مع دخول الثورة السورية في عامها التاسع، ووفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لا يزال هناك أكثر من 6 ملايين و700 ألف لاجئ سوري في العالم (حتى يونيو/حزيران 2019)، وأكثر من 6 ملايين ومئتي ألف سوري من النازحين داخلياً (حتى أغسطس/آب 2019) ويحتاج أكثر من 11 مليون شخص إلى المساعدة الإنسانية في سوريا، ولا يزال الوضع الإنساني في شمال شرق سوريا وفق تعبير المفوضية "مزرياً"، حيث يحتاج الآن ما يقدر بنحو مليون و650 ألف شخص إلى المساعدة الإنسانية، (حتى سبتمبر/أيلول 2019)(1). كما تشير إحصائيات منسقو الاستجابة في الشمال السوري إلى نزوح قرابة مليون سوري من حماه وإدلب وريف حلب جراء المعارك التي شهدتها تلك المحافظات خلال الأشهر الأولى من عام 2020(2). ومع تعاظم حجم هذا الملف وتداعياته وتبعاته الأمنية والاجتماعية المتوقعة؛ تتزايد الأسئلة السورية الملحة حول هذا الملف وموضعه وأهميته في الصراع السوري، ومدى حضوره في الأولويات السياسية للأطراف الفاعلة في الشأن السوري، وإدراك دوره ومآلاته في سياق سيناريوهات اشتداد الصراع أو سيناريوهات التسوية ومساراتها.
تنوعت أدوات النظام في قمع الحراك الثوري منذ لحظاته الأولى؛ اتضح أن مقاربة العنف الممنهج هي المقاربة "الأنجع" بمنظوره؛ وقد عانت الحواضن المجتمعية للثورة من هذه المقاربة مما دفع قسما كبيرا منها، وفي ظروف متعددة وبأشكال مختلفة، إلى اللجوء والهجرة نحو أماكن أكثر أمناً واستقراراً.
وقد مرت هذه المقاربة بعدة مراحل؛ إذ ابتدأت بمرحلة العقاب الجماعي المستندة على شن حملات أمنية وعسكرية للسيطرة على الموقف الميداني في مناطق الحراك (لعل أبرز مثال عليها النزوح القسري لأهالي جسر الشغور في الفترة الممتدة من مارس/آذار إلى ديسمبر/كانون الأول 2011). ثم انتقل النظام إلى مرحلة "التطهير المكاني" التي تزامنت مع قيام القوى الثورية المسلحة بإخراج القوات الأمنية للنظام من مناطقها، الأمر الذي دفع النظام إلى الزج بمزيد من القوات العسكرية لقمع الحراك وهو ما بدأ في محافظة حمص عبر تهجير أحياء بابا عمرو والسباع والخالدية وعشيرة وكرم الزيتون والرفاعي والبياضة والسبيل ووادي العرب ومنطقة جوبر والسلطانية وأحياء كرم الزيتون والرفاعي والبياضة ووادي العرب وحي السبيل. أما المرحلة الثالثة فتم تأطيرها بالتزامن مع تبلور "مفهوم سوريا المفيدة"، فقد تم تأطير هذه المرحلة كأداة من جملة أدوات تحقيق الاستراتيجية الإيرانية في سوريا المعروفة بــالحفاظ على "سوريا المفيدة"، ويمكن تسجيل بدء هذه المرحلة مع حملة حزب الله وقوات النظام على مدينة القصير في مايو/أيار 2013(3)، لتنتقل بعدها سياسة التهجير إلى مناطق تسيطر عليها المعارضة في محيط العاصمة كداريا والمعضمية والزبداني الواقعة ضمن سوريا المفيدة. وفي سياق تلك المراحل كانت دينامية "اتفاقيات الإخلاء" تحدث أثراً واضحاً في معدلات الهجرة والنزوح(4).
