع العملية التفاوضية للتوصل إلى حل سياسي ينهي الصراع الدائر، فإنه من الأهمية بمكان تعزيز الدور السياسي للمجالس واستثماره لأجل تعزيز الموقف التفاوضي للمعارضة ولاحقاً لدفع العملية السياسية وحماية المكتسبات الناجمة عنها من محاولات الثورة المضادة الرامية لإجهاض الحراك الثوري. ولا يخفى على المراقب أن المجالس المحلية تملك كموناً عالياً يؤهلها لتشكيل هيئات سياسية مستندة على شرعية شعبية محلية تجعلها تتفوق عن كافة الأجسام السياسية الحالية.

ولتحقيق ما سبق يتوجب توفير حزم دعم تستهدف تعزيز قدرات وموارد المجالس وتمكينها مؤسسياً من الصمود في وجه التحديات المختلفة من خلال رفدها بعوامل النجاح المؤسسي والمالي وبرامج بناء القدرات والتدريب المستمر لاسيما فيما يتعلق بالعمل السياسي، إضافة إلى تأطير علاقة المجالس بغيرها من هيئات الحراك الثوري المدنية والعسكرية على قاعدة وحدة الهدف ووفق مبدأ توزع الأدوار وتكاملها.



ملحق: معلومات الاستطلاع

تاريخ الدراسة: من 1-1-2016 إلى 3-2-2016
عينة الاستطلاع: 105 مجلس محلي
التنفيذ: مركز عمران للدراسات الاستراتيجية

جدول توزع العينة

15

منهجية البحث

1.    مجتمع العينة
تم اختيار عينة غرضية من ضمن المجالس المحلية للمحافظات والمجالس الفرعية التابعة لها، وذلك في المناطق الخارجة كلياً أو جزئياً عن سيطرة نظام الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية والإدارة الذاتية الكردية، نظراً لقدرة المجالس في هذه المناطق على القيام بأدوار عدة ضمن الحدود الإدارية لمناطقها.

2.    حجم العينة وتوزيعها
شملت عينة الاستطلاع 105 مجلساً محلياً من إجمالي عدد المجالس الموثقة والبالغ 427. حيث استجاب من كوادر تلك المجالس 62 رئيس مجلس و32 عضو مكتب تنفيذي و11 عضو مجلس، فيما توزعت العينة على محافظات دمشق وريف دمشق وحلب وإدلب ودرعا والقنيطرة وحمص وحماه اللاذقية، وتفاوت توزع العينة على المجالس الفرعية وفقاً لتفاوت عدد المجالس الفرعية في كل محافظة.

3.    وثوقية العينة
حرص الباحثون على طرح أسئلة الاستبيان وعرضها على المستجيبين بغض النظر عن آرائهم الشخصية أو توقعهم لاتجاه نتائج الاستطلاع، كما تم التركيز على صياغة الأسئلة بطريقة محايدة لا تؤثر على آراء المستجيب.

4.    مدة الاستطلاع
استغرقت عملية الاستطلاع ما يزيد عن الشهر، حيث بدأ التواصل مع المجالس المحلية اعتباراً من 1-1-2016 وحتى 3-2-2016، تلا ذلك عملية تفريغ البيانات ثم تحليلها واستخلاص النتائج النهائية.

5.    منهجية التحليل
تم تقسيم عملية التحليل إلى جزأين وفق هدف الدراسة المتمثل في رصد توجهات المجالس المحلية ومدى اضطلاعها بأدوارها على المستويين الإداري والسياسي ، وبالتالي فإن هذا القسم من التحليل يتناول نتائج الاستطلاع ضمن التساؤلات التي تم طرحها حول دور المجالس المحلية في التأثير على العملية السياسية، وموقفها من الأداء السياسي للبنى السياسية الثورية وتفاعلها مع الاستحقاقات المختلفة، والميل السياسي العام للمجالس المحلية، في حين سيتناول القسم الثاني من التحليل  الدور الإداري للمجالس المحلية ومدى حيازتها لأهم مقوماته ومسؤولياته.

وتأتي عملية إدماج عملية الاستطلاع للدورين السياسي والإداري من منطلق وجود جدلية مستمرة بين فاعلية دور المجالس المحلية في الدفع السياسي ودورها الرئيس في إدارة المجتمعات المحلية وتحقيق مصالحها وتمثيلها.

التصنيف أوراق بحثية

بقدر ما عكسته الهدنة من هشاشة تتبع لطبيعة التعاطي الدولي مع الملف السوري؛ إلا أنها فرضت متغيرات جديدة على واقع الصراع السوري. فالهدنة التي فشلت إلى حد ما في تثبيت وقف إطلاق النار؛ نجحت بشكل أكبر في فرض مجموعة من المعطيات الجديدة على الأرض، والتي استتبعت استراتيجيات جديدة من الفاعليين المحليين، واستحدثت مسارات مختلفة في التعاطي الدولي والإقليمي مع الملف السوري، لتبدأ بصياغة واقع مختلف عما قبل الهدنة لا يزال قيد التشكيل، تكاد تبرز ملامحه عبر مجموعة المتغيرات التي فرضتها الهدنة على الأرض. ما يضع المعارضة السورية أمام تحديات جمة على كل الصعد، ويفرض عليها ديناميات داخلية لتحرك فعال على المستوى التكتيكي والاستراتيجي.

