ملخص تنفيذي

  • في خطوة استباقية لخطوات قانونية دولية تستهدف محاسبته لارتكابه جرائم تعذيب؛ أصدر نظام الأسد المرسوم التشريعي 32 لعام 2023، القاضي بإنهاء العمل بالمرسوم التشريعي 109 لعام 1968 وتعديلاته المتضمن إحداث محاكم الميدان العسكرية، على أن تحال جميع القضايا بحالتها الحاضرة إلى القضاء العسكري لإجراء الملاحقة فيها وفق أحكام قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية وتعديلاته.
  • رغم الإحالة إلى المحاكم العسكرية أو غيرها من المحاكم؛ سيبقى تقدير الجريمة وتوصيف تخصصها حكراً على الأجهزة الأمنية. فيما لا يزال النظام القضائي عموماً والعسكري خصوصاً يعاني من خلل حوكمي نتيجة ارتباطه بالسلطة التنفيذية، فالقضاء العسكري مرتبط بوزارة الدفاع، وبشار الأسد يرأس مجلس القضاء الأعلى.
  • في محكمة الميدان العسكرية "تخضع أحكام الإعدام لتصديق رئيس الدولة أما باقي الأحكام فيجري تصديقها من وزير الدفاع"، وبالتالي فإن إلغاء محكمة الميدان العسكرية يلغي الحاجة لمصادقة بشار الأسد بصفته "رئيس الدولة" على أحكام الإعدام الصادرة عنها، مما يمكنه من التهرب من المسؤولية المباشرة عن عمليات الإعدام التي قادتها محكمة الميدان العسكرية، وبالأخص بعد تفعيلها بشكل كبير منذ عام 2011.
  • ترتبط أي عملية تغيير حقيقية وجدية في سورية ببيئة كاملة ومناخ سياسي جديد، ناهيك عن ارتباطها بمبدأ الاستقلال ووجود مؤسسات دستورية تحرص على تطبيق وإنفاذ القانون، إضافة إلى ضرورة وجود مؤسسات مدنية محلية تراقب وتشرف على عملية التغيير وتحرص على صيانة حقوق الإنسان، وجميع تلك العوامل غائبة أو غير موجودة أساساً.
  • يتطلب مسار الإصلاح القانوني في سورية أمرين: أولهما إلغاء القوانين التي تتغذى منها الأجهزة الأمنية، وثانيهما لجم التجاوزات الأمنية عن طريق القانون، ودون ذلك ستبقى أي عملية تغيير يقودها النظام بمفرده أسيرة الشكلانية والابتزاز والتهرب، وهو ديدنه طوال سنوات حكم البعث، في حين أن العملية ترتبط حكماً بمناخ سياسي يؤمن مشاركة كافة الأطياف في عملية التغيير والانتقال.

تمهيد

أصدر بشار الأسد بتاريخ 3 أيلول 2023 المرسوم التشريعي 32 القاضي بإنهاء العمل بالمرسوم التشريعي 109 لعام 1968 وتعديلاته والمتعلق بإحداث محكمة الميدان العسكرية، على أن تحال جميع القضايا بحالتها الحاضرة إلى القضاء العسكري لإجراء الملاحقة فيها وفق أحكام قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية وتعديلاته.[1] وتباينت المقاربات التفسيرية لهذه الخطوة؛ بين ربطها بإطار المبادرة العربية وضرورات الخطوة مقابل خطوة لا سيما فيما يتعلق بالتعامل مع الهواجس القانونية والأمنية للاجئين، أو جعلها خطوة استباقية لخطوات قانونية دولية تستهدف محاسبة نظام الأسد لارتكابه جرائم تعذيب، إذ تأتي خطوة المرسوم كتكتيك حيال ملف الاختفاء القسري والقتل قبل شهر من أولى جلسات الاستماع أمام محكمة العدل الدولية للدعوى المقدمة من كندا وهولندا ضد النظام، أو مقاربة مؤيدي النظام المفسرة للخطوة على أنها من خطوات "الإصلاح في سياق إعادة بناء الدولة".

وعليه، يحاول تقدير الموقف ربط هذا المرسوم بآثاره ومدى التغيير الذي ستحدثه عملية الإلغاء، محاولاً تلمّس المحدد الداخلي والخارجي لخطوة كهذه، كما يقدم ملمحاً عاماً لخط سير أية عملية تغيير كمعيار لقياس مدى جدية أي تغيير من عدمها.

فوارق شكلية: تقليل الأدوات ومركزة الانتهاك الممنهج

تأسست محكمة الميدان العسكرية على خلفية هزيمة حزيران 1967 للنظر في الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العسكرية المرتكبة زمن الحرب أو خلال العمليات الحربية، وكانت تختص بالعسكريين قبل أن يقوم حافظ الأسد بتوسيع اختصاصها عبر المرسوم التشريعي 32 لعام 1980 الذي شمل النظر في القضايا في حال "وقوع اضطرابات داخلية"،[2] مما سمح بعرض المدنيين أمامها. وقد استخدمت لفترات طويلة كأداة لقمع المجتمع السوري، كما حدث في أحداث الثمانينات،[3] إضافة لاستخدامها بشكل محدود في فترات الاستقرار للتعامل مع أنشطة مُنتقاة يمكن أن تهدد وجود النظام السياسي والاجتماعي على المدى البعيد مثل قضية حراك شباب داريا اللاعنفي عام 2003،[4] فيما تُركت القضايا الأخرى للمعالجة أمام محكمة أمن الدولة التي ألغيت لاحقاً بموجب المرسوم التشريعي 53 لعام 2011،[5] خاصة القضايا المرتبطة بملف الإرهاب والملفات الأمنية الإقليمية والدولية، وهذا ما يمكن استقراؤه بشكل عام بالنظر إلى القضايا التي نظرت فيها هذه المحاكم قبل ثورة آذار 2011.

أما بعد الثورة وبصورة عامة، فلم تكن سياسات الإحالة إلى محكمة الميدان العسكرية من قِبل الجهات الأمنية واضحة المعايير، خاصة في ذروة الصراع الذي أعقب العام الأول للثورة بعد عام 2011، فقد تولت المحكمة إضفاء الصفة القانونية الشكلية لسياسات النظام في السنة الثانية للثورة – حيث امتص النظام صدمة الحراك ورصدَ أغلب قادته في الميدان – والمتمثلة في تصفية قادة الحراك المدني والتنسيقيات وقادة المجموعات العسكرية والمقاتلين وبعض الضباط المنشقين، سواء بإنزال عقوبة الإعدام بحقهم أو بإحالتهم إلى السجن العسكري الأول المعروف باسم سجن صيدنايا العسكري ليخضعوا إلى منظومة ممنهجة من التصفيات الجسدية تحت التعذيب، فيما نُفذت معظم أحكام الإعدام في السجن نفسه.

كما تبنت كافة الأجهزة الأمنية (شعبة المخابرات العسكرية وإدارة المخابرات الجوية وإدارة المخابرات العامة وشعبة الأمن السياسي والأمن الجنائي) سياسة المواجهة نفسها وأحالت أغلب الموقوفين لديها إلى محكمة الميدان، ورغم عدم وضوح معايير الإحالة؛ إلا أن الإحالة لهذه المحكمة قد تصاعدت لاحقاً للتعامل كافة القضايا المرتبطة بالحراك السلمي والمسلح، فيما أحيلت قضايا الأنشطة المعارِضة والتحركات والأنشطة المدنية البسيطة المرتبطة بالحراك إلى القضاء المدني حتى تأسيس محكمة قضايا الإرهاب بموجب القانون 22 منتصف عام 2012،[6] والتي أخذت على عاتقها بالإضافة إلى ذلك محاكمة المعتقلين غير المرتبطين بتنسيق وقيادة الحراك أو قيادة العمل العسكري أو المشاركة بعمليات عسكرية ضد قوات النظام وحلفائه.

إذاً سيستبدل فعل التحويل الذي كانت تقوم به تلك الأجهزة إلى محكمة الميدان، لتحل محله الإحالة إلى المحاكم العسكرية ومحكمة قضايا الإرهاب فضلاً عن التحويل إلى القضاء المدني بحسب الاتهام في كل قضية، وسيبقى تقدير الجريمة وتوصيف تخصصها خاضعاً للأجهزة الأمنية التي لاتزال تعتقل وتخفي في سجون النظام أكثر من 100 ألف معتقل ومختفٍ قسرياً،[7] مما يدل على أن تغيير الأداة لا يعني تغير السلوك والفلسفة المتبعة من قبل النظام، فهذا الخلل هو خلل حوكمي في عموم القضاء العسكري يتلخص بارتباطه بالسلطة التنفيذية المتمثلة بوزارة الدفاع وارتباط ضباطه بالأجهزة الأمنية.[8]

لم يقتصر الخلل في عمل محكمة الميدان على الجانب الإجرائي، بل إن طبيعتها كمحكمة أمنية/استثنائية سمحت بعقد بعض جلساتها في الأفرع الأمنية، وارتباطها بأغلب حالات الاعتقال والإخفاء القسري والتصفيات "المقوننة" بأحكامها، جعل منها مركزاً مهماً لعمليات الابتزاز المالي لأهالي المعتقلين التي قدّرتها بعض الجهات الحقوقية بملايين الدولارات، وذلك من خلال الشبكات المرتبطة بكادر المحكمة وحدها.

