يترافق التوتر الحاصل شرق المتوسط مع جملة من المتغيرات الإقليمية والدولية، فعلى الصعيد الدولي نشهد ما يسمى الانسحاب الأميركي العسكري من بعض مناطق الصراع التي شكلت محدداً مهماً في السياسة الأميركية الخارجية لعدة عقود؛ كالسلام مع حركة طالبان، وضرورات تطبيقه من انسحابٍ أميركي من أفغانستان، إلى جانب التيه الأميركي فيما يخص العراق.
ولا يمكن تجاهل طريقة إدارة الرئيس الأميركي ترامب لملف حلف الناتو الذي تقوده أميركا منذ 70 عام، تلك الطريقة التي دفعت بماكرون ليصرح بأن " الناتو ميت سريرياً"، ولا يمكن إلقاء تهمة إنهاء الناتو على إدارة ترامب وحدها، فظهور داعش وتشكيل التحالف الدولي الذي مكن أميركا من التدخل في مناطق من الشرق الأوسط والعالم دون مظلة القرارات الدولية، بالإضافة للسياسة التي انتهجها سلف ترامب " أوباما " في الشرق الأوسط، والتي تم تتويجها بالاتفاق النووي مع إيران، مع جملة أخرى من العوامل المؤثرة على كيفية وصول منطقة حوض المتوسط لما نشهده من أزمة متعلقة بالسياسات الجيوسياسية لعدة فواعل هامة، كالاتحاد الأوروبي وتركيا، وفرنسا كدولة.
فالفراغ الذي يشكله على الأقل معرفة عدم رغبة واشنطن في الانخراط المباشر بصراعات المنطقة على المستوى المعهود منها، واكتفائها الآن بسياسة استخدام عصى العقوبات في غياب واضح لأية مشاريع تحالف أو توافق فيما عدا " السلام الإسرائيلي – الخليجي "، يدفع بعدة دول وكيانات إخرى مثل الاتحاد الأوربي للعب دور القوة الإقليمية، وهذا ما يظهر بشكلٍ جلي في أزمة " غاز شرق المتوسط والأزمة الليبية".
هذا الواقع الجديد البادئ بالتشكل أظهر أهمية تحول الاتحاد الأوروبي لفاعلٍ دولي حقيقي، في ظل ما يسمى الانسحاب الأميركي، إلا أن محاولات الاتحاد الظهور كفاعلٍ جيوسياسي إلى الآن، أظهرت ضعفه في التأثير بالسياسة الإقليمية والدولية، وهو ما بدا واضحاً من تشكل سياسات خارجية متعددة ضمن الاتحاد، بصورة تؤدي إلى الآن لحالة من التشتت في مضمار سياسته الخارجية، وهذه الإشكالية تظهر بشكلٍ جلي في المواقف الألمانية والفرنسية من أزمة شرق المتوسط والأزمة الليبية، وهذا الاختلاف في المواقف بالأخص من أزمة التنقيب التركي عن الغاز والخلافات اليونانية التركية الناتجة عنه، تجذر أكثر نتيجة غياب الدور الأميركي الفعال، فواشنطن كانت سابقاً تقوم بدور الوسيط بين الطرفين مستندة على كون الطرفين حليفين لواشنطن ولوجودهم ضمن الناتو.
إلا أن هذا الدور بدأ يخف مع سياسة أوباما في التقليل من الانخراط المباشر وما تبعها من غياب الاستقرار في سياسات الإدارة الأميركية الحالية وهو ما حدا بالأطراف الأوروبية لتقوم بمحاولة ملء الفراغ الناتج عنه بعدة أشكال، فألمانيا تحاول حل إشكالية شرق المتوسط عبر الحوار ولعب دور الوسيط بين الأطراف المختلفة، على الضفة الأخرى تحاول فرنسا لعب دورٍ كفاعلٍ جيوسياسي، أو محدد للسياسات الإقليمية. وكلا المقاربتين لم تحققا حتى الآن نجاحاً في تحويل أوروبا لفاعلٍ مؤثر بناءً على سياستها الخارجية، فاختلاف المقاربات بين ألمانيا وفرنسا القوتين الرئيسيتين في الاتحاد بعد انسحاب بريطانيا، لا يتمثل فقط فيما يخص سياساتهم اتجاه تركيا وشرق المتوسط، بل يتعداه لملفاتٍ أخرى منها، كيفية رؤيتهم لمستقبل حلف الناتو، وللعلاقة مع روسيا، وكيفية إدارة التدخلات الروسية في الملف الأوروبي وفي حوض المتوسط.
ترنح المواقف والتحركات الجيوسياسية الخارجية الأوروبية أدى بالاتحاد لمحاولة تشكيل " المفوضية الأوروبية الجيوسياسية"، نهاية العام 2019، وستحاول اللجنة العمل "من أجل أوروبا موحدة وقوية في الخارج"، وهذه الخطوة هي اعتراف بعدم فاعلية السياسة الخارجية الأوروبية إلى الآن مع أن الاتحاد لديه أكبر سوق في العالم، وهو ثاني أعلى طرف فيما يخص الإنفاق في مجال الدفاع (بعد الولايات المتحدة)، ويمتلك قوة دبلوماسية يقارب تعدادها تعداد جيش كامل، بـ 55000 دبلوماسي، كما أن الاتحاد الأوربي هو صاحب الميزانية الأعلى في العالم للمساعدة الإنمائية.
