تمهيد
منذ توقيع الجانب الروسي والتركي اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 5 مارس/آذار 2020 والذي تضمن تسيير دوريات روسية وتركية على طول امتداد طريق الـ M4، ومناطق سيطرة المعارضة في كل من إدلب وحلب تتعرض إلى الاستهداف الصاروخي والجوي من قبل النظام وروسيا؛ والذي زادت وتيرته مطلع 2021 وبلغت ذروتها في شهري أيار وحزيران وبشكل مركز على منطقة خفض التصعيد في إدلب وهي المنطقة الواقعة في محيط طريق الـ M4 ؛
يحاول التقرير تبيان الغايات السياسية والأمنية التي تهدف لها عمليات الاستهداف؛ وذلك انطلاقاً من تحليل البيانات والمعلومات المتعلقة بغارات الطيران الروسي وضربات مدفعية النظام خلال الفترة الزمنية الواقعة بين شهري أيار وحزيران 2021،[1] وذلك للوقوف على مدى صلابة أو هشاشة الاتفاق الروسي والتركي فيما يتعلق بوقف إطلاق النار وعدم استهداف المنطقة المحيطة بطريق M4. وصولاً لمحاولة استكشاف محددات حركية روسيا والنظام في هذه العمليات. قام بهذا الرصد فريق مركز عمران في إدلب، وتمت مقاطعته مع ملفات الرصد الخاصة بفريق منظمة إحسان.
بدأ التصعيد العسكري من قبل القوات الروسية وقوات النظام بالازدياد منذ مطلع شهر أيار 2021، واستمر باستهداف العديد من المناطق بشكل عشوائي، فيما يلي تفصيل لتلك الضربات خلال شهر أيار (تفصيل الضربات الكامل في الملحق – جدول رقم (1))
يوضح كل من الشكلين (1) و (2) عدد الضربات الكلية في شهر أيار مع الإشارة إلى الجهة التي كانت أكثر تنفيذاً للضربات، حيث كان سلاح المدفعية الخاص بالنظام الأكثر استخداماً، تليه غارات الطيران الروسي، ومن ثم ضربات مضاد الدروع، هذا وتعتبر ضربات مضاد الدروع أداة للقوى الموالية لإيران (الفرقة الرابعة والدفاع المحلي)؛ وباستعراض نتائج القصف يتضح البعد العشوائي فيها إلا أنها تأتي ضمن سياسة خلق الفوضى والاضطراب كمرحلة سابقة سواء لتحصيل تنازلات من الفواعل الأخرين أو كتمهيد محتمل لأي عمل بري ، وبالتالي يمكن تصنيف تلك الضربات بأنها ضربات استراتيجية خاصة أنها فعلٌ كرره الروس والنظام خلال حملات التصعيد السابقة.
توضح الأشكال (3)، (4)، و(5) الجهات والجبهات التي كانت الأكثر استهدافاً من قبل النظام وحلفائه، وكان واضحاً أن الجانب المدني كان الأكثر استهدافاً، وهو الأمر الذي أدى إلى استشهاد 17 مدنياً بينهم طفلان وامرأتان.
يوضح الشكلان (6) و(7) حجم الضربات التي استهدفت مواقع تقع ضمن منطقة خفض التصعيد الرابعة؛ إذ دللت البيانات على أنها الأكثر استهدافاً، كما يوضحا مقارنة هذه النقط مع المناطق الأخرى، بالإضافة إلى استهداف مواضع تتمركز بقربها قوات الجيش التركي كنوع من الضغط عليها.
استمر سلاح الجو الروسي ومدفعيات النظام باستهداف مناطق سيطرة قوات المعارضة في إدلب ومحيطها خلال شهر حزيران، كما تم ملاحظة زيادة حدة الاستهدافات وتركيزها على منطقة الاتفاق التركي-الروسي بالقرب من طريق الـ M 4، وللاطلاع على تفاصيل الضربات خلال شهر حزيران 2021 انظر الملحق جدول رقم (2).