وخلافاً للقضاء المدني؛ لا يوجد قانون خاص ينظم القضاء العسكري، فقد وردت أحكامه في قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية الصادر بالمرسوم التشريعي 61 لعام 1950 وتعديلاته، وهي أحكام عامة موجزة وغير تفصيلية، وهذه العملية مقصودة بهدف توسيع مساحات التفسير من قِبل المنفِّذ، إذ يُترك لوزارة الدفاع عبر إدارة القضاء العسكري تنظيم شؤون هذا القضاء ككل، وبالتالي فإن القضاء العسكري غير مستقل بحد ذاته، إنما هو أحد إدارات الوزارة يأتمر بأمرها ويدور في فلكها،[9] وهو ما يؤكد أن عملية "التصحيح القانونية" ليست مرتبطة بتشريعات فقط بقدر ارتباطها ببيئة قانونية وفلسفة دستورية تؤكد على استقلالية القضاء.

بالإضافة إلى ما سبق، لا تزال مشكلة عرض المدنيين أمام محاكم عسكرية موجودة ومستمرة، يضاف إليها أحد أهم الإشكاليات في سورية؛ وهي عدم استقلال القضاء ككل سواء العسكري أو المدني، نظراً لكون بشار الأسد بصفته "رئيس الجمهورية" يرأس مجلس القضاء الأعلى بحسب المادة 133 من دستور 2012.[10]

يؤكد كل ما ذكر أعلاه أن التغيير الحقيقي لا يرتبط بتغيير أداة التقاضي بقدر ما يرتبط بمعايير ثلاثة غير متوفرة؛ كاستقلالية القضاء عموماً والقضاء العسكري خصوصاً، وربط الفصل في التمييز والتقدير لنوع التخصص في القضايا المدنية والعسكرية وقضايا الإرهاب بالنائب العام بدلاً من تولي الأجهزة الأمنية هذه المهمة، ناهيك عن تغيير منهجية العمل حيث لا تزال تعمل بديناميات قانون الطوارئ، فالحدود الفاصلة بين الأدوات القضائية مرتبطة ببعض الإجرائيات الإدارية ليس إلا.

الشكلانية والتهرب والابتزاز كدوافع للإلغاء

نص مرسوم إلغاء محكمة الميدان على إحالة الملفات المنظور بها في المحكمة إلى القضاء العسكري ليعيد النظر بها، لكنه لم يحدد ما إذا كان للمرسوم أثر رجعي على القضايا والأحكام السابقة، مما سيجعل هذا الأثر مرتبطاً بإرادة النظام وأسبابه السياسية، وبرغم ما يعنيه ذلك من إجراء تعديلات كبيرة في الأحكام الصادرة بحق الكثير من المعتقلين (على غرار ما حدث عند إلغاء محكمة أمن الدولة وإحالة الملفات المنظور بها أمامها إلى القضاء المدني أو العسكري منتصف عام 2011) مما يزيد قدرة المعتقلين على الاستفادة من تخفيض ربع المدة ونصف المدة والاستئناف والاستفادة من مراسيم العفو إذا تم إعادة النظر بالمواد التي حُكم بعض المعتقلين بموجبها؛ إلا أن هذا الأمر يبقى مستبعداً،[11] فإدارة ملف التغييرات بمخيال النظام ترتبط بعامل الشكلانية، لافتقادها الإرادة الحقيقية من جهة، ومن جهة أخرى لكونها أداة يختبر من خلالها النظام ردة فعل الفاعلين الإقليميين والدوليين وتغير تعاطيهم الاقتصادي حياله.

تبدو محددات هذه الخطوة مرتبطة بعوامل خارجية وليست محلية، إذ يحاول النظام عبرها بدء صرف النظر الإقليمي والدولي عن الملفات الحقوقية واستحقاقات المحاسبة وإعادة تشكيل الدولة، وهي ملفات تضرب صفحاً عن الماضي وتنظر إلى الحاضر والمستقبل، باستثناء الملفات الحقوقية التي يتم التعامل معها من خلال مراسيم العفو السابقة وتلك المرجح صدورها لاحقاً. إذ يُتوقع أن يستمر النظام بسلسلة من الإجراءات الشكلية؛ كإصدار "مرسوم عفو جديد" بُعيد إلغاء محكمة الميدان، وإزالة عدد من الحواجز العسكرية/الأمنية من الطرق العامة، وتسريح عدد من المجندين وعناصر الاحتياط، وهي خطوات شكلية غير مكلفة أمنياً أو سياسياً يمكنه تقديمها إلى المبادرة العربية ضمن إطار ملف عودة اللاجئين، لتترجم على أنها خطوات تحتاج رداً بمثلها تجاه النظام في مواجهة عزلته الحادة وأزماته الاقتصادية المتفاقمة.

ولعل أهم نقطة في هذا الإلغاء هي محاولة التهرب من المسؤولية المباشرة عن عمليات الإعدام التي قادتها محكمة الميدان العسكرية بالأخص بعد تفعيلها بشكل كبير منذ عام 2011، في حين نصت الفقرة /أ/ من المادة /8/ من مرسوم تأسيس محكمة الميدان على أن "تخضع أحكام الإعدام لتصديق رئيس الدولة أما باقي الأحكام فيجري تصديقها من وزير الدفاع"،[12] وبالتالي فإن كل قرار إعدام صدر عن هذه المحكمة منذ عام 2000 وما تلاه قد صادق عليه بشار الأسد بشكل مباشر.

بالإضافة إلى وجود تحدٍ قانوني آخر، يتمثل في كون إلغاء مرسوم محكمة الميدان العسكرية لا يعني بالضرورة إلغاء تطبيقه على الأرض، فهو مرتبط بإجراءات أخرى، والإيهام بحدوث تغييرات على المستويات العليا لا يكفي، فالإحالة إلى القضاء العسكري يقود إلى مسار آخر من القمع نتيجة الفجوات الكبيرة بقوانين هذا القضاء واستخدامه الممنهج كأداة ترهيب.

كما يمكن تفسير قيام النظام بإلغاء المحكمة بتوجهه لخلق مقارباته الخاصة في التعامل مع ملف الاختفاء القسري والقتل؛ ضمن إطار قضاء استثنائي من خلال هذه المحكمة والقتل خارجه عبر تورط المحكمة بشكل غير مباشر بإحالة المعتقلين إلى سجن صيدنايا العسكري دون غيره، وهو ما يساعد النظام في الالتفاف على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتشكيل آلية دولية للكشف عن مصير المفقودين في سورية، بالتزامن مع التحرك الكندي والهولندي لمحاسبة النظام عبر محكمة العدل الدولية نتيجة انتهاكه لاتفاقية مناهضة التعذيب التي صادق عليها بالمرسوم التشريعي 39 لعام 2004.[13]

إذاً؛ لن يؤدي إلغاء محكمة الميدان العسكرية وإرسال كافة الملفات المنظور بها أمامها للقضاء العسكري إلى حدوث فرق كبير، بل يمكّن النظام من توفير اجراءات إدارية تُسهل عمله عبر اعتماد القضاء العسكري كبديل مباشر لمحكمة الميدان العسكرية.

سبق لنظام الأسد أن قام بإلغاء حالة الطوارئ ومحكمة أمن الدولة عام 2011 ليقوم لاحقاً في عام 2012 باستبدال عملهما بقانون مكافحة الإرهاب وتأسيس محكمة قضايا الإرهاب، فالإلغاء لم يسهم بتغيير سلوك النظام أبداً، بل كان سلوكه أكثر عدوانية، واستمر في قمع المجتمع السوري عبر محاكمه المختلفة سواء عبر المحاكم العسكرية أو محكمة الميدان أو حتى المدنية ولاحقاً محكمة قضايا الإرهاب، ومع عملية إلغاء محكمة الميدان العسكرية سيكون البديل جاهزاً وموجوداً. وعلى الرغم من وجود مستويات للتقاضي وفرص للمعتقلين لتوكيل محامين ومجال أوسع بهامش بسيط للاستفادة من مراسيم العفو عن كامل العقوبة أو جزء منها بعد البت في القضايا أمام المحاكم الأخرى – عدا محكمة الميدان العسكرية – سيصطدم المتهمون بأدوات التقاضي البديلة في مختلف قوانين العقوبات، وسيستمر الخلل في الإحالة وفي سياسات المحاكم وأصول محاكماتها والترافع فيها، فضلاً عن أن قضاة محكمة الميدان هم في الأصل ضباط أو قضاة من القضاء العسكري وسيعودون إليه، مما يؤكد على أن السلوك المتبع سيبقى ذاته دون أي تغيير.

