أوراق بحثية

المسارات

الملفات

الباحثون

التصنيف

تاريخ النشر

-

مدخل

مع سقوط نظام الأسد كُسِرَت حلقة الاستعصاء السوري، وتغيّرت معادلة الفواعل المحلية التي بقيت سائدة طيلة السنوات الأخيرة. ورغم هذا التغيير الجذري والدراماتيكي؛ إلا أن إعادة توحيد البلاد تحت سُلطة حكومة دمشق الجديدة ما يزال إشكالياً، خاصة مع بقاء مناطق شمال شرق سورية الخاضعة لقوات "سوريا الديمقراطية"/"قسد" خارج تلك السُلطة، وسط مفاوضات جارية بين الطرفين سترسم نتائجها مستقبل الشمال الشرقي وسورية بشكل عام.

حاولت قيادة قوات "قسد" خلال عقد من عمر الثورة السورية هندسة تموضعها (السياسي، العسكري، الأمني) على خارطة الفاعلين السوريين، محاولة الابتعاد عن ثنائية النظام والمعارضة، ساعدها في ذلك دورها الوظيفي الذي حُصر بمحاربة تنظيم "داعش"، والذي استغلت "قسد" خصوصيته وانعكاساته لتتمترس ضمن الحدود الأمنية لمناطق سيطرتها، وتطرح نموذجاً حوكمياً (الإدارة الذاتية) متمايزاً عن البيئة السياسية - الإدارية السورية السائدة، مستندة في ذلك إلى الدعم العسكري للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وحالة التنازع على الشرعية بين النظام والمعارضة.

ورغم كل الجهود التي بذلتها "قسد"، إلا أن محاولات كسب الشرعية السياسية لنموذج "الإدارة الذاتية" لم تفلح منذ تأسيسها، فلا اعتراف بكيانها السياسي من طرف النظام السابق، ولا دخول تحت مظلة المعارضة المعترف بها غربياً، ولا شرعية دولية أو اعتراف سياسي من أقرب داعميها الغربيين.

واليوم، وبعد سقوط نظام الأسد وحدوث توافق نسبي من الأطراف المحلية السورية، عسكرية وسياسية، على ضرورات وأوليات دعم الاستقرار خلال المرحلة الانتقالية، إضافة إلى بروز مؤشرات إيجابية أوليّة للقبول الدولي والإقليمي بحكومة دمشق وقيادتها السياسية؛ تقف "قسد" أمام استحقاقات مصيرية ستحدد مستقبل قواتها في الشمال الشرقي وسورية بشكل عام، وكذلك مستقبل نموذج "الإدارة الذاتية"، إضافة إلى رسم الملامح الأساسية للتعاطي مع المسألة الكردية في سورية.

تواجه قيادة "قسد" تلك الاستحقاقات في سياق مفاوضات مباشرة بينها وبين حكومة دمشق، وسط ضغوط إقليمية وأخرى دولية لا تبدو بصالحها، خاصة ما يتعلق بالموقف التركي من قواتها، إلى جانب مسار المصالحة المرتقبة الذي تقوده أنقرة مع زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، وانعكاساته المحتملة في سورية، ناهيك عن ضبابية الموقف الأمريكي، حتى الآن، فيما يتعلق بسحب القوات والقواعد الأمريكية من سورية.

وعليه، تسعى هذه الورقة إلى قراءة ديناميات المشهد الأمني والسياسي في مناطق سيطرة "قسد" بعد سقوط الأسد، وتحليل مواقف اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين الفاعلين في مسار المفاوضات الجارية بين الإدارة السورية الجديدة و"قوات سوريا الديمقراطية"، ومحاولة استشراف "السيناريوهات" المحتملة للمنطقة في ظل تلك المواقف.

"قسد" بعد سقوط الأسد..المشهد الميداني

مع سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، بسطت إدارة العمليات العسكرية سيطرتها على معظم الجغرافية السورية من إدلب إلى درعا، إلا أنها تجنّبت المواجهة العسكرية مع قوات "قسد" في أي من مناطق سيطرتها، خاصة في حلب بداية. بالمقابل، استغلت "قسد" الانهيار العسكري السريع لقوات الأسد، فتقدمت لملء بعض الفراغات الأمنية التي خلفها انسحاب تلك القوات في مناطق عدة، فضمن الحسكة والقامشلي سيطرت على المربعات الأمنية وأغلب المواقع العسكرية، وفي دير الزور عبرت نهر الفرات وسيطرت على المطار العسكري والمدينة لعدة أيام، قبل انسحابها إلى نقاطها السابقة إثر وصول أرتال عسكرية بقيادة إدارة العمليات التابعة للإدارة الجديدة وسيطرتها على مدينة دير الزور وقرى وبلدات خط الشامية.

أما ضمن مناطق نفوذها في محافظة حلب، بدت "قسد" متخبّطة، فقد حاولت بدايةً التقدم وربط مناطق سيطرتها في مدينة حلب بريفها، ثم انسحبت بعد مواجهات عنيفة مع "الجيش الوطني" على جبهات عدة، منها دير حافر التي قطعت الطريق أمام ربط مناطق سيطرتها في الريف بالمدينة، وكذلك خلال المواجهات على جبهة منبج، التي أسفرت عن فقدان "قسد" للمدينة الاستراتيجية التي سيطرت عليها منذ2016 ، وناورت للتهرب من خارطة الطريق الأمريكية - التركية عام 2018، والتي كانت تقضي بانسحاب وحدات "حماية الشعب"/YPG"" من المدينة وتسيير دوريات أميركية - تركية، وإنشاء إدارة محلية جديدة.

من جهة أخرى، تزامنت الاشتباكات العسكرية المحدودة مع احتقان شعبي أوسع في مناطق عدة. فقد شهدت مدن الرقة والحسكة مظاهرات واحتجاجات متقطعة رفعت شعارات مناهضة لـ"قسد"، بينما بدا الوضع أكثر تصعيداً في ريف دير الزور، حيث نشطت مجدداً المجموعات العشائرية التابعة لشيخ قبيلة العكيدات، إبراهيم الهفل، في بعض بلدات الريف الشرقي، وجرت مواجهات وهجمات مُسلّحة على حواجز ومقرات قوات "قسد"، قبل أن تبادر الأخيرة بفرض حظر تجول في مناطق عدة، وإعادة انتشارها العسكري. وقد سبق تلك الأحداث في دير الزور أيضاً، انشقاقات لبعض القيادات العربية ضمن المجالس العسكرية التابعة لـ"قسد"، في البصيرة وهجين ومناطق أخرى.

وقد قابل هذا الاحتقان الشعبي والمعارك العسكرية المحدودة، استنفار شديد من قبل القوات العسكرية والأمنية التابعة لـ "قسد" في مختلف مناطق سيطرتها، سواء على مستوى انتشار الحواجز الأمنية والتدقيق غير المسبوق على المدنيين، كذلك الأمر بالنسبة لفرض حظر التجول في بعض المناطق، إضافة إلى إفراغ بعض المؤسسات الحكومية أو المستودعات الاستراتيجية ونقلها إلى أماكن غير معروفة.

أما على المستوى الاقتصادي، ورغم اعتماد مناطق "الإدارة الذاتية" بشكل كبير على موارد النفط والزراعة والمساعدات الخارجية، إلا أنها تعاني أيضاً من تبعات الحصار الاقتصادي والعقوبات المفروضة على سورية، رغم أن المنطقة شملتها الإعفاءات الأمريكية من العقوبات في بعض القطاعات. كما أن تهالك البُنية التحتية، إلى جانب الفساد المستشري في مؤسسات الإدارة؛ ساهم وما يزال في عرقلة أي خطط تنموية داعمة لاقتصاد المنطقة المتردي، والذي من المحتمل أن يزداد تدهوراً خلال الفترة الحالية، نتيجة للظروف الأمنية - العسكرية من جهة، إضافة إلى قرارات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، المتعلقة بوقف برنامج المنح الخارجية، والذي كانت تعتمد عليه أغلب المنظمات الإنسانية المحلية والدولية الناشطة في سورية بشكل عام وشمال شرق بشكل خاص.

وبالتوازي مع هذا الواقع الميداني وارتداداته المحتملة، انطلقت جولات مفاوضات مباشرة بين القيادة الجديدة في دمشق وقيادة "قوات سوريا الديمقراطية"، وصفت في خطوطها العامة بالإيجابية، وقد أكد مظلوم عبدي، قائد "قسد"، أنه تم الاتفاق مع السُلطة الجديدة في دمشق على وحدة وسلامة الأراضي السورية ورفض أي مشاريع تقسيم([1]). وتدور المفاوضات بين الطرفين حول قضايا رئيسة عدة، منها: إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية السورية، وكيفية اندماج قوات "قسد" ضمنها، وما يستتبعها من إخراج عناصر حزب العمال الكردستاني/PKK الأجنبية. إضافة إلى إدارة الثروات الطبيعية في المنطقة، وصيغ الإدارة المحلية المقترحة فيها، ناهيك عن المسألة الكردية وتجلّياتها القانونية والدستورية.

وبينما تصر "الإدارة الذاتية" على الاحتفاظ بقواتها العسكرية ككتلة، وضمان مكتسباتها الميدانية في إطار دولة سورية لا مركزية، تُركّز دمشق على استعادة سُلطتها المركزية، وبسط سيطرتها على كامل الجغرافية السورية. وما تزال هذه التباينات عائقاً أمام تحقيق أي اختراق حقيقي في المفاوضات، فرغم الزخم الذي يحيط بمسار التفاوض وعدم حصول مواجهات مباشرة بين الإدارة الجديدة وقوات "قسد" حتى الآن([2])، إلا أن غياب الثقة بين الأطراف يشكل عقبة رئيسة، كما أن التباينات في الرؤى حول شكل الحكم المستقبلي، فضلاً عن الخلافات حول إدارة الملف الأمني، تُعقّد عملية الوصول إلى اتفاق شامل، لا سيما بالنظر إلى حجم الملفات الشائكة والمتشابكة، وتداخل المصلحة الوطنية مع هواجس القوى الإقليمية.

بالمقابل، فإن فشل مسار المفاوضات يعد أكبر التحديات الأمنية والعسكرية التي قد تواجها "الإدارة الذاتية" خلال الفترة القادمة، خاصة مع تزايد الضغوط التركية التي قد تدفع باتجاه شن عملية عسكرية واسعة على مناطق سيطرة "قسد"، إذ ترى أنقرة أن أي تسوية لا تراعي مصالحها/هواجسها الأمنية حول استمرار "قسد" بشكلها الحالي، تشكل تهديداً لأمنها القومي. كما أنها لا ترغب برؤية قيادات مُقرَّبة من حزب العمال الكردستاني/ PKK ضمن دوائر صنع القرار في دمشق مستقبلاً، أو ضمن هيكلية الجيش السوري الجديد. وأمام تلك التحديات، تسعى قيادة "قسد" إلى الحفاظ على قدر نسبي من الاستقرار الأمني في مناطقها، إضافة إلى تعزيز موقفها التفاوضي بناءً على رهانات عدة، على رأسها استمرار الدعم الأمريكي، والذي يبقى هشاً وقابلاً للتغيير بناءً على أولويات واشنطن.

مسار المفاوضات..تداخل فاعلين وتضارب مصالح

رغم سخونة جبهات ريف حلب، واشتعال خطوط التماس بين فصائل "الجيش الوطني" وقوات "سوريا الديمقراطية"، إلا أن المفاوضات السياسية بين الإدارة السورية الجديدة وقوات "قسد" تسير بهدوء أكبر، وسط تدخلات أطراف إقليمية ودولية ساعية للتأثير في رسم المستقبل السياسي والعسكري للمنطقة، وفقاً لمصالح كل طرف.

الإدارة الجديدة (وفرة خيارات)

أكّدت الإدارة السورية الجديدة بقيادة رئيس الجمهورية في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، رفضها وجود أي كيانات مُسلحة خارج إطار الجيش السوري، مما يعني حلّ قوات "قسد" ككتلة عسكرية ودمجهم كأفراد في الجيش الجديد([3])، وخروج جميع العناصر الأجنبية/PKK من الأراضي السورية، إضافة إلى تسليم السيطرة الأمنية والإدارية في دير الزور والرقة والحسكة وما تبقى من ريف حلب إلى الحكومة السورية الجديدة، بما فيها من ملفات عالقة: معتقلات عناصر "تنظيم الدولة"/"داعش"، موارد الطاقة (نفط، غاز)، النقاط والمعابر الحدودية.

بالمقابل، يبدو أن الإدارة الجديدة تبدي مرونة فيما يتعلق بالحقوق الثقافية والسياسية للمكوّن الكردي في سورية، تحت قاعدة المواطنة، دون توضيح تفصيلي عن كيفية ترجمتها قانونياً، خاصة مع مطالبة "قسد" بتثبيتها دستورياً. كما تبدي حكومة دمشق الجديدة أيضاً مرونة فيما يتعلق بتوسيع صلاحيات الإدارات المحلية بما دون اللامركزية السياسية، وكذلك فتح المجال أمام الكُرد للانضمام إلى مؤسستي الأمن والجيش، مع إمكانية منح رتب عسكرية لعدد من القيادات السورية في "قسد".

تُدرك الإدارة السورية جيداً أهمية شمال شرق سورية في استكمال معادلة السُلطة الجديدة، سواء لناحية الموارد الاقتصادية وأهميتها في هذه المرحلة الحرجة، إضافة إلى الأهمية السياسية في استرجاع السيادة على كامل الأراضي السورية، واستكمال ضبط الحدود الجغرافية للدولة، إلى جانب الانعكاسات السياسية لمستقبل إدارة المنطقة بتركيبتها المتنوّعة على ملف السلم الأهلي والهوية الإدارية والسياسية للبلاد، ناهيك عن حساسية وأثر المستقبل السياسي للمنطقة على العلاقات الإقليمية والدولية، خاصة مع اشتباك ملفاتها مع قضايا الأمن القومي لتركيا من جهة، ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية ومستقبل وجود قواتها في سورية من جهة أخرى، خاصة وأن الإدارة الجديدة لا تبدو مستعجلة للمطالبة بخروج القواعد الأمريكية من سورية، بل ربما تنظر إلى هذا الوجود كداعم للاستقرار، على الأقل خلال المرحلة الحالية، ولكن بالتنسيق معها وليس مع قوات "قسد".

 وفي هذا الإطار، تبدو جميع الخيارات مفتوحة أمام حكومة دمشق، مع إعطاء الأولوية للحلّ التفاوضي، خاصة مع إداراكها لما قد يترتب على المواجهة العسكرية الشاملة من إشكاليات مركّبة (أمنية، سياسية، اجتماعية، إدارية)، لذلك يبدو أنها تُغلِّب الحلول التفاوضية في المدى القريب والمتوسط لتحقيق ما تريد، معوِّلة في ذلك على معطيات عدة، ومُتغيرات محتملة:

  • الموقف التركي كظهير عسكري - سياسي داعم في هذه المفاوضات، التي تتداخل فيها أولويات الأمن القومي التركي مع المصالح الوطنية السورية.
  • احتمالية تغيّر موقف الولايات المتحدة وانسحاب القوات الأمريكية من المنطقة، سواء عبر التوصل إلى تفاهمات تركية - أمريكية، أو عبر ضمان مصالح الولايات المتحدة من قبل الإدارة الجديدة، أو كلا الخيارين معاً.
  • الواقع الديموغرافي لأغلب مناطق سيطرة "قسد"، وغلبة المكوِّن العربي فيها، وما قد يترتب على ذلك خلال الفترة الحالية من توسع دائرة الاحتجاجات، أو المواجهات المسلحة/الشعبية، أو ربما تغذيتها لاحقاً.
  • نقص الخيارات السياسية والعسكرية أمام قيادة "قسد"، وعدم وحدة الموقف الكردي السياسي خلفها.
  • عزل "قسد" سياسياً وعسكرياً ووضعها في مواجهة الدولة، مقابل تغليب الحل التفاوضي، والذي في حال فشله سيكون لدى الحكومة الجديدة/الدولة الشرعية الكافية لاستخدام الخيار العسكري، سواء كان محدوداً أو شاملاً.
  • نجاح الوساطات الإقليمية والدولية، خلال المفاوضات، في الدفع بحلول مرضية لحكومة دمشق.

قيادة "قسد" (خيارات محدودة)

من جهتها، ترفض قيادة قوات "سوريا الديمقراطية"، حتى الآن، حلّ قواتها، وتطالب بدخولها ككتلة عسكرية تحت مظلة وزارة الدفاع، وبقاء انتشارها في مناطق سيطرتها الحالية، مع الإبقاء على المؤسسات الإدارية والمدنية لـ"لإدارة الذاتية". ولا تمانع من مغادرة مقاتلي "حزب العمال الكردستاني"/PKK الأجانب خارج سورية، والتفاوض على تسليم ملف النفط والمعابر الحدودية للحكومة السورية الجديدة، مقابل تسوية المسألة الكردية في سورية، وإعادة النظر بالشكل الإداري للدولة. إذ أبدى قائد "قسد" مظلوم عبدي، في تصريحات عدة، استعداد قواته للاندماج في الجيش السوري الجديد، شرط ضمان حقوق الكرد دستورياً، كالاعتراف بالهوية الكردية واللامركزية الإدارية، مؤكداً أن "قسد" لا تسعى إلى التقسيم، بل إلى سورية موحدة تعكس تنوعها([4]).