يوضح الشكلان رقم (8) و(9) عدد الضربات الكلية في شهر حزيران مع الإشارة إلى الجهة التي كانت أكثر تنفيذاً للضربات، حيث بقي سلاح المدفعية الخاص بالنظام الأكثر استخداماً، تليه غارات الطيران الروسي، ولوحظ ارتفاع عدد ضربات النظام وغارات الطيران الروسي، ويوضح الشكل (9) ازدياد عدد الغارات الروسية، كما يوضح تكثيف ضربات المدفعية من قبل الفرقة الرابعة مع غياب كامل لضربات قوات الدفاع المحلي.
ولا يمكن فك غاية هذه العمليات عن الأهداف السياسية للرووسيا والنظام والتي تتمثل بالضغط على الفاعلين الدوليين بشكل عام والجانب التركي بشكل خاص وذلك لتحسين شروط التفاوض التي سترافق مع جلسات مجلس الأمن الدولي فيما يتعلق بمحاولات تمديد القرار الدولي رقم 2533.
توضح الأشكال (10)، (11)، و(12) الجهات والجبهات التي كانت الأكثر استهدافاً من قبل النظام وحلفائه، ويتشابه شهر حزيران مع شهر أيار بكون الجانب المدني هو الأكثر استهدافاً، الأمر الذي أدى إلى استشهاد 42 مدنياً بينهم امرأتان و 4 أطفال. وبالتالي تتزايد المؤشرات باحتمال ظهور موجات نزوح محتملة وهو ما تريد أن تضغط به أيضاً موسكو على الفواعل الآخرين.
يوضح الشكلان (13) و(14) حجم الضربات التي استهدفت مواقع تقع ضمن منطقة خفض التصعيد ومقارنتها باستهداف المناطق الأخرى، ومن الواضح أن الجانب الروسي وقوات النظام عمدوا إلى التركيز على مواقع ضمن منطقة خفض التصعيد بشكل أكثر من غيرها، بالإضافة إلى استهداف مواضع تتمركز بقربها قوات الجيش التركي كنوع من الضغط عليها. وتميز شهر حزيران عن أيار بأن 96% من الاستهدافات كانت ضمن حدود منطقة خفض التصعيد؛ ويتم ذلك بالتزامن مع التلميحات الروسية حول اقتراب العمل العسكري من جبل الزاوية؛ وذلك كنوع من الضغط من جهة ولتحقيق انفراجات اقتصادية متخيلة تحسن من ظروف النظام الاقتصادية من جهة أخرى.
بمقارنة الشكلين (1) و (8) نلاحظ ارتفاع عدد الضربات الكلي لشهر حزيران بنسبة 25% عن شهر أيار، كما شهد شهر حزيران ارتفاع نسبة مشاركة الطيران الروسي عن شهر أيار، وانخفاضاً في ضربات مضاد الدروع والتي تقوم بتنفيذها تشكيلات موالية لإيران "الفرقة الرابعة والدفاع المحلي"، أما ضربات المدفعية فكانت الأكثر في كل من شهري أيار وحزيران، هذا وشهد شهر حزيران ارتفاعاً في عدد ضربات المدفعية عن شهر أيار بنسبة 30%.
فيما يوضح كل من الشكلين (2) و(9) الجهات التي نفذت الضربات ويلاحظ ارتفاع الضربات الروسية بين الشهرين بنسبة 50%، فيما تستمر التشكيلات الموالية لإيران بلعب الدور التخريبي المعتاد على محور سهل الغاب وريف حلب الغربي بحكم تواجد قوات الدفاع المحلي في المحاور الغربية من حلب وقوات الفرقة الرابعة بقاعدة جورين في سهل الغاب، وتبقى النسبة الأكبر للجهة المُتسهدِفة من نصيب مدفعية النظام والتي تتمركز على طول امتداد خطوط التماس في جنوب إدلب.
