تمهيد
ما تزال مناطق سيطرة المعارضة في شمال وشمال غرب سورية تواجه العديد من المشكلات المركبة، والتي تعيق تحقيق الاستقرار، بعد أكثر من ثلاثة أعوام على تحرير المنطقة من تنظيم "داعش" و"قوات سوريا الديمقراطية"، عبر عمليتي"درع الفرات" و"غصن الزيتون"، فمع استتباب الأوضاع العسكرية نسبياً بقيت الأحوال الاقتصادية تشكل هاجساً كبيراً للسلطات الحوكمية التي تشرف على إدارة المنطقة.
تهدف عملية التعافي الاقتصادي كجزء من عملية التعافي المبكر إلى مساعدة المجتمعات المحلية للعودة إلى نوع من الحياة الطبيعية، واستقرار الوضع لمنعه من العودة إلى العنف والأزمة، ويتمثل الهدف العام للتعافي المبكر في شقين، الأول: استرجاع البنية التحتية الأساسية المادية والاجتماعية، التي تساعد على استئناف السكان لأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية؛ والثاني: توفير حلول مستدامة للمشكلات التي تعاني منها المنطقة، والتفكير بأهداف التنمية بعيدة المدى.
ويتكون برنامج التعافي الاقتصادي المبكر بحسب الأمم المتحدة من 3 مسارات، تبدأ بالتوازي بسرعات وكثافة مختلفة أثناء عملية التفاوض على اتفاق سلام أو تسوية سياسية. والمسارات الثلاث هي([1]): إحلال الاستقرار، توفير الدخل والتوظيف الطارئ، والمسار الثاني إعادة الدمج المحلي، والمسار الانتقالي، خلق وظائف مستدامة وعمل لائق في المسار الثالث. وبينما ينشغل المسار الثاني والثالث في خضم المرحلة الانتقالية، تنظر الورقة التالية في المسار الأول الذي يستهدف المقاتلين السابقين والشباب واللاجئين والعائدين إلى مناطق النزاع، وتُعطى الأولوية في هذا المسار للإجراءات قصيرة المدى، التي تخلق فرص عمل وتدعم العمل الحر، كما يوصي هذا المسار بالبرامج الضرورية لتحسين سبل العيش وتدعيم الاستقرار، مثل تقديم النقد مقابل العمل، والتوظيف الطارئ في القطاع العام والتدريب وتمويل الأعمال والمشاريع الناشئة.
تحاول هذه الورقة تلمس ملامح الاستقرار الاقتصادي في مناطق المعارضة، ضمن ظروفها السياسية والعسكرية والاقتصادية، منطلقة من أن بناء الاستقرار سيكفل وضع المنطقة في مصاف المرحلة الأولى من مراحل التعافي الاقتصادي المبكر، وينقل البلاد من النزاع إلى السلم، ويمهّد لإعادة الإعمار، دون نسيان شروط تحقيق السلام: البيئة الآمنة، والاتفاق السياسي.
واقع التعافي المبكر وفق القطاعات الاقتصادية والتنموية
بالنظر إلى ما تم جمعه من بيانات وإحصاءات، حول المشاريع والنشاطات في "درع الفرات" وعفرين وإدلب بين 2018 و 2020، فقد عملت المجالس المحلية والمنظّمات على إرساء قواعد الاستقرار، وفق منظورٍ ونطاقٍ ضيّقٍ، يتناسب وطبيعة وظروف المنطقة، فقد تركز اهتمامها على تأمين الخدمات الأساسية للسكان، على الرغم من عدم توفر أبسط المتطلبات والظروف الملائمة للعمل، جراء البيئة الهشّة المهدَدَة بعودة العنف، وعدم توافر الموارد المالية لتمويل المشاريع، وصرف جزء كبير من الأموال والجهد على العمل الإغاثي لمساعدة النازحين، والمهددات الأمنية المتمثلة بالاغتيالات والتفجيرات والخلافات بين الفصائل، واشتعال الجبهات بين الفينة والأخرى. يوضّح الجدول أدناه([2]) أرقاماً مفصّلةً حول المشاريع المنفّذة في القطاعات الأحد عشر([3])، نسوق من خلاله أبرز الملاحظات والنتائج وفقاً للقطاعات والمدن على مدار عامين ونصف بين 2018 و2020:
- بلغ إجمالي الأعمال والمشاريع التي تم تنفيذها في "درع الفرات" وعفرين وإدلب نحو 2434 مشروعاً، موزعاً على قطاعات اقتصادية عدة، لوحظ فيها ارتفاع الأعمال المنفّذة بشكل مطّرد، من 338 مشروعاً في النصف الثاني لـ 2018، إلى 812 مشروعاً في النصف الثاني لـ 2020. حاز خلالها قطاع النقل والمواصلات على الاهتمام الأوسع في تنفيذ المشاريع، إذ تم تنفيذ 451 مشروعاً، ساهمت في ترميم ما دمرته الحرب من طرقات رئيسية وفرعية، ووصل القرى والمدن بعضها ببعض، وتسهيل حركة المدنيين والتجارة البينية.