وضمن إطار مطالبها، يبدو أن "قسد" تسعى إلى إطالة أمد المفاوضات، وكسب المزيد من الوقت، ريثما تتوضح توجهات الإدارة السورية الجديدة أكثر، وعلى أمل حدوث متغيرات جديدة تزيد من قوة موقفها التفاوضي. ويبدو أنها تراهن في هذا السياق على معطيات عدة ومُتغيرات محتملة، على رأسها:

  • استمرار التواجد الأمريكي شمال شرق سورية، بشكل داعم لـ"قسد" خلال المفاوضات مع حكومة دمشق.
  • دعم محتمل من أطراف إقليمية ودولية متوجّسة من الإدارة السورية الجديدة.
  • توحيد الصف الكردي سياسياً تعزيزاً للموقف التفاوضي.
  • الإصرار على ربط المسألة الكردية بمستقبل "الإدارة الذاتية"، لما قد يترتب على ذلك من تداعيات أمنية - اجتماعية في حال انهيار الإدارة الذاتية.
  • انتظار نتائج المفاوضات التركية مع قائد حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، والتي ستنعكس بشكل أو بآخر على مسار التفاوض السوري، وشكل الحل في شمال شرق البلاد.
  • محاولة توسيع دائرة التنسيق مع جهات سورية - سياسية، لدعم مطالبها في اللامركزية الإدارية الموسّعة.
  • الخيار العسكري كوسيلة دفاعية لتحسين شروط التفاوض.

من الناحية النظرية، لا ترغب "قسد" ولا حكومة دمشق بالدخول في مواجهات عسكرية شاملة، إلا أن هناك الكثير من العراقيل أمام مسار المفاوضات المتعثّر. وفي ظل هذا الواقع المُعقَّد، تُدرك دمشق التداخل بين المصلحة الوطنية والمصالح الدولية والإقليمية، ويبدو أنها تعوّل في هذا الإطار على تفاهمات ثنائية بينها وبين الولايات المتحدة من جهة، وبين الأخيرة وتركيا من جهة أخرى، بما يؤدي إلى اتفاق مع "قسد" يضمن في النهاية حلولاً سلمية تحقق وحدة الأراضي السورية.

بالمقابل، تُدرك قيادة "قسد" أهمية المرحلة الحالية في رسم مستقبل وجودها ضمن الخارطة الجديدة للفاعلين السوريين، ونظراً للتأثير الكبير لحزب العمال الكرستاني/PKK على قرار "قسد"، يبدو أن الأخيرة  تعوّل على نتائج محادثات السلام بين أوجلان والحكومة التركية من جهة، والتفاهمات بين الولايات المتحدة وتركيا من جهة أخرى، لتؤدي في النهاية إلى حلول تدفع شبح الحرب عن المنطقة، وتحافظ على جزء من مكاسبها، وتضمن وجودها ضمن دوائر صنع القرار في دمشق، لا سيما مع دخول أطراف أخرى على خط الوساطة، مثل ألمانيا وفرنسا وإقليم كردستان العراق، لتذليل العقبات أمام مسار المفاوضات وخلق حلول سلميّة.

الولايات المتحدة (ضمان المصالح)

دعمت القوات الأمريكية "وحدات حماية الشعب"/YPG"" بداية، ثم دعمت منذ عام 2015 تأسيس مظلة قوات "قسد" كشريك محلي على الأرض ضمن إطار عمليات التحالف الدولي في مكافحة الإرهاب، وصعود تنظيم الدولة "داعش" في سورية، بينما تمحور الوجود العسكري الأمريكي المباشر في المنطقة حول أهداف عدة، أبرزها: القضاء على تنظيم "داعش" ومنع عودته، والضغط سياسياً واقتصادياً على نظام الأسد للانخراط بالعملية السياسية، عبر السيطرة على ما يقارب ثلث الأراضي السورية الغنية بالثروات، ناهيك عن منع إيران وروسيا من توسيع نفوذهما في المنطقة، وخنق الـ "كوريدور" الإيراني الذي كان يمتد من العراق إلى لبنان مروراً بدير الزور. إضافة إلى حماية أمن حلفاء الولايات المتحدة في الإقليم، عبر التواجد العسكري المباشر للقواعد الأمريكية.

ومع سقوط نظام الأسد، وإضعاف أذرع إيران في المنطقة، يبدو أن معظم المصالح الأمريكية السابقة قد تحققت بالفعل، ليبقى ضمان تلك المصالح وغيرها قريناً بالتفاهمات التركية - الأمريكية من جهة، والتفاهم مع الإدارة الجديدة في دمشق من جهة أخرى، ناهيك عن عدم إلزام الولايات المتحدة نفسها بأي وعود قطعية لـ"قسد" فيما يتعلق بمستقبل "الإدارة الذاتية"، وتموضعها السياسي والعسكري في سورية، وتأكيدها المستمر على أن دعمها لقوات "سوريا الديمقراطية" ينحصر في الإطار العسكري وجهود مكافحة تنظيم "داعش".

وضمن هذا السياق، يبدو أن موقف الإدارة الأمريكية سيركّز مبدئياً على تشجيع "قسد" على التفاهم مع الإدارة الجديدة في دمشق، كما شجعتها سابقاً على محاولة التفاهم مع الأسد، وربما قد تزداد الضغوط الأمريكية على "قسد" لإنجاح مسار المفاوضات، وذلك بفعل عوامل عدة، على رأسها؛ احتمالية توصل الجانب التركي إلى تفاهم معين مع الولايات المتحدة في المنطقة على حساب "الإدارة الذاتية"، إضافة إلى طبيعة الموقف الأمريكي ذاته، خاصة في إدارة الرئيس ترامب، الذي بدأ عهده بتصريحات عدة حول احتمالية سحب القوات الأمريكية من سورية، ثم اتخذ إجراء إيقاف برامج المساعدات الخارجية، الأمر الذي تسبب بتعليق عمل المنظمات الإنسانية وتقديم الخدمات في مخيمي الهول وروج التي تضم عوائل وعناصر متهمين بالانتماء لتنظيم "داعش"([5]).

ناهيك عن بروز الإدارة السورية الجديدة كشريك محتمل وبديل عن قوات "قسد"، في أغلب الملفات والمهام التي كانت تضطلع بها، إذ تزداد مؤشرات التعاون بين واشنطن والإدارة السورية الجديدة على مستويات عدة، خاصة في ملف مكافحة الإرهاب/"داعش"، فقد أكّدت صحف أمريكية مشاركة معلومات استخباراتية سرية مع الحكومة السورية الجديدة، ساعدت في إحباط محاولة تنظيم "داعش" مهاجمة "مقام السيدة زينب" في محيط دمشق([6]). كما أصدرت وزارة الخزانة الأميركية ترخيصاً عاماً، يستمر 6 أشهر، يجيز بعض المعاملات مع الحكومة السورية، ومن بينها بعض مبيعات الطاقة، وتوفير الخدمات العامة، والمساعدة الإنسانية([7])، إضافة إلى مؤشرات أخرى تتمثل بانزياح سلس لكتلة "جيش سورية الحرة" العاملة تحت مظلة القوات الأمريكية في قاعدة التنف، وانضمامها إلى وزارة الدفاع الجديدة للانخراط في إعادة هيكلة الجيش السوري الجديد.

تركيا (أولويات الأمن القومي)

من جهتها تُصر أنقرة على حلّ قوات "قسد" نهائياً([8])، وترفض مقترحات الحكم الذاتي، أو أن يكون لقيادات مقربة من "PKK" أي دور في صناعة القرار ضمن سورية وهيكلية الجيش السوري مستقبلاً، في الوقت الذي تواصل فيه عملياتها ضد مواقع عسكرية وأمنية لقوات "قسد"، وتدعم فصائل "الجيش الوطني" في المواجهات العسكرية المحدودة الجارية ضمن مناطق سد تشرين وأطراف منبج في ريف حلب. بالمقابل، تدرك أنقرة عدم رغبة/قدرة دمشق بقيادة عملية عسكرية واسعة في هذه المرحلة، وترغب بمنح مزيد من الوقت لجهود الوسطاء، على رأسهم الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإقليم كردستان العراق([9])، معوّلة في ذلك على معطيات دولية وإقليمية ومحلية عدة:

فمن جهة، هناك مسار آخر يتم العمل عليه في تركيا قد يكون له تأثير على ملف شمال شرق سورية، وهو المفاوضات الجارية بين الحكومة التركية وزعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، والتي وصلت لمراحل متقدمة، فمن المتوقع أن يوجِّه أوجلان خلال أيام خطاباً يحمل دعوة لحلّ جميع التنظيمات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، في تركيا وخارجها، ومنها في قنديل وسورية وأوروبا، الأمر الذي سيكون له تأثير كبير على شمال شرق سورية، نظراً إلى أن فك ارتباط قوات "قسد" بالحزب المذكور ما تزال أحد المطالب الأساسية، سواء لدمشق أو أنقرة وأطراف أخرى([10]). ناهيك عن أن طبيعة ردود الأفعال المتوقعة لحزب الاتحاد الديمقراطي/PYD"" وباقي أجنحة حزب العمال في المنطقة إزاء دعوة أوجلان المحتملة للحزب بإلقاء السلاح؛ ستسهم بشكل كبير في رسم مستقبل الحزب والمناطق المنتشر فيها، منها سورية، إذ إن قبول تلك الدعوات والاستجابة لها سيكون له أثر كبير، في حين لن يقل الأثر في حال رفضها، خاصة وأن ذلك قد يؤمّن شرعية لتركيا في استهداف أجنحة الحزب الرافضة لأي اتفاق محتمل.  

من جهة أخرى، تعوّل أنقرة على تغيُّر معطيات البيئة الاستراتيجية بعد سقوط الأسد، بمعنى الهامش الأوسع الذي أتيح لها في الشمال السوري، وإمكانية استئناف علاقات ثنائية قوية مع الحكومة الجديدة في دمشق على مختلف المستويات، بشكل يساهم في إعادة نقاش وجودها العسكري في سورية بشكل أكثر مرونة، وربما إدخال تعديلات على بعض الاتفاقيات والبروتوكولات الثنائية (السياسية، الأمنية، العسكرية) على رأسها اتفاق أضنة. إضافة إلى توجّه أغلب الفاعلين الغربيين إلى حكومة دمشق لضمان مصالحهم أو التعاون، وبالتالي تراجع الدعم لـ"قسد"، ناهيك عن الانفتاح العربي - الخليجي على الإدارة السورية الجديدة في دمشق، وسط مناخ توافق نسبي في إدارة الملف السوري، وليس مناخ تنافسي كما كان الحال في الأزمة الخليجية والخليجية - التركية سابقاً، وذلك بالرغم من المواقف المتحفظة والمترددة لبعض الدول العربية، والتي تبدو عاجزة حتى الآن وسط المناخ الدولي العام.

ووسط تغييرات البيئة الاستراتيجية، يبدو أن أنقرة تراهن أيضاً خلال فترة إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، على الوصول إلى صفقة وتفاهمات مرضية تحفظ المصالح الأمريكية في المنطقة، وتساعد على حماية الأمن القومي التركي، وفي هذا السياق، تحدثت بعض الصحف حول عرض أمريكي لتركيا يدور حول إعادة وتطبيع علاقات أنقرة مع إسرائيل، مقابل انسحاب القوات الأمريكية من سورية ([11]).

وما بين تلك الخيارات، تبقى الأدوات العسكرية التركية حاضرة لتشكيل ضغط إضافي، وتسريع احتمالية الوصول إلى حلول مرضية لأنقرة، إذ لم تنقطع العمليات الأمنية خلال الفترة الماضية، واستهداف المسيّرات لقيادات "قسد"، ناهيك عن الاشتباكات المحدودة مع فصائل "الجيش الوطني"، والذي يبدو أن أنقرة تعوّل عليه أكثر خلال المرحلة الحالية، خاصة مع إدراكها لصعوبة وحساسية دخول حكومة دمشق وتصدّرِها لمواجهة عسكرية مباشرة ومفتوحة خلال هذه الفترة الحرجة.

مستقبل شمال شرق سورية.."سيناريوهات" محتملة

وفقاً للمعطيات المتاحة والمتوافرة حتى الآن، يبدو من الصعب رسم "سيناريوهات" تفصيلية للمسار المحتمل للأحداث، لكن ليس من المستحيل استشرف الاتجاهات التي قد تتخذها، والتي تبقى محكومة بمُتغيرات عدة وعوامل محلية وإقليمية ودولية من شأنها أن ترجّح سيناريو على آخر، وتسهم في رسم مستقبل المنطقة.

نجاح المفاوضات (إعادة الدمج)

بالرغم من أن المفاوضات كانت الخيار الأول لمختلف الأطراف، وكذلك تضمنت في بداية انطلاقها رسائل إيجابية عامة من الطرفين؛ إلا أن تفاصيل التفاوض تبقى المجال الأكبر لبروز التباينات والخلافات، خاصة وأن مواضيع التفاوض لا ترتبط فقط بمصالح الأطراف المحلية، وإنما أيضاً بمصالح إقليمية ودولية، خاصة مع دخول حزب العمال الكردستاني على خط المفاوضات كمرجعية غير مباشرة لقيادة "قسد" في سورية، مقابل مصالح الأمن القومي التركي الذي تسعى أنقرة لتحقيقه في سورية، بالتوازي مع مسار آخر في تركيا يتمثل بالمصالحة المحتملة مع قيادة حزب العمال. ناهيك عن أهداف ومصالح الولايات المتحدة وأمن حلفائها في المنطقة، إضافة إلى تدخلات ووساطات أطراف إقليمية ودولية أخرى.

وبقدر ما يبدو هذا السيناريو شاقاً ومُعقداً؛ غير أنه قد يكون المَخرَج الأمثل لمختلف الأطراف، وذلك لما قد يؤمّنه من تجنيب المنطقة سيناريوهات أسوأ، على رأسها المواجهة العسكرية، وما قد يتلوها من ارتدادات أمنية، سياسية، اجتماعية، إنسانية، تبدو الأطراف المحلية بغنى عنها خلال الظروف الحالية.

وفي حال نجاح هذا السيناريو، فمن المتوقع أن يتضمن اتفاقاً أولياً حول مسائل عدة: انسحاب قوات "قسد" من المناطق والمحافظات ذات الغالبية العربية (دير الزور، الرقة)، وانتشار قوات إدارة العمليات العسكرية مكانها، دمج قوات "قسد" من المحليين السوريين عرباً وكرداً ضمن صفوف وزارة الدفاع وفق آليات متفق عليها من الطرفين، ومنح بعض القيادات رتباً عسكرية في الجيش، خروج القيادات الأجنبية في صفوف "قسد" ومغادرتهم سورية، إعادة هيكلة القوات الأمنية التابعة لـ"قسد" كقوى أمن محلية بإشراف حكومة دمشق، تسليم المعابر والنقاط الحدودية لحكومة دمشق، خلق آلية مشتركة لتسليم إدارة السجون التي تضم عناصر سابقين من "داعش" إلى الإدارة السورية الجديدة.

كما قد يتضمن هذا النوع من الاتفاق، تسليم "قسد" موارد الطاقة في المنطقة (آبار وحقول النفط والغاز)، وذلك ربما بعد التفاهم على تخصيص نسبة معينة في إطار تنمية المنطقة، وليس تحت تصرف قيادة "قسد". وهذا بالضرورة سيشمل النقاش حول شكل وصلاحيات الإدارات المحلية في سورية بشكل عام وشمال شرق بشكل خاص، إذ من المتوقع أن تبدي حكومة دمشق مرونة فيما يتعلق بتوسيع صلاحيات الإدارات المحلية في المنطقة، ولكن ما دون اللامركزية السياسية، وبالتالي ضمان تمثيل وإدارة المكوّن الكردي لمناطق الكثافة الكردية. كما سيتضمن هذا الاتفاق بالضرورة النقاش حول مصير "الإدارة الذاتية" كجسم حوكمي، والذي من المحتمل أن يكون مستقبلها الحل ضمن هذا السيناريو، خاصة مع رفض حكومة دمشق الإبقاء على أي كيانات سياسية أو حوكمية أو عسكرية خارج إطار الدولة. وفي هذا السياق، يمكن أن يتم الاستفادة من بعض الخبرات التي تراكمت وتطورت في المنطقة، لكن من المستبعد أيضاً أن يتم دمج مؤسسات "الإدارة الذاتية" بمؤسسات ووزارات الدولة، خاصة فيما يتعلق ببعض المؤسسات التي تستند في مرجعيتها وبنائها وممارساتها إلى أيديولوجيا حزب العمال الكردستاني، كالقضاء والتعليم وغيرها.