أعلنت كلٌ من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية في بيان مشترك بتاريخ 27 فبراير/شباط 2016 عن التوصّل لاتفاق هدنة في سوريا يستثني كلاً من تنظيمي "الدولة الإسلامية" و "جبهة النصرة". وقد بُنيَ الاتفاق على أرضية مشتركة بين موسكو وواشنطن بدعم دولي، لتثبيت وقف إطلاق النار والأعمال العدائية، واستئناف العملية السياسية في جنيف وفقاً لخارطة الطريق في القرار 2254.  وشهدت تلك الهدنة منذ بدايتها ما يزيد عن 2000 خرقاً من قبل نظام الأسد، كان آخرها حملة شرسة قادها النظام بدعم من حُلفائه على مدينة حلب بالتوازي مع تعثّر المسار السياسي في جنيف.

ورغم ما عكسته الهدنة من هشاشة نتيجة طبيعة التعاطي الدولي مع الملف السوري، إلا أنها فرضت متغيرات جديدة على واقع الصراع. فالهدنة التي فشلت إلى حدّ ما في تثبيت وقف إطلاق النار، نجحت بشكل كبير في فرض مجموعة من المعطيات الجديدة على الأرض، استتبعت بدورها استراتيجيات جديدة من الفاعليين المحليين، كما استحدثت مسارات مختلفة في التعاطي الدولي والإقليمي مع الملف السوري، لتبدأ بصياغة وتشكيل واقع مختلف عمّا قبل الهدنة؛ الواقع الذي إلى الآن ما زال قيد التشكيل، إلا أن ملامحه تكاد تبرز عبر مجموعة المتغيرات التي فرضتها الهدنة على الأرض.

أولاً: ملامح واقع ما بعد الهدنة

ساهم اتفاق الهدنة وما رافقه من تطورات محلية إقليمية ودولية، بالدفع باتجاه صياغة واقع جديد لمسار الصراع السوري. ويستند هذا الواقع إلى مجموعة متغيرات فرضتها الهدنة على الرغم من أنه لم يتم تثبيتها بشكل نهائي إلا أن ملامحها تكاد ترتسم بوضوح، ولعل أبرزها:

1.    استراتيجية تطويق الأزمة

عكست الهدنة إرادة دولية في تثبيت خطوط التماس بين المعارضة والنظام عبر حدود الهدنة التي تُعد تقسيماً غير معلن لمناطق النفوذ، وتثبيتاً لها إلى أمد يبدو بعيد، إضافة إلى نقل الملف السوري إلى الساحة السياسية عبر المفاوضات في جنيف، مقابل توجيه الفاعلية العسكرية باتجاه محاربة الإرهاب.

2.    تعزيز سياسة المحاور

مع بداية توقيع الهدنة بدأت تلوح في الأفق بوادر لتبلور توافق روسي أمريكي -وإن كان غير متطابق في كل الملفات-ووجهة نظر موحدة حول طبيعة الحل السياسي تُهمش باقي الفاعلين الدوليين في الملف السوري، وهو الأمر الذي أدى إلى تعزيز سياسة المحاور على المستوى الدولي إزاء فرض واشنطن وموسكو رؤيتهما على باقي الفاعلين، حيث بات الفاعل الخليجي إضافة إلى تركيا يمثلون محوراً يتقاطع بدرجة كبيرة مع المحور الأوروبي، مقابل الأسد وطهران اللذان يمثلان محوراً آخر. في حين بدت روسيا وأمريكا اللتان أخذتا تبتعدان عن شركائهما ووكلائهما الإقليمين والمحليين، لتقتربا من تقديم نفسيهما كطرف "راعٍ للحل السياسي وليس ضالع في الصراع"، أقرب لمحور ناشئ في وجه باقي المحاور، من حيث التعاطي مع الملف السوري.

3.    أولوية مكافحة الإرهاب

كرست الهدنة على الأرض اختزال القضية السياسية السورية بملف مكافحة الإرهاب، والسعي لتقديمه على حساب الإشكالية الحقيقية المتمثلة بحضور الأسد، الأمر الذي انعكس في محاولات إخضاع المقاربات السياسية وتفاصيل العملية التفاوضية في جنيف لمدخل مكافحة الإرهاب وأولوياته، مما ساهم بشكل كبير في خلق حالة تعطيلية في مسار المفاوضات السياسية.

4.    استراتيجية جديدة للتنظيم

بحكم استثنائه من الهدنة ونقل الصراع إلى مجال مكافحة الإرهاب، تحوَّل تنظيم الدولة "الإسلامية" إلى هدف معلن لجميع الفاعليين على الأرض، ما فرض على التنظيم تغيير الاستراتيجية العسكرية لتحركاته، والتي بدت خلال الهدنة أنها قائمة على تجنب الفاعلية العسكرية الأقوى، والمتمثلة بقوات نظام الأسد والمليشيات الشيعية وما يؤمَّن لهما من غطاء جوي روسي، إضافة لقوى "سوريا الديمقراطية" وما يؤمَّن لها من غطاء جوي أمريكي، والتوجه إلى الجهة الأضعف عسكرياً، والتي مثلتها مجاميع المعارضة المسلحة، وهذا ما يُفسر انسحاب التنظيم من تدمر وهجماته في ريف حلب الشمالي.

5.    النصرة كإشكالية متنقلة

أدى استثناء جبهة النصرة من الهدنة دون وضع قواعد وآليات محكمة لاستهدافها إلى خلق إشكالية متنقلة في جسد المعارضة العسكرية، نتيجة لتداخل نفوذ النصرة مع أغلب جبهات المعارضة. وقد أدت هذه السيولة إلى تأمين غطاء الشرعية الدولية لاستهدافها من قبل قوات نظام الأسد وموسكو، وإحداث ارتباك حقيقي بين صفوف المعارضة نتيجة عدم وجود أي آليات للتعاطي مع هذا الواقع الجديد. ومن هنا يمكن استنتاج إصرار الروس وبعض الأطراف الدولية في فيينا على استثناء جبهة النصرة من الهدنة، على الرغم من إدراك واقع الأرض المعقد والمتشابك وتحديداً في الشمال السوري، ولكن يبدو أنه كان لابد من تثبيت هدنة تحتمل الخرق على شماعة النصرة.

