لم تمض أيام على سقوط نظام الأسد، حتى اندلعت توترات في الساحل السوري، اتخذت شكل تجمعات ومظاهرات احتجاجية سلمية، تفاوتت من حيث دوافعها ونطاقها الجغرافي ومطالبها، وعلى الجانب الآخر اتخذت شكلاً عنفياً تمثلت باستهداف مقاتلي وقوى الأمن التابعين للسلطة الجديدة في دمشق بهجمات متفرقة أسفرت عن وقوع ضحايا. وعلى الرغم من استقرار الوضع مؤقتاً في الساحل جراء جهود مجتمعية وحملات أمنية، دون استبعاد أدوار لقوى إقليمية ودولية في ذلك، توحي مظاهر الاحتجاج السلمي والعنفي بوجود توجس من الإدارة الجديدة في منطقة الساحل السوري، الأمر الذي يتطلب تفكيك عوامل ذلك التوجس، ومآلاته وما هي السياسات التي يمكن اقتراحها لتهدئة الساحل السوري.
تغدو محافظة طرطوس مثالاً جيداً لتقديم قراءة أولية لاحتجاجات الساحل السوري، فالمحافظة المحدثة عام 1966 لأسباب عدة يشكل فيها العلويون غالبية سكانها، كما تسمى بأم "الشهداء" كناية عن الدعم الذي قدمته من أبنائها للدفاع عن نظام الأسد البائد، فضلاً بأنها المحافظة التي ينحدر منها العديد من الشخصيات المؤثرة في مؤسسات الدولة وشبكات النظام غير الرسمية، إلى جانب كونها المحافظة التي شهدت إحدى المواجهات الأكثر دموية ضد ممثلي السلطة الجديدة في دمشق.
التوتر في محافظة طرطوس: ما وراء العاملين الطائفي والأمني
لطالما كانت المقاربتين الطائفية والأمنية مدخلاً لفهم السياسة في سورية على المستويين الوطني والمحلي، لكنهما غير كافيتين لتفسير التوترات الأخيرة في محافظة طرطوس، وهو ما يتطلب مقاربات أكثر شمولية.
لا يمكن تجاهل دور فلول النظام البائد في إحداث فوضى أمنية في منطقة الساحل السوري، سيما في محافظة طرطوس التي ينحدر منها عدد من كبار مسؤولي النظام، كذلك تصريحات مسؤولين إيرانيين والتي فُسرت باستعداد طهران لدعم أي حركة تمرد في الساحل ضد العهد الجديد، إلا أن الاقتصار على ما سبق لا يكفي لفهم التوترات الأخيرة بطابعها السلمي والعنفي في المحافظة. يقطن محافظة طرطوس علويون تمركزوا خلال العهد العثماني في الريف دون المدن الرئيسية، تلك التي بقيت حكراً على السنة والمسيحيين،([1]) كما يقطن المحافظة أقليات دينية كالإسماعيليين والمرشديين، ليتغير حال الأمر ابتداءً من عقد الخمسينيات إثر تدفق العلويون نحو المدن، مدفوعين بالتحديث الاقتصادي وتوسع القطاع العام، كذلك تولي شخصيات من الطائفة العلوية مناصب مدنية وعسكرية مرموقة مع استيلاء حافظ الأسد على السلطة.([2]) لا تتوافر حالياً إحصائيات موضوعية بخصوص نسبة توزع الطوائف في محافظة طرطوس، لكن الراجح بأن العلويين يشكلون غالبية سكانها، ذلك ما دفع بعض الباحثين إلى عدم تجاهل ذلك البعد في تفسير إحداثها كمحافظة عام 1966.([3])
مع اندلاع الثورة السورية، زاد التأكيد على الدين/ المذهب كرابطة لتماسك العلويين، كان ذلك جراء توسع الحركة الاحتجاجية وتعزز طابعها الإسلامي، إلى جانب إعادة تنشيط دور رجال الدين العلويين في شبكات النظام غير الرسمية على المستوى المحلي، مع توليهم أدوار مركزية في عمليات حشد وتعبئة المقاتلين من جهة، إلى جانب الاتكاء عليهم كقنوات للتواصل وتوفير الدعم والرعاية المجتمعية للعلويين، في ظل ضعف حضور مؤسسات الدولة المركزية وقدراتها، فضلاً عن تحول المراكز الدينية للعلويين إلى مراكز مجتمعية للالتقاء والتواصل بين العلويين. عقب سقوط نظام الأسد، كان لوضوح الهوية الدينية للسلطة الجديدة في دمشق، وتأكيد الدول الإقليمية والدولية بضرورة حماية الأقليات، دور في تعزيز حضور البعد المذهبي لدى العلويين كعامل محدد لرؤيتهم لذاتهم وعلاقتهم بالآخر. يظهر ذلك من خلال استحضار مظاهرات الساحل شعارات هوياتية مذهبية رداً على حرق وتخريب مقام علوي في مدينة حلب (الإمام الخصيبي). كذلك يمكن تفسير حضور البعد المذهبي في المظاهرات بأنه اعتراف من العلويين بوضعهم الجديد كأقلية دينية بعد أن كانوا أقلية في موضع الحكم، ووجوب معاملتهم من قبل دمشق بناء على ذلك، بما يتطلبه من وضع خاص وامتيازات، باعتبار أن حماية الأقليات كانت إحدى الشروط الدولية والإقليمية المغلظة، على ما يبدو، على شاغلي السلطة في دمشق.
