مقالات

المسارات

الملفات

الباحثون

التصنيف

تاريخ النشر

-
الثلاثاء, 07 كانون1/ديسمبر 2021 13:33

التطبيع مع الاستبداد عبر تحليل التطرف

مع بدايات ظهور تنظيم “داعش” في سورية، بدأت التقارير الدولية تشير إلى تعاون اقتصادي بينه وبين نظام الأسد، وخاصة في المجال النفطي، ممازاد من ثروة التنظيم وقدرته على تمويل نفسه من جهة، وقدرته على فتح المعارك مع الجيش السوري الحر والاستيلاء على مناطق كانت حُررت سابقاً من سيطرة نظام الأسد من جهة أخرى.
أما على صعيد كوادر التنظيم، فقد أفرج نظام الأسد عن عدد من المتطرفين المعتقلين في سجونه والذين تزعموا لاحقاً مناصب في التنظيم، مثل علي موسى الشواخ (أبو لقمان) وغيره كثير، ولم تكن العلاقة بين الأسد وداعش علاقة أحادية الجانب، بل ساهم التنظيم بمساعدة الأسد بالسيطرة على أماكن كان يتواجد فيها التنظيم ولكنه انسحب منها بشكل مفاجئ، كما حدث في تموز 2014 عندما انسحب من الضواحي الشمالية لحلب في الوقت الذي كان فيه النظام يقاتل ويحاول الالتفاف على فصائل الجيش الحر المتواجدة في المدينة، وكانت نتيجة هذا الانسحاب أن الجيش الحر حوصر من ثلاث جهات من قبل جيش الأسد.

كل هذه الحقائق والوقائع غالباً ماتكون غائبة أو مغيَّبة طواعية عن ذهن كثير من المفكرين الغربين المهتمين بسلوك وتطورات الجماعات المتطرفة، ففي مقالته الأخيرة بعنوان ( Resistance Is Futile) أي المقاومة بلاجدوى، تحدث توماس هيغهامر عن نمو الجماعات الإرهابية وتَغُير أسلوبها وآلية تصدي الحكومات لخطر هذه الجماعات، و اعتبر أن “الحرب الأهلية السورية” حسب وصفه، أعطت فرصة لتنظيم داعش بالتمدد في سورية، وتشكيل ولاية له فيها، وأعتبر أن سورية  أصبحت مركز عالمي للإسلام المتشدد وجذبت أهل السنة حول العالم للقتال مع المتمردين أو التطوع للقتال ضمن تنظيم داعش.

في مقالته لم يتطرق الكاتب أبدا إلى دور الأنظمة الاستبدادية في تغذية ودعم الجماعات الإرهابية بهدف جلب الدعم الدولي للقضاء على تلك الجماعات التي شكلوها و الثورات الشعبية في آن واحد، وهنا يظهر دور “المستشرقين الجدد” في تعميق جذور الدول الديكاتورية في العالم العربي، حيث سعى المستشرقون القدامى في جزء من كتابتهم إلى تبرير الاحتلالات الغربية و تجميل دورها في الدول التي دمرتها واحتلتها، أما المستشرقون الجدد كان دورهم أعتى وأكثر لؤماً اتجاه الشعوب العربية، حيث أنهم تناسوا فظائع المحتل الخارجي والاستبداد الداخلي وتاريخه في دعم المتطرفين ابتداءً من الدعم الأميركي لأول الانقلابات العسكرية في العالم العربي وهو انقلاب حسني الزعيم مروراً باحتلال العراق وأفغانستان حتى ثورات الربيع العربي، فاستطاع هؤلاء المستشرقون الجدد تحليل أدق تفاصيل بنى هذه الجماعات وآلية عملها وتفكيك سياسات تجنيدها للمتطوعين ولكن تعطلت لديهم حاسة التحليل و الملاحظة عند الوصول إلى الأنظمة الاستبدادية.

ولم يقتصر دور المستشرقين الجدد على تحليل مجتزأ لواقع الشعوب العربية و مستبديها و الجماعات المتطرفة التي سُلطَت عليها، بل حتى دعموا سياسيات بعض الحكومات الأوروبية اتجاه المسلمين في أوروبا سواء المهاجرين منهم أو الأوروبين وقمعهم أو إيقاف نشاطاتهم الشعائرية تحت ذريعة محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه، حيث ربط توماس في مقالته بين سياسات الرئيس الفرنسي السابق فرانسو هولاند والتي أدت إلى إغلاق عدد من المساجد وملاحقة الدعاة وبين انخفاض عدد الهجمات والمؤامرات ضد الدول الأوروبية، مع أن سياسة فرنسا كانت ضد الإسلام كدين في تلك الفترة وحتى الآن وليس ضد ممارسات الأشخاص المتوقع انتسابهم للجماعات المتطرفة يناء على سلوكهم أو دعمهم المالي لها.

ولم يقتصر دور بعض المفكرين الغربيين على إهمال الحقائق بل تجاوزوا ذلك إلى تزويرها، ففقي كتابه (inside Syria- داخل سورية) يكتب ريز أرليخ عن أحداث السنوات الأولى من الثورة السورية بوصفه لها حرباً أهلياً ويُعيد تأليف رواية كاملة متعلقة بمجزرة الغوطة الشرقية في آب 2013 والتي حصلت نتيجة استخدام نظام الأسد للسلاح الكيماوي في قصفه ضد المدنيين في الغوطة، فاعتبر ريز في كتابه أن المجزرة حدثت نتيجة صراع داخلي في الغوطة بين الفصائل، وأن السلاح الكيماوي كان بيد جبهة النصرة وأنها هي من قصفت قرى الغوطة به، ليتجاهل بذلك التقارير الدولية التي أدانت استخدام نظام الأسد للسلاح الكيماوي وأفضت إلى قرار بتدمير ترسانته من هذا السلاح.

وختاماَ، في ساحة تحليل الظواهر والواقع سواء كحكومات أو جماعات أو سياسات، إن لم يوَصّف أبناء المجتمعات العربية واقعهم ويحللونه ويفككون بنيته بُغية شرحه وفهمه، فمن الطبيعي أن يأتي من يشرح الظواهر من وجهة نظر حكومات غربية تحاول أن تجد لنفسها مبرراً أخلاقياً ظاهرياً أمام شعوبها وأمام التاريخ لعدم التحرك من أجل إيقاف أنظمة مستبدة تقتل شعوبها، أو حتى من أجل تلميع صورة المستبد و إعادة تجميله ليكون أداة للمحتل من أجل ترويض الشعوب والسيطرة عليها، وتعزيز فكرة “قابليتها للاستعمار” كما وصف ذلك مالك بن نبي قبل ستين عاماً.

 

السورية نت: https://bit.ly/3rGu3kG 

التصنيف مقالات الرأي

كثر في الآونة الأخيرة طرح ملف عودة نظام الأسد إلى الجامعة العربية، تحت يافطة “التطبيع”، ويتغلف هذا الطرح بمبرر “إيقاف التدخلات الأجنبية في سورية”، وتعزيز ” الأمن الإقليمي العربي”.  وعليه يحاول هذا المقال أن يقدم إحاطة بسياق ودوافع التغير والتحول الحاصل في خارطة مصالح الدول العربية، تلك المصالح التي كانت في مرحلة من المراحل تسعى لإسقاط نظام الأسد، وباتت اليوم بشكل وبآخر تعمل على إعادة دمجه بالمحيط العربي والدولي، وتبيان الآثار المحتملة لهذا الدمج وتداعياته على المشهد السوري.

بداية التحول

بالعودة إلى البداية؛ كانت الجامعة العربية قد علقت مشاركة سورية في اجتماعات الجامعة العربية عام 2011 نتيجة لعدم التزام النظام بقرارات الجامعة العربية فيما يتعلق بالمبادرة العربية، وتطور بعدها الموقف العربي باتجاه فرض عقوبات اقتصادية وتخفيض التمثيل الدبلوماسي وسحب السفراء، إضافة إلى ذلك انخرط العديد من تلك الدول في دعم المعارضة وقوى الثورة بعدة مستويات سياسية وعسكرية وإغاثية، الأمر الذي كان يُظن حينها أنه سوف يكون عقبة في أي عملية إعادة للعلاقة ما بين تلك الدول والنظام السوري.

لكن خلال السنوات العشر الماضية تغيرت خريطة السيطرة والمصالح نتيجة لعدد عوامل لعل أهمها؛ أولاً:  تعدد مستويات الصراع في الجغرافية السورية وملف اللاجئين والنازحين وبروز “الحرب ضد الارهاب” كعنوان رئيسي للتدخلات الاقليمية والدولية، وثانيها: وضوح مسار “إدارة الأزمة ” وليس حلها، والذي جعل من التعريف التنفيذي للحل السياسي مليئاً بالعراقيل والصعوبات؛ وثالثها: التدخل الروسي والذي كان له وقعٌ مهم على الحلف العربي والإقليمي المعارض للنظام لا سيما بعدما تسيّدت موسكو دائرة التأثير على المشهد الأمني والسياسي والذي أفرز بطبيعة الحال تغييراً في تموضع الفاعلين وحدود تدخلاتهم.

وأخيراً وليس آخراً مواقف بعض الدول المعارضة لمسار الربيع العربي، والذي ساهم في  تحول موقفها المناهض للنظام السوري إلى موقف أكثر حيادية في محاولة منها للاستفادة من ترميم تلك العلاقة، بينما اتخذ البعض مواقف أكثر وضوحاً من خلال التطبيع المباشر مع النظام السوري.

تدلل العوامل أعلاه – وغيرها من العوامل الأمنية والاقتصادية– على توافر الأسباب الدافعة إلى تغيير بعض المواقف؛ إلا أن ما يحد تحول هذا التغيير إلى سياسة تنفيذية واضحة، ارتباط هذه المواقف بموقف الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وإلى الاستعصاء والجمود الذي يعتري مسيرة العملية السياسية من جهة أخرى، وهذا ما يجعل بمنظور تلك الدول أن “التطبيع المخفض” في هذه المرحلة هو الخطوة “الأكثر آمناً” باعتبارها مدخلاً رئيسياً لتحسين العلاقات لاحقاً.

 مقاربة “مواجهة التدخل التركي والإيراني”

تفترض الدول العربية الراغبة بعودة النظام السوري إلى الجامعة العربية بأنها خطوة في مواجهة “النفوذ الإيراني والتركي” -دون التطرق إلى النفوذ الأمريكي والروسي- وبحسب موقف تلك الدول فإن عودة دمشق إلى الجامعة العربية هو أمر مهم “للأمن العربي ولإيقاف التدخلات الخارجية”، وعليه فإن العودة الحالية تعني القبول بالوضع الحالي للنظام بدون أي تغيير في سلوكه أو سلوك حلفائه، وتعطيه أملاً بالتهرب من القرارات الدولية حول عملية الانتقال السياسي وتنفيذ القرارات الدولية الخاصة بسورية.

ربما تراهن تلك الدول على أن عودة سورية إلى المحيط العربي ستحد من تلك التدخلات، إلا أن ملامح خسارة هذا الرهان تعود لعدم إدراك المشكلة الموضوعية والمتمثلة بعدم رغبة النظام بخروج إيران من سورية أو حتى قدرته على تحجيم نفوذها في حال أراد ذلك، هذا من جهة أولى، وتجاوز فهم طبيعة العلاقة العضوية بين النظام وإيران والتي باتت أقرب لتابع ومتبوع من جهة ثانية.

أما بالنسبة للنفوذ التركي فلن يستطيع النظام السوري مع الدعم المقدم له من الدول العربية (إن وجد) التأثير على الوجود التركي بشكل مباشر في الوقت الراهن، ومنه يمكن نفي فكرة أن عودة النظام الى الجامعة العربية سوف تؤثر على تموضع أنقرة ونفوذها، وذلك بحكم أن الموقف التركي يتحدد بطبيعة تحالفاته ومساحات المناورة التي يتحرك بها بين الأطراف الدولية لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.

إذاً، فإن رجاء المكسب والمصلحة العربية في تعويم النظام سيعود بنتائج عكسية؛ إذ أن أي تحسين للشروط السياسية للنظام ستنعكس إيجاباً على إيران، لأن التغلغل الإيراني في جسد الدولة والنظام أضحى عابراً للأمن والعسكرة ويصل إلى البنية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

بالمقابل لا يزال المحور العربي الممانع للعودة للجامعة العربية متمسكاً بموقفه حتى الآن، ويربطها بضرورة تنفيذ النظام للقرارات الدولية ذات الصلة ويتوقع أن يستمر هذا الموقف لفترة، متماشياً مع موقف الإدارة الأمريكية في المنطقة والذي يتداخل بشكل واضح مع ملفات المنطقة وعلى رأسها الملف النووي الإيراني، ففي حال وجود انفتاح من قبل إدارة بايدن تجاه إيران وتخفيف العقوبات عليها فإنه من المحتمل أن يفرض نوعاً من التهدئة مع النظام السوري، بالإضافة إلى إعطاء طهران مساحة أكبر للتحرك داخل سورية، والذي سيساهم بدوره بدفع الدول الإقليمية نحو تهدئة التوتر مع إيران على عكس ما كان سائداً خلال فترة إدارة ترامب، الأمر الذي سوف ينعكس على علاقة تلك الدول مع النظام السوري.