الخلاصة وموجبات التغيير الوطنية

لعل من الأهمية بمكان توضيح مسار أي عملية تغيير حقيقية وجدية في سورية، فهي ترتبط بتوفير بيئة كاملة ومناخ سياسي جديد، ناهيك عن ارتباطها بمبدأ الاستقلال ووجود مؤسسات دستورية تحرص على تطبيق وإنفاذ القانون، إضافة إلى ضرورة وجود مؤسسات مدنية محلية تراقب وتشرف على عملية التغيير وتحرص على صيانة حقوق الإنسان، وكل تلك العوامل غائبة حالياً أو غير موجودة أساساً. كما لا يمكن إغفال أهمية مبدأ الشفافية، فإذا لم تستصدر قوانين تسهم في قوننة عملية النفاذ إلى المعلومات سيبقى قياس مدى التغيير وتلمس أثره معدوماً، فملفات المعتقلين ملفات سرية لا يفصح النظام عنها ولا يكشف مصير المفقودين، الأمر الذي يؤكد أن هذا الإجراء إنما هو رسالة سياسية ليس إلا.
ولتوضيح مسار الإصلاح القانوني في سورية، لا بد من التعريج على أهم متطلبين:

أولاً: إلغاء القوانين التي تتغذى منها الأجهزة الأمنية، ومحاربة الظواهر التي ترهب من خلالها المواطنين، فلن يتم أي إصلاح قانوني للسلطات الأمنية قبل إلغاء جميع القوانين (الاستثنائية والعادية) الناظمة لعمل هذه الجهات، والتي تشكل الرئة التي تتنفس منها، والخيمة التي تحميها، والمظلة التي تعطيها الشرعية. إذ من الضروري وطنياً إلغاء وتعديل أي قانون أو قاعدة قانونية تتعارض مع الحقوق والحريات العامة المنصوص عليها في الدستور، أو الواردة بالاتفاقيات والإعلانات الدولية لحقوق الإنسان والحريات العامة والتي وقعت عليها الدولة السورية.[14]

ثانياً: لجم التجاوزات الأمنية بالقانون، إن الممارسات الأمنية التي تشكل حالات الاعتداء المادي على المواطنين متعددة ومتنوعة ومتكررة، ومن أخطر هذه الممارسات الاعتقال التعسفي والتعذيب، لأنهما أداتا السلطات الأمنية لتكميم الأفواه، وإدخال الرعب إلى قلوب المواطنين. ويمكن لجم ممارستهما من خلال قوانين محاربة الاعتقال التعسفي بالقانون بأنماطه الثلاثة،[15] وضمان أسس وقواعد المحاكمة العادلة.[16] أما الممارسة الأخطر فهي الإخفاء القسري (ويعني الاختطاف أو حرمان الحرية أياً كان نوعه لأسباب سياسية، يتبعه رفض الاعتراف بالحرمان من الحرية، وإخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان تواجده، مما يجعله خارج حماية القانون). ولجم هذه الممارسة يتطلب رؤية قانونية جديدة تبدأ من محاربة الاعتقال التعسفي الذي تقوم به الأجهزة الأمنية،[17] ومناهضة التعذيب بالقانون فعلى الرغم من أن قانون العقوبات العام قد جرم التعذيب في المادة 391،[18] إلا أنه كان قاصراً عن قمع هذه الظاهرة التي تزداد باضطراد، لا سيما عند حدوث الاضطرابات والثورات، حيث تزيد الأجهزة الأمنية من وحشيتها في التعذيب، ناهيك عن عجز النص الذي لم يقمع الظاهرة ولم يعاقب من قام بالتعذيب، فبقيت الأجهزة الأمنية تمارس التعذيب إلى حدّ الموت. وعليه لا بد من معالجة وطنية لوقف ممارسات التعذيب، بالاستفادة من تجارب بعض الدول في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة والتي استطاعت القضاء على ظاهرة التعذيب في بلادها عامة، وفي أجهزتها الأمنية خاصة، كالتجربة الفرنسية والبلجيكية التي عدلت من مفهوم التعذيب كظرف مشدد وحولته إلى جريمة مستقلة قائمة بذاتها ومتباينة عن جريمة الإيذاء، وفي سورية ينبغي معالجة هذه الجريمة عبر إصدار قانون تجريم التعذيب بدلاً عن القانون القاصر الذي أصدره النظام بالقانون 16 لعام 2022،[19]على أن يتضمن العقوبات القاسية والرادعة، ويشدّد العقوبة عندما تقوم الأجهزة الأمنية بالتعذيب بغرض الحصول على الاعتراف، وألا تَسقط هذه الجرائم بالتقادم، وتتحرك الدعاوى العامة تلقائياً دون شكوى المتضرر، وتطبق القوانين والإجراءات ذاتها التي ذكرناها فيما يخص الاعتقال التعسفي.

ختاماً، قيادة النظام بمفرده لأي عملية تغيير ستبقى أسيرة الشكلانية والابتزاز والتهرب، وهو ديدنه عبر سني حكم البعث، فهذه العملية ترتبط حكماً بمناخ سياسي يؤمن مشاركة كافة الأطياف في عملية التغيير والانتقال. ورغم محاولة النظام تصدير هذه الخطوة على أنها امتداد للمبادرة العربية أو خطوة في سير العملية السياسية؛ إلا أنه يصدّرها أيضاً كتجاوب شكلي مع الاحتقان الذي تشهده الساحة الداخلية والاحتجاجات التي تتصاعد حدتها في الجنوب السوري. وهنا ينبغي على المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني قراءة هذه التحركات وقياس جديتها وفعاليتها بدقة، كما ينبغي على القوى السياسية حث الفاعلين الدوليين من أجل الضغط على النظام وحلفائه للقيام بخطوات جوهرية فيما يتعلق بمصير المفقودين، وخلق بيئة آمنة لعودة السوريين، والانخراط بجدية في العملية السياسية وفق القرارات الدولية ذات الصلة وعلى رأسها القرار 2254.


 

([1]) "المرسوم التشريعي 32 لعام 2023"، سانا، تاريخ النشر: 03 أيلول/سبتمبر 2023، رابط إلكتروني: https://bit.ly/3r1mmrA .

([2]) "المرسوم التشريعي 32 لعام 1980"، الجريدة الرسمية، الجزء الأول، العدد 28 لعام 1980، الصفحة: 1405، تاريخ النشر: 01 تموز/يوليو 1980.

([3]) تمت محاكمة مدنيين من جماعة الإخوان المسلمين بأثر رجعي بعد اعتقالهم بسنتين وحُكم الكثير منهم بالإعدام بأثر رجعي أيضاً بموجب القانون 49 لعام 1980، وافتقرت المحكمة لوجود مستويات للتقاضي أو الاستئناف، كما غلبت على أحكامها أحكام الإعدام في فترات الاضطراب مع القضايا الأمنية المهددة للنظام.

انظر :"القانون 49 لعام 1980 المتعلق بالإخوان المسلمين"، مجلس الشعب السوري، تاريخ النشر: 08 تموز/ يوليو 1980، رابط إلكتروني: https://bit.ly/3OYUcoQ .

([4]) إياد شربجي: "داريا: ثورة في قلب مثلث القوة"، أورينت نت، تاريخ النشر: 10 شباط/فبراير 2013، رابط إلكتروني: https://bit.ly/44IR866 .

([5]) "المرسوم التشريعي 53 لعام 2011"، مجلس الشعب السوري، تاريخ النشر: 21 نيسان/أبريل 2011، رابط إلكتروني: https://bit.ly/3PrM15T .

([6]) "القانون 22 لعام 2012"، مجلس الشعب السوري، تاريخ النشر: 06 تموز/يوليو 2012، رابط إلكتروني: https://bit.ly/3xFQx8i .

([7]) "التقرير السنوي الثاني عشر عن الاختفاء القسري في سورية"، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تاريخ النشر: 30 آب/أغسطس 2023، رابط إلكتروني: https://bit.ly/44HiqtO .