عقب التدخل الروسي في أواخر سبتمبر/أيلول 2015 الذي استند على استراتيجية تطويع الجغرافيا واستثمارها سياسياً في تحسين موازين الصراع؛ استطاع الفاعل الروسي عبر قوته الجوية واستناده إلى الميليشيات الإيرانية أن يخرج مدينة حلب الشرقية من معادلات الصراع المحلي، ونجم عن ذلك تهجير قرابة 150 ألف مدني من أحياء المدينة؛ ذهب 75% منهم إلى ريف حلب الغربي ومحافظة إدلب، بينما توجه 25% منهم إلى ريف حلب الشمالي(5).
وفي ديسمبر/كانون الأول 2018، وإثر تعثر مؤتمر الحوار المنعقد في سوتشي في تحقيق هدفه وتكريس الحل السياسي الذي ترتجيه موسكو بعدما ثبتت جل مناطق الصراع إبان قضمها لحلب الشرقية عبر اتفاقيات خفض التصعيد؛ عاد النظام مجدداً لاستراتيجية القضم الاستراتيجي لتلك المناطق، منطقة تلو أخرى، إذ شن نظام الأسد، وبدعم روسي، أعنف هجوم بري وجوي على منطقة الغوطة الشرقية التي تحتوي على 400 ألف محاصر منذ عام 2012. وتجاوز عدد المهجرين والنازحين من الغوطة الشرقية أكثر من 80 ألف شخص (حتى تاريخ 9 فبراير/شباط 2018)(6). كما أن هناك ما يزيد عن 52 ألفاً يحتمون في تسعة ملاجئ جماعية في ريف دمشق يتم تزويدهم بإمدادات الطوارئ والمساعدة الصحية؛ وقد تتبعت مجموعة "منسقو الاستجابة في الشمال السوري" مصير قرابة 50 ألف نازح، وأوضحت أنهم توزعوا بنسبة 59% في إدلب و6% في حماه و25% في محافظة حلب(7).
وعلى مسافة قريبة من الغوطة الشرقية تقع منطقة القلمون الشرقي ومنها الضمير، والناصرية، والرحيبة، والقطيفة، وفي 19 أبريل/نيسان 2018 وافقت الفصائل العسكرية في القلمون على بنود اتفاق مصالحة مع روسيا، قضى بتسليم السلاح الثقيل الضخم، وتهجير آلاف المدنيين الذين لا يريدون المصالحة مع نظام الأسد باتجاه مناطق الشمال السوري؛ وقد تم تهجير قرابة 5 آلاف وثلاثمئة شخص، وبذات السياق هجر قرابة 9 آلاف وثلاثمئة شخص من جنوب دمشق إلى إدلب، كما هجّر النظام قرابة 35 ألف و600 نازح من ريف حمص الشمالي، في الفترة بين 7 و 18 مايو/أيار 2018، وبعد ريف دمشق وحمص، توجهت قوات النظام وحلفائه جنوباً، وسيطرت على المناطق المحررة فيها، لتهجر قرابة 10 آلاف و700 من درعا والقنيطرة، بالفترة الممتدة بين 15 إلى 31 يوليو/تموز 2018، ممن غادروا إلى شمال سوريا(8).
ومنذ معارك إدلب وريف حلب الأخيرة وخلال الفترة بين نوفمبر/تشرين الثاني 2019 حتى توقيع الاتفاق الروسي التركي في 5 مارس/آذار 2020 نزح حوالي مليون و410 أشخاص(9)، وتوزعوا على المخيمات في مناطق درع الفرات و"غصن الزيتون" إضافة للقرى والبلدات الآمنة. (انظر الشكل المجاور رقم 1).
وفي يناير/كانون الثاني 2020 سُجّل نزوح حوالي 464 ألف و800 شخص في جميع أنحاء سوريا(10).