- تنفيذ 441 مشروعاً في قطاع المياه والصرف الصحي، تتضمن إصلاح الشبكات القديمة، وتمديد شبكات جديدة، وإجراء ورشات دورية في إصلاح الأعطال، وقد وفرت هذه المشاريع في مختلف المناطق خدمة إيصال المياه النظيفة للسكان بدلاً عن شراء المياه من الآبار. كما تم إيصال الكهرباء عبر التعاقد مع ثلاث شركات تركية، هي: AK ENERGY وEST والشركة السورية التركية للكهرباء، عملت على استجرار الكهرباء من تركيا إلى مناطق عدة في المنطقة، أنارت المنازل والشوارع بعد خروج شبكة الكهرباء في المنطقة عن العمل، فتم تنفيذ 91 مشروعاً.
- بلغ عدد المخيمات نحو 1293 مخيماً، بينها 282 مخيماً عشوائياً، وعدد سكان تلك المخيمات 1,043,869مليون نازح، من أصل أكثر من 4 ملايين شخص يسكنون المنطقة. وفي سبيل خدمة النازحين في تلك المخيمات؛ تم تنفيذ 330 مشروعاً، على شاكلة تمهيد الطرقات بين الخيم، وتمديد شبكات مياه وصرف صحي، وإيصال الكهرباء، وكانت المشاريع الأبرز في هذا القطاع بناء عشرات التجمعات السكنية، التي تضم آلاف الوحدات السكنية، ومن شأنها توفير منازل آمنة ومستدامة للنازحين، تقيهم حر الصيف وبرد الشتاء، وتخفّض من فاتورة إغاثة المخيمات.
- تنفيذ 295 مشروعاً في قطاع الإسكان والتعمير، مثل استخراج تراخيص وإنشاء أبنية سكنية وتجارية، و150 مشروعاً في قطاع الخدمات الاجتماعية، ممثلة ببناء المدارس، والمشافي، والمستوصفات، والملاعب، والحدائق، وترميم الأسواق التاريخية، والمرافق العامة الأخرى.
- 198 مشروعاً تم تنفيذها في قطاع الزراعة والثروة الحيوانية، يتركز معظمها في دعم المزارعين بالبذار والأعلاف والسماد، وتلقيح الأبقار، والأغنام، والدجاج. وتبع الزراعة قطاع التجارة بواقع 191 مشروعاً على مدار عامين ونصف، بالاستفادة من تطور حالة الطرق، والتشبيك الحاصل بين القرى والمدن من جهة، وبين المنطقة وتركيا من جهة أخرى، فضلاً عن زيادة أعداد المناقصات والعطاءات من قبل المنظمات. وأخيراً بقي قطاعات، مثل التمويل، والصناعة، والاتصالات، الأضعف في مؤشر التعافي الاقتصادي المبكر، محققة 91 و12 و7 مشاريع لكل منها على التوالي، على الرغم من إنشاء غرف تجارة وصناعة، وإنشاء 3 مناطق صناعية في الباب والراعي وإعزاز.
واقع التعافي المبكر وفق المدن
وعلى مستوى المدن، يُلاحظ بالنظر إلى الجدول رقم (2) مدينة الباب في قمة المؤشر، بواقع 321 مشروعاً، نُفذت في مختلف القطاعات الاقتصادية، معظمها جاء من مشاريع الإسكان والتعمير، وجاء بعد الباب مدينة إدلب بـ306 مشاريع، معظمها في النزوح الداخلي وقطاع المياه والزراعة، ومن ثم مدينة إعزاز بـ259 مشروعاً، بفضل مشاريع الكهرباء والمياه والنقل. ومن بين الأسباب التي ساهمت في تنفيذ مشاريع أكثر من غيرها من المدن: الكثافة السكانية المتأتية من النازحين؛ وتواجد كثيف للمنظمات، والفصائل العسكرية، والتجار، والمستثمرين الأفراد؛ ومركزية هذه المدن وأهميتها ما قبل الثورة، ما يجعلها تحذو نحو التطور أكثر من غيرها من المدن. وقد ساهم تركز المشاريع في مدن محددة مثل إعزاز والباب وإدلب في أن تكون حواضر المنطقة، من حيث النشاط العمراني، وحركة الأسواق التجارية.