([8]) يقوم رئيس الشعبة بدور قاضي الإحالة للمحكمة الميدانية ويضع الحكم الذي ينبغي أن تثبته المحكمة خلال جلسة وحيدة مع المتهم لا تتجاوز خمسة دقائق تراعى فيها الشكليات القانونية من حيث تسجيل إنكار المتهم للتهم الموجهة إليه وتثبيت ذلك في محضر الجلسة المعنون بجملة "السجل العدلي"، وتسجيل بيانات المتهم قبل العرض على المحكمة في ديوان المحكمة وتوقيع وبصم المتهم على نفس المحضر قبل المحاكمة لتدون فيها فيما بعد الأحكام الصادرة بحقه دون أن تتلى عليه أو يقرأها في نفس ورقة "السجل العدلي".

([9]) "المؤسسة العسكرية السورية في عام 2019: طائفية وميليشاوية واستثمارات أجنبية"، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، تاريخ النشر: 01 تموز/يوليو 2019، الصفحة: 115، رابط إلكتروني: https://bit.ly/44Jpvdj .

([10]) "المرسوم 94 لعام 2012، المتضمن دستور عام 2012"، مجلس الشعب السوري، تاريخ النشر: 27 شباط/فبراير 2012، رابط إلكتروني: https://bit.ly/3fpJiHt .

([11]) رغم أن هناك سوابق لقوانين كان لها أثر رجعي استفاد بموجبها عدد من المحكومين أمام محكمة أمن الدولة من العفو عن ربع المدة بعد إحالتهم للقضاء المدني عند إلغاء محكمة أمن الدولة عام 2011.

([12]) "المرسوم التشريعي 109 لعام 1968"، الجريدة الرسمية الجزء الأول، العدد 38 لعام 1968، الصفحة: 12542، تاريخ النشر: 17 آب/أغسطس 1968.

([13]) "المرسوم التشريعي 39 لعام 2004"، الجريدة الرسمية الجزء الأول، العدد 36 لعام 2004، الصفحة: 1983، تاريخ النشر: 01 تموز/يوليو 2004.

([14]) محسن المصطفى: "المؤسسة العسكرية في المواثيق الدستورية.. مضامين نحو المستقبل"، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، الصفحة 14، تاريخ النشر: 10 حزيران/يونيو 2022، رابط إلكتروني: https://bit.ly/3Sljmz8، ينبغي أن يشمل الإلغاء والتعديل القوانين التالية: ( المرسوم التشريعي رقم 61 لعام 1950 قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية، المرسوم التشريعي رقم 51 لعام 1962 قانون الطوارئ، المرسوم التشريعي رقم 4 لعام 1965 المتضمن العقوبات التي تطبق بحق من يعرقل تنفيذ التشريعات الاشتراكية، المرسوم التشريعي رقم 6 لعام 1965 قانون حماية أهداف الثورة ("ثورة" 8 آذار)، المرسوم التشريعي رقم 40 لعام 1966 المتضمن تخويل مجلس الوزراء صرف القضاة أو نقلهم إلى ملاك آخر، المرسوم التشريعي رقم 14 لعام 1969 إحداث إدارة أمن الدولة (إدارة المخابرات العامة)، المرسوم رقم 549 لعام 1969 المتضمن التنظيمات الداخلية لإدارة أمن الدولة وقواعد خدمة العاملين فيها، القانون رقم 53 لعام 1979 قانون أمن حزب البعث العربي الاشتراكي، القانون رقم 49 لعام 1980 حكم الانتساب لجماعة الإخوان المسلمين، المرسوم التشريعي رقم 17 لعام 2003 قانون معاشات العسكريين، المرسوم التشريعي رقم 18 لعام 2003 قانون الخدمة العسكرية، المرسوم التشريعي رقم 30 لعام 2007 قانون خدمة العَلَم، المرسوم التشريعي رقم 64 لعام 2008 المتضمن عدم ملاحقة عناصر وزارة الداخلية وعناصر الأمن السياسي وعناصر الضابطة الجمركية بسبب الجرائم المرتكبة خلال عملهم، المرسوم التشريعي رقم 54 لعام 2011 قانون التظاهر السلمي، المرسوم التشريعي رقم 55 لعام 2011 القاضي بالسماح بتوقيف المشتبه بهم لمدة تصل حتى 60 يوماً، المرسوم التشريعي رقم 100 لعام 2011 المتضمن قانون الأحزاب، المرسوم التشريعي رقم 104 لعام 2011 المتضمن قانون التعبئة، المرسوم التشريعي رقم 1 لعام 2012 المتضمن قانون خدمة عسكريي قوى الأمن الداخلي، المرسوم التشريعي رقم 2 لعام 2012 المتضمن قانون معاشات عسكريي قوى الأمن الداخلي، القانون رقم 19 لعام 2012 المتضمن قانون مكافحة الإرهاب، القانون رقم 20 لعام 2012، القانون رقم 22 لعام 2012 المتضمن تأسيس محكمة قضايا الإرهاب، المرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012 المتضمن منح أجهزة الأمن والشرطة في معرض التحقيقات التي تجريها بشأن الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي والخارجي والجرائم الواردة في قانون مكافحة الإرهاب الحق في أن تطلب من وزير المالية اتّخاذ الإجراءات التحفّظية على الأموال المنقولة وغير المنقولة للمتّهم، المرسوم التشريعي رقم 55 لعام 2013 المتضمن منح الترخيص لشركات خدمات الحماية الخاصة والحراسة الخاصة، القانون رقم 5 لعام 2014 المتضمن قانون الانتخابات العامة، القانون رقم 7 لعام 2014 المتضمن قانون المحكمة الدستورية العليا، النظام الداخلي لمجلس الشعب لعام 2017 المتضمن آلية عمل مجلس الشعب، القانون 16 لعام 2022 قانون تجريم التعذيب.

([15]) لم يجر تعريف الاعتقال التعسفي من قبل الأمم المتحدة بمواثيقها التي نصت على تجريمه، لكن مجموعة العمل حول الاعتقال التعسفي عرفته: (إنه اعتقال يخالف أحكام حقوق الإنسان التي تنص عليها الوثائق الكبرى لحقوق الإنسان) وذات المجموعة وضعت أنماطاً ثلاثة للاعتقال التعسفي الأول هو أن يتم الاعتقال التعسفي في ظل غياب الأساس القانوني؛ النمط الثاني: أن يكون سبب الاعتقال هو ممارسة الشخص لحقوقه وحرياته التي نص عليها الدستور؛ النمط الثالث: هو ألا يخضع المعتقل منذ اللحظة الأولى لإجراءات المحاكمة العادلة.

([16]) من شروط المحاكمة العادلة 1- ضمانات إلقاء القبض 2- ضمانات الاعتراف 3- ضمانات الحجز والتفتيش 4- مدة التوقيف الاحتياطي 5- محكمة مختصة غير استثنائية 6- محكمة مستقلة محايدة 7- علنية الجلسات وشفوية المرافعات 8- براءة المدعي عليه حتى تثبت إدانته 9- درجات التقاضي 10- عدم رجعية القوانين.

([17]) على الرغم من وجود مادة في قانون العقوبات المادة 357 منه التي تقول (كل موظف أوقف أو حبس شخصاً في غير الحالات التي ينص عليها القانون يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة) ورغم قساوة العقوبة لم تحقق أي حالة من الردع فالاعتقال التعسفي في تزايد، وممارس من السلطات الأمنية بشكل يومي وعلني، ولم تطبق هذه المادة على أي من عناصر الأجهزة الأمنية التي قامت بالاعتقال التعسفي. من ملامح المقاربة الجديدة في موضوع الاعتقال التعسفي ضمان: (تعريف الاعتقال التعسفي ضمن أنماطه الثلاثة، وكل توقيف خارج دائرة القانون وبدون مذكرة قضائية، العقوبة يجب أن تشمل كلاً من الفاعل والمحرض والشريك والمتدخل وألا تقل عن 15 سنة سجناً. كل من علم بالاعتقال التعسفي ولم يخبر السلطات القضائية هو شريك بالاعتقال التعسفي. معاون النيابة أو القاضي الذي تلقى الأخبار بواقعة الاعتقال التعسفي، ولم يتخذ الإجراءات اللازمة لإنهائه، هو شريك وتطاله العقوبة المقررة بالقانون. يتوجب على النيابة العامة ندب وكيل النيابة لمراقبة دور التوقيف الأمنية وبشكل يومي. هذه الجريمة لا تطبق عليها أحكام التقادم.

للمزيد انظر: مجموعة مؤلفين: "التغيير الأمني في سورية"، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، أكتوبر 2017، ص ( 97-100)، رابط إلكتروني: https://bit.ly/3sNWikd .