توضح الأشكال (3)، (5)، (10)، و(12) الجهات التي تعرضت للاستهداف حيث كانت الأهداف المدنية في كلا الشهرين هي الأكثر استهدافاً، ويعمل كل من النظام وروسيا على التكثيف من استهداف المواقع المدنية رغبة في تفريغ المنطقة من المدنيين، بالإضافة إلى تأجيج الوضع في مناطق المعارضة ودفع المدنيين إلى لوم الجانب التركي وقوات المعارضة على الاستهداف المتكرر لمساكنهم ومزارعهم، هذا وشهد شهر أيار استهدافاً كبيراً للمناطق الزراعية، وجاء هذا بالتزامن مع وقت جني محاصيل البصل والبطاطا مما أدى إلى وقوع حرائق كثيرة وخسائر كبيرة. كما توضح هذه الأشكال غياب الرغبة الحقيقية من الجانب الروسي والنظام في استهداف أي تشكيل عسكري في مناطق سيطرة المعارضة، مما يتعارض مع التبريرات الروسية باستهداف إدلب وأنها تقوم باستهداف مواقع "التشكيلات المتطرفة" متمثلة بهيئة تحرير الشام، حراس الدين، أنصار التوحيد، وغيرها.
توضح الأشكال (5) و (12) ارتفاع عدد ضحايا ضربات روسيا والنظام من المدنيين بنسبة وصلت إلى 60%، هذا وشهد الشهران سوياً استشهاد: 59 مدنياً، بينهم 48 ذكراً، 4 نساء، و6 أطفال، مما يؤكد أن استهداف المواقع المدنية هو أمر مدروس من الجانب الروسي ومن قبل النظام، للأسباب التي تم ذكرها في الفقرة السابقة.
توضح الأشكال (6)، (7)، (13)، و(14) الطريقة التي تتبعها روسيا في إيصال رسائل غير مباشرة للجانب التركي، وعملت روسيا بين شهري أيار وحزيران على إيصال رسالة واضحة لأنقرة، توضح قدرتها على التصعيد وحثها على تقديم تنازلات أكبر في ملفات مختلفة، الأمر الذي كان واضحاً في ارتفاع عدد الضربات في شهر حزيران والتي استهدفت مواقع متفرقة في جبل الزاوية والتي تتسم أغلبها بكثافة التواجد العسكري التركي، فيما شهد شهر حزيران استهدافاً مباشراً لآلية تركية من قبل قوات النظام في جبل الزاوية، واستهداف 6 مواقع بالقرب من النقاط التركية في جبل الزاوية أيضاً. إذاً يمكن تشبيه هذه الضربات بصندوق البريد الذي تستخدمه روسيا بغرض إيصال الرسائل إلى الجانب التركي. (انظر الخريطة رقم 1)
من جهة أخرى تطمح موسكو من خلال ازدياد حدة الاستهداف إلى الضغط على الفواعل الدوليين بشكل عام والتركي بشكل خاص قبل أي استحقاق دولي سواء المتعلق بمرور المساعدات الانسانية، أوجولة جديدة في استانة أو جنيف، حيث بدأ التصعيد الروسي قبل اجتماع الرئيس فلادمير بوتين مع الرئيس الأمريكي جو بايدين، كما شهدت الفترة التي تلت الاجتماع ازدياداً في حدة الضربات الروسية وضربات النظام مع التركيز على استهداف المواقع القريبة من التمركز التركي وخاصة في جبل الزاوية.
على الرغم من كل الحثيثات السابقة وارتفاع حدة الاستهداف إلا أنه تبقى العملية العسكرية البرية من قبل روسيا والنظام أمراً صعباً لعدة أسباب، أبزرها:
لذا بات من الواضح أن تصعيد روسيا والنظام هو فعلا جزء من سياسة روسية في الضغط على المجتمع الدولي بمن فيهم تركيا، وهذه المرة عمدت روسيا إلى التصعيد قبل اجتماع مجلس الأمن بخصوص تمديد إدخال المساعدات من معابر الشمال والتي تهدد روسيا مؤخراً باستخدام حق الفيتو الخاص بها ضد القرار، ومن المرجح أن تطرح روسيا موضوع المقايضة المتمثل في نقطتي: تخفيف الاستهداف العسكري وموضوع معابر الشمال من جهة، وإعادة نظر أمريكا بعقوبات قيصر ضد النظام السوري من جهة أخرى.
