غاب قطاع غزة المحاصر منذ ما يقارب العقدين عن أولويات السياسة الإقليمية قبل 07 أكتوبر، وكأنَّ الصراع المجمَّد آنذاك سيبقى على حاله إلى حين تفرُّغ الساسة وصنَّاع القرار للتعاطي معه. بيد أنَّ عملية "طوفان الأقصى" شكَّلت صدمة استراتيجية، ليس لإسرائيل فقط، بل لمنطقة الشرق الأوسط بأسرها التي باتت مسرحاً لتداعيات الحرب، بفعل التصعيد الإسرائيلي لاستعادة صورة الردع الاستراتيجي خاصته من جهة وتصاعد نشاط الفواعل المسلَّحة من غير الدول، سواء الجهادية أو المدعومة إيرانياً، لاستثمار حرب غزِّة بغرض زيادة التعبئة وتعزيز مشروعيتها المزعومة من جهة أخرى.
لم تكن الساحة السورية بمنأى عن التداعيات المذكورة التي ما لبثت أن تكيَّفت معها، سواء على مستوى التصعيد الإسرائيلي ضد الأهداف الإيرانية سيما استهداف القنصلية الإيرانية بدمشق، أو تصعيد الميليشيات الإيرانية وعلى رأسها "المقاومة الإسلامية في العراق" من هجماتها ضد المواقع الأمريكية وأبرزها تلك التي أدت لمقتل ثلاث جنود أمريكيين في موقع لوجستي على الحدود مع الأردن، بالإضافة للاستهادافات – المحدودة – تجاه الجولان المحتل، أو زيادة نشاط تنظيم الدولة في الجغرافية السورية منذ اندلاع حرب غزة. إنَّ هذا التكيُّف مع جملة الانعكاسات المذكورة لا يعني بالضرورة انخفاض أهمية ما تعنيه 07 أكتوبر وتداعياتها بالنسبة للصراع في سورية، لكون الوضع القائم حالياً وفق قواعد التجميد غير المعلنة يحمل العديد من الخصائص التي تشبه بجوهرها تلك التي اتَّسم بها الصراع المجمَّد في فلسطين قبل حرب غزة.
ساحتين متوازيتين وخصائص متشابهة
لعلَّ أبرز هذه الخصائص هو تاريخ الصراع الدموي في كلا الحالتين، والذي أنتج تصوُّر تهديد (Threat perception) وجودي لدى الأطراف المتصارعة تجاه بعضها البعض ومنطق استراتيجي قائم على حتمية الحرب وضرورتها، أي افتراضاً بأنَّ الحرب قادمة لا مفرَّ منها وستفرض نفسها في لحظة ما غير معرَّفة، في حين تكون فترات السلام مؤقتة تستفيد منها الأطراف في التعبئة والاستعداد العسكري لانتهاز الفرصة لاحقاً لتحقيق تغيير جذري في الوضع القائم لصالحها أو تحقيق مكاسب متغيِّرة جزئية عبر استراتيجية تدريجية وطويلة الأمد.
يتَّضح ذلك بشكل جلي في رفض إسرائيل لحل الدولتين ورفض النظام في سورية للحل السياسي ومماطلة كلا الطرفين في المفاوضات ذات الصلة، واستغلالهم لقواعد الصراع المجمَّد لتحقيق مكاسب جزئية، سواء عبر الاستيطان وحصار قطاع غزة في حالة إسرائيل أو عبر توظيف التفوُّق الجوي لقصف مناطق شمال غرب سورية وإخضاع مسألة السماح بعبور المساعدات الإنسانية لهذه المناطق لسياسة ابتزازية تجاه المجتمع الدولي في حالة النظام في سورية.
كما يتَّضح من عملية 07 أكتوبر المنطق الاستراتيجي لـحماس التي أخذت سنوات عدة تحضِّر لـ"طوفان الأقصى" بهدف إحداث تغيير جذري في الوضع القائم لصالحها؛ بصرف النظر عن الحسابات الخاطئة لقادتها. ولا تختلف نظرة "هيئة تحرير الشام (هتش)" لفترات السلام بشكل كبير، حيث استغلَّت سنوات الصراع المجمَّد منذ آذار 2020 في فرض هيمنتها العسكرية عبر تفكيك المجموعات المسلَّحة الأخرى، "حراس الدين" مثالاً، وتجذير نفسها في البيئة المحلية عبر ذراعها الإداري "حوكمة الإنقاذ"، مع استمرارها في التعبئة العسكرية تحت شعار "الحرب والبناء" الذي يركِّز عليه قائدها في خطاباته.
