مدخل
شهدت سورية منذ سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 توقيع سلسلة من الاتفاقيات مع شركات دولية كبرى لإدارة الموانئ والمعابر البرية والمناطق الحرة، بهدف تطوير وتحديث البنية التحتية، وتعزيز كفاءتها التشغيلية، وزيادة قدرتها التنافسية. وتأتي هذه الاتفاقيات في إطار توجه الحكومة السورية نحو تنشيط الاقتصاد وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز دور سورية كمركز إقليمي للتجارة والخدمات اللوجستية.
وتمثل المنافذ البرية والبحرية شريان الحياة الاقتصادية لأي دولة، وتزداد أهميتها في حالة سورية التي تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي يربط بين قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا. فالمنافذ البحرية السورية على البحر المتوسط، ممثلة بميناءي اللاذقية وطرطوس، تشكل بوابة حيوية للتجارة الدولية، بينما تمثل المنافذ البرية والمناطق الحرة نقاط ارتكاز للتبادل التجاري مع دول الجوار وممرات للترانزيت الإقليمي.
تسعى هذه الورقة إلى تسليط الضوء على أبرز الاتفاقيات التي تم توقيعها من قبل الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية مع شركات غير سورية، وتحليل أبعادها الاقتصادية، وتقييم آثارها المحتملة على الاقتصاد السوري والمشهد الجيوسياسي في المنطقة.
ثلاث اتفاقيات أجنبية لإدارة الموانئ والمعابر
وقعت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية منذ بداية شهر أيار/مايو 2025 ثلاث اتفاقيات مع شركات غير سورية، كما هو موضح في الجدول التالي:
تساهم هذه الاتفاقيات في تعزيز مؤشرات الانفتاح على القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي، لا سيما في قطاعات استراتيجية ظلت تقليدياً مغلقة أو هامشية، وخاضعة لسيطرة الدولة أو محتكرة من قبل روسيا وإيران منذ عام 2011. ويمكن تلخيص أبرز ملامح هذه المؤشرات في النقاط التالية:
- التحول في نموذج إدارة الأصول السيادية: تبنت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية نموذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP)، حيث تحتفظ الدولة بملكية الأصول ودور الإشراف والرقابة، بينما تتولى الشركات الأجنبية مهام الإدارة والتشغيل والاستثمار. وتعتمد الاتفاقيات على آليات السوق في تحديد العوائد وتقاسم الأرباح، مثل ربط حصة الدولة بحجم المناولة وعدد الحاويات، مما يشجع على رفع كفاءة الأداء والإنتاجية.
- تركيز الاستثمارات على القطاعات ذات القيمة المضافة العالية: تركز الاتفاقيات على تطوير قطاعات الخدمات اللوجستية والصناعات التحويلية في المناطق الحرة، ما يعزز تنويع مصادر الدخل الوطني ويخفف من الاعتماد على الأنشطة التقليدية ذات القيمة المضافة المنخفضة.
- تنوع الشركاء لتحقيق التوازن الجيوسياسي والاقتصادي: توزعت الشراكات بين شركات من الشرق الصين عبر Fidi Contracting، ومن الغرب فرنسا عبر CMA CGM، إضافة إلى الإمارات من خلال شركة موانئ دبي. ما يعكس سياسة متوازنة تسعى للاستفادة من الفرص الاستثمارية المتاحة دون الارتهان لمحور جيوسياسي واحد. تعكس عودة شركة CMA CGM الفرنسية، التي سبق أن نشطت في السوق السورية قبل العام 2011، مؤشراً على وجود رغبة لدى بعض الشركات الغربية في استكشاف فرص العودة التدريجية إلى سورية، في ضوء التحولات الجارية في البيئة الاستثمارية. وتمثل مشاركة الصين جزءاً من استراتيجيتها الكبرى لتعزيز حضورها في البنية التحتية الإقليمية، مستفيدة من الموقع الاستراتيجي لسورية كبوابة بين آسيا وأوروبا. في المقابل، يبرز الدور الإماراتي كفاعل إقليمي طامح للعب دور محوري في إعادة إعمار سورية وترسيخ نفوذ اقتصادي طويل الأمد في المنطقة.
