لم تعد التكلفة التي يتكبدها السكان في المناطق المحررة جراء الحرب التي يشنها عليهم نظام الأسد مقتصرة على الأرواح والممتلكات، بل أنها امتدت لتشمل سبل كسب عيشهم ومستقبل الناجين منهم. فمع اقتراب الثورة السورية من نهاية عامها الخامس تفاقمت المشكلات الاقتصادية والاجتماعية بشكل واضح في عموم هذه المناطق، نتيجة التناقص المستمر في الموارد وأساسيات الحياة وفقدان الكثير من السكان مصادر رزقهم وازدياد مواطن ضعفهم الاقتصادي بعد الانهيار الكبير لمختلف القطاعات الاقتصادية. فوفقاً لإحصاءات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA قدّر عدد من هم بحاجة إلى دعم سبل العيش في عام 2015 بـ 12.2 مليون شخص، وقدّر حجم الدعم المطلوب بـ 102 مليون دولار أمريكي نتيجة الارتفاع الكبير في معدلات الفقر والبطالة. وتشير بعض التقديرات إلى انحدار أكثر من 70% من السكان إلى حالة الفقر الشديد وانتقال نسبة 40% منهم إلى حالة الفقر المدقع في نهاية عام 2015 في حين تجاوزت نسبة البطالة عتبة 60%.
حيث أحدث الغياب شبه الكامل للمشاريع الإنتاجية والتنموية، إلى جانب ظهور المزيد من التحديات التي أفرزها تنامي العنف وتصاعد حدته وسيادة اقتصادياته تشوهاً كبيراً في سوق العمل وتمايزاً كبيراً في مستوى الدخل بين الأفراد وانتشار أعمال ووسائل كسب جديدة لاستمرار حياة الأفراد، مؤدياً بالتالي إلى تلاشي العديد من سبل العيش التقليدية، وإلى تزايد الاعتماد على المساعدات الإغاثية المقدمة من المنظمات الإغاثية المحلية والدولية والتي أصبحت تمثل في عدة مناطق أحد المصادر الأساسية لسبل العيش.
في ظل هذا الواقع المعيشي الصعب لم يكن حجم ونوعية استجابة الفاعليين الأساسين في قطاع سبل العيش والإنعاش المبكر بحجم المعاناة التي يكابدها السكان في تأمين سبل عيشهم وتأمين قوت يومهم. فمن جهة يعزى القصور الكبير في النهوض بمتطلبات هذا القطاع في جانب كبير منه إلى غياب الدور الفاعل للمجالس المحلية ومنظمات الإغاثة والتنمية المحلية التي ينقصها التمويل اللازم والبرامج المناسبة والكوادر المؤهلة لتنفيذ المشاريع المرتبطة بهذا القطاع، ومن جهة أخرى لم تلعب منظمات الإغاثة والتنمية الدولية الدور المأمول منها في هذا القطاع لأسباب ترتبط بنقص التمويل وعدم وجود شركاء محليين فاعلين لتنفيذ برامجها إلى جانب تردد الكثير منها في تنفيذ هذه البرامج بشكل مباشر داخل المناطق المحررة لعوامل ترتبط بأجنداتها السياسية وعدم توفر الضمانات الأمنية لكوادرها وغيرها من العوامل الأخرى.
لذلك كان لا بد أن يكون التركيز منصباً على ضرورة تبني نهج جديد لتعزيز قدرة السكان في المناطق المحررة على الصمود الاقتصادي واستيعاب الصدمات الحالية والمستقبلية والتكيف معها والتعافي من آثارها على نحو متدرج في ضوء الواقع المعيشي الصعب الذي يكابدونه. ويعتمد هذا النهج بشكل أساسي على بناء استراتيجية لتنمية سبل العيش من خلال مجموعة من برامج العمل والمشاريع التي يسهم فيها جميع الفاعلين الأساسيين والتي تهدف بشكل أساسي إلى القضاء على مواطن الضعف الاقتصادي لدى السكان في الأجل القريب من خلال توليد فرص العمل وتعزيز مبدأ الاعتماد على الذات ووقف استنزاف أصولهم ومدخراتهم والتقليل من الاعتماد على المساعدات المادية والإغاثية، إلى جانب تطوير شكل المساعدات الإغاثية المقدمة وتخصيص قسم منها للقيام بمشاريع تنموية مدرّة للدخل وبرامج تدريب فني ومهني وبرامج تدريب على المهارات الحياتية والذي يمكن أن يسهم في مساعدة السكان على إيجاد مصادر دائمة للدخل وتحقيق الاكتفاء الذاتي بدلاً من إبقائهم عالة على هذه المنظمات. مع ضرورة العمل على مواجهة المشكلات المتعلقة بهذه البرامج مثل التمويل وكفاءة القائمين عليها والقدرة على تحقيق الأهداف وضمان الاستدامة.
