انتهت الجولة الخامسة من اجتماعات اللجنة الدستورية السورية في 29 كانون الثاني/ يناير الماضي دون أي تقدّم، على غرار الجولات الأربع السابقة التي بدأت قبل أكثر من عام.
وعلى غرار كل المسارات السياسية ذات الصلة بالقضية السورية التي طرحتها جهات إقليمية ودولية وأممية، سواء في القاهرة أو فيينا أو جنيف أو أستانة أو سوتشي وغيرها، لم يكتف المسيّر لأعمال هذ الاجتماعات، المبعوث الأممي لسورية جير بيدرسن بأن يُعلن فشلها، بل بث روح التشاؤم حول صلاحية كل هذا المسار، حين أعلن في إحاطته التي تقدّم بها إلى مجلس الأمن في 9 شباط/ فبراير الجاري، أن الاجتماع كان “فرصة ضائعة” و”خيبة أمل”، وأن هناك حاجة “إلى مسار سياسي أوسع” وأنه لن يتحرك أي مسار دون “دبلوماسية دولية بناءة بشأن سورية”.
إذاً، بعد خمسة اجتماعات، وسنة وثلاثة أشهر، مازالت أعمال اللجنة الدستورية تراوح في مربعها الأول، ووفد النظام، ليس فقط وفق رأي المعارضة السورية، بل وفق المبعوث الأممي أيضاً والمراقبين الدوليين، يُعطّل ويرفض ويُماطل، ويدور في حلقات مفرغة ويُفرغ الجلسات من مضمونها، ويلعب على الوقت، ويتحايل في التفاصيل، ويُطبّق حرفياً سياسة النظام الدبلوماسية التي أعلن عنها قبل سنوات وزير الخارجية، والمبنية على إغراق المجتمع الدولي بالتفاصيل الهامشية لإبعاد أي حل سياسي لا يُناسبه.
منذ البداية، كُتب وقيل الكثير حول التشاؤم الذي أحاط تشكيل وضمانات عمل اللجنة الدستورية وجدواها، ولم يُعوّل السوريون كثيرًا عليها، لا لكونها جزءًا من مسار يمكن الولوج من خلاله إلى بقية السلال الأممية التي وضعها المبعوث الأممي السابق ستيفان دي مستورا، بل لأنها لا تُشكِّل الحل بالنسبة للقضية السورية المستعصية، بوجود نظام قادر على جعله حلاً مستحيلاً بأساليبه الملتوية الهادفة لتعطيل كل شيء.
منذ تأسيسها إلى الآن، لم تُناقش اللجنة الدستورية مادة دستورية واحدة، ولم تتفق على سطر واحد، وظلّت تطرح المبادئ ما حول الدستورية، والتعريفات والمصطلحات، والمبادئ الوطنية والقانونية التي لا خلاف عليها لدى أي شعب، ومعاني الانتماء إلى الوطن، بخطوات حرص النظام السوري على أن تسير بطيئة مُملة عبثية، ولم تتطرق إلى البنود محل الخلاف الأساسية، وظلّت “تؤصل” و”تُحضّر” و”تستعد” و”تدرس” و”تُمهّد” للدخول إلى العملية الدستورية، وفق تعابير حرفية منتقاة صرّحت بها شخصيات في وفود الأطراف الثلاثة المشاركة، النظام والمعارضة والمجتمع المدني.
في الجولة الخامسة الأخيرة، رفض النظام اقتراحات تقدّم بها وفد المعارضة حول المسائل الإجرائية، تفي في تسريع وتفعيل عمل اللجنة، كما رفض اقتراحات أخرى تقدّم بها المبعوث الأممي في نفس السياق، فغادر المجتمعون كما قدموا، خاليِّ الوفاض.
رفض وفد النظام هذا ليس عبثياً، ولا طارئاً، بل نابع من “استراتيجية” و”تكتيك” واضحين يسير وفقهما، ويخطط لهما منذ البداية، منذ أستانا وسوتشي وما قبلهما من المشاريع التي يدعمها حلفاؤه، وروسيا بشكل خاص، والتي تضمن له تمرير ما يريد، مستنداً إلى “برود” دولي أو “عدم اكتراث” أو مصالح مختلفة للأطراف ذات الصلة.
أما الاستراتيجية؛ فهي التي أعلنها رأس النظام في مقابلات إعلامية عدة، عنوانها الأساس “لا لأي شيء”، حيث أعلن رفضه لأي خطوة أو حل سياسي مستقبلي في سورية لا يكون الطرف الرابح فيه، أو لا يحافظ على نظامه، وأعلن “لاءاته الأربع، التي تمثلت بـ “لا للقرار 2254” الذي يُشكّل المرجعية لعملية التفاوض السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة والعمود الفقري للحل السياسي وفق كل الدول التي لها علاقة بالقضية السورية، والذي ينص على “دعم عملية سياسية بقيادة سورية تيسرها الأمم المتحدة، وتقيم في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر، حكمًا ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدد جدولًا زمنيًا وعملية لصياغة دستور جديد، ويدعم القرار إجراء انتخابات حرة ونزيهة تجرى، عملًا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرًا تحت إشراف الأمم المتحدة”.
و”لا لاتفاق جنيف” حين قال “مسار جنيف قد فشل، لأنه كان يهدف إلى إسقاط الحكومة عبر هيئة مؤقتة”، و”لا” للجنة الدستورية، التي قال إنه “لا علاقة لها بموضوع الانتخابات”، ولا “لكل شيء” حين قال إن وفد النظام مدعوم من قبل حكومته ولا يمثلها حين قال “الحكومة السورية ليست جزءًا من هذه المفاوضات ولا من هذا النقاش… وهؤلاء أشخاص (وفد النظام في اللجنة الدستورية) من نفس جو الحكومة السورية السياسي، ولكن هذا لا يعني أننا نحن كحكومة نفاوض”، وحين قال “الشعب السوري لا يفكر بالدستور، ولا أحد يتحدث عنه، اهتماماتهم تتعلق بالإصلاحات التي ينبغي علينا القيام بها والسياسات التي نحن بحاجة لتغييرها لضمان تلبية احتياجاتهم”.
