شكلت محافظة درعا أحد أهم مراكز الصراع الدائر في سورية، لاسيما وأنها تتمتع بخصوصية رمزية كونها مهد الاحتجاجات التي اندلعت ضد النظام عام 2011 من جهة، وخصوصية جيوسياسية بالنسبة للنظام لتموضعها جنوبي العاصمة دمشق، ولفواعل إقليمية كالأردن وإسرائيل وذلك لقربها الجغرافي من حدود الدولتين من جهة أخرى.
لهذا، لم تغب محافظة درعا عن كونها أحد أهم المناطق المستهدفة من قبل النظام ومن خلفه روسيا وإيران على مدار الأعوام السابقة، إذ شهدت درعا عدة مراحل ومستويات من الصراع كان آخرها دخول المحافظة مسار "المصالحة" الثانية في أيلول/سبتمبر عام 2021، وذلك بعد مرور ثلاث أعوام على المسار الأول الذي اتسم بالفوضى الأمنية وتفشي الاغتيالات، بالإضافة إلى حالة الاحتقان المحلي، الأمر الذي لوحظ استمراره في مسار "المصالحة" الثاني أيضاً.
وعليه، ونظراً لأهمية محافظة درعا في معادلات الصراع السوري وضرورة تتبع نموذج "المصالحة" الذي يسعى النظام وروسيا لفرضه في مناطق مختلفة من سورية؛ تسعى هذه الورقة لتبيان الديناميات والسياقات المحلية والإقليمية لاتفاق "المصالحة" الأخير، وذلك في ضوء ما تبعه من تطورات أمنية وعسكرية تمَّت دراستها من خلال مؤشرين رئيسيين هما: (1) الاعتقالات المرتبطة بنشاط الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للنظام، (2) الاغتيالات التي استهدفت شرائح واسعة من المعارضين السابقين وعناصر النظام، وفقاً لنطاق زمني يمتد بين تشرين الأول/أكتوبر 2021 وحتى نهاية أيلول/سبتمبر 2022؛ مستخدمةً تحليلاً كمياً ونوعياً للبيانات.
أولاً: مسارات "المصالحة" في درعا (غياب الاستقرار الأمني)
بدأ مسار "المصالحة" الأول في تموز/يوليو عام 2018، إذ تم فرضه على فصائل المعارضة السورية برعاية روسية، بعد حملة عسكرية واسعة شملت قصفاً صاروخياً ومدفعياً، وغارات جوية تزامنت مع تقدم بري لقوات النظام، أدت إلى نزوح ما يقارب 234 ألف شخص، ضمن سياسة "الأرض المحروقة" التي اتبعها النظام في السيطرة على مناطق المعارضة، ليأتي الاتفاق لينص على: إعلان وقف إطلاق النار، وتسوية أوضاع بعض المقاتلين وإعادة دمجهم، وإجلاء قسم آخر معارض للتسوية إلى محافظة إدلب بعد تسليمهم لأسلحتهم الثقيلة والمتوسطة، وعودة النازحين، وعودة مؤسسات "الدولة" بالإضافة لتثبيت سيطرة النظام على معبر نصيب الحدودي مع الأردن([1]) .
وضمن سياق "المصالحة" التي قادتها موسكو، حرصت الأخيرة على إمساك خيوط النفوذ في درعا وهو ما تجلى في تشكيل اللواء الثامن، بقيادة أحمد العودة القائد السابق لـ"قوات شباب السنة"، والذي يتألف بشكل رئيسي من المقاتلين السابقين في "قوات شباب السنة"، ومقاتلين معارضة سابقين، بالإضافة إلى بعض الكوادر الإدارية والتقنية ممن كانت منخرطة في أنشطة معارضة أو عملت لصالح المجالس المحلية أو منظمات غير حكومية أجنبية في فترات سابقة. وتركَّز انتشار اللواء الثامن في المنطقة الشرقية لمحافظة درعا عموماً ومدينة بصرى الشام في ريفها الشرقي خصوصاً، علماً أن اللواء الثامن تم إلحاقه رسمياً بالفيلق الخامس الذي تم تأسيسه بإشراف روسي مباشر في أواخر عام 2016، قبل أن يتم إلحاقه بالمخابرات العسكرية لاحقاً ([2]).
بمقابل انتشار اللواء الثامن المدعوم روسياً في المنطقة الشرقية من درعا، شهدت المنطقة الغربية حالة معقدة من تزاحم النفوذ لوحدات أمنية وعسكرية مختلفة: كالفرقة الرابعة والخامسة، والمخابرات العسكرية، والمخابرات الجوية، والمخابرات العامة، وميليشيات مدعومة إيرانياً كحزب الله على سبيل المثال لا الحصر، الأمر الذي شكل عاملاً رئيسياً لتوسع الفوضى الأمنية ودائرة العنف بمختلف أشكاله، واستهداف عناصر "المصالحة" من المعارضين السابقين إلى جانب استهداف بعض عناصر النظام والمدنيين أيضاً. أما درعا البلد، فقد اتسمت الحالة الأمنية فيها بالتعقيد، حيث تواجد محدود لقوات النظام وانتشار لمجموعات محلية مسلحة بأسلحة خفيفة وحالات مقاومة محلية بين الحين والآخر([3]) .
لذلك، لم يكن النفوذ الروسي وتشكيل اللواء الثامن كافياً لتأسيس استقرار أمني في درعا، إذ عانت المحافظة من حالة اضطراب أمني وعنف واسع النطاق – متباين بين منطقة وأخرى – بفعل مقاربة النظام الأمنية، ناهيك عن انتشار السلاح المصحوب بالاحتقان المحلي والنزعات الانتقامية، بالإضافة لنشاط تنظيم الدولة ضمن هذه الديناميات.
ضمن خارطة السيطرة والنفوذ الأمني المُعقَّد، لم يستطع النظام فرض مقاربة صفرية في محافظة درعا في 2018، أسوة بتلك التي فرضها في القلمون الشرقي، والغوطة الشرقية، وريفي حمص وحماة، وذلك لأسباب عديدة أهمها حضور النفوذ الروسي الذي يرتبط بالقلق والمخاوف الأردنية والإسرائيلية، والذي انعكس باستمرار وجود مقاتلي المعارضة تحت مظلات عسكرية وأمنية مختلفة أبرزها اللواء الثامن، مع اعتبار روسيا كضامن لتقويض النفوذ الإيراني من جانب كل من الأردن وإسرائيل.
كما حافظت الحاضنة الشعبية المحلية على موقفها المعارض للنظام ومقاربته الأمنية تجاه المحافظة، الأمر الذي تجلى في رفض الأهالي المشاركة في انتخابات النظام الرئاسية في أيار/مايو من عام 2021، والخروج في مظاهرات واحتجاجات واسعة([4])، ناهيك عن الاحتجاجات ضد النظام في ذكرى الثورة السورية على مدار الأعوام السابقة بشكل عام وفي آذار/مارس من عام 2021 تحديداً([5]) .
لهذا، لم يكن مسار "المصالحة" الأولى مرضياً للنظام ومقاربته الأمنية، وهو ما تجلَّى في شنِّه عملية عسكرية في حزيران/يونيو من عام 2021 تضمنت حصاراً لأحياء درعا البلد وقصفاً مدفعياً سقط فيه العديد من القتلى المدنيين، الأمر الذي أدى لإطلاق شرارة مواجهات عديدة في ريفي درعا الشرقي والغربي شمل هجوماً على حواجز النظام وقتل وأسر العديد من عناصره([6]).
بعد عدة جولات من المفاوضات الفاشلة بين اللجنة المركزية ووجهاء حوران ولجنة درعا البلد واللواء الثامن من جهة واللجنة الأمنية التابعة للنظام من جهة أخرى، والتي رافقتها حملات ضغط عسكرية من قبل النظام، تم الاتفاق على "الوقف الفوري لإطلاق النار، دخول دورية للشرطة العسكرية الروسية وتمركزها في درعا البلد، فتح مركز لتسوية أوضاع المطلوبين وأسلحتهم، معاينة هويات المتواجدين في درعا البلد لنفي وجود الغرباء، نشر أربع نقاط أمنية، فك الطوق عن محيط مدينة درعا، إعادة عناصر مخفر الشرطة، البدء بإدخال الخدمات إلى درعا البلد، العمل على إطلاق سراح المعتقلين وبيان مصير المفقودين"، وذلك بضمانة روسية في بدايات شهر أيلول/سبتمبر 2021([7]).
وهكذا شملت التسويات التي بدأت من درعا البلد معظم أنحاء محافظة درعا، ليعلن النظام السوري في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2021 عن إتمام عملية التسوية وافتتاح "مركز للتسوية في قسم شرطة المحطة بمدينة درعا لاستقبال من تبقى من الراغبين بتسوية أوضاعهم من مختلف مناطق المحافظة وفق الاتفاق الذي طرحته ’الدولة‘"([8])، بالتزامن مع استمرار تواجد المجموعات المحلية المسلحة في مناطق مختلفة من درعا، بالإضافة للواء الثامن في معقله الرئيسي في بصرى الشام جنوب شرق المحافظة.
ثانياً: الاعتقالات (مطرقة المخابرات العسكرية)
نظراً لكون ملف المعتقلين أحد أبرز نقاط اتفاق التسوية؛ أعلن النظام السوري عن الإفراج عن 101 شخص "ممن لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين"، وذلك على خمس دفعات خلال تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر من عام 2022، ضمن "إطار اتفاق التسوية الذي طرحته ‘الدولة‘ في المحافظة"([9]). وقد شملت هذه السلسلة من الإفراجات أشخاصاً تم اعتقال أغلبهم بشكل تعسفي بعد تسوية 2018 أو من المتهمين بقضايا جنائية([10])، منهم من خارج محافظة درعا([11])، في حين لم يتم الإفراج عن معتقلي ما قبل تلك المدة([12])، ناهيك عن استمرار قوات النظام بممارسة عمليات الاعتقال الممنهجة بعد التسوية الأخيرة، حيث اعتقلت قوات النظام منذ بداية التسوية الأخيرة في درعا في نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2021، 345 شخصاً في محافظة درعا 28% منهم من عناصر المعارضة السابقين. ونشطت في عمليات الاعتقال خمس جهات من مؤسسات النظام الأمنية والعسكرية، أبرزها: الأمن الجنائي، والمخابرات العسكرية، والمخابرات الجوية، والمخابرات العامة، والأمن السياسي، وذلك وفقاً للنسب التالية([13]) :
وبحسب البيانات، فإن 40% من المعتقلين تم اعتقالهم من قبل الأمن الجنائي الذي ينشط في مختلف أرجاء درعا، وهو ما يعكس حالة انتشار الجرائم المرتبطة بالفوضى الأمنية في المحافظة، إذ شهدت أعلى معدل في انتشار الجريمة على مدار السنوات الأربع الماضية، والتي وصلت في عام 2021 فقط لـ115 جريمة من أصل 414 جريمة في عموم مناطق سيطرة النظام، بحسب المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي التابعة للنظام([14]) .
ولا يقتصر نشاط جهاز الأمن الجنائي على الأحداث الجنائية فقط، وإنما يمتد ليشمل مسائل غير جنائية كرصد الجهاز للنشاط الإعلامي للمواطنين تحت ذريعة "قانون الجرائم الإلكترونية"، إذ سبق وقام الأمن الجنائي بالتنسيق مع إدارة الشرطة وإدارة الاتصالات بملاحقة 192 مدنياً غالبهم في طفس بتهمة "الاشتراك بغرفة أخبار من شأنها بث الفتنة الطائفية وزعزعة الثقة بقوات الجيش العربي السوري والتشهير به"، وذلك بسبب اشتراكهم بغرفة "أخبار طفس لحظة بلحظة" في تطبيق "واتس اب"([15]). وتعتبر التهم المرتبطة بقانون الجرائم الإلكترونية، كـانتقــاد الحالة المعيشية المتدهورة أو الفســاد الحكومــي فــي مناطــق سيطرة النظــام الســوري([16])، ونقل المعلومات والأخبار المتعلقة بالوضع الميداني للوسائل الإعلامية من أبرز الذرائع التي يستخدمها الأمن الجنائي في عمليات الاعتقال التي يقوم بها، تحت تهمة "الإساءة لمؤسسات الدولة([17]) .
أما المخابرات العسكرية، فتعتبر مسؤولة عن 37% من عمليات الاعتقال في محافظة درعا مقابل 14% من العمليات قامت بها المخابرات الجوية، في حين قام كل من المخابرات العامة والأمن السياسي بتنفيذ 6% وَ 3% من عمليات الاعتقال على التوالي، وذلك بحكم تواجدهم المنخفض نسبياً في المحافظة مقارنةً بالمخابرات العسكرية والمخابرات الجوية.
ويرتبط ارتفاع نشاط المخابرات العسكرية بعمليات الاعتقال بازدياد نفوذها في محافظة درعا منذ بداية التسوية الأخيرة في نهاية أيلول/سبتمبر 2021، والتي تجلَّت بدايةً بانسحاب "الفرقة الرابعة" و"الفرقة 15" المدعومتين من قبل إيران من غربي درعا، وتَركُّز تواجد المخابرات الجوية المدعومة إيرانياً في المنطقة الشرقية باستثناء منطقة بصرى الشام التي بقيت تحت سيطرة اللواء الثامن([18]). يُضاف إلى ذلك تنفيذ المخابرات العسكرية لعمليات أمنية محدودة على غرار ما حدث في جاسم وطفس واليادودة غربي درعا بحجة تواجد مطلوبين أو أعضاء من تنظيم الدولة([19]).
لهذا، تتجه خارطة السيطرة الأمنية والعسكرية تجاه نفوذ أكبر للمخابرات العسكرية مقابل المخابرات الجوية لعدة عوامل أهمها: (1) فاعلية المخابرات العسكرية بشكل أكبر على مستوى قطاع المحافظات في سورية مقارنةً بباقي الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بما فيها المخابرات الجوية، وهو ما يعود لوجود فرع مخابرات عسكرية واحد مسؤول عن درعا والسويداء، (2) قيادة العميد "لؤي العلي" الذي شغل منصب رئيس القسم في درعا بدايةً عام 2011 ومن ثم تسلَّم رئاسة الفرع خلفاً لـ"وفيق ناصر" في كانون الثاني/يناير عام 2018 قبل بدء التسوية الأولى بدرعا وحتى اليوم([20]) .
وبالمقارنة، لا تتمتع المخابرات الجوية بذات المستوى من الفاعلية للمخابرات العسكرية على مستوى قطاع المحافظات بما فيها درعا من جهة، ولم يكن هناك حالة من الاستمرارية على مستوى قيادة القسم في درعا من جهة أخرى. ويتضح ذلك من خلال: (1) وجود قسم في محافظة درعا يتبع لفرع المخابرات الجوية في حرستا. (2) تعاقب ثلاث شخصيات على رئاسة هذا القسم منذ بدء الحراك الشعبي وهم: العميد "قصي ميهوب" بين 2011 وَ 2019 والعقيد الركن "سليمان محمود حمود" من بداية عام 2019 وحتى أيلول/سبتمبر من العام ذاته([21])، والعقيد "خردل ديوب" الذي تمَّت ترقيته لرتبة عميد في بداية عام 2022([22]).
ثالثاً: الاغتيالات (أداة النظام الانتقامية)
منذ اتفاق "المصالحة" الأخير في أيلول/سبتمبر 2021، لم تتوقف عمليات الاغتيال في محافظة درعا والتي طالت طيفاً واسعاً من المدنيين والعسكريين سواء من المحسوبين على المعارضة والمجتمع المحلي أو المحسوبين على النظام ، إذ تم رصد 359 عملية ومحاولة اغتيال ذهب ضحيتها ما يقارب الـ316 شخصاً تم تصنيفهم ضمن فئتين رئيسيتين: (1) فئة العسكريين السابقين أو الحاليين في مختلف التشكيلات المسلحة، ويُقدَّر عدد الأشخاص الذين اغتيلوا من هذه الفئة بـ178 شخصاً أي ما يُعادل 56ـ% من النسبة العامة، (2) فئة المدنيين والتي تضم طيفاً واسعاً من السكان المحليين إلى جانب شخصيات تقنية وحزبية تعمل في مؤسسات النظام، ويُقدَّر عدد من اغتيل منهم بـ111 شخصاً بما يعادل 34% من النسبة العامة. بالإضافة إلى تجار المخدرات والذين يُقدَّر عدد من اغتيل منهم بـ18 شخصاً بنسبة 7%، وأعضاء اللجان المركزية ويقدَّر عدد من اغتيل منهم بـ9 أشخاص بنسبة 3%، وذلك وفقاً للجدول التالي([23]):
يتوزع عدد من تم اغتيالهم من فئة العسكريين السابقيين والحاليين (والبالغ 178 شخصاً) على ست فئات رئيسية: (1) العناصر العسكرية للمعارضة السورية ممَّن انخرطوا في التسويات الأمنية دون أن ينضموا لتشكيلات عسكرية أو أمنية لاحقاً والذين شكَّلوا نسبة 34% من الاغتيالات، (2) العناصر العسكرية للمعارضة ممَّن انضموا لتشكيلات النظام العسكرية أو الأمنية كالفرقة الرابعة والمخابرات العسكرية والمخابرات الجوية والمؤسسات الأمنية الأخرى والذين شكَّلوا نسبة 23% من الاغتيالات، (3) العناصر العسكرية للمعارضة ممَّن انخرطوا في التسويات الأمنية وانضموا للواء الثامن والذين شكَّلوا نسبة 6% من الاغتيالات، (4) عناصر معارضة آخرون لم يشاركوا في التسوية الأمنية واستمروا في نشاطهم ضمن مجموعات محلية مسلحة والذين شكَّلوا نسبة 8% من الاغتيالات، (5) عناصر النظام الأمنية والعسكرية والذين شكَّلوا نسبة 18% من الاغتيالات، (6) العناصر السابقين أو الحاليين في تنظيم الدولة والذين شكَّلوا نسبة 11% من الاغتيالات، وذلك وفقاً للجدول التالي:
وبحسب البيانات، يُلاحظ بأن عناصر المعارضة التي انضمت لـلواء الثامن هم الفئة الأقل عرضة للاغتيال والاستهداف، وذلك لكون اللواء الثامن كان قد تشكَّل ببنية تنظيمية يتألف عمودها الفقري من فصائل المعارضة السابقة والتي كان أبرزها قوات "شباب السنة"، واحتفاظه بمركزية جغرافية في منطقة بصرى الشام، وتمتعه بحاضنة شعبية نسبية لكون قيادته وعناصره من أبناء المنطقة والمعارضين القدامى، والاستقرار الخدمي الأمني والخدمي النسبي في مناطق سيطرته مقارنةً ببقية المناطق في درعا.
وقد مكَّن ذلك اللواء من تأمين حماية أكبر نسبياً لعناصره مقارنةً بعناصر المعارضة السابقة التي اعتزلت العمل العسكري أو تلك التي انضمت لمؤسسات النظام الأمنية والعسكرية، إذ كانت الفئتان الأخيرتان الأكثر عرضةً للاغتيال بحكم تفكك البنى التنظيمية القادرة على تأمين حماية – وإن كانت نسبية – لهم في ظل مقاربة النظام الانتقامية، وانتشار النعرات الانتقامية المحلية المرتبطة بالتسوية في ظل الفوضى الأمنية في المنطقة.
بالمقابل، لا تخرج الاغتيالات التي طالت عناصر النظام أو المحسوبين أو المتهمين بالتعامل معه من جهة، والاغتيالات الأخرى التي طالت العديد من عناصر المجموعات المسلحة سواء تلك التي التحقت أم لم تلتحق بالتسوية بالإضافة إلى عناصر تنظيم الدولة من جهة أخرى، عن سياق ازدحام الفاعلين المحليين المتنازعين فيما بينهم في ظل غياب قوة مهيمنة بشكل مطلق على الأرض، بالإضافة لتولُّد حالة من النزعات الانتقامية بدوافع سياسيِّة نشأت نتيجة للصراع الدموي بشكل عام، وما تبعه من مواقف للفواعل المحلية بشأن "المصالحة" وعمليات التسوية التي ارتبطت بسلسلة من التصفيات والعمليات العسكرية والأمنية المتعددة، التي أدت للزيادة التدريجية لنفوذ أجهزة النظام وعلى رأسها جهاز المخابرات العسكرية في المحافظة بشكل خاص.
لا تقتصر عمليات الاغتيال على العسكريين فقط، وإنما تمتد لتطال فئات واسعة بما فيها المدنيين الذين يُقدَّر عدد من اغتيل منهم بـ111 شخصاً من ضمنهم شخصيات مرتبطة بمؤسسات النظام الرسمية والحزبية كقيادات في حزب البعث، ورؤساء بلديات، وعاملين في مديريات مدنية وخدمية، وقضاة، وتقنيين في مؤسسات النظام الأمنية والعسكرية. وقد وصلت نسبتهم ما يُقارب الـ20% من مجمل الاغتيالات التي طالت شخصيات مدنية. ويُقدِّم ذلك دلالة واضحة للنزعة الانتقامية المحلية تجاه العاملين في مؤسسات النظام بشكل عام بغض النظر عن طبيعة وظيفتهم، نتيجةً لممارسات النظام المستندة لمقاربته الأمنية الصفرية للمنطقة.
تُضاف إلى ذلك الاغتيالات التي طالت 9 أشخاص على الأقل من اللجان المركزية المسؤولة عن تمثيل المجتمع المحلي والتفاوض مع النظام في حالات التصعيد منذ اتفاق التسوية الأخير، الأمر الذي دفع اللجنة المركزية في ريف درعا الغربي لتجميد نشاطها في بدايات عام 2022 لا سيما بعد اغتيال أبرز شخصيتين في اللجنة: "الشيخ أحمد البقيرات" و "مصعب البردان"، وذلك في كانون الأول/ديسمبر 2021، وشباط/فبراير 2022 على التوالي([24]). وهكذا، تم تحييد دور اللجنة المركزية في ريف درعا الغربي، ودور اللجنة المركزية في منطقة درعا البلد التي حلَّت نفسها في آب/أغسطس 2022 بسبب عجزها عن القيام بدور فعال لحل مشاكل المنطقة واتهامها بـ"العمالة" لصالح النظام([25]) .