6. اختبار الخطط البديلة PLAN B

أكدت الخروقات المتكررة للهدنة من قبل نظام الأسد -وخاصة الحملة الأخيرة على حلب التي هددتها بشكل مباشر، إضافة لتعثر المفاوضات السياسية وعدم التعاطي بجدية معها- على عدم وجود أي خطة بديلة PLAN B لدى الفاعلين الدوليين الداعمين للثورة، حيث أظهرت ارتباكاً حقيقياً، وتحديداً أمام الأجندة الإيرانية، واضحة المعالم كبديل للهدنة والقائمة على الحسم العسكري واستعادة المناطق الاستراتيجية من المعارضة وتحديداً  حلب، مما جعل من الهدنة غطاء حقيقياً استثمره الإيرانيون ونظام الأسد لاستكمال استراتيجيتهم بأدوات مختلفة، بل سَعَوا لتطويع الحضور الروسي ضمن هذ الاستراتيجية ما زاد مؤشرات التنافس بين موسكو وطهران.

7. موسكو وطهران ومؤشرات التنافس

كشّفت الهدنة وما شهدته من تطورات عسكرية على الأرض، عن تصاعد مؤشرات التنافس بين موسكو وطهران في الملف السوري، وتحديداً في حلب، والذي لم يصل لدرجة التضارب ولكن بات يبدو بشكل واضح تنافساً حول التصور المختلف لطبيعة الحل السياسي لكل من الطرفين. ويبدو من هذا التنافس أن الأسد إلى الآن يستفيد من هوامشه مع الاقتراب بشكل أكبر من الأجندة الإيرانية ومحاولة تجاوز الالتزام الروسي بالهدنة في حلب. ولعل خسارة الأسد والإيرانيين التي بدأت في "تل العيس" وانتهت في "خان طومان" بريف حلب الجنوبي، وهي مناطق نفوذ المليشيات الإيرانية؛ مثّلت رسالة واضحة من الروس لعدم تدخلهم في نجدة النظام، بأن الدعم الروسي أساس للصمود والتقدم، وهي الرسالة التي سبقها تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بأن "الأسد ليس حليفنا"، في محاولات سعي موسكو لتقديم نفسها كراعٍ للحل السياسي وليس طرفاً تابعاً للأجندة الإيرانية. انظر الخريطة رقم (1)

خريطة رقم (1) توضح مواقع النفوذ والسيطرة – ريف حلب الجنوبي – 10 أيار 2016


8. ضعف استراتيجية المعارضة

عادت الهدنة من جديد لتؤكد على مجموعة من نقاط الضعف في بنى المعارضة العسكرية على مستوى عدم وضوح الاستراتيجية الدفاعية لصد الخروقات أو على مستوى الردود التكتيكية، ما حال بينها وبين استثمار الهدنة لصالحها، وهذا ما انعكس في خلافات القوى العسكرية في الغوطة الشرقية (جيش الإسلام/فيلق الرحمن)، إضافة للتحركات غير المحسوبة في ريف حلب الشمالي. ويُقابل ذلك التعثر نهج أكثر وضوحاً لنظام الأسد، والذي طوع عبره الهدنة والعملية السياسة كغطاء لتحركات وخروقات عسكرية لا تبدو عبثية بقدر ما تبدو مدروسة، إذ توزعت خروقات النظام على عدة مستويات، أبرزها:

- خروقات استنزافية تهدف إلى استنزاف فصائل المعارضة العسكرية فقط، كمعارك الساحل الأخيرة والقصف المتواصل على جبال الأكراد والتركمان.
- خروقات للضغط السياسي كالمجازر التي ارتكبتها قوات الأسد في مدينتي كفرنبل ومعرة النعمان، إثر إعلان الهيئة العليا للتفاوض عن تعليق مشاركتها في مفاوضات جنيف.
- خروقات استراتيجية تمثلت في الحملة الأخيرة على حلب والسعي لحصارها وإبعادها خارج نطاق الهدنة.

إن مجمل تلك الوقائع التي أفرزتها الهدنة وتقاطعها مع الظرف الإقليمي والدولي، تبدو بأنها تصب في مصلحة الأسد وحلفائه، والذين يسعون للتماهي معها واستثمارها عبر عدة أدوات سياسية وعسكرية، أبرزها:

1.    الهدن المحلية التي يتبعها نظام الأسد في محيط دمشق، لضبط حزام العاصمة.
2.     الاعتماد على الخروقات المنظمة خارج هذا الحزام لاستنزاف قوى المعارضة.
3.    استثمار الفاعلية الروسية للتوسع في مناطق تنظيم الدولة وتقديم نفسه كشريك في مكافحة الإرهاب.
4.    استخدام أدوات التعطيل السياسي في جنيف، سواء عبر سياسة الإغراق بالتفاصيل التي يتبعها النظام، أو بعض المنصات التي ساهم بتشكيلها لخرق جسد المعارضة (حميميم، الأستانة، القاهرة).
5.    استغلال المزاج الدولي القائم على تراجع الفاعلية الأمريكية في الملف السوري وتقارب وجهة نظر واشنطن وموسكو لتصور الحل السياسي، والقلق الأوروبي إزاء مكافحة الإرهاب وملف اللاجئين، وتراجع الفاعلية العربية نتيجة

تعقد ملفات دول الربيع العربي والدعم من بعض الأنظمة العربية، إضافة إلى رضى حذر من تل أبيب إزاء هذا الوقع المعقد في سورية والاكتفاء بمنطقة آمنة في الجنوب، وانحسار وارتباك أدوات المحور الثلاثي (تركيا، السعودية) أمام الحاجز الأمريكي الروسي.