كما أن جوهر هذا الاتفاق سينصب حول كيفية ضمان الحقوق الثقافية والسياسية للمكوّن الكردي في سورية، فبين قاعدة المواطنة المتساوية التي تطرحها حكومة دمشق، وتثبيت الحقوق دستورياً كما تطالب "قسد"، هناك ضمانات قانونية عدة قد تُقدَم في هذا المسار، والذي شكل عقبة تفاوضية تاريخية بين المعارضة من جهة والمظلات السياسية الكردية من جهة أخرى، سواء خلال فترة "المجلس الوطني السوري"، أو لاحقاً خلال بدايات "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة". ناهيك أن نتائج التفاوض حول هذا المسار قد تتأثر أيضاً بالنموذج التركي، وشكل الحلّ الذي قد يطرح في تركيا بعد المصالحة مع حزب العمال، إن نجحت.

وبالنظر إلى حجم التفاصيل والملفات التي يتضمنها هذا السيناريو، سنجد أن احتمالية النجاح قد توازي احتمالية الفشل، نتيجة التعقيدات التي قد تواجه هذا المسار، والذي يبقى نجاحه أو فشله رهناً بمعطيات ومُتغيرات عدة، أبرزها؛

  • إرادة الأطراف المحلية في تجنّب الخيار العسكري والتوصل إلى اتفاق يضمن مصالحها.
  • احتمالية تغيُّر الموقف الأمريكي، سواء عبر قرار محتمل بسحب القوات، ما قد يجبر "قسد" على السير في المفاوضات وفق تنازلات. أو العكس، بقاء القوات الأمريكية ودعم "قسد" في هذا المسار، وبالتالي سقف أعلى للمفاوضات.
  • مستوى الضغط التركي، سياسياً وعسكرياً، والذي سيرتبط بشكل أو بآخر بالموقف الأمريكي.
  • نقص الخيارات السياسية والعسكرية المتاحة أمام "قسد"، والذي قد يدفعها مجبرة إلى خيار التفاوض، الذي قد تصل إليه بطرق أخرى غير المفاوضات.
  • مستقبل مسار المصالحة مع حزب العمال في تركيا، ومستوى استجابة قيادة "قسد" وأذرع حزب العمال في المنطقة إلى دعوات حلَ الحزب وإلقاء السلاح، التي من المحتمل أن يتوجه بها زعيمه، عبد الله أوجلان، في 15 شباط الجاري.
  • نجاح الوساطات الإقليمية والدولية في هذا المسار، والحد من التدخلات الساعية لإفشاله.

الخيار العسكري (مخاطر مركّبة)

بقدر ما ينطوي عليه الخيار العسكري من مخاطر جمّة؛ إلا أنه يبدو أيضاً أحد الخيارات المطروحة في حال فشل المفاوضات ووصولها إلى طريق مسدود. وبالنظر إلى المعطيات ذاتها والنقاط أعلاه، التي قد تقود إلى نجاح مسار التفاوض، فإنها ذاتها قد تؤدي إلى فشله في حال تعطّلها أو سيرها بعكس الاتجاهات المذكورة، وبالتالي الذهاب إلى الخيار الأسوأ المتمثل بالمواجهة العسكرية.

وبالرغم من غياب أية مؤشرات ميدانية واضحة لانسحاب أمريكي وشيك([12])، إلا أن سقوط نظام الأسد، وانسحاب إيران، وتراجع النفوذ الروسي لأدنى مستوياته، قد حقق معظم أهداف الوجود الأمريكي في سورية، باستثناء مخاوف صعود مفاجئ لتنظيم "داعش"، والذي أدى بروز حكومة دمشق إلى تأمين بديل عن "قسد" في التعاطي معه. كما أن وصول ترامب "رجل الصفقات" مجدداً للسُلطة، وتركيزه على الداخل الأمريكي، يعيد إلى الأذهان قراره المفاجئ بالانسحاب عام 2019. وفي حال قررت الولايات المتحدة إنهاء وجودها في سورية؛ قد تجد "الإدارة الذاتية" نفسها مضطرة لقبول سيطرة دمشق، وتقديم تنازلات كبيرة منعاً لخسائر أكبر، في حال قررت مواجهة عملية عسكرية واسعة تقودها الإدارة السورية الجديدة مدعومة من أنقرة.

ولا تنفي دمشق استعدادها للمواجهة في حال فشل المفاوضات، فاستمرار الوضع القائم سيفتح الباب أمام تمظهرات وحالات مشابهة في مواقع أخرى على الجغرافية السورية، كما سيؤخِّر عملية دمج وحلّ فصائل "الجيش الوطني"([13])، ناهيك عن عدم رغبة الإدارة السورية الجديدة بافتتاح العهد الجديد بمعارك واسعة، وذلك لما قد يترتب عليها من زيادة في الهشاشة الأمنية، وفتح المزيد من الثغرات التي قد تستثمرها جهات معادية، ناهيك عن ارتداداتها السياسية والإنسانية والاقتصادية والأمنية في سورية والداخل التركي. فتحقق هذا السيناريو، وبقدر ما قد يدفع "قسد" إلى تقديم تنازلات كبيرة؛ إلا أنه قد يؤدي إلى موجة عنف جديدة في البلاد، خاصة مع سعي قيادات "قسد" لربط مستقبلها ومستقبل "الإدارة الذاتية" بالمسألة الكردية في سورية، وما سيرافق ذلك من عمليات تحشيد إعلامي – قومي، يدفع للمزيد من الاحتقان واحتمالية امتدادات المواجهات إلى أبعد من شمال شرق سورية.

لا شك أن قرار المواجهة العسكرية الشاملة ليس محبذاً من أي طرف، إلا أنه يبقى أحد السيناريوهات المطروحة، سيما مع تعقيدات الوضع القائم، والتحديات الكبرى أمام مسار المفاوضات المتعثّر، إلى جانب الحوادث الأمنية المتكررة في منبج وحلب والتي تلقي بظلالها على المشهد السوري، وقد تدفع إلى الانزلاق نحو دوامة عنف أكبر، خاصة وأن اندلاع مواجهة عسكرية في المنطقة على نطاق واسع سيدفع "حزب العمال"، الذي قد يكون من أكبر الخاسرين في هكذا سيناريو، نحو التصعيد الأمني والعسكري في مناطق تواجده المختلفة في سورية والعراق وتركيا، الأمر الذي قد يؤثر سلباً على مباحثات السلام الجارية في تركيا، وقد يؤدي لانهيارها مجدداً، بشكل يسهم في دفع الإقليم نحو موجة جديدة من العنف وعدم الاستقرار.

إن احتمالية حدوث هذا السيناريو، وتطور الموقف باتجاه التصعيد العسكري؛ تبقى رهناً بمُتغيرات وعوامل عدة، من الممكن أن تُحفِّز هذا الخيار وتغذي أسبابه، ولعل أبرزها:

  • قرار انسحاب مفاجئ للقوات الأمريكية ورفع غطاء الحماية عن "قسد" قبل نهاية المفاوضات.
  • تفاهم أمريكي- تركي محتمل على حساب "قسد" و"الإدارة الذاتية".
  • فشل مسار المصالحة الذي تقوده تركيا مع حزب العمال، أو رفض أجنحة محددة لنتائجه ومُخرجاتِه.
  • تدخُلات دولية أو إقليمية لإفشال مسار المفاوضات، سواء من جانب إيران أو غيرها من القوى.
  • تعنُّت قيادة "قسد" وحزب العمال في سورية وعدم إبداء مرونة، وبالتالي انهيار المفاوضات.
  • فشل الوساطات الدولية والإقليمية في إنجاح المفاوضات.
  • توصل المفاوضات بين الأطراف المحلية إلى مُخرجات لا تراعي المصالح والهواجس التركية.

 ترتبط أغلب المُتغيرات السابقة ببعضها البعض، ويؤثّر بعضها بالآخر، ولكن ما يبدو ثابتاً أن معركة شاملة ضد قوات "قسد" في سورية تحتاج إلى غطاء سياسي قبل الفعل العسكري، الغطاء المرتبط بشكل أو بآخر بالموقف الأمريكي ومصالحه في المنطقة.

إضعاف "قسد" تدريجياً (خفض سقف التفاوض)

بالنظر إلى الموقف الحالي، واحتماليات تعثُّر المفاوضات أمام تعنُّت قيادة "قسد"، وضبابية الموقف الأمريكي، ومستوى الضغط التركي، وحجم التبايانات بين الأطراف المحلية؛ فإن الحديث عن سيناريوهات مغلقة (إما، أو) لا يبدو مُنسجماً مع حجم التعقيدات القائمة، وما تتطلبه من استخدام أدوات مختلفة ومتعددة، خاصة مع وفرة الخيارات بالنسبة للإدارة السورية الجديدة، والتي بقدر ما تبدو أنها تتجنب الحلّ العسكري، إلا أنها بالوقت نفسه لا تستبعده كأداة لتحسين شروط التفاوض وإعادة فرض أولوياته، أو تسريع العملية وخفض سقف التوقعات للطرف الآخر.

وفي هذا الإطار، قد يبرز سيناريو مختلف يعتمد على خليط من أدوات السيناريوهين السابقين، بمعنى استخدام الخيار العسكري - الأمني بشكل محدود وغير شامل كأداة للضغط، وإعادة تشكيل بيئة التفاوض وأولوياته وسقفه، بشكل يؤدي إلى إضعاف "قسد" تدريجياً، وإجبار قياداتها على المزيد من التنازلات. وفي هذا السياق، قد تلجأ الإدارة السورية الجديدة بالتعاون مع تركيا إلى خيارات سياسية عسكرية أمنية عدة، ربما أبرزها:

  • كسر احتكار "قسد" للتمثيل السياسي للكُرد، عبر دفع وتصدير أفراد أو تيارات سياسية كردية أخرى إلى واجهة التفاوض أو التعبير السياسي العام، كـ"المجلس الوطني الكردي"، أو ربما تيارات إسلامية كردية لاحقاً. وكذلك الأمر كسر احتكار "قسد" للتمثيل السياسي للمكوّنات الاجتماعية في مناطق سيطرتها (عرب، سريان، إلخ)، عبر الدفع بتيارات أو مجموعات من أهالي تلك المناطق للتعبير عن مصالحهم وتطلعاتهم خلال تلك المفاوضات، خاصة وأن "قسد" تحتفظ ببعض المناطق العربية كورقة تفاوض على مصالح حزبية ليس لسكان تلك المناطق أي علاقة أو مصلحة بها. وفي هذا الإطار، من الممكن أن تتجاوز عمليات الحشد والدعاية السياسية الفضاء السوري، إذ يمكن تفعيل "اللوبيات" السياسية السورية-الأمريكية في الولايات المتحدة أو غيرها في أوروبا، خاصة وأن "قسد" ستقوم بتفعيل "لوبياتها" في إطار الحشد غربياً.
  • تغذية وتوسيع دائرة الاحتجاجات والمظاهرات المناهضة لـ"قسد"، سواء في المناطق المسيطرة عليها أو المناطق الخارجة عن سيطرتها، وتحويلها إلى مطلب شعبي جماهيري لا يقتصر على سكان الجزيرة، وإنما قضية وطنية سورية.
  • تشجيع انشقاقات قيادات وعناصر المجالس العسكري العربية في بُنية "قسد"، وذلك من خلال توسيع دائرة التواصل معهم، عبر شبكات أهلية - عشائرية أو أمنية - عسكرية، والسعي لضمان مصالحهم أو مراعاة تخوفاتهم، مع التسليم بأن تلك المجالس وقياداتها غير أيديولوجين، ولا يعنيهم فكر "حزب العمال الكردستاني"، بقدر ما يعنيهم ضمان مصالحهم ومكتسباتهم.
  • تصعيد العمل العسكري المحدود، وتركيز أهدافه على مناطق الغالبية العربية ضمن سيطرة "الإدارة الذاتية" (دير الزور، الرقة، ريف حلب)، سواء عبر التعاون بين إدارة العمليات العسكرية وأنقرة، أو عبر تغذية الانتفاضات الشعبية والعشائرية في تلك المناطق المحتقنة. إذ إن تبعات وارتدادات تلك المعارك (سياسياً، حقوقياً، إعلامياً، اجتماعياً) أقل تكلفة من المعارك في مناطق الكثافة الكردية، كما أنها قد تُستخدَم كأداة لحصر التفاوض ضمن مناطق الغالبية الكردية في الحسكة.
  • تصعيد العمل الأمني، منذ سقوط الأسد وانطلاق المفاوضات مع قياداة "قسد" لم تتوقف العمليات الأمنية التركية في المنطقة، سواء عبر استهداف قيادات "قسد" بالمسيّرات، أو قصف مواقع عسكرية محددة. وضمن هذا السيناريو، فمن المتوقع أن تتوسع دائرة العمل الأمني باتجاه "قسد" في المنطقة بشكل يربكها على المستوى التفاوضي والعسكري.
  • تبادل الأدوار، بقدر ما تبدو أهداف الإدارة السورية الجديدة منسجمة مع أهداف أنقرة الاستراتيجية تجاه "الإدارة الذاتية"؛ إلا أن الخلاف في الأولويات سيفرض نفسه على المشهد، خاصة وأن الإدارة السورية الجديدة تتجنب افتتاح عهدها الجديد بمزيد من الهشاشة الأمنية، والخوض في عمليات عسكرية قد يكون لها ارتدادات سياسية اجتماعية أبعد من المرحلة الحالية، لذلك، فمن المحتمل في ضوء هذا السيناريو أن تقوم الإدارة السورية الجديدة وأنقرة بتوازع أدوار الضغط والتفاوض (The good cop - bad cop scenario).
  • تقديم نموذج مطمئن، خلال دخول إدارة العمليات العسكرية إلى مدينة حلب في بداية معركة "ردع العدوان"، عمدت إلى تصدير السيطرة على مدينة حلب كنموذج/PILOT مطمئن نسبياً للحالة الشعبية حول طبيعة السيطرة الأمنية والعسكرية المتوقعة. وفي إطار هذا السيناريو، فإن هواجس ومخاوف الحالة الشعبية في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، وتحديداً المناطق الكردية، يمكن محاكاتها عبر نموذج حي لطبيعة السيطرة والتعامل الأمني والعسكري والقانوني المتوقع. وفي هذا الإطار، تبرز عفرين كأكثر النماذج القابلة للطرح خلال هذه الفترة، خاصة بعد دخول دخول إدارة الأمن العام إليها، وذلك عبر تكثيف زيارات المسؤوليين الحكومين إليها، وتسليط الإعلام على قضاياها وتصدير خطاب متوازن اتجاه مكوناتها، وربما اتخاذ قرارات حكومية بخصوص عودة مهجّريها، وتسوية أوضاع العاملين سابقاً مع الحزب، وإعادة الملكيّات الزراعية والعقارية لأصحابها.

بقدر ما تبدو معطيات هذا السيناريو أقل كلفة من المواجهة العسكرية الشاملة، وخياراً موازياً لاستعصاء المفاوضات؛ إلا أن ذلك لا يعني أبداً أنه لا ينضوي على مخاطر، على رأسها استمرار دورة العنف، وتفاقم الأزمة الإنسانية، خاصة وأن حزب العمال من المتوقع أن يصعِّد عملياته الأمنية المضادة في ضوء هذا السيناريو. ناهيك عما قد يترتب عليه من تأخر خطط حكومة دمشق بإتمام هيكلة الجيش والمؤسسات الأمنية، إضافة إلى مخاطر دخول أطراف أخرى لتصعيد النزاع ودعم انتشار الفوضى.

خاتمة

إن تشابك المصالح الإقليمية والدولية في ملف شمال شرق سورية، يجعل الفعل المحلي أقل تأثيراً في رسم المستقبل السياسي والعسكري للمنطقة، والذي يبقى رهناً بتفاهمات سياسية بين اللاعبين الدوليين والإقليميين المؤثّرين، الأمر الذي قد يبقيها عرضة لتحولات دراماتيكية، تتطلب رؤية استراتيجية وطنية لتجنب الأسوأ.

بالمقابل، تشير وقائع التجربة والأدبيات النظرية في دراسة "الإدارة الذاتية" منذ نشأتها، إلى أن طبيعة القرار ليست بيد حزب الاتحاد الديمقراطي "PYD"، وإنما ترتبط بشكل مباشر بحزب العمالPKK""، والذي بات يرى في شمال شرق سورية زاوية جديدة لنشاطاته ودوره في المنطقة، وخزاناً بشرياً ومادياً كبيراً لتفعيل هذا الدور. لذلك، فإن التخلي عن هذا الدور وفك الارتباط لن يكون أمراً بتلك السهولة، وهو مرتبط بالدرجة الأولى بقرار حزب العمال وليس الاتحاد الديمقراطي. كما أن التحركات باتجاه الإيحاء بالانفصال التنظيمي من الطرفين، حتى الآن، عبارة عن محاولات تكتيكية للإيحاء بالبعد المحلي الوطني، خاصة تحت ضغط مطالب القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في سورية. ليبقى السؤال أيضاً حول كيفية إخراج العناصر والكوادر الأجنبية المسيطرة على مفاصل "الإدارة الذاتية"، وما الأدوات التي ستستخدم في ذلك، خاصة وأنه لم يُسجّل أي نجاح للدبلوماسية مع PKK"" طوال أربعة عقود من وجوده في المنطقة، ولم تنجح أي محاولة إخراج سلميّة، إلا تلك التي قام بها نظام الأسد عام 2002. السؤال الذي تبقى إجابته رهناً بالظروف السياسية والعسكرية وطبيعة الحل الذي ينتظر المنطقة، لكنه بالتأكيد يرسم مستقبلاً غامضاً لها([14]).