إلى جانب الفئات السابقة، تعتبر الاغتيالات التي طالت 18 شخصاً على الأقل من تجار المخدرات كمؤشر إضافي لحالة الانتقامات المحلية من جهة، ومؤشر للتنافس بين مجموعات مختلفة تنشط في تجارة المواد المخدرة من جهة أخرى، ناهيك عن نشاط الفاعل الأردني كونه المتضرر الأكبر من نشاط تجارة المخدرات والذي يقوم بضبط شحنات ضخمة من المواد المخدرة القادمة من مناطق سيطرة النظام، يتم إنتاجها وتهريبها من قبل المجموعات المرتبطة بإيران و"حزب الله" وقوات النظام وشبكات التهريب المرتبطة بها([26])، إذ أنه وعلى الرغم من سعي روسيا لتقليص حجم النشاط الإيراني في درعا إلا أن ذلك لم ينعكس على نشاطها في إنتاج وتهريب المخدرات.
لا تعتبر استراتيجية النظام الأمنية تجاه محافظة درعا، والتي تهدف إلى فرض "سيادة الدولة" على المدى الطويل استثناءً عن مقاربته تجاه مختلف المناطق السورية الخارجة عن سيطرته، وهو ما يتَّضح على مستوى السردية التي يتبناها النظام تجاه التسويات معرفاً إياها بـ"اتفاق التسوية الذي طرحته الدولة".
ويتَّضح على مستوى الممارسة باعتماده نهجاً أمنياً انتقامياً تجاه المعارضين السابقين من المدنيين والعسكريين سواء أولئك الذين انضموا للتسويات الأخيرة أم لا، مستخدماً كلاً من عمليات الاعتقال والاغتيال كأدوات تنفيذية لهذا النهج، وذلك لغياب قدرة النظام على القيام بحملات عسكرية واسعة لأسباب تتعلق بالقدرات العسكرية والموقف الروسي والأردني الرافض لهذا النوع من التصعيد. لينعكس ذلك على أرض الواقع باستمرار الفوضى الأمنية، وانتشار النعرات الانتقامية التي طالت مخلتف الأطراف بما فيها عناصر النظام من العسكريين والمدنيين.
وفي ظل تزاحم الفواعل وغياب الهيمنة المطلقة في المحافظة، يسعى النظام لزيادة نفوذه عن طريق جهاز المخابرات العسكرية، المسؤول الأبرز عن عمليات الاعتقال في المحافظة، حيث يتزايد نفوذه على حساب بقية الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للنظام، مستفيداً من بنيته المتماسكة وقدرته على المناورة ضمن إطار التسويات مع المجموعات المحلية.
ومع ذلك، لم يرق هذا التمدد لدرجة الهيمنة أو فرض "سيادة الدولة" حتى الآن، نظراً لكون المنطقة الجنوبية السورية بشكل عام ودرعا بشكل خاص ساحة نفوذ وتنافس إقليمية لكل من: روسيا وإيران والأردن وإسرائيل من جهة، واستفادة المجموعات المحلية من هذه الخارطة ومقاومتها لهذا التمدد من جهة أخرى. لتلقي جملة هذه العوامل بظلالها على طبيعة توازن القوى ومساحات فعل النظام الكلية، ما دفعه للجوء لاستراتيجية التقدم البطيء التدريجي ضمن خارطة النفوذ والقوى المعقدة.
بالمقابل، تلعب الأجهزة الأمنية والعسكرية دوراً مهدداً للأمن المحلي والإقليمي عبر انخراطها المباشر وغير المباشر في تنفيذ أنشطة العنف بدوافع سياسية كالاعتقالات والاغتيالات من جهة، ورعايتها لأنشطة الجريمة المنظمة كشبكات تهريب المخدرات من جهة أخرى، ناهيك عن الهوة الموجودة بين هذه الأجهزة والمجتمع المحلي نتيجة الصراع الدموي.
ختاماً، وعلى الرغم من مضي أكثر من أربعة أعوام على مسار "المصالحة" في درعا، لم تنتج اتفاقيات التسوية التي فرضتها روسيا والنظام حلاً مستداماً في المحافظة، مثلما أنها لم تنتج نموذجاً مستقراً في مناطق التسوية الأخرى في ريف دمشق وريفي حمص وحماة. وإنما كانت بمجملها عبارة عن مسارات متعثرة لفرض حلول جزئية بهدف تجاوز الحل السياسي الشامل لمعالجة جذر الأزمة السياسية، مقدمةً مؤشرات واضحة على عدم نجاعة هذا النموذج الذي يتسم بانعدام الاستقرار الأمني، القابل للاستمرار في ظل أوضاع اقتصادية مزرية تزيد من وطأتها.
([1]) تعرف على تسلسل الحملة العسكرية على درعا.. هكذا بدأت، عربي 21، 07 تموز/يوليو 2018، الرابط: https://cutt.us/F7gDJ
2) Abdullah Al-Jabassini, From Insurgents to Soldiers: The Fifth Assault Corps in Daraa, Southern Syria, European University Institute, 14 May 2019, Link: https://cutt.us/AYHCT
(3) عبد الله الجباصيني، الحوكمة في درعا جنوب سوريا: أدوار الوسطاء العسكريين والمدنيين، برنامج مسارات الشرق الأوسط، 04 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، الرابط: https://cutt.us/LRaaw
(4) معن طلاع، اتفاقيات المصالحة في درعا 2021: السياق والانعكاسات المحتملة على المشهد السوري، مركز الجزيرة للدراسات، 29 تشرين الأول/أوكتوبر 2021، الرابط: https://cutt.us/vWpFW
(5) مقتطفات من احتفالية أهالي درعا البلد في ميلاد الثورة العاشر 18 آذار 2021، تجمع أحرار حوران، 20 آذار/مارس 2021، الرابط: https://cutt.us/WScfh
(6) في أول تصعيد منذ 2018.. قتلى وجرحى في درعا وريفها جراء قصف للنظام السوري، الجزيرة نت، 29 تموز/يوليو 2021، الرابط: https://cutt.us/WLncA
(7) جلال بكور، المعارضة السورية تؤكد بنود اتفاق درعا البلد وروسيا تشرع بتنفيذه، العربي الجديد، 01 ايلول/سبتمبر 2022، الرابط: https://cutt.us/m02Tq
(8) إتمام تسويات الريف… وافتتاح مركز في مدينة درعا لاستقبال من تبقى من الراغبين بتسوية أوضاعهم، وكالة سانا، 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، الرابط: https://cutt.us/TIJ9Y
(9)حصيلة المعتقلين التي أعلن النظام عن الإفراج عنهم عبر وكالة سانا ضمن التسوية، الروابط: https://cutt.us/ySoZP - https://cutt.us/GqAhd - https://cutt.us/3jcKl - https://cutt.us/jFpQV - https://cutt.us/miwAC
(10) بيان صحفي – توضيح حول دفعتي المفرج عنهم من سجون قوات النظام، مكتب توثيق الشهداء في درعا، 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، الرابط: https://cutt.us/Bl1xR
(11) تجارة الألم.. 3 كذبات لنظام الأسد وراء معتقلي درعا المفرج عنهم، أورينت نت، 07 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، الرابط: https://cutt.us/auhCR
(12) "انسوا المعتقلين قبل 2014".. تفاصيل زيارتين لرئيس المخابرات العامة لدرعا إحداها سرية، السورية نت، 28 شباط/فبراير 2019، الرابط: https://cutt.us/Zsgd4
(13) حصيلة رصد للمصادر المحلية على مدار عام كامل بدءاً من تشرين الأول/أكتوبر 2021 وحتى نهاية أيلول/سبتمبر 2022.
(14) 414 ضحية بسبب جرائم القتل 50 بالمئة تم اكتشافها خلال 48 ساعة و95 بالمئة خلال أسبوعين … «الطب الشرعي» لـ«الوطن»: 10 بالمئة انخفضت حالات الانتحار في العام الحالي، صحيفة الوطن، 14 كانون الأول/ديسمبر 2021، الرابط: https://cutt.us/DDp7z
(15) ملاحقة 192 مدنيًّا بتهمة بث الفتنة الطائفية وزعزعة الثقة بالجيش والتشهير به، درعا 24، 18 كانون الثاني/يناير 2022، الرابط: https://cutt.us/YvD2z
(16) نشطت أفرع الأمن الجنائي على مدار عام 2021 في تنفيذ حملات اعتقال واسعة بتهمة انتقاد الوضع المعيشي والفساد الحكومي، ووجهت لهم سلسلة من التهم المرتبطة بقانون الجرائم الإلكترونية. للمزيد:
التقرير السنوي الحادي عشر: أبرز انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا في عام 2021: انهيار الدولة وتفتيت المجتمع، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 20 كانون الثاني/يناير 2022، الرابط: https://cutt.us/eK1gQ
(17) قام الأمن الجنائي باعتقال أحد الأشخاص بتهمة التواصل والتعامل مع مواقع إلكترونية تعمل لـ"غابات مشبوهة" تهدف لـ"الإساءة لمؤسسات الدولة". للمزيد: إدارة الأمن الجنائي تلقي القبض على أحد المتعاملين مع المواقع الإلكترونية المشبوهة، صحيفة تشرين، 17 أيار/مايو 2022، الرابط: https://cutt.us/65a4F
(18) تقاسم نفوذ جديد بعد انتهاء “التسويات” في درعا، عنب بلدي، 07 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، الرابط: https://cutt.us/u9pTV
(19) النظام السوري يصوّب نحو اليادودة في ريف درعا بعد جاسم وطفس، العربي الجديد، 26 تشرين الأول/أكتوبر 2022، الرابط: https://cutt.us/wKY8q
(20) الأمن العسكري... العدو الأول لأهالي درعا والسويداء، العربي الجديد، 12 أيلول/سبتمبر 2022، الرابط: https://cutt.us/i2o4O
(21) منذ 2011.. شخصيتان تعاقبتا على رئاسة فرع “المخابرات الجوية” في درعا، عنب بلدي، 09 أيلول/سبتمبر 2019، الرابط: https://cutt.us/k3huu
(22) ماذا يعني نقل أحد أكثر جنرالات الأسد دموية إلى درعا؟، عربي 21، 3 تشرين الأول/أكتوبر 2019، الرابط: https://cutt.us/wa6qv
(23) حصيلة رصد للمصادر المحلية على مدار عام كامل بدءاً من تشرين الأول/أكتوبر 2021 وحتى نهاية أيلول/سبتمبر 2022.
(24)باغتيال أعضائها أو مغادرتهم: النظام يفكك لجان التفاوض في درعا، سوريا على طول، 30 آب/أغسطس 2022، الرابط: https://cutt.us/O00uH
(25) “لعجزها” عن حل المشاكل.. “اللجنة المركزية” في درعا البلد تحل نفسها، السورية نت، 04 آب/أغسطس 2022، الرابط: https://cutt.us/bzVal
(26) خليفات: قوات سورية غير منضبطة تدعم مهربي المخدرات على حدودنا، جريدة الغد، 15 أيار/مايو 2022، الرابط: https://cutt.us/NYI3u
ملخص تنفيذي
تعد أسئلة التغيير الأمني (منهجاً ووظيفة وبُنية) من أهم الأسئلة التي تنتظر إجابات موضوعية تُراعي الظروف الناشئة وجملة المتغيرات المتسارعة التي تعصف بالجغرافية السورية، ولأنها عملية معقدة فلن تصلح معها – وفق الواقع السوري الخاص – نظريات الإصلاح الجاهزة أو الأطروحات المغيِبة لطبيعة وأهمية الأمن الوطني من جهة، أو المتجاوزة لضرورات التماسك وعدم الانهيار من جهة ثانية، وإنما تتطلب جهداً وطنياً احترافياً، متسقاً مع متطلبات البنية الأمنية المحلية والإقليمية والدولية، ومع الهدف الوطني المتمثل في بناء قطاع أمني متماسك.
تجد الدراسة أن الدولة السورية لا تملك قطاعاً أمنياً ابتداءً حتى يستوجب الإصلاح، فصنوف العمل الأمني في سورية تقع في مستويين، الأول: أذرع تحكُّم وضبط، فالمخابرات الجوية والعسكرية هي ذراع الجيش والقوات المسلحة، والمخابرات العامة هي ذراع مشترك لمكتب الأمن الوطني (أو القومي سابقاً) وللحزب الحاكم (حزب البعث العربي الاشتراكي)، والأمن السياسي ذراع وزارة الداخلية، والثاني: شبكات عسكرية – أمنية (الحرس الجمهوري، الفرقة الرابعة، قوات النمر) ويقع على عاتقها هندسة العملية الأمنية وضبط علاقاتها وقواعدها الناظمة، وضمان أمن النظام والقيام بكافة الإجراءات والعمليات داخل المجتمع في حال بروز أية مؤشرات مهددة لهذا الأمن. وعليه يمكن تحديد مكمن الخلل والانحراف بأمرين، الأول البُنية الأمنية المتشعبة التي ساهمت في تطويق الحركة المجتمعية وحدّت من إمكانية تقدمها وتطورها، والأمر الثاني متعلق بوظيفة هذه الأجهزة التي كانت تتسم بالسيولة واللامحدودية، باستثناء وظيفة تثبيت وتعزيز عوامل استقرار النظام الحاكم، لذا فإن أي عملية إصلاحية لهذه الأجهزة لا بد أن تستهدف البنية والوظيفة في آن معاً.
إن الضرورة الأمنية وأهميتها - في سياق أي عملية انتقالية (لاسيما في جغرافية كسورية وكونها أحد عناصر معادلة إقليمية ودولية حساسة)، ناهيك عن أنها أهم وظائف "الدولة" سواء على مستوى تحقيق الاستقرار الاجتماعي أو على مستوى تحصن البلاد وصيانة هويتها وثقافتها من أية اختراقات- تؤكد أن نظريات تفكيك الأجهزة الأمنية وإنهاء عملها نهائياً وعدم إعادة بناء بديل وطني ببُنية متماسكة ووظائف متصلة بطبيعة الفعل الأمني، إنما هو طرح مستبعد وخاصة في المرحلة القادمة من سورية الجديدة التي تنامت فيها المشاريع العابرة للحدود السورية. ومن هنا تبدو الحاجة الأكثر اتساقاً مع ثنائية (رفض السلوك والمنهج / الضرورة الأمنية) هي ضرورة إعادة الهيكلة للمؤسسات الأمنية في المرحلة القادمة لتُجاري أجهزة الأمن الموجودة في الدول المتقدمة والمبنية على أسس صحيحة لخدمة الوطن والمواطن.
تبين الدراسة أنه ينبغي أن تستند إجراءات إعادة الهيكلة على مبادئ التغيير والانتقال السلس والمتماسك، خشية تداعيات التغيير المفاجئ على تماسك البلاد، وتضمن عودة هذه الأجهزة إلى الإطار الوطني وتكاملها مع مؤسسات الدولة. وأن تأتي هذه الإجراءات كانعكاس لسلسلة تفاهمات سياسية تدلل على الإرادة الحقيقية للتغيير والانتقال السياسي، وأن تخلو من أية حسابات تنافسية أو استحواذية سلطوية، وفي سبيل ذلك تقترح الدراسة ثلاثة مراحل لإتمام عملية التغيير والتطوير، الأولى تتعلق بالمنظومة القانونية التي ستراعي مبادئ الدمج وإعادة التوازن وتغيير الوظيفة وتعزيز المراقبة، والثانية مرتبطة بتطوير البنية سواء البشرية أو الإدارية والفنية، أما المرحلة الثالثة فهي مجموعة إجراءات تهدف لاستكمال بناء قطاع أمني متماسك.
المقدمة
منذ استلام حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة في سورية عام 1963 اعتمدت لجنته العسكرية كلياً على المخابرات كأداة لتعزيز حكمه وترسيخ قاعدته. وإبان عهد صلاح جديد في نهاية الستينيات اتبع عبد الكريم الجندي (رئيس أجهزة الأمن ورئيس مكتب الأمن القومي للحزب آنذاك) سياسة الخطف والتعذيب لمعارضي الحزب. ثم رسخ الأسد الأب منذ استيلائه على السلطة في آذار من عام 1971 إثر انقلابه في تشرين الثاني عام 1970 القبضة الحديدية الأمنية التي تحكمت بالحياة العامة في سورية أمنياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً وحتى دينياً، وحولها إلى ذراع تسلط قوي تغلغل في الدولة والمجتمع والحياة العامة. ولم يَحد الأسد الابن عن هذا النهج حيث بقيت هذه الأجهزة تنتهج كافة السياسات التي تجهد لربط حركة المواطنين المجتمع والدولة بمحدداتها الأمنية والرقابية. وقد كانت تلك المؤسسة بالإضافة إلى المؤسسة العسكرية خط الدفاع الأول والأخير عن النظام الحاكم بحكم الضبط المُحكم والهندسة العملياتية لتركيبة وبنية الجيش السوري الطائفية والتي يسيطر على مراكز القيادة فيها الطائفة العلوية وممن يدينون بالولاء المطلق للنظام. وتوضحت هذه الهندسة بعد خلاف الأسد الأب مع شقيقه رفعت الذي كاد أن يطيح به في ثمانينات القرن الماضي حيث قام بإعادة هيكلة الجيش والأمن وضبط التفاعلات الأمنية وفق محددات تتعلق بتثبيت الحكم وتقويض كافة الحركات وأشكال الرفض لنظامه (الظاهرة أو الكامنة).
ومع انطلاقة ثورة آذار/2011 في سورية -التي يُعد أحد أهم أسباب انطلاقها تنامي كُمون الغضب الشعبي الذي وصل حد الانفجار حيال ممارسات الأجهزة الأمنية الإلغائية والاستبدادية والمنافية لأبسط حقوق الإنسان – تابعت هذه الأجهزة تلك الممارسات عبر النظر إلى جموع المتظاهرين على أنهم "رعاع، عصاة، إرهابيين"، وكانت العصب الرئيس في سياسات القمع والعنف الممنهج ضد الحراك الثوري. ومع امتداد هذا الحراك والانتقال الحاد في مستويات الصراع، لهث المجتمع الدولي لوضع مجموعة قواعد تؤسس لانطلاق "عملية سياسية" عبر مسار تفاوضي لايزال متعثراً حتى تاريخ إعداد هذه الدراسة. وتُدلل كل المؤشرات على أن الحل السياسي المطلوب للمجتمع الدولي يتضمن "المحافظة على أجهزة الدولة وعلى رأسها مؤسسات الأمن والدفاع".
ووفقاً لأعلاه تُعد دراسة الواقع الأمني في سورية والتباحث في ضرورات التغيير الوظيفي والتنظيمي للأجهزة الأمنية إشكالية بحثية تستوجب التفكيك، إذ أنه لن يستقيم أي مسار سياسي يرتجي مداخل وحلول للملف السوري دون المرور بالملف الأمني وتجاوزاته وأسئلته الانتقالية والمستقبلية. لذا تحاول هذه الدراسة تقديم وصف دقيق لطبيعة الوظيفة والمنهج المتبع من قبل هذه الأجهزة وذلك لتلمس أهم مستويات الخلل الظاهرة والنتائج المستخلصة التي ستساعد لبناء تصور موضوعي للملف الأمني.
فرضيات الدراسة: تنطلق هذه الدراسة من عدة فرضيات وهي:
1. إن أي عملية انتقالية لا يُرافقها تغيير منهجي في الأداء الأمني بحيث يؤهلها لحماية العملية الانتقالية والسياسية ستكون تغييراً شكلياً لن يُسهم في ترسيخ عوامل الاستقرار الاجتماعي والسياسي وستُعد تثبيتاً لدعائم النظام الحاكم.
2. إن ارتباط العملية الإصلاحية بهندسة الحل السياسي التي تدور رحاها في جنيف هو ارتباط بُنيوي، لذا كلما كان الحل مؤسساً لعملية تغيير حقيقة سيكون له الأثر الواضح في إنجاح مسيرة الإصلاح والتغيير.
3. لا تستقيم العملية الإصلاحية دون تعاطٍ إيجابي من قبل الفاعلين الإقليميين والدوليين خاصة بعدما أضحى "الملف" السوري دولياً بامتياز. ويتطلب ذلك جهوداً وطنية حثيثة تضمن تطويع الفاعلين الإقليميين والدوليين في دعم وتمويل العملية السياسية والانتقالية وما سترافقها من سياسات إصلاحية.
4. تتبنى الدراسة مبدأ ضرورة احتكار الدولة للوظائف السيادية المركزية (الأمن والدفاع – الخارجية) ولا تتعارض مع مبدأ اللامركزية الإدارية.
5. تصطدم العملية الإصلاحية بحالة معارضة شديدة من قبل الأجهزة المعنية ذاتها، وبذات الزخم من معظم شبكات النظام الحاكم، بحكم "موضوعية" الدفاع عن مصالحها التي سيُخضِعُها الإصلاح إلى مراجعات على كافة المستويات ولا سيما فيما يتعلق بالتنظيم والمأسسة، وسيُحيلها لمرجعيات تتولى الإشراف والمراقبة على التمويل وآلياته، وعلى كافة عمليات التخطيط.
منهج الدراسة: تتبع الدراسة المنهجين الوصفي والسلوكي لتبيان فلسفة وواقع الأجهزة الأمنية وطبيعتها التنظيمية والوظيفية الحالية وكذلك الذي ينبغي التوصل إليه. واستندت أثناء تحديدها لمظاهر الخلل والارتكاسات البنيوية على مجموعة من اللقاءات مع ضباط وأفراد وخبراء أمنيين منشقين، حيث تُشكل رؤاهم مستنداً أساسياً للوقوف على خفايا ومعطيات العمل والنهج الأمني الذي تعتبره الدراسة أساساً مهماً في تماسك هذه الأجهزة وولائها المطلق للنظام الحاكم. كما استخدمت الدراسة المنهج المقارن في معرض استعراضها لأهم تجارب الإصلاح الأمني في بلدان الربيع العربي وذلك للقياس بها على الحالة السورية واستكشاف أهم الدروس والخلاصات منها وتصديرها كضرورات ينبغي مراعاتها وإدراكها أثناء عملية الإصلاح الأمني.