إن ما يلجأ إليه الأسد وحلفائه ولايزالون خلال فترة سريان الهدنة؛ يضع المعارضة السورية أمام تحديات جمة على كل الصعد، ويفرض عليها ديناميات داخلية لتحرك فعَّال على المستوى التكتيكي والاستراتيجي، فبقدر ما تمثله المرحلة المقبلة من محاولات تضييق لأفق المعارضة؛ إلا أنها لاتزال تؤمن هامش تحرك حقيقي قد يحوِّلها من طرف متأثر إلى طرف مؤثر في الواقع الذي لايزال قيد التشكل.

ثانياً: هوامش تحرك المعارضة السورية

إن محاولات تثبيت الهدنة وفرض خارطة طريق في القرار 2254 لا يمثل بداية حل للأزمة السورية، بقدر ما يُنذر بنقل الصراع إلى صُعد مختلفة تماماً، وتشكيل واقع جديد يتناسب ووجهة النظر الأمريكية الروسية (قيد التشكل)، الأمر الذي يتطلب من المعارضة تغيير الأدوات واستحداث أخرى تتناسب والظرف القائم، والذي يُمثل تهديداً حقيقياً للثورة السورية. إن هذا يفرض على المعارضة التحرك على عدة مستويات واستغلال ما يتاح لها من هوامش التجاذبات الدولية وخلق أخرى تصب في صالح الثورة، ولعل أبرز التحركات التي يفرضها واقع الهدنة -وما سبقه وما قد يتلوه-على المعارضة السورية، تتمثل فيما يلي:

1.    على المستوى العسكري

•    تشكيل غرف عمليات مشتركة على مستوى المحافظات ومحاولة استثمار الهدنة لإعادة هيكلية حقيقية وتدعيم نقاط الضعف في جسد المعارضة وتقوية نقاط الاشتباك مع النظام.
•    رسم سيناريوهات جاهزة للخروقات المحتملة للهدنة من قبل نظام الأسد، وتحديد أساليب وآليات الرد وفقاً لتحديد نقاط ضعف النظام والجبهات الأقوى للمعارضة، بحيث تخرج الردود على الخروقات من خانة ردَّات الفعل لتقترب من الاستراتيجية، ومن الحالة الدفاعية إلى الهجومية.
•    استثمار الهدنة للتوسع وكسب أراضٍ جديدة على حساب تنظيم الدولة، لإبعاد خطر شن حملات مشتركة "تخادم" بين نظام الأسد والتنظيم على مناطق المعارضة. ويمكن أن يتم ذلك عبر توجيه فاعلية عسكرية منظمة باتجاه مناطق سيطرة التنظيم، والسعي لاحتكار نقاط الاشتباك معه وتعزيزها، لتأمين مناطق نفوذ للمعارضة بالدرجة الأولى، وقطع الطريق على القوى الساعية لاحتكار نقاط الاشتباك مع التنظيم استعداداً لمرحلة مكافحة الإرهاب.
•    محاولة التوصل إلى اتفاق مع جبهة النصرة، يضمن إبعاد تجمعات عناصرها ومقراتها الرئيسية عن مناطق المدنيين، وذلك لسحب ذريعة قصف المدنيين بحجة مكافحة الإرهاب.
•    مقاومة محاولات تجزئة الهدنة من قبل النظام وحلفائه وسياسة الاستفراد بالمناطق، كالمحاولات الأخيرة للدفع بحلب خارج طوق الهدنة، ما يفرض على المعارضة العسكرية التعاطي مع الهدنة بشكل شامل جغرافياً، كإشغال عدة جبهات لفرض عودة جبهة واحدة إلى الهدنة. وهنا يبرز أهمية تشكيل غرف العمليات على مستوى المحافظات ورفع وتيرة التنسيق العسكري البيني. بالمقابل فإن المعارضة السياسية تمتلك في مواجهة استراتيجية تجزئة الهدنة أدوات التعطيل السياسي عبر تعليق المشاركة في المفاوضات أو الانسحاب منها.

2.    على المستوى السياسي

•    السعي دولياً لاستثمار عدم تطابق الرؤى الإيرانية -الروسية حول مستقبل سورية السياسي، والاستفادة من هوامش التنافس بين موسكو وطهران في هذا الإطار، ما يفرض على المعارضة التحرك باتجاه الانفتاح الجزئي على موسكو، خاصة وأن وجهة النظر الروسية تكاد تتماهى مع الأمريكية، وتحول الروس إلى فاعل لا يمكن تجاوزه في الملف السوري.
•    استثمار الموقف الأوروبي (بريطانيا، ألمانيا، فرنسا) باتجاه زيادة الضغط من خلال الملف الإنساني ضمن التفاوض، وترجمة خروقات النظام خلال الهدنة وما تخللها من جرائم الحرب إلى قرارات دولية صادرة عن مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، بدعم تلك الدول.
•    الدفع باتجاه ضغط سعودي على النظام المصري، لاستثمار ترأس جمهورية مصر العربية لمجلس الأمن في الشهر الحالي، لإحالة خروقات النظام والملف الإنساني إلى مجلس الأمن، علماً أن المندوب المصري قد عطّل اقتراح بريطانيا وفرنسا لإحالة ملف حلب إلى مجلس الأمن.
•    الدفع باتجاه قيام المملكة العربية السعودية بضبط موقف عربي موحد، يعترف بالهيئة العليا للتفاوض كممثل شرعي وحيد للشعب السوري في المفاوضات، ومنع تشكُّل محور لدى بعض الدول العربية يقترب من المشروع الروسي للحل عبر منصات بديلة.
•    سعي الائتلاف والهيئة العليا للتفاوض لقطع الطريق على أي محاولة من المنصات السياسية المستحدثة في جنيف (حميميم، الأستانة، القاهرة، مجلس المرأة الاستشاري)، لإحداث أي شرخ داخل جسد الهيئة، وذلك عبر تدعيم بنية الهيئة، وحشد الشارع السوري من خلال تظاهرات في الداخل ودول الشتات، لإعلان أن الهيئة العليا هي الممثل الشرعي الوحيد عن الثورة السورية في مفاوضات جنيف.

