أصدر بشار الأسد في 11 آب/أغسطس 2024 مرسوماً يقضي بدعوة مجلس الشعب الجديد للانعقاد لأول مرة في يوم الأربعاء (اليوم) 21/08/2024. ويبدو جليّاً أن الأسد تقصّد دعوته لمجلس الشعب في هذا التاريخ بالذات، حيث يتزامن مع ذكرى مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية التي ارتكبها الأسد ونظامه في صبيحة يوم الأربعاء الموافق لـ 21/08/2013، والتي راح ضحيتها 1429 شخصاً، منهم 426 طفلاً.
إن دعوة الأسد لانعقاد المجلس تحمل رسالة رمزية تقول: "قُمت بما قُمت به، ولن أُحاسب، بل سأتلقى التصفيق الحار على ما قمت به في نفس اليوم تحديداً منذ 11 عاماً، وعلى ما قمت به أيضاً على مدار السنوات الماضية". وهنا يؤكد الأسد إصراره على الجريمة التي ارتكبها بالإضافة إلى سلسلة الجرائم والانتهاكات الطويلة بحق الشعب السوري. كما أن مجرد وقوفه على منصة المجلس بعد كل هذه السنوات يؤكد ضعف المنظومة الدولية في جلبه للعدالة وإخضاعه للمحاسبة، حيث اكتفت تلك المنظومة بمصادرة سلاح الجريمة فقط.
بعد أقل من شهر من هجوم الغوطة الكيميائي، وافق بشار الأسد في أيلول/سبتمبر 2013 على الانضمام إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية تحت تهديد الولايات المتحدة بإسقاط نظامه بسبب هذا الهجوم. جاءت هذه الموافقة بعد مبادرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفقاً لبيان وزارة الخارجية الروسية، التي دعت إلى انضمام سورية الفوري إلى الاتفاقية، ووضع مخزونها من الأسلحة الكيميائية تحت الرقابة الدولية بهدف تصفيتها، لتجنب تدخل عسكري خارجي محتمل في الصراع السوري.
لاحقاً، أسفرت المباحثات الروسية-الأمريكية في جنيف السويسرية عن التوصل إلى اتفاق إطار بهذا الشأن، تم تعزيزه بقرار المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118، الذي نص على خطة غير مسبوقة لنقل المكونات الرئيسية للأسلحة الكيميائية السورية وتصفيتها في الخارج.
المرسوم التشريعي 61 لعام 2013: الذي يقضي بالموافقة على الانضمام إلى اتفاقية حظر استحداث وإنتاج وتخزين واستخدام الأسلحة الكيميائية وتدمير تلك الأسلحة
استمرت عملية تدمير المخزون الذي سلمه بشار الأسد لعدة أشهر وانتهت في شهر آب/أغسطس من عام 2014. ولكن نظام الأسد لم يكتفِ بإعادة بناء مخزونه من جديد، بل أعاد استخدام غاز السارين في الهجوم الكيميائي على مدينة خان شيخون بريف إدلب الجنوبي صباح 4 نيسان/أبريل 2017، الذي كان مطابقاً للمخزون الذي تم تدميره سابقاً. حيث أسفر الهجوم الجوي على المدينة عن مقتل 100 شخص وإصابة ما لا يقل عن 400 آخرين، كما كرر هجومه الكيميائي على الغوطة الشرقية في 7 نيسان/أبريل 2018 أثناء الحملة العسكرية للسيطرة على المنطقة، وهو ما يؤكد بأن الأسد قد انتهك بشكل متكرر اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية التي كان قد وافق على الانضمام إليها سابقاً.
أثبتت السنوات الماضية أن الأسد لم ولن يتوانى عن استخدام أي سلاح ضد ثورة الشعب السوري، وهو ما خبِره السوريون بشكل جدي تماماً. ولكن المفارقة أن عدداً كبيراً من الدول التي نادت بإسقاط نظامه قد تراجعت عن مطالباتها لتتحول نحو التطبيع معه، مما يشكل علامة فارقة في القضية السورية ككل.
يثير مسار التطبيع واستئناف العلاقات مع نظام الأسد تساؤلات خطيرة حول التزام الدول والمجتمع الدولي عموماً بالمبادئ الإنسانية والعدالة الدولية. ويحمل التطبيع مع هذا النظام في طياته أخطار جسيمة ليس فقط على المستوى الأخلاقي والسياسي، ولكن أيضاً على الصعيد الأمني الدولي، خصوصاً أن حادثة هجوم الكيميائي ليست حادثة منفصلة بحد ذاتها، فقد شهدت الساحة السورية استخداماً واسع النطاق للأسلحة الكيميائية من قبل النظام ضد المدنيين.
كما أن أحد أبرز المخاطر المرتبطة بالتطبيع مع نظام الأسد هو إعطاء الضوء الأخضر لاستخدام الأسلحة الكيميائية دون عقاب حول العالم. إن مجرد فكرة الإفلات من العقاب قد تشجع دولاً أو ديكتاتوريات أخرى على تبني سلوك مشابه، ليس بالضرورة أن يكون السلاح الكيميائي هو أداة الجريمة، ولكن النهج باستخدام العنف ضد المدنيين عموماً يمكن أن يمر دون عقاب إذا توافرت الظروف السياسية المناسبة. ولكن القتل يبقى قتلاً سواء أكان بالأسلحة الكيميائية أو التقليدية.