الدراسات السابقة: لعل أهم الدراسات الصادرة والمعنية بقضايا الإصلاح الأمني في سورية تتلخص في اثنتين، الأول بعنوان خطة التحول الديمقراطي في سورية الصادرة عن بيت الخبرة في المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية في عام 2013، إذ تناول الفصل التاسع منها إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية في سورية مستعرضة ما يلي:
1. أهم الأجهزة الأمنية في سورية مُبينةً دورها في سياسات القمع الممنهج للثورة السورية ومُوثقة لأهم المجازر التي ارتكبتها هذه الأجهزة.
2. أهداف ومبادئ وآليات عامة للإصلاح.
3. اقتراح منظومة أمنية سورية جديدة قائمة على حل كافة الأجهزة الأمنية باستثناء قوى الشرطة التي أفرد لها شرحاً تفصيلياً لمقترح هيكلة قوى الأمن الداخلي.
إلا أنه تم إنجاز هذه الدراسة في سياق أحداث الصراع الدائر في عام 2013، إذ شهد انتقالاً بعدها إلى مستويات أكثر تركيباً، تتداخل فيها العديد من المهددات الأمنية سواء ذات المصدر العقدي أو القومي أو نوع الجرائم أو حجم الملفات الأمنية المتراكمة، بالإضافة إلى ظهور تحديات نوعية يرتبط بعضها بنتائج حركية الإصلاح الأمني في بلدان الربيع العربي ناهيك، عن تعدد الجهات الفاعلة والمنخرطة في الصراع ضمن الجغرافية السورية التي تشهد أشكالاً صلبة من الحكم والتمكين المحلي.
كما أطلق مشروع اليوم التالي الرامي لدعم الانتقال الديمقراطي في عام 2013 فصلاً مهماً عن "إصلاح القطاع الأمني" اقترح فيه حلَّ الأجهزة الأمنية الحالية وتأسيس وكالات استخبارات جديدة (استخبارات خارجية وعسكرية)، وجدولاً زمنياً لتنفيذ الإصلاح يمتد لأربعة عشر شهراً، متكئاً على نظرية نسف البُنية الأمنية وتأسيس تشكيلات أمنية جديدة موكلة في هذا السياق وظائف الأمن المحلي على قوى الشرطة المدنية. وأخضعت الدراسة المشهد الأمني لنظريتي التفكيك وإعادة الهيكلة، مُبينة في الوقت ذاته عدم وجود ما يسمى "قطاع أمني"، وأن جميع المؤسسات الأمنية هي أذرع تحكُّم لمؤسسات مختلفة أهمها الجيش ووزارة الداخلية وحزب البعث العربي الاشتراكي، وأن الفاعل الرئيسي المتحكم بالعملية الأمنية ومؤسساتها هو لشبكات هندسها النظام بحيث يضمن سير جميع هذه المؤسسات وفق بوصلة تعزيز حكمه، مُتكئاً على أبناء عوائل علوية محددة تتنافس فيما بينها لإظهار الولاء وتعظيم المصلحة الخاصة. إن هذه التركيبة تجعل من تفكيك وظائف هذه الشبكات الأمنية أمراً استراتيجياً مترافقاً مع عملية البدء في تكوين قطاع أمني متماسك، ينطلق من ضرورات التغيير الوظيفي والبنائي في عملية إصلاح هذه الأجهزة.
وشكلت دراسات مركز كارينغي للباحث يزيد صايغ المتعلقة برصد وتحليل حركية الإصلاح الأمني في دول الربيع العربي، منطلقاً أساسياً استندت إليها الدراسة في استخلاص أهم العثرات والإشكالات التي اعترض هذه العمليات. ومن أبرز هذه الدراسات: (الدول المتداعية: إصلاح قطاع الأمن في ليبيا واليمن)، (معضلات الإصلاح: ضبط الأمن في المراحل الانتقالية في الدول العربية). وقام الباحث بتفكيك العملية الإصلاحية لأجهزة الأمن في هذه البلدان، حيث يراها متعثرة لأسباب عدة لعل أهمها إرث الأنظمة الاستبدادية والفصائلية وتسيس الملفات الانتقالية، بالإضافة إلى تركيز الحكومات على جزئية الإرهاب واستبعاد أي أجندة أمنية جدية أخرى، ناهيك عن معضلة الاقتصاد السياسي لهذه العملية خاصة فيما يتعلق بالتكاليف.
أولاً: الواقع الأمني إبان حكم الأسد
سمح قانون الطوارئ الصادر في عام 1962 وإعلان حالة الطوارئ في 8 آذار 1963 ومن بعدها تعديلات الدستور في عهد حافظ الأسد عام 1973 للأجهزة الأمنية بتجاوز الصلاحيات المعطاة لها بقوانين ومراسيم إحداثها، حيث أصبحت وسيلة للقمع والتعذيب وتقييد الحريات، ومصادرة الرأي العام، كما سببت لبنية المجتمع السوري ارتكاسات بالغة الحدية. ولأن الأمن كمفهوم يُدلل على ضرورة البحث والتحري الدائم لأسباب الاستقرار والتماسك الأهلي، وهو ما تم تغييبه في سورية إبان حكم الأسد وتحول إلى مفاهيم أمنية خاصة بالسلطة الحاكمة التي طوّعت هذه الأجهزة وغيرها من قطاعات عسكرية ومدنية أخرى، وابتدعت واستحدثت الكثير منها في سبيل التحكم في كافة التفاعلات المحلية وعلى كافة الصعد وإقصائها عنوة عن ميادين الفاعلية في المجال العام.
فلسفة العمل الأمني
يدلنا تتبع سير العمل الأمني وسلوكيته خلال عقود حكم الأسد الأب والابن على فلسفة عمل الأجهزة الأمنية التي تجهد للجمع بين ثنائية (الولاء للنظام – المصلحة الخاصة)، والتي شكلت الضامن الحقيقي لبقائها الفاعل الرئيسي في كافة التفاعلات المحلية، والداعم المطلق للنظام الحاكم. وفيما يلي أهم ملامح هذه الفلسفة:
1. الصلاحيات المطلقة وربط الحركة المجتمعية بالاتجاهات الأمنية:
أطلقت الاستقلالية التامة وحجم الصلاحيات الواسعة للأجهزة الأمنية يدها في جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والخدمية والاجتماعية، واتخذت أنماط تدخل عدة، لعل أهمها تكريس مبدأ ما يسمى "بالموافقات والدراسات الأمنية". وجوهر هذا الأمر هو إعطاء هذه الأجهزة الأمنية حق "الاعتراض" على كل الممارسات والمطالبات المجتمعية، مما نتج عنه تدخل في أبسط مناحي الحياة، كالحصول على رخصة بائع متجول إلى تسجيل المعاملات العقارية والميراث وصولاً إلى عضوية مجلس الشعب وترفيع ضباط الجيش، وتشكيل الحكومات وتعيين القضاة. وكان مجرّد الحصول على أي وظيفة عامة في الدولة مهما صغر أو علا شأنها، يعتمد على أن تكون الدراسة الأمنية إيجابية حيال الموقف السياسي من النظام.
2. التنافسية في الولاء وحالة العداء البيني:
اعتمد حافظ الأسد في سبيل إحكام سيطرته على الأجهزة الأمنية على أسلوب توليد العداء وخلق الحالة التنافسية بين الأجهزة الأمنية والقائمين عليها، حيث ارتبط مؤشر الأداء الجيد بمعياري الولاء والطاعة المطلقة. وعلى سبيل خلق مصلحة خاصة للمسؤولين الأمنيين تم إطلاق أيدهم في جميع مفاصل الدولة التي شكّلت مصدر ثراء فاحش لهم، وفي نفس الوقت يتم تجهيز ملف كامل لكل "الفاسدين والمتجاوزين"، الأمر الذي يسهّل من عملية التخلص منهم في حال تنامي طموحاتهم ودون أن يترك ذلك أثراً على المنظومة الأمنية. أما في عهد بشار الأسد فلقد عمل على إنماء حالة من النزاع والتنافس البيني في مناطق النفوذ والسيطرة، فتم تقاسم السيطرة على المنافذ الحدودية بحيث أصبح كل منفذ حدودي يتبع لجهاز أمني واحد هو المسيطر والمتحكم به وبثرواته فكانت المنافذ الحدودية مع العراق تتبع لإدارة المخابرات العامة والمنافذ الحدودية مع الأردن للمخابرات الجوية ومع لبنان للأمن العسكري ومع تركيا للأمن السياسي.
3. الخوف الأمني المركب:
تنامى طرداً مع مرور الزمن حالة الخوف الأمني المزدوج المتمثلة في نشر ثقافة الرعب من الأجهزة الأمنية في المجتمع وفي التحسب من المراقبة الأمنية داخل المؤسسة، وذلك عبر تكريس تركيبة طائفية متناقضة داخل دائرة القرار في كل فرع، وعبر تعميق ثقافة "التقارير" في المجتمع، وفي داخل المؤسسة الأمنية، مع اختلاف طبيعة الخطأ الذي يتم التوجس منه، ففي داخل المجتمع يتم العمل على نشر محددات تعيق حركته وتربطها كلياً بمعيار الخوف من أي فعل جمعي أو نوعي. أما التخوف الداخلي فيتأتى من ظهور علامات التقاعس في أداء المهام الأمنية أو في أي فعل من شأنه تقليل الولاء والانتماء لفكر وعقيدة "قائد الأمة".
4. مهمات تتعلق بأمن النظام الحاكم:
فرضت الطبيعة الشمولية للدولة ونموذج الحكم الفردي مهمات وأعباء كبيرة على الأجهزة الأمنية، جعلتها في موقف الحليف للنظام الحاكم، وربطت مصيرها بديمومة هذا النظام، حيث رجحت أمن هذه النظام وسيطرته على الحكم في مختلف المستويات الأمنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على باقي القضايا والإشكالات الأمنية الداخلية. وقد أدى ذلك إلى تزايد حجم التجاوزات المرتكبة وارتفاع نسبة تضخم دورها في مجال القمع، والتورط في انتهاكات مُمنهجة للقانون وحقوق الإنسان. فعلى مدى عقود من الزمن تم الترويج لما يمكن وصفه بالأيديولوجية الأمنية، التي كانت تبرر تحويل الوظائف الأمنية للدولة إلى هدف في حد ذاته منفصلاً عن بقية وظائف وأدوار الدولة. وتم تقليص مخصصات الوظائف الأساسية، مثل التعليم، والخدمات الصحية في كثير من الأحيان من أجل توفير موارد أكبر للإنفاق على الأمن الذي يحافظ على بقائها على رأس السلطة متجاهلةً أسس بناء الأجهزة الأمنية التي ينبغي أن تقوم عبر المحافظة على أمن وسلامة واستقرار الوطن والمواطن.
5. إغلاق باب السياسة
عملت الاستراتيجية الأمنية عبر عقود حكم الأسد على نشر فلسفة ابتعاد المجتمع عن السياسة قولاً وممارسة، وأغلقت هذا الباب حيث أضحى حكراً على العائلة الحاكمة وأعوانها، وحاصرت وهمشت الطبقة الوسطى وأخضعت مفكريها ومبدعيها لرقابة صارمة. وعملت على ربط تلك الطبقة بهياكل تنظيمية عدة تصب كلها في الجسد البعثي، فتتفاعل وتتأثر ضمن الدائرة الحزبية الضيقة، أما ما هو خارج هذه الدائرة فقد كان عقيماً وغير فعال لعدم سهولة توفر الأدوات والآليات، إضافة إلى استهدافها مباشرة من المؤسسة الأمنية.
وجهدت هذه الأجهزة لاختزال السياسة بشخص حافظ الأسد (فكراً وممارسةً ومنهجاً)، والعمل على نشر "قيمه ومآثره" على كل فئات ومؤسسات المجتمع، حتى وصل هذا التركيز إلى درجة التأليه، الأمر الذي أدى إلى غياب التمثيل السياسي الحقيقي واستبداله بآخر صوري ونمطي مستنداً إلى توازنات وحسابات مصلحية سلطوية.
6. الإرهاق والاغراق
اعتمد النظام الحاكم على سياسة ضبط العاصمة وباقي المحافظات وفق قاعدة إغراق البُنية الإدارية والخدمية والاجتماعية فيها بعدد ضخم من الأفرع ذات المرجعيات المختلفة والوظائف المتعددة. وأدى ذلك إلى ترك المواطن عموماً يستنبط حلوله المعاشية وفق الهوامش التي تُتيحُها ثقافات "الخطوط الحمر" و"الأمن الوطني" و"اللحمة الوطنية"، ويجعله عرضة للإرهاق في حال خالف تلك الثقافات. وقد يصل الحد أن يراجع هذا المواطن معظم الأجهزة ولفترات طويلة من الزمن دون حل مشكلته، بحكم التغييب المقصود للتنسيق المشترك بين تلك الأجهزة، وكل ذلك دون وجود سند قانوني أو تشريعي. إضافة إلى ذلك فإن معظم الأفرع تقوم بإرسال عدة مناديب لتتبع ومراقبة عمل الأجهزة الرسمية الأمر الذي كرس سياسات التضارب والمحسوبيات وعمق ثقافة التقارير البينية التي تهدف رصد أي مندوب لعمل المناديب الآخرين، أو التنسيق معه في تجاوز "المخالفات المرتكبة" لقاء منفعة خاصة.
وكنتيجة عامة، تقوم فلسفة العمل الأمني في سورية على تكريس مجموعة من القواعد والأعراف والمعايير الأمنية تجعل حراك المجتمع السوري غير فعال ومرتبط كلياً بها، وتدفعه لاستنباط حدود المباح والممنوع من مدى عدم تعرضه لأمن النظام، الأمر الذي كان يستدعي دائماً تدخل مؤسسات الأمن والدفاع في تسيير الشأن السياسي والحكومي لدرجة أضحت مصدراً بالمعنى العرفي للقوانين الناظمة للمجتمع، تُعيق أي فعل تطويري أو إصلاحي من شأنه إعادة هيكلة منظومة العمل السلطوية وربط وظائفها بخدمة المواطن وتقدمه. ويوضح الشكل المجاور مستويات العمل الأمني مع تبيان دور كل منها في هذه الفلسفة.
الأجهزة الأمنية والاستخباراتية (المهام والهيكلية)
تتكون الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في سورية من أربع إدارات عامة يشرف عليها مكتب الأمن الوطني. يقع المقر الرئيسي لكافة الأجهزة في العاصمة وتضم فروعاً مركزية. ويتبع لهذه الإدارة أفرع في كافة المحافظات تتضمن مكاتب ذات اختصاص مشابه للأفرع المركزية أي بمعنى أن الفرع هو صورة مصغرة عن الإدارة العامة، ويفيد الشكل أدناه بإيضاح الهيكلية العامة لهذه الأجهزة.
1. مكتب الأمن الوطني
وهو مكتب حل محل مكتب الأمن القومي سابقاً بموجب المرسوم الرئاسي رقم 36 لعام 2012 والذي أتى بعيد تفجير مكتب "خلية الأزمة في مبنى الأمن القومي" في ذات العام والتي كانت تشرف على تطبيق الخطة الأمنية لمواجهة الحراك الثوري، أنيطت بمكتب الأمن الوطني "مهمات رسم السياسات الأمنية في سورية"، ويرأسه مدير إدارة المخابرات سابقاً اللواء علي مملوك.
ترأس مكتب الأمن القومي في القيادة القطرية سابقاً محمد سعيد بختيان الذي يعتبر من بين أعضاء الحرس القديم الذين احتفظوا بمقاعدهم في القيادة في مؤتمر البعث القطري العاشر، إلى جانب فاروق الشرع والعماد حسن توركماني واللواء هشام اختيار. وكان مكتب الأمن القومي يتبع للقيادة القطرية لحزب البعث، ويجتمع أسبوعيًا ويقرر العديد من القضايا المهمة الخاصة بأمن البلاد. أما بعد المرسوم الرئاسي لعام 2012 فقد أضحى مكتب الأمن الوطني تابعاً للرئيس مباشرة كما تحول إبان استلام مملوك له من حالة التنسيق بين الأجهزة الأمنية ورفع تقارير دورية عامة وملخصات عن تقارير الأجهزة إلى حالة أكثر قيادية وتوجيهية.
2. إدارة المخابرات العامة
كانت تُسمى سابقاً "أمن الدولة"، وأُنشئت عبر المرسوم رقم 14 لعام 1969، ثم تم تعديله بالقانون رقم 495 لعام 1971 بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة. وتتبع هذه الإدارة لرئيس الجمهورية بشكل مباشر تحت مسمى الوحدة 1114 دون المرور على أي جهاز أو وزارة إلا في حال التنسيق مع مكتب الأمن الوطني والذي كان يسمى سابقاً مكتب الأمن القومي. وتضم إدارة المخابرات العامة اثني عشر فرعاً مركزياً إضافة إلى فروع عاملة في جميع محافظات. كما تضم الإدارة المعهد العالي للعلوم الأمنية الذي تم إحداثه في عام 2007 بُغية إخضاع المبتعثين والمندوبين للخارج لدورات أمنية مكثفة. وتتميز إدارة المخابرات العامة أن فيها عدداً كبيراً من المتعاقدين المدنيين، أما ضباطها فيتم انتدابهم من وزارتي الدفاع والداخلية.
كما تُعتبر إدارة المخابرات العامة حسب قانون تشكيلها إدارة مدنية إلا أن جميع العسكريين العاملين منتدبون للإدارة من طرف وزارتي الدفاع والداخلية، حيث يتبع العنصر مالياً وتنظيمياً للجهة المنتدب منها، أما العناصر المدنيون فيخضعون لقانون العاملين الموحد. ويُسيطر هؤلاء الضباط بشكل كامل على مراكز القوى والقيادة والتوجيه، أما المدنيون فعملهم إداري ضمن الأفرع وتحت سلطة العناصر العسكريين. وتبلغ نسبة العلويين بين الإداريين حوالي 70% أما الباقي فهم من بقية الطوائف، عدا المجندون في الجيش السوري الذين يتم فرزهم إلى الإدارة ويكلفون بالحراسة والحجابة وبعض الأعمال الإدارية.
هيكلية إدارة المخابرات العامة
1. مدير إدارة المخابرات العامة: يُعين بمرسوم من رئيس الجمهورية وهو حالياً اللواء محمد ديب زيتون الذي تم تعيينه بموجب مرسوم جمهوري عام 2012 خلفاً للواء علي مملوك الذي تم تعيينه رئيساً لمكتب الأمن الوطني.
2. معاونو مدير إدارة المخابرات العامة: حيث يوجد أكثر من معاون لمدير الإدارة ويتم أيضاً تعيينهم بمرسوم ويتم تحديد صلاحياتهم واختصاصاتهم وحقوقهم وواجباتهم بموجب قرار يصدر عن مدير الإدارة منهم حالياً اللواء محمد خلوف واللواء زهير الحمد.
3. فرع المعلومات 255: مهمته الحصول على كافة المعلومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومتابعة القطاعات الدينية والحزبية والإعلامية، وفيه تصب كل المعلومات الواردة إلى الإدارة من باقي الفروع المركزية والفروع في المحافظات ومن المصادر الأخرى، وتتم أرشفتها والاستفادة منها، كما تُصدر قرارات منع السفر والمراجعة للمواطنين الذين جرمتهم أفرع الإدارة.
4. فرع التحقيق 285: وهو فرع مركزي مختص بالتحقيق بالمعلومات المحالة من الأفرع أو من بعض المصادر والعملاء، كما يتم إحالة معظم الموقوفين الذين يتم اعتقالهم في الفروع في المحافظات إليه بعد التحقيق معهم في أقسام التحقيق في هذه فروع المحافظات. وقد جرت العادة أن يكون رئيس هذا الفرع ومعظم المحققين فيه من الطائفة العلوية.
5. فرع مكافحة الارهاب 295: أو ما هو معروف باسم فرع نجها، وهو فرع مختص بتخريج دفعات من المتطوعين لصالح الإدارة، بالإضافة إلى تدريب عناصر الإدارة (لا سيما العسكريين) ببعض العلوم العسكرية والأمنية، وتهتم برفع اللياقة والقدرة البدنية بالإضافة للمهمة الرئيسية وهي المداهمة والخطف والاغتيال ومكافحة الإرهاب. وكان هذا الفرع من أوائل من استندت عليه الإدارة في قمع الحراك الثوري في درعا وبانياس.
6. فرع مكافحة التجسس 300: يختص بعمليات متابعة الأجانب والمشبوهين بتعاملهم مع الجهات الخارجية بالإضافة إلى مراقبة المؤسسات الحكومية والخاصة التي تتعامل مع الخارج. كما يتتبع عمل وعلاقات الأحزاب والشخصيات السياسية. وتربطه أيضاً علاقات وظيفية مع الفرع الفني وشركة اتصالات سيرياتيل التي تعود ملكيتها لرامي مخلوف.
7. الفرع الخارجي 279: مهمته إدارة محطات الاستخبارات الخارجية في السفارات والقنصليات في دول العالم، والتحقيق بكافة المعلومات الواردة والمتعلقة بوزارة الخارجية، أو الوزارات التي تعتمد مبدأ البعثات والإيفاد الخارجي، إضافة إلى متابعة ومراقبة المواطنين السوريين المغتربين، وكافة أشكال عملهم السياسي والاجتماعي.
8. الفرع الفني 280: مختص بعمليات التنصت والتشويش والمراقبة الفنية، بالإضافة إلى دعم الأفرع بكافة المستلزمات الفنية والتقنية، وتنفيذ كافة الأعمال الهندسية والكهربائية والميكانيكية بالإدارة وفروعها. من أهم أقسامه: السلكي – اللاسلكي – الحاسب – الاستخباري – مراقبة بريدية – شيفرة – انترنت – مشروع الغدير – مشروع التشويش الفضائي.