الشكل رقم 1: وجهة النازحين من نوفمبر/تشرين الثاني 2019 حتى مارس/آذار 2020
أما فيما يتعلق بالأرقام الخاصة بتوزع اللاجئين السوريين في دول الجوار فقد بلغ عدد اللاجئين في تركيا 3 ملايين و600 ألف لاجئ، بينما كانت لبنان هي الدولة الثانية من حيث عدد اللاجئين السوريين حيث يوجد بها 929 ألف لاجئ، كما لجأ الى الأردن 662 ألف لاجئ، وأخيراً إقليم كردستان في العراق حيث يوجد به 245 ألف لاجئ (انظر الشكل 2).
الشكل (2): توزع اللاجئين السوريين في دول جوار سورية
أما بخصوص توزع اللاجئين في أنحاء العالم فقد حصلت ألمانيا على الحصة الأكبر من اللاجئين حيث ضمت 770 ألف لاجئ، بينما ضمت جمهورية مصر131 ألف والسويد 122 ألف لاجئ، وكندا 40 ألف لاجئ، والولايات المتحدة 16 ألف لاجئ. (الشكل 3)(11).
الشكل (3): توزع اللاجئين السوريين في بعض دول العالم
منذ اندلاع الثورة السورية وتحولها إلى صراع متعدد المستويات، يركز المجتمع الدولي في تعاطيه مع الملف السوري -باستثناء صرخات الاستجابة والنداء للملف الانساني من قبل الأمم المتحدة ومنظماتها- على محورين:
من جهة عملياتية؛ لم تلحظ القرارات الدولية المعنية بالشأن السوري السياسية منها والإنسانية أي حديث عن ملف اللجوء والهجرة باستثناء البند 14 من القرار 2254 الذي أكد على "تهيئة الظروف المواتية للعودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين داخلياً إلى مناطقهم الأصلية وتأهيل المناطق المتضررة وفقاً للقانون الدولي"، ويحث القرار بذات البند الدول الأعضاء على تقديم المساعدة في هذا الصدد"(13). كما غاب نقاش هذا الملف خلال كل جولات التفاوض في جنيف وأستانة باستثناء جدولة شكلية على أجندة جولة أستانة 10 بتاريخ 30 يوليو/تموز 2018 حيث تضمنت بند (بدء محادثات لعودة اللاجئين والنازحين) لكن دون صدور أي نتيجة عن ذلك(14). والجدير بالذكر أن هذه الجولات (أستانة وجنيف) رافقتها عدة حملات تهجير. (للتفصيل انظر الجدول التالي)(15):
تأثر ملف "اللجوء والنزوح" بالانحرافات والاستعصاءات التي شهدتها العملية السياسية لا سيما بعد التدخل الروسي الذي حاول التأثير على بوصلة مسار جنيف سواء بمسار أستانة أو عبر التحكم به من خلال إعادة تعريف الحل السياسي واختزاله بلجنة دستورية تم طرحها في مؤتمر الحوار في سوتشي وتم تبنيه من قبل الأمم المتحدة؛ حيث شكل انتفاء مرحلة "الانتقال السياسي" من أجندة العملية السياسية نقطة نكوص في حلحلة ملف اللجوء والنزوح، ومما ساهم في تعقيد مداخل الحل عدة أمور -هي بمجملها نتاج التدخل الروسي- وهي:
وعليه وبحكم تطورات المشهد السوري واختلاف درجة التأثير للفاعلين لصالح التسيد الروسي، لا تزال الغايات الأمنية والعسكرية تفرض نفسها وغياب مداخل الحل السياسي عن ميادين النقاش والتفكير الدولية، لا سيما في ظل الانكفاء الأمريكي وسياسات الوقاية الذاتية المتبعة من الدول الأوربية؛ وهذا كله أجل ويؤجل تحدي العودة الكريمة والطوعية للاجئين والنازحين السوريين.