 


([1]) عبدي: متفقون على وحدة وسلامة الأراضي السورية ونرفض أي مشاريع تقسيم، تلفزيون سوريا، 09.01.2025، https://2u.pw/DXSfnUpS   

([2]) تدور اشتباكات متواصلة بين فصائل "الجيش الوطني" و"قسد" على خطوط التماس في ريف حلب تُرافقها تهديدات مستمرة من جانب تركيا.

([3]) مصادر للجزيرة نت: قسد رفضت عرضاً من الإدارة السورية الجديدة، الجزيرة نت، 26.01.2025، https://2u.pw/tVzdnK5g

([4]) مظلوم عبدي: موارد البلاد للشعب السوري ومستعدون للاندماج في الجيش الجديد، تلفزيون سوريا، 27.12.2025، https://2u.pw/V2jZ8jGL

([5]) بعد ساعات من قرار ترمب.. منظمات دولية تعلق مشاريعها في مخيم الهول والحسكة، تلفزيون سوريا، 26.01.2025، https://2u.pw/FZatObOq  

([6]) واشنطن بوست: أميركا تشارك معلومات سرية مع الحكومة السورية الجديدة، الجزيرة نت، 25.01.2025، https://2u.pw/wpxguoeo

([7])  واشنطن تخفف القيود المفروضة على سورية وتبقي على العقوبات، العربية نت، 07.01.2025، https://2u.pw/PB4oJjCJ

([8]) تركيا تعتبر "قسد" امتداداً لحزب العمال الكردستاني (PKK) المدرج على لوائح الإرهاب في تركيا والولايات المتحدة ودول غربية عديدة.

([9]) تركيا: سنفعل كل ما يلزم إذا لم تحل حكومة سورية مشكلة المسلحين الأكراد، العربية نت، 22.12.2024، https://2u.pw/Pud1rZAu

([10]) أوجلان يتجه لحلّ حزبه منتصف شباط.. مصير "قسد" مرتبط به، المدن، 01.02.2025، https://2u.pw/bond0sa0

([11]) شرط أمريكي لأردوغان مقابل سحب القوات الأمريكية من سورية، العربي 21، 30.01.2025، https://2u.pw/zuuddgFX

([12]) الدفاع الأميركية: نحتاج إلى البقاء في سورية لمنع عودة داعش بعد سقوط الأسد، نورث بريس، 09-01-2025، https://2u.pw/F6btmMtx

([13]) وزير الدفاع السوري لا يستبعد استخدام "القوة" مع الأكراد، وهجمات قاتلة لـ"فلول النظام"، BBC news عربي، 22-01-2025، https://2u.pw/Ns0iT7dV

  ([14])مجموعة مؤلفين، الإدارة الذاتية في سورية...مدخل قضائي في فهم النموذج والتجربة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ص: 140.

التصنيف أوراق بحثية

مدخل

منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إثر عملية "طوفان الأقصى" بتاريخ 7 أكتوبر 2023، تحولت سورية إلى  هدف مباشر للهجمات الإسرائيلية التي تصاعدت بوتيرة متفاوتة وشكل متسارع. إذ اتخذت تلك الهجمات وتيرة منخفضة ونوعية خلال التصعيد على غزة، وتركّزت في أغلبها على مواقع المليشيات الإيرانية وبعض المنظمات الفلسطينية العاملة في سورية وقياداتها، إضافة إلى مواقع وقيادات من حزب الله. ومع انخفاض زخم العمليات الإسرائيلية في غزة وانطلاقها إلى لبنان؛ تصاعدت الضربات التي شنتها إسرائيل على سورية بشكل غير مسبوق، مستهدفة قيادات ومليشيات ومواقع استراتيجية تابعة لإيران وحزب الله، إضافة إلى مواقع متنوعة للنظام السوري.

ومع بداية عام 2024 وحتى أواخر الشهر العاشر من العام ذاته، ووفقاً للمراصد الحقوقية؛ نفذَّت إسرائيل 178 استهدافاً للأراضي السورية، 152 منها جوية و26 برية. وقد أسفرت تلك الضربات عن إصابة وتدمير نحو 332 هدفاً، تنوعت بين مستودعات للأسلحة والذخائر ومقرات ومراكز وقيادات وآليات عسكرية([1]). إضافة إلى مراكز تطوير صواريخ في مناطق مثل دمشق ومصياف وحمص. وقد جاء هذا التصعيد كجزء من استراتيجية إسرائيلية أوسع لضرب النفوذ الإيراني في المنطقة وتحجيم تهديداته الإقليمية.

وخلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2024، تصاعدت وتيرة الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية واللبنانية، فبحسب تقارير الرصد الخاصة بمركز عمران للدراسات؛ سجلت سورية خلال هذا الشهر قرابة 17 هجوماً جوياً إسرائيلياً، طال 38 موقعاً بغارات عدة تكررت على بعض المواقع، متركّزة على معابر ونقاط عسكرية حدودية، ومواقع عسكرية حيوية في مناطق مختلفة من البلاد، إضافة إلى مواقع عسكرية متفرقة في محيط العاصمة دمشق، بما في ذلك مطار المزّة ومنطقة السيدة زينب، ناهيك عن الضربات المركزة على مواقع عسكرية في ريفي حمص وحماة. واستهدفت الضربات بشكل خاص نقاطاً استراتيجية تُستخدم من قبل حزب الله اللبناني والميليشيات الإيرانية، مما أسفر عن أضرار كبيرة في البُنية التحتية، وسقوط ضحايا، وتعطيل عدد من المعابر الاستراتيجية التي تربط البلدين.

وقد تزامن التصعيد الإسرائيلي على سورية، خلال تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2024، مع متغيرات سياسية عدة دولياً وإقليمياً ومحلياً، أبرزها على المستوى الدولي الانتخابات الأمريكية التي انتهت بفوز الرئيس دونالد ترامب. أما على المستوى الإقليمي، فقد دخل اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان بين حزب الله وإسرائيل حيز التنفيذ، ولم تمضي ساعات على هذا الاتفاق الهش؛ حتى اشتعلت جبهة سورية بتاريخ 27 نوفمبر إثر إطلاق فصائل المعارضة المسلحة عملية "ردع العدوان"، والتي تصاعدت بشكل سريع لتؤدي بتاريخ 8 ديسمبر 2024 إلى سقوط نظام بشار الأسد، وهروب الأخير خارج البلاد.

وخلال هذا التطور المفصلي على مستوى سورية والشرق الأوسط؛ تصاعدت الغارات الإسرائيلية بشكل جنوني على كامل الجغرافية السورية، مُستهدفة مواقع عدة خلال فترة زمنية قصيرة، ناهيك عن التوغل البري في بعض المناطق الجنوبية كالقنيطرة وجبل الشيخ. وعليه يستعرض هذا التقرير أبرز الهجمات الإسرائيلية على سورية خلال الفترة الواقعة بين 27 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2024، و11 كانون الأول/ ديسمبر 2024. علماً أن هذا التقرير يرصد أبرز الأهداف التي طالتها الهجمات الإسرائيلية، ولا يحصي عدد الغارات بقدر ما يوضح طبيعة بنك الأهداف والمواقع التي طالتها الهجمات والاعتداءات الإسرائيلية، والتي تكررت على بعض المواقع. كما يقدم هذا التقرير تحليلات أولية حول الأهداف والآثار المترتبة على تلك الهجمات، مقابل رصد أبرز ردود الأفعال السياسية المحلية والإقليمية والدولية.

طبيعة العدوان الإسرائيلي على سورية (بنك الأهداف)

شهدت العشرية الأولى من شهر كانون الأول/ديسمبر 2024 تصاعداً واضحاً في وتيرة الضربات الإسرائيلية، بالتزامن مع عملية "ردع العدوان" وسقوط نظام بشار الأسد. وقد شملت الهجمات الإسرائيلية ما يزيد عن  53 موقعاً، توزَّعت على 9 محافظات، مع تكرار الضربات على أغلب المواقع. فقد طالت الهجمات قرابة 13 موقعاً في دمشق ومحيطها، و قرابة 13 في حمص وريفها، و10 في درعا، و5 في اللاذقية،  و4 في دير الزور، و2 في الحسكة، و2 في السويداء، و1 في طرطوس، و1 في حماة،  و1 في القنيطرة. علماً أن أغلب المواقع المستهدفة تعرضت لغارات عدة. وقد أكدت إذاعة "الجيش الإسرائيلي" تنفيذ جيش الاحتلال خلال 48 ساعة تلت سقوط الأسد؛ أكثر من 250 غارة على سورية([2]). بالإضافة إلى عملية عسكرية برية قامت عبرها إسرائيل باحتلال جبل الشيخ قرب الجولان وبعض القرى والبلدات في محافظة القنيطرة. وقد توزعت المواقع السورية المستهدفة من قبل الإسرائيلين على تصنيفات عدة، أبرزها:

خطوط النقل والمعابر الحدودية

تركزت الغارات الإسرائيلية، خاصة قبل سقوط النظام، على عدة معابر حدودية بين لبنان وسورية، أبرزها المعابر التابعة لريف حمص الغربي، وبالتحديد التابعة لمدينة القصير، التي تتميز بموقع استراتيجي كبير ما بين لبنان وسورية، وكانت نقطة عبور مهمة بالنسبة لحزب الله، وقد تعرضت تلك المواقع حتى تاريخ 8 كانون الأول/ ديسمبر لقصف عنيف من قبل القوات الجوية الإسرائيلية. وتوزعت تلك الغارات على المعابر الحدودية والبنية التحتية في المنطقة، إضافة لنقاط عسكرية ومستودعات أسلحة. ومن أهم المعابر والمناطق الحدودية التي تم استهدافها: جسور الجوبانية والحوز والعاصي، ومعابر جوسية والدبوسية والجوبانية في ريف القصير([3]). بالإضافة إلى  معبر العريضة في طرطوس، والذي استهدف للمرة الأولى، ما أدى إلى إقفال المعبر بشكل تام وخروجه عن الخدمة نهائياً([4]).

قيادات وعناصر المليشيات المرتبطة بإيران

ذكرت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) بتاريخ 3 كانون الأول/ديسمبر أن إسرائيل نفذت هجوماً استهدف سيارة على طريق مطار دمشق الدولي مما أدى إلى انفجارها. وأوضحت نقلاً عن مصدر في شرطة ريف دمشق أن الهجوم استهدف السيارة بشكل مباشر، دون الكشف عن تفاصيل إضافية حول الضحايا أو الأضرار .وفي سياق متصل، أفادت إذاعة الجيش الإسرائيلي، نقلاً عن مصدر عسكري، بأن العملية استهدفت قيادياً بارزاً في حزب الله داخل دمشق([5])، وأعلن الجيش الإسرائيلي في اليوم ذاته استهداف واغتيال القيادي في "حزب الله" سلمان نمر جمعة، عبر غارة جوية على دمشق، وهي الأولى بعد اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان. ووفقاً للجيش الإسرائيلي، شغل جمعة دوراً محورياً كموفد "حزب الله" لدى قوات النظام السوري، وكان مسؤولاً عن نقل الوسائل القتالية بين سورية ولبنان، كما عمل كحلقة وصل رئيسة بين الحزب وعناصر النظام السوري، واحتل مناصب قيادية بارزة منها مسؤول العمليات في دمشق .وقد أشار الجيش الإسرائيلي إلى أن استهداف جمعة يمثل ضربة لاستراتيجية "حزب الله" في تعزيز وجوده العسكري داخل سورية([6]) .

مراكز البحوث العلمية

شن الطيران الإسرائيلي غارات عدة على مراكز البحوث العلمية، حيث تدار وتطور برامج أسلحة كيميائية وصواريخ باليستية([7]). فقد استهدفت الغارات بتاريخ 8 كانون الأول/ديسمبر مركزاً للبحوث العلمية ضمن المربع الأمني في دمشق، متسببة بحرائق اندلعت بعد انفجارات عدة([8]). كما استهدفت بتاريخ 9 كانون الأول/ديسمبر مركز البحوث العلمية قرب بلدة الزاوي في ريف مصياف/محافظة حماة. كما شنت في اليوم نفسه غارات عدة على مركز البحوث العلمية في برزة ضمن العاصمة دمشق، دون وجود معلومات عن حجم الأضرار حتى إعداد هذا التقرير([9]).

بُنى تحتية ومواقع عسكرية

أعلن الجيش الإسرائيلي بتاريخ 1 كانون الأول/ديسمبر أن غارات جوية شنتها طائراته استهدفت بتاريخ 30 تشرين الثاني/نوفمبر موقعاً عسكرياً في ريف منطقة القصير بمحافظة حمص قرب الحدود مع لبنان. وأوضح المتحدث باسم الجيش أفيخاي أدرعي، أن الموقع يُستخدم من قبل "حزب الله" لنقل أسلحة، مشيراً إلى أن الهجوم جاء بعد الكشف عن استمرار عمليات نقل الأسلحة رغم اتفاق وقف إطلاق النار، ما يشكل تهديداً لإسرائيل وينتهك بنود الاتفاق( ([10]. كما شن الجيش الإسرائيلي بتاريخ 6 كانون الأول/ديسمبر غارات جوية عدة على مواقع عسكرية في ريف حمص الغربي وأخرى في منطقة القصير، مستهدفة بنى تحتية تُستخدم من قبل "حزب الله" لنقل أسلحة من سورية إلى لبنان، إذ صرّح الجيش الإسرائيلي أن العملية جاءت بعد الكشف عن استمرار عمليات نقل الأسلحة رغم اتفاق وقف إطلاق النار، معتبراً ذلك تهديداً لإسرائيل وانتهاكاً لبنود الاتفاق. كما أشار إلى أن "حزب الله"/قوات "الرضوان"، بدعم من النظام السوري، يستغل البُنى التحتية المدنية لنقل المعدات القتالية لاستخدامها ضد إسرائيل([11]).

أما بالنسبة لدمشق ومحيطها، فقد شن الطيران الإسرائيلي بتاريخ 8 كانون الأول/ديسمبر غارات جوية استهدفت ثكنة عسكرية في محيط مطار المزة العسكري بالعاصمة السورية، إلى جانب نقاط عسكرية في حي المزة، إضافة إلى غارات أخرى استهدفت المربع الأمني في دمشق متسببة بانفجارات عدة تلتها حرائق([12]). وفي تاريخ  9 كانون الأول/ديسمبر، استهدفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي مواقع في منطقة جبل قاسيون ضمن دمشق، بالإضافة إلى المربع الأمني وسط المدينة، وذلك ضمن سلسلة غارات ثانية تستهدف العاصمة([13]). وفي التاريخ السابق نفسه، شن الطيران الحربي الإسرائيلي غارات جوية جديدة استهدفت مستودعات لتخزين الأسلحة تابعة لقوات نظام الأسد في جبال منطقة القلمون بريف دمشق،  منها مستودعات (دنحة) في القلمون والتي تحتوي على مضادات الدروع، مما أدى إلى تدميرها إثر انفجارات عنيفة هزت المنطقة([14](. كما شهد اليوم ذاته (9 كانون الأول/ديسمبر)، غارات على مقر إدارة الحرب الإلكترونية بالقرب من البهدلية المحاذية لمنطقة السيدة زينب، ومستودعات للأسلحة بقرية عين منين التابعة لمنطقة التل، كما شن طيران الاحتلال غارات جوية شمال مدينة قارة ومستودعات في منطقة السومرية على أطراف العاصمة دمشق([15]).

خلال هذا الشهر، كان الجنوب السوري تحت بنك الأهداف الإسرائلية أيضاً، فقد نفذت طائرات الاحتلال الإسرائيلي بتاريخ 8 كانون الأول/ديسمبر 10 غارات جوية استهدفت بعضها مواقع عسكرية في ريف القنيطرة، إضافة لمنطقة تل الحارة في ريف درعا، وتم استهداف مستودعات أسلحة ومواقع استراتيجية. ناهيك عن غارات أخرى في محيط مدينة إزرع بريف درعا استهدفت مواقع عسكرية أخرى، تشمل الفوج 175 واللواء 12 وقيادة الفرقة الخامسة([16]). وقد استمرت الهجمات خلال يوم 9 كانون الأول/ديسمبر مستهدفة قرية الغارية الشرقية في درعا، واللواء 15 شرق مدينة إنخل، والفرقة التاسعة في مدينة الصنمين، ومستودعات الكم شرقي درعا([17]). كما شنت أيضاً الطائرات الإسرائيلية في اليوم نفسه غارات على مواقع في اللواء 112 بين مدينتي الشيخ مسكين ونوى في الريف الغربي لدرعا( ([18].