9. الفرع الداخلي 251: هو فرع الإدارة في دمشق، كما أنه مسؤول عن المخابرات المضادة داخل سورية وخاصة في دمشق وريفها. يتدخل في تعيين المسؤولين الحكوميين، ورؤساء النقابات وغرف التجارة والمدراء العامين والجامعات وأمناء فروع الحزب وكل المفاصل الرئيسية في الدولة، وقد جرت العادة أن يكون رئيس هذا الفرع من الطائفة العلوية حصراً. ومن الأشخاص الذين تم تكليفهم سابقاً برئاسة هذا الفرع بهجت سليمان ومحمد ناصيف وتوفيق يونس وحالياً أحمد ديب. ويضم بداخله قسماً يُعرف بالقسم أربعين، يُعد وفقاً لصلاحياته وسلوكياته إدارة كاملة وأسندت مهمة إدارته لمدة طويلة لحافظ مخلوف.
10. فرع التدريب أو الغوطة 290: ويختص بكافة الدورات التي تهدف لرفع سوية عناصر الإدارة سواء المتعلقة بالعلوم الأمنية النظرية أو الإدارية أو التقنية أو الفنية.
11. الفرع الاقتصادي 260: ويختص بالمتابعة والتحقيق في كافة القضايا المتعلقة بالاقتصاد والإدارة سواء على مستوى المواطنين أو الشركات الخاصة أو على مستوى المؤسسات والهيئات والشركات العامة الرسمية.
12. الفرع 111: وهو فرع مختص بمكتب مدير الإدارة العامة للمخابرات، وينظم كافة الملفات التي يشرف عليها مباشرة مدير الإدارة، ويتدخل بكافة ملفات الأفرع، ومعظم العاملين فيها من الطائفة العلوية.
13. فروع المخابرات العامة في المحافظات: وتأخذ أرقام ثلاثية، حيث يوجد في كل محافظة فرع تابع لإدارة المخابرات العامة، كما توجد فيها أقسام مشابهة للفروع المركزية بدمشق، وتتمتع بنفس اختصاصاتها ولها نفس عملها لكن في حدود المحافظة. ويتبع لكل فرع منها أقسام ومفارز تتوزع في مختلف أرجاء المحافظة، ولكل بلدة أو قرية عنصر أمني مسؤول عنها وعن إجراء الدراسات الأمنية فيها وعن عمليات الاستدعاء للفروع الأمنية، وبذلك تغطي الإدارة جميع المناطق أمنياً وتضم الآلاف من العناصر والمخبرين والمندوبين في كل المدن والبلدات والمؤسسات الخاصة والعامة.
3. إدارة المخابرات العسكرية
تتبع لوزارة الدفاع إدارياً ومالياً وتسليحاً دون أن يكون لوزير الدفاع أي سلطة عليها، إنما هي التي تتدخل في تعيين وزير الدفاع ونوابه ورؤساء الأركان وتنقلات الضباط والعناصر في الجيش، كما يتم تعيين رئيس الشعبة بقرار من رئيس الجمهورية. وقد أُنشئت لتكون مسؤولة عن أمن القطعات العسكرية والحدود وأمن العناصر والضباط وأمن المنشآت العسكرية. ويتولى رئاسة الشعبة حالياً اللواء محمد محلا الذي تم تعيينه في عام 2015 خلفاً للواء رفيق شحادة.
تعتبر إدارة المخابرات العسكرية الذراع الأمني لمؤسسة الجيش والقوات المسلحة في المجتمع، التي صدرت شعارات "صيانة مبادئ وقيم هذه المؤسسة" كذريعة لتكريس ثقافة "قدسية جيش الأسد" في الحياة الاجتماعية العامة، وليبقى بذات الوقت مشرفاً ومساهماً مع باقي الأجهزة في ضبط التفاعلات المحلية ضمن محددات تعزيز سلطة النظام الحاكم، كما أنها المسؤولة عن مراقبة سلوك عناصر المؤسسة العسكرية (المنتدبين بأغلبيتهم من قطع عسكرية ذات اختصاصات مختلفة) وفق معايير الولاء والانتماء للنظام، إضافة إلى التحري الدائم عن كافة المحاولات التصحيحية إن ظهرت بين صفوف الضباط العاملين وصف الضباط والأفراد المتطوعين أو المجندين.
هيكلية شعبة المخابرات العسكرية
أولاً: الفروع المركزية: وتتواجد في دمشق وهي:
1. الفرع 291 وهو الفرع الإداري ويسمى أيضاً فرع المقر أو فرع الأفراد، وتسند إليه مجموعة من الوظائف المتعلقة بأعمال الديوان وإدارة شؤون العامليين والذاتية، كما يقوم بمراقبة الأداء داخل الجهاز منعاً لأي ثغرة ضمنه ويلعب تقييمه دوراً مساعداً في ترقية أو إبعاد أو نقل العاملين ضمن الجهاز.
2. الفرع 293 وهو فرع شؤون الضباط أو أمن الضباط وهو بالمفهوم الوظيفي يقوم بمهام الشبكة الأمنية وليس كفرع يتبع للإدارة. يحتوي الفرع على ملفات تقييم ومراقبة ومتابعة لكافة ضباط الجيش، وله دور أساسي في ترقية أو إبعاد أو نقل ضباط الجيش أو تعيينهم في مراكزهم، ويملك رئيس هذا الفرع إمكانية الاتصال مباشرة برئيس الجمهورية ورفع تقاريره له.
3. الفرع 294 / فرع أمن القوات: وهو المسؤول عن مراقبة تحركات قطع الجيش والقوات المسلحة (باستثناء القوات الجوية والدفاع الجوي). ويحتوي على ملفات عن المعسكرات والقطع العسكرية وحالتها القتالية ودرجة استعدادها، ومدى ولائها كما يرتبط به ضابط أمن التشكيل بشكل أكثر من ارتباطه بقياداته العسكرية. ويذكر أن أي تحرك للقوات يجب أن يتم بموافقة وتنسيق مع هذا الفرع. ويمارس مهمة إشرافية على جهاز الشرطة العسكرية ووحداتها الملحقة بالتشكيلات العسكرية.
4. الفرع 235 / فرع فلسطين: وهو من أهم أفرع هذا الجهاز وأقدمها، حيث يعادل حجم المهام الموكلة له حجم إدارة استخباراتية كاملة، وله نشاط داخلي وخارجي. من المفترض أن يكون هذا الفرع متخصصاً بالنشاط ضد إسرائيل والأمور المتعلقة بالحركات الفلسطينية داخل القطر وخارجه، إلا أن مهامه توسعت كثيراً وأضحت تشمل مطاردة الحركات الإسلامية والعمل على اختراقها ومحاولة توجيهها والتحكم بها، يقوم بها "قسم مكافحة الإرهاب. ومن اختصاصات هذا الفرع أيضاً مراقبة اللاجئين الفلسطينيين المقيمين على الأراضي السورية، إذ يتبع للفرع وحدة تسمى وحدة الضابطة الفدائية تختص بشؤون جيش التحرير الفلسطيني والحركات الفلسطينية المسلحة التي تتواجد بسلاحها بشكل رسمي على الأراضي السورية (مثل جماعة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - أحمد جبريل).
5. فرع المعلومات: وهو فرع يتخصص بالقيام بجلب وتقييم المعلومات المتعلقة بالإدارة، كما تقوم بإعداد دراسات مختلفة في هذا الصدد، يحوي الكثير من الأقسام المختلفة (منها قسم للأديان والأحزاب السياسية). ويراقب الفرع أيضاً نشاط وسائل الإعلام المحلية والعالمية المسموعة والمقروءة والمرئية (بما فيها الانترنت) ويتعامل معها أيضاً بشكل مباشر أو غير مباشر بما يهم عمل الجهاز.
6. الفرع 211: ويسمى فرع الإشارة وهو مسؤول عن مراقبة الإشارات اللاسلكية للجيش والأمن وتشفيرها، إضافة إلى عمليات المسح الفني والراشدات.
7. فرع الحاسب الآلي أو فرع الكمبيوتر: ويختص بالخدمات المتعلقة بالكمبيوتر والإنترنت المرتبطة بالجهاز. ومن مهامه أيضاً مراقبة الإنترنت ورصد كافة النشاطات الافتراضية، كما يتدخل في قضايا الهكر وحجب المواقع أو رفع الحجب عنها.
8. الفرع 225 / فرع الاتصالات: يقوم بمراقبة كافة الخطوط السلكية واللاسلكية في الجيش والقوات المسلحة، كما يُشرف ويتابع تنفيذ كافة مشاريع الاتصالات في القطر.
9. الفرع 248 / فرع التحقيق العسكري: وهو بمثابة هيئة التحقيق الرئيسية لجهاز الأمن العسكري حيث يعتبر ثاني أسوء فرع في الجهاز من حيث الانتهاكات بعد فرع فلسطين.
10. فرع 215 المعروف بسرية "المداهمة والاقتحام"، يضم حوالي 4000 آلاف عنصر مدربين على كافة المهام الخاصة المتعلقة بعمليات الاقتحام والخطف والاغتيال وإلقاء القبض على المطلوبين المستعصين عن باقي الأفرع.
11. فرع الدوريات: ينفذ كافة الأوامر القيادية سواء المركزية أو الفرعية فيما يتعلق بتنفيذ المهام الأمنية الميدانية.
12. فرع مخابرات القنيطرة ويسمى أيضاً فرع سعسع وهو يختص بالشؤون الاستخبارية في الجولان المحتل وقوات الجبهة ويراقب أيضاً قوات الطوارئ الدولية (أندوف) العاملة هناك.
ثانياً: فروع المحافظات: وتنتشر في كافة محافظات القطر وقد يتبع له حسب الحاجة أقسام على مستوى المناطق ومفارز على مستوى النواحي، وتأخذ هذه الفروع أرقام.
ومن الأمور الملاحظة والمهمة في شعبة المخابرات العسكرية أن نسبة أبناء الطائفة العلوية فيها من ضباط وصف ضباط وأفراد تبلغ حوالي 80%، ومعظم العاملين فيها منتدبين من باقي قطع الجيش باستثناء بعض المجندين الذين يكلفون بمهام الحراسة والحجابة والمداهمة، كما تتبع لها مدرسة المخابرات العسكرية التي تقوم بتخريج العناصر الذي يتطوعون في الجهاز بشكل مباشر.
4. إدارة المخابرات الجوية
تم إحداثها مع بداية تولي الأسد الأب للحكم، وهي أكثر الأجهزة ولاءً للنظام. ويتسم هذا الجهاز بالكفاءات البشرية والتقنية الأقوى، ويحتوي على أقل نسبة من غير العلويين مقارنة بالأجهزة الأخرى من حيث العناصر والضباط. وتتبع لوزارة الدفاع إدارياً ومالياً وتسليحاً، ولكن ليس لوزير الدفاع أي سلطة عليها بل بالعكس من ذلك فإنها مع إدارة المخابرات العسكرية تُشرف على عمل وزير الدفاع ولها رأي في تعيينه. بقي على رأس إدارتها اللواء محمد الخولي لمدة طويلة جداً، وقد استعان به حافظ الأسد في العمليات الأمنية ضد خصومه بعد أن استولى على السلطة. وتعد المهمة الأساسية للمخابرات الجوية هي حماية سلاح الجو السوري، إضافة إلى طائرة الرئيس وأمنه خلال تواجده خارج سورية.
هيكلية إدارة المخابرات الجوية
يتبع لها ستة فروع في دمشق ناهيك عن فرع التحقيق الخاص بها، وكذلك ستة فروع في المحافظات.
الفروع التابعة لإدارة المخابرات الجوية هي:
1. الفرع الإداري: يحتوي على ملفات جميع العاملين ضمن هذا الجهاز كما يقوم بمراقبة العاملين ضمن الجهاز منعاً لأي ثغرة ضمنه، كما يلعب دوراً في ترقية أو إبعاد أو نقل العاملين ضمن الجهاز.
2. فرع المعلومات: يختص بالمعلومات العامة للجهاز والدراسات المختلفة له، ويحوي كثيراً من الأقسام المختلفة (منها قسم للأديان والأحزاب السياسية). ويراقب الفرع أيضاً نشاط وسائل الإعلام المحلية والعالمية المسموعة والمقروءة والمرئية (بما فيها الإنترنت) ويتعامل معها أيضاً بشكل مباشر أو غير مباشر بما يهم عمل الجهاز.
3. فرع التحقيق: يعمل بمثابة هيئة التحقيق الرئيسية لجهاز المخابرات الجوية ويعتبر من أسوأ فروع المخابرات في التعذيب والانتهاكات.
4. فرع المطار: يتواجد في مطار المزة ويعتبر مسؤولاً عن أمن المطار الرئاسي وأمن الطائرة الرئاسية وتشير مصادر منشقة أن هذا الفرع مسؤول أيضاً عن المهام الاستخبارية المتعلقة بالأمن الشخصي للرئيس أثناء تنقلاته في الخارج.
5. فرع العمليات: مسؤول عن العمليات الداخلية والخارجية للجهاز بما فيها الأمور المتعلقة بسلاح الجو والتي تتطلب جهداً استخبارياً خارجياً. وينسق مع فرع المطار أثناء تأدية المهام الاستخبارية الخارجية المتعلقة بأمن الرئيس أثناء تحركاته. وينتشر عملاء هذا الفرع في مكاتب الطيران السورية في الخارج.
6. فرع العمليات الخاصة: ينتشر بشكل كبير في كافة المحافظات السورية على شكل أقسام حيث يقوم بأعمال قتالية مستعيناً بمن يشاء من وحدات الدفاع الجوي والقوى الجوية والمطارات العسكرية وحتى المدنية بما فيها من طائرات وسلاح وعتاد.
7. فروع المحافظات: يوجد ستة فروع في محافظات تغطي أنحاء سورية وهي:
- فرع المنطقة: ويغطي مدينة دمشق وريفها ومقره مدينة دمشق.
- فرع المنطقة الجنوبية ويغطي درعا والقنيطرة والسويداء ومقره مدينة دمشق.
- فرع المنطقة الوسطى ويغطي حمص وحماه ومقره مدينة حمص.
- فرع المنطقة الشمالية ويغطي حلب وإدلب ومقره مدينة حلب.
- فرع المنطقة الشرقية ويغطي دير الزور والرقة والحسكة ومقره مدينة دير الزور.
- فرع المنطقة الساحلية ويغطي اللاذقية وطرطوس ومقره مدينة اللاذقية.
يتبع لهذه الفروع أقسام تتوزع في المحافظات التي لا يوجد فيها المقر الرئيسي لهذه الفروع وأقسام أخرى في المناطق ومفارز في النواحي والبلدات وحسب الحاجة.
5. شعبة الأمن السياسي
تتبع لوزارة الداخلية إدارياً ومالياً، ولكن ليس له علاقة بأدائها المهني، إذ تُشرف وتقيم أداء وزير الداخلية وضباطه وعناصره وكافة الوحدات الشرطية، أي أنها عملياً تعد إدارة مستقلة حيث تتمتع بتواصل مباشرة مع رئيس الجمهورية. وهي أكثر الأجهزة الأمنية تغلغلاً في المجتمع واحتكاكاً بالمدنيين وانتشاراً بين المواطنين وتغطيةً لكامل القطر وشرائح المجتمع. وتتطلب الكثير من معاملات المواطنين أو طلبات ترخيص الأعمال والمنشآت موافقة شعبة الأمن السياسي التي تعتبر خزان المعلومات لدى النظام عن المواطنين المدنيين، وهذا ما جعل ضباط وعناصر شعبة الأمن السياسي يمارسون عمليات استغلال النفوذ والرشوة وفرض "الأتاوات" على المواطنين على نطاق واسع. ويتم اختيار ضباطها وعناصرها من ملاك وزارة الداخلية باستثناء رئيس الشعبة الذي يتم تعيينه بمرسوم جمهوري. ويعتبر اللواء عدنان بدر الحسن واللواء غازي كنعان واللواء محمد ديب زيتون من أبرز الأسماء التي تولت رئاستها، ويتولى رئاستها حالياً اللواء نزيه حسون من الطائفة الدرزية والذي تم تعيينه خلفاً للواء رستم غزالي.
وقد جرت العادة أن يكون رئيس الشعبة من قادة الأجهزة الأمنية أو العسكرية، وتعتبر الشعبة جهازاً إدارياً أكثر منه ميدانياً، ودورها الإداري استخباري بشكل كبير. وتُعتبر مهام هذا الجهاز داخلية بالكامل حيث لا يمارس أي نشاط خارجي كما تمارسه الأجهزة الأخرى باستثناء فرع الشؤون العربية والأجنبية الذي يراقب العرب والأجانب داخل القطر. وتُسمى فروع المحافظات بأسماء المحافظات مثل (فرع الأمن السياسي بريف دمشق)، وليس لها أرقام ثلاثية.
هيكلية شعبة الأمن السياسي
تتشكل الشُعبة من عدة فروع مركزية في دمشق ويتبع لها أيضاً الفروع التالية في باقي المحافظات:
1. فرع أمن الشرطة: يحتوي على ملفات جميع العاملين ضمن هذا الجهاز كما يقوم بمراقبة العاملين ضمن الجهاز منعاً لأي ثغرة ضمنه كما يلعب دوراً في ترقية أو إبعاد أو نقل العاملين ضمن الجهاز، كما يوجد لديه ملفات عن جميع العاملين في وزارة الداخلية بمختلف رتبهم ووظائفهم.
2. فرع المعلومات: تصبُّ فيه كل المعلومات والدراسات الواردة من الفروع المركزية الأخرى وفروع المحافظات ويحوي عدداً من الأقسام المختلفة منها قسم للطلاب يختص بالجامعات والمعاهد والمدارس ورياض الأطفال والقائمين على هذه المؤسسات، وكذلك قسم التجسس. ويراقب الفرع أيضاً نشاط وسائل الإعلام المحلية والعالمية المسموعة والمقروءة والمرئية ويتعامل معها أيضاً بشكل مباشر أو غير مباشر بما يهم عمل الجهاز.
3. فرع التحقيق: يعمل بمثابة هيئة التحقيق الرئيسية لجهاز الأمن السياسي حيث يُحال إليه الموقوفين من فروع المحافظات والفروع المركزية الأخرى في الجرائم التي يعتبرها النظام هامة.
4. فرع الدوريات والمراقبة: يضم عدداً كبيراً من العناصر، ويُكلف بتسيير دوريات في مدينة دمشق وريفها. ويُستخدم الفرع في أعمال المداهمة وإلقاء القبض ومؤازرة فروع المحافظات فيما لو كلف بذلك.
5. فرع الأحزاب والهيئات: يراقبُ نشاطات الأحزاب التي يطلق عليها "الأحزاب الصديقة" وحتى حزب البعث والأحزاب المعارضة والمعادية حسب تسميات النظام لها، إضافة إلى رصد أي نشاط سياسي معارض والمجموعات التي يطلق عليها صفة إرهابية ومراقبة المساجد والكنائس وكافة النشاطات الدينية، ومنح التراخيص لأئمة وخطباء وخدم المساجد والدروس الدينية، ومنح تراخيص الجمعيات الخيرية والأهلية ومراقبة كافة الاجتماعات والمؤتمرات والاحتفالات التي تتم سواء أكانت لمصلحة النظام أو ضده.
6. فرع الأمن الاقتصادي: تصبُّ فيه كافة المعلومات المتعلقة بالوضع الاقتصادي التي ترد إليه من فروع المحافظات سواء أكان القطاع العام أو الخاص أو المشترك، ويُراقب كافة الدوائر الحكومية. كما يقوم بدوره بتقديم عروض دورية عن النشاط الاقتصادي لرئيس الجمهورية، ويحتفظ بأرشيف عن الموظفين الذين يتم توقيفهم بأمور تتعلق بوظائفهم ومراقبة الوضع الديني لدى الموظفين.
7. فرع الديوان: يختص بتلقي المراسلات من كافة الفروع والدوائر والجهات الأخرى وإعادة إرسالها إلى الجهات المعنية بعد عرضها على رئيس الشعبة.
8. فرع الشؤون العربية والأجنبية: تصب فيه كافة المعلومات المتعلقة بالأجانب والعرب المتواجدين على الأرض السورية، ويتلقى التقارير التي ترد إلى الشعبة من خارج القطر، كما يختص بالموافقة على الإقامات والنشاط الاقتصادي والاجتماعي للأجانب في سورية ومراقبتهم.
9. فرع النظم المعلوماتية: تُحفظ فيه الأضابير الشخصية الورقية والمؤتمتة لكافة المواطنين السوريين والعرب والأجانب التي تردهم من الفروع المركزية وفروع المحافظات.
10. فرع الشؤون الإدارية: يُكلف بتأمين الأسلحة والذخائر والأثاث والأبنية والمشتريات بكافة أنواعها للفروع المركزية وفروع المحافظات بالتنسيق مع وزارة الداخلية.
11. فرع الإشارة: يُكلف بتأمين أجهزة الاتصال على مختلف أنواعها السلكية واللاسلكية لكافة الفروع ومراقبة الاتصالات ضمن الشعبة واتصالات وزارة الداخلية.
12. فرع المركبات: يُكلف بتأمين الآليات بمختلف أنواعها للفروع كافة.
13. فروع المحافظات: يوجد في شعبة الأمن السياسي ثلاثة عشر فرع في ثلاثة عشر محافظة عدا محافظة القنيطرة فيتم تغطيتها أمنياً من قبل فرع ريف دمشق حيث يوجد في تشكيله قسم يسمى قسم القنيطرة. ويوجد لهذه الفروع أقسام في جميع مناطق القطر ومفارز في النواحي بحيث تُغطي كافة أرجاء القطر وتتولى فروع المحافظات مهمة مراقبة المواطنين على امتداد القطر. كما تقوم مفارزها وأقسامها بتجنيد المخبرين ضمن صفوف المواطنين كلٌ في المكان الذي يقطن فيه، وتستلم التقارير منهم ثم تقوم بأرشفتها وتنظيمها وإرسالها إلى الفرع الخاص بالمحافظة.