الملاحق؛
([1]) تم جمع البيانات من قبل فريق الرصد في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية بناء على تصميم نموذج رصد مبين في الجداول، كما تمت مقاطعتها مع ملفات الرصد الخاصة بفريق منظمة إحسان.
شكلت معرفة طبيعة التوجه الروسي الجديد -الرامي لإعادة تعريف ملفات المنطقة وفقًا لمخيال موسكو التي قررت العودة النوعية للمنطقة بعد انكفائها إبان فرط العقد السوفياتي – محددًا رئيسيًا لمعظم الفاعلين في المنطقة ابتداءً من دول الخليج لا سيما السعودية التي تختبر قدرتها في تحمل التمدد الإيراني المطوق لها والذي انتعش بعد التمكين الأوبامي له.
إن المتغير العميق والذي كاد أن يكون ثابتًا رئيسيًا في الملف السوري هو أن التدخل الروسي المباشر في سوريا أواخر 2015 قد حجم إلى حد بعيد الطموحات الناشئة لدى قوى الإقليم، وفرض عليها أن تنسج سياساتها النابعة من ضرورة كبح لجام التهديد الأمني المباشر وفق المنوال البوتيني. إن المتغير العميق والذي كاد أن يكون ثابتًا رئيسيًا في الملف السوري هو أن التدخل الروسي المباشر في سوريا أواخر 2015 قد حجم إلى حد بعيد الطموحات الناشئة لدى قوى الإقليم، وفرض عليها أن تنسج سياساتها النابعة من ضرورة كبح لجام التهديد الأمني المباشر وفق المنوال البوتيني، إذ شكلت معرفة طبيعة التوجه الروسي الجديد - الرامي لإعادة تعريف ملفات المنطقة وفقًا لمخيال موسكو التي قررت العودة النوعية للمنطقة بعد انكفائها إبان فرط العقد السوفياتي – محددًا رئيسيًا لمعظم الفاعلين في المنطقة ابتداءً من دول الخليج لا سيما السعودية التي تختبر قدرتها في تحمل التمدد الإيراني المطوق لها والذي انتعش بعد التمكين الأوبامي له.
الأمر الذي جعل من مبدأ تغير التموضع وإعادة التركيز هي السياسة الأكثر استراتيجية للملكة وبناء قاعدة مشتركات مع الروس يتيح لحركتهم وفاعليتهم الإقليمية التوازن والفعالية المتخيلة، ومرورًا بإيران التي استنجدت بموسكو لإنقاذ نظام الأسد المتداعي تحت ضربات المعارضة لا سيما في إدلب والغوطة والساحل السوري، والتي وجدت نفسها مجبرة على أن تتماهى مع منطق الروس الذي يتعدى تفاصيل المشهد السوري لصالح توازنات النظام العالمي، وأن تحاول استغلال الهوامش دون التعرض للخطوط العامة.
ولزامًا وصل هذا المحدد لأنقرة التي اضطرت لتغيير تكتيكاتها مرارًا وتكرارًا تخوفًا من تداعيات "التورط والاستدراج الدولي" تارةً وبحكم تفاعلات بنيتها المحلية التي كبلت حركة سياساتها الخارجية وعززت من احتمالات الترابط العضوي بين المهدد الأمني المحلي مع الإقليمي تارة ثانية، واتساقًا مع متطلبات الخروج من "فخ المتربصين" الذي وصل حد الانقلاب الذي فشل تارة ثالثة، لتجد الحكومة التركية نفسها أمام مراجعات لا تقبل التأجيل فصاغت سياسة "تقليل الأعداء وكسب المزيد من الأصدقاء" التي تعد تصحيحًا موضوعيًا لسياسة تصفير مشاكل وهذا عزز من الاتجاهات الداعمة لتعزيز العلاقة مع روسيا "السيد الدولي الجديد في المنطقة".