بجانب آخر، لطالما اعتمد سكان محافظة طرطوس على الدولة في بقائهم الاقتصادي، سواء كموظفين مدنيين أو في الجيش والأجهزة الأمنية، وفي حين كانت الدولة قبل اندلاع الثورة السورية توفر فرصاً لاستقرار معيشي مقبول وإطاراً للحماية، فإن قدرتها على تأمين ذلك تراجعت بشكل ملحوظ نتيجة العقوبات واستنزاف موارد الدولة وتدميرها، فضلاً عن ممارسات الفساد وتغول شبكات المحسوبية لنظام الأسد على حساب مؤسسات الدولة. دفع ذلك العديد من سكان المحافظة إلى خيارات بديلة للبقاء في ظل ضعف القطاع الخاص في المحافظة، كان منها العمل ضمن شبكات النظام غير الرسمية، كالانضمام إلى ميليشيات محلية وشركات أمنية خاصة والعمل مع تجار وأمراء حرب في أعمال غير قانونية كالترفيق والتهريب وغيرها. كان لسقوط الأسد تداعيات اقتصادية لا يمكن تجاهلها على حياة العلويين، فمن جهة تضررت شبكات النظام غير الرسمية التي كانت توفر لهم مصدراً للعيش، كما خلقت قرارات السلطة الجديدة بفصل عدد من موظفي الدولة المدنيين كما حدث في مديرية صحة طرطوس، مخاوف لدى العلويين من إقصائهم من الدولة باعتبارهم موالين للنظام البائد، وبالتالي خسارة مصدرهم للمعيشة كذلك امتيازات اقتصادية كان بإمكانهم الوصول لها من خلال وظائفهم. تعززت هذه المخاوف مع انحلال الجيش والأجهزة الأمنية التي كان للعلويين حضور مؤثر فيها دون معرفة ما هو دورهم في المؤسستين العسكرية والأمنية المزمع تأسيسهما، لعل ذلك ما دفعهم للاحتجاج ضد قرارات السلطة الجديدة.([4])
كان للثورة السورية أثر في تغيير السياسة المحلية في محافظة طرطوس، حيث نشطتها وزادتها تعقيداً مع ضعف السلطة المركزية، لتضيف لاعبين جدد من تجار وأمراء حرب إلى جانب اللاعبين الآخرين الذين كانوا متواجدين وهم العوائل التقليدية البارزة.([5]) يمكن تلمس تنشيط السياسة المحلية وتعقدها في حركة الاحتجاجات التي شهدتها المحافظة منذ العام 2015،([6]) والتي حاول النظام احتوائها عبر توسعة شبكاته غير الرسمية من جهة، واسترضاء العوائل التقليدية البارزة وضم عوائل أخرى صاعدة في ترتيبات السياسة المحلية من جهة أخرى.
أحدث سقوط نظام الأسد هزة عميقة للمنظومة الاجتماعية والسياسية المحلية القائمة في محافظة طرطوس، ومع تعيين السلطة الجديدة في دمشق شخصيات لإدارة ملف الساحل أمنياً وخدمياً، يبدو بأنها لا تتضمن شخصيات علوية حتى الآن، فقد العلويون قنواتهم الرسمية وغير الرسمية للتواصل مع شاغلي السلطة الجدد، ذلك ما جعلهم أقرب للاحتجاج في ظل تجاهل مطالبهم التي رفعوها بوقت سابق، واعتبار الاحتجاج آلية لإيصال مطالبهم.
مآلات الاحتجاجات وسبل التعامل معها
لا يمكن استبعاد فرصة اندلاع احتجاجات على نطاق واسع في محافظة طرطوس، رغم حالة الهدوء المؤقتة التي تعيشها المحافظة كنتاج للحملة والإجراءات الأمنية التي أطلقتها إدارة العمليات العسكرية في محافظة طرطوس، فضلاً عن جهود مجتمعية أطلقها رجال ووجهاء علويون لتهدئة الشارع العلوي. لكن، لا يمكن المراهنة على استمرار حالة التهدئة هذه، فما تزال عوامل الاحتجاج قائمة دونما معالجة، كما أن هنالك دول لا يسرها الوضع الناشئ في دمشق ومواقف شاغلي السلطة تجاهها، وترى في العلويين الناقمين والخائفين فرصة لإدخال الساحل في فوضى وتكريس حالة عدم الاستقرار على أسس طائفية لإضعاف السلطة الجديدة في دمشق، على أمل تعديل مواقفها أو الإطاحة بها.