ولا بد أن يتم التركيز في هذه البرامج على الفئات الضعيفة والهشة من السكان مثل الأسر التي تعولها النساء، بعد أن تسببت الأزمة الإنسانية الحالية بوجود أعداد كبيرة من هذه الأسر بسبب تجنيد الرجال أو أسرهم أو نزوحهم أو استشهادهم أو عجزهم الكامل عن العمل بسبب الإصابة، وفي ظل ذلك، أصبح يتعين على النساء المعيلات تحمل مسؤولية أكبر عن أبنائهن وأقاربهن المسنين، بل في كثير من الأحيان عن مجتمعهن المحلي الأوسع نطاقاً ، لذا لا بد من أن يكون لها الأولوية في الاستهداف عن غيرها من الفئات الأخرى ببرامج سبل العيش وتعزيز الصمود الاقتصادي بعد الزيادة المتصاعدة لهذه الفئة والنفاذ المحدود لمصادر الدخل. ويعتمد نجاح برامج التمكين الاقتصادي للمرأة على تصميم برامج مرتكزة على الأسرة تتلاءم وطبيعة عمل المرأة وتهدف بشكل أساسي إلى توليد الدخل للأسرة التي تعيلها مما يؤدي إلى تمكينها من مواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة. وترتكز هذه البرامج بشكل أساسي على توسيع فرصها الاقتصادية المتاحة ومساعدتها في الولوج إلى سوق العمل من خلال مجموعة من التدابير تشمل بناء المهارات والمعارف والقدرات الإنتاجية لها عبر التدريب المهني بحيث تؤدي هذه التدابير إلى استدامة سبل العيش.
ويمكن إدراج مجموعة من المشاريع المبتكرة لاستعادة سبل العيش وتوليد الدخل، من بينها مشروع حفظ المواد الغذائية عبر قيام النساء اللذين يمتلكن خبرة تقليدية في حفظ الغذاء بنقل خبرتهن إلى عدد أكبر من النساء العاملات معهن. ثم بيع الطعام المنتج من هذا المشروع في السوق المحلية بأسعار معقولة. ويمكن للدخل المتولد عن هذا المشروع أن يضمن استمراريته هذا المشروع في المستقبل. وهناك مجموعة من المشاريع الأخرى مثل مشروع تربية النحل، ومشروع إنتاج الدواجن، ومشروع توزيع المواشي، ومشروع زراعة الفطر، ومشروع زراعة البيوت البلاستيكية، ومشروع إنشاء ورشة لإنتاج مكعبات الثلج لحفظ المواد الغذائية في ظل الانقطاع الطويل للتيار الكهربائي، وغيرها من المشاريع الابتكارية الأخرى المرتبطة بتمكين المرأة وذوي الاحتياجات الخاصة. وتتنوع الطرق التي يتم بها دعم هذه المشاريع بين التزويد المباشر بمعدات ومواد لازمة للتشغيل إلى توفير فرص عمل طارئة. حيث يعد التشغيل في ظروف الصراع وما بعد الصراع أمراً حيوياً للاستقرار على المدى القصير لإعادة الإدماج والنمو الاقتصادي. إلى جانب تدعيم قدرة السكان على امتصاص الصدمات الناجمة عن تدهور سبل العيش وفقدانها على المدى الطويل، وضمان تحقيق التنمية المستدامة مستقبلاً في هذه المناطق بعد توقف الصراع.
تم النشر على موقع السورية نت: https://goo.gl/viSFna