بالمقابل، لم يسلم شمال شرق البلاد من الهجمات الإسرائيلية خلال هذا الشهر، فقد شنت الطائرات بتاريخ 9 ديسمبر غارات على محافظة الحسكة - منطقة مطار القامشلي والفوج 54 المعروف بفوج طرطب( ([19]. وبتاريخ 9 ديسمبر شنت طائرات إسرائيلية غارات استهدفت مستودعات أسلحة في موقع عسكري سابق قرب مدينة دير الزور، ومستودعات كانت لـ"الحرس الثوري الإيراني" في البادية جنوب البوكمال، ومخازن ومستودعات أسلحة في منجم الملح و مراكز سابقة لقوات النظام والإيرانيين في بادية دير الزور(.([20]

مطارات ومنظومات دفاع جوي

 تعرّضت محافظة السويداء بتاريخ 8 كانون الأول/ديسمبر لغارات عدة، طال بعضها قاعدة خلخلة الجوية،  وأيضاً استهدفت بـ 6 ضربات القاعدة الجوية الرئيسة الواقعة شمالي مدينة السويداء، والتي تضم مخزوناً كبيراً من الصواريخ والقذائف التي تركتها القوات السورية وراءها([21]). كما طالت الغارات الإسرائيلية بتاريخ 9 كانون الأول/ديسمبر مطار الشعيرات في مدينة حمص، دون توافر معلومات عن حجم الأضرار([22]). وفي اليوم  نفسه استهدفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي مواقع في مطار المزة العسكري ومنطقة جبل قاسيون في دمشق، وذلك ضمن سلسلة غارات ثانية تستهدف العاصمة([23]). كما استهدفت غارات إسرائيلية أخرى مطار عقربا العسكري في ريف دمشق، وتواردت أنباء عن تدمير مروحيات وطائرات حربية رابضة([24]). كما شهد تاريخ هذا اليوم أيضاً  استهداف الطيران الحربي الإسرائيلي لمواقع عسكرية عدة غرب البلاد، منها منشأة دفاع جوي قرب ميناء اللاذقية على الساحل السوري( ([25]. بالمقابل، شن الطيران الحربي الإسرائيلي بتاريخ 10 ديسمبر غارات جوية استهدفت مطار دير الزور العسكري شرقي دير الزور، مما أسفر عن تدمير طائرات ومعدات رادارية(.([26]

قواعد وأهداف بحرية

طالت الغارات الإسرائيلية أيضاً غرب البلاد وتحديداً محافظة اللاذقية، فاستهدفت إسرائيل بتاريخ 9 كانون الأول/ديسمبر مواقع عسكرية عدة قرب ميناء اللاذقية على الساحل السوري، وطالت الأضرار سفناً للبحرية السورية، ومستودعات أسلحة في الكورنيش والمشيرفة ورأس شمرا في ريف اللاذقية. وفي اليوم نفسه نفذ سلاح البحرية الإسرائيلي عملية واسعة استهدفت تدمير أسطول البحرية السورية بالكامل. العملية تمت باستخدام سفن صاروخية، وتركزت على مناطق ميناء البيضا وميناء اللاذقية( ([27]، وأدى الهجوم إلى تدمير سفن حربية سورية عدة تحمل صواريخ بحر-بحر. ووفقاً للتقارير، الهدف من العملية كان منع وصول قدرات ومعدات الأسطول إلى أيدي فصائل المعارضة المسلحة. كما ذكرت شركة "أمبري" للأمن البحري أن الهجوم الإسرائيلي استهدف 6 قطع بحرية سورية في ميناء اللاذقية، إذ أظهرت صور الأقمار الصناعية غرق 5 سفن عسكرية من أصل 6، وأكدت التقارير أن البُنية التحتية للميناء لم تتضرر نتيجة القصف([28]).

التوغل البري

قامت إسرائيل بتاريخ 8 ديسمبر باحتلال مرتفعات جبل الشيخ الحدودية مع سورية بعد انسحاب القوات السورية، وأعلنت إنشاء منطقة عازلة تحت سيطرتها "مؤقتاً". كما أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن الاحتلال يهدف لمنع أي تهديد أمني على الحدود، معلناً انهيار اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974. كما عزز الجيش الإسرائيلي قواته في الجولان منعاً لوصول أسلحة الجيش السوري إلى المعارضة المسلحة( ([29]. وقد تجاوزت القوات الإسرائيلية حدود المنطقة العازلة المنصوص عليها ضمن الاتفاقات الدولية والممتدة من زاوية جبل الشيخ إلى الحدود الأردنية مروراً بوادي اليرموك والركاد،. وقد سيطرت القوات الإسرائيلية على نقاط استراتيجية في المنطقة، وأبرزها المرتفعات التي تطل على سورية ولبنان وفلسطين بارتفاع 2200 متر. وهي منطقة قريبة جداً من حدود بلدة اسمها حرفا، وتبعد هذه المنطقة عن دمشق  بحدود 30 ك.م. وقد استولت إسرائيل على مناطق عدة منها: الحميدية، والحرية، وصولاً إلى  مدينة البعث والتي تتركز فيها مؤسسات الدولة السورية، إضافة إلى بلدة أم باطنة حيث قاموا بعمليات تفتيش. كما توغلت القوات الإسرائيلية مؤخراً إلى بلدة جملة التي تتبع إدارياً لمحافظة درعا؛ حيث قامت بعمليات تفتيش بحثاً عن أسلحة، وتعتبر جملة أولى بلدات ريف درعا الغربي التي تتصل بشكل مباشر مع أراضي الجولان المحتلة والحدود الإدارية لمحافظة الفنيطرة. كما أصدرت القوات الإسرائيلية في وقت سابق تحذيرات لأهالي جباثا الخشب أوفانيا والحميدية والصمدانية الغربية والقحطانية في محافظة القنيطرة بعدم مغادرة منازلهم، وصرح الأهالي بوجود قوات إسرائيلية في هذه المناطق. بينما طلبت من سكان بلدتي  الحميدية والحرية تسليم الأسلحة، ومغادرة المنطقة، حيث رفض بعض الأهالي مغادرة منازلهم ([30]).

 الضربات الإسرائيلية.. (من استهداف نوعي إلى تدمير الشامل)

يلحظ من خلال الجدول السابق أن الضربات الإسرائيلية توزعت بحسب بنك الأهداف كالتالي: استهداف البنية التحتية والمواقع العسكرية  (26 هدفاً، 50%)، خطوط النقل والمعابر الحدودية (11هدفاً، 20%)، قواعد وأهداف بحرية (4 أهداف، 8%)، المطارات ومنظومات الدفاع الجوي (8 أهداف، 15%). قيادات وعناصر الميليشيات الإيرانية (1%)، ومراكز بحوث علمية (4 أهداف، 6%). وقد توزعت تلك الأهداف بنسب متفاوتة على محافظات: دمشق وريفها، حمص،حماه، درعا، اللاذقية، طرطوس، دير الزور، الحسكة، القنيطرة. 

ومن خلال الأرقام السابقة وتسلسلها الزمني، يلحظ بأن ليلة سقوط النظام في دمشق بتاريخ الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024 شكلت نقطة تحول محورية في تطور أهداف وحجم التدخلات العسكرية الإسرائيلية في سورية، وكان لهذه اللحظة أهمية فاصلة في تطور  العمليات العسكرية الإسرائيلية، التي امتدت منذ قبيل إطلاق عملية "ردع العدوان" في السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وتطورت وفقاً لعدة مراحل موزعة على الشكل التالي:

المرحلة الأولى (ما قبل عملية ردع العدوان)

استهدفت الضربات الإسرائيلية، خلال هذه المرحلة، مواقع محددة ترتبط بشكل مباشر بالميليشيات الإيرانية وحزب الله، وركزت على خطوط إمدادها ونقاط تمركزها الحدودية ، كما طالت بعض المنشآت مثل مخازن الأسلحة، ومراكز الأبحاث في منطقة السفيرة بحلب، والرادارات في السويداء، فضلاً عن استهداف معابر حدودية حيوية كالمصنع والقصير، مع التركيز على شخصيات إيرانية وقادة من حزب الله في مناطق مثل السيدة زينب والمزة في العاصمة دمشق. كانت هذه الضربات محدودة بشكل عام لناحية نطاقها التدميري، إذ تمحورت حول استهدافات نوعية دون أن تؤدي إلى تغييرات استراتيجية .

المرحلة الثانية (إطلاق عملية "ردع العدوان)

خلال هذه المرحلة، ارتفع مستوى التوسع العملياتي الإسرائيلي ليشمل ضربات مركّزة على خطوط الإمداد الرئيسة، خاصة تلك التي تربط لبنان بسورية، في محاولة لمنع تحركات حزب الله وميليشيات إيران، عبر غارات متعددة على منطقة القصير في ريف حمص، ومعبر المصنع. شملت هذه المرحلة استهداف الثكنات العسكرية والقطع التي أخلاها نظام الأسد، مع تدمير مخازن الأسلحة في المناطق القريبة من الحدود الإسرائيلية، لا سيما في القنيطرة، ريف درعا، السويداء، دمشق وحمص، بما في ذلك اغتيال أحد المسؤولين لحزب الله قرب مطار دمشق الدولي. في هذا الوقت، تمكنت إسرائيل من تعطيل العديد من خطوط النقل والإمداد الخاصة بحزب الله، في وقت أعلن فيه مجلس الوزراء الإسرائيلي اتخاذ قرار بالتوغل في القنيطرة.

المرحلة الثالثة (بعد السيطرة على دمشق/سقوط الأسد)

اتسمت هذه المرحلة بتصعيد غير مسبوق في الضربات الجوية، مع تدمير شامل للمواقع العسكرية والإستراتيجية التي أخلتها مسبقاً قوات نظام الأسد، بما في ذلك الثكنات، ومراكز الأبحاث، والمطارات العسكرية، وإدارات الحرب الإلكترونية، والأسطول البحري. كما شملت الضربات تدمير الألوية القتالية بما تحويه من مدرعات وصواريخ، وتتراوح الضربات الإسرائيلية بين 250-332 غارة جوية استهدفت العديد من المواقع في المحافظات السورية:  دمشق، ودرعا، والسويداء، وحمص، وحماه، وحلب، ودير الزور، والحسكة، واللاذقية وطرطوس والقنيطرة([31])، وفقاً لما ذكرته وسائل إعلام إسرائيلية، فقد تمكنت هذه الغارات من تدمير مخازن الأسلحة الثقيلة والمعدات العسكرية بما في ذلك الدبابات والطائرات، ومراكز الرادارات، ومقرات الألوية الدفاعية، والأسطول البحري، ومراكز الأبحاث العسكرية.

ترافق هذا التصعيد، مع عمليات توغل برية، شملت بداية احتلال قوات إسرائيلية مواقع قوات نظام الأسد على قمة جبل الشيخ، تلاها عمليات توسع إلى المنطقة العازلة "منطقة فض الاشتباك" المرسمة بموجب اتفاقية عام 1974([32])، ثم إلى ما بعد المنطقة العازلة توغلاً في بعض قرى وبلدات محافظة القنيطرة. ويبدو أن الأهداف الإسرائيلية من هذا التوغل تشمل تحقيق عمق آمن داخل الأراضي السورية يمنع أي تحرك من مجموعات فصائلية أو محلية يسبب خرقاً أمنياً داخل هضبة الجولان، بينما تراقب إسرائيل باهتمام بالغ توجهات السلطات الجديدة في قدرتها على ضبط الفوضى الداخلية وتأمين الحدود.

وخلال المراحل السابقة، يعكس الموقف الإسرائيلي انتهازية منهجية للوضع الأمني والعسكري المتدهور في سورية لتعزيز مصالحها الاستراتيجية، كما يظهر في تصريحات رئيس وزرائها "بنيامين نتنياهو" بشأن "ضم الجولان إلى الأبد"، وتبرير تدخلاتها العسكرية بحماية أمنها القومي. وتعتمد إسرائيل في هذا السياق على ذرائع تتعلق بمنع وصول الأسلحة الأكثر خطراً إلى أيدي المعارضة المسلحة، التي تصف أفرادها بـ"المتمردين"، وعرقلة توسع خصومها الإقليميين، إيران وحزب الله، مع إرسال رسائل مطمئنة إلى المجتمع الدولي بأن إجراءاتها "مؤقتة ومحدودة". ورغم التطمينات الأخيرة إلا أن التوغل الإسرائلي ضمن محافظة القنيطرة لم يتوقف على الأرض، خاصة وسط تصريحات مقلقة لوزارة الدفاع الإسرائيلية التي طلبت من جيشها  الاستعداد للبقاء طوال فترة الشتاء داخل الأراضي السورية. كما لم يتوقف القصف الجوي الإسرائيلي لبعض المواقع حتى تاريخ إعداد هذا التقرير، إذ سجِلت اليومين الماضيين عدة استهدافات طالت محيط العاصمة دمشق وكذلك مطار خلخلة العسكري في محافظة السويداء.

وقد ترافق التصعيد الإسرائيلي مع انحياز تقليدي من الولايات المتحدة، التي تدعم إسرائيل بشكل مباشر، وتواصل التنسيق مع جماعات داخل سورية لضمان عدم استغلال الوضع الراهن من قبل "تنظيم الدولة" أو خصومها الإقليميين لتهديد أمن المنطقة، بما في ذلك أمن إسرائيل. بالمقابل، أبدى الاتحاد الأوروبي موقفاً دبلوماسياً متحفظاً، مكتفياً بإصدار بيان يدعو إلى احترام سيادة سورية ووحدة أراضيها، دون الإشارة الصريحة إلى إسرائيل، مما يعكس انحيازاً غير مباشر لإسرائيل([33]). أما إيران، فقد عبرت عن إدانتها للتحركات الإسرائيلية، التي عدّتها محاولة لتقويض نفوذها الإقليمي، مع انتقادها لصمت الغرب([34]). ومع ذلك، أظهرت لهجة أقل حدة، مما يعكس حالة من العجز والتراجع في تأثيرها على الوضع السوري.

على الصعيد الإقليمي، أصدرت بعض الدول العربية، مثل السعودية ومصر وقطر وتركيا والإمارات، بيانات تدين الانتهاكات الإسرائيلية وتطالب باحترام القانون الدولي ووحدة الأراضي السورية([35]). كما أصدرت لجنة الاتصال العربية بشأن سورية في 14 كانون الأول/ديسمبر، بياناً إثر اجتماعها أدانت عبره الهجمات الإسرائيلية والتوغل البري وخرق اتفاقية فض الاشتباك، مؤكد بأن الجولان عربية وعلى القوات الإسرائيلية الانسحاب منها ومن الأراضي التي توغلت فيها مؤخراً، مطالبة المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته، ولافتة بأن المرحلة دقيقة وتحتاج حوار وطني شامل في سورية وتكاتف الشعب بكل مكوناته. أما على المستوى الأممي، فقد أعرب المبعوث الأممي الخاص لسورية عن قلقه إزاء التصعيد الإسرائيلي، داعياً لوقف القصف واحترام السيادة السورية، لكنه لم يقدم أي خطوات عملية لاحتواء الوضع([36]). من جهة أخرى، غابت التصريحات الرسمية اللبنانية والفلسطينية، باستثناء حركة الجهاد الإسلامي التي أشادت بتضامن الشعب السوري مع القضية الفلسطينية وأدانت الهجمات الإسرائيلية([37]). ويعكس هذا المشهد عجزاً دولياً وإقليمياً عن مواجهة الأطماع الإسرائيلية، ما يترك سورية عرضة لمزيد من الانتهاكات في غياب ردع حقيقي.

أما على الصعيد المحلي، فقد صرح أحمد الشرع/الجولاني قائد العمليات العسكرية، أن "الناس منهكة من الحرب. لذا، البلاد ليست مستعدة لحرب أخرى، وهي لن تنخرط في حرب أخرى"([38]). ويعكس التصريح حالة الإرهاق العميقة التي يعاني منها المجتمع نتيجة الحروب والصراعات المستمرة. ويُظهر أن البلاد ليست مهيأة مادياً أو معنوياً أو عسكرياً لخوض نزاع جديد. كما يحمل التصريح دعوة ضمنية للابتعاد عن التصعيد، والتركيز على إعادة بناء الداخل قبل التورط في أي نزاعات أخرى.