محاولة إعادة تشكيل النظام العربي في مرحلة ما بعد الربيع العربي

كان لقيام الربيع العربي دوراً في تغيير محاور التوازنات وخريطة التحالفات الإقليمية مع صعود بعض الأنظمة وسقوط أخرى؛ حيث كانت سورية في قلب ذلك الصراع. ومع مرور الذكرى السنوية الحادية عشر لبداية الربيع العربي؛ يمكن القول إن المنطقة قد شهدت تشكيل تحالفات جديدة ومحاولة إحياء لتحالفات قديمة، وبقيت سورية منطقة تنازع ما بين القوى الإقليمية والدولية.

 ومنه يمكن فهم إحدى جوانب التجاذبات حول فكرة عودة سورية للجامعة العربية. إذ تعمل الدول على تحديد موقعها في خارطة القوى في العالم العربي بشكل خاص والشرق الأوسط بشكل عام.

ويندرج تحت تلك الجهود محاولاتها من أجل تأهيل النظام السوري لجعله ضمن إحدى تلك التحالفات. حيث كان للنظام دور في التوازنات الإقليمية خلال الفترة ما قبل الربيع العربي، وعليه فإن عملية التطبيع مع النظام السوري يمكن فهمها ضمن عملية إحياء لتلك التحالفات أو بناء تحالفات جديدة.

الفارق الجوهري هنا هو أن النظام السوري لم يعد كما كان سابقاً، حيث أصبح حلفاء النظام أجزاء رئيسية ضمن هيكلية صنع القرار لدى النظام، ومنه فإن السياسة الخارجية السورية أصبحت مرتبطة بمصالح حلفاء النظام وأن محاولة ضم النظام لتلك التحالفات هو عمل ينطوي بطبيعته على دعم مصالح تلك القوى أيضاً والذي سوف يؤدي إلى تثبيت تموضع حلفائه وفي مقدمتهم إيران.

تقود الإمارات ومصر عملية إعادة سورية الى الجامعة العربية، ويقف معها عدد من الدول العربية التي لم تقطع علاقاتها مع النظام السوري أو التي أعادت علاقاتها معه مؤخراً. قد يكون ظاهر الخطوة عبارة عن إعادة ضم للجامعة العربية، ولكنها في جوهرها سوف تكون هي عملية إعادة تعويم. حيث تقوم فكرة تعويم نظام الأسد على نقطتي عودة النظام الى الجامعة العربية وعودة علاقات بعض الدول العربية، ومنه فلن يكون مستنكراً أن تبدأ الدول بعملية التطبيع.

على الطرف الآخر، يسعى النظام لتخفيف عزلته السياسية والصعوبات الاقتصادية الحالية من خلال العمل على استغلال أي فرصة للتواصل مع محيطه العربي في محاولة لتخفيف أثر العقوبات في الملف الاقتصادي من خلال الحركة التجارية على المستوى الفردي، وسياسياً من خلال المساحات التي يحاول خلقها عبر فتح قنوات تواصل مع الدول في محيطه، والتي سوف يتبعها فتح الحدود وإعادة رفع التمثيل الدبلوماسي الذي سوف يكون محاولة لتقديم النظام للمجتمع الدولي من بوابة الجامعة العربية التي كانت أول مؤسسة عاقبت النظام على سياسته تجاه الشعب السوري، الأمر الذي سيكون له انعكاس في العالم العربي حول جدية هذه المؤسسة، وعلى المستوى القانوني ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب.

والجدير بالذكر في هذا السياق عدم اغفال البعد الدولي والإقليمي في عملية التشكيل تلك، فالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي كان لهما الدور الأوضح في منع أي محاولة لفتح أي علاقة مع النظام من قبل الدول العربية والإقليمية، إلا أن هذا الدور انحصر في البعد الاقتصادي غالباً من خلال قانون قيصر والعقوبات الاقتصادية وملف إعادة الاعمار والتي ترتبط جميعها بتنفيذ النظام للقرارات الدولية ذات الصلة.

استقراءات مستقبلية

من خلال النظر في المعطيات السابقة يمكن القول إن “قضية التطبيع” مع نظام الأسد، لاتزال غير قابلة لتحولها لسياسة تنفيذية واسعة في المدى المنظور. ولكن قد يكون هناك عمليات كسر للجليد ما بين عدد من الدول في محاولة لفتح خطوط للتفاوض ما بين تلك الدول ونظام الأسد؛ وذلك في محاولة منها لإيجاد صيغة مناسبة للتطبيع ترضي الطرفين، حيث قد يتم مشاهدة زيارات متبادلة لمسؤولين يتم الإعلان عنها أو التحفظ عنها بغية إحداث تغيير في المزاج الشعبي العام المعادي للتطبيع مع الأسد، والتي قد تزيد الآن خصوصاً بعد إعلانه الفوز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

ترتبط سرعة حركة التطبيع هذه بعدة عوامل أولها: وضوح سياسة الإدارة الأمريكية من الملف السوري وحجم تدخلها أو انسحابها فيه؛ وهذا يخلق مساحة رمادية قد تستثمرها بعض الأطراف لزيادة مستوى العلاقة مع النظام، بينما قد يفضل البعض الآخر الانتظار وعدم المجازفة، وثانيها: ثبات موقف التيار الرافض للتطبيع مع النظام كما تجلى في الموقف السعودي والقطري.

يمكن القول ختاماً: ستساهم  عملية التطبيع في ظل السياق السياسي والأمني الحالي بالقبول بالوضع الراهن ونتائجه لا سيما التموضع الإيراني الذي يخدم الأغراض التوسعية لطهران، والقدرة المستمرة على العبث بموازين الأمن الإقليمي، كما تدفع تلك العملية باتجاه تعاطي تلك الدول مع ملف “لاجئين دائمين” بحكم انتفاء أي بادرة لتنفيذ الاستحقاقات الوطنية بعيداً عن الحلول الصفرية كما يتبنى النظام، وهذا ما يعتبر إقراراً وتثبيتاً لسياسات التغيير الديموغرافي التي اتبعها النظام خلال السنوات الأخيرة، حيث أن أكثر من نصف السكان إما مهجرين  أو لاجئين، مع العلم أن النظام  سمح بالعديد من الأماكن والمناسبات  بتوطين عوائل المليشيات التابعة لإيران في سورية والتي تعتبر مؤشراً لإعادة الهندسة الديموغرافية.

 

المصدر: السورية نت

https://bit.ly/3CwWnJf

التصنيف مقالات الرأي

مرَّ على سورية خلال عشر سنوات، شهدت خلالها حضور أربعة مبعوثين أمميين، تأمل السوريون أن يُساهموا بشكل أو بآخر في إنهاء مأساتهم، لكن جملة ظروف، دولية في غالبها، شلّت مهامهم، فلم يستطيعوا تحقيق أي اختراق يمكن أن يساعد في وقف الحرب وإحداث تغيير سياسي في سورية، وكانت فترة خدمة بعضهم فترة ثقيلة على السوريين، ومًثقلة بالخسائر البشرية، والتهجير والنزوح، وساهم بعضهم عبر استراتيجياته وسياساته بالتسبب بخسائر مفصلية للمعارضة السورية المسلحة، كما ساند بعضهم الأسد بشكل غير مباشر بعدم جرأته على الكلام عن جرائم النظام الكبرى، وجميعهم أشبعوا السوريين بالوعود الخلّبية، التي لم يتحقق منها شيئاً، لكن، جميعهم ارتكب أخطاءً كبيرة، ما كان يجب أن يرتكبها مُخضرمون لهم باع في حل الأزمات الدولية.

حقّق المبعوثون الأمميون إلى سورية سلاسل متتالية من الفشل، ولم يكن هذا الفشل شخصياً فقط، وإنما هو فشل للأمم المتحدة بشكل أساس، فشلها في إحراز أي تقدم ملموس في الملف السوري، وفشلها في إيقاف المقتلة وإيجاد حل سياسي، وفشلها في فرض قرارات يمكنها الحد من مستوى عنف النظام وداعميه، وتسبب هذا الفشل في وصف المبعوثين الدوليين من قبل المعارضة السورية بأنهم غير موضوعيين، أو متماهين مع النظام، أو مستهترين يحاولون كسب الوقت، ويقفون متفرجين على الصراع دون أن يستطيعوا قول كلمة حق واحدة بأن النظام السوري ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب السوري.

كوفي أنان: لا أحد معصوم عن الخطأ

لاشك أن الدبلوماسي الغاني كوفي أنان، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، كان أفضل المبعوثين الدوليين إلى سورية، لأنه دفع نحو مبدأ الحل الواجب تنفيذه في سورية، وعقد مؤتمر جنيف 1، في 30 حزيران/ يونيو 2012، والذي وضع مبادئ وخطوط توجيهية لإنهاء الحرب والقيام بعملية انتقالية سياسية “تُلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري”، وأقرّ إقامة هيئة حكم انتقالية تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية وتمارس كامل السلطات التنفيذية، كما مهّد لاجتماع جنيف 2، في 22 كانون الثاني/ يناير 2014، والذي جمع النظام السوري مع المعارضة لمناقشة إمكانية تشكيل الحكومة الانتقالية ذات الصلاحيات التنفيذية الكاملة.

وقبل ذلك، وتحديداً في آذار/ مارس 2012، وضع كوفي أنان، المبعوث الأممي الأول إلى سورية، خطّة لإنهاء الحرب في سورية، لا تشتمل على دعوة الأسد للتنحي، وتألفت من ستة نقاط، أهمها: بدء عملية سياسية شاملة يقودها السوريون، ووقف جميع أعمال العنف المسلح، وتطبيق هدنة يومية للسماح بإدخال المساعدات، والإفراج عن المعتقلين على خلفية نشاطات سياسية سلمية، وضمان حرية الصحافة، وحرية تكوين المؤسسات، والحق بالتظاهر السلمي.

لكن أنان لم يكن معصوماً عن الخطأ، فقد ترك خطته تعتمد على تطوع النظام السوري وحسن نيّته، لسحب الجيش ووقف العنف وإيصال المساعدات وبدء الحوار، وكانت عملياً مجموعة مبادئ مبهمة وصيغة لإدارة الصراع لا لإنهائه.

رغم أن أنان هو الأكثر جدية وصرامة ووضوحاً بين المبعوثين الأممين إلى سورية، وأكثرهم خبرة وربما حسّاً إنسانياً، إلا أنه أخطأ حين وضع خطة ولم يحدد فيها آلية سحب الجيش من المدن، ومن سيحل محلها، ولا آلية نزع سلاح المعارضة، كما أنها لم تحدد جدولاً زمنياً لذلك ولبدء الحل السياسي، وتضع الحكومة السورية شروطاً حول جنسية المبعوثين وعددهم والتجهيزات التي لديهم وصلاحيتهم ومن سيحميهم، وحدود المناطق التي سيقومون بمراقبتها، كما لم يحدد في خطته وقتاً واضحاً للإفراج عن المعتقلين والكشف عن مصير المختفين.

الأخضر الإبراهيمي: السلام على حساب العدل

الأخضر الإبراهيمي، الذي وًصف بأنه واحد من أكثر المبعوثين الدوليين إلى سورية عقلانية وواقعية، اقترح عام 2012، وتحديداً بعد مرور شهرين من استلامه مهامه، هدنة بين الأطراف المتصارعة في سورية خلال أيام عيد الأضحى بشكل مؤقت، في وقت كان النظام السوري يدكّ المدن السورية في حملته الحربية ضد المعارضة الثورية المسلحة، ويُدمّر البنى التحتية في كافة المدن السورية.

لكن السيء فيما اقترحه الإبراهيمي، هو تأكيده على أن تُطبق هذه الهدنة “ذاتياً” دون مراقبة، حين وجه نداءً للسوريين أنفسهم لكي يوقفوا القتال وأن يلتزموا بالهدنة بأنفسهم، وهو يُدرك تماماً، وفق تصريحات لاحقة، أن النظام السوري لا يمكن أن يقبل بهدنة ويطبقها ذاتياً، وأنه مستمر في حلّه الحربي حتى النهاية.

أخطأ الإبراهيمي، صاحب الثمانين عاماً، حين اقترح هذا الاقتراح، أو أنه استخف بالقضية السورية، وهو الذي أعلن مراراً أن الأزمة في سورية خطيرة ومتفاقمة، ووصف مهمته بأنها صعبة و” شبه مستحيلة”، واعترف بأنه لن يستطيع تنفيذ مهمته في سورية دون دعم وإجماع من مجلس الأمن الدولي، فما باله بوقف إطلاق نار طوعي من نظام لا يريد أن يوقف الحرب حتى يقضي على آخر معارض في سورية؟

حتى المبعوث الأممي السابق له كوفي أنان، لم يقترح مثل هذا الاقتراح غير الواقعي، فقد اقترح هدنة ضمن خطة أوسع، وأرسل 300 مراقب من القوة الدولية لمراقبتها، قبل أن يُعلن فشلها الذريع في وقف العنف.

 صحيح أنه طلب قوات أممية مسلحة رمزية للمراقبة، لكنّه على الأقل لم يتركها لوجدان النظام السوري فقط، وفشل هذه الخطوة دفعه للتفكير بترك المهمة نهائياً لأنه لا إرادة سياسية للقيام بنقل السلطة من الأسد إلى حكومة انتقالية تلتزم بجدول زمني للقيام بانتخابات نزيهة وحرة كما كان مطلوباً بخطته.