تجدر الإشارة إلى أن معظم المنتمين إلى هذا الجهاز هم من خريجي كليات ومدارس الشرطة ولهم اتصال مباشر مع المواطنين من خلال قيامهم بإجراء الدراسات عنهم. وتنخفض نسبة العلويين في شعبة الأمن السياسي عن غيرها من باقي الأفرع حسب تقديرات عدد من المنشقين.
شبكات النظام العسكرية – الأمنية
منح النظام الحاكم مهمة الإشراف على الاستراتيجية الأمنية لبعض القطع العسكرية التي تدين بالولاء المطلق له بحكم طبيعة الترتيب الخاص المتبع في تعيين مواردها البشرية واتكائه فيها على المكون العلوي بالدرجة الأولى من جهة، ونظراً لطبيعة المهام الرقابية الذاتية والبينية المنوطة بكل قطعة من جهة أخرى. كما منحها أيضاً صلاحيات كاملة لضبط الأمن الجنائي والاجتماعي الخارج عن قدرة الأجهزة الشرطية الرسمية. ويمكن قراءة السياسة الأمنية للنظام من خلال تلك الشبكات التي أحسن النظام الحاكم ربطها به مباشرةً، وأهمها:
أولاً: قوات الحرس الجمهوري
تعتبر قوات الحرس الجمهوري أبرز فرق النخبة بالجيش السوري وأكثرها تسليحاً، ومهمته الأساسية حماية العاصمة دمشق من أي تهديدات داخلية أو خارجية، ولذلك فهو الوحدة العسكرية الوحيدة المسموح لها بدخول العاصمة.
المعلومات المؤكدة عن الحرس الجمهوري السوري شحيحة، لكن بعض التقديرات تُشير إلى أنه يتميز بتسليح قوي ويتكون من نحو عشرة آلاف جندي موزعين على عدة ألوية، ويتلقى ضباطه حصصاً مهمة من إيرادات النفط السوري لضمان ولائهم. يرجع تأسيسه إلى أواخر عقد السبعينيات من القرن العشرين إثر الصدامات المسلحة التي وقعت بين نظام حافظ الأسد ومعارضيه من جماعة الإخوان المسلمين في عدة مدن أبرزها حماة وحلب.
وتحظى هذه القوات بالقدر الأوفر من ثقة بشار الأسد، إذ دأب على اتباع نهج أبيه معها من حيث طبيعة الأشخاص التي تنتمي لعائلات علوية محددة والتي تُناط بها مهام قيادة أفواجها وألويتها حيث يترأسها حالياً الواء بسام الحسن، وهي قوات مكلفة بالدرجة الأولى بحماية مدينة دمشق وتعمل على منع بروز أي قوى محلية او خارجية مناوئة للنظام الحاكم بالتبلور أو التشكل ضمن المدينة. كما تقوم بتحديد القواعد والعلاقات الأمنية الناظمة بين الأفرع من جهة وبين المواطن والنظام من جهة أخرى. كما يُعد الواجهة الرسمية لتنسيق العمل العسكري الميليشاوي في سورية بعد الثورة السورية، بدءً من الحرس الثوري الإيراني ومروراً بحزب الله اللبناني وليس انتهاء بالميليشيات الشيعية العراقية.
قامت هذه القوات التي تعتبر قياداتها أبرز قادة سورية بالتدخل والتصدي لمجموعة أخطار ومشاكل اجتماعية أمنية لعل أبرزها انتفاضة الكرد في 2004، والنزاع العلوي الإسماعيلي في 2005، وإشكاليات البدو والموحدين الدروز في 2001. وتتكون هذه القوات من مجموعة أفواج وألوية منفصلة وظيفياً وتتبع إدارياً لقيادة الحرس، كما تُعرف بالأسماء والأرقام الممتدة من 101 حتى 106 وأبرزها:
مكتب أمن الحرس ويتولى قيادته العميد بسام مرهج.
101 فوج أمن الحرس: أكثر قادته من عائلة خير بيك.
104 مدفعية الحرس والموجهة على القصر الجمهوري ومدينة دمشق.
105 وتُعرَف باستراحة الرئيس حيثُ تَعاقَبَ على قيادتها باسل الأسد ثم بشار الأسد ثم مناف طلاس حتى انسحابه من الجيش.
ولعل أهم أسس تماسك هذه القوات والتي يرى بعض الخبراء الأمنيين بأنها قادرة على القيام بانقلاب أبيض في سورية هي العوامل التالية:
1. الرابطة العلوية كضامنة وحيدة لاستمرار الحرس والنظام الحاكم.
2. الطبيعة التنافسية البينية.
3. مهام المراقبة التي تتولاها هذه الأقسام على بعضها البعض.
4. الخطوط المباشرة المتصلة مع الرئيس.
5. إبقاء تعيين وإقالة هؤلاء القادة بيد القائد العام للجيش والقوات المسلحة (بشار الأسد).
ثانياً: الفرقة الرابعة
هي فرقة من فرق الجيش السوري تتبع الفيلق الأول. وقد تمتعت هذه الفرقة بتدريبات خاصة وبدعم خاص لجعلها الاحتياط الاستراتيجي للنظام. ويعود تأسيس الفرقة الرابعة إلى عهد حافظ الأسد، حيثُ أسسها شقيقه رفعت الأسد الذي كان يقود "سرايا الدفاع" المسؤولة عن مجازر مدينة حماة عام 1982، ثم أدمجت تلك السرايا في الفرقة الرابعة بعد إبعاد رفعت الأسد عام 1984 إلى "المنفى".
يصل عدد أفراد الفرقة حسب مصادر إعلامية فرنسية إلى 15 ألف مقاتل، وتنحدر الغالبية الساحقة منهم من الطائفة العلوية. وتعد الفرقة الرابعة من أفضل تشكيلات الجيش السوري تدريباً وتجهيزاً، وتمتلك أحدث الآليات الثقيلة مثل دبابات "تي 72" الروسية.
تتكون من عدة أفواج وألوية اتخذت من مداخل دمشق مقرات لها، ففي المعضمية يتواجد الفوج 555 (إنزال مظلي) الذي يقوده العميد جمال يونس، والفوج 154 بقيادة العميد جودت إبراهيم صافي، بالإضافة إلى اللواء المدرع 40 واللواء 138 مشاة. أما الزبداني فيتواجد فيها كتائب الشرطة العسكرية والكيمياء والهندسة والاستطلاع ومعسكرات التدريب والصاعقة، وفي يعفور اللواء مدرع 41، وفي الصبورة اللواء 42، ويلحظ هنا أن كل قادة هذه الألوية والأفواج هم من المكون العلوي. وتستمد الفرقة الرابعة قوتها من طبيعة مهامها ووظائفها الأمنية، حيث يمكن ذكر أهمها:
• ترشيح قوائم المنتدبين للأجهزة الأمنية وذلك وفق معيار الطائفية والولاء المطلق.
• تزويد الكلية الحربية والجوية بملحق أسماء خاص للالتحاق بصفوف الكلية، وغالباً ما يكون هذا الملحق لصالحها بالدرجة الأولى ثم للأفرع الأمنية، ويتم ذلك بالتنسيق مع الفرع 293 (شؤون الضباط).
• يقوم المكتب الأمني في الفرقة الرابعة والذي يديره حالياً العميد غسان بلال (مدير مكتب ماهر الأسد) بالتنسيق المستمر مع كافة الأجهزة الأمنية، ويطلع بشكل مباشر على أية حوادث أمنية في محافظات القطر. كما يقوم بإرسال تقاريره التي ترده من مصادره ومندوبيه إلى الأجهزة الأمنية الرئيسية لإجراء اللازم حيالها وإعلامه عن الإجراءات المتخذة.
• يقوم المكتب الأمني بالتحقيق في كافة المواضيع الشائكة المهددة لتماسك الشبكة الأمنية، وملفات رجالات النظام بشكل مباشر.
• له دور كبير في تعيينات رؤساء الأفرع الأمنية وخاصة في مدينة دمشق.
الجدير بالذكر لاستكمال هذه البطاقة التعريفية أنها القوة الوحيدة التي تنحصر مهامها خارج مدينة دمشق حيث يقع مقرها في مدينة الصبورة، ويمنع دخولها المدينة (وهذا عائد لمفهوم القطاعات العسكرية وطبيعة المهام الموزعة). يقودها حالياً العميد ماهر الأسد، ومعظم ضباطها مرتبطون بالحرس الجمهوري وبوزارة الدفاع وبمكتب شؤون الضباط وبفرع الضباط.
ثالثاً: قوات النمر (قوات عابرة للوحدات العسكرية والأمنية)
تُعد قوات النمر جسداً عابراً للتنظيمات العسكرية والأمنية، حيث يتشكل من ثلاثة أضلاع رئيسية، الأول أمني – عسكري، والثاني موارد بشرية علوية متطوعة ومنتقاة، والثالث إطار إداري دولتي (وزارة الدفاع)، وله هوامش تحرك واسعة. وقد تم تشكيل هذه القوات للقيام بعدة مهام عسكرية وأمنية، نذكر أهمها في الآتي:
1. سرعة التدخل والاستجابة للمعطيات والمتغيرات الأمنية، إذ تسمح طبيعة هذه الجسد باتخاذ القرارات دون بيرواقرطية المؤسسة العسكرية، وتتسم قواتها بالمرونة والقدرة الواسعة على التحرك.
2. إبعاد الأخطار الأمنية عن الطائفة، ومجالها الحيوي بالتظافر مع وحدات الجيش والميليشيات المتواجدة في هذا المجال.
3. العمل على تطمين الطائفة بوجود هذه القوات التي تعد قوات علوية بامتياز، وهو ما من شأنه محاصرة أي نية لحراك أو فعل احتجاجي ضمن الطائفة.
تشكلت قوات النمر كتحالف بين المخابرات الجوية والجيش والفرقة الرابعة استحدثت عام 2013، تتمتع بدعم اجتماعي واضح من معظم الطائفة العلوية من جهة، وتمويل مالي من جمعية البستان التابعة لرامي مخلوف من جهة ثانية وتسليط إعلامي من قبل أجهزة الإعلام الرسمي. يقودها العميد سهيل الحسن وتتمتع بكافة الصلاحيات كاستخدام كافة قطاعات الدولة لتنفيذ مهامها بما فيها المطارات المدنية والعسكرية. وتدخلت قواته في معظم مناطق الصراع العسكري سواء في ريف دمشق، أو حماه، أو ادلب، أو حمص، أو ريف اللاذقية .
الأجهزة الرديفة
هي مجموعة من الأجهزة الرسمية القائمة أو المستحدثة لمحاصرة وتحجيم الحراك الثوري، بالإضافة لرفد الأجهزة المركزية بكافة المعلومات المحدثة اللازمة. ويُعد وجود هذه الأجهزة دليلاً إضافياً على تحويل وتطويع المؤسسات التنفيذية لخدمة غايات الأجهزة الأمنية والنظام الحاكم، وذلك كله في سبيل إفراغ الحراك الثوري من محتواه والمساهمة لاحقاُ في حرف مساراته، ومن هذه الأجهزة:
1. إدارة الاتصالات (إدارة السي دي)
تم تشكيل هذه الإدارة في مطلع عام 2011 بعد انطلاق الثورة السورية. تتكون بشكل أساسي من فرع مراقبة الاتصالات الأرضية والخلوية الموجود في إدارة المخابرات العسكرية المسمى بفرع 225، كما تم ضم جزء من فرع الإشارة 211، وجزء من الفرع الفني من إدارة المخابرات العامة وجزء من الأفرع الفنية لباقي الإدارات بالإضافة لمشروع الغدير ذو الإدارة الإيرانية. كما تم دمج جميع مشاريع التنصت والتشويش التي تتواجد داخل الإدارات الأمنية.
مهمتها: مراقبة كافة الاتصالات الهاتفية والخليوية والإنترنت والبرامج التلفزيونية المهتمة بقضايا الحراك الثوري في سورية، وتزويد الأجهزة الأمنية بالمعلومات الخاصة بالاتصالات، ومنح التراخيص الخاصة باستيراد الأجهزة التقنية، وحل الكثير من المعضلات المتعلقة بالتنسيق الأمني بين الإدارات الأمنية وذلك على غرار أجهزة المخابرات العالمية. ومن الملاحظ في هذه الإدارة المستحدثة بأن معظم المنتدبين إليها هم من الطائفة العلوية.
2. قطاعات الأمن في وزارة الداخلية
اعتبر – منذ بداية الحراك الثوري -جميع عناصر وموظفي وزارة الداخلية مجندين كمصادر معلومات لصالح شعبة الأمن السياسي ، كما أوكلت إليها مهام بمساعدة ومؤازرة بعض الأفرع الأمنية في الاعتقالات والمداهمات وفض الاعتصامات بقوة السلاح.
3. الأجهزة الحزبية (حزب البعث العربي الاشتراكي)
وهي فرق وشعب وفروع حزب البعث المنتشرة في كافة انحاء سورية، واوكلت لها مهام تقديم المعلومات والدراسات الأمنية للأجهزة الأمنية ومكتب الأمن الوطني، إذ ساهم الانتشار المُقنن لقادة وعناصر الحزب في المجتمع في استمرار قدرة النظام على التحكم بكافة فعاليات واتجاهات المجتمع، خاصة مع منح الحزب سلطات إشرافية وتنسيقية ورقابية تامة حتى على المنظمات الشعبية التي تُعد رديفة له كمنظمة اتحاد شبيبة الثورة، واتحاد الطلبة، والنقابات المهنية...إلخ
4. ضباط الأمن في الوحدات العسكرية
يوجد لكل وحدة عسكرية ابتداءً من الفيالق والإدارات والفرق وحتى أصغر وحدة عسكرية على مستوى سرية وفصيلة ضابط أمن يقوم بمراقبة كل ما يجري في وحدته العسكرية على مستوى زملائه من الضباط ورؤسائه ومرؤوسيه من المجندين وحتى عائلاتهم والمواطنين في أماكن تجمع هذه الوحدات. ويرفع تقاريره المتعلقة بأبسط شؤون حياتهم اليومية إلى إدارة المخابرات العسكرية أو المخابرات الجوية للقيام بدورهما في التحقيق بموضوع التقرير الذي تم رفعه إليهما وغالباً ما تقوم هاتان الجهتان الأمنيتان باتخاذ إجراءاتهم دون التأكد من مدى صدقية هذه المعلومات.
5. قوات الدفاع الوطني واللجان الشعبية
بعد بدء الثورة السورية لجأ النظام السوري بتوجيه من إيران وبالتنسيق مع الحرس الجمهوري إلى تشكيل ما يسمى قوات الدفاع الوطني أو اللجان الشعبية، وتحولت مع سني الأزمة من أجسام ذات طبيعية عسكرية إلى مؤسسة أمنية رديفة لها سجونها وتحقيقاتها الخاصة. وتُعتبر هذه المجموعات جيشاً من المرتزقة وأرباب السوابق الجنائية والعاطلين عن العمل والذين تم استثمارهم للقتال إلى جانب الجيش والأجهزة الأمنية السورية. وقد انتسب هؤلاء إلى الدفاع الوطني أو اللجان الشعبية، ليس عن عقيدة أو إيمان وإنما بُغية إيجاد مصدر رزق غير شرعي من حيث القيام بجرائم السرقة والنهب والابتزاز والخطف، بالإضافة إلى عملهم كمصادر معلومات للجيش والأجهزة الأمنية وغالباً ما تكون معلوماتهم كيدية طائفية، الغاية منها إثبات ولائهم للأسد. ولا تستطيع الجهات التي تُرفع إليها تقاريرهم نفي معلوماتهم وإنما يتم أخذها كما هي وبناءً عليها يتم ارتكاب التوقيف العشوائي وأحياناً القتل.
ومن خلال ما سبق ذكره نلاحظ أن كافة مرافق الدولة السورية إبان حكم آل الأسد هي عبارة عن أجهزة أمن تعمل لمصلحة رأس النظام أو لمصالح فردية وشخصية في آن معاً.
تقييم الأداء الأمني في سورية
تراكمت تجاوزات الأجهزة الأمنية في سورية وعلى كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، حتى أنها غدت نسقاً عاماً ونهجاً مألوفاً ومميزاً لكل العناصر والمؤسسات الأمنية، ويمكن جمع هذه التجاوزات وفقاً لخمس مستويات تشكل بمجموعها مناخاً عزز من ثقافة الإلغاء والفساد في المجتمع، وهذه المستويات هي:
1. العمل بلا خطة
انحصر العمل الأمني بـ "التجاوزات المباشرة" ومتابعة كافة الفعاليات الاجتماعية والاقتصادية وفق معايير سائلة غير مضبوطة بنسق قانوني معين. ولا يلحظ وفق تتبع أدائها ومهامها وجود خطة استراتيجية وعلى كافة الصعد التالية:
• التخطيط: لا يتلمس في حركية العمل الأمني بأنها تسير وفق خط بياني مدروس الأبعاد (إلا إذ استثنينا أبعاد تكريس الحكم)، فلا يوجد تقدير لحجم القوة الحقيقة والاكتفاء بتضخيم مهام ومسؤوليات هذه المؤسسات، ولا توجد دراسة موضوعية للاحتياجات إذ تقوم كل إدارة بتحديدها وفق أنماط روتينية لا تتعلق بالغايات والإمكانيات، وإنما ترتبط ارتباطاً وثيقاً بضرورات عسكرة المجتمع وتحويله إلى أدوات أمنية، وهو ما حوّل هذه الأفرع إلى خزان بطالة مقنعة.
• الأهداف الاستراتيجية: تنحصر أهداف الأجهزة والشبكات الأمنية عموماً بهدفين، يرتبط الأول بمحددات النظام الحاكم الأمنية التي تم ذكرها، والثاني بالتدخل العنيف في قضايا الأمن المجتمعي لصالح ضبطه لا حلحلة إشكالياته، وتغيب عن هذه الأجهزة أهداف استراتيجية عظمى كــ:
1. صيانة هوية المواطنة، والعمل المدني.
2. الحوار مع القطاعات المدنية.
3. الأمن الاقتصادي.
4. تطوير العمل الأمني.
5. بناء قطاع أمني متماسك.
• الموارد البشرية: تقتصر برامج التدريب والتطوير فقط على الجانب البدني والإعداد العقائدي المنسجم مع "ثقافة القائد والحزب الواحد" بالإضافة إلى أساسيات المهارات الأخرى المتعلقة بعلوم الحاسب وعلوم الجنائيات، وتغيب عنها برامج الدورات التي تساهم في رفع كفاءة العنصر على مستوى علوم الأمن وآلياته وأساليبه الحديثة، أو على مستوى رفع منسوب الثقافة أو الإلمام بالمنظومة القانونية، أو على صعيد بناء علاقة متوازنة مع القطاع الأمني وغيرها.
• الميزانية: نظراً لعدم وجود مرجعية إشرافية ورقابية واضحة، لا يمكن تلمس أي عنصر من عناصر الميزانية وكيفية إعدادها ومدى اتساقها مع حالة الاقتصاد الوطني وكيفية صرفها، الأمر الذي يُعزز من كافة نظريات التقييم الموجهة لهذه الأجهزة لا سيما المتعلقة بالشفافية والمتابعة والمراقبة.
2. تقنين القهر والانتهاك
كُرِس في الوعي المجتمعي عدة "قوانين"، تم استنباطها من السلوكيات الجمعية للأجهزة الأمنية بدءً من إجراءات الاعتقال ومروراً بالتحقيق وما يتبعه من وسائل لاإنسانية لانتزاع الاعترافات وصولاً للمعاملة السيئة في المعتقل، وغدت هذه السلوكيات قوانين، خاصة بعد تثبيت أركان السلطة إبان أحداث الثمانينيات ينتهجها الفرد وتتبناها المؤسسة، ويمكن ذكر أهمها:
• إعطاء الأجهزة الأمنية صلاحية مفتوحة للاعتقال والتفتيش والتحري والاستجواب والحجز ومراقبة الاتصالات والتوقيف العرفي لأي مواطن دون الرجوع إلى السلطة القضائية. وليس لهذه الأجهزة حدود لسلطتها إزاء تنفيذ هذه الإجراءات ولا يلتزم أي فرع أو قسم بالمهلة القانونية المحددة للحجز أو الاعتقال فقد تدوم مدة الحجز عدة أشهر أو سنوات دون عرضه على القضاء.
• حرمان المواطنين من ممارسة حقهم في الطلب من القضاء البت بشرعية توقيف أي شخص، وحجب حق الدفاع عن المعتقل أو توكيل محام خلال فترة توقيف المعتقل لدى الأجهزة الأمنية، بالإضافة إلى منع ذوي المعتقل من معرفة مصيره أو التهم الموجهة إليه وعدم إمكانية زيارته أو حتى معرفة مكان توقيفه.
• تجاوز الأجهزة الأمنية صلاحياتها المعطاة لها بقوانين إحداثها وتدخلها بقضايا ليست من صلاحياتها كتدخل الأمن العسكري بشؤون المواطنين المدنيين في قضايا ليس لها علاقة بالشؤون العسكرية وتدخله بالحركات والأحزاب المعارضة، وضغط الأجهزة الأمنية على جميع الأحزاب المؤيدة منها والحيادية وملاحقة أعضاء الأحزاب المعارضة.
• تتقدم الأجهزة الأمنية بطلب مراقبة اتصالات لأي شخص أو جهة خارج حدود القانون، فباستطاعة أي جهاز أمني أن يقوم بمراقبة اتصال أي شخص حتى وإن كانت الغاية من ذلك شخصية، كما إن عمليات المراقبة السرية للمشتبه بهم وما ينتج عن هذه المراقبة من أشرطة فيديو وصوت قد يتم تسريبها أو انتهاكها من قبل أشخاص غير نزيهين من داخل الأجهزة الأمنية.
• غياب الرقابة الفعّالة على عمل المسؤولين الأمنيين مما يؤدي إلى تجاوزات أدت في كثير من الأحيان إلى وفاة المعتقلين، وتسببت في حالات اغتصاب وقتل بشكل سري دون التحقيق في أسباب هذه الحوادث.
• قيام الأجهزة الأمنية باعتقال الآلاف من السوريين دون معرفة الأسباب، وغالبية المعتقلين لا يتم إحالتهم إلى القضاء إلا بعد أشهر حيث تتم إحالتهم إلى القضاء العسكري ومحكمة مكافحة الإرهاب وهناك الآلاف من المعتقلين قتلوا في سجون النظام من التعذيب.