وغابت العديد من البلدات والمدن في العام 2018 و2019، لكنها شهدت نشاطاً أكثر في قطاعات عدة، كما في سرمدا والدانا ومعرة مصرين وحارم وأطمة، بفضل أعمال قطاع المياه والنقل والنزوح الداخلي. فيما اختفت مدن من المؤشر لاحقاً بعد سيطرة النظام على بلدات ومدن عدة في جنوب إدلب، مثل معرة النعمان وسراقب.
ومما يمكن لحظه أيضاً على المستوى الإداري، تشكيل غرف تجارة وصناعة، واتحاد لتلك الغرف، وتعاونيات، وجمعيات متخصصة في الحرف والمهن، مثل جمعية للصيّاغ والملابس والنسيج، تعمل على مساعدة التجار والصناعيين في إصدار إذن عبور بين سورية وتركيا، وتأسيس وترخيص الشركات، والتواصل مباشرة مع الولاة الأتراك المسؤولين عن المنطقة. كما حاولت المجالس المحلية لعب أدوار نقدية في المنطقة، عبر استبدال الليرة السورية بالليرة التركية، ومنع التعامل مع النظام، ومنع استيراد أو تصدير بعض المواد من وإلى تركيا، حفاظاً على استقرار الأسعار، فضلاً عن توقيع عقود ومذكرات تفاهم مع العديد من الشركات والمنظمات لتنفيذ مشاريع وتقديم خدمات.
التحديات والتوصيات الختامية
نجحت المجالس المحلية والمنظمات في تنفيذ المشاريع والنشاطات ما دفع ببدء عملية التعافي الاقتصادي المبكر، وتلمس ملامح استقرار نسبي على مستويات عدة، ومع تجاوز 3 أعوام على تحرر المنطقة من تنظيم "داعش" في 2017، ورصد نشاطات وأعمال عامين ونصف في المنطقة، تواجه المنطقة تحديات عدة، يمكن تقسيمها وفق الأطر التالية:
إطار أمني عسكري
ما تزال المعارك تشكل مثبطاً رئيسياً لأي نشاط اقتصادي وعملية استقرار في المنطقة، إذ أسهمت المعارك في ريف إدلب الجنوبي في سيطرة النظام على مدن كبيرة، مثل معرة النعمان وسراقب، ساهمت في زيادة أعداد النازحين، وقضم مساحات زراعية كبيرة. ومن جانب آخر، ما يزال مؤشر الاغتيالات يسجل ارتفاعاً في المنطقة، يسهم في زعزعة أمن المنطقة واستقرارها، وزيادة شعور التجار والأهالي بالتهديد، إذ شهدت مناطق "درع الفرات" وعفرين 67 عملية اغتيال وتفجير بعبوات ناسفة، أسفرت عن 39 ضحية من قبل غرفة عمليات غضب الزيتون، وخلايا تنظيم "داعش"، وأخرى مجهولة المنفّذ، استهدفت عناصر الجيش الوطني والجيش التركي. أما في إدلب فهناك 25 عملية بين اغتيال وتفجير بعبوة ناسفة وطيران مسير، أسفرت عن 51 ضحية، استهدفت عناصر وقيادات جهادية، وفصائل الجبهة الوطنية للتحرير والجيش التركي.
إطار قانوني وإداري
ما تزال البيئة القانونية تعاني من مواطن ضعف نتيجة تعدد السلطات القضائية؛ بين من يتّبع شكل الجهاز القضائي السوري في منطقة "درع الفرات" وعفرين، ومن يتبع مجلساً أعلى للقضاء، مكون من المشايخ، ويعتمد على أحكام الشريعة الإسلامية في إدلب وريفها، فضلاً عن احتكام المنطقة للقوى العسكرية والفصائلية. كما يسبب ترهّل القضاء وضعف القوانين الناظمة للأعمال والشركات والأموال والحقوق والعقود، في بطء عملية الاستقرار، ودخول الرساميل، وزيادة الاحتكار، والفساد. ومن ناحية ثانية ما تزال حالة التشظي بين المجالس المحلية والحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ تظهر المنطقة بهويات عدة، ومنهجيات مختلفة، في الإدارة وصناعة القرار.
إطار سياسي
تسبب تأخير الحل السياسي وفق القرارات الدولية ذات الشأن بالملف السوري، في تشكيل هاجس كبير لدى سكان المنطقة، والمغتربين الراغبين بالعمل والاستثمار فيها، وللدول الفاعلة والصديقة للمعارضة السورية، إذ يرتبط مصير مناطق المعارضة بشكل الحل السياسي، والتوافقات الإقليمية والدولية حولها.