"اتفاق وقف إطلاق النار الشامل الذي ستحاول موسكو إنجاحه ليتسنى لها البناء على هذا الوقف لإخراج "الحل السياسي" والانتقال كليًا إلى مستويات جديدة تعيد تعريف أطراف الصراع من نظام ومعارضة إلى حكم توافقي"
يشكل التفنيد العام أعلاه مدخلاً ضروريًا لفهم مخرجات المشهد السوري الراهن على المستوى السياسي والعسكري الذي تأثرت بشكل مباشر بتلاقي الأطراف المتدخلة بشكل مباشر في سوريا ( الروس – الإيرانيين – الأتراك)، وعدم اعتراض الدول المنخرطة بالصراع كالسعودية وقطر والأردن وطبعاً وقبل كل أولئك الولايات المتحدة الامريكية، ومن أهم مخرجات هذا المشهد هو إخراج كافة الجيوب الاستراتيجية للمعارضة من معادلات التأثير العسكري، وإلحاق الهزيمة المرة بها في حلب، و"إعلان موسكو" الذي يؤسس لمسار عملية سياسية تعجل من سكة الحل المتسق مع الفهم الروسي ويتقاطع بمدلولاته الأمنية مع هواجس تركيا وإيران.
"اضطرت تركيا لتغيير تكتيكاتها مرارًا وتكرارًا في الملف السوري تخوفًا من تداعيات "التورط والاستدراج الدولي" تارةً وبحكم تفاعلات بنيتها المحلية التي كبلت حركة سياساتها الخارجية وعززت من احتمالات الترابط العضوي بين المهدد الأمني المحلي مع الإقليمي تارة ثانية"
وأخيرًا وليس آخرًا اتفاق وقف إطلاق النار الشامل الذي ستحاول موسكو إنجاحه ليتسنى لها البناء على هذا الوقف لإخراج "الحل السياسي" والانتقال كليًا إلى مستويات جديدة تعيد تعريف أطراف الصراع من نظام ومعارضة إلى حكم توافقي يحارب أطرافه الإرهاب الذي سيكون لصيقًا بكل من يرفض هذا الحكم ولا يدعمه.
تدلل عمليات الهندسة السياسية أعلاه على توافر القدرة على تطبيقها ومضيها قدمًا للأمام، ويعود ذلك لامتلاك الأطراف المتبنية للإعلان (موسكو – طهران – أنقرة) القدرة الحقيقة على تنفيذ ودعم خارطة الطريق وامتلاكها لقنوات ضغط رئيسية على حلفائها المحليين، إضافة لتوافق هذه الهندسة مع ما كرسته سياسة أوباما من محددات وغايات، واتساقها – وفق التوقعات -مع تطلعات الرئيس القادم ترامب، ولكن الأسئلة التي تستوجب بحثًا معمقًا في إجاباتها كونها تؤثر على حركية هذه الهندسة كطبيعة الأدوار المنوطة بموسكو وأنقرة في هذه التفاهمات ومدى التوافق البيني لكافة الملفات المستعصية ومدى قدرتهما على التحكم الكلي في عناصر المشهد السوري، ناهيك عن التساؤل المركزي المتعلق بدور الفاعل الأمريكي بكل هذه التفاهمات.
أدركت أنقرة بعد محاولة الانقلاب الفاشل حاجتها المستعجلة لمقاربة سياسية أمنية مرنة تحجم بها المهددات الأمنية السائلة داخليًا وخارجيًا، فاعتمدت على أدوات صلبة في تدعيم تموضعها القوي في التفاعلات المحلية وقامت بتجفيف شبه كلي لكافة "البؤر التي تستهدف جسد الدولة" كجماعة فتح غولن التي تتهمها أنقرة بالوقوف وراء تلك المحاولة، كما زادت من وتيرة المواجهة العسكرية مع تنظيم البي كاكا.
