إن التنوع الاجتماعي من أهم خصائص سوريا الديمغرافية، إلا أن هذا التنوع لا يعكس بالضرورة تفاعلًا وحركة سياسية وثقافية، فقد تعرض لسلسلة من السياسات الإكراهية أسهمت في وضع المجتمع بكليته أو بخصوصيته في أتون عملية استنزاف وانقسام مستمرة وعلى مختلف الصعد، لاسيما في حقبة سيطرة حزب البعث والذي لجأ إلى إدارة الديمغرافيا بسياسات توازن حرجة، هدفها إضعاف ثنائيات التنوع لصالح "طائفة الموالاة للنظام"، وازدادت معدلات التشظي والتهشيم في ظل التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أفرزها الصراع السوري منذ عام 2011.
تحاول هذه الورقة رصد التهشيم الذي تعرض له المجتمع السوري سواء على مستوى الانقسام والتشظي أو على مستوى الإرهاق، جراء الكلف السياسية والاقتصادية والأمنية للصراع في سوريا، وستحاول تلمس انعكاسات ذلك على مستقبل البلد. وتنطلق الورقة من أهمية لحظ: أن الانقسام الذي يحدث في البناء الاجتماعي والسياسي لا ينحصر فقط عبر الخطوط الإثنية والأيديولوجية، وإنما من خلال خطوط سياسية أو اجتماعية وتنموية، وأن تهشم المجتمع يحرم الحلول الهادفة إلى الاستقرار والسلام، من مراعاة مصالح المجتمع، لصالح الحسابات الأمنية للدول الفاعلة ومقارباتها السياسية.
يشهد المجتمع السوري انقسامات وخطوط تمايز متعددة، إما نشأت أو تعززت بفعل النظام وهو المؤثر الأشد، أو نتيجة تطور الأحداث في الميدان أو في إطار القوى الثورية نفسها فضلًا عن تدخلات الخارج.
بقدر ما شكَّلت الثورة السورية على امتداد البلاد لحظة تأسيس مهمة في بلورة خطاب مجتمعي موحد، يتضمن مطالب وحقوقًا واحدة، بقدر ما دفعت النظام وأجهزته الأمنية للمضي قدمًا في مواجهة هذه اللحظة وحواملها، ليجعل منها شرارة تغيير نحو هندسة سياسية واجتماعية، أرادها النظام معززة لبقائه. فمنذ الأيام الأولى للحراك الثوري سيَّر النظام "مسيرات حاشدة" لمؤيديه(1)، وبغض النظر عن آليات الحشد وما احتوته من ترهيب وترغيب إلا أنها كانت إعلانًا مبكرًا لانقسام اجتماعي ثلاثي: مجتمع ثائر، ومجتمع موالي ويمثل أصحاب المصلحة من كل الأديان والأعراق مع وضوح جلي للطائفة العلوية فيه، ومجتمع حيادي (أو ما يُعرف بالصامت)، وهي كتلة مجتمعية وازنة وثقلها الرئيسي في المدن الكبرى(2).
ومع تعدد مستويات التعبير الثوري الذي أضحى يركز على الأدوات المسلحة، ومع عدم استطاعة الثوار السلميين في السيطرة على مراكز المدن، واجه المجتمع السوري تحدي الانقسام الحاد بين قرى وبلدات ثائرة وأخرى موالية، دون أن تظهر مؤشرات ذات دلالة لحرب أهلية آنذاك، رغم وضوح "الهوية السُّنِّية" للمناطق الثائرة والتي شهدت إلى جانب تشكيل الجيش الحر تأسيس فصائل ومجموعات إسلامية، حاول النظام عبر الأذرع الإعلامية والسياسية استغلالها لتدعم سرديته ضد الثورة منذ الأيام الأولى، باعتبارها سعيًا للإمارة السلفية(3). إلا أنه مع تغلب منطق المعارك العسكرية على الأحداث السورية واعتماد الجيش الحر والفصائل المسلحة منذ منتصف 2012 عقيدة هجومية (لم تعد فقط لمواجهة الحملات الأمنية الكبرى للجيش أو لحماية المظاهرات)، بدأت خارطة السيطرة تتبدل بشكل متزايد لصالح الجيش الحر والفصائل الإسلامية. خاصة بعد فشل مساعي الحل السياسي ولجوء الدول الداعمة للطرفين إلى الاستثمار بالحل العسكري؛ وهو أمرٌ أدى إلى ظهور مؤشرات استنزاف رئيسية في البنية البشرية للمؤسسة العسكرية، جرَّاء عمليات الاستهداف العسكري أو الانشقاق المتزايد، وقد حاول النظام تغطيتها بميليشيات محلية وأجنبية مساندة. وهذه الأخيرة أسهمت من جهة أولى في تكّون طبقة اجتماعية عسكرية "شيعية أجنبية-محلية" جرَّاء تفاعل الميليشيات الأجنبية والمحلية "الشيعية" في عدة مدن وبلدات سورية تحت سيطرة النظام، كالميليشيات العراقية والباكستانية والأفغانية واللبنانية وقوات الدفاع المحلي. ومن جهة ثانية أسهمت في زيادة التقسيمات داخل البنية السورية التي أضحت عرضة للجذب من قبل عدة مشاريع أيديولوجية وطائفية وسياسية حملتها تلك الميليشيات(4). ويمكن عنونة هذا التقسيم بالطبقات الاجتماعية "المسلحة"، وتجلى في عدة مستويات:
أولها: "المجتمع الموالي المسلح"، ونما بحكم شبكة العلاقات والمصالح التي ترافقت مع ظهور بنى ووحدات عسكرية "رديفة" أنشأها النظام وباتت حينها عنصرًا أمنيًّا مؤثرًا بالمشهد.