الخطأ الثاني الذي ارتكبه المبعوث الأممي والعربي المشترك لسورية الأخضر الإبراهيمي، هو وصفه ما يجري في سورية بأنه “حرب أهلية”، ولم يُشر نهائياً في تصريحاته إلى وجود ثورة في سورية ذات طابع سياسي، طرفها الأول النظام وقواته العسكرية والأمنية الجرارة، وطرفها الثاني السوريين بكافة طوائفهم ومذاهبهم ومن مختلف المناطق الجغرافية، وخلال مؤتمر صحفي في موسكو مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2012، قال الإبراهيمي “إذا لم تكن هذه حرباً أهلية، فلا أدري ما هي الحرب الأهلية”، وبهذا التوصيف السطحي ساوى بين الضحية والجلاد، وظهر كمن يريد أن يُنقذ النظام السوري بمثل هذا التوصيف الذي يمكن أن يغيّر الموقف الدولي مما يجري في سورية.

صحيح أن وصف الإبراهيمي لما يجري في سورية ليس وصفاً مُلزماً لأحد، إلا أنه تجاهل كلياً الوصف الدقيق لما جرى في سورية من جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ارتكبها النظام وأركانها متوفرة وموثقة. والسمة الأساسية لما جرى في سورية محصورة في نطاق معارضة شعبية مسلحة وغير مسلحة في مواجهة نظام ديكتاتوري.

الخطأ الثالث للإبراهيمي حين سار بنهج يناسب التوجّه الروسي والسلطة السورية أكثر بكثير مما يناسب المعارضة وداعميها، رغم أنه كان يقول دائماً بأنه “يتعهد” أن يجد خططاً ومقترحات لحل الأزمة السورية تُناسب الشعب السوري.

في إحدى زياراته لموسكو خيّر الإبراهيمي السوريين بين “الجحيم” وبين “الحل السياسي” على الطريقة الروسية، وأكّد على أنه “ليس هناك خيار آخر”، ونسي أن بقاء هذا النظام السوري هو الجحيم بحد ذاته بالنسبة للسوريين”، وطالب بأن تجري مصالحة وطنية، ما يعني ضمناً طي صفحة الماضي بلا محاكمات ولا عدالة انتقالية، وهو يتوافق تماماً مع الشكوك التي راحت تقول بأن الدول الكبرى اختارت الإبراهيمي كوسيط دولي لسورية لأنه كان دائماً “يبني السلام على حساب العدل”، وهو ما يُعرف بالسلام الهش.

كذلك في أيار/ مايو 2014، وبعد استقالته من منصبه، أخطأ الإبراهيمي حين بيّض صورة إيران أمام مجلس الأمن، وأوحى لأعضائه أن إيران يمكن أن تكون بلد خير وتسعى إلى السلام، حيث قال أمام مجلس الأمن إن الاقتراح الذي تقدّمت به إيران للتوصل إلى تسوية سياسية في سورية “يستحق النقاش”، رغم أنه يُدرك، وفق تصريحات أخرى لاحقة، أن أيران هي سبب أساس في تدهور الحالة السورية وتحوّل الثورة إلى حرب دامية لها صبغة طائفية، وتصريحات كثيرة لاحقة بأن الأسد وإيران عطّلا مسار الحل السياسي.

الخطأ الأخير الذي ربما ارتكبه الإبراهيمي موافقته في جنيف 2 على مناقشة “الحرب على الإرهاب” بموازاة مناقشة ضرورة الانتقال السياسي، وكان لسماحه مناقشة هذا الأمر أثراً كبيراً في تغليب رؤية النظام على المستوى الدولي، وبدء الانحراف في مسار العملية السياسية، وفشل جنيف 2 لهذا السبب تحديداً، رغم أن المعارضة السورية كانت تحاول الحؤول دون إسقاط جنيف 2 في دائرة الحرب على الإرهاب لأن ذلك يتيح المجال للنظام السوري وحلفائه للتملص من تنفيذ أهداف بيان جنيف 1.

دي مستورا: أخطاء بالجملة

قام المبعوث الأممي الخاص لسورية ستيفان دي مستورا بزيارة لدمشق في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، ليطرح على أطراف النزاع مبادرة جديدة تحمل اسم “المناطق المجمّدة” على أن تبدأ في مدينة حلب وفي حال نجاحها تنتقل إلى مناطق أخرى، وأدخل نوعاً جديداً من المبادرات على قاموس الأمم المتحدة، واستنسخ تجربة النظام السوري في هذه المبادرة.

مبادرة دي مستورا هذه لم تكن “هدنة” ولا “وقف إطلاق نار”، ولم تُشر إلى نية لإخراج المقاتلين الأجانب، ولم تُحدد من هي الأطراف التي يجب أن توقعها، ولم توضح دور القوى الدولية والإقليمية والمحلية فيها، ومن سيراقبها وآليات هذه المراقبة وما هو الضامن القانوني والعسكري لنجاحها واستمرارها. فقط قال عنها إنها “نقطة من بحر”، وأن “نقاطاً عدة من الممكن أن تشكل بحيرة، والبحيرة يمكن أن تصبح بحراً”.

من الصعب وصف الرجل بأنه حليف للنظام السوري، لكنّه ساهم بشكل كبير طوال أربع سنوات من المراوحة في المكان، وتقديم العديد من المبادرات التجريبية غير البناءة التي تخضع للخطأ والصواب، في تمييع القضية السورية وزيادة حدة الخلافات بين قوى المعارضة السورية، واستفاد النظام من بعض مبادراته ليغيّر من سياساته العسكرية بما يفيده ميدانياً.

كان دي مستورا الأكثر مماطلة من بين كل الذين تولوا مهام المنصب الأممي لسورية، وطوال فترة مهامه، استمر في تدوير الزوايا واللعب على الوقت، وحاول التأقلم مع مواقف الطرف الأقوى في الصراع السوري، أي روسيا والنظام، حيث كانت العلاقة بينه وبين المعارضة متوترة جداً بسبب تحّيزه للنظام وقبوله بأطروحاته.

أخطر ما فعله دي مستورا أنه جعل مسائل مبدئية لا تستدعي التفاوض موضع تفاوض، وسهّل بمبادراته كثيراً منح النظام السوري فرصة التفوق العسكري، وحضوره مؤتمر أستانة رغم أنه ليس مؤتمراً دولياً حول سورية، وترحيبه بـ “التقدم” الذي يُحرزه أستانة على حساب محادثات جنيف، وكذلك إعلانه أن محادثات أستانة حول سورية تقترب من التوصل إلى إعلان نهائي، وكأنه ناطق رسمي باسم هذا المؤتمر الذي ترعاه روسيا وإيران، حليفتا النظام السوري، ومن ثم، ترويجه بشكل غير مباشر لأن يكون مسار أستانة الروسي بديلاً عن مسار جنيف المتفق عليه دولياً عام 2012، وكذلك تقسيمه المعارضة السورية عبر تصنيفها لمنصات، وتهرّب من مناقشة الحل الدولي الأساسي، أي هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات تنفيذية كاملة.

قدّم دي مستورا خلال توليه منصبه ثلاث مبادرات، لم يُكتب لها النجاح جميعها، ضعيفة وغريبة إلى حد بعيد، ولغرابتها وضعفها فشلت قبل أن بدء تنفيذ أي منها، الأولى دعا فيها لفتح الحدود التركية لدخول المقاتلين إلى شمال سورية لمؤازرة مقاتلين أكراد سوريين، لم يحدد فيها من هم هؤلاء المقاتلين ولا طبيعتهم ولا ضوابطهم، وكانت مبادرة تشبه الدعوة لفتح الحدود أمام الفوضى.

والثانية كانت إطلاق مبادرة بمصطلح دولي جديد تحت اسم (تجميد القتال) وهي مبادرة أفضل ما يمكن وصفها بأنها عنوان لتقسيم سورية، وتحولها إلى إمارات حرب، وتفككها لوحدات إدارية منفصلة، وتُنهي العمل الجمعي الشعبي وتدعم العمل السلطوي الفردي للمعارضة والنظام، وتقسم الناس وفقاً لانتمائهم المكاني، وتوفر الأرضية الخصبة لفساد سياسي ومالي وعسكري ومؤامرات لا تنتهي. وفي المبادرة الثالثة دعا إلى تشكيل أربعة مجموعات عمل من النظام والمعارضة، تبدأ بتجزيء الأزمة السورية لمناقشتها عنصراً عنصراً، وتجاهل عن عمد في خطته هذه بيان جنيف الذي اتفقت الدول الكبرى على أنه المرجعية الوحيدة والمتفق عليها للأزمة السورية، وهو البيان الذي حاول النظام السوري الهروب منه وإلغائه بأي ثمن.

لم ينتقد يوماً النظام السوري لاستخدامه البراميل والطيران الحربي لقصف المدنيين، ولم يُطالب ولو لمرة واحدة بخروج المقاتلين الأجانب الذين يقاتلون إلى جانب النظام السوري، ولم يسعَ لوضع دور للقوى الدولية والأممية بأي مبادرة، ولم يستفد من القانون الدولي في أي من مبادراته، وكل ما تحدّث به طوال عشرة أشهر هو ضرورة إشراك روسيا وإيران في الحل، وقبيل مؤتمر جنيف بنسخته الثالثة، قال إن لديه خطة جاهزة لحل الأزمة السورية، لكن الرجل فاجأ الجميع في جنيف، وتبيّن أنه جمع مئات السوريين من معارضين وناشطين وحقوقيين وعسكريين وتجار ونساء وحتى طلاب صغار مراهقين، ومعهم أنصاف معارضين، وممثلين للنظام من الدرجة الثانية والثالثة، ليفهم مواقفهم ويستمع لآرائهم وتصوراتهم وكأنه لم يسمع بها من قبل ويريد أن يفهم جوهر الأزمة السورية من جديد من الألف إلى الياء.

استمر دي مستورا في الدعوة حتى ثمانية جولات من جنيف، ووصفه البعض بأنه “سمسار” يحاول أن يكسب الوقت بأي طريقة، حتى لو كانت على حساب دماء مئات آلاف السوريين، ولم يُحقق أي اختراق على المستوى “الميليمتري” حتى، واهتم طوال ثماني جولات بالهوامش واللجان الاستشارية أكثر من اهتمامه بالقضية السورية ووقف الموت، واستمتع بعقد عشرات ورشات العمل التي ليست من صلب مفاوضات جنيف، وشكّل لجاناً قانونية ودستورية ونسائية وأهلية وغيرها، واهتم بالشكليات أكثر من اهتمامه بأساس المشكلة.

قبل بدء مهامه، توقع جير بيدرسون، المبعوث الأممي الرابع إلى سورية، أن تكون مهمته “شديدة الصعوبة”، لكنّ الدبلوماسي النرويجي مضى في مهمة سلفه المعقدة والمتعثرة، واستلم منه خمسة ملفات شائكة كان من المفترض أن يسير بها على التوازي، على رأسها مهمة تشكيل اللجنة الدستورية لكتابة دستور جديد لسورية واستئناف العملية السياسية، ومهمة إخراج القوات الأجنبية، ثم مهمة الحفاظ على وحدة البلاد، ومهمة إعادة اللاجئين، وأخيراً مهمة إعادة الإعمار.

بدأ بيدرسون بأولى المهام، وهي تشكيل اللجنة الدستورية، والتي كانت متعثرة في عهد دي مستورا، لكن بيدرسون لم يستطع تقديم فتح في هذا المجال، فقد اضطرّ لتشكّل اللجنة بحيث يكون للنظام ثلثي أعضاء اللجنة، وفق ما أراد الروس أيام دي مستورا.

يواجه بيدرسون أيضاً تحدي استئناف العملية السياسية في سورية، المتوقف تقريباً بسبب رفض النظام السوري تنفيذ مخرجات بيان جنيف والقرار 2254، كما يأتي ملف إخراج القوات الأجنبية من سورية على رأس الملفات التي تنتظر أن يتحرك فيها، خاصة موضوع خروج الميليشيات الإيرانية متعددة التسميات والجنسيات، وقوات حزب الله اللبناني، والقوات التركية والروسية والفرنسية والأميركية التي تنتشر في سورية، فضلاً عن الجماعات الإسلامية المتطرفة الإرهابية كداعش.

كذلك لابد من أن بيدرسون يعرف أن مهمة وحدة الأراضي السورية تنتظر جهوداً كبيرة منه، وسط حالة الفوضى التي تعيشها سورية وتدخل الأطراف الإقليمية والدولية، ومحاولة تقسيم البلاد على أسس طائفية وقومية، ووسط تغيير ديموغرافي يقوم به النظام السوري وإيران منذ سنوات.

وأخيراً، ينتظر بيدرسون ملف إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، وهي ملفات غاية في التعقيد، خاصة وأن الدول المعنية بالملف السوري ربطت إعادة الإعمار بالتسوية السياسية، كذلك رفض ملايين اللاجئين السوريين العودة إلى سورية في ظل وجو النظام السوري الحالي.

من الصعب أن يكون بيدرسون “المنقذ”، وغالباً هو غير قادر على تحقيق تقدّم في الملفات الخمسة سابقة الذكر، خاصة مع معرفة حجمها وصعوبتها وتعقيدها، وفي الغالب الأعم لن يستطيع أن يحلّ ولا حتى جزء من هذه المشاكل والملفات المعقّدة، والتي تحتاج جميعها إلى توافقات دولية لن تحصل على المدى المنظور.