3.    على المستوى الاستراتيجي

طالما أن المزاج الدولي يسير باتجاه إدارة الأزمة وتطويقها عبر الهدنة لأمد متوسط على الأقل؛ فهذا يفرض تعزيز إدارة المناطق المحررة بشكل فعَّال، عبر زيادة تمكين القوى المحلية المدنية، المتمثلة بالمجالس المحلية والسعي لشرعنتها دولياً. وتُعتبر هذه الخطوة مُلحة واستراتيجية بالنسبة للمعارضة لعدة أسباب أبرزها:
أ‌.    تسيير وخدمة شؤون المدنيين في ظل أزمة قد تطول، مما يعزز شرعية المجالس التي تستند أصلاً لسلطة الشعب انتخاباً أو توافقاً.
ب‌.    تأمين شرعية دولية للمناطق المحرّرة، عبر القوى المحلية المدنية على الأرض.
ت‌.    إعادة تشغيل مؤسسات الدولة الإدارية، بعد أن دمرها قصف النظام، كخطوة على طريق استعادة وظائف الدولة، وسحب ذريعتها من نظام الأسد.
ث‌.    تفريغ الفصائل العسكرية لمهامها الأساسية في حماية الجبهات وليس الإدارة المدنية.

إلا أن هذه الخطوة تفرض على المعارضة السورية توحيد أطر العمل السياسي العسكري وتوجيهها لدعم القوى المدنية، ما يستوجب على الفصائل العسكرية التنازل عن بعض المهام المدنية التي سيطرت عليها، وإعادة تسليمها إلى المجتمع المدني والتفرغ للجبهات. وقد يساعد في ذلك تشكيل غرف العمليات على مستوى المحافظات، إذ أن نظام القطاعات "الجبهات" ما يزال يعوق تحرك قوى المجتمع المدني، نتيجة تشابك السلطات والنفوذ وفقاً لهذا النظام. بالمقابل لابد من سعي حقيقي من المعارضة السياسية (الهيئة العليا للمفاوضات، الائتلاف الوطني) لحشد دولي سياسي للاعتراف بشرعية المجالس المحلية في الهيئات والمنظمات الدولية، (جامعة الدول العربية، مجلس التعاون الخليجي، مجموعة أصدقاء الشعب السوري، منظمة التعاون الإسلامي) كإدارة مدنية شرعية للأراضي المحررة.

إن إحداث أي تغيير في سياق واقع ما بعد الهدنة، والذي يبدو أنه يسير باتجاه الثبات النسبي، لا يمكن أن يتم قبل تغيير داخلي وحقيقي في استراتيجية المعارضة السورية، عبر دينامية داخلية تفرض نفسها بشكل حقيقي على معادلة التدافع الدولي، مستندة في ذلك إلى تدعيم القرار المركزي –العسكري السياسي-على المستوى الوطني والذي تمت خسارته لصالح عدة أطراف.

إن أساس هذه الدينامية هو الإيمان بالعمل المؤسساتي واليقين أنه الطريق الأكثر نجاعة لإحداث فرق في مسار الثورة السورية ضمن هذه المرحلة الحرجة، والانطلاق من حقيقة أن الثورة هي جزء من التغيير وليست هي التغيير، وإنما هناك آليات ومراحل أخرى لا تكتمل مسيرة التغيير دونها، ولا تقل صعوبة عن الثورة ذاتها.

التصنيف تقدير الموقف

تزامناً مع الذكرى الخامسة لانطلاق الثورة السورية، يطلق مركز عمران للدراسات الاستراتيجية كتابه السنوي الثاني، متضمناً عدة دراسات تعنى بأهم تحولات وتحديات الملف السوري، من إعداد مسارات المركز الثلاثة السياسة والعلاقات الدولية، الإدارة المحلية وتعزيز الممارسة الديمقراطية، والتنمية والاقتصاد.

يقدم مسار السياسة والعلاقات الدولية دراستين، الأولى بعنوان "الارتدادات الأمنية للسلوك الدولي والإقليمي في سورية... دراسة تحليلية"، وتفكك سياسات أهم الفاعلين الإقليميين والدوليين تجاه الملف السوري، متلمسةً أهم التداعيات الأمنية لهذه السياسات على معادلات الأمن المحلي والإقليمي، أما الدراسة الثانية، فكانت بعنوان "الإرهاب كمدخل في وأد الثورة السورية... دراسة سياسات"، وتبين حركية "الإرهاب" في المشهد السوري وأثر سلوكيات الفواعل الرئيسة على تناميه، وتستشرف مستويات "الإرهاب" الذي قد تواجهه المعارضة السورية "كخطر" في مختلف مراحل الانتقال السياسي، وترسم ملامح التحرك الاستراتيجي الأمثل تجاه تلك المستويات.