بالمقابل أصدرت مجموعة من الأحزاب السياسية السورية، والتي كان أغلبها يندرج ضمن "الجبهة الوطنية التقدمية" بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، بياناً نددت فيه بالهجمات الإسرائيلية على سورية، مطالبة المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته. بينما شهدت بلدة حضر الحدودية الواقعة ضمن محافظة القنيطرة ويسكنها المكون الدرزي، اجتماعات لوجهاء البلدة وسكانها حول التطورات الأخيرة، عبر بعضهم خلالها عن قلقهم من التوجهات الجديدة للفصائل المسيطرة على دمشق ومن محيطهم في القرى والبلدات، خاصة وأن نظام الأسد استخدم البلدة سابقاً كنقطة هجوم على باقي البلدات الثائرة في محيطها، وضمن تلك الاجتماعات التي ظهر بعضها في فيديوهات مصورة، تم التلميح من البعض إلى "رغبة في الانضمام إلى أراضي الجولان المحتل في حال تصاعد التهديدات ضدهم". الأمر الذي يزيد من تعقيد الأوضاع على الحدود السورية الجنوبية ويترك الاحتمالات مفتوحة أمام مستقبل التدخلات الإسرائيلية وتوجهات السُلطة الجديدة في سورية، ومابينهما من آثار وتداعيات محتملة على مستوى الأمن القومي والمحلي.  

 


 

([1]) "استمرارا لتدمير إسرائيل مقدرات سورية العسكرية..."، المرصد السوري لحقوق الإنسان، 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/djWA7

([2]) "الاحتلال الإسرائيلي يهاجم أكثر من 250 هدفاً في سورية منذ سقوط الأسد"، العربية، 10 كانون الأول/ ديسمبر 2024،الرابط: https://bitly.cx/PGFw0

([3]) "غارات إسرائيلية استهدفت معابر حدودية بين سورية ولبنان بريف حمص"، تلفزيون سوريا، 06 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/W5MJZ

([4]) يوسف دياب، إسرائيل تقطع آخر المعابر بين لبنان وسورية... وضبط الحدود من ضبط الجبهات، الشرق الأوسط، 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024. الرابط: https://bitly.cx/g83Eu  

([5])" غارة إسرائيلية تستهدف سيارة على طريق مطار دمشق الدولي"،الجزيرة، 03 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط:  https://bitly.cx/amigW

(6) " اغتيال موفد "حزب الله" لدى قوات النظام السوري بغارة على دمشق"، تلفزيون سوريا، 04 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/eF6c

(7)  " إسرائيل تقصف مركز البحوث العلمية بدمشق"، الجزيرة،08 كانون الأول/ ديسمبر 2024،الرابط: https://bitly.cx/wyxQ

(8) "إسرائيل تقصف مركز البحوث العلمية بدمشق"، الجزيرة، 08 كانون الأول/ ديسمبر 2024،الرابط:  https://bitly.cx/Mo6mp

(9) "استمرارا لتدمير إسرائيل مقدرات سورية العسكرية"، المرصد السوري لحقوق الإنسان، 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/1CwuF

([10]) "إسرائيل تعلن استهداف "بنى تحتية" في سورية تستخدم لنقل أسلحة إلى حزب الله"، تلفزيون سوريا، 01 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/NG6nQ

([11]) "غارات إسرائيلية استهدفت معابر حدودية بين سورية ولبنان بريف حمص"، تلفزيون سوريا، 06 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/W5MJZ

  ([12])"إسرائيل تقصف مركز البحوث العلمية بدمشق"، الجزيرة، 08 كانون الأول/ ديسمبر 2024،الرابط: https://bitly.cx/Mo6mp

([13]) "طائرات الاحتلال الإسرائيلي تنفذ عشر غارات على القنيطرة وريف درعا"، تلفزيون سوريا، 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/HKVI8

([14]) "غارات جوية إسرائيلية تستهدف مستودعات لسلاح الديكتاتور “بشار الأسد” في ريف القلمون"، المرصد السوري لحقوق الإنسان، 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/zocVl

([15]) "استمراراً لتدمير إسرائيل مقدرات سورية العسكرية"، المرصد السوري لحقوق الإنسان، 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/1CwuF  

([16]) " طائرات الاحتلال الإسرائيلي تنفذ عشر غارات على القنيطرة وريف درعا"، تلفزيون سوريا، 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/HKVI8

([17] ( "الطائرات الإسرائيلية تواصل غاراتها في درعا.. 4 مواقع جديدة تحت القصف"، تلفزيون سوريا، 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/qimGJ

([18]) "استمراراً لتدمير إسرائيل مقدرات سورية العسكرية"، المرصد السوري لحقوق الإنسان ،12 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/1CwuF  

([19]) المصدر السابق.

  ([20])"غارات إسرائيلية تستهدف أسراب طائرات ورادارات في مطار دير الزور"، المرصد السوري لحقوق الإنسان، 10 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/337gx

 ([21])"إسرائيل تقصف مركز البحوث العلمية بدمشق"، الجزيرة، مصدر سبق ذكره.

 ([22])"استمراراً لتدمير إسرائيل مقدرات سورية العسكرية"، المرصد السوري لحقوق الإنسان ،مصدر سبق ذكره.

([23]) " طائرات الاحتلال الإسرائيلي تنفذ عشر غارات على القنيطرة وريف درعا"، تلفزيون سوريا، 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/HKVI8

([24])  "استمراراً لتدمير إسرائيل مقدرات سورية العسكرية"، المرصد السوري لحقوق الإنسان، مصدر سبق ذكره.

([25])  المصدر السابق.

([26])"غارات إسرائيلية تستهدف أسراب طائرات ورادارات في مطار دير الزور"، المرصد السوري لحقوق الإنسان، 10 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/337gx

([27])  "استمراراً لتدمير إسرائيل مقدرات سورية العسكرية"، مصدر سبق ذكره.  

 ([28])"الأسطول السوري دُمر.. سفن إسرائيلية قصفته تحت جنح الليل"، العربية، 10 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/cnR62

([29]) " إسرائيل تحتل جبل الشيخ وتحذر سكان 5 بلدات حدودية سورية"، الجزيرة، 08 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/W8N5

 ([30])مصادر خاصة بمركز عمران للدراسات الاستراتيجية في مدينة القنيطرة.

 ([31])"استمراراً لتدمير إسرائيل مقدرات سورية العسكرية"، المرصد السوري لحقوق الإنسان، 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/djWA7

([32]) "إسرائيل تحتل جبل الشيخ وتحذر سكان 5 بلدات حدودية سورية"، الجزيرة، 08 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/W8N5

([33]) " الاتحاد الأوروبي يدعو كافة الدول لاحترام سيادة سورية ووحدة أراضيها"، وكالة الأناضول، 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/RLqgn

([34]) "إيران تدين عمليات "العدوان والاحتلال" الإسرائيلي في سورية"، وكالة الأناضول، 10 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/Vluf

([35])  "إدانات عربية ودولية واسعة للعدوان الإسرائيلي على الأراضي السورية"، قناة العالم، 10 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/Wca45

 ([36]) "بيدرسون يحذر من عدم إشراك مختلف الأطراف بحكم سورية"، الجزيرة، 10 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/lh0N

 ([37])"حركة الجهاد: عدوان إسرائيل اعتداء صريح على الشعب السوري واستغلال للأوضاع"، الجزيرة، 12 كانون الأول/ديسمبر 2024، الرابط: https://bitly.cx/naLi

([38])" الجولاني: سورية لن تنخرط «في حرب أخرى»"، الشرق الأوسط، 1، 12، 2024، الرابط: https://bitly.cx/6wBZ3

التصنيف تقارير خاصة

شهدت سورية منذ بداية الثورة في عام 2011 حالة من الاضطراب السياسي والعسكري، تمثلت في التشتُّت والانقسام الذي عانت منه القوى المعارضة لنظام الأسد. هذا التشتت، الذي شمل الفصائل العسكرية والهيئات السياسية، أسهم في إضعاف قدرة المعارضة على تحقيق أهداف الثورة، وجعلها تواجه تحديات كبيرة على مختلف الأصعدة. ومع مرور الوقت، برزت “هيئة تحرير الشام” كقوة مهيمنة في شمال غرب سورية، حيث استطاعت تطوير نفسها عسكريًا وسياسيًا رغم التصنيف الإرهابي لها.

مع تصاعد الأحداث، أصبح مشهد الصراع السوري أكثر تعقيدًا، حيث برزت تحولات استراتيجية في موقف “هيئة تحرير الشام”، التي تبنّت نهجًا براغماتيًا لبناء دولة أو شبه دولة في المناطق التي تسيطر عليها. في سياق هذا التحول، كانت عملية “ردع العدوان” نقطة فارقة في تطور المعارضة، حيث شهدت مرحلة جديدة من التنسيق العسكري والسياسي بين الفصائل، متجاوزة الانقسامات السابقة، وتركزت جهودها على استعادة الاستقرار في المناطق المحررة وتحقيق نموذج حكم متماسك.

ومع تحول مسار الصراع، كان تحرير دمشق أحد أبرز الأحداث التي شكلت نقطة تحول محورية، حيث انهار النظام بعد تدمير دفاعاته الأساسية، ما فتح الطريق أمام مرحلة جديدة من التحديات التي تواجهها المعارضة في إدارة الدولة السورية الجديدة. هذا السياق يشكّل اختبارًا حقيقيًا في بناء الدولة من خلال تحكمها في المؤسسات الحكومية والقدرة على تقديم الخدمات الأساسية للسكان، وسط الأزمات الإنسانية والاقتصادية التي يعاني منها الشعب السوري.

فصائل المعارضة السورية: تشتُّت وانقسام

تمحورت المشكلة الرئيسية للقوى المعارضة على مدار الـ 13 عامًا الماضية في عدم وجود تنسيق فعّال، سواء بين الفصائل المسلحة أو بين الهيئات السياسية، ما نتج عنه ضعف في الأداء المشترك وفشل في تحقيق أهداف الثورة.

في البداية، تجسّد هذا التشتت في تعدد الجماعات المسلحة، وعدم وجود قيادة موحدة قادرة على تنسيق الجهود بين مختلف الفصائل. هذا التشرذم جعل المعارضة السورية تتسم بالفوضوية، حيث كانت كل جماعة تعمل بشكل منفصل، دون أن تكون هناك آلية فعالة للانسجام أو التنسيق فيما بينها.

أدّى التشظي الواسع إلى تصاعد الخلافات والانقسامات بين الفصائل. لا سيما أن هذه الجماعات كانت تتبنى توجهات أيديولوجية متعددة، ما أسهم في تنامي الصراعات الداخلية بدلًا من التوحد لمواجهة نظام الأسد، ناهيك عن تداخل المصالح الإقليمية والدولية الذي لعب دورًا كبيرًا في تعميق هذا التشتت، حيث ارتبطت بعض الفصائل بداعمين خارجيين ذوي مصالح متباينة، ما ساهم في زيادة تفكيك صفوف المعارضة.

شكّل ارتباط بعض الفصائل بأنظمة إقليمية ودولية تهديدًا أيديولوجيًا وسياسيًا لبعضها البعض، مع بروز تدخلات أجنبية معقدة، أبرزها التدخل الروسي الذي شكّل نقطة تحول حاسمة في الحرب السورية، ما منح نظام الأسد تفوقًا استراتيجيًا على الأرض، على حساب السيطرة العسكرية لقوى المعارضة السوري، حيث فقدت حوالي 70% من المناطق التي كانت تحت سيطرتها.

شكلت خسارة المدن والمناطق الحيوية مثل حلب الشرقية عام 2016 والغوطة الشرقية عام 2018، ضربة موجعة أثّرت على مصداقية المعارضة وحجم قوتها العسكرية. تلك الخسائر أظهرت مستوى الضعف في التنسيق العسكري والسياسي، الأمر الذي أسهم في تعزيز موقف النظام وحلفائه سياسيًا، كما أن انتشار جماعات متطرفة مثل “داعش” و”جبهة النصرة” في بعض المناطق ساهم في تشويه صورة المعارضة في الداخل والخارج، ما جعلها تفقد جزءًا من دعمها الشعبي والدولي.

وإلى جانب الشق العسكري، كان فشل المعارضة السورية في بناء كيان سياسي موحد من أبرز العوامل التي أسهمت في تراجعها، حيث فشلت جميع محاولات توحيد صفوف المعارضة تحت جسم سياسي جامع. ورغم جهود المجتمع الدولي لتأسيس كيانات مثل “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” و”هيئة التفاوض”، فإن هذه المحاولات باءت بالفشل بسبب الانقسامات المتعددة على الصعيد السياسي والأيديولوجي، وانفكاك الارتباط بينها وبين الفواعل المحلية.

عجز المعارضة عن بناء رؤية سياسية موحدة ساهم أيضًا في تراجع دورها في المحافل الدولية، ما جعلها غير قادرة على التأثير في مسار الأحداث. في وقت كانت القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة، قد بدأت في إعادة توجيه أولوياتها بعيدًا عن دعم المعارضة السورية.

أبرز التحولات الدولية تجسد في قرار إدارة ترامب عام 2017 بوقف برنامج تسليح المعارضة المعتدلة، وهو ما أضعف قدرتها على مقاومة النظام. وعزّز هذا الواقع حقيقة أن المؤتمرات الدولية مثل أستانا وسوتشي قد عملت على تثبيت مناطق خفض التصعيد، وهو ما تمّت ترجمته عمليًا إلى تجميد حالة النزاع لصالح نظام الأسد. تضاف إلى ذلك التغيرات في المواقف الإقليمية لبعض الدول الداعمة للمعارضة، كالسعودية والإمارات، والتي ساهمت في عزلها سياسيًا، وزادت من صعوبة موقفها على الساحة الدولية.

تحولات “هيئة تحرير الشام”: بناء القوة المؤسسية وتحديات الاستقلالية

في ظل هذه البيئة المضطربة، برزت “هيئة تحرير الشام” كلاعب رئيسي في شمال غرب سورية، حيث استطاعت رغم نشأتها من رحم تنظيم القاعدة، أن تبني نفسها بشكل تدريجي على الصعيدَين العسكري والسياسي.

رغم تصنيفها كمنظمة إرهابية، تمكنت “تحرير الشام” من إجراء تحولات استراتيجية جعلتها تفرض نفسها كقوة مهيمنة في المناطق التي تسيطر عليها. كان أهم هذه التحولات هو تبني نهج براغماتي يعتمد على بناء دولة أو شبه دولة في مناطق سيطرتها، إذ أقدمت على إنشاء “حكومة الإنقاذ السورية” في عام 2017، التي عملت على تكوين إدارة مدنية منظمة تشمل مؤسسات حكومية، محاكم، ونظامًا ماليًا دقيقًا، بالإضافة إلى ضبط أمن داخلي عالي المستوى.

رغم أن هذه الخطوة قد اُعتبرت رمزية في بعض الأحيان، فإنها منحت الهيئة درجة من الشرعية المحلية، وحسّنت قدرتها على ضبط الحياة المدنية والمجتمعية في المناطق الخاضعة لسيطرتها.

عسكريًا، عززت “هيئة تحرير الشام” من قدراتها من خلال تحديث قواتها، إذ قامت بإعادة هيكلة جيشها على أساس الانضباط العسكري الصارم. منها تشكيل كلية عسكرية وكلية شرطة، تم تبني تقنيات حديثة، بما في ذلك الطائرات المسيَّرة التي أحدثت فارقًا كبيرًا في موازين القوة العسكرية، وأدّت إلى تحسين تكتيكات الهيئة في المعارك مع قوات النظام وحلفائه. هذا التطور العسكري مكّن الهيئة من فرض هيمنتها في بعض المناطق، وزيّن صورتها كقوة ميدانية قادرة على تغيير مجريات الحرب لصالحها.

من الناحية الاقتصادية، واجهت “هيئة تحرير الشام” تحديات كبيرة بسبب ندرة الموارد في المنطقة، لكنها استطاعت تخطي هذه العقبات عبر فرض السيطرة على المعبر الحدودي مع تركيا، وإحداث معبر مع مناطق غصن اليزيتون لجباية الضرائب والرسوم الجمركية، بالإضافة إلى احتكارات واسعة، ما أعطاها إمكانية تمويل عملياتها العسكرية والإدارية بشكل مستقل، وعزز قوتها المالية وتمكينها من ترسيخ سلطتها في المناطق الخاضعة لها.

في مراحلها الأخير، كادت الاضطرابات الشعبية ضد “هيئة تحرير الشام” التي نظمها “حزب التحرير” أن تغير المشهد المحلي في إدلب كليًا، حيث ارتبطت الاحتجاجات في بعض مناطق إدلب وريف حلب الغربي بعوامل محلية ومناطقية، مثل التهميش الذي تعرضت له مدينة الأتارب، ما دفع إلى خروج تظاهرات ضد الجولاني بعد إطلاق حملة “لا لتهميش الأتارب”.

توزُّع الناشطين وكثافة السكان لعبا دورًا في انتشار التظاهرات، وبينما انتشرت في إدلب بشكل كبر غابت عن مناطق جبل الزاوية لضعف عدد السكان وقلة الناشطين. في المقابل، غابت المظاهرات عن مناطق مثل الدانا وحارم وسلقين، بسبب زيادة الوجود الأمني لـ”هيئة تحرير الشام” أو ضعف الحراك المدني.