ثانيها: "الطبقة السياسية المسلحة"، باعتبارها مؤشرًا نوعيًّا جديدًا، استطاع أن يضمن الممارسة السياسية للقوى الحزبية الموالية بأدوات عسكرية، فأضحت مشروعًا متعدد الأدوات: مثل كتائب البعث، ونسور الزوبعة، وهي الجناح العسكري للحزب القومي السوري الاجتماعي والحرس القومي العربي وتضم "قوميين" محليين ومن عدة بلدان عربية، و"المقاومة السورية" وتحمل عقيدة ماركسية-لينينية(5).
ثالثها: "الأقلية الدينية"؛ حيث استحدثت ميليشيات مسيحية ودرزية لزيادة مؤشرات الانقسام داخل المكون الدرزي والمسيحي، مثل: جيش الموحدين وميليشيا "حماة الديار" في السويداء، وقوات "سوتورو" (حزب الاتحاد السرياني) في القامشلي، و"قوات الغضب" في محافظة السقيلبية في ريف حمص.
والمستوى الرابع استهدف البنية الفلسطينية التي كانت جزءًا متفاعلًا ومنصهرًا في الحياة الاجتماعية السورية؛ حيث أدى تأسيس ميليشيات فلسطينية داعمة للنظام إلى إحداث شرخ واضح بين خطوط التمايز الفلسطيني الذي كانت ترسمه فواعله السياسية، فناهيك عن دور حلفاء النظام التقليديين (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -القيادة العامة، وفتح الانتفاضة، وقوات الصاعقة وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، والحزب الفلسطيني الديمقراطي -سرايا العودة والتحرير) في تعزيز الانقسام في المجتمع الفلسطيني إلى موال للنظام في مواجهة المؤيد للثورة، فإنهم أنشؤوا ميليشيات فلسطينية أخرى مثل قوات الجليل ولواء القدس في محافظة حلب، وجيش التحرير الفلسطيني ويقوده طارق الخضرة -يختلف عن جيش التحرير الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير- ويضم ثلاثة ألوية، وهي: "قوات حطين" و"قوات أجنادين" و"قوات القادسية"(6).
وهناك أيضًا انقسامات وتمايزات خاصة بمناطق محددة، أسهمت في إنتاجها التطورات الميدانية؛ حيث أسهم تطور الأحداث خلال عامي 2014 و2015 وبعد فشل المفاوضات الكردية-الكردية في مدينة أربيل ومدينة القامشلي في تبلور مشروع الإدارة الذاتية في مناطق شمال شرقي سوريا(7)، وانقسم المجتمع في تلك المناطق وفق ثلاثة اتجاهات سياسية-اجتماعية:
وهناك أيضًا تمايزات وانقسامات داخل قوى الثورة والمعارضة، واتضحت معالمها بعد تنامي مؤشرين اثنين:
ومنذ عام 2018 الذي شهد انخفاض معدلات العسكرة في سوريا، يُظهر التدقيق في الوضع الاجتماعي السوري، بوضوح، تأثره بالقوى المحلية والدولية المسيطرة على كل منطقة، لنصبح أمام بنى اجتماعية سورية متباينة في أهدافها، كالبنى الخاضعة لسيطرة النظام، وتلك الموجودة في مناطق السيطرة التركية، وأخرى في محافظتي درعا والسويداء، ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، فضلًا عن السوريين في مخيمات اللجوء المحاذية للحدود التركية، وداخل تركيا. وكذلك في الأردن ولبنان، وصولًا إلى السوريين في دول اللجوء المستقر في بعض الدول الأوروبية وأميركا وكندا.