3. تطييف البُنية الأمنية
يتم تعيين رؤساء الأجهزة والضباط الفاعلين على أساس طائفي ومذهبي بما يضمن الحفاظ على السلطة، فمثلاً ينتمي أغلب عناصر وضباط المخابرات الجوية إلى الطائفة العلوية، بينما الأجهزة الأخرى أغلب ضباطها والفاعلين فيها في المفاصل الرئيسية هم أيضاً من الطائفة العلوية. ويتم بالدرجة الثانية الاعتماد على أبناء الأقليات الأخرى أيضاً، فمعيار الولاء هو الأساس في التعيين وليس معيار الكفاءة. وهناك مراكز حساسة في الأجهزة الأمنية لابد من أن يكون القائم عليها من الطائفة العلوية مثل الفرع 251 الفرع الداخلي في إدارة المخابرات العامة، وكذلك الفرع 293 في الأمن العسكري، وفرع التحقيق في شعبة الأمن السياسي، فمن المستحيل أن يكون رؤساء هذه الفروع من غير الطائفة العلوية.
4. تعمد اللاتنسيق البيني
نتج عن هذه الطريقة من العمل تحكُّم مناديب الأجهزة الأمنية بكافة قطاعات الدولة العامة والخاصة مما يُعزز الرقابة المجتمعية ويحُد من الحركات التفاعلية ويُغيِّب السلوك السياسي الحر للمواطنين، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن عدم مركزية القرارات الأمنية المتعلقة بقضايا "التحقيق والاعتقال"، يجعل المواطنين عرضة للمساءلة في ذات القضايا من أكثر من فرع، إذ يقصد بذلك عرقلة الحركة وسيادة المزاج الأمني.
5. استغلال السلطة وتفشي الفساد
إن تدخل الأجهزة الأمنية في اختصاصات أجهزة الشرطة ومكافحة المخدرات وكافة المؤسسات والدوائر المدنية والخدمية والقضائية وغيرها ساهم في انتشار ظاهرة "التعدي السافر" لهذه الأجهزة الفنية على صلاحية بعض المؤسسات الحكومية والخاصة خدمة لمصالح شخصية لا تتعلق بالعمل الاستخباري. وساهم ذلك أيضاً في تكريس مفاهيم " تحقيق المكاسب والمنافع المادية" مقابل غض النظر عن جرائم إدارية ومسلكية وحتى جنائية. وعمَّقت هذه السلوكيات في ذات الوقت ثقافة "المحسوبيات" و"التقارير الكيدية"، كما أدى استغلال عناصر الأمن لسلطتهم الممنوحة من قبل النظام الحاكم لتنامي ظاهرة الابتزاز لا سيما مع التجار والصناعيين والمستثمرين. وتستند كل تلك التصرفات إلى عدم وجود سلطة رقابية أو محاسبية على سلوك عناصر الأجهزة الأمنية حيث يتم الاكتفاء بالعقوبات المسلكية داخل الجهاز وفقاً لأهواء المسؤولين عنه. ويُلاحظ بشكل واضح أن صفقات التعاقد التي تقوم بها هذه الأجهزة لشراء المستلزمات الفنية تتم دون مراقبة حكومية وإنما بالتعاقد السري بين الضباط والموظفين الأمنيين وجهات داخلية أو خارجية، مما يجعل عوامل الفساد والاختلاس حاضرة وغير مستبعدة، كما تنامت وبشكل واضح حالات تسريب بعض المعلومات الأمنية نتيجة حالات اللاسرية داخل أقسام هذه المؤسسات بهدف الابتزاز والمنفعة المادية المباشرة.
ثانياً: ضرورة التغيير البنيوي والوظيفي
أسباب ونتائج الخلل وطنياً
لقد كانت الأجهزة الأمنية السورية وعلى مدى العقود المنصرمة العصا الغليظة في يد النظام الحاكم في سورية والذي استخدمها بداية لترسيخ أسس حكمه وفرض سيطرته على الدولة والتخلص من خصومه ومن ثم أصبحت بما اكتسبته من سمعة مرعبة الضامن الأول لاستقرار الحكم. ونتيجة لدورها الذي لعبته في تثبيت رأس النظام وحمايته قامت بتوسيع صلاحياتها بشكل كبير لتتدخل في كافة مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية إضافة إلى انتشار الفساد والمحسوبية والثراء غير المشروع في مختلف مفاصل الأجهزة الأمنية وتحولها إلى طبقة اجتماعية متمايزة عن كافة طبقات المجتمع، وبالتالي يعتبر ما أساء وعاب الأجهزة الأمنية بالدرجة الأولى فلسفة العمل السائدة فيها والعقيدة الأمنية المراعية لشرط الحاكم أكثر من المحكوم.
يمكن تحديد مكمن الخلل والانحراف في عمل هذه الأجهزة بأمرين، الأول البُنية الأمنية المتشعبة التي ساهمت في تطويق الحركة المجتمعية وحدّت من إمكانية تقدمها وتطورها، والأمر الثاني متعلق بوظيفة هذه الأجهزة التي كانت تتسم بالسيولة واللامحدودية، باستثناء وظيفة تثبيت وتعزيز عوامل استقرار النظام الحاكم، وفي واستعراض عام لمجمل الأسباب الأخرى فإن أبرزها يكمن في الأسباب التالية:
• فساد العقيدة الأمنية التي قامت عليها الأجهزة الأمنية السورية المبنية على أساس الولاء المطلق لرأس النظام وانعكاس ذلك على سوء الأداء المهني.
• التداخل الشديد في مهام الأجهزة الأمنية الذي وصل في كثير من الأحيان إلى حد التضارب في السلوكيات والقرارات، وذلك على الرغم من وجود بعض الأسس التي تحدد اختصاصات وصلاحيات كل جهاز من الأجهزة والمهام المكلف بها.
• ارتباط نفوذ وقوة أي جهاز من أجهزة الأمن في سورية في مواجهة بقية الأجهزة بقوة ونفوذ شخص رئيس هذا الجهاز.
• حالة التنافس الشديد بين الأجهزة الأمنية والتنافر بينها ومراقبة بعضها البعض في سبيل خدمة رأس النظام.
• الفساد المستشري في الأجهزة الأمنية وخاصة بعد تكليفها بمكافحة عمليات التهريب المنتشرة في المناطق الحدودية وتدخلها في أعمال البلديات من حيث منع البناء في الأراضي الزراعية مما أدى إلى تورط الكثير منها في ممارسة أعمال التهريب بشكل مباشر، إضافة إلى سيطرتها التامة على القطاع العام من حيث التوظيف والتعيينات.
• التضخم الكبير لملاك الأمن في سورية وخاصة في جهاز الأمن العسكري بما لا يتناسب مع حجم المهام الموكلة إليه أساساً.
راكم هذا الفشل والخلل المستمر عوامل السخط الذي يحمله المواطن السوري تجاه الأجهزة الأمنية وتسلطها على حياة المدنيين لعدة عقود، الأمر الذي يجعل من بقاء بُنيتها ووظيفتها السابقة أمراً غير ممكن بعد سياستها الإلغائية الإجرامية التي اتبعتها مع الحراك الثوري منذ بدايته، لاسيما أنها عملت على زج مجموعات الشبيحة وأرباب السوابق والكثير من شباب الطائفة العلوية في مواجهة المظاهرات الشعبية. ومع هذا التراكم وطبيعة التحولات التي تشهدها البُنية السورية تعمَّقت القناعة المجتمعية بعدم الحاجة إلى مثل هذه الأجهزة في المستقبل.
الأجهزة الأمنية و"اختبارات الواقع"
رغم الانتشار الأمني والعسكري الأفقي والممتد بشكل رئيسي في داخل البُنية المحلية، وطبيعة النهج العُنفي المتبع من قبل هذه الأجهزة، إلا أن الثورة السورية كشفت عدة حقائق تُشكل مؤشرات فشل في الأداء الأمني وفقاً لوظيفتها القائمة، وتتمثل هذه المؤشرات في النقاط التالية:
1. عدم التنبؤ بإرهاصات الحراك، إذ تدل السردية الرسمية لأسباب الحراك – التي استندت في بعض أجزائها غير السياسية على تقارير الأمن التي أُعدت لتدارس الأسباب-على أنها قامت لتحقيق مطالب خدمية فقط، وصدرت "مؤشرات" وهمية تُعزز نظرية المندسين الذين يعملون على تهديد الأمن العام" وهذا يكشف بصورة معمقة عن واقع العجز المهني وضعف أدوات التقييم للواقع الاجتماعي.
2. الانتفاخ المؤسساتي وضعف الكوادر البشرية فنياً، وبالتالي عدم القدرة في بلورة أي آلية غير عنفية في مواجهة المتغير والمهدد الأمني، فمنذ اليوم الأول للثورة واجهت هذه الأجهزة جموع المحتجين السلميين بالعنف، وبإطلاق الرصاص والاعتقال والتصفية والتعذيب.
3. تدلل عملية (صنع العدو) وفق (نظرية غوبلز) من الأيام الأولى على عدم وجود أي تطور في عقلية التعاطي مع الشأن العام، وعلى تماهيها مع غايات النظام السياسية على حساب وحدة البنية المحلية عبر تصدير تهم الطائفية والإرهاب على جموع المتظاهرين، وتخويف الأقليات من خلال الترويج لسردية إسلامية الثورة التي ستقضي على الأقليات مستغلة ومسهلة لبروز بعض التيارات الراديكالية المخترقة.
4. اتباع استراتيجية التضليل الإعلامي عبر تبني مآخذ فنية أو تفصيلية من المشهد العام أو ابتداع قصص يخرجها مخرجون فنيون في قاعات أمنية تؤكد نظرية التعامل مع النتائج وإغفال الأسباب، حتى أنها وضعت معياراً أمنياً جديداً في التعاطي الأمني العام قائم على الاتساق مع رؤية وسردية الأجهزة الأمنية.
5. استراتيجية "بالعنف أكون"، إذ أدرك النظام أن أي خلل في الحسابات العسكرية والأمنية من شأنه نقل الملف من مرحلة الضبط والتحكم إلى مرحلة الانفلات ومن ثم الخسارة، فالمكسب العسكري أساس في ضبط العملية السياسية. وبهذه الاستراتيجية عمدت هذه الأجهزة إلى دفع المجتمع الثائر نحو انتهاج الآليات العسكرية، وهو دليلٌ واضح على لا وطنية الغايات المتبعة من قبلها.
اعتمدت "الاستراتيجية العامة" للأجهزة والشبكات الأمنية في التعاطي مع الواقع الذي أحدثته الثورة السورية على الدفع باتجاه إخضاع المشهد العام لحسابات "السيطرة والنفوذ" التي تفرع عنها عدة سياسات مُمنهجة تراعي تحقيق الغاية دون الانتباه إلى الخسائر على صعيد الإنسان أو والتراث والاقتصاد وبنى ومؤسسات الدولة. يبين الشكل المجاور ملامح خطة انتشار هذه الأجهزة والشبكات في بداية الحراك الثوري.
كما جهدت وبالغت هذه الأجهزة بقدرتها على "تحقيق النجاح" وصادرت واستنزفت في سبيل ذلك كل أجهزة الدولة في البداية، وأدخلتها في أتون المواجهة مع الحراك الثوري لاحقاً، وغلَّبت الخيارات العسكرية والأمنية مستندة إلى مبررات سياسية وإعلامية وإدارية تُغطي هذا الفعل وتشرعنه.
ضرورات التوصيف
لن تستقيم أي دراسة جادة فقط بإيجاد رؤىً وبلورة استراتيجيات تُحسِّن من خلالها الأداء الأمني دون حسم الإجابة عن تساؤل رئيسي حول الجهة المستهدفة من عملية التغيير أو التطوير، فهل تمتلك الدولة السورية قطاعاً أمنياً أم هي مجموع أجهزة وشبكات أمنية تعمل لصالح النظام الحاكم؟
يُجيب مفهوم قطاع/ نظام الأمن عن هذا التساؤل، إذ أنه نظام يضُم جميع مؤسسات الدولة والجهات الأخرى ذات العلاقة والتي تضطلع بدور ضمان أمن الدولة ومواطنيها، وتضم جهات أهمها:
• الأطراف الأمنية السياسية: كالقوات المسلحة والشرطة، والدرك، والقوات شبه العسكرية، والحرس الرئاسي، والأجهزة الأمنية، والاستخبارات، وخفر السواحل، وحرس الحدود، وسلطات الجمارك، وقوات الاحتياط، ووحدات الأمن الداخلي.
• إدارة الأمن وهيئات الرقابة: كالبرلمان/السلطة التشريعية واللجان التشريعية التابعة لها، والحكومة/السلطة التنفيذية، بما فيها وزارات الدفاع والهيئات الاستشارية المختصة بالأمن القومي، والسلطات التقليدية والمتعارف عليها، ومؤسسات الإدارة المالية، ومؤسسات المجتمع المدني، بما فيها وسائل الإعلام والسلك الأكاديمي، والمنظمات غير الحكومية.
• السلطة القضائية والمؤسسات المكلفة بإنفاذ القانون: كوزارة العدل، وإدارة السجون، والتحقيقات الجنائية، والنيابة، وجهاز القضاء، والأجهزة المكلفة بتنفيذ الأحكام القضائية والهياكل القضائية التقليدية والعرفية، ولجان حقوق الإنسان ومحققو الشكاوى.
• مؤسسات المجتمع المدني غير النظامية: كالمؤسسات التي تعمل في الإعلام ومراكز الأبحاث والمنظمات المؤثرة في السياسات العامة، والمؤسسات الدينية وغيرها.
بهذا التعريف فإن الدولة السورية لا تملك قطاعاً أمنياً ابتداءً حتى يستوجب الإصلاح، بل تعد ضرورة بناء نظام أمني فعَّال وناجع ومُجد مطلباً رئيسياً في أية مرحلة انتقال لدولة مستقرة وآمنة. وإذا ما تمعَّنا بطبيعة العمل الأمني في سورية نجده ضمن صنفين:
الأول: أذرع تحكُّم وضبط، فالمخابرات الجوية والعسكرية هي ذراع الجيش والقوات المسلحة، والمخابرات العامة هي ذراع مشترك لمكتب الأمن الوطني (أو القومي سابقاً) وللحزب الحاكم (حزب البعث العربي الاشتراكي)، والأمن السياسي ذراع وزارة الداخلية.
الثاني: شبكات النظام العسكرية – الأمنية: لاسيما بالحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والتي تقع على عاتقهما هندسة العملية الأمنية وضبط علاقاتها وقواعدها الناظمة، وضمان أمن النظام والقيام بكافة الإجراءات والعمليات داخل المجتمع في حال بروز أية مؤشرات مهددة لهذا الأمن.
وعليه فإن المستهدف من عملية التغيير أو التفكيك هي الأجهزة الأمنية الرسمية بالإضافة إلى المنظومة القانونية سواء على صعيد شرعنة وقوننة بعض المهام الأمنية المتعلقة بالأمن الاجتماعي وذلك وفق اعتبارات ومعايير اجتماعية واضحة، أو على صعيد بناء قطاع أمني حقيقي متماسك.
الاستفادة من تجارب بلدان الربيع العربي
رغم خصوصية كل بلد يمر في مرحلة انتقالية عن الآخر، إلا أن السمات المحلياتية المشتركة بين البلدان العربية التي شهدت حراكاً اجتماعياً واسعاً عديدة ويأتي على رأسها مفهوم الأمن ومؤسساته وتشكيلاته، إذ شكلت مطالب الإصلاح وبناء قطاع أمني متسق مع الحركة المجتمعية دافعاً أساسياً لتأجيج المظاهرات وانتشارها الأفقي. ومن هنا يأتي استخلاص النتائج المستوحاة من عمليات الإصلاح في تلك البلدان كبُعد موضوعي ينبغي القياس على جزيئاته وملاحظاتها أثناء العملية الإصلاحية للأجهزة الأمنية في المشهد السوري. ولاتزال تواجه عملية إصلاح قطاع الأمن في الدول العربية عدة إشكالات مركبة، يُعيدها الباحث يزيد صايغ في دراسته حول معضلات الإصلاح وضبط الأمن في المراحل الانتقالية في الدول العربية إلى عدة أمور موضعية يمكن ذكر أهمها وفق الآتي:
• تعاظم إرث الأنظمة الاستبدادية ومنظومات الحكم التي أُغرقت من الإكثار في شروط سباحة المجتمع في فلكها.
• اختلال المؤسّسات العامة وظيفياً، وعدم جدوى الإصلاح الأمني إن لم يكن بالتوازي مع إصلاح أجهزة الدولة
• السيولة الفائقة للمراحل الانتقالية في فترة ما بعد الانتفاضة وما بعد الصراع.
• إغفال الفاعلين الدوليين والإقليميين الذين يجهدون لتسيس الملفات الانتقالية، الأمر الذي يُعزز من مناخات تقويض الدولة وتغييب التوافق المجتمعي.
• معضلة الاقتصاد السياسي من حيث تكاليف التحديث والتأهيل المهني لقطاعات الأمن والنتائج المحتملة للإصلاح على الأمن الوظيفي والرعاية الاجتماعية لاسيما الآثار المتأتية من عملية التسريح الجماعية مثلاً.
• تبايُن التوقعات من محاولة إعادة بناء أو إصلاح قطاع الأمن (ونظام القضاء الجنائي المرتبط به) على مستوى القطاعات والقيم الاجتماعية التي ينبغي مراعاتها.
• غياب القواعد والمجالات المقبولة عموماً لخوض السياسة سلمياً، سواء كانت رسمية أو غير رسمية،
• تركيز الحكومات المحلية ونظيراتها الإقليمية والدولية على مكافحة الإرهاب، مع استبعاد أي أجندة جدّية لإصلاح قطاع الأمن، مما يعزز الميل إلى تفضيل استخدام الإكراه في التعاملات الأمنية وعلى كافة المستويات السياسية أو الاجتماعية.
تؤكد مراجعة المحاولات الجزئية والمتردّدة لإصلاح قطاع الأمن في تونس ومصر وليبيا واليمن بعد العام 2011، إلى أن "حكوماتها المؤقّتة" لم تمِل تلقائياً إلى الانفتاح، ولم تسْعَ بصورة منهجية إلى عقد حوار واسع مع قطاع الأمن (أو الشركاء والمنافسين السياسيين)، أو المجتمع المدني. وهو أمرٌ مخلٌ لعناصر هندسة وبناء القطاع الأمني الأنسب، والقادر على مواجهات جملة من المتغيرات الطارئة غير المتوقعة ولاسيما ما تفرزه ثنائية (التطرف / سياسات المواجهة).
أما فيما يتعلق بأهم الدروس المستخلصة من تجربة بلدان الربيع العربي التي ينبغي عدم إغفالها أثناء عملية الإصلاح أو ما قبلها في المشهد السوري، فيمكن حصرها -رغم كثافة معطياتها-في عشرة نتائج مرتبة وفق ما يلي:
1. الحد من الأسباب والظروف المُهيئة للثورة المضادة، إذ أن تكريس مفهوم الانتقال من التهميش السياسي والإداري والاجتماعي والاقتصادي إلى بؤرة المركز، وعدم تبني برامج وطنية تنفيذية تطال مؤسسات الأمن لاعتبارات تتعلق بالخشية من حدوث انهيار شامل، سيكون عاملاً دافعاً لتهيئة مناخ مشجع لأرباب الثورة المضادة، كما حدث في مصر وتونس.
2. أهمية عملية الحوار بين القطاع المدني والأمني، وهي عملية ذات اتجاهين:
أ. العمل على تثبيت قواعد مساءلة ومراقبة قطاع الأمن، وتكريس مبادئ التطوير والملائمة في القدرات المهنية والرواتب وظروف الخدمة وسياسات التوظيف والترقية.
ب. العمل على تعزيز المؤازرة المجتمعية سواء عبر تعزيز ثقافة صيانة الأمن العام أو من خلال العمل على بناء مؤسسات تعنى بتقييم الواقع الأمني ومتطلباته وآلياته.
3. الارتباط العضوي بين الإصلاح الأمني وإجراء تعديلات في المنظومة الدستورية والقانونية. وفي هذا الصدد عل سبيل المثال، ارتأت الوكالات الدولية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومركز جينيف للسيطرة الديمقراطية في تونس على القوات المسلحة بالشراكة مع الحكومة التونسية لأن إصلاح الأجهزة الأمنية يتطلب إحداث تغييرات على المستوى التشريعي والدستوري والمؤسسي والثقافي، مع التركيز على ضرورة تأسيس برامج في المعهد الأعلى للقضاء مصممة لمكافحة الفساد وضمان احترام حقوق الإنسان والمبادئ المتضمنة في المعاهدات الدولية ذات الصلة.
4. أهمية وضوح الأنظمة العامة لعمل الأجهزة الأمنية، ففي مصر ورغم أهمية تحويل جهاز أمن الدولة إلى جهاز للأمن الوطني وسحب الكثير من اختصاصاته غير المتسقة مع وظيفته ونجاعة إصدار وزارة الداخلية "مدونة قواعد سلوك وأخلاقيات العمل الشرطي"، إلا أن ضرورات تأسيس عقد اجتماعي جديد بين الشعب وهذه الأجهزة لاتزال تفرض نفسها بحيث تقدم الأخيرة نفسها كجهاز حامٍ للاستقرار والأمن في ظل انعدام آليات الشفافية والمراقبة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن عملية التحويل أغفلت ضرورة إعادة هيكلة جهاز الأمن وأبقت على الإدارات المطوقة لكافة معارضات لنظام.