تمكن الجولاني من تعزيز قدرته على ضبط الواقع الداخلي للهيئة والمناطق الخاضعة لسيطرتها، بعد مقتل القيادي أبو ماريا القحطاني، حيث شكّل مقتله نقطة تحول في تسوية بعض التوترات الداخلية داخل الهيئة، ما أتاح للجولاني تعزيز سلطته وزيادة قبضته الأمنية على المناطق التي كانت تشهد بعض الفوضى والاحتجاجات.

استطاع الجولاني استثمار هذه الفترة لزيادة تأثيره، من خلال اتخاذ إجراءات أمنية مشددة ضد أي تحركات معارضة داخل مناطق نفوذه. كما عززت الهيئة من عملياتها الاستخباراتية والمراقبة، ما جعل من الصعب تنظيم تظاهرات واسعة أو حركات احتجاجية ضد سياسات الهيئة، وبالتالي خفضت فرص تصاعد أي حراك معارض لها.

تمكنت “هيئة تحرير الشام” من توحيد القوى المحلية تحت قيادتها، حيث عملت على تحجيم تأثير الفصائل المنافسة وتعزيز دورها كقوة مركزية في المنطقة. ورغم الاستمرار في مواجهة الضغوط السياسية والعسكرية، فإن الهيئة استطاعت تقديم نفسها كفاعل أساسي في الحرب السورية، يملك من القوة ما يسمح له بإعادة تشكيل الواقع الميداني والسياسي في الشمال السوري.

“ردع العدوان” ومرحلة الفصل

تمثل عملية “ردع العدوان” نقطة تحول رئيسية في الصراع السوري، حيث عكست قدرة المعارضة المسلحة على الجمع بين الحسم العسكري والإدارة السياسية لتحقيق أهداف استراتيجية تتجاوز المكاسب الميدانية.

على الصعيد العسكري، أظهرت العملية درجة عالية من التنظيم والتنسيق، إذ تمكنت غرفة العمليات المشتركة بقيادة “هيئة تحرير الشام”، برئاسة أبو محمد الجولاني، من تحقيق انضباط فصائلي غير مسبوق.

غرفة العمليات هذه جمعت تحت مظلتها العديد من الفصائل، مثل “حركة أحرار الشام” و”الجبهة الوطنية للتحرير”، ما ساهم في تجاوز الانقسامات التي كانت تعيق الفاعلية القتالية في الماضي. فالمعركة الأخيرة على جبهات إدلب وحلب وحماة، أثبتت أن التعاون الميداني يمكن أن يخلق قوة تكتيكية فعّالة قادرة على مواجهة قوات نظام الأسد المدعومة من حلفائها الإقليميين والدوليين.

أحد أبرز العوامل التي عززت نجاح العملية، كان الاستخدام المبتكر للطائرات المسيَّرة، التي أدارتها “كتيبة شاهين”. هذه المسيَّرات لم تكن مجرد أدوات استطلاع، بل أصبحت وسيلة رئيسية لتنفيذ ضربات دقيقة ضد أهداف النظام، ما مكّن الفصائل من تحقيق تفوق تكتيكي ملحوظ.

إضافة إلى ذلك، اعتمدت القوات العسكرية على تقنيات متقدمة أخرى، مثل المناظير الليلية والأسلحة الموجهة لتوسيع قدراتها الميدانية، ما ساهم في تحسين أدائها في العمليات الليلية والصراعات الممتدة، علاوة على ذلك لعب الانضباط العسكري دورًا محوريًا في نجاح العملية، فالمقاتلون في صفوف الفصائل أظهروا انضباطً عسكريًا عاليًا خلال المعارك، حيث التزموا بالقوانين التنظيمية والتعليمات العسكرية.

انعكس الانضباط  ضمن قوات “ردع العدوان” على تنفيذ العمليات بشكل منظم، ما ساعد في تعزيز التنسيق بين القوات المختلفة وحسن توزيع المهام على الجبهات. كان هذا الانضباط حجر الزاوية في التنسيق السلس بين كتل العسكرية المختلفة، كما أنه أتاح للمقاتلين القيام بمناورات معقدة وتنفيذ ضربات دقيقة ضد قوات النظام.

الانغماسيون، الذين شكلوا جزءًا أساسيًا من العمليات القتالية، أظهروا قدرة استثنائية على ضرب خطوط العدو بشكل مفاجئ وفعّال، خاصة على جبهتَي حلب وحماه، من خلال تكتيكات الاقتحام السريع والضربات المباغتة.

استطاع هؤلاء المقاتلون إرباك قوات النظام، ما خلق فجوات في دفاعات النظام وساهم في تعطيل خطوط الإمداد والاتصال. كانت هذه العمليات تتطلب مستوى عاليًا من التدريب والانضباط، حيث كان الانغماسيون يتعرضون لمخاطر كبيرة من أجل إحداث تأثير مباشر على تقدم القوات النظامية.

سياسيًا، لم تقتصر أهداف عملية “ردع العدوان” على كسب المعارك، بل سعت إلى ترسيخ نموذج للحكم المؤسساتي في المناطق المحررة حديثًا، من خلال إعادة تفعيل المؤسسات الحكومية بشكل منظم ودون إقصاء للموظفين السابقين للنظام، حيث اختارت القيادة نهجًا متسامحًا يهدف إلى بناء الثقة بين السكان المحليين. هذا النهج كان جزءًا من استراتيجية أوسع لتحقيق الاستقرار طويل الأمد، حيث تم تفادي الأعمال الانتقامية التي قد تثير اضطرابات مجتمعية.

النجاح في السيطرة على ثاني أكبر مدينة في سورية تحول إلى حالة ترميزية لإعادة فرض السيادة الوطنية، لكنه جاء مشفوعًا بخطوات عملية لتعزيز شرعية القيادة، منها الالتزام بمبدأ “الشرعية الخدمية”. عبر توفير الخدمات الأساسية للسكان، مثل الخبز والوقود، إضافة إلى ضبط الأمن الداخلي، نجحت القيادة في كسب التأييد الشعبي، ما عزز من مكانة المعارضة كبديل مقبول للنظام السوري.

الأبعاد الإنسانية والاقتصادية: بناء الاستقرار في خضمّ النزاع

رغم أن عملية “ردع العدوان” ركزت في الأساس على الحسم العسكري، فإن القيادة أدركت أن الاستقرار لا يمكن تحقيقه دون معالجة الاحتياجات الإنسانية والاقتصادية للسكان المحليين، فالمناطق المحررة عانت من أزمات متعددة نتيجة الصراع الطويل، بما في ذلك نقص الخدمات الأساسية وتدهور البنية التحتية.

في هذا السياق، أظهرت القيادة مرونة كبيرة في التعامل مع الموارد المحدودة، حيث تبنّت استراتيجية فعّالة لإعادة توزيع الموارد المحلية لتلبية احتياجات السكان، ما ساهم في تفادي سيناريوهات الفوضى الاقتصادية التي عادةً ما تصاحب انهيار المؤسسات في مناطق النزاع.

تمثلت الخطوة الأولى في تحسين الأمن الداخلي لضمان استقرار الحياة اليومية للسكان، حيث نجحت الفصائل في إنشاء نظام أمني يعتمد على ضبط الموارد البشرية وتفعيل الشرطة المحلية، هذه الإجراءات كانت ضرورية لتجنب انتشار الفوضى وتعزيز الثقة بين السكان والقيادة.

في الجانب الاقتصادي، واجهت القيادة تحديات هائلة بسبب ضعف البنية التحتية والتمويل. رغم ذلك، تمكنت من تأمين احتياجات أساسية للسكان، مثل المواد الغذائية والمحروقات، ما خلق بيئة مستقرة ساعدت على تحسين نوعية الحياة في المناطق المحررة.

هذا التوجه الخدمي لم يكن مجرد استجابة لحاجات السكان، بل كان جزءًا من استراتيجية شاملة لكسب القلوب والعقول، حيث أدركت القيادة أن النجاح العسكري لن يكون له قيمة ما لم يصاحبه رضا شعبي واسع.

كان للدور الإقليمي، خصوصًا الدعم التركي، عاملًا حاسمًا في نجاح هذه الجهود. رغم غياب الدعم الدولي المباشر، حيث ساهمت تركيا في تعزيز قدرات الفصائل من خلال توفير تقنيات حديثة ودعم لوجستي غير معلن وسياسي، ما أتاح للمعارضة فرصة لتحسين أدائها العسكري والاقتصادي.

على الصعيد الإنساني، حرصت القيادة على تقديم صورة متسامحة ومتماسكة تعكس رؤية جديدة لإدارة التنوع الطائفي والديني في سورية. في هذا السياق، أظهرت تعاملًا إيجابيًا مع المجتمعات الشيعية والمسيحية في المناطق المحررة، كمسحيي مدينة حلب، وسكان نبل والزهراء، ما ساعد على تهدئة التوترات الطائفية التي كانت تؤجّج الصراع.

هذا النهج لم يقتصر على تحسين العلاقات مع المكونات المحلية، بل ساهم أيضًا في تعزيز صورة المعارضة أمام المجتمع الدولي كقوة جامعة قادرة على إدارة التنوع بفعالية.

بذلك، تكون  عملية “ردع العدوان” قد حققت نموذجًا استثنائيًا لإدارة الأزمات في بيئة سياسية واجتماعية معقدة. من خلال الجمع بين الحسم العسكري، الحنكة السياسية، والإدارة المجتمعية، نجحت العملية في تحقيق أهداف متعددة الأبعاد تجاوزت حدود المواجهة العسكرية المباشرة مع نظام الأسد.

أثبتت التجربة أن النجاح في مناطق النزاع لا يقتصر على التفوق الميداني، بل يتطلب استراتيجية شاملة تعالج الاحتياجات الإنسانية، تعزز الشرعية السياسية، تبني توافقات مجتمعية طويلة الأمد، التركيز على تقديم الخدمات الأساسية، تعزيز الأمن، واحترام التنوع الديني والطائفي كان حجر الزاوية في هذا النموذج.

تحرير دمشق: “ردع العدوان” واختبار الدولة

إن ما أنجزته عملية “ردع العدوان” في مراحلها الأولى -سيطرتها على كامل محافظة حلب-، يمثل تحولًا استراتيجيًا بالغ الأهمية على الصعيدَين العسكري والسياسي. فقد أسفرت العمليات العسكرية الناجحة عن كسر خطوط الدفاع الأخيرة في حماة، ما أدّى إلى تمدد سيطرة المعارضة على مناطق واسعة، وأسهم في تصدع نظام الأسد وجيشه بشكل غير مسبوق.

فتح هذا التقدم العسكري المباغت جبهات أخرى في درعا والسويداء وشرق حمص، وهو ما هيَّأ الطريق أمام تحرير دمشق، نقطة القلب لنظام الأسد. مع تحرير العاصمة، انهار النظام رغم كل محاولاته البائسة في الصمود، ليجد رأس النظام نفسه في نهاية المطاف هاربًا، بعد أن فشل في تنفيذ أي من خطواته العسكرية والسياسية الأخيرة.

أدّى هذا التحرير إلى حالة من الفوضى الكبيرة في دمشق، حيث شهدت المدينة عمليات سطو وسرقة نفّذتها مجموعات صغيرة من بعض السكان الذين استفادوا من الانفلات الأمني. مع ذلك، كانت هناك خطوات هامة في مواجهة هذا الوضع، إذ قامت “إدارة العمليات العسكرية” بتنسيق إجراءات عملية لاستعادة الاستقرار.

تمثلت أولى خطواتها بالاتصال برئيس مجلس الوزراء السابق للحفاظ على الوزارات والمؤسسات الحكومية، كما تم التنسيق مع البعثات الدبلوماسية للبقاء في عملها، وهو ما ساهم في تجنب حالة الفراغ السياسي، وضمان استمرارية بعض المؤسسات الحكومية الحيوية.

كانت هذه الاستراتيجية بمثابة اختبار حقيقي لإمكانية التنسيق والعمل المنظم في ظل الظروف الصعبة، حيث تم العمل على تأمين المؤسسات الحكومية والسيطرة على الأوضاع الأمنية. هذا التماسك الذي أظهرته “غرفة العمليات العسكرية “ساعد في فتح آفاق جديدة للاستقرار، وكان له دور فاصل في تعزيز إمكانية الدعم الدولي لإعادة بناء الدولة السورية والمجتمع.

كان هذا الدعم حيويًا في مساعي تحقيق السلم الأهلي، وهو ما ظهر في تغيُّر المواقف الدولية، من دول إقليمية ودولية ومنظمات دولية، التي أظهرت استعدادها لدعم المرحلة الانتقالية في سورية.

في هذا السياق، عملت قوات المعارضة على ضبط الأمن الداخلي في دمشق التي كانت تعاني من التشتت والفوضى، عبر سحب السلاح من المدنيين وضمان أمن الأحياء. إلا أن هذا الاستقرار الداخلي لم يكن خاليًا من التحديات، حيث نشطت “إسرائيل” على الجبهة الجنوبية، وقامت بغارات جوية استهدفت أكثر من 100 موقع عسكري في محيط العاصمة، ما يعكس تعقيد الوضع الإقليمي وتأثير القوى الخارجية على مجريات الأحداث في سورية.

تحديات وفرص

في إطار الجهود المبذولة للحفاظ على المؤسسات الحكومية السورية بعد انهيار النظام، قامت قيادة “غرفة العمليات العسكرية” بتكليف الحكومة السورية السابقة بقيادة الجلالي للمساعدة في تنظيم المرحلة الانتقالية.

وبعد يومين من هذه الخطوة، أعلنت القيادة العامة تكليف محمد البشير رئيس حكومة الإنقاذ في إدلب، بتشكيل حكومة مؤقتة لإدارة شؤون دمشق لمدة 3 أشهر تنتهي في 1 مارس/ آذار 2025، وقد أخذ البشير معه وزراء حكومته من إدلب لاستلام مهامهم في الوزارات بدمشق، في خطوة تهدف إلى إعادة تنظيم الجهاز الحكومي وتعزيز استقرار البلاد في هذه المرحلة الحرجة.

لن تكون مهمة الحكومة الجديدة سهلة وإنما ستواجه تحديات جمّة لا يمكن حصرها، إلا أنه يمكن تحديد أكثرها وضوحًا في هذه المرحلة، أهمها:

إدارة الدولة بشكل شامل

ستكون مهمة الحكومة الجديدة في إدارة سورية بشكل موحد أمرًا بالغ الصعوبة في ظل تنوع المكونات الطائفية والسياسية، في ظل غياب إشراك جميع الفئات والمكونات في عملية إعادة البناء السياسي والاجتماعي، وهو ما يفاقم التحدي.

بعض الفصائل أو المكونات قد تجد أن مصالحها مهددة نتيجة هذه العملية، ما قد يؤدي إلى معارضتها أو مقاومتها لهذا التوجه، خاصة إذا شعرت أن سياساتها أو توجهاتها قد تتأثر سلبًا في أعادة بناء الجيش والقوات المسلحة.

إعادة بناء الجيش والقوات المسلحة

تعرض الجيش السوري لتدمير شبه كامل بسبب الهجمات العسكرية الإسرائيلية المستمرة، فضلًا عن تفكُّك قوى الأمن الداخلي. إعادة بناء هذه المؤسسات الحيوية ستكون عملية طويلة ومعقدة تحتاج إلى تأهيل ضباط وجنود، فضلًا عن إصلاح الأنظمة الأمنية لضمان الحفاظ على الأمن الوطني.

بقاء رموز النظام السابق في الحياة السياسية والدبلوماسية

تواجه الحكومة الجديدة معضلة في مسألة بقاء رموز النظام السابق في المناصب الدبلوماسية والسياسية. الحكومة أمام خيارَين: إما إبقاء هؤلاء الأشخاص في المحافل الدولية لما لديهم من خبرة، وإما استبدالهم بعناصر جديدة قد تفتقر إلى الكفاءة الدبلوماسية، ما سيؤثر على قدرة الحكومة الجديدة على بناء علاقات دولية قوية.

إعادة هيكلة الفصائل العسكرية

توحيد الفصائل العسكرية المنتشرة في مختلف مناطق سورية تحت قيادة وزارة الدفاع يمثل تحديًا أمنيًا، فضلًا عن ضرورة جمع الأسلحة من المدنيين، فإن الوضع العسكري المعقد سيزيد من صعوبة هذه المهمة، ما يتطلب تنسيقًا عالي المستوى بين الفصائل المختلفة لضمان انضباط الجيش وتجنب أي صراعات داخلية.

العدالة الانتقالية ومحاسبة مجرمي الحرب

مشكلة العدالة الانتقالية تظل عقبة رئيسية أمام الحكومة الجديدة، حيث يتعين محاسبة العديد من الشخصيات المتورطة في جرائم ضد الإنسانية خلال فترة حكم النظام السابق. إرساء العدالة في ظل انهيار النظام ووجود مئات المتورطين سيكون عملية صعبة ومعقدة من الناحية القانونية والسياسية.