تبين الأرقام المرصودة لعام 2019 عن عودة حوالي 480 ألف نازح إلى مناطقهم في عموم المحافظات السورية من أصل 6 ملايين و200 ألف نازح، أكثرهم عاد إلى درعا ثم إدلب وحلب(16). وفيما يتعلق بعودة اللاجئين فقد سجل لبنان العدد الأكبر لعودة اللاجئين من بين جميع دول الجوار السوري. وبحسب بيان صادر عن الأمن العام اللبناني، في مارس/آذار2019، بلغ عدد السوريين الذين عادوا 172 ألفا و46 لاجئاً سورياً منذ عام 2017، حيث يتم تنسيق العودة بين الأمن العام اللبناني والنظام السوري(17). ومن جهة أخرى أوضح مركز إدارة الدفاع الوطني في روسيا عن عودة 256 ألف لاجئ خلال النصف الأول من عام 2019 إلى سوريا عبر المعابر البرية مع لبنان والأردن(18). أما في تركيا فأعلن الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان أن 365 ألف سوريٍ عادوا إلى ديارهم ومنازلهم في مناطق "درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام"(19)، وفي ألمانيا عاد 13 لاجئا إلى الأراضي السورية ضمن برنامج العودة الطوعية الذي يشجع على عودة اللاجئين مقابل ألفي يورو(20).
في حين تطرح العديد من منظمات المجتمع المدني رؤيتها الوطنية لملف اللاجئين والنازحين بما يسهم في التماسك الاجتماعي والاستقرار في سوريا(21)؛ يصر النظام على مقاربته الوحيدة في هذا السياق ضمن ما أسماه "المصالحة" والتي تتكلم في بنودها عن التهجير أكثر من العودة(22)؛ لكن مع مضي النظام في توسيع سيطرته العسكرية، شُهدت عودة لبعض النازحين دون توفر أي ضمانات، سواء أكانت أمنية أم متعلقة بسبل العيش أو الاستجابات المحلية؛ ومرد ذلك عدة أسباب منها ما يتعلق بانعدام الأمل والأفق السياسي أو ما هو مرتبط بالضغوط المعاشية والأمنية التي يتعرض لها النازحون واللاجئون في البيئات المستضيفة(23).
وهنا نموذجان لعودة النازحين واختبار ادعاءات النظام في تقبل عودتهم؛ النموذج الأول في ريف دمشق (التي أعاد النظام السيطرة عليها مطلع 2018) والثاني حلب الشرقية (التي تمت السيطرة عليها عام 2016).
فبالنسبة للأول أي ريف دمشق، فحتى يناير/كانون الثاني 2020 عاد ما مجموعه 35 ألفا و500 شخص جلهم عاد من بلدات الريف ذاته وقسم عاد من مدينة دمشق. وبخصوص حلب الشرقية (التي تمت السيطرة عليها عام 2016) فحتى ذات التاريخ، عاد قرابة 56 ألفا و500 شخص أغلبهم من بلدات ريف حلب(24). ويمكن تفسير هذه الأرقام المتدنية بأمرين، الأول عدم قدرة النظام على توفير الأسباب الموجبة للعودة خاصة فيما يرتبط بالاستجابات الطارئة وما تستلزمه من إجراءات تضمن التعافي المبكر للمناطق الخارجة من معادلات الصراع(25)، والثاني مرده إلى عدم رغبة النظام أساساً في عودة من يعتبرهم "مناهضين لسلطته" خلال سنوات طويلة.
لقد أثقلت حركة النزوح في المناطق المستضيفة في سوريا على البنية التحتية المحلية وعلى الهياكل الإدارية(26)، وإذا ما ربطنا تأثر الواقع الأمني بملف العودة عموماً، فإنه سيحيلنا إلى تلمس وقياس:
ففيما يتعلق بالمناطق التي يسيطر عليها النظام (والتي تزداد مساحتها)، لا تزال الأسئلة المرتبطة بملفي عودة اللاجئين والنازحين والاستجابة المحلية تشكل تحدياً رئيسياً للفاعلين المحليين، وتساهم إلى جانب التردي في الواقع الأمني العام في تشكيل مناخ داعم لعدم العودة؛ ويزداد هذا التحدي عمقاً مع غياب سياسات الإصلاح والتغيير الأمني، إذ تؤكد معظم التقديرات والتحليلات وجود عدة أسباب تقف وراء التدفق المحموم لحركة النزوح والتهجير(27).