5. استثمار "الفرصة السياسية" وإنجاز تفاهم سياسي على الإطار العام للإصلاح وتطوير الآليات المؤسساتية المساعدة للعملية، حيث تدلل التجربة الليبية على أن غياب تلك التفاهمات إضافة إلى القيود المؤسّسية الثابتة ساهمت في اختصار إصلاح قطاع الأمن إلى حدّ كبير في عمليات تطهير واسعة لموظفي النظام السابق، مدعومة بقانون عزل امتدّ ليشمل المجالين السياسي والإداري أيضاً، كما تسبّبت ديناميكيات مماثلة في اليمن في عمليات تعبئة مضادّة مدمّرة عندما سعت فصائل النخبة المتنافسة إلى بناء قواعد دعم سياسي داخل قطاع الأمن وخارجه، من أجل إثبات ذاتها في ترتيبات الحكم الجديدة.
6. التأطير القانوني الملائم لمنصب رئيس جهاز الأمن العام، فعلى سبيل الذكر اقترح عدد من الخبراء الأمنيين المراقبين لحركة الإصلاح الأمني في مصر أن يتم النظر في تولي القيادة من خارج جهاز أمن الدولة وأن يصدق على تعيينه رئيس الجمهورية ومجلس الشعب بعد جلسة استماع يحدد خلالها السياسة العليا للجهاز وأدواته للعمل، حتى يكون هناك اتفاق مشروع بهذا الخصوص، وأن تكون مدة رئيس الجهاز ونوابه ومعاونيه الكبار مرتبطة بمدة رئيس الجمهورية، وتنتهي بانتهاء مدته لإفساح المجال لتداول المناصب القيادية.
7. الهدف العام التي تسعى إليها عمليات إصلاح أو إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية كافة هي تماسك واستقرار البُنية المجتمعية، وألا تنطوي عملية إعادة البناء والهيكلة على رغبة انتقامية من بعض الفصائل السياسية والدينية، لتصفية حسابات الماضي. كما ينبغي مراعاة عدم الوقوع في الفهم الخاطئ لنظام "الشرطة المجتمعية" في بعض دول العالم، واستنساخها بصورة مشوهة تؤدي إلى تكوين كيانات نظامية "شبه عسكرية" ومسلحة، وهو أمر يمكن التدليل عليه من ضوء استجابة المواطنين وتعاطفهم مع تجربة "اللجان الشعبية" إبان الشهور الأولى للثورة المصرية، التي لا ينبغي الارتكان إليها في الأحوال العادية.
8. ضرورة مراعاة الأبعاد المجتمعية وتجنب العمل على عكس هويتها الجمعية، فعملية تجيير الإصلاح باعتبارها "دفاعاً عن العلمانية" في مواجهة "سلطوية الإسلاميين المقبلة" أو بالعكس، بغية أهداف تتعلق بالتوافق مع مزاج الحكومات الغربية، ستفسر حُكماً بتجاهل البُعد المجتمعي. ففي تونس على سبيل المثال يُمثل أكبر إخفاق في العملية الانتقالية كون الجهود الأولية لإطلاق إصلاح القطاع الأمني لم تكن مدعومة اجتماعياً من حيث وحدة الهدف وتم تقديمها في جو من الاستقطاب العلماني-الإسلام، بينما كانت تتطلب بناءً فعّالاً للتحالفات السياسية وللتوافق الاجتماعي إضافة إلى سياسات إصلاحية متماسكة.
9. وجوب بلورة جسد أمني واحد موحد يُعنى بالقضايا الأمنية الوطنية. ففي ليبيا، يمكن القول بأن الأجهزة الأمنية التي تشكلت بعد الثورة ضمَّت مجموعات تنتمي إلى مليشيات متضاربة الأهداف والمصالح، وأفرزت واقعاً أمنياً متدهوراً تصعب فيه الحركات الإصلاحية، وعندما أطلقت الحكومة الليبية حملة ضد المليشيات غير المنضوية تحت لواء الأجهزة الأمنية، فضلت المليشيات الانسحاب والاحتفاظ بقوتها العسكرية، على الدخول في مواجهات مع الأجهزة الأمنية، الأمر الذي جعل هدف ضبط السلاح في ليبيا أمراً في غاية الصعوبة.
10. الاكتفاء بتغيير قادة الأجهزة الأمنية يُعد إجراءً شكلياً بامتياز، فالتوافق الوطني على إصلاح المنظومة الأمنية شرطٌ أساسيٌ في دعم التوجه نحو عملية انتقالية ذات تحديات أقل وطأة من المتوقع، ففي اليمن لم تعكس إقالة كبار المسؤولين الأمنيين الموالين لعلي عبد الله صالح، أي تغيير ملحوظ في النهج الأمني، فلاتزال عملية إصلاح القطاع الأمني في اليمن بحاجة إلى وضع حد لظاهرة تعدد الأجهزة الأمنية المتنافسة، وإلى وضع آليات فعّالة للرقابة التشريعية والقضائية والمدنية على القطاع، كما يجب حظر تدخل الأجهزة الأمنية في الحياة السياسية، بالإضافة إلى فرض المساءلة والشفافية فيما يتعلق بأداء الجهاز الأمني.
تحديات راسخة في المشهد السوري
تنبع التحديات التي ستفرض نفسها على مستويات الإصلاح الأمني من واقع "الدولة الفاشلة" التي تتعزز عوامل تدهورها مع استمرار عاملين اثنين، الأول الخطف المستمر لهذه الأجهزة من قبل النظام الحاكم وإجبارها على المواءمة مع السياسة الأمنية والعسكرية التي تسطرها الشبكات المذكورة آنفاً، والشغور الواضح لأهم وظائف الدولة المجتمعية سواء بحكم أولوية البُعد السياسي والعسكري لدى جل الأطراف الفاعلة التي لم تقم بأية إجراءات تراعي عدم تعزيز مناخات الانقسام الاجتماعي وتسيس الخدمات وتجييرها لصالح النظام الحاكم حتى في أبسط الأمور المعاشية.
أما الثاني فينطلق من تحكم فئات دينية واجتماعية واقتصادية موالية للنظام على مراكز القرار في مؤسسات الدولة، وتبنيها لسياسة الإمعان في إلغاء وسحق الطرف الآخر وعدم شموله لخدمات الدولة، الأمر الذي يدفع موضوعياً لواقعية أطروحات أن منظومة الإصلاح منظومةٌ متكاملةٌ لن تستقيم معها السياسات الأحادية، فعمليتي بناء الدولة والحوكمة الديمقراطية تُمثّلان شرطاً أساسياً لإعادة تأهيل القطاعات الأمنية وإخضاعها للرقابة الحكومية الهادفة.
ومما لا شك فيه وجود جملة من التحديات التي لاتزال تفرض نفسها على مدار سنوات "الصراع"، وستكون عاملاً مرهقاً لأية إجراءات وعمليات إصلاحية، الأمر الذي يتطلب وحدة في الموقف الوطني العام تجاه الاستراتيجية الأمنية الوطنية الجديدة، ومن هذه التحديات نذكر ما يلي:
1. إعادة بناء التحالفات الاجتماعية والمؤسّسية السائدة التي كانت تقوم عليها الأنظمة الاستبدادية السابقة، واستبدالها بتحالفات جديدة مستقرّة تجعل عملية بناء القطاع الأمنيّ في المرحلة الانتقالية أكثر اتساقاً وتماسكاً. ويتطلب هذا تنحية كل الأسس الطائفية أو الأثنية أو الحزبية، وأن تستند مرجعية العملية البنائية على عاملين أساسيين: الوطنية والمهنية وبشكل عابر للفصائلية والحزبية.
2. المواءمة مع مفهوم "اللامركزية" بأنواعها، إذ تدلل المعطيات على تزايد تشظي المركزية وتآكلها الشديد، وهذا ما يتطلب القدرة على هندسة العملية الإصلاحية وفق متطلبات التمكين المحلي والضرورات الوطنية الكبرى.
3. مراعاة ثنائية (الواقعية – المثالية) فطبيعة الملفات الأمنية التي تكتنف المشهد السوري على المستوى المحلي والإقليمي لا يمكن التصدي لها بأطروحات مغرقة في تعاطيها النظري حول الرؤية المثلى للقطاع الأمني المستقبلي مما سيجعلها تصطدم بالعديد من العراقيل في بمراحل جد مبكرة.
4. صعوبة ضبط التجاوزات الأمنية بكل تجلياتها وأبعادها وذلك عائد لمجموعة أسباب، يتعلق بعضها بمحاولات شبكات النظام المتمكنة على مستوى الأدوات والخبرة والآليات بث الفوضى وإدارتها لخدمة أهدافها السياسية في الالتفاف على هذه.
5. غياب السلطات الوطنية ولا سيما القضائية والعسكرية التي تعتبر دعامتي صيانة للأمن الوطني، إضافة إلى صعوبة امتلاك القدرة على تشكيل مؤسسات سياسية وإدارية قوية تمتلك إرادة حقيقة للتغيير، مدعومة شعبياً، قادرة على تحسين وسائل الرقابة والمساءلة القانونية والمجتمعية، وبناء قطاع أمني منسجم يعتمد على مقاربة غير متحزبة تستند على توافق مجتمعي حول مكونات النظام الاجتماعي ومبادئ الاقتصاد العادل.
6. تضارب طبيعة وغاية الرؤى الأمنية للفاعلين المحليين، فمن طرف النظام ومواليه لن تقبل بأية صيغ تطويرية أو إصلاحية لأن في ذلك تقويض لأدوات حكمه ناهيك عن اعتبار المعارضة برمتها إرهابيين وأهداف مطلوبة للأجهزة الأمنية، بينما لا تتبنى معظم فعاليات المعارضة على اختلاف عقائدها إلا نظرية النسف الكلي وتفكيك الأجهزة وعزل كافة المنضوين فيها ثم إعادة البناء من جديد مع تكريس القطيعة التامة مع النظام الحاكم وكل أدواته كشرط لازم للتغيير السياسي.
7. إعادة امتلاك القرار الوطني، وتجفيف منابع الاستقطاب السياسي الإقليمي والدولي الذي يتعزز طرداً مع استمرار "الأزمة"، والعمل على بناء صيغ أمنية تراعي المهددات الأمنية المحلية دون تعارض مع المعادلات الأمنية الإقليمية والدولية.
8. تنامي المشاريع العابرة للوطنية سواء المرتبطة بعقيدة أو قومية، خاصة مع توافر أسباب تمكينها محلياً وامتلاكها القدرة على التعرض الدائم لسير عمليات الإصلاح، الأمر الذي يتطلب إبراز ومواجهة هذه المشاريع كأولوية وطنية متفق عليها.
9. طبيعة تحولات الثورة في سورية وخصوصيتها عن باقي دول الربيع العربي جراء التسارع في الانتقال في مستويات الصراع وشموله لعدة أبعاد مجتمعية وعقدية وقومية، كما أنه بات مرشحاً لحرب دولية مباشرة على الأرض السورية، إذ أن تغير طبيعة الصراع القائم وتحوله من شكل إلى آخر وما رافقه من نتائج كاختطاف الدولة لصالح حلفاء النظام وميليشياته جعل من عملية التحول نحو إعادة البناء عملية يعتريها جملة عقبات وتحديات، وبالتالي سيُشكل التوافق الشعبي والرؤى السياسية الموحدة لهذه العملية أساً ضامناً في إتمام هذا التحول.
10. الارتباط العضوي بين إعادة الهيكلة والإرادة السياسية في التغيير والانتقال السياسي المؤسس لقيم العدالة والديمقراطية والمشاركة المجتمعية الفعالة في بناء الدولة والمجتمع.
11. فوضى السلاح والسيولة الأمنية، فلا يمكن فرض الأمن والاستقرار والعمل على إصلاح المؤسسات في بيئة تتسم بالفوضى، خصوصاً في ظل انتشار السلاح واستخدامه في فرض المشاريع السياسية.
12. انهيار الاقتصاد السوري، وهو العائق الحقيقي أمام عملية إصلاح أي جهاز أو مؤسسة في الدولة، والحجم الكارثي للدمار الذي حلّ بالبنية التحتية في معظم المناطق السورية إضافة إلى الكارثة الإنسانية التي حلت بالمجتمع السوري .
13. حصول انقسام قومي وأيديولوجي وطائفي حاد في المجتمع السوري نتيجة لتحولات الصراع السياسي في سورية وما أفرزته سياسات إدارة الأزمة من قبل الفاعلين الإقليمين والدوليين.
14. غياب العدالة الانتقالية في المفاوضات السياسية ولدى كافة الفاعلين الإقليميين والدوليين وما ستفرزه من سلوكيات ثأرية وانتقامية، سيزيد من نسب التوتر والانفجار المجتمعي. وبالتالي يعطل عملية إعادة الهيكلة.
ويجدر هنا إعادة تثبيت فرضية الدراسة، إذ لا يمكن الحديث عن إعادة هيكلة الجسم الأمني في سورية قبل الحديث عن الشكل الذي ستأخذه الدولة السورية في نهاية الحرب المستعرة فهنالك أكثر من سيناريو يتحدث عن شكل الدولة سواء أكانت دولة مركزية بسيطة أو موسعة أو نظام فدرالي أو كونفدرالي، والنهج المعتمد بالحكم هل هو نهج مركزي أو لا مركزي. لذا فإن ما ورد أعلاه يتسق بالسيناريو (المركزية، أو اللامركزية الإدارية).
اختبار نظريات الإصلاح: (التفكيك، إعادة الهيكلة)
بناءً على ما سبق ذكره فيما يتعلق بعيوب الأجهزة الأمنية والآثار والنتائج المترتبة على فشلها البُنيوي والوظيفي، تداعت المطالب والدعوات لحلّ الأجهزة الأمنية وتفكيكها والاستغناء عنها بشكل كامل، نتيجة لتبلور قناعة لدى بعض قطاعات الشعب بعدم الحاجة إلى مثل هذه الأجهزة. ويبدو هذا الأمر موضوعياً كرَد فعل للشعب السوري على سلوكيات وممارسات الأجهزة الأمنية القائمة وفشلها المزمن في كافة اختبارات حماية المواطنة والقيم الإنسانية، مقابل تعظيم ولائها المطلق للنظام والعمل الدؤوب لحماية سلطته عبر قمع كافة التفاعلات التي تستهدف بقاءه في الحكم، وذلك بحكم العلاقة العضوية والنفعية المتبادلة ما بين النظام والأجهزة الأمنية وغياب أحد هذه الأطراف يؤدي لانتفاء المنفعة التي تفهمها الأجهزة الأمنية "شرعية ومستمرة".
وعلى الرغم من المبررات الموضوعية لهذه الدعوات إلا أن الضرورة الأمنية وأهميتها في سياق أي عملية انتقالية (لاسيما في جغرافية كسورية وكونها أحد عناصر معادلة إقليمية ودولية حساسة)، ناهيك عن أن أهم وظائف الدولة بشكل عام هي الوظيفة الأمنية التي تحرص على الاستقرار الاجتماعي وتحصن البلاد من أي اختراق أمني يهدد النسيج الاجتماعي وتحمي وتصون سيادة الدولة. فالأمان في أي دولة من الدول هو أساس التنمية ودون توفر الأمن وخاصة في مراحل ما بعد الصراع حيث المجتمع منهك ومشتت وفي أثناء عمليات إعادة الإعمار والبناء المرافقة لانتهاء الصراعات يشكل تحدياً كبيراً، وفي المقابل فإن غياب التنمية ينتج عنه توقف العمليات التطويرية ومن ثَمَّ غياب الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
أما تفكيك الأجهزة الأمنية وإنهاء عملها نهائياً وعدم إعادة بناء بديل وطني ببُنية متماسكة ووظائف متصلة بطبيعة الفعل الأمني، إنما هو طرح مستبعد وخاصة في المرحلة القادمة من سورية الجديدة التي تنامت فيها المشاريع العابرة للحدود السورية وكادت سلوكياتهم اللاحضارية تتجذر في البُنية السورية، وبالتالي فإن نظرية تفكيك الأجهزة الأمنية الحالية يعتبر من الأمور التي تؤدي إلى انهيار الدولة السورية بشكل كامل. ومن هنا تبدو الحاجة الأكثر اتساقاً مع ثنائية (رفض السلوك والمنهج / الضرورة الأمنية) إلى ضرورة إعادة الهيكلة للمؤسسات الأمنية في المرحلة القادمة لتُجاري أجهزة الأمن الموجودة في الدول المتقدمة والمبنية على أسس صحيحة لخدمة الوطن والمواطن.
يعرف مصطلح "إعادة الهيكلة" بأنه إجراء التصويب اللازم للهياكل الإدارية والفنية والاقتصادية والمالية لمنظومة ما، وذلك على النحو الذي يمكنها من البقاء والاستمرار وتحقيق عائد مناسب. والهدف الأساسي منها هو إعادة البناء لمؤسسة ما بهدف إكسابها فاعلية وفائدة أعظم تتوافق مع الأهداف الجديدة ومتطلبات المرحلة القادمة. وبهذا السياق تعني عملية إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية إعادة بنائها بما يتوافق مع مصلحة الشعب في حمايته من الأخطار المحتملة التي تهدد استقرار المجتمع وتحمي عملياته الحركية الوطنية. لا بد إذن أن تشمل عملية إعادة الهيكلة على ما يلي:
• إعادة بناء الهياكل التنظيمية للمؤسسة الأمنية، وما يتبعه من ضرورات إلغاء أو دمج وحدات واستحداث أخرى، وتحديد الأهداف العامة والنتائج الدقيقة التي تسعى المؤسسة إلى تحقيقها على المدى البعيد.
• تحديد الأنظمة والقواعد المؤثرة في أوضاع وعمليات المؤسسة الأمنية، وبحيث يكون تجديدها أو تحديثها متوافقاً مع إمكانات التطبيق، بالإضافة إلى وضوح آليات العمل والرقابة عبر مجموعة قوانين ملزمة ومتسقة مع العمل القضائي والعدلي.
يستمد الأمن الوطني لأي دولة مبرراته النظرية والعملية من مفهومين رئيسين يُمثلان صلب وجود الدولة أولهما السيادة وتعني تمتع الدولة باختصاص شامل على إقليمها بشكل مستقل عن أي سلطة أخرى، ما لم يقيد هذا الاختصاص بقواعد دولية. ويُعد نشاط الأمن الوطني انعكاساً لهذه السيادة بوصفه فكرة تستند إلى حق الدولة الشرعي في الدفاع عن كيانها وحماية أمنها من خلال اتخاذ الإجراءات الكفيلة بذلك. وثانيهما: المصالح الأساسية والحيوية للدولة وهي من المفاهيم العائمة، التي تهدف في جوهرها إلى ضرورة تفضيل مصالح الدولة على أي اعتبارات أخرى، لذا فإن أمن الدولة هو مجموع مصالحها الحيوية. وقد يتحول الأمن الوطني في بعض الحالات إلى هاجس يندمج في صلب العقيدة السياسية للدولة، فينعكس في سلوكها وممارساتها، ليُشكل هدفاً ووسيلة في آن واحد، ولا سيما إذا تبنَّت السلطة مفردات النظرية التآمرية أو هاجس التهديد أو العدو كجزء من استراتيجيتها الداخلية والخارجية ليكون ذلك أساساً تقوم عليه ما يدعى بالدولة البوليسية. ويظهر توجه الدولة البوليسية هذه في عدة أشكال أبرزها الشك وعدم الثقة في نوايا الآخرين والعنف الذي يظهر جلياً في سلوكها الموجه للداخل أو الخارج، مما يُبرر لها في إطار متطلبات الأمن الوطني الكثير من الأهداف أبرزها اختلاق الأزمات لإبعاد الأنظار عن المشاكل المستعصية أو العيوب الذاتية للنظام، وتبرير التوسع على حساب الآخرين، وكذلك تبرير الدخول في سباق التسلح ومحاولة عسكرة المجتمع. أما الهدف الأخطر والغالب في طبيعة هذه الأنظمة هو مصادرة الحريات بالعنف، ومحاولة شخصنة السلطة لتبرير ظهور النُظم الشمولية.
ثالثاً: نحو الانتقال إلى قطاع أمني متماسك
مُسلَّمات العقد الوطني بين قطاع الأمن والمجتمع
يُعد العقد الوطني الذي يحدد أبعاد العلاقة البينية للجهاز الأمني مع المجتمع إضافة إلى تبيان الحدود والحقوق والواجبات شرطاً لازماً لبدء العملية الإصلاحية. وفي سبيل ذلك تقترح الدراسة جملة من المسلمات التي ينبغي أن يتضمنها هذا العقد، وهي:
1. يجب أن تنطلق عملية إعادة البناء من عقيدة أمنية جديدة، ترتكز على حماية أمن الوطن والمواطن، بدلاً من العقيدة السابقة الفاسدة، التي كانت ترتكز على خدمة الحاكم وأعوانه.
2. الفصل التام للأجهزة الأمنية عن تجاذبات السياسة، بما يمنع التحزّب داخل هذا القطاع، وكذلك أن يُعنى القطاع الأمني بخدمة مصالح الشعب، وتوفير السكينة والأمان لجميع المواطنين السوريين، بحيث يتمكنوا من ممارسة حرياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية، وفق القانون والدستور مع الحفاظ على النظام العام واحترام حقوق الإنسان والدفاع عن سيادة الدولة ووحدة أراضيها.
3. تحسين طرق تقديم الخدمات الأمنية والعدلية، للمواطن السوري، وتقديم التدريب الاحترافي وفرض التطور على جميع العاملين في القطاع الأمني على أن يشمل هذا التدريب مجالات حقوق الإنسان والمواطنة، بالإضافة إلى المهارات التقنية والفنية ووضع إطار قانوني واضح لتحديد اختصاصات الأجهزة الأمنية وفقاً للمعايير والاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان.
4. إنشاء أنظمة إدارة ورقابة ومساءلة فعّالة للأجهزة الأمنية، بحيث يحق لتلك الجهات الرقابية الاطلاع على الوثائق التي تكشف الأداء المهني والوطني للمؤسسة الأمنية، وفق معايير الأداء المهني العالي المستوى.
5. تعزيز ثقافة أن القطاع الأمني هو مكون أساسي من مكونات النظام الديمقراطي الجديد الخادم للمجتمع ومواطنيه، الحامي لقيم المواطنة والعدالة الاجتماعية، القائم على تطبيق العدالة الانتقالية وسيادة القانون وتعزيز وتجسيد فكرة المواطنة. وتُعد تلك الثقافة نقطة الفصل الحقيقية بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة الاستبدادية، ولا بدّ من تحسين وسائل الرقابة والمساءلة القانونية والمجتمعية عند البدء بعملية البناء.