لا ينتظر السوريون أن يقوم بيدرسن برفع الظلم عنهم، ولا هم واهمون، وكل ما ينتظروه ألا يقع بأخطاء فاحشة كالتي ارتكبها من سبقه، وألا ينضم إلى أسلافه في التسويف وتزوير الحقائق ضد الشعب المسكين.

لعل المشترك في نتائج عمل المبعوثين الدوليين في سورية هو ميلهم لإدارة الأزمة لا إلى حلّها، وكانوا على قناعة ربما بأنه لا ضرر من إضاعة الوقت، ولم يحاولوا أن يغوصوا في لب الكارثة السورية وأسبابها، ولم يقتنعوا بأن ما جرى ويجري هو ثورة شعب يريد حريته وكرامته ودولته الديمقراطية، ثورة شعب ضد نظام ديكتاتوري شمولي تمييزي أمني، لا حرباً طائفية ولا حرب جياع، وبالتأكيد تضافرت مجموعة أسباب أخرى أدت إلى فشل مهامهم، منها ضعف هيئة الأمم المتحدة وعدم قدرتها على فرض حلول دولية، وفشل آلية الفيتو في مجلس الأمن، والانقسام الدولي، ووقوف روسيا والصين إلى جانب النظام السوري، ورغبة الأولى أن تعود امبراطورية كبرى لها صوتها المسموع على المستوى الدولي، وكل هذا، لا يطرح فقط سؤالاً حول مصداقية المبعوثين الأممين وغاياتهم الحقيقية، بل يطرح سؤالاً أكبر من ذلك، حول جدوى الأمم المتحدة ومجلس أمنها، طالما أنها مؤسسة مشلولة إلى هذا الحد.

 

المصدر: السورية نت

https://bit.ly/2TTwjXy

التصنيف مقالات الرأي

أصبحت شبكات اقتصاد الحرب السمة الأبرز للاقتصاد السوري، وهي ليست حكراً على النظام، كما أنها تتقاطع جميعها من حيث الامتيازات الممنوحة لشاغليها، واندماج رأسمالهم المستحدث في الاقتصادين المحلي والوطني عبر استثمارات ريعية، مفضلين الربح السريع على استحقاق التعافي والتنمية الاقتصادية على المدى البعيد، وما لذلك من آثار سياسية واقتصادية واجتماعية سلبية.

أعيد تشكيل الاقتصاد السوري خلال العشر سنوات الماضية على صعيد البنى والفاعلين، إذ لا يوجد اليوم مركز اقتصادي متحكم بكل الجغرافية السورية، بل اقتصاديات مناطق نفوذ، تدار من قبل شبكات اقتصاد الحرب التي شكلتها القوى المتحكمة عبر تحالفاتها الرسمية وغير الرسمية مع تجار وأمراء حرب متنفذين، يركزون استثماراتهم على القطاعات الريعية ذات الربح السريع كالعقار والتجارة والموارد الطبيعية.

قام النظام السوري بإعادة تشكيل شبكاته الاقتصادية عبر استبعاد بعض رجال الأعمال، ودمج أمراء حرب صاعدين ومتنفذين محلياً ، ومثال ذلك، علي مهنا القائد العسكري لفوج السحابات/ قوات النمر سابقاً، والذي افتتح في بداية أيار من عام 2021 بحضور رسمي مجمعاً تجارياً بمسمى “White center Tartous” في حي الغدير العائد لمجلس مدينة طرطوس بعد نيل عقد استثماره لمدة 10 سنوات، في خطوة مشابهة لوسيم قطان الذي نال حق امتياز استثمار عدة مجمعات تجارية في دمشق ومنها مول قاسيون ومجمع يلبغا، وما كان لكل منهما أن ينالا هذه الامتيازات الاقتصادية المتمركزة في قطاعات ريعية، لولا تمتعها بغطاء ودعم من النظام، مكنهما من إقصاء منافسيهم من رجال الأعمال المستقلين.

لا يبدو المشهد مختلفاً في مناطق الإدارة الذاتية، التي أسست بدورها شبكاتها الاقتصادية الخاصة بها، والمكونة من قيادين في هياكل الإدارة الذاتية وحزب العمال الكردستاني، إلى جانب تجار  ووسطاء محليين، وتحتكر هذه الشبكات القطاعات الاقتصادية الحيوية الريعية كالنفط والغاز، ومن الشخصيات البارزة في هذه الشبكات المدعو “فؤاد فايز محمد” والملقب بقاطرجي الإدارة الذاتية.

بالانتقال إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام، أسست فصائل المعارضة مكاتب اقتصادية خاصة بها، مسؤولة عن إدارة الموارد المالية في مناطق سيطرتها، وإدارة الأعمال التجارية والمعابر الداخلية، وتشير المعطيات إلى توسع شبكات اقتصاد الفصائل في الاقتصاديات المحلية واهتمامها بالقطاعات الريعية كالعقارات، إذ أشارت إحدى الدراسات المنشورة إلى استحواذ الجبهة الشامية على معامل اسمنت ومقالع رمل ومتاجر لبيع مواد بناء مستوردة في عدة مناطق في الشمال السوري. أما هيئة تحرير الشام، فقد تولت شخصيات قيادية في المكتب الاقتصادي للهيئة، تنتمي إلى الحلقة الضيقة  المقربة من الجولاني بحكم القرابة والولاء، تأسيس شبكات اقتصادية عبر شراكات مع وسطاء وتجار محليين، ومثال ما سبق شركات وتد المسؤولة عن توريد المحروقات ومؤسسة الوفاق والأمين لتوريد السلع الغذائية، وإن كان لا يعرف المالكيين الحقيقين لهذه الشركات، إلا أن علاقاتهم الوثيقة مع قيادات الهيئة مكنتهم من نيل هذه الاحتكارات.

يتهدد نمو شبكات اقتصاد الحرب ما تبقى من إنتاج محلي يكافح للبقاء، فمصالح هذه الشبكات قائمة على الربح السريع الناجم عن المتاجرة بسلع مستوردة أرخص ثمناً من المنتج المحلي، وما يعنيه ذلك من تدمير مشاريع إنتاجية تسهم في توفير فرص عمل للسكان المحليين، ويكفي التدليل على الآثار السلبية التي أحدثها استيراد الفروج التركي على صناعة الدواجن، ليس في مناطق الشمال السوري وإنما أيضاً في عموم سورية بحسب تقارير صحفية وبيانات رسمية. كذلك تثبط الامتيازات الممنوحة لشاغلي هذه الشبكات والحماية الموفرة لهم من عزيمة التجار ورجال الأعمال المستقلين للاستمرار بنشاطهم الاقتصادي، بل وتدفعهم للتفكير جدياً بالانسحاب من السوق نتيجة غياب التنافس الحر، إذ أشار مصدر محلي إلى نجاح تاجر معروف بعلاقاته مع الإدارة الذاتية في إقصاء تاجر آخر، والاستحواذ على عقد لتوريد مستلزمات لوجستية لمنظمة في الرقة، وهو ما دفع التاجر إلى تقييم خياراته المستقبلية لجهة الاستمرار أو الانسحاب. أيضاً، أشارت عدة مصادر صحفية إلى إحجام عدة مستثمرين سوريين وأتراك من الدخول للاستثمار في الشمال السوري، خشية اصطدامهم بتجار ورجال أعمال وأمراء حرب محسوبين على الفصائل. كذلك يسهم تنامي شبكات اقتصاد الحرب للقوى المتحكمة في ربط المزيد من السكان المحليين بمنظوماتهم الاقتصادية، وما يعنيه ذلك من تعزيز هيمنتها وتجذرها محلياً، وهنا تشير الأخبار المتواردة من إعلاميين محليين إلى استغلال هيئة تحرير الشام لأزمة رواتب عناصر الجيش الوطني لاستقطاب مقاتلين وضمهم إليها، يساعدها بذلك مواردها المالية المتحققة عن استثماراتها وممتلكاتها. ومن التداعيات السلبية لنمو شبكات اقتصاد الحرب، الحيلولة دون تبلور قطاع خاص مستقل يمكن التعويل عليه في إحداث تنمية في سورية، أو حتى بلورة القطاع الخاص لمطالبه تجاه القوى المتحكمة، وهو ما يجعل صوت التجار والصناعيين والمنتجين المحليين المستقلين مغيباً عن المشهد العام.

أمام تغول شبكات اقتصاد الحرب ومخاطرها القائمة، فإنه من الأهمية بمكان العمل على تشجيع منظمات المجتمع المدني للعب دور رقابي أكثر لفضح ممارسات هذه الشبكات،  إلى جانب تشجيع الجهات المانحة والمنظمات العاملة على إعطاء الأولوية للمشتريات المحلية في مشاريعهم بهدف دعم المنتجين المحليين لضمان استمرارية إنتاجهم، فضلاً عن دعم النقابات والجمعيات الزراعية والمهنية والصناعية لتعزيز دورها، وتأطير مطالبها وزيادة أوراقها التفاوضية في التعامل مع القوى المتحكمة.

 

المصدر: السورية نت

التصنيف مقالات الرأي

انخرط حزب الله إلى جانب نظام الأسد في وقت مبكر من الثورة السورية، مدفوعاً بعوامل ذاتية تتعلق بحماية وجوده من جهة، وتفعيلاً لدوره الوظيفي في الإقليم بحسب الاستراتيجية الإيرانية والمصالح الغربية من جهة أخرى.

وقد ترك هذا الانخراط تداعيات ذات أبعاد مركبة شملت الساحة السورية والمشهد الإقليمي والحزب نفسه، فمن جهة عزز تدخل الحزب موقف نظام الأسد في مواجهة قوى الثورة والمعارضة، كما أدى إلى زيادة مستوى التدافع الإقليمي في الجغرافية السورية بأدوات غير مباشرة، إضافة إلى مساهمته في زيادة منسوب التوتر المذهبي في الإقليم.

ولم يكن الحزب خارج هذه التداعيات حيث تعرض إلى تحولات شملت بنيته وهويته ودوره والموقف الشعبي تجاهه.

فيما يتعلق بمسار الحزب المستقبلي في سورية، فإن ذلك رهن لتفاعل المتغيرات الحاكمة للصراع السوري بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية.

وتقدم هذه المقالة، وهي ضمن سلسة مقالات حول الحزب اللبناني في سورية، تقييماً عاماً لتموضع الحزب في سورية من الناحية العسكرية والأمنية الحالية من جهة، كما تحاول توقع دور الحزب المستقبلي من جهة أخرى.

انحصر دور حزب الله في بداية الصراع المسلح على بعض المناطق التي تعتبر مقدسة بالنسبة للشيعة في ضواحي مدينة دمشق وريفها، إلا أنه وبعد تنامي دورها وبروزها في القتال خصوصاً مع دخول حزب الله اللبناني وحركة أمل بشكل مباشر إلى معركة القصير وسيطرتهم عليها، أصبح جلياً أهمية هذه المليشيات للنظام وسبب قدومها ونذكر منها:

  • حاجة النظام الفعلية لنشر قوة برية على امتداد ساحات القتال في المناطق السورية الثائرة وتأمين الحماية اللازمة لمؤسسات الدولة الحيوية والتي لا يثق رأس النظام بحمايتها وحراستها حتى من أبناء طائفته.
  • انشقاقات في المؤسسة العسكرية والشرطية والأمنية في مختلف الرتب وبالأخص المجندين (سُنة).
  • الفرار من تأدية الخدمة العسكرية لمن هم في سن الخدمة الإلزامية والاحتياطية حتى من الموالين للنظام وانسلاخ الأكراد عن الجيش السوري بشكل شبه كامل.
  • انعدام الثقة في بعض أفراد القوات النظامية نظراً لخلفيتهم الدينية (سُنة)
  • الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها القوة البشرية العسكرية في النظام السوري.
  • تحمل هذه المليشيات الشيعية العقيدة الدينية المترسخة التي تقودهم لدعم النظام العلوي والمحافظة عليه لخشيتهم من الطائفة السنية فيما لو استلموا الحكم، وترسيخ هذه الفكرة لديهم من رجال الدين الشيعة الذين يضخون في فكرهم أن القتال في سورية يعتبر من الجهاد المقدس.
  • إغراء عناصر المليشيات الشيعية بالأموال وخاصة أن معظم مقاتلي المليشيات من الفقراء الشيعة سواء أكانوا من إيران أو العراق أو لبنان أو الأفغان وغيرهم.
  • إغراء اللاجئين الشيعة من الأفغان والباكستانيين في إيران بالحصول على إقامات لهم ولعوائلهم في إيران في حال قتالهم في سورية إلى جانب قوات النظام.

حماية الوجود وتطوير الدور

اتخذ حزب الله مقاربة ثنائية إزاء دول الربيع العربي بناءً على علاقته بالأنظمة الحاكمة في تلك الدول وموقفها من المقاومة، ففي حين رحب الحزب بحركات الاحتجاج التي شهدتها مصر وتونس واليمن وحتى ليبيا، تبنى الحزب مقاربة على النقيض تماماً تجاه الحراك الثوري السوري باعتباره مؤامرة تستهدف إسقاط حليفه الاستراتيجي نظام الأسد.