([18]) المادة 391: 1- من سام شخصاً ضروباً من الشدة لا يجيزها القانون رغبة منه في الحصول على اقرار عن جريمة أو على معلومات بشأنها عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات. ، 2- وإذا أفضت أعمال العنف عليه إلى مرض أو جراح كان أدنى العقاب الحبس سنة. للمزيد انظر: "قانون العقوبات العام الصادر بالمرسوم التشريعي 148 لعام 1949" وتعديلاته ، مجلس الشعب السوري، تاريخ النشر: 22 حزيران/يونيو 1949، رابط إلكتروني: https://bit.ly/3nKv1JH

([19]) "القانون 16 لعام 2022"، مجلس الشعب السوري، تاريخ النشر: 30 آذار/مارس 2022، رابط إلكتروني: https://bit.ly/3RfUUkk

التصنيف تقدير الموقف
الخميس, 17 كانون1/ديسمبر 2020 02:32

واقع العلاقات المدنية العسكرية في سورية

مقدمة

تتفق جل الأدبيات المتعلقة بحقل العلاقات المدنية العسكرية بأنها خضوع القوات المسلحة لقيادة مدنية ديمقراطية، وهي عملية معقدة تتطلب إصلاحاً تشريعياً شاملاً، وإصلاحاً للقطاع الأمني بأكمله، وإجراء العدالة الانتقالية، وبناء المؤسسات الديمقراطية، وتعميقاً للمثل للديمقراطية، فالعلاقات المدنية العسكرية سلسلة طويلة متعددة الحلقات والمراحل ومتشابكة مع التحول الديمقراطي، وليست منفصلة عنه، وهي جوهرة التاج في التحول الديمقراطي في الواقع؛ ولذلك فإن أدق مرحلة في التحول الديمقراطي لأي دولة هي إدارة العلاقات المدنية العسكرية، فإن لم تُحسن إدارة هذا الموضوع المتشابك والمعقد فإنه بمثابة إعلان عودة إلى الحالة السلطوية التي كانت عليها قبل عملية التحول الديمقراطي، وبالتالي تعطيل كل استحقاقات التحول، وعلى رأسها عودة اللاجئين والنازحين، وانخراطهم ومشاركتهم في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

تدفع العلاقة العضوية بين البيئة الآمنة - وما تتطلبه من سياسات معززة للعلاقات المدنية العسكرية - وملف العودة الكريمة والطوعية باتجاه البحث المستمر عن مؤشرات تلك البيئة في الجغرافية السورية التي تتقاسمها قوى وفواعل متباينة، واختبار جهوزيتها لتنفيذ الاستحقاقات السورية المؤجلة، وفي ظل غياب "المرحلة السياسية الجديدة" بحكم الاستعصاء الذي تشهده العملية السياسية وما رافقه من "تجميد حذر" في المشهد الميداني الذي أفرز "أنماط حكم متباينة" تدعمها قوى دولية وإقليمية، فإن قياس تلك المؤشرات سينعكس على الحالة المُتشكلة ضمن تلك الأنماط؛ ومن هنا تستمد الورقة إشكاليتها في اختبار جهوزية البيئات الأمنية في المناطق التي تتحكم بها تلك الأنماط، وتبيان أثر نتائج هذا الاختبار على استحقاق العودة الآمنة، لتركز على تساؤل مركزي إلى أي مدى يشكل واقع العلاقات المدنية العسكرية عاملاً دافعاً لعودة اللاجئين.

وإذ تركز الورقة على مناطق سيطرة النظام بشكل مكثف، فمرد ذلك تبيان ملامح واقع العلاقات المدنية العسكرية فيها باعتبار أن النظام يسيطر على الدولة (قانونياً ومؤسساتياً) من جهة، وبحكم أن مقارباته الأمنية هي موضع الاهتمام، وسيكون لها أثر في تحديد الانطباع العام لمستقبل العلاقات المدنية العسكرية وتأثيرها على عودة قرابة ستة ملايين لاجئ ومثلهم نازح؛ ورغم ذلك تطل الورقة على تلك المؤشرات في مناطق خارج سيطرة النظام نظراً لما أفرزته حالات الاستقرار الهش في المشهد الميداني ولاختبار إمكانية توفر بيئات آمنة للعودة.