ولأن الظرف الإقليمي مساعد لتنامي هذه المهددات اتجهت تركيا نحو سياسة أكثر حزمًا في سوريا، لا سيما فيما يتعلق بتمدد تنظيمي داعش والـpyd على حدودها الشمالية، وهذا لم يكن بطبيعة الحال دون التنسيق مع الروس المتحكمين بمعادلات العسكرة لا سيما في الشمال السوري خاصة بعدما كسر الجليد المتراكم بين أنقرة وموسكو، إبان حادثة إسقاط الطائرة الروسية، عبر مرونة القيادة التركية وتعزيز المصالح الاقتصادية المشتركة كمدخل تعززت فرضياته بعد وضوح التراخي المشترك في قضية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
"أدركت أنقرة بعد محاولة الانقلاب الفاشل حاجتها المستعجلة لمقاربة سياسية أمنية مرنة تحجم بها المهددات الأمنية السائلة داخليًا وخارجيًا"
إذًا عززت "الواقعية والبراغماتية" ضرورة التنسيق والاشتراك مع الروس في الملف السوري عبر بوابة مكافحة الإرهاب وتذليل الخواطر الأمنية وضبط الحدود الأمر الذي توافق أنقرة وموسكو حول مشروع درع الفرات (المكون من حلفاء محليين يتم دعمهم لوجستيًا وعسكريًا من قبل تركيا) والمضي باتجاه محاربة داعش وطرد الـ pyd من منطقة غرب الفرات وفرض منطقة عازلة بحكم التفاهم الأمني الروسي التركي، وبعد هذا الاختبار البيني الأولي أتت سياق معركة حلب التي أرادت موسكو إخراج المدينة من معادلات الصراع واستطاعت تركيا في إنجاح مفاوضات الاجلاء وإنهاء مآساة المدنيين، لتزداد مساحة الثقة البينية وزيادة مستوى التقارب السياسي، ليأتي مؤخرًا "إعلان موسكو" الذي رسم خطوط تنفيذية عامة للحل السياسي، ثم اتفاق وقف النار الأخير ليدلل على حجم المشتركات التي سار العمل على تعزيزها وفق سياسة خطوة بعد خطوة (step by step ).
لا يخرج اتفاق وقف إطلاق النار هذا عن كونه بالدرجة الأولى استمرارًا للجدولة الزمنية المتخيلة لمسار العملية السياسية كما يهندسها الروس، الذين يجهدون لإنجاز شوطًا كبيرًا في هذه الجدولة قبل استلام القيادة الأمريكية الجديدة وبلورة سياساتها الإقليمية ليس تحسبًا من تغييرات مفاجئة قد تحدثها هذه الإدارة فذاك احتماله قليل وفقًا للمؤشرات المترشحة حول توجهات ترامب وفلسفة فريقه السياسي والعسكري، والتي تثمن الدور الروسي في سوريا، وإنما لوضع أحجار أساس روسية في عملية بناء سورية القادمة والتحكم بميزاتها الجيوستراتيجية والقدرة على تعطيل أية ممرات طاقة محتملة من جهة ولتعزيز وريادتها الإقليمية عبر البوابة السورية من جهة، ولإكمال عقد التحالفات الإقليمية القائمة على تعزيز مبادئ الدكتاتورية وتقويض الثورات وتمكين مضاداتها من جهة ثانية، ولحرمان هذه القيادة من أي فاعلية محتملة إن طرأت متغيرات غير محسوبة في توجهاتها بحكم تعقيد وتشابك ملفات المنطقة السائلة التي تشكل ارتداداتها على اضطرابات مؤثرة على طبيعة النظام السياسي الإقليمي والدولي.