الأول: فإضافة إلى تدهور الواقع الأمني، فإن أول هذه الأسباب شيوع إحساس لدى عموم السوريين بانسداد الأفق وانعدام الأمل بخلاص قريب، أو على الأقل بتحسن الوضع الأمني واستعادة حياة عامة قوضت مقوماتها. كما يساهم عجز الفاعلين المحليين، عن توفير أبسط مستلزمات العيش، في تعزيز مقاربات الهجرة لا العودة، حيث لا غذاء ولا كساء ولا قدرة على فرض سياسات عامة تحسن خدمات الماء والكهرباء والخدمات التعليمية والصحية فضلا عن فقدان فرص العمل(28).
الثاني: ويرتبط بهاجس معظم الشباب بضرورة الهروب من العنف والاقتتال لا سيما مع حملات التجنيد الإجباري والاحتياط التي تجبرهم "قانونياً" على أن يكونوا في خضم هذا الصراع خصوصاً بعد صدور المرسوم 104 لعام 2011، ما دفع عوائل كثيرة لمغادرة سوريا خشية استدعاء أبنائهم إلى الخدمة الإلزامية أو الاحتياط، إضافة إلى تكرس قناعة عدم جدوى تحصيلهم العلمي مع غياب الإمكانات المرجوة لممارسة اختصاصاتهم عملياً. والأهم شيوع حالة قلق وخوف عامة من انحسار شروط الأمن والسلامة(29).
أما فيما يرتبط بمناطق سيطرة المعارضة، فنجد أنه كان من الطبيعي أن تؤثر البيئة الأمنية غير المستقرة على ثبات هياكل الحوكمة المحلية (المعني الأساسي في عمليات الاستجابة)، وعلى حركة العودة خاصة بعد أن تعددت حالات التهجير، حيث تتفاوت درجات الاستقرار الأمني في مناطق سيطرة المعارضة بحكم حجم وطبيعة وتعدد القوى العسكرية المسيطرة وطبيعة علاقاتها فيما بينها؛ وطبيعة القوى المهددة لأمن المجتمعات المحلية ناهيك عن العوامل المهددة لأمن المجتمع المحلي والتي تتنوع بين عوامل ذات طبيعة أمنية واجتماعية واقتصادية (30).
بطبيعة الحال يرتبط ملف العودة بمحددين رئيسيين؛ أولها متعلق بالرؤى الدولية والاقليمية لهذا الملف ومدى التقاطع أو التعارض في هذه الرؤى، وثانيها متعلق بالسيناريوهات المتوقعة للملف السوري ودرجة تأثره بملف العودة الذي سيكون عاملاً مهماً في معادلات الاستقرار والسلام (الضرورات الاجتماعية والاقتصادية).
الأول فيما يتعلق بالرؤى الدولية والإقليمية: ففي حين تحمّل موسكو المعارضة والدول الداعمة لها (وعلى رأسهم الولايات المتحدة) كامل المسؤولية في عرقلة العودة (31)؛ فإنها لم تنجح في تحقيق غايات ما أسمته "البرنامج الروسي لعودة اللاجئين" والذي يطمح لعودة مليون لاجئ إلى قراهم وبلداتهم وذلك من خلال "تأسيس لجنة في كل من لبنان والأردن وتركيا، للتنسيق والمتابعة مع الجانب الروسي في سبل العودة وآلياتها. حيث أبلغت موسكو الدول المعنية في المنطقة أنها نسّقت مع النظام السوري، وأنّ لديها ضمانات بعدم التعرض للعائدين إضافة لإنشاء مراكز لاستقبال اللاجئين وتوزيعهم وإيوائهم(32).