بناء على ما سبق وبتأثير إيراني واضح اتخذ الحزب قراره بالتدخل لتحقيق هدفين رئيسيين:

حماية الوجود: شكل الحراك الثوري تحدياً لإيران والحزب لجهة احتمال سقوط نظام الأسد وما يمثله من خسارة استراتيجية تحد من الدورين الإقليمي لإيران والمحلي للحزب، الأمر الذي اضطر الحزب للتدخل وشرعنته وفق مقولات سردية “المقاومة” لحماية مصالحه الحيوية المعرفة ببقاء النظام بما يضمن له العمق الاستراتيجي واستمرارية الدعم العسكري والسياسي.

أما الهدف الثاني فيتمثل بتطوير الدور حيث وجد الحزب في الحراك الثوري فرصة لتطوير دوره خارج الإطار المحلي من خلال لعب دور متقدم في الاستراتيجية الإيرانية التي تتطلب منه الانخراط بشكل أكبر في الساحات الإقليمية المأزومة وفي مقدمتها سورية، وقد لجأ الحزب إلى سردية “المظلومية التاريخية للشيعة” لتبرير تدخله لحماية الشيعة المضطهدين في سورية. كذلك عمل الحزب على إيجاد تقاطعات مع المصالح الغربية في المنطقة من خلال استغلال المخاوف من “الإرهاب” ليطرح سردية “التطرف السني” ودوره في مواجهته.

أما بخصوص العوامل التي تحدد حجم تدخل الحزب فهي متعددة كالأولويات إذ يتدخل الحزب وفق سلم أولويات محددة ضمن مجموعة عوامل في مقدمتها طبيعة الأهداف التي يتوخى الحزب تحقيقها ضمن المجالين الحيوي الخاص به وبإيران، إضافة إلى الموقف العام الميداني لنظام الأسد؛ وكالمشروعية؛ إذ يطرح الحزب سرديات يبرر من خلالها لجمهوره وللخارج الدور الذي يمارسه في سورية.

وفي هذا المجال فإن الحزب يتحرك ضمن 3 سرديات رئيسية وهي: حماية مشروع المقاومة، محاربة الإرهاب، المظلومية التاريخية للشيعة؛ أما بالنسبة للموارد ورغم بعض التقديرات التي تقول بتزايد موارد الحزب البشرية والتسليحية نتيجة انخراطه، إلا أن ذلك لا يخفي تعرض الحزب لخسائر نوعية وتخوف قيادة الحزب من مخاطر الاستنزاف على المدى الطويل وفي ساحات مفتوحة؛ أما بخصوص البيئة الإقليمية والدولية: يتعاطى الحزب بواقعية مع مصالح الفاعليين الإقليميين والدوليين في سورية، ويعمل على إيجاد تقاطعات مصلحية معها كما في مسألة الحرب على الإرهاب التي تشرعن تدخله من جهة وتحدد حجمه في مكان آخر.

أما عن مراحل تدخل حزب الله فيمكن تقسميها بحسب التوجه العام الذي انتهجه الحزب وهو يتقاطع مع التوجه الإيراني، والذي يمكن تقسمي إلى:

الدور الاستشاري (2011 – 2012)

الحزب لم ينحز فوراً إلى الخيار العسكري في سورية، إذ حاول في البداية إيجاد حل سياسي بمساعدة حركة حماس الفلسطينية التي توسطت في عام 2012 لمحاولة إبرام اتفاقية تقاسم للسلطة في سورية، بيد أن هذا الجهد تعثّر حين اشترطت الحكومة السورية أن تضع المعارضة سلاحاً أولاً.

وبحسب دراسة نشرها مركز غارنغي، فإن نائب قائد الحرس الثوري الإيراني حسين همذاني الذي قُتل قرب حلب في أكتوبر (تشرين الأول) 2015، تحدث في مذكراته عن أنه في ربيع عام 2012، طلب منه المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، التشاور مع زعيم الحزب حسن نصر الله الذي قيل إنه كان مسؤولاً عن سياسة محور المقاومة في سورية. وكان نصر الله التقى خامنئي في طهران في أواخر 2011 لاتخاذ قرار حول التدخّل، أي بعد 9 أشهر من انطلاق الأزمة السورية. ثم عاد إلى بيروت لبدء الاستعدادات، بسبب الحاجة إلى تأطير هذا التدخل على نحو ملائم في المشهد السياسي اللبناني الذي كان يعيش أصلاً حالة استقطاب حادة.

نفى الحزب مع انطلاق الأحداث في سورية عام 2011 أكثر من مرة مشاركته بالقتال هناك، ومن ثم اعتمد سياسة لإعلان ذلك تدريجياً. فأشار في المراحل الأولى إلى أن «مواطنين لبنانيين» هم من يشاركون في المعارك دفاعاً عن بلداتهم الواقعة على الحدود بين البلدين. ثم انتقل لتأكيد مشاركة عناصر منه في هذه المعارك تحت عنوان «حماية القرى اللبنانية» الحدودية مع سورية. وبعدها برّر القتال بحماية «المقامات المقدسة» لدى الشيعة، ثم حسم الموضوع بالإعلان الواضح عن المشاركة في معركة القصير في مايو (أيار) 2013.

سنة 2013، وفي ذكرى حرب يوليو (تموز)، قال نصر الله: «إذا كان عندنا ألف مقاتل في سورية فسيصبحون ألفين، وإذا كانوا 5 آلاف فسيصبحون 10 آلاف. وإذا احتاجت المعركة مع هؤلاء التكفيريين ذهابي وكل (حزب الله) إلى سورية فسنفعل».

تنامي الدور الميداني (2013 – 2016)

شارك الحزب بعد ذلك في معارك ميدانية بأعداد رمزية، لكن هذه المشاركة توسّعت في عام 2013 عندما شن النظام هجمات منسقة على مدن وبلدات القلمون وريف حمص المحاذي للحدود اللبنانية، وتحوّلت المشاركة الرمزية إلى مشاركة فعلية، وأصبح الإعلان عن قتاله في المعارك ضرورة ملحة، نظراً لأن عناصره سيتولون المهمة الأساسية في بعض تلك المعارك، فلجأ إلى ترويج دعاية تقول بأن هناك قرى في هذه المناطق يسكنها لبنانيون شيعة يتعرّضون للخطر من قبل من يسميهم التكفيرين، ثم انتقل بعدها للحديث عن تدنيس مقامات وقبور آل البيت المدفونين في أنحاء متفرقة من سورية، داعياً عناصره للدفاع عن “العتبات المقدسة”، وهي دعاية شملت جميع المليشيات الشيعية الأجنبية المدارة من قبل إيران، قبل أن تختفي هذه الرواية من الخطاب السياسي في عام 2014، رغم أنها بقيت حاضرة في صفوف الحاضنة الشعبية لغايات حشد المقاتلين وتبرير الخسائر البشرية بينهم.

تصاعد عدد مقاتلي الحزب في سورية بشكل تدريجي، كما يُعتقد أنه تأرجح صعوداً ونزولاً، حيث كان في أوجه خلال عامي 2014 و2015، عندما كان النظام السوري في أضعف حالاته قبل التدخل الروسي. أما اليوم فيعتقد أن الحزب لديه ما بين 2000-4000 مقاتل داخل سورية

ولم يكن خيار الاستمرار في المشاركة الصامتة متاحاً للحزب، لعدّة أسباب، أهمها الخسائر البشرية المتوالية للحزب بالتوازي مع محدودية الحاضنة الشعبية له في بلد صغير أصلاً، وبالتالي فإنّ مشاركته في سورية سوف تتحول لقضية رأي عام، خاصة في ظل انقسام كبير في الوسط السياسي اللبناني تجاه نظام الأسد. كما يُعتقد أن إيران دفعت باتجاه التموضع العلني، بعد اتضاح عدم قدرتها على حسم المعركة خلال أسابيع أو أشهر، وبالتالي دفعت الحزب لتقديم رواية كاملة للمشاركة ودوافعها، بدلاً من السماح للآخرين بصناعة هذه الرواية.

التكيف والبقاء (2017 – 2021)

وجدت قيادة حزب الله مع مطلع عام 2018 أنه لم يعد هناك الحاجة إلى الكمّ الكبير من المقاتلين والوحدات على الجبهات السورية وعمدت إلى التركيز على التمركز في مواقع السيطرة المطلقة ذات الفائدة الاستراتيجية للحزب، ما دفع الحزب إلى إعادة الكثير من مقاتليه إلى لبنان، ويمكن ربط عملية سحب القوات مع انتفاء الحاجة العسكرية إليها، ومع العقوبات التي فرضت على الحزب، التي تجبره على اتخاذ إجراءات وقائية وتقشفية.

مع نهاية عام 2018 نفذ حزب الله أول عملية إعادة تموضع، من مناطق بمحيط حلب، وإدلب، وشرق سورية، وحتى حمص، باتجاه غرب سورية، والعاصمة دمشق. وأصبح ثقل وجوده وتمركزه يتمحور في محيط العاصمة، وريفها، والقلمون وصولاً إلى ريف حمص من الجهة اللبنانية، وتحديداً مدينة القصير، التي أصبحت قاعدة عسكرية أساسية وكبرى له. لكن إعادة التموضع هذه، لا تعني أن الحزب ترك نقاطه السابقة بشكل كامل، إنما احتفظ بنقاط مراقبة أو فرق إستشارية عند كل نقطة حساسة، على نحو يشرف مسؤول من قبله على مجموعات سورية أصبحت هي الممسكة بزمام الأمور على الأرض.

في عام 2019 عمل الحزب على تعزيز أدوار أبناء المنطقة الأصليين، مقابل الإشراف عليهم ودعمهم ومساعدتهم، حيث أن قيادات الحزب تدرك بشكل كامل على أن البقاء في تلك المناطق لن يكون طويلاً أو أبدياً. والغاية الأساسية تبقى بالحفاظ على النفوذ والتأثير. وبذلك، يخفف الحزب من الأعباء والتكاليف المالية والبشرية، مقابل الاحتفاظ بالقوى الموالية التي تصون مناطق النفوذ، وتضمن الحضور في أي مفاوضات تنطلق للبحث عن حلّ للأزمة السورية.

إذاً: في المرحلة الأولى استطاع حزب الله اللبناني من تحقيق مكاسب كبيرة من التجربة على المستويين العسكري والإقليمي. فبالرغم من مقتل أكثر من 1600 وجرح أكثر من 5000 من العناصر المقاتلة للحزب، بحسب تقديرات، فإن الحزب قد تمكن من رفع المستوى القتالي لآلاف آخرين من خلال مشاركتهم في المعارك. كما حول الحزب سورية إلى “حقل تجارب” مفتوح لمختلف الأسلحة، و”ميدان تدريب” كبير لآلاف المقاتلين على تكتيكات لم يعتدها الحزب من قبل، فهذه الحرب هي الأولى من نوعها التي يخوضها الحزب منذ تأسيسه، حيث يقف مقاتلوه في موقع الهجوم، لا كما اعتاد في حروبه السابقة مع إسرائيل.

إلى جانب ذلك، فإن قيادات الحزب العسكرية، قد تمكنت للمرة الأولى من خوض معارك جنباً إلى جنب مع القوات الروسية، كما حدث في معركة تدمر في مارس/آذار الماضي، حيث تمكن قادة الحزب ومقاتلوه من التعرف على التكتيكات والاستراتيجيات العسكرية المتقدمة التي يستخدمها الروس، إلى جانب إلقاء نظرة عن قرب على آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية.

ولكن يبقى التحدي الأكبر للحزب الأن هو كيفية تثبيت مكاسبه في سورية في مرحلة ما بعد الصراع وخاصة في ظل العقوبات على النظام السوري والضغط الإسرائيلي على حليف الحزب الأول في سورية وهي إيران.

 

المصدر: السورية نت https://bit.ly/3uj2s7C 

التصنيف مقالات الرأي

أكد مدير البحوث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية معن طلاع، في مقابلة مع صحيفة عنب بلدي حول اللقاء الروسي القطري التركي في الدوحة، إن إيران لن تخدم موسكو في هذا المسار اقتصاديًا، ومن سيخدمها هي الدول العربية، "لذلك فالهدف الرئيس من مسار الدوحة، هو محاولة إيجاد طرق خروج نظام الأسد من أزمته الاقتصادية عبر البوابة العربية"، ويرى طلاع، أن اختيار قطر لتكون بداية لمسار “روسي-قطري-تركي” جاء بسبب امتلاكها علاقات متوازنة مع إيران، وهي رسائل دبلوماسية لإيران بأنها "غير مغيّبة بشكل من الأشكال عن هذا الملف"، كما أن موسكو بحاجة إلى مسار لا يوجد فيه الإيرانيون، لأن تدخلهم العسكري أدى إلى عقدة أمنية، شكّلت نقطة خلاف دائمة بين الروس والولايات المتحدة من جهة، وبين الروس وإسرائيل من جهة أخرى.
وأوضح طلاع أن روسيا تحتاج إلى دور سياسي انطلاقًا من مسار “جنيف”، وصولًا إلى مؤتمري “فيينا- 1″ و”فيينا- 2” والقرار “2254” ،لضمان التوازن في لغة المصالح بينها وبين الولايات المتحدة.


للمزيد: http://bit.ly/3qGQLVS

استضاف التلفزيون العربي المدير التنفيذي لمركز عمران، الدكتور عمار قحف، ضمن برنامجه شبابيك، للحديث عن عودة النازحين واللاجئين لمناطق سيطرة المعارضة، حيث أوضح القحف أن عدم عودة النازحين لمناطق سيطرة النظام هو تكريس لانعدام الأمان في مناطق النظام، إضافة لسوء الأوضاع المعيشية وانعدام فرص العمل، في مقابل وجود أمن نسبي في مناطق سيطرة المعارضة في ظل وجود القواعد العسكرية التركية.