ثاني هذه الخصائص هو الدعم غير المشروط – إلى حد بعيد – الذي تتلقاه كل دولة من حلفائها، ما يشعل الضوء الأخضر لهذه الدول للمضي في استخدام العنف بشكل مفرط بلا رادع وجعل الصراع دموياً، وتخيُّل انتصار حتمي يضمنه الزمن نظراً لفارق القوة موضوعياً بالمقارنة مع الخصوم الفاقدين لهذا الدعم الغير المشروط. إسرائيل المدعومة عسكرياً واقتصادياً من قبل الحكومة الأمريكية، والمغطاة في مجلس الأمن بالفيتو الأمريكي الذي يحول دون مرور قرار دولي يردعها، بشكل مشابه – على اختلاف حجمه – للدعم العسكري الذي يتلقاه النظام في سورية من حليفته روسيا وحليفه الإيراني، والغطاء الروسي له في مجلس الأمن بشكل يحصنه من قرار يستهدف نظامه بشكل مباشر.
ثالث هذه الخصائص هو عدم مبالاة خصوم هذه الدول من الفواعل المسلَّحة من غير الدول بهذا الدعم غير المشروط وميزان القوى الموضوعية. علماً بأنَّ هذه الخاصية ليست حكراً على حماس، إذ تعبر أحد أبرز سمات المنطق الاستراتيجي الذي غالباً ما تتحرك وفقه هذه الفواعل، باعتبار أنَّ الحرب غير المتكافئة (Asymmetric warfare) هي طريقتها في الحرب، وقدرتها على "التضحية والمقاومة" بطاقة القوة التي تعتقد أنها تمكِّنها للتغلُّب على أعدائها المتفوقين بالقوة الموضوعية. وأنَّ ما يجعل منها فاعلاً حقيقياً هو قدرتها على التأثير في سياسات الدول، والذي غالباً ما تسعى لتحقيقه وإثباته من خلال تكتيكات الحرب غير المتكافئة، وإجبار الدول على التعامل معها أو الخطر الذي استطاعت أن تشكِّله كاعتراف – وإن كان سلبياً – بها كفاعل على أرض واقع، باعتبار أنَّ ذلك ينعكس على قدرة هذه التنظيمات على الاستمرارية بالتعبئة وبالتالي البقاء.
وبالنظر إلى الساحة السورية، نجد طيفاً واسعاً من هذه الفواعل التي تتحرَّك وفق هذا المنطق، وإن كان بشكل متمايز عن بعضها البعض. فصائل المعارضة السورية التي صمدت لسنوات طويلة في بقع جغرافية ضيقة محاصرة من قبل النظام كالغوطة الشرقية على سبيل المثال لا الحصر، هتش التي تنظر لعامل الزمن كبطاقة قوة في صالحها معتبرةً تمكُّن طالبان من السيطرة على كابل كتجربة تشير لأهمية "الصمود" ودليل على إمكانية التغلُّب على موازيين القوى الموضوعية ولـ"طوفان الأقصى" كتجربة ملهمة لـ"تجديد أساليب المواجهة"، و"قوات سوريا الديموقراطية- قسد" التي حوَّلت شمال شرق سورية لحديقة خلفية لـ"حزب العمال الكردستاني" وما يشكله من خطر إرهاب ضد تركيا، الميليشيات المدعومة إيرانياً التي سعت عبر هجماتها ضد المواقع الأمريكية في سورية لتشكيل ضغط على الولايات المتحدة بهدف دفعها على المدى الاستراتيجي للانسحاب من سورية.
ما بين السيء والأقل سوءاً
أحد أبرز ما يمكن استنتاجه من 07 أكتوبر هو خطيئة الافتراض القائم على أنَّ الدول هي الجهة الوحيدة المخاطبة بالحل، وأنَّه بإمكان الدول فرض الحل الذي تريد بالطريقة التي تريد، مقابل الاستخفاف بقدرة الفواعل المسلَّحة من غير الدول على خلط الأوراق. فقد أضحى الأثر الذي تركته عملية "طوفان الأقصى" – بغض النظر عن الموقف من الهجوم – على مسار السياسة الإقليمية بحكم الواقع دليلاً على مخاطر تجاهل أحد الأطراف في بيئات ذات مخيال صفري للصراع، وأنَّ الخيار في مثل هذه الحالات هو الاختيار بين السيء والأقل سوءاً.
بالنسبة لسورية، فإنَّ غياب القدرة الموضوعية لأي طرف من الأطراف على الحسم العسكري لا يعني بالضرورة قناعة هذه الأطراف بذلك أو بناء استراتيجياتها وفق محددات عقلانية صرفة بوصلتها الحل، نظراً لتاريخ الصراع الدموي ومخيال التهديد الصفري لدى كل منها. ففي الوقت الذي يتحرَّك النظام وفق منطق الصبر الاستراتيجي وعدم تقديم التنازلات رغم حجم الانهيار الاقتصادي الذي يعانيه معوِّلاً على الزمن لاستعادة سيادته المفترضة؛ تتحرَّك هتش، على سبيل المثال لا الحصر، وفق منطق "البناء والحرب"، أي الحوكمة والاستعداد العسكري، معوِّلةً على الزمن لانتهاز فرصة منتظرة لفرض وضع قائم جديد. ختاماً، فإنَّ الوضع القائم وفق محدداته الحالية لا يمكن أن يستمر للأبد، واختيار الأقل سوءاً بإطلاق حل تشاركي بوصلته 2254 بات أمراً ملحَّاً أكثر من أيِّ وقت مضى.