فبعد قرابة العامين ونيف على طرح هذا البرنامج، ورغم تأكيدات وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بأن معدلات العودة لم" تكن كبيرة"(33)، فإن الإحصاء الروسي يحصي عودة 577 ألف لاجئ سوري من الأردن ولبنان منذ شهر يوليو/تموز 2018، ( قرابة 182 ألف من لبنان، قرابة 400 ألف من الأردن)، ولكن دون تبيان آلية الإحصاء التي يغلب عليها سمة إحصاء الدخول عبر المعبر الحدودي أكثر من سمة حركة عودة اللاجئين(34).
وتدلل المعطيات المتعلقة بالحركة الروسية العسكرية المستمرة ومؤشرات العودة المنخفضة على أن الرؤية الروسية لهذا الملف تتمحور حول غايتين سياسيتين؛ الأولى عدم جعل هذا الملف معطلاً لسير الهندسة الروسية تجاه إعادة تشكيل الحل السياسي وفق منظورها، وبالتالي عدم جعله استحقاقاً سياسياً وشرطاً لازماً للاستقرار؛ والغاية الثانية تتمثل في كيفية استثمار هذا الملف وما يعنيه من تحد أمني واجتماعي على البيئات المستضيفة، وجعل مسار حل هذا الموضوع مرتبطا بشرعنة نظام الأسد من جديد. وكلتا الغايتين تعتبر هذا الملف تحدياً لحكومة النظام بدلاً من اعتباره استحقاقاً سياسياً وشرطاً لازما للاستقرار.
أما فيما يتعلق بالرؤية الدولية التي يمكن توضيحها من خلال ما يعرف "بالمجموعة المصغرة حول سوريا" (الولايات المتحدة الأمريكية؛ بريطانيا، فرنسا، المملكة العربية السعودية؛ مصر؛ الأردن)، والتي حددت أن أي انخراط في استحقاقات الانتقال السياسي -سواء إعادة الإعمار أو العودة الطوعية والآمنة- مرتبط بإنجاز عملية سياسية بإشراف الأمم المتحدة في جنيف. وتنفيذاً لهذا الأمر لا تزال سياسية العقوبات الاقتصادية الضاغطة على النظام مستمرة بهدف دفعه للانخراط في العملية السياسية، وإنجاز اتفاق سياسي وفق قواعد القرار 2254، وعلى رأس هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الاوروبي.
قد تبدو هذه الشروط الدولية "شروطاً موضوعية" لضمان تنفيذ القرارات الدولية المعنية بالشأن السوري، إلا أن تراجع اهتمام هذه الدول وتجاهلها لما يتم من عمليات تهجير، واكتفاءها بالإدانات (لا سيما وأن انخراطهم في الملف بات محكوماً بمنهجية محاربة تنظيم الدولة سابقاً ومحاصرة طهران حالياً)، إنما يبعث بمؤشرات أن هذه الشروط هي واجهة تخفي سياسة عرقلة مقصودة للآليات الروسية، وتأزيم تدخلها العسكري والسياسي والاقتصادي في سوريا فحسب، دون وجود أي حل سياسي في الأفق؛ أي استمرار التنافس على المكسب السياسي، بما لا يفسر جهود المنظمات الدولية المعنية بشؤون اللاجئين إلا أنها من باب الاستجابة الطارئة.