لقراءة المادة انقر هنا

التصنيف الكتب

الملخص التنفيذي

  • تمثل الهدف الأساسي لهذا الاستطلاع في التعرف إلى واقع المؤشرات المرتبطة بالمشهد الأمني في سورية ومدى تأثيرها على عودة اللاجئين السوريين من دول الجوار، من خلال العمل بداية على تشخيص المشهد الأمني العام في مختلف المناطق السورية، يليها محاولة التعرف إلى طبيعة العلاقات بين المواطنين والأجهزة الأمنية في هذه المناطق، ومن ثم تحديد أهم المتغيرات التي تحكم قرارات اللاجئين بالعودة إلى سورية. كما تتناول واقع عودة اللاجئين إلى كل من مناطق النظام، ومناطق المعارضة، ومناطق الإدارة الذاتية.
  • تم الاعتماد على عينة ملائمة من اللاجئين السوريين في العراق ولبنان والأردن وتركيا، مكونة من (620) مستجوباً، إضافة إلى عقد جلستي تركيز في مناطق سيطرة النظام في محافظتي درعا وريف دمشق.
  • تم التوصل إلى مجموعة من النتائج التي عكست رأي العينة في جميع المؤشرات المرتبطة بالمشهد الأمني داخل سورية، ذات التأثير المباشر وغير المباشر على عودتهم إلى سورية.
  • وفيما يلي إيجاز لهذه النتائج وفقاً للمشهد الأمني العام في مختلف المناطق السورية، والعلاقات المدنية العسكرية، والمتغيرات التي تحكم قرار عودة اللاجئين، وواقع العودة إلى المناطق الثلاث.
  1. المشهد الأمني العام
  • ما يزال المشهد الأمني في جميع المناطق السورية يعاني من سيولةٍ عاليةٍ وتشظٍ شديدٍ، متأثراً بطبيعة الحال بسيولة كل من المشهدين السياسي والعسكري، ومخَّلِفاً في الوقت ذاته حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وإن بنسب متفاوتة في جميع المناطق.
  • لم يتغير سلوك الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد عما كان سائداً قبل انطلاق الثورة السورية في عام 2011، بل على العكس ازداد سلوك هذه الأجهزة ضراوة تجاه المدنيين، وازدادت حالات الاعتقال والتصفية والتعذيب الممنهج.
  • أصبح النشاط الأمني في عموم المناطق السورية مرتبطاً بالتكسب من قبل الجهات القائمة عليه، نتيجة شيوع حالة الفلتان الأمني، وغياب المساءلة والقدرة على ضبط سلوكيات الأفراد العاملين في المؤسسات والكيانات والمجموعات المكلفة بالعمل الأمني.
  • ما تزال الجهات الأمنية المكلفة بضبط الأمن في مناطق المعارضة لا تمتلك الاحترافية في العمل الأمني، ما أدى إلى تردي الحالة الأمنية وعدم القدرة على ضبطها بالشكل الأمثل، مع التواتر المتزايد في عدد الانتهاكات الأمنية ضمنها.
  • يتسم المشهد الأمني في مناطق شرق سورية بنوع من التمايز بين المدن والبلدات، ففي حين تسود الأجواء الآمنة نسبياً في محافظة الحسكة، فإن هذه الأجواء تتبدد في محافظتي الرقة ودير الزور.
  1. العلاقات بين المواطنين والأجهزة الأمنية
  • تشهد العلاقات القائمة بين الأجهزة الأمنية والمواطنين تدهوراً ملحوظاً في جميع المناطق، وتتصدر مناطق سيطرة النظام هذه المناطق بواقعها المتردي، الأمر الذي قد يؤشر إلى عدِّ هذه العلاقات معيقاً لعملية العودة الطوعية للاجئين السوريين من الدول المجاورة.
  • عززت تجاوزات الأجهزة الأمنية التابعة للنظام من الشعور بالسخط الشعبي تجاهها، وعمقت مشاعر الخوف منها، وزادت الصورة الذهنية السلبية لدى المواطنين اتجاهها، مما صعّب من إمكانية التصالح مع هذه الأجهزة أو استعادة الثقة المفقودة فيها من جانب المواطنين، أو الاطمئنان للتعامل معها.
  • الأجهزة الأمنية التابعة للنظام لم تعد قادرة على ضبط سلوك الميليشيات العسكرية تجاه المدنيين، بعدما تعاظم نفوذها وقوتها العسكرية، وعدم رغبة هذه الأجهزة في الدخول مع صراع معها. مما زاد من السخط الشعبي تجاه هذه الأجهزة.
  • في مناطق المعارضة، ما تزال الأجهزة الأمنية تواجه تحديات في كيفية تقليص نفوذ الفصائل والحد من تجاوزاتها تجاه المدنيين، مع وجود تعنت لدى بعض الفصائل للاستجابة لقرارات هذه الأجهزة.
  • تشهد عموم المناطق وجود مستوى ثقة متدنٍ لدى المواطنين تجاه قيام الأجهزة الأمنية بمعالجة شكاواهم، ووجود تحيز لديها في عمليات الاعتقال والاستجابة لهذه الشكاوى.
  • بعد عام 2011، زاد اعتماد الأجهزة الأمنية للنظام على شبكات التجسس الداخلي والخارجي، عبر زرع المخبرين في جميع مناطقها، وبين مختلف طبقات المجتمع، وفي الدول المستضيفة للاجئين السوريين، مع إيلاء تركيز أكبر على مراقبة العائدين إلى المناطق التي استعاد النظام السيطرة عليها.
  1. المتغيرات التي تحكم قرارات عودة اللاجئين
  • يمثل مدى توفر سبل المعيشة أحد العوامل الهامة في قرار عودة اللاجئ، في ظل الواقع الاقتصادي المتردي في عموم المناطق السورية، ومدى قدرة العائدين على الصمود في ظل هذا الواقع. كذلك يلعب توفر الخدمات العامة، وضمان حقوق الملكية العقارية، ومدى تفشي الفساد الأخلاقي والاجتماعي دوراً هاماً في تفكير اللاجئ عند اتخاذ قراره بالعودة.
  • تُمثل العودة تحت إشراف الأمم المتحدة ومدى توفر شروط وظروف العودة الكريمة والطوعية أهمية كبيرة لدى اللاجئين السوريين. كذلك فإن من العوامل المؤثرة والدافعة لقرار العودة الظروف المعاشية وتوفر الأمن والقبول المجتمعي ومدى التضييق عليهم في الدول المستضيفة.
  • يمثل الأقارب والأصدقاء داخل سورية المصدر الأكثر أهمية للاجئين في الحصول على المعلومات المرتبطة بالمشهد الأمني، تليها وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام الدولية، ووسائل الإعلام السورية غير التابعة للنظام. إلى جانب التقارير الصادرة عن منظمات المجتمع المدني وتقارير المنظمات الدولية.
  • يعد الاعتقال التعسفي من قبل الأجهزة الأمنية للنظام والميليشيات والفصائل العسكرية المنتشرة على طول الخارطة السورية من بين أهم المهددات وفقاً لنتائج الاستطلاع، إلى جانب الاحتجاز داخل الفروع الأمنية في مناطق النظام والمناطق الخارجة عن سيطرته، تليها عمليات السرقة والخطف والابتزاز لتحقيق المكاسب المادية والشخصية وطلب الفدية، وتسلط الميليشيات المحلية والأجنبية، والاغتيالات والتفجيرات.
  • إن أكثر الفئات استهدافاً للاعتقال حال عودتهم إلى مناطق النظام، فئة الناشطين السياسيين والمنتسبين للجيش الحر والفصائل العسكرية المعارضة، وكذلك المنشقين عن الجيش والمطلوبين للخدمة العسكرية. تليها فئات الموظفين المنشقين عن مؤسسات النظام، والعائلات من المناطق المعارضة للنظام، وأصحاب رؤوس الأموال على التوالي.
  1. واقع عودة اللاجئين إلى مناطق السيطرة في سورية
  • تشكل العودة إلى مناطق النظام خياراً مستبعداً من قبل نسبة كبيرة من اللاجئين في مختلف الدول، لعدم وجود أي ضمانات دولية موثوقة من جهات محايدة تكفل أمن اللاجئين العائدين لهذه المناطق. أضف إلى ذلك عدم رغبة النظام بعودة اللاجئين إلى الوطن، والانتقائية التي يريد فرضها على قوائم العائدين عبر العديد من الإجراءات، وبما يخدم الهندسة الديمغرافية التي يسعى إلى تطبيقها في مناطق سيطرته، إلى جانب أن الأجهزة الأمنية التابعة للنظام غير قابلة للإصلاح أو إعادة الهيكلة لارتباطها العضوي بنظام الأسد، وعدم قبول هذه الأجهزة لأي مبادرات تهدف إلى إصلاحها أو إعادة هيكلتها.
  • ما تزال المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة هشة ومخترقة أمنياً، الأمر الذي يوثر على مدى قدرة المواطنين على استقرارهم الاجتماعي داخلها، ويشكل هذا هاجساً يؤرق المدنيين المقيمين والنازحين وحتى اللاجئين المقيمين في تركيا. ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى تدني مستوى الاحترافية لدى الأجهزة الأمنية، وضعف التجهيزات المادية واللوجستية لها، وغياب الاستراتيجيات الشاملة في عملها، الأمر الذي ينعكس بشكل مباشر على تدهور الوضع الأمني في هذه المناطق، وكون بعض هذه المناطق أيضاً مرشح لتدهور أكبر في الوضع الأمني العام، وذلك نتيجة العمليات العسكرية المستمرة من قبل النظام وحلفائه، وما تسببت به من تهجير عشرات الآلاف من السكان.
  • مناطق الإدارة الذاتية ما تزال بعيدة عن حالة الاستقرار الأمني الكامل، لعوامل ترتبط ببيروقراطية الأجهزة الأمنية، وممارساتها التمييزية بين السكان، وقمع الاحتجاجات والاعتقالات. وبالتالي تفاوت مستوى توفر الأمن بين عموم هذه المناطق. أضف إلى ذلك، وجود خلايا نائمة لتنظم "داعش" وهي تلعب دوراً بارزاً في عدم استقرار هذه المناطق أمنياً. إلى جانب حالة عدم الثقة التي تصبغ العلاقات بين المواطنين والأجهزة الأمنية في هذه المناطق، والتي أثرت بشكل كبير على مستوى الرضا الشعبي عن الوضع الأمني، وبالتالي افتقاد هذه المناطق للمقومات المحفزة لعودة اللاجئين إليها.

مقدمة

مع دخول القضية السوري عامها العاشر، وما رافقها من تداعيات كارثية على مستوى الدولة والمجتمع، تبرز قضية اللاجئين والنازحين السورين، كأحد أهم التحديات التي ستفرض نفسها في حاضر ومستقبل هذا النزاع، سواء على مستوى اللاجئين أنفسهم واستقرارهم في أماكن تواجدهم، أو اتخاذ قرار العودة للوطن، أو على مستوى الوضع في سورية وتوافر الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية المناسبة التي تمهد لخيار العودة، أو على مستوى التطورات على المستويين الإقليمي والدولي، وحركية الفواعل ذوي الصلة بالنزاع السوري وتأثيرهم على قضية عودة اللاجئين، وترتيب الظرفين الإقليمي والدولي المناسبين لضمان توافر الشروط الموضوعية اللازمة لهذه العودة.

في سياق تناول الشروط الموضوعية لعودة اللاجئين السوريين وتحليل الظروف الداخلية آنفة الذكر ذات الصلة بهذه العودة، يتصدر الظرف الأمني بقية الظروف باعتباره الظرف الأكثر مساساً بحياة العائدين، وما يشمله من مهددات أمنية قد تقوض استقرارهم في حال العودة، فبعد سنوات من النزاع العنيف الذي شهدته مختلف الأراضي السورية، وتراجع حدته مؤخراً، ما يزال الملف الأمني في مختلف المناطق يمثل أكبر التحديات والاختبارات التي تواجه القوى المسيطرة على تلك المناطق؛ فمن جهة، فإنه سيكون لتداعيات هذا الملف أثرٌ واضحٌ على استحقاقات هذه المناطق، سواء فيما يتعلق بالقدرة على تأمين متطلبات البيئة الآمنة اللازمة للاستقرار الاجتماعي وعودة اللاجئين والنازحين داخلياً، أم فيما يرتبط بأنشطة التعافي المبكر الممهدة لمرحلة عملية إعادة الإعمار في هذه المناطق من جهة أخرى.

وتأتي أهمية هذا الاستطلاع في الوقت الحاضر من زاوية أن تردي الظرف الأمني على المستوى المحلي لم يعد خافياً، وهو أمر لا يمكن فصله عن السياق العام للملف السوري وتعقيداته وتشابكاته، التي ترمي بظلالها محلياً على مختلف المناطق السورية، بغض النظر عن القوى المسيطرة عليها، إذ إن حالة الفوضى الأمنية، التي تتجلى بالانتهاكات الأمنية المختلفة تأتي بصور وأدوات وكثافة مختلفة، تفرض نفسها على حالة عدم الاستقرار الأمني في هذه المناطق، وتعكس بالتالي هشاشة البيئة الأمنية وسيولتها، الأمر الذي لا يتفق والمطلب الذي تتوخى الجهات الدولية توافره كأحد الشروط الموضوعية للعودة الآمنة والطوعية للاجئين السوريين من دول الجوار.