التدخلات الأجنبية وتضارب المصالح الدولية

تواجد القوات الأجنبية في سورية، سواء كانت روسية أو أمريكية أو تركية، يشكل تهديدًا لاستقلالية القرار الوطني. ستواجه الحكومة الجديدة ضغوطًا من هذه القوى الأجنبية التي تسعى لتعزيز مصالحها في الساحة السورية، وسيكون من الضروري الحفاظ على سيادة سورية بينما تتعامل مع التحديات الناتجة عن هذه التدخلات الدولية.

تتمثل الفرص المتاحة أمام الحكومة الجديدة في عدة جوانب مهمة، تساهم في تحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي في البلاد.

أولًا، توفر الجغرافيا السورية وإمكانيات التوسع نحو الشرق، ما يتيح الوصول إلى موارد حيوية مثل النفط والغاز، بالإضافة إلى إمكانية تعزيز الاستثمار الزراعي في المناطق الخصبة. كما أن فتح المعابر الحدودية سيعزز فرص جذب رؤوس الأموال الأجنبية، ما يساهم في دعم الاقتصاد السوري.

ثانيًا، هناك احتمال كبير في رفع العقوبات الأمريكية والغربية عن سورية بعد تغيُّر المعطيات الميدانية والسياسية في سورية، وهو ما قد يساهم في انتعاش اقتصادي كبير، ويؤسس لمرحلة جديدة من التعاون الدولي لإعادة إعمار البلاد.

من جهة أخرى، يمثل خروج إيران من المنطقة نقطة تحول مهمة في سورية، من شأنه أن يسهم في تسريع انسحاب القوات الأجنبية من البلاد، وبالتالي يعتبر مؤشرًا على قدرة الحكومة الجديدة في مكافحة الإرهاب وحماية السيادة الوطنية.

إضافة إلى ذلك، يحظى التأييد الدولي الواسع للحفاظ على استقرار ووحدة الأراضي السورية بتأثير إيجابي في تعزيز الاستقرار السياسي في البلاد، ما يمهّد لإعادة بناء سورية بعيدًا عن التدخلات الأجنبية.

ختامًا، يمكن التأكيد على أن الصراع السوري قد شهد تحولات استراتيجية عميقة، أثّرت بشكل كبير على الأوضاع العسكرية والسياسية في البلاد. لقد نجحت “هيئة تحرير الشام” في تعزيز حضورها وتوسيع نفوذها، ما أدّى إلى تعديل موازين القوى المحلية، وجعلها طرفًا رئيسيًا في المعادلة العسكرية والسياسية، رغم التصنيفات الدولية التي تضعها في خانة التنظيمات الإرهابية.

أسفر هذا الصراع عن مشهد معقد من القوى المتنازعة، وهو ما يعكس الحاجة الملحّة إلى مقاربة شاملة لحلّ النزاع، تقوم على إعادة بناء الهياكل السياسية والأمنية في سورية بما يتماشى مع تطلعات الشعب السوري، ويساهم في تحقيق الاستقرار والسلام المستدامَين.

ورغم الصعوبات المستمرة في إتمام التسوية السياسية، فإن التغيرات التي شهدتها سورية تؤكد على ضرورة العمل المشترك بين مختلف الأطراف، وتدعو إلى تكثيف الجهود من أجل التوصل إلى حل شامل يضمن استقرار البلاد، ويحقق العدالة الاجتماعية والتنموية لجميع السوريين.

المصدر: نون بوست

https://www.noonpost.com/276484/

التصنيف مقالات الرأي
الجمعة, 29 تشرين2/نوفمبر 2024 20:05

"ردع العدوان": الانتقال من الدفاع للهجوم

تمهيد

في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، بدأت عملية "ردع العدوان" التي أطلقتها غرفة "إدارة العمليات العسكرية" في إدلب تجاه مدينة حلب محرزةً تقدُّماً سريعاً من عدة محاور، ليدخل النزاع السوري في مخاض جديد، سينتج عنه قواعد جديدة مع حالة عدم يقين أو انتهاء لاتفاق خفض التصعيد وآليات وقف إطلاق النار فعلياً.

أعلنت غرفة العمليات عن أهداف محدودة تتمثل ب"ردع العدو" وثنيه عن استهداف مناطق شمال غرب سورية بعد التصعيد الأخير من قبل النظام وحلفائه ضد شمال غرب سورية وإعادة المهجرين إلى قراهم([1])، إلا أنَّ سرعة انهيار الصفوف الدفاعية للنظام – على الأقل حتى لحظة إعداد التقدير – أتاح للفصائل التقدُّم بشكل غير متوقع والاستحواذ على أكثر من 60 بلدة وموقع، بينها نقاط ذات أهمية استراتيجية كالفوج 46، ومركز البحوث العلمية، ومواقع أخرى على خط ال (إم 5)، بل والدخول إلى عدة أحياء غرب حلب.

 وبالأخذ بعين الاعتبار أن تصعيد النظام وحلفائه ليس الأول من نوعه على مدار السنوات الأخيرة، وبأنَّ الضربات الجوية أو الاشتباكات أو العمليات "الانغماسية" لم تتوقف على مدار السنوات الماضية، وبأنَّه على الرغم من تفاهمات وقف إطلاق النار إلا أنَّ البيئة المحلية السورية لطالما احتفظت بكمون داخلي لعودة الصراع قيَّدته اتفاقات أستانا بشكل رئيسي؛ فإن توقيت المعركة نابع عن تقييم للبيئة الإقليمية وانعكاسها على الخارطة السورية.

دلالات التوقيت: العوامل الداخلية والخارجية

قبل الإجابة عن التوقيت الخاص بالعملية والظروف التي أعادت المنطقة لما قبل آذار 2020، والتي كانت عبارة عن مخاض لرسم حدود النفوذ لكل فاعل من الفواعل في مناطق خفض التصعيد، يجدر التطرُّق للعوامل الذاتية الكامنة التي لعبت دوراً محدِّداً في إنتاج المعركة الحالية، والتي لطالما أعطت مؤشرات عن هشاشة الوضع القائم منذ آذار 2020، ورغبة الأطراف بتعزيز سيطرتها وتمترسها في مناطقها،  وانتظار فرصة مواتية لتغيير الواقع لصالحها والتمسُّك بخيارات صفرية مبنية على فرضية الحسم عسكري على المدى البعيد. بدءاً من النظام الذي طالما راهن على "الصبر الاستراتيجي" لتجاوز أي شكل من أشكال الحل السياسي، وهو ما اتَّضح أيضاً بتهربه من الانخراط في مسار التطبيع مع أنقرة مؤخراً، وحتى "هيئة تحرير الشام" التي بنت سرديتها على "التمسك بالخيار العسكري" و"البناء والحرب في ذات الوقت"([2]). كما لم تكن فصائل المعارضة السورية بمنأى عن ذلك، فقد احتفظت هي الأخرى بخيار المناورة بمساحات ضيقة، برزت في انخراط بعضها ضد فتح معبر "أبو الزندين"، قبل مشاركتها في العميلة الراهنة.

ونظراً لكون الاستعداد الذاتي المحلي حاضراً، فإنَّ توقيت المعركة مرتبط بالبيئة الإقليمية. إذ تدلل المؤشرات على أنَّ القرار أخذ بناء على المعطيات المرتبطة بالضربات القاسية التي تعرضت لها وكلاء إيران في لبنان وسورية على مدار العام الحالي، إضافة إلى انشغال روسيا في حربها في أوكرانيا، خاصة مع احتدام المعارك في منطقة كورسك ضمن الأراضي الروسية، وارتفاع احتمالية الضوء الأخضر الغربي لاستخدام كييف صواريخ لاستهداف العمق الروسي([3]). بعبارة أخرى، تأتي العملية من دون انخراط حقيقي من قبل "حزب الله" في الدفاع عن مواقع النظام إما نتيجة الضربات الموجعة التي تعرَّض لها على مدار الأشهر السابقة و/أو "انتقاماً" من النظام الذي نأى بنفسه عن الانخراط لدعم حليفه في "محور المقاومة" في حرب لبنان، واحتدام المعركة بين روسيا وأوكرانيا، وسط حالة انتقالية يشهدها العام بانتظار قدوم إدارة ترمب للبيت الأبيض. علاوة على ذلك كله، لا يمكن إهمال التوقيت من ناحية أنها جاءت بعد برود المحادثات بخصوص مسار التطبيع بين أنقرة والنظام في دمشق نتيجة تعنُّت الأخير ومبالغته في تقدير قدرته التفاوض وفرض شروط مسبقة.

التطورات الميدانية والحسابات الاستراتيجية

لا شكَّ بأنَّ سرعة التقدُّم الذي أبرزته غرفة "العمليات العسكرية" كان مفاجئاً، فقد أبدت خطوط دفاعات قوات النظام التي افتقرت لدعم الميليشات الإيرانية السابق والإسناد الجوي الروسي ضعفاً واضحاً، علماً أنَّه أبدى مقاومة ملحوظة في مناطق عندان في ريف حلب الشمالي، وسراقب في جنوب شرق إدلب. بالمقابل، فيلحظ وجود قدرات تنسيقية عالية للفصائل على المستوى الميداني من خلال غرفة العمليات الجديدة أو الإعلامي لضبط السردية، ما جعل الحراك المعارض لـ"تحرير الشام" يتوقف من تلقاء نفسه، بل ودفع خصومها السابقين للانضمام للجبهات التي فتحتها. يُضاف إلى ذلك التقنيات الجديدة تكتيكياً وأبرزها الطائرات المسيرَّة، والتي عملت الفصائل على تطويرها خلال السنوات الماضية، ناهيك عن المأسسة التي شهدتها مناطق إدلب خصوصاً على مستوى افتتاح مؤسسات جديدة، كـ"الكلية العسكرية" ومركز "الأبحاث العسكرية" ومراكز التدريب، والتي يبدو بأنها أسهمت في رفع القدرات التكتيكية والعملياتية([4]).

خريطة توضح سيرة عملية "ردع العدوان" حتى تاريخ 29 تشرين الثاني / نوفمبر

بذلك، امتلكت "هيئة تحرير الشام" القدرة على إنشاء غرفة عمليات نوعية تقودها من الخلف، لتتيح بذلك انضمام بعض فصائل الجيش الوطني للغرفة، وتصدير العملية كعملية معارضة سورية. وبصرف النظر عن نتيجة المعركة وهوامش الربح او الخسارة، فإنَّ علاقة الهيئة بالفصائل ستدخل مرحلة جديدة، والحالة المثالية من وجهة نظر "تحرير الشام"، هي الخروج وبيدها غرفة عمليات جديدة (عابرة لـ"الفتح المبين")، بعد إثبات نفسها كفاعل قادر على اتخاذ قرار الحرب ضد النظام، وتحقيق ما روَّجت له لسنوات، "قيادة المحرر" الواحدة.

أما على صعيد حسابات السيطرة استراتيجياً، يبدو بأن قادة العملية يفترضون بأن أسوأ ما يمكن أن يحصل هو العودة للتهدئة الهشة السابقة، نظرا لكون أي نزوح جماعي للسكان هو خط أحمر تركي. وبأن أي مكاسب تكتيكية قد تفتح المجال أمام نافذة من الفرص الغير متوقعة، لتحقيق مكاسب استراتيجية. بالمقابل، وباعتبار أنَّ السيطرة على عدة قرى هنا أو مواقع هناك لا يمكن أن يكون نصراً استراتيجياً، بل تقدما تكتيكيا ونجاحا عملياتياً، طالما أنها لم ترق لمستوى منطقة استراتيجية بالنسبة للجغرافية السورية ككل، مثل مدينة حلب؛ فقد بنيت سردية المعركة منذ أشهر على غاية السيطرة على حلب  لتحقيق هدف استراتيجي مقابل الإعلان فعلياً عن عملية محدودة بهدف ترك المساحة للتكيُّف مع المعطيات الميدانية وموازين القوى على أرض الواقع.

سيناريوهات محتملة

إنَّ المعركة التي بدأت بأهداف محدودة وتوسَّعت نتيجة الفرصة التي أتاحتها الظروف الميدانية ما زالت في بدايتها.  وعلى الرغم أنَّه من المبكِّر إعطاء أحكام مطلقة بخصوص النتائج، فإنَّ المعطيات الميدانية تشير إلى أن اتجاه المعركة إلى ثلاث محاور رئيسية: ريف حلب الجنوبي، وريف إدلب الشرقي والجنوبي الشرقي، أحياء مدينة حلب الغربية باتجاه مركز المدينة، بالإضافة لاحتمالية فتح محور جديد في ريف حلب الشمالي تجاه مناطق سيطرة "وحدات حماية الشعب" في تل رفعت. عليه فإنَّ سير المعطيات الميدانية في الأيام القليلة المقبلة سيضع المنطقة أمام سيناريوهين:

  • عودة تفاهمات خفض التصعيد: بدأت العملية بأهداف محدودة لتوسيع مساحات السيطرة المحاذية لإدلب وإيقاف قصف النظام المتكرر وتأمين عودة قسم من المهجرين، أي أن تبقى مساحات السيطرة ضمن مساحة مناطق خفض التصعيد، وبالتالي الحفاظ على آليات أستانا على المستوى الأمني والسياسي. يبدو بأن فرص هذا السيناريو تتقلص مع مرور الوقت، بانتظار مآلات المعارك في غرب حلب. بصرف النظر عن طبيعة مساحات السيطرة الناتجة، فإنَّ المنطقة ستعود لحالة عدم اليقين المشابه لما قبل آذار 2020.
  • نهاية التفاهمات السابقة: في حال تمكُّن الفصائل من الدخول إلى مدينة حلب، فإنَّ ذلك يعني فعلياً انتهاء وقف التصعيد وآليات المراقبة المنبثقة عن أستانا، ودخول سورية في دائرة صراع جديدة، إما ينتج عنها ولادة تفاهمات تركية-روسية جديدة على وقع خارطة السيطرة في الميدان، وإمَّا تفتح الباب أمام موجة صراع جديدة طويلة الأمد ما زال من المبكر التكهُّن بطبيعتها وسيرها ونتائجها.

ختاماً، فإنَّ التطورات الحالية في المشهد الأمني  السوري تدلل بوضوح على الانتقال إلى مرحلة جديدة، بفعل القدرات التي عملت الفصائل على تطويرها طوال فترات وقف إطلاق النار النسبي من جهة، والضعف البنيوي الواضح لمؤسسة النظام العسكرية، من ناحية الموارد البشرية والعقيدة القتالية، في ظل تراجع دعم الميليشيات الإيرانية وميليشيا "حزب الله" وشبه غياب التغطية الجوية الروسية المنشغلة بحربها بأوكرانيا من جهة أخرى؛ ناهيك عن أنها تزامنت في مرحلة مخاض إقليمي وتحولات استراتيجية بالغة الأثر.  

 


([1])   النظام يصعّد وفصائل تطلق “ردع العدوان” بالشمال السوري، عنب بلدي، 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، الرابط: https://cutt.us/aA90E

([2])   فاضل خانجي، استحضار صدمة 07 أكتوبر عند التفكير بمستقبل سورية، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 16 أيار/مايو 2024، الرابط: https://cutt.us/NSl9D

([3])  أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك الحرب؟، بي بي سي، 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، الرابط: https://cutt.us/sIXoy

([4])  رصد داخلي.

التصنيف تقدير الموقف
الأربعاء كانون1/ديسمبر 18
أطلق مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ومعهد السياسة و المجتمع، كتابه الجديد بعنوان: “حرب الشمال: شبكات المخدرات في سوريا، الاستجابة الأردنية وخيارات الإقليم”، ويحلل الكتاب ظاهرة شبكات تهريب المخدرات المنظمة في…
نُشرت في  الكتب 
الإثنين تموز/يوليو 22
المُلخَّص التنفيذي: قسَّمت الدراسة مبناها المنهجي وسياقها المعلوماتي والتحليلي إلى فصول ثلاثة، مثّل الفصل الأول منها: مدخلاً ومراجعة لتاريخ القبائل والعشائر في الجغرافية السورية بشكل عام وفي محافظتي حلب وإدلب…
نُشرت في  الكتب 
الأربعاء آب/أغسطس 23
يأتي نشر هذا الكتاب في وقت عصيب على سورية، خاصة في أعقاب الكارثة الطبيعية التي حلت بالبلاد، إضافة إلى الزلازل السياسية التي شهدها الشعب السوري منذ بداية الثورة السورية عام…
نُشرت في  الكتب 
يرى المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف، في تصريح صحفي لجريدة عنب…
الثلاثاء نيسان/أبريل 02
شارك الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية الأستاذ سامر الأحمد ضمن برنامج صباح سوريا الذي…
الأربعاء تشرين2/نوفمبر 29
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في فعاليات المنتدى الاقتصادي الخليجي…
الجمعة تشرين2/نوفمبر 24
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في رؤية تحليلية للحرب على…
الإثنين تشرين2/نوفمبر 20