وفيما يتعلق بتركيا؛ فهي طبقت منذ بداية الثورة السورية سياسة الحدود المفتوحة مع اللاجئين السوريين مما ساهم في وصولهم الى القارة الأوربية، وأعادت إغلاق الحدود مع سوريا في 2015 بعد الاتفاق مع الاتحاد الأوربي على تمويل الاتحاد الأوروبي للمشاريع المتعلقة باللاجئين في تركيا، مقابل إيقاف تركيا لتدفق اللاجئين إلى أوروبا(35)؛ ثم بدأت الحكومة التركية بعد دخولها العسكري في سوريا وسيطرتها على مناطق "درع الفرات" وعفرين ومنطقة تل أبيض ورأس العين، بالمطالبة بمنطقة آمنة في سوريا لعودة اللاجئين السوريين في تركيا إليها، واعتبرت أنقرة أن تشكيل "منطقة آمنة" في سوريا يسرع عملية العودة الطوعية للاجئين السوريين من تركيا. ووفقاً للإحصاءات التركية، فإنه "بفضل الأجواء الآمنة التي تشكلت عقب عمليتي درع الفرات، وغصن الزيتون في شمال سوريا، عاد 354 ألف سوري بشكل طوعي إلى هذه المناطق". كما أكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن 74 ألف مدني سوري عادوا إلى المناطق التي حررتها عملية "نبع السلام" شمالي سوريا(36). وبالتزامن مع إعلان أنقرة "التزامها" مبدأ "عدم ترحيل" أي مهاجر نظامي(37)؛ فإنها تطمح إلى إعادة توطين 3 ملايين لاجئ سوري ضمن "المنطقة الآمنة" التي تحاول الدفع بإنشائها شرق الفرات، من خلال استمرار المحادثات مع واشنطن(38).
وتشهد العلاقة الأوروبية التركية في هذا الملف توترات واضحة لا سيما بعد نزوج قرابة مليون سوري جراء العمليات العسكرية الأخيرة في الشمال السوري والضغط على تركيا لفتح الحدود؛ وبحكم ما اعتبرته أنقرة تجاهلاً لهذا الملف وتداعياته، فتحت السلطات التركية حدودها مع اليونان أمام اللاجئين السوريين وهو ما زاد التوتر. وفي حين لا تبدو مؤشرات انفراج في هذا الملف، تستمر محاولات الدعوة لعقد اجتماعات تركية مع بعض دول الاتحاد الأوروبي لمناقشة قضية المهاجرين، حيث تعتبر أنقرة "أن مسألة اللاجئين وسوريا وإدلب تعد اختبار إرادة وقيادة للاتحاد الأوروبي أكثر من تركيا، وعلى الاتحاد القيام بمسؤولياته"(39).
عموماً يتضح أن الرؤى الدولية والإقليمية تجاه ملف اللاجئين والنازحين -وإن اكتست بعدا إنسانيا في السياسات والخطابات- لا تعدو أن تكون ورقة ضغط سياسي يمارسها الجميع لتحقيق مقاربات سياسية وأمنية. ولا يزال الملف أسير تفاهمات سياسية لم تتوفر الظروف السياسية لنضجها.
الثاني ارتباط ملف العودة بالسيناريوهات المحتملة: في ظل المشهد السياسي الذي دخل مجدداً مرحلة الاستعصاء -بعد جولتين من اجتماعات اللجنة الدستورية- فإن السيناريوهات المحتملة تنحصر في الآتي:
في ظل هذه السيناريوهات ومع استمرار غياب سياسات معالجة موضوعية وفق القانون الدولي ومتطلبات التماسك الاجتماعي والاستقرار؛ يبدو أن مسألة اللاجئين والنازحين خاضعة للمنظور الروسي (وحلفائه النظام وإيران) الذي يجهد لتحويل الاستحقاقات السياسية إلى تحديات حوكمية غير مستعجلة، وبالتالي استمرار عدم مراعاة العوامل الأمنية والاجتماعية الدافعة للاستقرار. ولعل نظرية "المجتمع المتجانس" (التي طرحها بشار الأسد في منتصف عام 2017 في دلالة على أن ما تبقى في سوريا هو القسم المتجانس) تدلل على عدم رغبته بعودة من وقف ضده سنوات، وبالتالي الاتجاه نحو تثبيت التغيير الديمغرافي الناجم عن الصراع، وهو ما سيبقي عوامل الصراع متأججة.