أما التكتيك؛ فهو نابع من صلب استراتيجية النظام، ويتعلق باقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في سورية وفق الدستور الذي وضعه النظام نفسه عام 2012، والذي يحدد موعداً لها بين 16 نيسان/ أبريل و16 أيار/ مايو 2021، والتي ستجري في ظل قبضة أمنية حديدية، وحالة حرب وفوضى تعم سورية، ووضع إنساني مأساوي، ووجود ملايين من السوريين اللاجئين والنازحين، والأسد المرشح الوحيد فيها، أو شبه الوحيد في حال قدّم النظام شخصيات خلّبية لذر الرماد في العيون – والعد التنازلي هذا يقتضي تمييع كل شيء، وخاصة عمل اللجنة الدستورية، التي ستضع دستوراً يقود لانتخابات نزيهة وشفافة ومراقبة دولياً، إذا لا يمكن للنظام أن يقبل بها تحت أي ظرف لأن ذلك يعني فناءه.
يراهن النظام على بقاءة على مواد دستور 2012، التي تمنح الرئيس صلاحيات استثنائية تتوّجه حاكماً شمولياً مُطلقاً لسورية، فمنح الأسد نفسه في الدستور صلاحيات واسعة جداً، حيث يتولى تسمية رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء ونوابهم ولا يحتاج لثقة مجلس النواب في ذلك، ويضع السياسة العامة للدولة ويشرف على تنفيذها، ويُعلن الحرب ويعقد الصلح، ويُعلن حالة الطوارئ ويلغيها، ويعيّن رؤساء البعثات الدبلوماسية، ويقود الجيش والقوات المسلحة، ويُعيّن الموظفين المدنيين والعسكريين “كلهم” وينهي خدماتهم، ويحل مجلس النواب، ويتولى السلطة التشريعية بدلاً عن مجلس النواب، ويقترح تغيير الدستور، ويبرّء نفسه من أي جريمة يمكن أن يرتكبها خلال حكمه، ومتى شاء يمكن له أن يعيّن ويفصل أعضاء المحكمة الدستورية العليا التي يمكن لها أن تُحاكمه وتُحاسبه، ويجمع عملياً بيده كل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، التي من المفروض أن تكون مستقلة.
هذه هي خلاصة الدستور الذي يتمسك به الأسد ولا يريد أن يُغيّره، ويوجّه وفد النظام في اللجنة الدستورية لتعطيل أي تقدّم في عمل اللجنة كي لا يتغير، وليدخل الانتخابات المقبلة ويفوز بدورة رئاسية رابعة، ويجثم على صدور السوريين سبع عجاف أخرى، يحكمهم خلالها بالنار والحديد والقبضة الأمنية كما حكمهم هو وأبوه خلال خمسة عقود.
تحاول روسيا التمهيد للانتخابات الرئاسية المقبلة في سورية، بما يتوافق مع مصلحة الأسد، فتحاول تصوير الوضع السوري بالمستقر، وتسعى لمصالحات مؤقتة في الجنوب وغيره، ولا تعترف بفشل اللجنة الدستورية، يساندها في ذلك انشغال الرئيس الأمريكي الجديد باستلام الملفات من سلفه، وتوجّه النظام ليُفرّق بين المهاجر واللاجئ، لتضمن عدم إشراك ملايين اللاجئين والنازحين في أية انتخابات حتى لو كانت صورية وشكلية.
تقول روسيا إنها تريد من دمشق أن تسهم في العملية الدستورية، وأن تشرع في عملية إصلاح داخل البلاد، وتُسرِّب لبعض الأطراف بأنها تسعى إلى إقناع دمشق بإجراء إصلاحات مقابل لعب دور الوسيط لرفع العقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة، كلام لا انعكاس له على الأرض، والرهان على خلافات بين موسكو ودمشق، أو بوادر خلافات ستبدأ قريبًا، ربما فيه من المبالغة الشيء الكثير، لأن الروس – كغيرهم – يُدركون أن تغيير الدستور، أو نقل صلاحيات الرئيس لهيئة حكم انتقالي، أو إجراء انتخابات مراقبة دولياً، يعني بالضرورة المُطلقة زوال الأسد، وخسارة حليف لا يتكرر، هان عليه تسليم مفاتيح سورية إلى قيصر الكرملين.
من نافل القول أن السوريين الذين دفعوا مئات ألوف الضحايا من أجل تغيير النظام، لن يقبلوا العيش من جديد تحت سقف دستور شمولي أمني امبراطوري، أو في ظل قوانين ومحاكم استثنائية وسياسات تمييزية طائفية، أو في بلد يُحكم بالحديد والنار.
لكن، لابد من حلول مبتكرة، تعتمد على مسارات أخرى مدعومة دولياً كما قال بيدرسن، أو مسارات ضاغطة مُلزمة تٌفعّل عمل اللجنة الدستورية وتعيد هيكلتها وبرنامجها وجدولها الزمني، أو مسارات سياسية أخرى تعمل عليها المعارضة وتحشد لها دولياً، ودون ذلك، سيكون أمام السوريين أيام مقبلة ليست سهلة أبدًا، ولا تدعو لأي مستوى من مستويات التفاؤل.
المصدر: السورية نت