تشكل الأطر الآنفة الذكر دافعاً في تأخير أي عملية استقرار وتعافٍ اقتصادي مبكر في المنطقة، وهي تحديات لا يسع للأجسام الحوكمية إلا أخذها بالاعتبار، والتواءم معها، وترتيب أوراقها الداخلية، إذا أرادت جذب المزيد من الاستثمارات والأعمال والأموال، ودفع عملية الاستقرار نحو الأمام. وتبعاً لتموضع المنطقة في المسار الأول من عملية التعافي الاقتصادي المبكر، إحلال الاستقرار، وتبعاً لأرقام وبيانات ما تم رصده على مدار عامين ونصف وللتحديات أعلاه؛ توصي الورقة بما يلي:
- بعد إقدام غرف التجارة والصناعة في المنطقة على تشكيل اتحاد لها، سيكون من المفيد جداً إتباع هذه العملية بسياسات من شأنها توحيد شكل الإجراءات والقوانين فيما بينها، وإصدار قرارات استثمارية تغطي الفجوة القانونية والقضائية، وترسم آليات حفظ الحقوق والذمم المالية، وشكل العقود والتراخيص وأنواعها وشروطها، ووضع هيئة مختصة تتبع للاتحاد، لتنفيذ هذه المهمة.
- تأسيس جمعية مالية ذات مساهمة محدودة بين اتحاد غرف التجارة والصناعة، وتحوز على ثقة وضمان رجال الأعمال، والوجهاء، والمجالس المحلية، والمنظمات، ويعمل فيها أصحاب الاختصاص، تقدم خدمات مالية محلية، من قبيل إيداع الأموال وسحبها، وتصريف العملات الأجنبية، وتعمد إلى فتح اعتمادات مالية في بنوك، مثل تركيا، وأربيل، وقطر، لتسهيل تحويل الأموال بين المنطقة وتلك الدول لأغراض تجارية.
- نقل نشاط المنظمات الإغاثي، ولو جزءٌ منه، إلى نشاط تنموي، عبر تأسيس أذرع حاضنات أعمال خاصة Business Incubator، تهتم بدعم الصناعات الخفيفة، والحرف، والمهن اليدوية، وإحلال ما يمكن إنتاجه محلياً، عبر تقديم قروض متناهية الصغر، والدخول في عقود تشاركية مع تلك الأعمال.
ختاماً، تشكل عملية التعافي الاقتصادي المبكر الركيزة الأساسية في إخراج المنطقة من دائرة العنف والعودة للحياة الطبيعية، ولا يتم هذا إلا بتوفر الإرادة، وتكاتف جهود المؤسسات الرسمية مع المجتمع المدني؛ لتحقيق الأهداف المرسومة، والصعود في سُلّم مستويات التعافي المبكر. بعد ثلاثة أعوام يمكن القول إن المنطقة، وبفضل مشاريع وخدمات المجالس والمنظمات المحلية العاملة في سورية، استطاعت التقدم في المستوى الأول من التعافي المبكر، إحلال الاستقرار، عبر تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، وتنظيم شؤون الحياة المختلفة، ولا شكّ، يعد هذا دافعاً لاستقرار الأهالي، وتحريك عجلة الاقتصاد. من شأن استمرار عمل المجالس المحلية والمنظمّات على هذه الوتيرة، والأخذ بالتحديات بعين الاعتبار، والتشاور مع الكفاءات الوطنية؛ التطور أكثر ضمن المستوى الأول في عملية التعافي الاقتصادي المبكر، والمضي قدماً نحو المستوى الثاني، إعادة الدمج المحلي.
([1]) United Nations (2009), United Nations Policy for Post-Conflict Employment Creation, Income Generation and Reintegration, UN system-wide policy paper: https://bit.ly/337K7xb
([2] ) انظر مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، التعافي الاقتصادي المبكر في مناطق المعارضة بين النصف الثاني 2018 والنصف الثاني 2020 على الروابط التالية: https://bit.ly/3jafNuC، https://bit.ly/2WzyRLb ، https://bit.ly/37donmN ، https://bit.ly/3ffE9BY
([3]) القطاعات الأحد عشر التي تم رصدها هي: التجارة، والصناعة، والزراعة والثروة الحيوانية، والتمويل، والاتصالات، والإسكان والتعمير، والخدمات الاجتماعية، والكهرباء، والمياه والصرف الصحي، والنقل والمواصلات، وأخيراً النزوح الداخلي.