يقدم هذا الكتاب ضمن مسار الإدارة المحلية وتعزيز الممارسة الديمقراطية، دراسة بعنوان "خيارات اللامركزية وامتحان إعادة بناء الدولة في سورية"، تناولت بالتحليل أنماط الإدارة المحلية في سورية، ومعالم نموذج مقترح للإدارة المحلية، وتحديات المرحلة الحالية والانتقالية.

وضمن مسار التنمية والاقتصاد يمكنكم مطالعة دراسة بعنوان "التنمية الاقتصادية المحلية ضرورة للاستقرار الاجتماعي في سورية: دراسة تحليلية"، تركز على واقع التنمية الاقتصادية في المناطق المحررة وتستشرف الأولويات الأساسية لمستقبل اقتصادات هذه المناطق في عام 2016، من خلال تصميم برامج مناسبة تسهم بمجموعها في تحقيق أهداف هذه التنمية.

 

 

التصنيف الكتب

ملخص: رغم تأطير القرار الدولي الجديد لشكل عملية سياسية غير ناضجة، إلا أنه قد كرس عجز المنظومة الدولية مرة أخرى حيال نصرة القضية المجتمعية السورية من خلال اعتماده على ملفات مؤجلة لم تحسم بعد مؤثرة على سير هذه العملية وآلياتها التنفيذية، كما أنه وبذات السياق لم يلغِ هذا القرار الهوامش المتاحة لتحسين التموضع لجميع الأطراف.

صوت وزراء خارجية الدول الأعضاء في مجلس الأمن وبحضور الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون والمبعوث الدولي إلى سوريا ستافان دي مستورا، بالإجماع على مشروع قرار بشأن "عملية السلام في سورية" رقم 2254 حيث شمل القرار الذي تقدمت به الولايات المتحدة وقف دائم لإطلاق النار من خلال جهود الدول صاحبة التأثير على النظام السوري والمعارضة ضمن خطة تنفيذ لعملية سلام وفق أسس سياسية تضم تشكيل هيئة حكم انتقالية جامعة في غضون 6 أشهر وإجراء انتخابات خلال 18 شهر بعد أن تتم صياغة دستور جديد لا يستند إلى أسس طائفية تحت إشراف ومراقبة من الأمم المتحدة، كما يضم القرار على إجراءات بناء ثقة كفتح ممرات إنسانية والسماح للمنظمات الإنسانية بالوصول السريع والآمن إلى جميع أنحاء سوريا والإفراج عن المعتقلين بشكل تعسفي وخاصة النساء والأطفال منهم، كما طالب القرار بتوقف جميع الأطراف عن تنفيذ أي هجمات ضد المدنيين والمرافق الحيوية والطبية وفرق العمل الإنساني , وشمل القرار عودة النازحين داخلياً إلى منازلهم وإعادة تأهيل المناطق المتضررة وتقديم المساعدة للدول المستضيفة للاجئين .فيما أشار القرار إلى وجوب تقديم تقرير سريع خلال شهر واحد من بدء تطبيق القرار من قبل الأمم المتحدة إلى مجلس الأمن حول الالتزام بتنفيذ البنود المذكورة.

إشكاليات القرار 2254

بُني هذا القرار وفق الحدود الدنيا للقواعد المشتركة بين الفواعل الإقليمية والدولية وبصيغ فضفاضة تقبل التأويل والتفسير متعدد الوجوه، مما يؤكد على أن الجهودات الدبلوماسية والسياسية المبذولة في هذا الصدد قد حاولت تكريس معطيات تعيد الزخم لـ "أمل الحل السياسي" الذي استعصت مساراته بعد جنيف، وتدفع بالخلافات إلى الأمام. ورغم هذا الحد الأدنى إلا أنه يحتوي على إشكالات عدة نذكر منها:   