للمزيد: https://bit.ly/38E7BOZ

شارك الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، محمد العبد الله في تقرير صحفي لجريدة الاستقلال بعنوان: " قضاء مساند".. كيف تتلاعب أسماء الأسد بقطاع الاتصالات في سوريا؟. فكك الباحث فيه الهدف من الخطوات الأخيرة التي يتبعها نظام الأسد للسيطرة على قطاع الاتصالات في سورية، وأدوات تحقيقه لهذا الهدف.

بتاريخ 8 شباط 2021 استضافت إذاعة وطن أف أم نوار شعبان الخبير في الشؤون العسكرية والأمنية في مركز عمران ضمن حلقة حملت عنوان "مستقبل الملف الأمني في سورية.. أسباب وحلول"، والتي تحدث بها عن مشروع مركز عمران " مؤشرات الاستقرار الأمني في سورية وارتباطه بعودة اللاجئين والنازحين".

كما أوضح شعبان ماهية البيئة الأمنة في جميع مناطق السيطرة في سورية ومدى تأثير الفلتان الأمني في تلك المناطق على عودة اللاجئين.

رابط المقابلة: http://bit.ly/2Z9PNGl

رابط الأوراق البحثية: http://bit.ly/2J4iYWV

مُلخصٌ تنفيذيّ

  • تشير المعطيات، حتى الآن، إلى قدرة فايروس "كورونا المستجد" على الحدّ من العمليات العسكرية، وهذا لا يعني أبداً نهايتها أو تجميدها، بل قد تتخذ مبدئياً أشكالاً مختلفة تتراجع فيها المعارك الميدانية التقليدية لصالح تزايد النشاط الأمني واتخاذ تكتيكات جديدة تتناسب ومصالح كل طرف.
  • يُلحظ نشاط متزايد ولافت لتنظيم "الدولة الإسلامية" في ظل انتشار الفايروس، والذي وصفه التنظيم بـ "أسوأ كوابيس الصليبيين"، ويبدو أن "داعش" ينظر إلى آثار الفايروس كظروف ملائمة لإعادة تكثيف نشاطه العسكري وهجماته على عدة جبهات.
  • تعكس تصريحات "قسد" المتضاربة حول هروب عناصر "داعش" من سجن الحسكة، تخوفها من الانكفاء الذي يقوم به التحالف الدولي في العراق واحتمالية امتداده إلى سورية، بتخفيض أعداد الجنود أو إعادة انتشار محتمل، ومحاولة للتلويح بعودة "داعش" كورقة سياسية-أمنية لتحصيل المزيد من الدعم في إطار مكافحة الإرهاب.
  • يبدو أن "كورونا" فرض على بعض الدول سياسات عسكرية انكفائية، خاصة تلك المنتشرة قواعدها حول العالم، أو يمكن القول إنه سرّع من قرارات دول أخرى بالانسحاب من تلك القواعد وإعادة التموضع والانتشار، كما حدث في العراق، الأمر الذي يفتح الباب للتساؤل حول آثاره على الوجود الأجنبي في سورية؟
  • في الوقت الذي ينكفئ فيه التحالف الدولي عن بعض مواقعه في العراق؛ تعمل القوات الأمريكية على تعزيز قواعدها الحالية، عبر استقدام بطاريات باتريوت، ويبدو أن التعزيزات الأمريكية في تلك القواعد تتناسب طرداً وحجم التهديد المحتمل لها.
  • موسكو وطهران تشتركان بعدم تأثر السياسة الخارجية بالمعادلة الداخلية، بمعنى أن هذين النظامين ومعهما الصين والنظام السوري لا يعانون من التهديد الذي تشكله الحسابات الداخلية وارتفاع نسب تفشي المرض وزيادة عدد الوفيات على الحكومات والنظام السياسي، بعكس الديمقراطيات الغربية.
  • ينظر النظام وحلفاؤه إلى المناخ العام الذي فرضه الفايروس كمجال استثمار سياسي-عسكري-اقتصادي، سواء عبر تسهيل المساعدات لنظام الأسد من مدخل إنساني والسعي لرفع العقوبات، أو استثماره كبوابة للتطبيع مع دول المنطقة وفتح قنوات تواصل جديدة، إضافة إلى كونه فرصة لمضايقة التواجد الأجنبي بأدوات مختلفة.
  • ضمن ما يفرضه "كورونا المستجد" من ارتباك على جميع اللاعبين، يبدو أن العمل العسكري سيتراجع خطوة حذرة بمعاركه التقليدية، ليفسح المجال لمناورات سياسية جديدة بين الأطراف المختلفة، سواء باتجاه محاولات تفعيل اللجنة الدستورية بين المعارضة والنظام، أو إعادة إحياء قنوات التفاوض بين "قسد" والنظام، مقابل محاولات الأخير وحلفائه إحداث خرق في جدار العقوبات.
  • إن محاولات فتح وتفعيل المسار ات السياسية لا تعني أبداً إحراز خطوات متقدمة فيها، بقدر ما تعني أنها استجابة لواقع فرضه الفايروس، وإعادة ترتيب الأوراق والأولويات، والتي يبدو أنها ستبقى مرهونة بمدى انتشار الفايروس، وما سيرافقه من آثار وتهديدات.

تمهيد

وسط القلق العالمي المتزايد على وقع تفشي جائحة "كورونا المستجد" (كوفيد 19) وما رافقها من آثار وتهديدات على عدة مستويات؛ أعلن نظام الأسد في 23آذار/مارس عن وصول الفايروس إلى سورية رسمياً، بعد التصريح عن إصابات وأولى الوفيات، مقابل إجراءات احترازية في محاولة احتوائه؛ لتتحول بذلك التخوفات إلى واقع يفتح الباب واسعاً أمام تحليلات آثار هذا الفايروس وتداعياته المتوقعة على عدة قطاعات ومستويات في البلد المُنهك. وعليه تحاول هذه الورقة تقديم قراءة تحليلية في الانعكاسات المحتملة على الملف السوري، خاصة في المستوى العسكري والجبهات المتعددة ضمن مناطق النفوذ الثلاث (معارضة، نظام، قسد)، إضافة إلى الآثار المحتملة على طبيعة التواجد الأجنبي في البلاد، مقابل العملية السياسية وآفاقها المتوقعة وسط المناخ الذي يفرضه الفايروس من البوابة الإنسانية وقابلياته للاستثمار السياسي.  

العمليات العسكريّة (تراجعٌ حذر ونشاطٌ أمنيّ)

تبدو فرضية تجميد الجبهات وتقويض العمليات العسكرية التقليدية نتيجة انتشار الفايروس منطقية حتى الآن، على الأقل في الفترة الحالية، والمتمثلة بالمواجهة الأولى مع الوباء والارتباك في احتوائه ومعالجة آثاره المتعددة، خاصة مع التخوف من تفشيه داخل القطع العسكرية والمليشيات ومجاميع الفصائل، إضافة إلى عدم القدرة على فتح معارك كبرى، تلك التي من الممكن أن تؤدي إلى عدد كبير من الجرحى يزيد الضغط على القطاع الطبي المشلول أساساً في مناطق المعارضة، والعاجز في مناطق النظام، إضافة إلى ما قد يترتب على تلك المعارك من نفقات وميزانيات سيضطر النظام إلى حرفها باتجاه قطاعات أخرى.

 ناهيك عن محاولات موسكو والنظام تجنب أي قصف جوي تقليدي يُخرجُ المزيد من النقاط الطبية والمستوصفات والمشافي عن الخدمة أو يستهدف البنى التحتية الرئيسية، وذلك لا يبدو خوفاً على المدنيين أو حرصاً على القطاع الطبي في تلك المناطق، وإنما تجنباً لحرج حقيقي أمام المجتمع الدولي في ظل جائحة تهدد الإنسانية، خاصة في الوقت الذي يسعى فيه النظام وحلفاؤه إلى استغلال هذا الظرف الإنساني لإحداث خرق في جدار العقوبات الاقتصادية (الأوروبية-الأمريكية)، إضافة إلى محاولات الإفادة منها كمدخل للتطبيع والمساعدات وإعادة العلاقات العلنية مع بعض الدول العربية-الخليجية، أو فتح قنوات تواصل جديدة عبرها باتجاه قوى مختلفة، قد تكون غربية.

وضمن إطار الإجراءات الاحترازية في مواجهة تفشي المرض؛ أصدرت القيادة العامة لجيش الأسد أمرين إداريين ينهيان الاحتفاظ والاستدعاء للضباط الاحتياطيين المحتفظ بهم والملتحقين من الاحتياط المدني، اعتباراً من 7 نيسان المقبل، لكن بشروط تحددها مدة الخدمة، إضافة إلى تسريح بعض دورات الاحتفاظ ([1])، فيما بدا تخوفاً من تفشي الفايروس داخل القطع العسكرية للجيش. مقابل موسكو التي اتخذت إجراءات احترازية صارمة داخل قاعدتها العسكرية في حميميم، إضافة إلى ضبط احتكاك جنودها بالضباط السوريين والسكان. في حين لا تتوافر معلومات دقيقة حول المليشيات الإيرانية، والتي سجّلت بحسب تقارير أعلى نسب إصابات داخل سورية، سوى نقل بعضهم إلى نقاط طبية في العراق للعلاج، عبر المعبر الوحيد الذي لم يغلق (البوكمال)، إضافة إلى عزل بعض مناطق نفوذهم كحيّ "السيدة زينب" في جنوب العاصمة دمشق، بينما اكتفى حزب الله في التصريح على لسان أمينه العام أنه "يقوم بفحص مقاتليه قبل إرسالهم إلى سورية حرصاً على عدم نقل العدوى إليها، وفحصهم أثناء عودتهم لضمان عدم نقلها إلى لبنان" ([2]). بما يشير إلى عدم تأثر تواجد الحزب بالفايروس والاكتفاء بالإجراءات الاحترازية، حتى الآن.

كل تلك الإجراءات، وما قد يلحق بها من قرارات أخرى على وقع تفشي الجائحة في البلاد، تشير، حتى الآن، إلى قدرة الفايروس على فرض هدنته الخاصة والحدّ والتقويض من العمليات العسكرية التقليدية، ولكن وفي الوقت نفسه لا يعني أبداً نهايتها أو تجميدها، بل قد تتخذ مبدئياً أشكالاً مختلفة تتراجع فيها المعارك الميدانية التقليدية لصالح تزايد النشاط الأمني واتخاذ تكتيكات جديدة تتناسب وتحقيق مصالح كل طرف.

فعلى الرغم من انحسار قصف النظام وحلفائه لمناطق المعارضة، إلا أن الخروقات للاتفاق الروسي-التركي استمرت من طرف النظام، عبر قصف صاروخي استهدف أرياف مدينة إدلب بتاريخ 31 آذار/مارس و 1نيسان/أبريل([3])، بالإضافة إلى فتح النظام معارك محدودة على جبهات أخرى كالسويداء، حيث يخوض الفيلق الخامس اشتباكات متقطعة مع فصائل محليّة "رجال الكرامة"([4])، مقابل ملاحظة زيادة وتيرة الاغتيالات في درعا بين صفوف قياديين في المعارضة السورية، ممن وقعوا على اتفاقيات التسوية([5])، الاغتيالات التي يُرجّح أن النظام يقف وراءها بشكل مباشر، خاصة أنها تأتي في سياق توترات عاشتها المحافظة خلال شهر آذار، أدت إلى اقتحام قوات النظام مدن وبلدات عدة في أرياف درعا، ماتسبب بمقتل وجرح عدد من الطرفين وتهجير 21 من مقاتلي المعارضة إلى الشمال السوري.

ويقابل اغتيالات الجنوب، ارتفاع معدلات التفجيرات عبر السيارات المفخخة والاغتيالات التي طالت قياديين في "الجيش الوطني" ضمن مناطق "درع الفرات" و"غصن الزيتون"([6])، إضافة إلى إدلب خلال الأسبوع الفائت([7])، وعلى الرغم من تعدد الجهات التي قد تقف وراء اغتيالات الشمال، كغرفة عمليات "غضب الزيتون" التابعة لـ(PYD)، إضافة لخلايا "داعش" في المنطقة وبعض المجموعات المتشددة، إلا أن النظام وخلاياه يعتبرون أحد أبرز المتهمين بتلك العمليات، بينما تبنّت "قسد" اغتيال أحد القيادين في "الجيش الوطني"، ضمن محيط بلدة عين عيسى في ريف الرقة إثر استهدافه بصاروخ حراري بتاريخ 30 آذار/مارس، وادعائها أن ذلك جاء "رداً على محاولات تقدم للجيشين الوطني والتركي"([8])، واللافت أن هذا التوتر في محيط البلدة سبقهُ بأسبوع وصول تعزيزات للنظام إلى محيطها.

"داعش" و"قسد" (تهديدٌ واستثمار)

بالمقابل، يُلحظ نشاط متزايد ولافت لتنظيم الدولة الإسلامية في ظل انتشار الفايروس، والذي وصفه التنظيم بـ "أسوأ كوابيس الصليبيين"، وذلك ضمن افتتاحية حول فايروس "كورونا" في طبعة 19 آذار/مارس من نشرة "النبأ" التابعة له، معتبراً أنهُ "سيُضعف من قدرات أعداء التنظيم وسيعيق إرسالهم للجنود لمحاربة المجاهدين، داعياً أنصاره إلى زيادة نشاطهم خاصة باتجاه تحرير الأسرى وتكثيف الهجمات التي تزيد من ضعف أعداء التنظيم ([9])".