من الناحية الأمنية، يُعد التطبيع مع الأسد تهديداً للاستقرار الإقليمي على المستوى البعيد. هذا الوضع يفاقم تعقيد الصراعات الإقليمية ويزيد من فرص اندلاع نزاعات جديدة عبر توليد دائرة العنف مستقبلاً. كما أن استمرار النظام السوري في الحكم يمكن أن يؤدي إلى تعزيز وانتشار الأسلحة الكيميائية ووصولها إلى حلفائه في إيران وحزب الله.
علاوة على ذلك، يمثل التطبيع مع نظام الأسد تهديداً لجهود مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل. وبقاء النظام في السلطة دون محاسبة قد يقوض المعاهدات الدولية مثل اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، ويضعف آليات الرقابة الدولية، مما يجعل من الصعب فرض عقوبات أو إجراءات ضد الدول أو الكيانات التي تنتهك هذه المعاهدات.
أما من ناحية أخلاقية، يرسل التطبيع مع نظام الأسد رسالة خاطئة إلى الضحايا السوريين وذويهم عموماً، وإلى ضحايا الهجمات الكيميائية خصوصاً. حيث يمثل هذا التطبيع تجاهلاً لمعاناتهم وللجرائم التي ارتكبت بحقهم، مما يقلل من أهمية العدالة والمساءلة في العلاقات الدولية. إذ لا يمكن العودة إلى العمل كالمعتاد مع نظام ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
إن الاعتقاد بأن الأسد يمكن إصلاحه أو إصلاح نظامه بالحالة التي هو عليها اعتقاد خاطئ تماماً، ولا يمكن التعويل عليه. وستصطدم رغبات الدول بعنجهية النظام التي طالما تعامل بها مع الآخرين. فقد أثبتت السنوات الطويلة أن نظام الأسد يتعامل مع الدول بسياسة الصبر الاستراتيجي ليقتل أي ملف من شأنه أن يشكل تهديداً له.
بحسب المادة 64 من دستور 2012، كان يمكن لبشار الأسد أن يدعو مجلس الشعب الجديد للانعقاد في أي يوم آخر غير اليوم الذي يصادف ذكرى أليمة في الذاكرة الجمعية لملايين السوريين. ولكن إصراره على هذا اليوم برمزية يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر آب يمثل استهتاراً بمشاعرهم. وهي في ذات الوقت تحمل رسالة بأنه مستعد لتكرار ما فعله دون أي ندم أو شعور بالذنب.
كما أن هذا الإصرار يحمل في طياته دلالات متعددة على المستويات الداخلية والخارجية. داخلياً وبالنسبة للبيئة الموالية له، يعكس هذا الإصرار رسالة مفادها أن الأسد باقٍ في السلطة، وأنه غير مكترث بالانتقادات الدولية أو المعارضة الداخلية. كما أنه يظهر كـ "رئيس" غير خاضع للمساءلة، لا يشعر بأي خجل من الماضي، بل يراه جزءاً من نجاحاته في بقاء النظام في مواجهة التحديات و"المؤامرة الكونية" التي ادعى أنه يتعرض لها.
أما بالنسبة للمعارضين، فإن اختيار هذا التاريخ بالتحديد يبعث برسالة استفزازية، تؤكد أن الأسد ونظامه لا يزال متمسكاً بنهجه القمعي والوحشي، وبأنه مستعد لتكرار استخدام نفس الأساليب العنيفة إذا لزم الأمر. ويقصد من هذا الاختيار تعميق الجراح ومفاقمة حالة اليأس لدى الكثيرين الذين كانوا يأملون في تحقيق العدالة والمحاسبة على الجرائم المرتكبة بحقهم وحق ذويهم.
أما على المستوى الخارجي، فإن هذه الدعوة في ذكرى المجزرة توجه رسالة مزدوجة. للدول التي تطبع معه، يظهر الأسد كمن يفرض شروطه ويتصرف بلا مبالاة تجاه القوانين والأعراف الدولية، مما يضع هذه الدول في موقف محرج ويجعلها تبدو وكأنها تتغاضى عن هذه الجرائم الفظيعة. أما الدول التي ما زالت ترفض التطبيع معه، فيمثل هذا التصرف تحدياً مباشراً لها. إذ يظهر الأسد كمن يستهين بمطالبها ويستمر في سياساته دون اعتبار للعواقب، وحتى هذه الدول الرافضة للتطبيع معه وعلى رأسها الولايات المتحدة وبعض الدول الأوربية كانت أقصى مطالبها هو تغيير نهج النظام لا إسقاطه.
في النهاية، يمثل هذا الإصرار تحدياً للعدالة الدولية وللضمير الإنساني، ويعكس بشكل واضح أن نظام الأسد غير مستعد للتنازل أو التراجع عن سياساته القمعية. إن مرور 11 عاماً على المجزرة دون محاسبة جدية يعزز شعور الأسد بالحصانة ويجعله أكثر جرأة في تحدي المجتمع الدولي في فرض شروطه المستقبلية، خصوصاً بما يتعلق بعودة اللاجئين. مما يضع الجميع أمام مسؤولية تاريخية في مواجهة هذا التحدي والعمل على منع تكرار مثل هذه الجرائم في المستقبل.
المصدر: تلفزيون سوريا، اضغط هنا