الآثار الاقتصادية والمخاطر المحتملة
من المتوقع أن تُسهم هذه الاتفاقيات في تعزيز النشاط الاقتصادي وخلق آلاف الوظائف وخفض تكاليف النقل والتجارة، في حين ثمّة مخاطر محتملة تتعلق بشفافية العقود وتقييم الموارد التي يتم التعاقد معها. ومن بين تلك الآثار على الاقتصاد الوطني، ما يلي:
- جذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز السيولة الوطنية: في ظل الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعاني منها سورية، تمثّل هذه الاتفاقيات نافذة لجذب استثمارات أجنبية مباشرة تقدّر بمئات ملايين الدولارات، ممّا يوفر سيولة مالية ضرورية لدعم عجلة الاقتصاد الوطني وتمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية.
- تحديث البنية التحتية وتعزيز الكفاءة التشغيلية: تعاني البنية التحتية للموانئ والمناطق الحرة السورية من تقادم وضعف في الكفاءة، وتسهم هذه الاتفاقيات في إدخال معايير تشغيلية دولية حديثة، مما يؤدي إلى تحسين الأداء العام وتقليل زمن انتظار البضائع، ويعزز من تنافسية سورية كمركز لوجستي إقليمي.
- دعم التشغيل المحلي ونقل التكنولوجيا وبناء القدرات الوطنية: توفر هذه الاتفاقيات فرصاً لتوظيف العمالة السورية بشكل مباشر في المشاريع الجديدة، كما تفتح المجال لنقل التكنولوجيا والمعرفة عبر برامج تدريب وتأهيل الكوادر الوطنية على أحدث الأنظمة التشغيلية والإدارية، ممّا يرفع من مستوى المهارات والخبرات المحلية في إدارة وتشغيل الموانئ والخدمات اللوجستية.
- تعزيز العائدات المالية للدولة: تعتمد العقود على آليات توزيع أرباح ترتبط بمستوى الأداء، مثل حجم المناولة وعدد الحاويات، مما يتيح للدولة تحقيق عوائد مالية متزايدة على مدار فترة الامتياز. ففي اتفاقية CMA CGM على سبيل المثال، تصل حصة الدولة إلى 70% من العائدات التشغيلية.
- كسر العزلة السياسية والاقتصادية وتنويع الشراكات الدولية: من خلال توقيع الاتفاقيات مع شركات من فرنسا والصين والإمارات، تسعى هيئة المنافذ البرية والبحرية إلى الانفتاح المدروس على أسواق متعددة إقليمياً ودولياً، مما يساعد على كسر العزلة السياسية وتوسيع العلاقات الاقتصادية دون الارتهان لمحور دولي واحد.
- إعادة تموضع سورية كمركز إقليمي للتجارة والترانزيت: تتيح هذه المشاريع تعزيز الدور التاريخي لسورية كممر تجاري بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، مستفيدة من موقعها الجغرافي المحوري ضمن شبكات التجارة الإقليمية والعالمية.
- تحسين جودة الخدمات وتقليل كلفة النقل والاستيراد والتصدير: من المتوقع أن يؤدي تحسين البنية التحتية وزيادة كفاءة العمليات إلى خفض تكاليف الشحن والتفريغ وتقليص زمن الإجراءات البيروقراطية، مما ينعكس إيجاباً على أسعار السلع المستوردة وزيادة تنافسية الصادرات السورية في الأسواق الخارجية.