 وقد كثّف التنظيم من عملياته باتجاه قوات "قسد" والنظام السوري على حد سواء، حيث أعلن عبر وكالة أعماق 29 آذار/مارس عن أسرّ عناصر من "وحدات الحماية" في ريف الحسكة وإعدامهم، كما تم تنفيذ سلسلة تفجيرات في مدينة الطبقة بريف الرقة، لم يتبناها التنظيم، ما دفع البعض لتوجيه الاتهام للنظام السوري في إطار محاولاته لتهيئة بيئة من الفلتان الأمني. وبالتزامن مع عمليات تنظيم الدولة في ريف الحسكة، أعلنت صفحات محليّة في دير الزور عن فقدان الاتصال مع مجموعة من المليشيات الإيرانية في بادية البوكمال إثر قيامها بجولة تفقدية، كما نشر التنظيم إصداراً جديداً حول عملياته العسكرية التي يقوم بها في البادية السورية، وتحديداً في قرى منطقة السخنة التابعة لريف حمص الشمالي، في محاولة منه لإيصال رسالة بأنه ما زال موجوداً، ويظهر التسجيل مهاجمة شاحنات وأرتال عسكرية لقوات النظام ، إلى جانب عمليات إعدام لمقاتلين قال التنظيم إنهم من عناصر النظام أو "لواء القدس" المدعوم إيرانياً([10]).

 وتزامن ذلك مع محاولات الاستعصاء والهروب التي نفذها عناصر التنظيم في سجن "الصناعة" ضمن حي غويران بمحافظة الحسكة، وهروب عدد منهم، وسط تصريحات متضاربة من قيادات "قسد" حول هذا الهروب، مقابل تصريحات المتحدث باسم التحالف، الكولونيل مايلز كاجينز، والتي خففت بشكل أو بآخر من وقع الحادثة، فيما يبدو أن قسد تسعى لتضخيمها، حيث اعتبر كاجينز أن "السجن لا يضم أي أعضاء بارزين في تنظيم داعش"[11]) )، الأمر الذي قد يشير إلى مبالغة قوات سورية الديمقراطية في موضوع أسرى تنظيم الدولة وإثارة الموضوع بهذا التوقيت بالذات،  وذلك ربما لتمرير المحاكم العلنيّة التي تدفع بها الإدارة الذاتية لمحاكمة عناصر تنظيم الدولة الذين ترفض دولهم استقبالهم، إضافة إلى استغلالها كورقة سياسية-أمنية لتحصيل المزيد من الدعم الغربي في إطار مكافحة الإرهاب. والأهم من ذلك، أنها تعكس أيضاً تخوف "قسد" من الانكفاء الذي يقوم به التحالف في العراق واحتمالية امتداده إلى سورية عبر تخفيض عدد الجنود أو إعادة انتشار محتمل شرق الفرات، خاصة وأن "قسد" اتبعت سلوك الاستثمار والتلويح بعودة "داعش" عدة مرات، ليس آخرها مع بدء العملية العسكرية التركية "نبع السلام" وإعلان ترامب سحب القوات الأمريكية شرق الفرات، حين أعلنت عن هروب سجناء من تنظيم الدولة، نتيجة القصف التركي الذي استهدف مواقع السجون، ليأتي بعدها تصريح ترامب في تاريخ 14/10/2019 ويتهم فيه قوات سورية الديمقراطية "بتسهيل هروب السجناء، لابتزاز القوات الأمريكية والتحالف الدولي"([12]).

 كما رافق نشاط التنظيم المتزايد في أرياف محافظات (الرقة، دير الزور، الحسكة)، رصد عبور عدد كبير من عناصر التنظيم الحدود السورية باتجاه الأراضي العراقية، ما دفع الحشد الشعبي في الجانب العراقي إلى جانب وحدات من الجيش العراقي "اللواء 44" و"51" وعدة قطع عسكرية، وبإسناد من طيران الجيش ومقاتلة الدروع في "الحشد الشعبي"، للاستنفار وإطلاق عملية عسكرية جديدة ضد عناصر تنظيم الدولة تحت اسم "ربيع الانتصارات الكبرى"، بحسب بيان صادر عن الحشد الشعبي بتاريخ 30 آذار/مارس، وتزامنت العملية مع هروب عناصر التنظيم من سجن الحسكة، إضافة إلى عودة تحليق طيران التحالف في السماء السورية([13]).

ويبدو أن تنظيم الدولة ينظر إلى آثار الفايروس كظروف ملائمة لإعادة تكثيف نشاطه العسكري وهجماته على عدة جبهات، الأمر الذي سيرتب ضغطاً مضاعفاً على قوات "قسد" في مناطق نفوذ الإدارة الذاتية، كما سيشكل بالنسبة لها مجال استثمار جديد لتحصيل المزيد من الدعم الغربي في مواجهة "داعش". وعلى الجانب الآخر قد يشكل نشاط "داعش" استنزافاً لقوت النظام والمليشيات الإيرانية المتواجدة في ريف دير الزور الشرقي وبادية حمص، كما أن نشاط خلايا التنظيم قد يطال مناطق نفوذ المعارضة السورية عبر الاغتيالات والتفجيرات، الأمر الذي قد يعطي فرصة جديدة لهيئة "تحرير الشام" لتصدير نفسها كقوة محلية قادرة على ضبط الأوضاع الأمنية، والتي ستمثل لها بوابة للتنسيق مع قوى إقليمية ودولية، خاصة وأن مناطق المعارضة السورية قد لا تقتصر على نشاطات تنظيم الدولة، وإنما قد تفسح أيضاً المجال  لبعض المجموعات المتشددة التي ستجد في الظروف الحالية والارتباك الأمني والعسكري فرصة ملائمة لتنفيذ عملياتها باتجاه عرقلة الاتفاق التركي-الروسي، أو باتجاه تصفية حسابات مع فصائل محددة في إطار الصراع على النفوذ، إضافة لاحتمالية زيادة نشاط خلايا النظام الأمنية، عبر التفجيرات والاغتيالات لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة.

التواجد الأجنبي (احتمالات الانكفاء والاستغلال)

على مستوى مختلف، يبدو أن فايروس "كورونا" فرض على بعض الدول سياسات عسكرية انكفائية، خاصة تلك المنتشرة قواعدها حول العالم، أو يمكن القول إنه سرّع من قرارات دول أخرى بالانسحاب من تلك القواعد وإعادة التموضع والانتشار، وفي إطار مناقشة آثاره على التواجد الأجنبي في سورية، يبدو من المفيد الدخول عبر بوابة العراق، فقد أعلنت الحكومة الفرنسية عن انسحاب قواتها من العراق 25 آذار/مارس، وذلك ضمن اتفاق مسبق مع الحكومة العراقية، في الوقت الذي قام فيه التحالف الدولي بتسليم 3 قواعد عسكرية (القائم، القيارة، كي1) من أصل 8 للقوات العراقية، والانكفاء باتجاه إقليم كردستان (قاعدة حرير) والأنبار(قاعدة عين الأسد)، وبدأ التحالف بسحب قواته التدريبية من العراق، في 20 من آذار الحالي، بعد تعليق برنامج التدريب، في إطار الإجراءات الوقائية لمنع تفشي "كورونا المستجد"، كما انسحب نحو 300 جندي من قوات التحالف منتصف آذار الحالي من قاعدة القائم([14]).

وعلى الرغم من كون بعض تلك القرارات ليست جديدة، ولا يمكن فصلها عن سياق التوتر الأخير بين الولايات المتحدة وإيران وإعادة التحالف الدولي لتموضعه في العراق، خاصة على خلفية الاستهداف الأمريكي لقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، والذي ترتب عليه بدفع من إيران، قرار البرلمان العراقي 5 كانون الثاني 2020 بضرورة خروج القوات الأجنبية من العراق، لكن وفي ذات الوقت لا يمكن إنكار دور "كورونا" في التسريع من تلك العمليات، خاصة بالنسبة للأوروبيين الذين باتوا ينظرون إلى العراق كساحة صراع ثنائية بين طهران وواشنطن، لا مكان لهم فيها، فيبدو أن كورونا شكّل فرصة مناسبة لتسريع عمليات الانسحاب وتعليق برامج التدريب.

 وبينما يساهم الفايروس بتشكيل بيئة طاردة للقوات الأجنبية المتواجدة في العراق، يبدو أن إيران لن تفوت الفرصة في تخصيب تلك البيئة، خاصة باتجاه التواجد الأكثر تأريقاً لها، والمتمثل بالقواعد الأمريكية، وذلك عبر رفع وتيرة التهديد الأمني تجاه تلك القواعد من خلال التفجيرات أو الاستهدافات عبر مليشيات محليّة، في محاولة لتحفيزها وتسريع عملية الانكفاء، وهذا ما يتقاطع مع ما نشرته صحيفة "واشنطن بوست" عن مسؤول أمريكي رفيع لم تسمه، حول توافر معلومات استخباراتية عن هجمات قد تستهدف قواعدها من قبل إيران، عبر مجموعات محليّة تعفي طهران من التورط المباشر، كمليشيا حزب الله العراقي([15])، إذ يبدو أن تفشي الجائحة في إيران لا يمنعها من استثمار المناخ الذي فرضته في دول نشاطها. ولكن وفي الوقت الذي ينسحب فيه التحالف الدولي من بعض القواعد؛ تعمل القوات الأمريكية على تعزيز مواقعها الحالية في العراق، عبر استقدام بطاريتي باتريوت تم نشر أحدها في قاعدة عين الأسد، والأخرى في أربيل، ويتم الحديث عن استقدام بطاريتين إضافيتين من دولة الكويت إلى الأراضي العراقية، ويبدو أن الإجراءات الأمريكية في تعزيز تلك القواعد تتناسب طرداً وحجم التهديد المتوقع لها ([16]).

وبمقاربة أثر الفايروس على القواعد الأجنبية في الظرف العراقي، إلى الحالة السورية التي تضم عدداً من القواعد الأجنبية، يبدو أن الظرف أيضاً قابل للاستثمار لتهديد تلك القواعد، وتشجيعها على الانكفاء، فعلى الرغم من عزلة القاعدة الأمريكية في التنف، بحكم بعدها عن مراكز المدن والاحتكاك، إلا أن هذا لا يعني أنها محصنة بشكل كامل ضد الفايروس، وكذلك باقي القواعد المتواجدة في شرق الفرات، والتي قد تشهد عمليات أو هجمات محتملة من قبل مليشيات محليّة، عملت إيران على إعدادها من فترة طويلة تحت اسم المقاومة الشعبية والتي ترفع شعارات ضد الوجود الأمريكي في سورية. إضافة إلى احتمالية تأثر باقي التواجد الأجنبي (فرنسي، بريطاني) وبرامجه على وقع زيادة تفشي المرض في سورية أو داخل تلك الدول، وما سيترتب عليه من إجراءات.

 أما في غرب الفرات، حيث التواجد التركي وانتشار نقاط المراقبة، والتي تعتبر أيضاً شبه معزولة وتم رفع الجاهزية الطبية فيها، فإن الأخطار الأمنية عليها لا تبدو معدومة، فعلى الرغم من قرب تلك القواعد والنقاط من الأراضي التركية وتوافر طرق الإمداد والنقل السريع، والذي قد يخفف من أخطار تفشي الفايروس، إلا أن الظرف الحالي أيضاً يبدو مناسباً للعديد من الأطراف لرفع مستوى التهديد الأمني المحتمل لتلك النقاط، سواء عبر قوات النظام والمليشيات الداعمة لها، أو حتى بعض الفصائل الجهادية التي ترى في فتح الطريق الدولي m4 وتسيير الدوريات المشتركة تهديداً لنفوذها، خاصة وأن مختلف الجهات التي من الممكن أن تهدد نقاط المراقبة أو الدوريات التركية في هذه الظروف، تدرك وقع تفشي المرض في الداخل التركي، وانعكاس أي استهداف للجنود في هذه الفترة وما قد يسببه من حرج للحكومة التركية وتأزيم في الوضع الداخلي.

أما بالنسبة لإيران وميلشياتها أو القوات الروسية والمرتزقة المرافقة لها من الشركات الأمنية الخاصة، فمن المستبعد حتى الآن أن يؤثر الفايروس وتفشيه على تواجدها العسكري في سورية، إلا في حدوده الدنيا، المتمثلة بإعادة الانتشار والتموضع واتخاذ تدابير وإجراءات احترازية، وذلك على اعتبار أن طهران تعتمد على مجموعات مرتزقة، أغلبهم من غير الإيرانيين، وبالتالي لن تكون سلامتهم أولوية بالنسبة لطهران، وهذا ما حدث حتى على المستوى المدني في إيران، حيث أفادت التقارير الواردة من المدن الإيرانية عن سياسية عنصرية عالية في المستشفيات الإيرانية، والتي رفضت استقبال الأفغان والباكستانيين وغيرهم من الجنسيات المقيمين على الأراضي الإيرانية، وجعلت الأولوية للإيرانيين، لذلك فمن المحتمل ألا يتأثر النشاط الإيراني في سورية حتى الآن، بل وعلى العكس فقد تلجأ إيران إلى محاولات استثمار المناخ السياسي والعسكري قدر الإمكان لزيادة نشاطاتها العسكرية، ولعل الضربات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت مطار الشعيرات في حمص تعد مؤشراً على استمرار تلك النشاطات([17]).