ومع تعزيز مؤشرات ترسيخ التبدل الديمغرافي في سوريا يتعمق الانقسام السوري في ظل استدامة ديناميات التجميد التي حولت مناطق النفوذ إلى مناطق حكم محلية تمتلك كافة المسببات لتحولها لمناطق انقسام اجتماعي.
منذ عام 2018، والمشهد السوري عمومًا يسير ضمن سيناريو التجميد وتعزز التمترس الجغرافي للقوى السورية الفاعلة، وتعززت العوامل المثبتة لهذا السيناريو بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وما أفرزه من إعادة ترتيب الأولويات في الملفات الدولية ليتراجع الاهتمام بسوريا، كما شكَّل تحقيق مكاسب أمنية للدول الفاعلة وما وفره من "طمأنينة" معقولة لأمنها القومي، عاملًا مهمًّا في عدم مضي تلك الدول قدمًا في مسار التوافق السياسي. إلا أن هذا لا يعني سيطرة "السكون السياسي والأمني" على المشهد العام، بل هو انتقال باتجاه ملفات ما دون سياسية، وسيشكِّل التراكم فيها نقاط تفاوض سياسية مستقبلية. ولهذا الانتقال بطبيعة الحال أثره على البنية المجتمعية، وهو ما يمكن تلمس أثره المباشر في الأزمات المعيشية، وأثره غير المباشر في عدم مقاومة الانزياحات والانقسامات التي اعترت هذه البنية، وعدم القدرة على توفير بيئة آمنة توقف استمرار الاستنزاف البشري على أقل تقدير، وذلك وفق ما تُظهره الديناميات الناظمة للمشهد السوري منذ عام 2018:
أولًا: مشاريع "تعافٍ" علاجية: في ظل ثبات الحدود الفاصلة بين مناطق النفوذ، لا توجد أية سياسات محلية أو إقليمية لاستثمار المساحة المحدودة من الاستثناءات الأميركية لقانون قيصر، والتي طالت 12 قطاعًا في مناطق شمال شرق وشمال غرب سوريا باستثناء عفرين وإدلب، في حين تتجه حركة الفاعلين المحليين نحو مواجهة تحدياتها المحلية، لاسيما في شرق وغرب نهر الفرات. ففيما يتعلق "بالتعافي المبكر" في مناطق الإدارة الذاتية، فإن نوعية وحجم المشاريع والأعمال المنفذة في مناطق "الإدارة الذاتية" خلال النصف الأول من 2022 تدل على قصور في هيكلية النموذج الاقتصادي الاجتماعي المتبع، وعدم كفاءة المكاتب والمؤسسات المعنية بالملف الاقتصادي؛ إذ لم تسهم في تلافي حدوث أزمات وتحقيق استقرار معيشي للسكان وتعافي المنطقة اقتصاديًّا. وفي مناطق المعارضة يلاحظ قلة المشاريع المتعلقة بمخيمات النزوح؛ إذ يوجد 1.7 مليون من النازحين في 1400 موقع للنزوح(8)، ولا يزال عدد النازحين الكبير يشكل تحديًا كبيرًا للمجالس المحلية في تقسيم الموارد المالية بين متطلبات الإغاثة ومتطلبات النازحين العاجلة واحتياجات التنمية الاقتصادية.
أما النظام، والذي يواجه حالة من الاستعصاء، فقدْ فَقَدَ القدرة على مواجهة الأزمات ويحاول استخدام ما أتيح له من أدوات علَّها تسهم ولو بحدها الأدنى في تخفيف وطأة هذه الأزمات مرحليًّا، ولجأ عبر قرارات متتالية إلى التخلي تدريجيًّا عن الدعم المخصص للمواد الأساسية كالخبز والوقود وغيرها من المواد، في محاولة منه لتحميل الشعب أعباء العجز في الموازنة العامة فيما يرتبط بمخصصات الدعم، ما زاد من احتقان المواطنين وصولًا لمرحلة الاحتجاجات إزاء ذلك بسبب زيادة الأعباء المعيشية عليهم(9).