أما فيما يرتبط بالمخاطر، فعلى الرغم من التأكيدات الرسمية بأن اختيار الشركات تم وفق معايير الكفاءة الفنية والمالية، إلا أن تفاصيل العقود وآليات التعاقد والمناقصات لم تنشر بشكل كامل للرأي العام. كما أن آليات الرقابة اللاحقة على أداء الشركات وطرق محاسبتها في حال الإخلال بالالتزامات التعاقدية ما تزال غير واضحة المعالم، ما يفتح المجال لمخاطر تتعلق بضعف الشفافية والرقابة المؤسسية، خاصة في ظل غياب إطار تشريعي متكامل ينظم هذه الشراكات الكبرى. والتحدي الآخر هو ضعف أدوات التقييم، رغم أهمية جذب الاستثمارات في المرحلة الحالية، إلا أن ضعف أدوات التقييم وغياب المنافسة العلنية على بعض العقود قد يؤدي إلى إبرام اتفاقيات تُمنح فيها حقوق تشغيل أصول سيادية استراتيجية بمقابل مالي أدنى من قيمتها السوقية الحقيقية، مما يقيّد قدرة الدولة على تعظيم العوائد المستقبلية من هذه الأصول، ويفتح لاحقاً احتمالات الخوض في نزاعات مراجعة أو تعديل العقود مع الشركاء الدوليين.
خاتمة وتوصيات
تمثل الاتفاقيات التي وقعتها الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية مع شركات أجنبية خطوة مهمة نحو تطوير البنية التحتية للموانئ والمنافذ السورية وتعزيز دورها الاقتصادي. ومع ذلك، فإن نجاح هذه الاتفاقيات في تحقيق أهدافها يتطلب توفر عدة عوامل، يمكن تلخيصها كما يلي:
- تعزيز الشفافية والرقابة: إلتزام كافة المؤسسات الحكومية بنشر تفاصيل العقود والاتفاقيات الاقتصادية الكبرى بشكل دوري وعلني أمام الرأي العام، بما يشمل البنود المالية والتزامات الأطراف وآليات التنفيذ، مع تفعيل الدور الرقابي للمجلس التشريعي بشكل حقيقي ومستقل لمراجعة هذه الاتفاقيات قبل إقرارها ومتابعة تنفيذها بعد دخولها حيز النفاذ. كما ينبغي فتح المجال أمام الرقابة المجتمعية ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام للقيام بدور رصدي وتحليلي يسهم في كشف أية ممارسات تضر بالمصلحة الوطنية أو تهدد المال العام، مع تطوير تشريعات حماية المبلغين وتعزيز استقلالية هيئات مكافحة الفساد لضمان بيئة رقابة نزيهة وفعالة.
- ضمان نقل التكنولوجيا والخبرات: التأكيد على تضمين كافة الاتفاقيات مع الشركات الأجنبية بنوداً ملزمة تنص على نقل التكنولوجيا والمعرفة إلى الكوادر الوطنية، من خلال برامج تدريب وتأهيل مستمرة تغطي جميع المستويات الإدارية والفنية والتشغيلية في إدارة وتشغيل الموانئ والمنافذ وسلاسل الخدمات اللوجستية المرتبطة بها. مع تشجيع إقامة شراكات تعليمية مع الجامعات والمعاهد السورية، وتطوير مراكز تدريب تخصصية مشتركة تضمن بناء كوادر وطنية قادرة على إدارة وتشغيل المنشآت بكفاءة عالية على المدى الطويل، بما يحمي الاستقلال التشغيلي للدولة مستقبلاً ويمنع استمرار التبعية الفنية للخارج.
- تحقيق التوازن بين المصالح الاقتصادية والسيادة الوطنية: يتم ذلك من خلال تطوير إطار تدريجي يسمح بجذب الاستثمارات الأجنبية وتأمين حقوق المستثمرين عبر آليات تحكيم شفافة، مع صون القرار السيادي للدولة. ويتضمن هذا الإطار إنشاء هيئة تحكيم وطنية مستقلة تختص بالمنازعات الاستثمارية وتضم خبرات وطنية مؤهلة، إلى جانب إبرام اتفاقيات تحكيم دولية محصورة النطاق وفق المعايير الدولية المعتمدة. وفي الوقت ذاته، يجري العمل على تطوير منظومة القضاء الاقتصادي المحلي على المدى المتوسط، بهدف بناء مرجعية وطنية موثوقة في الفصل بالنزاعات الاقتصادية.