ناهيك عن أن موسكو وطهران تشتركان بعدم تأثر السياسة الخارجية بالمعادلة الداخلية، بمعنى أن هذين النظامين ومعهما الصين والنظام السوري لا يعانون من التهديد الذي تشكله الحسابات الداخلية وارتفاع نسب تفشي المرض وزيادة عدد الوفيات على الحكومات والنظام السياسي، كما هو الحال في الديمقراطيات الغربية، وذلك بحكم طبيعة تلك الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، والتي وعلى الرغم من انتظامها بذات الإجراءات الموحدة التي يتخذها العالم في مواجهة الفايروس؛ إلا أنها وبالوقت نفسه تنظر إليه كمجال استثمار سياسي وعسكري واقتصادي، سواء عبر تسهيل المساعدات للنظام السوري من مدخل "كورونا" والسعي لمحاولات رفع العقوبات الأوروبية-الأمريكية، أو استثماره كبوابة للتطبيع مع دول المنطقة وفتح قنوات تواصل جديدة، إضافة إلى كونه فرصة لمضايقة التواجد الأجنبي بأدوات مختلفة ومحاولة الدفع في التسريع بقرارات الانسحاب.

أما عن مدى قدرتهم في تحقيق ذلك والنجاح به، فهذا مالا يمكن التنبؤ به، إذا يتعلق بعدة عوامل على رأسها توسع خريطة انتشار المرض وسرعة تفشيه وزيادة مستويات تهديداته، وما سيبنى من استراتيجيات مضادة للدول في مواجهته، خاصة تلك المتعلقة بقواعدها المتواجدة في سورية.

المسارُ السياسيّ (مناورةُ الوقت وتفعيلُ المُعطّل)

في الوقت الذي قد تتراجع فيه النشاطات العسكرية خطوة بشكلها التقليديّ، أو تتخذ تكتيكات وأشكال جديدة تتناسب والمناخ الذي فرضه "كورونا المستجد"؛ تبدو الظروف ملائمة لفتح المجال السياسي ومحاولة تجميد الأوضاع وتثبيت وقف إطلاق النار من قبل الفاعلين الرئيسين في الملف السوري.

 فقد عقد مجلس الأمن الدولي الاثنين 30 آذار/مارس، جلسة عن بعد عبر تقنية الفيديو، بحثت جوانب عدة أبرزها مكافحة انتشار فايروس "كورونا"، وسُبل تفعيل العملية السياسية وسير اتفاق إدلب، حيث توافق أعضاء المجلس على ضمان وقف العمليات القتالية في سورية، وتحقيق الهدوء اللازم لمكافحة الفايروس، ولم تستخدم أي من الدول الخمس دائمة العضوية، حق النقض (الفيتو)، ضد القرارات الصادرة عن المجلس، في موقف نادر الحدوث خاصة فيما يتعلق بالملف السوري ([18]).

كما شهد اليوم الأخير من شهر آذار/ مارس اتصالات متبادلة بين زعماء الدول الفاعلة في الملف السوري بخصوص سورية، حيث جمع اتصال ثنائي الرئيسين أردوغان وبوتين للحديث حول إدلب وتنفيذ الاتفاقات الروسي-التركية المتفق عليها في قمة موسكو 5 آذار/ مارس 2020، بحسب بيان صادر عن الكرملين والرئاسة التركية، وجاء هذا الاتصال بعد يوم واحد من اتصال ثنائي جمع دونالد ترامب وأردوغان، تناولا فيه سبل التصدي لجائحة "كورونا المستجد"، وخاصة في الدول التي تشهد صراعات مثل سورية وليبيا ([19]).

بالمقابل، دعا الاتحاد الأوروبي إلى وقف إطلاق النار في كامل الأراضي السورية، بما يسهم في التصدي للجائحة، ونقلت وكالة "فرانس برس" عن متحدث باسم المفوضية الأوروبية، الأحد29 آذار/مارس، أن "وقف إطلاق النار الذي أُقر حديثاً في إدلب لا يزال هشاً، وينبغي الحفاظ عليه وأن يشمل كامل سورية، "داعياً إلى القيام بمبادرة واسعة النطاق من أجل الإفراج عن المعتقلين في سجون النظام السوري، الدعوة التي سبقها مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية، غير بيدرسون، ببيان مماثل، طالب فيه "بإطلاق سراح المعتقلين في سجون النظام السوري بشكل واسع، منعاً لتفشي الفايروس، وأكد ضرورة وصول المنظمات الإنسانية بشكل فوري إلى جميع أماكن الاحتجاز، واتخاذ خطوات عاجلة لضمان الرعاية الطبية الكافية وتدابير الحماية في جميع السجون" ([20]).

وضمن هذا السياق يمكن فهم وتفسير دعوات المبعوث الأممي إلى سورية، غير بيدرسون، حول الدفع لتفعيل المسار السياسي، المتمثل باللجنة الدستورية المُعطلة، وإعلانه أن النظام والمعارضة توصلا إلى اتفاق على جدول أعمال اللجنة والجولة المقبلة، إذ يبدو أن بيدرسون يحاول تحقيق أي إنجاز وتقدم ملموس في ملف اللجنة الدستورية، مستغلاً المناخ الحالي الذي تفرضه الجائحة وما قد يؤمنه من غطاء دولي داعم،  ولكن وبالوقت نفسه قد تعطي تلك الدعوات والاجتماعات مجالاً جديداً للنظام للمناورة وكسب الوقت، خاصة وأن أي اجتماعات محتملة للجنة لن تعقد فيزيائياً في الفترة الحالية نتيجة الإجراءات الاحترازية في مواجهة تفشي الفايروس، لذلك فمن المتوقع ألا تسفر الجولة الجديدة، في حال عقدها، عن أي نتائج جديّة، قياساً بالجولات السابقة، خاصة مع تمسك النظام بشروطه حول "الثوابت الوطنية" وسعيه المستمر للتعطيل والتمييع.

أخيراً، وضمن ما يفرضه فايروس "كورونا" من ارتباك على جميع اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين في الملف السوري، يبدو أن العمليات العسكرية ستتراجع خطوة حذرة إلى الخلف بمعاركها التقليدية، بالنسبة للاعبين الأصلاء ووكلائهم المحليين، مع احتماليات توسع الهوامش لتنظيم الدولة وبعض المجموعات المتشددة، مقابل منح المزيد من الوقت وإفساح المجال لمناورات سياسية جديدة بين الأطراف المختلفة، وتهيئة المناخ السياسي لإعادة تفعيل واستئناف المفاوضات التي من المحتمل أن تكون بثلاثة اتجاهات، الأول: والمتمثل بتفعيل المفاوضات بين النظام والمعارضة عبر الدفع في اللجنة الدستورية، والضغط على الطرفين في هذا الإطار. الثاني: والذي قد يتمثل بإعادة إحياء قنوات المفاوضات بين "قسد" والنظام، خاصة مع ارتباك وتوجس "قسد" من إعادة انتشار وتموضع محتمل لقوات التحالف في شرق الفرات، أما الثالث فقد يتجلى في محاولات النظام وحلفائه لاستثمار هذا المناخ، والسعي لفتح ثغرة في جدار العقوبات الأمريكية-الأوروبية، سواء عبر غض الطرف عن مساعدات خليجية قد تقدم للنظام، أو عدم فرملة التطبيع العربي تجاهه، بالمقابل فإن فتح وتفعيل تلك المسارات أو أحدها، لا يعني أبداً إحراز خطوات متقدمة فيها، بقدر ما يعني أنها استجابة لواقع فرضه "كورونا"، وإعادة ترتيب الأوراق والأولويات، والتي يبدو أنها ستبقى مرهونة بمدى انتشار  الفايروس وما سيرافقه من آثار وتهديدات، ومدى تأثيره في الخطط الخاصة لكل دولة واستراتيجياتها الخارجية تجاه سورية.


([1]) القيادة العامة للجيش: إنهاء الاحتفاظ والاستدعاء للضباط الاحتياطيين، الموقع الرسمي لوكالة الأنباء السورية "سانا"، 29/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/SR50k

[2])) نصر الله: المعركة مع كورونا في أولها ويجب وقف الحرب على اليمن، الموقع الإلكتروني لقناة الميادين، 28/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/muGUt

([3])  قوات النظام تخرق  هدنة إدلب مجدداً...الفصائل ترد، الموقع الإلكتروني لصحيفة عنب بلدي، 1/4/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/uqbV9

([4]) بعد اشتباكات فصائل السويداء مع الفيلق الخامس..."رجال الكرامة تصعد ضد روسيا"، موقع الدرر الشامية، 2/4/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/PJwhz

[5])) تصعيد جديد...4 عمليات اغتيال في درعا خلال 24 ساعة، أورينت نت، 26/3/2020، متوافر على الرابط التالي: https://cutt.us/CQSgk

[6]))  3 قتلى في تفجير عند مدخل اعزاز بحلب، الموقع الإلكتروني لصحيفة المدن، 19/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/fnsDG

[7]))  انفجاران يستهدفان ريف حلب في أقل من 24 ساعة، وعودة محاولات الاغتيال إلى إدلب، الموقع الإلكتروني لصحيفة عنب بلدي، 25/3/2020، متوافر على الروابط التالية: https://cutt.us/EEyzE، https://cutt.us/PY048

[8]))  قسد تتصدى لهجمات الفصائل المسلحة...تقتل اثنين وتدمر آلية عسكرية، موقع ولاتي نيوز، 30/3/2020، متوافر على الرابط:  https://cutt.us/lWyDU

([9]) للاطلاع أكثر على افتتاحية تنظيم الدولة في نشرة النبأ حول فايروس كورونا، راجع الرابط التالي: https://cutt.us/8Krtu

([10])  السخنة "أم القرى" التي يحاول تنظيم الدولة توسيع نفوذه منها، الموقع الإلكتروني لصحيفة عنب بلدي، 3/4/2020، متوافر على الرابط:  https://cutt.us/lkKtY

([11]) الحشد الشعبي يطلق عملية عسكرية بعد دخول مسلحين من سورية، صحيفة عنب بلدي، 30/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/QXisl

[12]))  ترامب يتهم قسد بإطلاق عناصر داعش لعودة التدخل الأمريكي، الموقع الإلكتروني بروكار برس، 14/10/2019، متوافر على الرابط: https://cutt.us/D4jxu

[13])) مرجع سبق ذكره، متوافر على الرابط: https://cutt.us/QXisl

[14])) وسط تهديدات بهجمات...التحالف الدولي يخلي قاعدة ثالثة في العراق، الموقع الإلكتروني لصحيفة عنب بلدي، 30/3/2020/ متوافر على الرابط: https://cutt.us/OQi1x

([15])  المرجع السابق.

 ([16]) أمريكا تعزز قواعد في العراق بـ"باتريوت"...وتنسحب من أخرى، 31/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/6lyuZ

 ([17]) غارات إسرائيلية على الشعيرات..استهدفت غرفة عمليات إيرانية، جريدة المُدن، 31/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/7r7uc

[18])) بسبب كورونا...إجماع نادر في مجلس الأمن حول الملف السوري، السورية نت، 31/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/pFj46

([19]) خلال 24 ساعة اتصالات بين زعماء أبرز 3 دول مؤثرة في سورية، السورية نت، 1/4/2020، متوافر على الرابط التالي: https://cutt.us/DpH4w

[20])) الاتحاد الأوروبي يدعو إلى هدنة في كامل سورية وإطلاق سراح المعتقلين، الموقع الإلكتروني لصحيفة عنب بلدي، 30/3/2020، متوافر على الرابط التالي: https://cutt.us/uH5NE

التصنيف أوراق بحثية
الإثنين تموز/يوليو 22
المُلخَّص التنفيذي: قسَّمت الدراسة مبناها المنهجي وسياقها المعلوماتي والتحليلي إلى فصول ثلاثة، مثّل الفصل الأول منها: مدخلاً ومراجعة لتاريخ القبائل والعشائر في الجغرافية السورية بشكل عام وفي محافظتي حلب وإدلب…
نُشرت في  الكتب 
الأربعاء آب/أغسطس 23
يأتي نشر هذا الكتاب في وقت عصيب على سورية، خاصة في أعقاب الكارثة الطبيعية التي حلت بالبلاد، إضافة إلى الزلازل السياسية التي شهدها الشعب السوري منذ بداية الثورة السورية عام…
نُشرت في  الكتب 
الخميس نيسان/أبريل 29
الملخص التنفيذي مع تراجع سُلطة الدولة المركزية لصالح صعود تشكيلات دون دولتية، منها ذات طابع قومي وديني؛ برزت نماذج مختلفة من أنماط الحكم المحلي في الجغرافية السورية، والتي تأثرت بالخارطة…
نُشرت في  الكتب 
يرى المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف، في تصريح صحفي لجريدة عنب…
الثلاثاء نيسان/أبريل 02
شارك الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية الأستاذ سامر الأحمد ضمن برنامج صباح سوريا الذي…
الأربعاء تشرين2/نوفمبر 29
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في فعاليات المنتدى الاقتصادي الخليجي…
الجمعة تشرين2/نوفمبر 24
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في رؤية تحليلية للحرب على…
الإثنين تشرين2/نوفمبر 20