بناء على ما سبق، يهدف هذا الاستطلاع إلى التعرف إلى واقع المؤشرات الفرعية المرتبطة بمؤشر الاستقرار الأمني في سورية، والتي تشمل: كفاءة الأجهزة الأمنية والمنظومة القانونية المرتبطة بها، وسلوكيات هذه الأجهزة وعملياتها الأمنية، إلى جانب نظم المحاسبة والمتابعة والشكاوى ذات الصلة، ومدى تأثير هذه المؤشرات على عودة اللاجئين السوريين من دول الجوار، من خلال العمل بداية على تشخيص المشهد الأمني العام في مختلف المناطق السورية، يليه محاولة التعرف إلى طبيعة العلاقات بين المواطنين والأجهزة الأمنية في هذه المناطق، ومن ثم تحديد أهم المتغيرات التي تحكم قرار اللاجئين بالعودة إلى سورية، ثم تناول واقع عودة اللاجئين إلى مناطق النظام، ومناطق المعارضة، ومناطق الإدارة الذاتية، لتحديد أهم المؤشرات المرتبطة بعودة اللاجئين إلى هذه المناطق.

لقراءة المادة انقر هنا

التصنيف الكتب

المقدمة

لا تزال الأسئلة المتعلقة بقطاعي الأمن والدفاع في سورية من أكثر الأسئلة أهمية، وازدادت أهميتها بعد الحراك الثوري، لأن غايات الإصلاح كانت مطلباً رئيسياً في هذا الحراك، كما أنها شهدت وما تزال تحولات عميقة أثرت على بنيتها ووظيفتها، فمن جهة أولى ما تزال معظم هذه الأسئلة دون إجابات معرفية كافية، بحكم أن عملية البحث في هذا المضمار هي عملية "مناهضة للأمن والدفاع" وفق أعراف الأجهزة الأمنية، ومن جهة ثانية فإن مكامن الخلل التي تستوجب تسليط الضوء عليها كثيرة  وقديمة، وقد تراكم فوقها العديد من السياسات والممارسات التي حولت الخلل إلى معضلة صعبة الحل، ومن جهة ثالثة فإن واقع المؤسسة العسكرية الراهن يفرض أسئلة تتعلق بطبيعة وجود هذه المؤسسة ومآلها، خاصة في ظل ما تشهده من تحولات وتبدلات عميقة في تكوينها الاجتماعي ومراكز القوة  والفاعلين الرئيسيين فيها. تبرز الضرورة البحثية لإعادة تعريف هذه المؤسسة في ضوء ما أحدثته تلك التحولات، وبيان أثرها على عملية إعادة التشكل الآخذة بالتبلور، تلك العملية التي تخضع لعدة بوصلات متضاربة ويغيب عنها البعد الوطني.

سيبقى تساؤل حول دور الجيش وأثره في التفاعلات والتحولات المحلية وعلى حركية التحول الديمقراطي سؤالاً مركزياً يواجه عملية إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية السورية، فالخلل البنائي والوظيفي والتشوه الهوياتي الذي اعترى هذه المؤسسة دفعها باستمرار للتدخل في الحياة الاجتماعية والسياسية وفق منطوقٍ يخدُم ويُغذّي فلسفة الفئة الحاكمة. فالعبث العقائدي والتنظيمي والوظيفي بمؤسسات الأمن والدفاع حوَّلها لمؤسسة شديدة الاغتراب عن المجتمع السوري، وفاقدة لمفهوم الحياد السياسي، وقوة مصطفة سياسياً لصالح النظام. والتحدي الأبرز أمام هذه العملية ليس فقط ما هو مرتبط تقنياً ببرامج SSR, DDR وإنما ما هو أيضاً متسق مع الظرف السوري كحزبوية الجيش وعقيدته، وانعدام الأطر المقوننة للعلاقات المدنية العسكرية.

واستكمالاً لمخرجات المشروع البحثي الذي أطلقه مركز عمران للدراسات الاستراتيجية عام 2018 حول تحولات المؤسسة العسكرية السورية وتحدي التغيير وإعادة التشكل، يواصل المركز اهتماماته البحثية في هذا المجال في عام 2019،  مركِّزاً على أسئلة الواقع الراهن وما تستوجبه من تفكيك عدة إشكاليات بحثية، تتعلق بالبُنية التنظمية وطبيعة التشكل الشبكي الذي تشهده هذه البنية، وقد أطلق المركز مشروعه البحثي الثاني في هذا المضمار حول "المؤسسة العسكرية السورية في عام 2019: طائفية وميليشاوية واستثمارات أجنبية"، وأنجز جملة من المخرجات البحثية والتي نجمعها في هذا الكتيب كما هو مبين أدناه:

  1. دراسة ضمن محور التكوين الاجتماعي للجيش: ما الذي تفصح عنه الطائفية في الجيش السوري؟
  2. التجمعات والشبكات العسكرية داخل الجيش السوري: ولاءات متعددة وفكر ميليشياوي (ورقة).
  3. دور ومصير القوى والميليشيات الفلسطينية الموالية للنظام السوري (ورقة).
  4. الفيالق العسكرية المستحدثة في الجيش (تقرير).
  5. اختبار قدرة النظام على إعادة الهيكلة والدمج (ورقة).
  6. تحديات إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية غير التقنية والفنية(ورقة).
  7. القضاء العسكري في سورية خلال الفترة 1950-2019، (تقرير).

واعتمدت هذه المخرجات البحثية على خمسة جلسات تركيز عُقدت مع مجموعة من الضباط المنشقِّين من مختلف الاختصاصات في عدة مدن جنوب تركيا لمناقشة محورين رئيسين، الأول: ماذا بقي من الجيش؟ والثاني: التطييف وآلياته في الجيش. كما تم إجراء عشرات المقابلات الشخصية مع عدة ضباط منشقِّين.

 

للمزيد عن الكتاب:

النسخة العربية: http://bit.ly/2LvSWum

النسخة الإنكليزية: http://bit.ly/2XiPeGZ

 

التصنيف الكتب

في معظم الدول؛ تمارس اللجان البرلمانية أو الهيئات البرلمانية الأخرى مهام الرقابة المالية على مؤسسات الدولة، وتختلف هذه الصلاحية التي يملكها البرلمان من نظام لآخر فيما يتعلق بقطاع الدفاع والأمن  فهي: صلاحيات غير محدودة كما في السويد التي يمتلك برلمانها الحق في تعديل بنود الموازنة بما فيها البنود المتصلة بقطاعي الأمن والدفاع، وتستطيع البرلمانات تعديل البنود حتى لو تمخض هذا التعديل عن زيادة مبلغ النفقات أو إدخال بنود جديدة على الموازنة؛ أو هي صلاحيات مقيدة كما في سويسرا وإسبانيا التي تستطيع برلماناتها إدخال التعديلات على الموازنة ولكنها لا تملك تعديل المبلغ الكلي المرصود للنفقات فيها؛ بالإضافة إلى الصلاحيات المحدودة كما في بريطانيا وكندا إذ لا تستطيع البرلمانات إلا تقليص النفقات المرصودة في الموازنة؛([1]) وبكل الأحوال من نافل القول أن لهذه اللجان أدوار ما يمارسها وفق القانون والدستور؛ إلا أن الوضع في سورية مختلف كلياً فممارسات حكومة النظام وبرلمانه تزداد وتتقلص إلا في فيما يخص الأجهزة التي تعد دعائم حكمه وعلى رأسها الأمن والدفاع فهي أدوار صفرية بامتياز لا رقابة ولا اشراف ومقترحات ومراجعات بل موافقة وتنفيذ

يعتبر العامل الاقتصادي في سورية أحد الأسباب التي تدفع قسم من الشباب نحو التطوع في السلك العسكري بسبب عدم حاجة المتطوع لقضاء عدة سنوات في الدراسة الجامعية ومن ثم تأدية الخدمة الإلزامية لمدة سنة وثمانية أشهر، ومن ثم البحث عن عمل من أجل تلقي راتب شهري، وبالتالي يعتبر التطوع في المؤسسة العسكرية أقصر الطرق من أجل تلقي راتب شهري ولاحقاً التدرج بالرتب العسكريةً ودرجات الراتب، وخلال السنوات الماضية كان القسم الأعظم من المتطوعين ينتمي للطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد ورموز حكمه.

يعد قانون الخدمة العسكرية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 18 لعام 2003 الركيزة الأساسية في عمل المتطوعين من ضباط وصف ضباط وأفراد في المؤسسة العسكرية([2])، حيث تتضمن بعض مواد هذا القانون تحديد رواتب العسكريين بمختلف فئاتهم ورتبهم ودرجاتهم، وعبر السنوات التالية تم زيادة رواتب العسكريين عدد من المرات في الأعوام (2006 – 2008 – 2011 – 2013 – 2015 – 2018 مرتين) إلى جانب إعادة صياغة جدول الرواتب بما يتوافق مع تلك الزيادات التي كانت تتم بشكل عام مع زيادات العاملين المدنيين في الدولة.