- تكامل الاستراتيجيات الاقتصادية: ينبغي أن تندرج اتفاقيات تطوير المنافذ والموانئ ضمن استراتيجية وطنية اقتصادية متكاملة، تقوم على تعزيز قطاعات الإنتاج المحلي الزراعي والصناعي والخدمي، وتطوير سلاسل التوريد داخلياً وخارجياً، ودعم قدرات التصدير نحو الأسواق الإقليمية والدولية. ويتطلب تحقيق ذلك تحسين بيئة الأعمال عبر إصلاحات تشريعية وإدارية شاملة تعزز الشفافية والحوكمة، وتخفض كلفة الاستثمار والإنتاج. كما يستلزم تطوير البنية التحتية اللوجستية المساندة، وتحديث الأنظمة الجمركية والضريبية وفق معايير المنافسة الإقليمية. تحقيق الترابط بين تطوير المنافذ والموانئ من جهة، وبين رفع كفاءة الإنتاج والتصدير من جهة أخرى، هو ما يضمن تحويل هذه الاستثمارات من مجرد منشآت نقل إلى روافع حقيقية للنمو المستدام والعوائد الاقتصادية طويلة الأمد.
- الاستعداد للتحديات المستقبلية: ضرورة دمج ثقافة إدارة المخاطر والمرونة المؤسسية ضمن منظومة صنع القرار الاقتصادي والتنموي، عبر إعداد خطط بديلة (خطط طوارئ وخطط سيناريوهات متعددة) لمواجهة تقلبات الأوضاع السياسية والاقتصادية، بما في ذلك احتمالات تعثر الشركات الأجنبية أو الوطنية في تنفيذ مشاريعها الكبرى، أو تغير السياسات الدولية تجاه سورية، أو وقوع أزمات مالية أو طبيعية غير متوقعة. ويشمل ذلك تطوير وحدة مركزية متخصصة في الحكومة لرصد وتحليل المخاطر، وتحديث التقديرات الدورية، ووضع إجراءات استباقية للتعامل مع التعثرات أو الانسحابات أو العقوبات المفاجئة، بما يحمي استمرارية المشاريع الكبرى ويحافظ على استقرار الأداء الاقتصادي الوطني.
- تنويع الشركاء والأسواق: في ضوء التوجهات الأخيرة التي شهدت توقيع اتفاقيات تعاون مع كل من الصين وفرنسا والإمارات العربية المتحدة، تبرز أهمية ترسيخ سياسة خارجية واقتصادية قائمة على توسيع قاعدة الشركاء التجاريين والاستثماريين إقليمياً ودولياً. يهدف ذلك إلى تقليل الاعتماد على محاور ضيقة، وتعزيز مرونة الاقتصاد في مواجهة الضغوط الخارجية والتقلبات الجيوسياسية. ويتطلب هذا المسار متابعة الانفتاح المدروس على أسواق الخليج العربي، والاتحاد الأوروبي، ودول الجوار العربي، إضافة إلى استكشاف فرص شراكات مع دول في آسيا الوسطى وأمريكا اللاتينية. كما يتطلب تطوير القدرات التفاوضية لعقد اتفاقيات تجارة حرة متوازنة، وبناء أدوات تحليل المخاطر الجيو-اقتصادية لضمان حماية القرار السيادي من أي تبعيات سياسية أو اقتصادية غير متوازنة.
في الختام، تمثل هذه الاتفاقيات مدخلاً أولياً مهماً لتطوير البنية التحتية للمنافذ السورية وتحريك عجلة الاقتصاد، بما يسهم في إعادة تموضع سورية اقتصادياً من خلال تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص الدولي، واستعادة موقعها الاقتصادي بعد سنوات من الجمود والانغلاق. وتقتضي هذه المرحلة إدارة دقيقة ترتكز على اعتماد سياسات شفافة في إجراءات التعاقد وتفاصيل العقود، بما يضمن تعظيم المصالح الوطنية ويحقق توازناً بين المكاسب الاقتصادية قصيرة المدى، مثل تدفق الاستثمارات وتوفير فرص العمل، والمكاسب بعيدة المدى المرتبطة بتوسيع القاعدة الإنتاجية وتعزيز موقع سورية في سلاسل التجارة الإقليمية والدولية.