أما أنقرة فتهدف من خلال سعيها لتكون ضامنة لتنفيذ هذا الاتفاق إلى تعزيز شروطها الأمنية عبر الإجهاز التام لفكرة توصيل الكانتونات الكردية الثلاثة خاصة بعدما أنجزت عملية درع الفرات أهدافًا استراتيجية في شمال حلب غربي النهر، وتمنحها أولوية محاربة داعش في الرقة وبالتالي حرمان قوات سوريا الديمقراطية التي يشكل الـ pydعصبها الرئيس من أي مكسب سياسي يمكن الإدارة الذاتية لشمال سوريا.
"لا يخرج اتفاق وقف إطلاق النار هذا عن كونه بالدرجة الأولى استمرارًا للجدولة الزمنية المتخيلة لمسار العملية السياسية كما يهندسها الروس"
كما يعد هذا الاتفاق خطوة مهمة للتحويل العلاقة مع الروس لعلاقة استراتيجية وضرورية لإنجاز تفاهمات الحل السياسي وما بعده، تشكل موازنًا استراتيجيًا لعلاقة أنقرة مع الولايات المتحدة الأمريكية التي جهدت طيلة فترة حكم أوباما لإدارة ملفات المنطقة بمقاربات توظيفية وبتكاليف زهيدة مغيبة مبدأ معالجة الأسباب لصالح نتائجها طالما أنها لا تتعارض مع مصالحها، ولتصحيح الخلل الحاصل في المعادلة الأمنية عبر دعمها للـ pyd التي تعتبره أنقرة امتدادًا عضويًا لتنظيم pkk المصنف إرهابيًا من قِبلها.
رغم امتلاك هذا الاتفاق -المبني على مساحات التوافق بين روسيا وتركيا - هوامش واسعة للنجاح إلا أنه يمتلك أسباب هشاشته أيضًا، خاصة عند إدراكنا أن طهران التي لا تعارض سياسيًا ودبلوماسيًا هذا الاتفاق إلا أنه لا يمكنها بنهاية المطاف التأقلم مع فكرة الحل السياسي وستبقى مغلبة فكرة الحسم العسكري والتغيير الديمغرافي والتفرد في التحكم بملفات النظام وحركية بنيته لأن سوريا المركز الاستراتيجي لمشروعها السياسي في المنطقة، ولا يمكن لها تحمل خسارته المتأتية من مبدأ المشاركة وما سيلحقه من مطالبات بإخراج أذرعها وتقويض فعالية حزب الله في سوريا التي ستنعكس حكمًا على تموضعه في لبنان.
كما يعد هذا الاتفاق اختبارًا حقيقيًا للضمانة الروسية فيما يتعلق بإجبار النظام وإيران على احترام وقف إطلاق النار، وهو أمر مشكوك به إذا ما أدركنا أن أي تسليم أو تغيير سياسي مهما كان شكليًا سيكون بمثابة شلل شامل لهيكلية هذا النظام ودعاماته من جهة ولأن فكرة الاستقرار والسلام من شانها إيقاف منسوب الشرعية التي بات يتحصل عليها مؤخرًا، وسيعزز من تحويل صراعاته البنيوية من كامنة لظاهرة وسيفقده أيضًا أي فرصة لإعادة امتلاكه القرار الأمني والعسكري في ظل الفوضى العارمة التي تعتري جسده.
"إيران لا يمكنها بنهاية المطاف التأقلم مع فكرة الحل السياسي وستبقى مغلبة فكرة الحسم العسكري والتغيير الديمغرافي والتفرد في التحكم بملفات النظام وحركية بنيته"
مما لا شك فيه أن العلاقة التركية والروسية قطعت أشواطًا مهمة في تعزيز عامل الثقة من خلال البوابة السورية وبعض الاتفاقيات الاقتصادية الاستراتيجية، إلا أنها لاتزال قيد الاختبار، وتسير وفق المبادئ البراغماتية وسياسات الحذر، وترتبط بديمومة وقف إطلاق النار، وعدم المشاغبة الإيرانية وبقاء الأمريكي في مقعد المتفرجين.