ونتيجة للأوضاع الاقتصادية المتردية خلال السنوات الماضية تم إقرار "ولأول مرة في سورية" ما يسمى "بالتعويض المعيشي" بقيمة (4000 -7500) ليرة عبر مراسيم تشريعية صادرة عن بشار الأسد في عامي 2015 و2016 على التوالي.([3])

وفي شهر حزيران من عام 2018 أخذت رواتب العسكريين منحى مختلف حيث تمت زيادة رواتبهم دون بقية العاملين في الدولة بنسبة 30% بعد إضافة التعويض المعيشي ليكون من أساس الراتب المقطوع، وفي نهاية عام 2018 صدرت زيادة أخرى للعسكريين فقط بنسبة 8% بالإضافة إلى مضاعفة راتب الطيران الخاص بالضباط الطيارين لثلاثة أضعاف ما كان عليه في عام 2015، وهو ما شكّل نقلة نوعية في رواتب العسكريين وبات ينظر لهذه الزيادة على أنها مكافأة من قيادة النظام السوري لضباطه وصف ضباطه وأفراده المتطوعين على وقوفهم معه في مواجهة المعارضة المسلحة.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا؛ هل كافأ النظام السوري عسكرييه حقاً أم انه استفاد من اقتصاد الحرب بشكل ما؟ وهنا نحاول الوقوف على كيفية إدارة النظام لاستحقاق الرواتب العسكرية منذ 2003 وحتى الوقت الحاضر، إذ يؤكد المسار الزمني لرواتب العسكريين منذ 2003 وحتى 2019 أن قيمتها لاتزال أقل مما كان يتقاضاه العسكريين بنفس الرتبة والدرجة إذا ما احتُسِبت بسعر صرف الدولار الأمريكي خصوصاً أن الليرة السورية ومنذ عام 2011 وما تلاه شهدت انخفاضاً ملموساً أمام الدولار وباتت الأسواق المحلية في ظل تدهور الليرة تعتمد في حساب قيم السلع والخدمات على الدولار وهو ما انعكس على مستوى المعيشي؛([4]) وهو يدعونا لمقارنة سلسلة الرواتب مقرونة بالدولار والليرة على مدار خمسة عشر عاماً الماضية وعلى سبيل المثال لا الحصر يظهر الجدول التالي سلسلة الراتب للضابط الملازم منذ عام 2003 وحتى عام 2019:([5])

ويظهر الشكل البياني التالي حركة الراتب بالليرة والدولار بشكل متزامن مع سعر الصرف في وقت كل زيادة، إلا أن راتب الملازم بوقت الزيادة الأخيرة بنهاية عام 2018 كان مساو تماماً لما كان عليه بعام 2003 في حين أن قيمته بالوقت الحاضر يساوي 90 دولار وهو أقل مما كان عليه في عام 2003. ويلاحظ في الشكل البياني الثاني أن الخط البياني الخاص بالراتب قد انتظم بحركة تصاعدية بعد إضافة التعويض المعيشي.

 

  ويمكن تعميم ما سبق على راتب العميد من حيث الدرجتين الأولى والخامسة كما يلي:

إلا أن موضوع رواتب العسكريين والزيادات لا تنحصر عند هذا الحد، حيث أن رواتب العسكريين ضمن الرتبة الواحدة تنقسم لدرجات مختلفة بحسب المدة التي يقضيها العسكري بالرتبة، ويتم نقله من درجة إلى درجة أعلى ضمن نفس الرتبة في سلسلة الرواتب كل عامين، فعلى سبيل المثال كانت الزيادة بين درجة وأخرى في عام 2006 تمثل 7 % أما بالوقت الحالي فهي لا تزيد عن 5 % بعد مرور كل هذه السنوات. ويذكر أن قيمة الرواتب بعد الزيادة الأخيرة في عام 2018 بالليرة السورية أصبحت على الشكل التالي([6]):

الضباط:

صف الضباط:

الأفراد:

 

منذ عام 2003 وحتى الوقت الحاضر لا تزال الزيادات على الرواتب في المؤسسة العسكرية تتم عبر إصدار مراسيم تشريعية من بشار الأسد بشكل مباشر بعيداً عن مؤسسات الدولة المدنية، وهو ما خلق شرخاً إضافياً في العلاقات المدنية العسكرية كون أن "رئيس الجمهورية" هو القائد العام للجيش والقوات المسلحة،([7]) ويقوم بإصدار هذه الزيادات بمعزل عن المؤسسات المدينة ليخص بها العسكريين فقط دون غيرهم.

إلا أنه وعلى الرغم من هذه الزيادات المتواصلة فهي زيادة وهمية حيث أن السلة المعيشية قد ارتبطت طرداً مع الدولار وكذلك هو الحال بالنسبة لآجار البيوت الشهرية، حيث بلغت تكاليف معيشة أسرة في نهاية الربع الثالث من عام 2018 وفق مؤشر قاسيون لتكاليف معيشة أسرة في دمشق، مكونة من 5 أشخاص إلى 309 آلاف ليرة سورية،([8]) وهذا الأمر دفع بعض العسكريين بالتوجه نحو أساليب مختلفة للتحصيل المالي، كالارتباط بشبكات الفساد المحلية والتهريب، والمشاركة في عمليات التعفييش من المناطق التي كان يدخلها الجيش السوري منذ عام 2011، وهو ما دفع  البعض أيضاً لتفضيل التطوع في الفيق الخامس المدعوم روسياً على التطوع في مؤسسة النظام العسكرية والتي على الرغم من كافة التضحيات التي قدمتها لصالح نظام الحكم لمنع سقوطه إلا أن هذا النظام لم يؤمن لمن ضحى من أجله أبسط مقومات الحياة الأساسية.

تعد رواتب الجيش مؤشراً بالغ الوضوح لغياب أية أدوار مدنية على عمليات تقدير الرواتب والعلاوات والمكافآت لصالح الاستحواذ المستمر للنظام؛ وأن الزيادات الوهمية ما كانت إلا لتعزيز الولاء؛ فمنذ توريث بشار الأسد للحكم في سورية؛ كان ولا زال يحاول التهرب من أسئلة "الشرعية" واستحقاقات الاصلاح والتنمية البشرية والاقتصادية عبر تقديم حزمة من زيادات الرواتب للعاملين في الدولة  لا سيما العسكريين منهم بشكل خاص ( زيادات وهمية ترافقها دوماً زيادات في الأسعار) في دليل واضح على إفلاسه من أي سياسات تنموية والتي تتطلب تحرير مقدرات الدولة وتغيير الأنماط البرلمانية والاقتصادية وتعزيز الرقابة بكل أنواعها وهو ما سيعجز عنه هذا النظام لصالح إعادة اهتمامه ببناء هياكل وشبكات التحكم الخاصة به.


([1]) لينا أندرسون:" مفاهيم الرقابة المالية في القطاع الأمني والأطراف الرئيسية المشاركة فيها"، منشور صادر عن مركز جنيف للرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة، 2015، ص 39- 40.

([2]) المرسوم التشريعي رقم 18 لعام 2003 المتضمن قانون الخدمة العسكرية، الموقع الالكتروني الرسمي لمجلس الشعب السوري، متوفر على الرابط https://bit.ly/2t8kLyH،

([3])  التعويض المعيشي، المرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2015، المرسوم التشريعي رقم 13 لعام 2016، الموقع الالكتروني الرسمي لمجلس الشعب السوري، متوفر على الروابط، https://bit.ly/2tgTfz7 ، https://bit.ly/2BqEYUN

([4]) بلغ سعر الدولار الأمريكي في بداية شهر شباط/ فبراير حوالي 515 ليرة سورية مقابل كل دولار أمريكي.

([5])  تم اعتماد موقع  https://ec.europa.eu/  من أجل حساب الليرة السورية بما يقابلها بالدولار بشهر وسنة كل زيادة في الرواتب

([6]) تفاصيل المرسوم التشريعي رقم 20 لعام 2018، الموقع الرسمي لوكالة الأنباء السورية "سانا"، متوفر على الرابط https://bit.ly/2WNB41x  

([7]) بشار الأسد ضابط في الجيش السوري منذ ثمانينيات القرن الماضي وهو شخصية عسكرية وليس مدنية

([8]) 309 ألف ليرة تكاليف معيشة أسرة - أيلول 2018، جريدة قاسيون، متوفر على الرابط https://bit.ly/2E8QW6f،

 

التصنيف مقالات الرأي