انطلاقاً مما سبق وحرصاً على استقرار سورية، يغدو من الأهمية على السلطة الجديدة في دمشق اتخاذ إجراءات من قبيل؛ تهدئة مخاوف العلويين فيما يتعلق بعملية ملاحقة مجرمي النظام والفلول، وذلك بالإعلان عن إجراءات قانونية واضحة لإحقاق العدالة ومحاسبة المجرمين، والتأكيد بأن المحاسبة على أساس فردي وليس جماعي. كذلك من شأن ضبط أي تجاوزات للقوى الأمنية والعسكرية للسلطة الجديدة خلال تأدية مهامها، وإتاحة آليات مؤسساتية للتظلم والتشكي ضد أي تجاوزات قد تحدث، أن تساهم في تهدئة مخاوف الشارع العلوي وإشعاره بأن العهد الجديد لا يعيد تكرار سلوكيات العهد البائد، وبأن الدولة الجديدة حريصة على أمن مواطنيها وتحقيق الأمن والعدالة لهم.
إلى جانب ما سبق، من المهم قراءة التحولات المجتمعية التي طرأت على الساحل السوري ومعرفة التغيرات التي شهدها العلويون، ذلك يساعد في انتقاء وسطاء محليين منهم ليكونوا قنوات غير رسمية للتواصل مع شاغلي السلطة الجديدة، لحين تأسيس قنوات رسمية ومؤسساتية، تتيح للمجتمعات المحلية في الساحل عرض مطالبها وطرح هواجسها بأريحية. أيضاً، من الضروري التفكير بإطار لامركزي على مستوى الإدارة المحلية لسورية، قائم على اعتبارات مناطقية واقتصادية لا طائفية أو عرقية، تتيح للمجتمعات المحلية صلاحيات واسعة لإدارة مناطقها وتوفير الخدمات وتخفيف العبء على السلطة المركزية، على أن يتكامل ذلك مع تمثيل مقبول للمجتمعات المحلية في مؤسسات الدولة، هذا من شأنه أن يؤسس لعلاقة متوازنة بين المركز والمجتمعات المحلية، بما يجعلها أقرب لدمشق من أي قوى خارجية تريد العبث بأمن واستقرار سورية.
بالنهاية، مما لا شك به أن هنالك تضخم في حجم بيروقراطية الدولة، وذلك يشكل عبء على مواردها وعلى أداء مؤسساتها، لكن من الضروري تجنب فصل موظفي مؤسسات الدولة خلال المرحلة الانتقالية، على أن يترك ذلك لمعالجة شاملة وتشاركية تتسق مع منظور إعادة بناء مؤسسات الدولة وتمكينها. إن من شأن فصل موظفين راهناً دون خلق خيارات اقتصادية بديلة، أن يعزز مخاوف جهات معنية ويخلق مظلوميات لديها، كما سيضيف أعداداً من العاطلين عن العمل إلى أولئك الذين خسروا وظائفهم جراء انحلال المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، ومعها ستزداد فرصة تحولهم لمصدر عدم استقرار وتحدي للسلطة الجديدة.
([1]) حتى عام 1914 لم يسكن أي علوي في قضاء طرطوس، كذلك الأمر بالنسبة لمدن جبلة وبانياس واللاذقية. عبد الله حنا، المرشدية في محيطها العلوي وأجواؤها السياسية والاجتماعية (1923 - 1946)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015، ص 27.
([2]) Kheder Khaddour, The Coast in Conflict: Migration, Sectarianism, and Decentralization in Syria’s Latakia and Tartus Governorates. Friedrich Ebert Stiftung.2016. https://bit.ly/3s2ngka
([3]) زيدون الزعبي، عمر عبد العزيز الحلاج، صهيب الزعبي، جاد الحلاج، تطور خريطة التقسيمات الإدارية في سوريا: مئة عام من العلاقة الإشكالية بين المركز والمحليات. أيلول 2022. برنامج “الشرعيّة والمواطنة في العالم العربي. https://eprints.lse.ac.uk/116961/
([4]) احتجاجاً على قرار فصلهم.. مظاهرة للكوادر الصحية في طرطوس، سناك سوري، 23 كانون الأول 2024. https://shorturl.at/wdaXc
([5])سليمان حيدر، الروابط العائلية في المناطق الآمنة خلال الصراع: طرطوس مثالاً، مشروع زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا. 12 آيار 2022. https://shorturl.at/TF0rV
([6]) أليمار اللاذقاني، مقاربة أوليّة للمظاهر الاحتجاجيّة في طرطوس ومستقبلها، مبادرة الإصلاح العربي، 27 حزيران 2023. https://shorturl.at/UQKY5