لكن نقاط القوة هذه مقيدة بشكلٍ كبير نتيجة تجزؤ القوة الأوروبية بين الدول الأعضاء ومؤسسات الاتحاد الأوروبي وفشل الاتحاد الأوروبي في تحويل تموضعه الجيوسياسي لتحركات حقيقية على الأرض، نتيجة اختلاف مقاربات كل دولة منه للملفات الخارجية، مقارنة بدولٍ ناجحة في دمج مصالحهم الاقتصادية والسياسية مع تموضعهم الجيوسياسي سواء ضمن نطاقهم الجغرافي أو حول العالم مثل واشنطن وبكين.
ضمن هذه الأجواء تظهر فرنسا على أنها الدولة التي تحاول بشكلٍ أكبر قيادة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي أو على الأقل مجموعة الدول المطلة على البحر المتوسط، إلا أنها لم تستطع إلى الآن رسم خطوطٍ عريضة يمكن تحويلها لسياسة أوروبية كاملة، لذا جاءت الخطوات الفرنسية وبالأخص فيما يتعلق بالملف اللبناني، ضمن إطار قوة استعمارية سابقة تحاول العودة للبنان من باب علاقتها الانتدابية السابقة، سواء عبر الزيارات المتكررة لماكرون وتقليله من قيمة رسمية المؤسسات الحكومية اللبنانية، أو تواصله بشكلٍ مباشر مع المتضررين في بيروت، واعطائه وعوداً بوصول المساعدات الفرنسية مباشرة " للمواطنين اللبنانيين"، ووضعه خريطة للحل السياسي يتوجب على الفرقاء اللبنانيين الالتزام بها، ومغازلته لحزب الله الإيراني اللبناني، وهي ممارسات تُعتبر تجاوزا لأعراف سيادة الدول ضمن العلاقات الدولية، على الرغم من عدم مطابقة هذا العرف للحالة اللبنانية بشكلٍ براقٍ جداً.
ومن جهتها تستمر ألمانيا بمحاولات التوسط بين مختلف القوى سواءً كان في شرق المتوسط بين تركيا واليونان، ومؤخراً فرنسا، أو بين الولايات المتحدة الأميركية وبقية دول الاتحاد الأوروبي وروسيا، وحتى في الملف الليبي واستضافتها لحوارات الأطراف الليبية المتقاتلة. وتتعارض سياسة القوتين في الملف اللبناني، فـ لألمانيا موقفٌ متشدد من حزب الله ونشاطاته في القارة الأوربية، مقارنةً بمهادنة وقبول فرنسي للحزب.
بإيجاز الحديث لم يتمكن الاتحاد الأوروبي إلى الآن من إنهاء مشكلاته الداخلية، وتحويل وحدته السياسية والاقتصادية الداخلية، لخطواتٍ حقيقية فيما يخص السياسة الخارجية، مما سيجعل من أي توقعٍ فيما يخص إمكانية تحركٍ فعال أكبر لأوروبا صعب الحدوث. من جهة أخرى فإن الاندفاع الفرنسي نحو رسم سياسة فرنسية فاعلة ضمن شرق المتوسط ومناطق أخرى من العالم، سيكون العلامة الفارقة في السياسة الخارجية الأوربية، فإما ستتمكن فرنسا من جعل توجهاتها الوطنية خطوطاً عريضة للتحركات الجيوسياسية الأوروبية، وهنا ستواجه عقبة الولايات المتحدة التي ترغب باستمرار سيطرتها على القرار الأوروبي وهو ما ظهر من التلاسن الأميركي الفرنسي حول " موت الناتو سريريا" أو ستضطر فرنسا لاتخاذ خطواتها السياسية ضمن كتلة أصغر من الدول الأوربية بشكلٍ يؤدي لزيادة الخلافات السياسية الحادة ضمن دول الاتحاد، والتي تلقت ضربة قوية بخروج المملكة المتحدة منه، مما أفقد الاتحاد ثقلاً سياسياً قوياً، وأنهى الفكرة التي سماها البعض بالمستحيلة وهي "تشكيل الجيش الأوروبي الموحد"، وبالتأكيد تحتاج أي فاعلية أوروبية خارجية لتوحيد الأهداف الجيوسياسية الأوروبية بما يتوافق مع مصالح دول الاتحاد، وهو ما يواجه خلافاتٍ داخلية، بالإضافة لعراقيل أميركية توضع في عجلة هذا المسار، وما من شأنه أن يرجح كفة النجاح لصالح الأطراف المنافسة للاتحاد الأوروبي أكثر.
المصدر: تلفزيون سوريا: https://bit.ly/3njgEdT