ثانيًا: بيئة أمنية هشة، تنعكس سلبًا على البنية المجتمعية المرهقة من عشر سنوات من الصراع. ففي شمال غرب سورية، تتعرض البنية السورية للعديد من الضغوط الامنية جراء استمرار عمليات الاغتيال والتفجير وعمليات الاقتتال ما بين الفواعل الأمنية، حيث شهدت المنطقة محاولتي تمدد لـ"هيئة تحرير الشام، الأولى في يونيو/حزيران 2022 وذلك بإرسال الهيئة لقوة مساندة لـ"أحرار الشام" عقب نشوء اقتتال فصائلي بين هذه الأخيرة و"الجبهة الشامية"، وذلك قبل أن تنسحب الهيئة بعد وصولها لحدود منطقة عفرين. والمحاولة الأخيرة قامت بها في تشرين الأول 2022 بمساندتها لفصيل "الحمزات" إثر اشتباكه مع الفيلق الثالث. ويأتي هذا الاقتتال في سياق غياب جهة مركزية أمنية أو عسكرية في مناطق سيطرة "الجيش الوطني"، الذي يشهد في التشكيلات المنضوية تحت رايته، اندماجات وانقسامات بين الحين والآخر(10).
أما في المنطقة الجنوبية، فلا يزال أهالي المحافظة يتعرضون لعمليات اغتيال بدوافع سياسية منذ التسوية الأمنية الأخيرة في سبتمبر/أيلول 2021. شهدت المحافظة عمليات اغتيال لعدة شخصيات أمنية وسياسية وحقوقية مختلفة، وصلت في شهر يوليو/تموز 2022 إلى ما لا يقل عن 32 عملية(11). كما عكست المواجهات بين مجموعات محلية و"قوات الفجر" في محافظة السويداء رغبة محلية بمواجهة "النفوذ الإيراني" المتنامي؛ إذ لطالما ولا يزال يسعى النظام وحليفه الإيراني إلى "تغذية" سردية الفوضى والاقتتال البيني بهدف جعل المحافظة مسرحًا خصبًا لتضخيم دوره "الضامن للتوازن المحلي"، وإطارًا داعمًا لهندسة "إعادة التموضع الإيراني"(12).
ويتعرض المجتمع في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية لعدة ضغوط أمنية، ففي 2020، أوضحت عملية أمنية مركبة أقدم فيها تنظيم داعش على الهجوم على سجن غويران "لتحرير سجنائه"، مستوى الهشاشة وحجم الثغرات في بنية قوات سوريا الديمقراطية(13)، كما انعكست أحداث الحسكة والقامشلي وما رافقها من توترات أمنية وصلت إلى حصار متبادل لبعض المواقع واشتباكات محدودة سلبيًّا على مؤشر الاستقرار المحلي(14).
ثالثًا: استعصاء مسار جنيف ومضي في مسار أستانة، حيث أضحت اللجنة الدستورية منذ انطلاق جولاتها حتى الجولة التاسعة، مساحة مناورة وتعطيل للمسار السياسي قبل أن تعلن موسكو إيقاف عمل اللجنة ورفض انعقادها في مدينة جنيف، وذلك على خلفية المواقف الأوروبية من الغزو الروسي لأوكرانيا. وإذا كانت مبادرة المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسن، "خطوة بخطوة" نقطة تحول كما يراها(15) فإن مسار أستانة بالمقابل لا يزال مسار تفاهم أمني بين موسكو وأنقرة وطهران؛ إذ استطاعت روسيا وضع ورقة إضافية على طاولة مفاوضات سوتشي، ألا وهي دفع عجلة التواصل بين تركيا والنظام خطوةً أولى للحل السوري؛ وهو ما تقاطع مع الضغوطات التي تتعرض لها أنقرة من أحزاب المعارضة التركية بخصوص الملف السوري، واستتبع ذلك سياسات ضاغطة على الوجود السوري في تركيا لاسيما فيما يتعلق بحاملي "الإقامة المؤقتة".