لا شك أن ملف اللاجئين والنازحين السوريين يعد من أثقل الملفات من حيث تداعياته الإنسانية والاجتماعية والأمنية، ومن حيث حركته المتسارعة في ظل ما تشهده سوريا من سيناريوهات إعادة التشكل الأمني وتضارب الرؤى بين الفاعلين الرئيسيين. ومما يزيد من هذا الثقل هو التغييب التام لأجندة وبرامج العودة الكريمة وما تستلزمه من استجابات حكومية وأمنية مستعجلة؛ وهذا ما سيكون له أثر استراتيجي على معادلات الاستقرار والسلام في سوريا، فطالما أن هذا الملف لا يزال ينظر له كورقة تحسين شروط بين الفاعلين الإقليميين والدوليين فإنه سيتحول لتحد غير مستعجل، الأمر الذي يتطلب تضافر جهود منظمات المجتمع الدولي والإقليمي والمحلي وتشكيل ضغط ملح على الفاعلين للنظر إليه كاستحقاق سياسي؛ حيث لا يمكن أن تقوم دولة جديدة أو نظام حكم جديد في سوريا طالما أن أكثر من نصف الشعب مهجر ونازح.
المصدر مركز الجزيرة للدراسات: https://bit.ly/2USBp2D
مراجع
Humanitarian response, IDP and Spontaneous Returnee Movements - 31 January 2020, http://bit.ly/2QhfTTH
شارك مركز عمران للدراسات الاستراتيجية ممثلاً بالباحث محمد العبدالله في أعمال المؤتمر الدولي للاجئين في مدينة إسطنبول بتاريخ 10-11 أيار 2018، والذي أشرف على تنظيمه منظمة أوكسفام البريطانية، كمحاولة أولى لإشراك منظمات المجتمع المدني الحكومية والأهلية المعنية بشؤون اللاجئين في جميع دول العالم، وإسهامها بشكل فاعل في صياغة ميثاق دولي خاص باللاجئين يتم اعتماده وتطبيقه من قبل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (UNHCR). بحيث يتم تقاسم أعباء ومسؤوليات اللاجئين بشكل أكثر عدالة بين دول العالم وضمان حياة كريمة للاجئين وقدرة أكبر على الاندماج بفاعلية داخل المجتمعات المضيفة.
وفي هذا السياق شاركت مجموعة من منظمات المجتمع المدني المهتمة بقضايا اللاجئين من دول عدة لصياغة ميثاق موحد بالتوافق بين هذه المنظمات ورفعه للأمم المتحدة عن طريق الجهات المعنية لإقرار لاحقاً. وقد حظي المؤتمر بمشاركة شخصيات بارزة ذات صلة بقضايا اللاجئين من منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والخبراء والأكاديميين والمهتمين بذلك. لمساعدة المنظمات المشاركة على صياغة وإعداد هذا الميثاق بالشكل الأمثل. وقد تخلل المؤتمر عدة جلسات جماعية للنقاش بين المشاركين والمساهمة بشكل فاعل في طرح القضايا ذات الأولوية في حياة اللاجئين من وجهة نظرهم.
إلى جانب ذلك، تم توزيع المشاركين إلى ورش عمل مصغرة للتركيز بشكل أكبر على المحاور الفرعية للمؤتمر بهدف اتاحة الفرصة للمشاركين لتقديم أفكارهم ومقترحاتهم كل وفق اختصاصه. وتمحورت هذه الورشات حول ستة موضوعات رئيسية شملت: الحلول المستدامة وتقاسم المسؤولية، والنفاذ إلى الخدمات، والحقوق القانونية للاجئين، والنساء والتشرد والتمثيل والمشاركة. وفي ختام المؤتمر تم صياغة وثيقة مشتركة تضمنت مقترحات وتوصيات المشاركين في هذه الورش ورفعها للجهات القائمة على المؤتمر لإقرارها. وقد بلغ عدد المشاركين في المؤتمر 130 مشارك من 27 بلد.