•    ينص القرار على إنشاء هيئة حكم انتقالي جامعة تخول سلطات تنفيذية كاملة، وتمكن المشكلة في تحديد الجهة المخولة، حيث تحتمل هذه النقطة آليتين. الآلية الأولى وهي قيام مجلس الأمن بتفويض الهيئة كامل الصلاحيات، وهي الآلية الأمثل لضبط سير العملية السياسية، أمّا الثانية فهي قيام بشار الأسد كرئيس للبلاد بالتنازل بصلاحياته لصالح هذه الهيئة، وهو أمر مستبعد بناءً على تجربة السنوات الخمس الماضية. إن الغموض الذي يعتري هذا البند يعد نقطة ضعف رئيسية في القرار حيث إنها تحتمل عدة تفسيرات وتعتبر موضع خلاف دولي.
•    غموض مقصود لدور بشار الأسد في كافة بنود القرار، حيث فشل في تحديد دوره أثناء وبعد المرحلة الانتقالية (وهذا عائد للاختلاف الدولي حول هذه الإشكالية)، وتعمد إرجاء البت فيها لسير العملية السياسية وهذا بحد ذاته إشكال مركب يهدد العملية السياسية برمتها.
•    رغم إثناء القرار على جهود الرياض في تشكيل وفد مفاوض من المعارضة السورية، إلا أنه أحاط بالاجتماعات التي عقدت في موسكو والقاهرة، مما يشير إلى تعمد التشكيك في شمولية التمثيل في الهيئة العليا للمفاوضات من جهة، وتهيئتها للتوسع غير العضوي من جهة أخرى (الدفع نحو إشراك حزب الاتحاد الديموقراطي PYD). كما أنه فوّض مهمة إتمام تشكيل وفد المعارضة المفاوض للمبعوث الدولي الخاص استافان دي مستورا، كما عمد لإرضاء روسيا وحلفائها إذ فتح المجال أمام إمكانية توسيع الفريق المفاوض ليضم أطرافاً معارضة معينة، وإن كان هذا الأمر مستبعداً، بسبب طبيعة صياغة كل من الفقرتين.
•    عبّر نص القرار 2254 عن ارتباط وثيق بين وقف إطلاق النار في سورية والعملية السياسية، إلّا أنه وصف الأخيرة بالمسار الموازي، وحدد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ تزامناً مع الخطوات الأولى نحو انتقال سياسي. وتحتمل هذه النقطة تأويلات متعددة، أكثرها تهديداً اعتبار بدء المفاوضات أولى هذه الخطوات، مما يفضي إلى فصل نتائج العملية السياسية عن وقف إطلاق النار، ونزع أهم ورقة تفاوضية من يد الثوار قبل ضمان تحقق مطالب الثورة.
•    لم يحدد القرار آليات مراقبة وقف إطلاق النار، حيث طلب من الأمين العام تقديم خيارات متاحة لهذا الغرض وذلك خلال فترة أقصاها شهر. إن فشل مجلس الأمن في تحديد آلية تشكيل وفد مراقبين دوليين كما فعل مع خطة التقاط الست (كوفي أنان) يترك المجال نحو خيارات غير موضوعية كتشكيل فرق مراقبة محلية من المجتمع المدني والهيئات المدنية التمثيلية لدى طرفي النزاع.
•    أهم ما يعتري هذا إقرار غياب آليات الإلزام سواء المتعلقة بالعملية السياسية أو رصد وقف إطلاق النار والتحقق منه، مما يحافظ على قدرة نظام الأسد في الاستمرار بتعطيل العملية التفاوضية تكراراً لسلوكه أثناء جنيف، أو تلك المتعلقة بتدابير الثقة في شكل توصيات غير ملزمة وبلا عقوبات في حال التنصل منها، والتي لا بد منها كخطوة استباقية للتفاوض، كاستخدام الأسلحة العشوائية ضد المدنيين، بما في ذلك البراميل المتفجرة، والسماح بوصول قوافل المساعدات دون قيد أو شرط ودون عوائق، ووقف الهجمات على المرافق الطبية والتعليمية، ورفع جميع القيود المفروضة على الإمدادات الطبية والجراحية من القوافل الإنسانية. والإفراج عن جميع المعتقلين.
•    حافظ القرار على قدرة المجموعة الدولية في توظيف ورقة تصنيف المجموعات الإرهابية كمحرك لمجموع القوى الثورية، مما يمنع من تشكل مناخ ثقة لدى الثوار من المشاركة في العملية السياسية، كما أنّها فشلت في ترميم الهوة بين الأطراف الإقليمية مرجئةً خلافاتها إلى حين.
وبعبارة تقييمية جامعة، يمكن القول: إن مجلس الأمن قد فشل في حل الإشكالات الموروثة عن جنيف، وأبقى على الخلاف الدولي حول تأويلها، في حين أنه نجح في اعتماد جدول زمني للعملية السياسية فقط دون البت في آليات تطبيقه وتنفيذه.

توصيات سياسية وعسكرية

لا تمتلك الهيئة العليا للتفاوض ترف رفض المشاركة في جولة جديدة من المفاوضات مع النظام رغم غياب ضمانات دولية لتحقق عملية سياسية جادة، فإجماع مجلس الأمن على ضرورة سير مسار فيينا يدلل على مضي المجتمع الدولي في جمع المعارضة السياسية والنظام على طاولة التفاوض في شهر كانون الثاني من العام المقبل. لذا على المعارضة المضي قدماً نحو الاشتراك باستراتيجية عمل واضحة تتسق مع مطالب الثورة وذلك عبر تبني سياسات تنسيق عالية مع المرجعيات المشكلة لهذه الهيئة لا سيما الائتلاف الوطني والأجسام العسكرية الفاعلة، ومقدمة في هذا السياق رؤية المعارضة السورية للنقاط الإشكالية في القرار وآليات التعامل المثلى، كالتالي:

1.    التأكيد على تحديد مجلس الأمن كضامن لسير العملية السياسية بشكل العام، واعتباره الجهة الوحيدة المخولة في تفويض الصلاحيات التنفيذية الكاملة لهيئة الحكم الانتقالي.
2.    التأكيد على تزامن رحيل بشار الأسد مع إعلان تشكيل هيئة حكم انتقالي، والعمل دون عودته للعب دور سياسي في مستقبل سورية من خلال الحصول على ضمانات دولية تمنع الأخير من الترشح إلى أي منصب سياسي أثناء وبعد المرحلة الانتقالية.
3.    اعتبار بيان الرياض المؤسس للهيئة العليا للتفاوض شرطاً لازماً لأي توسعة غير عضوية، سوءاً كانت استجابةً لطلب دولي أو لضرورات تميلها العملية السياسية.
4.    الإصرار على تشكيل بعثة مراقبين دوليين، وتحميل الأمم المتحدة مسؤولية تنفيذ الاتفاق ومراقبته لضمان تنفيذه دون حدوث خروقات غير موثقة من قبل النظام، والتأكيد أن الهدن المحلية لن تمثل بجموعها بديلاً عن اتفاق شامل على المستوى الوطني، فيما يعتبر أي اتفاق مبدئي لا يلزم بقرار من مجلس الأمن حتى تتشكل هيئة حكم انتقالي. وبناءً عليه يتم تنفيذ قرار وقف إطلاق النار بالشكل التالي:

5.    العمل على تأهيل المجالس المحلية لمهام رصد وقف إطلاق النار تحسباً لفشل خيار إلزام الأمم المتحدة بإرسال بعثة مراقبين دوليين.
6.    تحرك سياسي ودبلوماسي للهيئة العليا للتفاوض والأجسام السياسية والعسكرية المشكلة لها من خلال خطة مضبوطة تراعي تحقيق حشد الدول "الصديقة" في مواقف مشتركة حيال القضايا الخلافية المؤجلة في قرار مجلس الأمن، وتبني هذه الدول لسياساتها ومرجعيتها التفاوضية، ويرافق هذا التحرك أداء إعلامي يؤكد على مطالب الثورة الأساسية وعدم التنازل عنها مهما كان الظرف السياسي أو العسكري المرافق.
كما يتوجب على قوى المقاومة الوطنية المسلحة القيام بحزمة الإجراءات التالية:
1.    الاستمرار بالأعمال العسكرية الاستراتيجية وعدم الارتهان لاحتمالية حصول عملية وقف إطلاق نار، والعمل على استمرار الحشد العسكري وارتفاع الجهوزية في حال تم فرض وقف إطلاق نار.
2.    تشكيل قوة عسكرية لتدخل سريع، ذات تشكيل عسكري نظامي وتحظى بثقة جميع كتائب المقاومة الوطنية، ومهمتها الرئيسية جمع أفراد الكتائب العسكرية التي قد تتعثر تحت وطأة الضغوطات الدولية، بالإضافة إلى تشكيلها قوة ردع عسكرية للنظام في حال اخترق الأخير أي اتفاق وقف لإطلاق نار محتمل.
3.    طرد تنظيم الدولة من شمال حلب، تمهيداً لتحرير المدينة بشكل كامل، بالإضافة إلى القضاء على تواجده في جنوب سورية.
4.    الحفاظ على المعابر الحدودية مع كل من تركيا والأردن، وتوكيل مهمة إدارتها إلى هيئة مدنية متخصصة بمساندة قوة عسكرية مركزية.
5.    وقف جميع المحادثات الثنائية مع النظام حول تشكيل هدن محلية، والدفع نحو إتمام اتفاقات وقف إطلاق نار جزئية ومؤقتة في المناطق المحاصرة تراعي الخصوصية للجبهة المحلية وتجهض سياسات النظام الكامنة وراء الهدن، وذلك للتخفيف عن المدنيين وتمهيداً لتطبيق قرارات مجلس الأمن 2139 و2165 و2191.

مما لا شك فيه أن القرار يرسخ ويثبت آليات ونتائج مسار فيينا، منذ انطلاقته، حيث تمت إعادة صياغة تفاهمات فيينا ومخرجاتها ضمن ديباجته ومتنه، كما يشكل هذا القرار تتويجاً وتثبيتاً للدور الروسي الرئيس في قيادة عملية توزيع الأدوار ورسم تصور الحل، بعيداً عن الخلافات في تفسير بيان جنيف الذي صيغ بطريقة "الغموض البناء" ليسمح للقوى الكبرى المشاركة في الصياغة، وبالأخص الروس والأمريكان، بأن يقدم كل منهما رؤيته المنفصلة لتفسير البيان، وبنفس الوقت الفرصة للتراجع والتحايل على هذا التفسير، ليأتي هذا القرار لاحظاً للرؤية الروسية لبيان جنيف.

رغم تأطير القرار الدولي الجديد لشكل عملية سياسية غير ناضجة وبرنامج زمني لها، إلا أنه وبتفكيك تفاصيل هذا القرار المعبرة عن المزاج الدولي نجد أنه قد كرس عجز المنظومة الدولية مرة أخرى حيال نصرة القضية المجتمعية السورية من خلال مراعاة شروط اللاعب الروسي الذي لا تربطه مع نداءات ومطالب المجتمع السوري أو عبر اعتماده على ملفات مؤجلة لم تحسم بعد ولها التأثير الواضح على سير هذه العملية وآلياتها التنفيذية سواءً فيما يتعلق بوقف إطلاق النار  والقوى المستثناة، أو ما يرتبط بإرهاب النظام وميلشياته عبر تجاهله الواضح للعدالة الانتقالية، وبذات السياق لم يلغِ القرار رغم التوافق الروسي والأمريكي الهوامش المتاحة لتحسين التموضع لجميع الأطراف، خاصة وأن الإشكالات الرئيسة لاتزال محط خلاف ولا تنذر المؤشرات بانحسارها.

التصنيف تقدير الموقف
مركز عمران للدراسات الاستراتيجية
ملخص تنفيذي باستمرار الاستهداف الإسرائيلي على الأراضي السورية؛ يُفسر نأي النظام السوري عن الانخراط في…
الجمعة تشرين2/نوفمبر 22
نُشرت في  أوراق بحثية 
يمان زباد
ملخص تنفيذي كان للميليشيات والفصائل في السويداء دوراً أساسياً في المحافظة منذ عام 2015، وذلك…
الإثنين تشرين2/نوفمبر 11
نُشرت في  أوراق بحثية 
محسن المصطفى
أصدر بشار الأسد المرسوم التشريعي رقم 27 بتاريخ 22 أيلول/سبتمبر 2024 ([1]) القاضي بمنح عفو…
الأربعاء تشرين1/أكتوير 30
نُشرت في  مقالات الرأي 
صبا عبد اللطيف
تتعاظم خسارات طهران لأدوات استراتيجيتها الإقليمية في المنطقة والتي كانت تساهم بتموضعها المركزي ضمن النظام…
الأربعاء تشرين1/أكتوير 16
نُشرت في  مقالات الرأي