أسهم الزلزال الذي ضرب مناطق في تركيا وسوريا، في 6 فبراير/شباط 2023، وما أعقبه من حملات محلية تضامنية في بلورة انطباع قصير المدى تجاه مفهوم التعاضد الاجتماعي(16) والذي تجلى في: المساندة المادية والمعنوية، الفردية والجماعية دون الاكتراث بأي انقسام. الاندفاع نحو العمل التطوعي والانخراط المجتمعي عبر تشكيل سكان المدن والبلدات الأقل تأثرًا بكارثة الزلزال في سوريا لفرق ومجموعات شبابية تطوعية للمساهمة في عمليات الإنقاذ والاستجابة في المناطق السورية. إضافة إلى مسألة الثقة وتعزيزها بين السوريين بشقيها الاجتماعي والمؤسساتي. لقد حفز ما أظهره "رأس المال الاجتماعي السوري" من أبعاد كالتواصل والتكافل والتعاون المرتبطة بصورة أساسية بروابط القرابة مثل الأسرة والعائلة والصداقة والجيرة والعشيرة، في إعادة طرح أسئلة المجتمع المهشم واحتمالية النهوض مجددًا.
صحيح أنه يمكن اعتبار حركة المجتمع واستجابته العابرة لبعض مناطق سلطات الأمر الواقع دليلًا على فعل جمعي تضامني نابعًا من التمسك بهوية سورية مشتركة في أوقات الأزمات والكوارث الطبيعية، إلا أنه وبذات الوقت، عدم قدرة تلك الاستجابات على أن تكون متكررة وأكثر شمولًا، فيمكن اعتبارها تكريسًا للانقسام القائم. كما لا يمكن اعتبار التضامن أو النشاط الإغاثي كافيًا للدلالة على تجاوز معوقات الهوية الوطنية السورية أو إعلانًا مجتمعيًّا بالرغبة بمد جسور التواصل البينية بما يتجاوز الأزمات المُركبة السابقة لها، وما أضيف إليها من تعقيدات خلال السنوات العشر الماضية، ويعود ذلك إلى عدة نواحٍ لابد من أخذها بعين الاعتبار(17):
أولًا: استجابة الناس في مواجهة الكارثة الطبيعية تختلف عن استجابتهم -وحتى تضامنهم- في مواجهة الكوارث ذات البعد البشري (كالقصف مثلًا)، رغم أن كليهما قد يوصلان إلى نتائج متقاربة من حيث المبدأ لا الكم، من خسائر في الأرواح والممتلكات والبنى التحتية ناهيك عن الفزع والرعب والحالة النفسية.
ثانيًا: يعتبر عاملا "الأدلجة" و"التسييس" عاملين مهمين لا يمكن تجاوزهما حتى في سياق الاستجابة للكوارث؛ ففي حين أن التعاطف الإنساني يكون في ذروته؛ تستطيع الحكومات ووسائل الإعلام تجيير تلك اللحظات الانفعالية لدى الشعوب لتمرير أجندات تخدمها، وقد بدا ذلك جليًّا على النطاق السوري في سلوك النظام الذي استخدم الزلزال فرصة ليستغل عاطفة الناس في الدفع بحملة شبه مُنظمة للمطالبة برفع العقوبات عنه، رغم عدم تعارضها مع المساعدات الإنسانية.
ثالثًا: تختلف الأيام الأولى دومًا عما بعدها، فالشعور بالكارثة والتهديد يجمع ويؤلف ويوحد، لكن التجربة الإنسانية أثبتت القدرة على الاختلاف على التفاصيل مع مرور الوقت بما قد يعيق العمل المشترك ويقلل بالتالي من فرص الالتحام الوطني.
لا شك أن الاستجابة السورية كانت لافتة، إلا أن هذه المرونة والعملياتية في مواجهة المأساة ليست بالضرورة اللحظة الفارقة التي تثبت استعداد السوريين لإنهاء ما خلَّفته عقود من الاستبداد والتفرقة والتهميش، ومما عقد المشهد الاجتماعي هذا هو تركيز استثمار بعض الدول على هذه الكارثة لإعادة مد جسور التواصل مع النظام وليس مع متطلبات التماسك الاجتماعي في عموم سوريا. وبالتالي غياب قضية معالجة التهشم المجتمعي عن مسارات التواصل تلك، والتي تسارعت بطبيعة الحال بحكم الزلزال، وهي نتاج سياق مرتبط بمسارين: يرتبط الأول بحراك عربي تزداد وتيرته وتتمايز أدواره بين دافع ومنتظر ورافض، بينما تعود أسس المسار الثاني إلى توافقات سابقة بشأن "تجميد النزاع" في شمال غربي سوري بين كل من روسيا وإيران وتركيا، إضافة لتطورات نجمت عن تقلبات في المشهد الدولي. ووفقًا لطبيعة هذين المسارين فإنهما تجاوزا معادلة "إزاحة الأسد" إلى النظر في المشتركات والمصالح الإقليمية التي من شأنها أن تعلي من دينامية "التواصل الإقليمي" ومتطلباته وتفصله عن مسار الحل السياسي. وهو الأمر الذي يعزز من فرضية أن التطبيع يهدف إلى التكيف مع سردية النظام وطريقة فهمه للمجتمع السوري المتجانس.
مع تصلب الحدود الأمنية بين مناطق النفوذ وصعوبة التغيير في المدى المنظور في الجغرافيا العسكرية، واكتسابها بعدًا إداريًّا في ظل تعثر حوكمي وتنموي واضح لسلطات الأمر الواقع، وفي ظل الديناميات الناظمة للملف السوري؛ فإن المشهد السوري يسير باتجاه أحد السيناريوهات، وكل منها له تأثيره الخاص على طبيعة ووجهة المجتمع السوري المهشم:
مما لا شك فيه أن البنية المجتمعية السورية الراهنة في ظل هذه السيناريوهات ستبقى تعاني من التهشم والتعرض للأخطار والمهددات التالية:
تؤكد هذه الأخطار احتمالية انتفاء الدور المجتمعي والحامل الاجتماعي الداعم لسياسات الاستقرار وإعادة البناء، وهذا بدوره يؤكد الحاجة إلى التجسير المجتمعي وخلق نقاشات عابرة للانقسام الأمني الحاصل، بما يقوي من جهود العقد الاجتماعي من جهة، ويقوي الروابط الاجتماعية التي أتلفتها الحرب من جهة ثانية.
بعد سِني التهميش التي عاشها المجتمع السوري في ظل سياسات حزب البعث، يعيش المجتمع السوري تجربته الأقسى في اختبار وحدته ولحمته منذ بدء الصراع السوري؛ حيث ازدادت مؤشرات تفسخه وانقساماته الأفقية والعامودية سواء على مستوى البنية الديمغرافية أو على مستوى الهوية الوطنية. كما أسهمت ديناميات الصراع وسياسات الفواعل المحلية في زيادة كلف الاستنزاف المجتمعي، سواء كانت كلفًا اقتصادية خلَّفت مجتمعًا بكليته تقريبًا دون خط الفقر أو كلفًا إنسانية وضعته أمام واقع يكرس مجتمع المخيمات واللجوء ويضعف أو يغيب ديناميات ووسائل الضغط في ملفات الاعتقال والاختفاء القسري وحقوق الإنسان. وعلى الرغم مما تعرضت له هذه البنية من استنزاف، فإن السيناريوهات المرتبطة بالمشهد السوري تزيد من صعوبة استرداد دور الحامل الاجتماعي الوطني الداعم لقضايا الاستقرار والتي ستكون التحدي الأبرز أمام الشعب السوري بكل مكوناته الاجتماعية، لإعادة تشكيل بنيته وذاته الوطنية وصيانتها بشكل عابر لحدود الصراع المحلية.
المصدر:
مركز الجزيرة للدراسات: https://bit.ly/4238Csz
بمشاركة ما يقارب 70 شخصية سورية من الفاعلين والناشطين في المجتمع المدني، عُقد بتاريخ 3 نيسان 2021 وبالتعاون بين منظمة التنمية المحلية، مركز الحوار السوري، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، مركز عين الشرق لدراسة السياسات، وحدة المجالس المحلية، ندوة حوارية تحت عنوان:
دور المجتمع المدني في الاستحقاقات الوطنية (العقد الاجتماعي نموذجاً)
قدم في بداية الندوة الدكتور لؤي صافي أستاذ العلوم السياسية في جامعة حمد بن خليفة، مقدمة تمهيدية عن العقد الاجتماعي ودور المجتمع المدني في بنائه، ثم تحدث الدكتور أحمد قربي مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري عن القيم الوطنية السورية للعقد الاجتماعي الجديد (مضامين العقد الاجتماعي)، فيما تحدث الأستاذ معن طلاع مدير البحوث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية عن سياق بناء العقد الاجتماعي بين التحديات والفرص.
بعد توزعهم إلى 5 "مجموعات نقاش مركزة"، ناقش المشاركون ثلاثة محاور رئيسة:
وقد قدمت المجموعات الخمس التي شاركت فيها خبرات متميزة ومتنوعة إجابات مفتاحية مهمة على هذه التساؤلات.
توافق المشاركون على ضرورة البناء على هذه المخرجات ضمن مسار متراكم بغية المساهمة في تفعيل المشاركة الإيجابية للمجتمع المدني السوري في بناء عقد اجتماعي لسوريا المستقبل.