6. تأسيس جهاز معلوماتي كفء، يُناط به حماية الأمن الداخلي، وذلك شريطة أن يواكب هذا الجهاز متطلبات التحول الديموقراطي، وأن يخضع لمختلف وسائل الرقابة (تشريعية، قضائية، شعبية، مجتمعية، ذاتية).
أما أهداف إعادة هيكلة أجهزة الأمن في سورية المستقبل فتكمُن في حماية أمن الدولة والمواطن أو ما يسمى الأمن الوطني وليس حماية أشخاص أو جهات معينة على حساب الأمن الوطني لكامل البلد. وعليه يمكن إجمال أهداف إعادة هيكلة أجهزة الأمن بما يلي:
• حماية الوحدة الوطنية السورية.
• حماية حدود سورية والعمل على إبقاء سورية موحدة.
• دمج العناصر الفاعلين في الثورة بالدولة وبالأجهزة الأمنية.
• الحد من عمليات التسليح وسحب السلاح من الفصائل غير المنضوية تحت سلطة الدولة.
• العمل على تحقيق أمن المنشآت الحكومية والخاصة والحفاظ على مؤسسات الدولة.
• حماية البرامج الوطنية لمكافحة الإرهاب والتطرف والغلو.
• حماية وصيانة خطط تعزيز السلم الأهلي ومنع عمليات الانتقام من الأقليات وحمايتها.
الأهداف الاستراتيجية للقطاع الأمني المستقبلي
أولاً: توفير الأمن والأمان للوطن والمواطن. وذلك عبر مجموعة من الإجراءات والسياسات التي تعزز الشروط الموضوعية لتحقيق الاستقرار، نذكر منها:
1. تعزيز النظام العام وسيادة القانون، وذلك من خلال وضع استراتيجية وطنية للتعامل مع كافة المهددات الأمنية سواء المتعلقة بمحاولات شبكات النظام القديمة للسيطرة على مراكز القوى في الدولة أو على صعيد مواجهة المشاريع العابرة للسورية، بالإضافة إلى تعزيز دور المجتمع في عملية البناء والمساندة في فرض النظام وسيادة القانون، وبناء شراكات مجتمعية مع القطاع في هذا الشأن. كما ستشكل استعادة السيادة السورية على كافة المعابر، وتوحيد المرجعية للقطاع الأمني، وضبط فوضى السلاح وتعزيز برامج السلم الأهلي وتقوية المنظومة القانونية ذات العلاقة بالتزامن مع برامج وخطط إعلامية متماسكة، خطوات داعمة لإعادة ضبط الأمن المحلي والاجتماعي.
2. الحد من جرائم أمن الدولة (كالخيانة والتجسس) المتأتي من التداخلات الوظيفية لأجهزة الأمن ونقص التشريعات والقوانين وضعف الإمكانيات المادية واللوجستية والتسليحية لمكافحة جرائم ضد أمن الوطن، الأمر الذي يوجب ضرورة فصل السلطات وتدعيم وصيانة بنك المعلومات الأمنية، وتعزيز دور وحدات الرقابة والشكاوى وبناء القدرات عبر برامج التدريب والتأهيل، والمواجهة الحازمة لكافة الجرائم التي تستهدف الأموال والممتلكات العامة.
3. الحد من كافة الظواهر المشرعِنة للواسطة والمحسوبية عبر إنماء كافة الاتجاهات المعززة للولاء الوطني ومحاصرة الولاء العشائري والجغرافي والحزبي والعقدي، وتوضيح اللوائح والأنظمة والتعليمات التي تنظم العلاقة الداخلية في الجهاز الأمني، مع ضرورة الأخذ بالحسبان تطوير إدماج التنوع الاجتماعي في السياسات والخطط والموازنات، بالإضافة إلى ضرورة على الاعتماد نظم التقييم والتحليل وتطوير مناهج الرصد المبكر، ونظام الشكاوى.
4. تعزيز مبادئ ومفاهيم القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان في عمل قطاع الأمن، من خلال برامج التثقيف والتدريب، وتبني دليل عمل أمني يوضح السلوكيات وضرورة اتساقها مع حزمة القوانين المرافقة لعمليات الإصلاح، والعمل على تطوير منظومة السلوك فيما يتعلق بحقوق الإنسان داخل المؤسسة الأمنية بالتعاون مع الشركاء المعنيين، وتعزيز العلاقات بين مؤسسات قطاع الأمن ومنظمات المجتمع المدني، وبناء قدرات العلاقات العامة والإعلام.
5. تعزيز السياسات العامة المرتبطة بالقيم الأساسية في قطاع الأمن، والتي يجب أن تراعي عدة معايير تزيد من نسقية الحركة الأمنية واقترابها من تحقيق أهدافها العامة، ولا سيما الانسجام مع قيم وتطلعات المجتمع السوري، وصيانة الهوية الوطنية الجديدة، وحماية الدستور، ومراعاة حق الممارسة العقدية.
ثانياً: تطوير وتنظيم وبناء قدرات قطاع الأمن ومؤسساته، وذلك للارتقاء بالعمل الأمني واتساقه مع ضرورات التعامل مع إشكالات المرحلة الانتقالية وذلك عبر ما يلي:
1. تعزيز المأسسة في قطاع الأمن ومؤسساته على أسس الحكم الرشيد، وتقديم الخدمات بكفاءة وفاعلية وعدالة.
2. تكامل الأطر القانونية والتشريعية الناظمة للعمل الأمني وإلغاء كافة آليات الندب، وإصدار قوانين التجنيد والتشغيل وفق معايير واضحة وشروط تتعلق بالكفاءة والسلامة الجسدية.
3. مراجعة كافة الأنظمة القائمة وإصلاحها سواء بنسف كافة الأمور المتعلقة بغياب المعايير القابلة للقياس، أو عبر تطوير أنظمة تقييم الأداء ونظام التعيين والترقي.
4. تبني استراتيجية منهجية واحدة للتدريب والعمل على الإشراف عليها من قبل مدربين متخصصين بالشأن الأمني.
5. بلورة آلية موحدة للاتصال المعلوماتي بين مؤسسات الأمن، ورفدها بكافة المستلزمات اللوجستية.
6. تقييم البنى التحتية وإلغاء المختل وظيفياً، وإنشاء هيئات ولجان ترفع مستوى الأداء الأمني وتُراعي متطلباته.
7. إيجاد أنظمة إدارة مالية، والسعي الدائم لتلافي آثار وتداعيات محدودية الموارد وذلك عبر خطة عمل تحدد الأولويات العامة، وتعزز أساليب التخطيط والتنسيق، وتعيد توزيع وتنظيم الموارد المادية المتاحة، وتوحد قنوات الدعم.
8. بناء القدرات المالية في قطاع الأمن بشكل ينسجم مع النظام المالي المعمول به في وزارة الداخلية.
ثالثاً: تعزيز التكامل بين قطاعَي الأمن والعدل، وهي من إحدى أهم عوامل نجاح العمل الأمني والتي تحُد من سلطاته غير القانونية والإلغائية وتحُد من توغل وتسلط هذه الأجهزة في السياسات المجتمعية، شريطة أن تخضع أيضاً المؤسسات العدلية والقضائية لسلسة إجراءات إصلاحية وتطويرية تخرجها من أسرها من فلك النظام وشبكاته، وأهم الإجراءات في هذا الصدد هي:
1. مأسسة العلاقة بين قطاعي الأمن والعدل وتوضيح الصلاحيات والأدوار بينهما.
2. عقد بروتوكول ينظم العلاقة بين كل من النيابة العامة العسكرية والمدنية.
3. إشراف الأجهزة القضائية على كافة مراكز الاعتقال والتأهيل.
4. إصدار دليل إجراءات خاص بتنظيم التنسيق مع النيابة العامة المدنية فيما يتعلق بتمثيلها للمؤسسة الأمنية أمام القضاء.
5. إجراء مراجعة لكافة مذكرات التفاهم الموجودة بين كل من وزارة العدل ووزارة الداخلية فيما يتعلق بعمل الشرطة القضائية.
6. إصدار قانون خاص بالقضاء العسكري صادر عن السلطة التشريعية، وإيجاد إطار قانوني ناظم لعمل المختبرات الجنائية، وتعديل قوانين الشرطة وقوى الأمن الداخلي ولائحته التنفيذية.
رابعاً: مواجهة كافة الأخطار والمهددات المرشحة في المشهد السوري، الأمر الذي يتطلب سلسلة من الإجراءات والسياسات، لعل أهمها:
1. تشكيل لجان تختص في التحقيق والمساءلة فيما يتعلق بقضايا انتهاك حقوق الإنسان وتحديد المسؤولين وعرضهم على المحكمة.
2. إصلاح أسلوب وآليات عمل القيادة في القوات الوطنية المسلحة، وإيجاد آليات دمج سلِسَة لعناصر الجيش السوري الحر فيها، وذلك عن طريق تمكينها بعد تأهيلها محلياً لتقوم بمهام الشرطة وضبط الأمن المحلي وتتبع إدارياً للأجهزة المركزية المختصة من خلال إعادة تشكيل القوات الوطنية المسلحة الأمر الذي يتطلب رفدها بقطاعات عسكرية.
3. اتباع إجراءات بناء الثقة بين القيادات السياسية للجماعات المعارضة وبين الجيش السوري الحر من خلال التواصل المستمر، والدفع باتجاه مبادرة تهدف إلى تطوير القيادة والإدارة بين الجماعات المسلَّحة المعارِضة، وضمان التزام هذه المجموعات بمبادئ حقوق الإنسان.
4. إنشاء لجنة رقابية للتحضير لعملية إصلاح القطاع الأمني وإدارتها خلال المرحلة الانتقالية. ويمكن أن تتشكل هذه اللجنة من مدنيين معارضين وأعضاء في الجيش السوري الحر ومنشقين أمنيين، وأن يتم توسيعها بأعضاء موثوقين في الشرطة والقوات المسلحة. وممارسة عمليات التدقيق وفق المعايير الدولية في سلوك كوادر المجموعات المسلحة المعارضة، وتحديد مرتكبي أي انتهاكات ومحاسبتهم.
5. ضبط الأسلحة وتأمينها، وذلك عبر حماية مخازن الأسلحة التقليدية وجمع كافة الأسلحة الثقيلة والمتوسطة حماية مخازن الأسلحة الموجودة في المباني التي يتحكم بها حزب البعث والأحزاب السياسية الحليفة له، بالإضافة إلى المنظمات الشعبية.
إجراءات التشكيل الجديد
يبين الرسم التوضيحي المحاور والمراحل والإجراءات المطلوبة لإعادة الهيكلة، والتي تستند على مبادئ التغيير والانتقال السلس والمتماسك خشية تداعيات التغيير المفاجئ على تماسك البلاد، وتضمن عودة هذه الأجهزة إلى الإطار الوطني وتكاملها مع مؤسسات الدولة. تأتي هذه الإجراءات انعكاساً لسلسلة تفاهمات سياسية تدلل على الإرادة الحقيقية للتغيير والانتقال السياسي، وتخلو من أية حسابات تنافسية أو استحواذية سلطوية.
المرحلة الأولى: استصدار مجموعة من التشريعات والمراسيم المتعلقة بإعادة الهيكلة وتشمل ما يلي:
1. الإبقاء على مركزية مكتب الأمن الوطني واعتباره رأس هرم الأجهزة الأمنية وقائدها. ويصدر عن هذا المكتب (الذي قد يتغير اسمه) السياسة الأمنية العامة وهو مسؤول عن الإشراف على تنفيذها، والقيام بكافة الإجراءات القانونية التي تعزز الأمن والسلم المجتمعي.
2. تفكيك كافة وظائف الشبكات الأمنية والعسكرية وإعادة توجيه بوصلتها ضمن خطط المؤسسة العسكرية وتوجهاتها، إضافة إلى إنهاء وتفكيك وظائف وبنى المؤسسات والأجساد الأمنية الرديفة.
3. دمج إدارة المخابرات الجوية إلى إدارة المخابرات العسكرية واعتبارهما من منظومة الاستخبارات العسكرية على اعتبار القوى الجوية جزء من منظومة الجيش والقوات المسلحة، على أن يتبع هذا الجهاز إلى رئاسة أركان الجيش بشكل مباشر. وتكون مهمة هذا الجهاز جمع وتحليل المعلومات العسكرية والعملياتية الخاصة بالجيش وحماية الجيش من أي عمليات تجسس أو خروقات أجنبية كما يُحذر من تدخله بالشؤون المدنية. وفي حال ورود أي معلومات تحمل طابعاً استخباراتياً وأمنياً تتعلق بالشؤون المدنية يتم إحالتها إلى جهاز الاستخبارات الداخلي أو إلى الشرطة أو القضاء حسب الحالة. ويتبع رئيس هذا الجهاز إلى رئيس الأركان، وينبثق عنه قسم أو فرع يتولى أمور المطارات العسكرية والمدنية ويتبع رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية.
4. دمج شعبة الأمن السياسي وإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة) وربطهم إدارياً وتنفيذياً بمكتب الأمن الوطني / القومي ضمن مسمى جديد (جهاز الأمن الوطني العام). يُعين رئيس هذا الجهاز بموجب قرار رئيس الوزراء، ويعمل كجهاز معلوماتي يقوم بجمع وتحليل المعلومات الأمنية الداخلية والخارجية، كما يُناط به حماية الأمن الداخلي والخارجي للدولة. وينبثق عنه جهازَي مخابرات مستقلَين: المخابرات المضادة والمخابرات الخارجية. وسيتم التفصيل فيهما في المبحث التالي.
5. إلغاء المحاكم الاستثنائية وحصر العمل القضائي بالقضاء المدني في البت بالجرائم الأمنية، وإعادة النظر في القضاء العسكري وآليات عمله وحدود سلطاته.
6. إلغاء العمل بقوانين الطوارئ والقوانين المشابهة والقوانين غير المنشورة فيما يتعلق بالتوقيف والمحاكمات.
7. تحديث التشريعات القانونية التي تحدد الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي والخارجي والتي تقع ضمن صلاحيات الأجهزة الأمنية.
8. إخضاع عمل الجهاز الأمني للرقابة البرلمانية من حيث الصلاحيات وآليات ونطاق العمل.
المرحلة الثانية: البدء المنظم في عملية إصلاح البنية الداخلية، وتشمل البدء بما يلي:
1. إحالة كافة العناصر المتورطة في ارتكاب جرائم الحرب والتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان إلى القضاء والبدء ببرامج التأهيل السلوكي والوظيفي.
2. إعادة التوازن للتركيبة الوظيفية والعضوية في أجهزة الأمن السورية والبدء بتصدير قوانين عمل وتوظيف عامة وفق شروط صحية ونفسية وثقافية فقط دون الأخذ بمعايير الطائفية، وإنهاء العمل بقوانين الندب.
3. دمج العناصر التي لم تتورط في جرائم الحرب أو انتهاكات حقوق الإنسان في الأجهزة الجديدة بعد التثبت من قدرتها على الاندماج والعمل وأهليتها للمشاركة في عملية التحول السياسي.
4. تطوير البنية الإدارية والفنية للأجهزة الأمنية مع الأخذ بعين الاعتبار التعديلات الهيكلية التي سيتم اجراءها بحيث تتمكن هذه الأجهزة من الانطلاق بشكل سريع لأداء مهامها المطلوبة منها.
5. الحفاظ على وثائق ومحفوظات الأجهزة الأمنية وإتاحة الاطلاع على أرشيف المعلومات لديها بما لا يؤثر على سلامة الدولة وبنية المجتمع، والمقصود بالمعلومات هنا معلومات هيئات الدولة والهيئات الخاصة. ولقد ثبت بالدليل القاطع أن نقص المعلومات المتاحة للجمهور يؤدي إلى تفشي الفساد، وإلى إساءة استخدام السلطة السياسية لصلاحياتها.
6. التخلص من العناصر الفاسدة في الأجهزة الأمنية حتى ولو لم يثبُت تورطها قضائياً في العنف أو انتهاكات حقوق الإنسان.
7. السعي لاستعادة الثقة بين أجهزة الأمن والمواطنين بحيث يمكن إنشاء علاقة تشاركية بينهما وتغيير الصورة النمطية التي يحملها المواطن السوري عن أجهزة الأمن بأنها وسيلة قمع وتسلط في يد النظام الحاكم.
8. العمل على دمج العناصر الثورية في المؤسسات الأمنية والعسكرية وخاصة العناصر ذات التأثير والسمعة الحسنة في وسطها الاجتماعي وهذا يؤثر بشكل مباشر على مقدار نجاح عملية التحول الديمقراطي.
9. الاستفادة من أبنية الأجهزة الأمنية وكل ما تحتويه من معلومات وأرشيف كامل والحفاظ عليه للمساعدة في العمل الأمني أو كشف الوثائق التي تدين النظام وأزلامه أمام المحاكم الدولية.
10. الاستفادة من الامكانيات المادية التي لم تتأثر بالأعمال الحربية مثل الأجهزة الفنية وأجهزة الاتصال والأجهزة الاستخبارية والعمل على تطويرها واستخدامها في اتجاهها الصحيح.
11. الاستفادة ممن عمل في الثورة في مجال العمل الأمني أو جمع المعلومات وتوظيفهم في بناء الجهاز الأمني الجديد على أسس احترافية وتطوير قدراتهم الأمنية بإخضاعهم لدورات خاصة حسب الاختصاص.
المرحلة الثالثة: بناء باقي مكونات القطاع، والتأسيس لحالات تكامل ما بين القطاعين الأمني والمدني:
1. تخصيص جلسات برلمانية لمناقشة الخطة والموازنة الأمنية.
2. تشكيل لجنة برلمانية تعنى بالمتابعة والإشراف على الأجهزة الأمنية.
3. تحصين جهاز الأمن العام عبر تدعيمه باستراتيجية إعلامية تعلي من معيار وقيمة الأمن.
4. عقد حوارات مدنية – أمنية منتظمة لمناقشة سبل وتعزيز الأمن المجتمعي.
5. الدفع باتجاه تأسيس مراكز أبحاث أمنية تخصصية، تقدم مخرجات بحثية تعزز التكامل بين مكونات القطاع الأمني.
6. تقنين عمليات التدخل السريع، عبر التعريف الواضح لمفهوم المهددات الأمنية الوطنية وقواعد السلم الأهلي.
7. فتح أكاديميات أمنية لتخريج الكوادر البشرية ضباطاً وصف ضباط وأفراد.
التصور العام لمقترح "جهاز الأمن الوطني العام"
مما سبق ذكره بعد إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية سينتج لدينا جهازي أمن، الأول: جهاز استخبارات عسكرية، يتبع كلياً لوزارة الدفاع ويختص بأمن الجيش الوطني على مختلف تسمياته وتشكيلاته وليس له علاقة بالمدنيين، والثاني جهاز الأمن الوطني العام، يتبع لرئاسة مجلس الوزراء ويهتم بتحقق الأمن والاستقرار الداخلي، وصيانة الهوية الوطنية والحفاظ على السلم الأهلي.
تقوم حدود التعاون بين ما بين هذين الجهازين على مبدأ "تبادل المعلومات" كل حسب اختصاصه، والتظافر لحماية الدولة من الداخل والخارج وصون سيادتها.
جهاز الأمن الوطني العام
يهتم هذا الجهاز بالعمل على حماية أمن البلد من الداخل وحماية مؤسسات الدولة ومنع الاختراق وتسريب المعلومات وكشف التجسس والمساهمة في التنسيق مع مؤسسات الدولة من تربية وإعلام واقتصاد في خدمة المشروع الوطني وصيانة وحدة المجتمع والوطن. ويتضمن هيئتان، الأولى هيئة المخابرات المحلية، والأخرى هيئة المخابرات الخارجية، كما هو موضح بالشكل أدناه:
أولا: هيئة المخابرات المحلية
تشمل هيئة المخابرات المحلية أنشطة مخابراتية وأخرى عمليّاتية، ويرتكز النشاط المخابراتي على الإجراءات التالية:
• الإجراءات الإدارية: متابعة تنفيذ الأوامر والإجراءات المتعلقة بتتبع الخطط الأمنية وحماية الأسرار ومنع الاختراق وتسريب المعلومات.
• الإجراءات القانونية: وهي كافة الإجراءات التي تضمن حماية القانون بالإضافة إلى تقديم مقترحات ومشاريع قوانين تساعد على تسهيل وتطوير العمل الأمني.
• الإجراءات العسكرية: إذا اكتشفت المخابرات المضادة أعمالاً تخريبية في منطقة معينة أو عمليات تهدد أمن البلد، فإن المخابرات المضادة تستعمل قوات عسكرية لمواجهة هذه الأنشطة مثل محاصرة مكان ما أو مداهمته (وحدة مهام خاصة).
أما النشاط العملياتي فيهتم بأمور جمع المعلومات وإدارة المصادر. وتعد من أهم أهدافه حماية أمن وأسرار الدولة وتفاعلاتها السياسية والاقتصادية والأمنية، وتوفير أمن الحدود للدولة ومراقبة حركة الدخول والخروج، وحماية الحركة السياسية الوطنية سواء السلطة أو باقي الفعاليات السياسية المحلية، وكشف النشاط التخريبي والتصدي له، بالإضافة إلى توفير الأمن للمواقع الهامة والأهداف الحيوية (العسكرية، المدنية، الوزارات، محطات كهربائية، مصانع، وغيرها).
يُقسم النشاط العملياتي إلى ما يلي:
1. إدارة نشاط العملاء والمصادر: مهمتها عمليات التجنيد والتوجيه وتدريب العملاء والمصادر ومتابعة نشاطاتهم.
2. القسم الفني: ويعنى بإدارة المصادر الفنية والإلكترونية لجمع المعلومات بالإضافة إلى الدعم الفني لعمليات المخابرات المضادة وعمليات الأرشفة الإلكترونية.
3. قسم التحليل المعلوماتي: يعنى بعمليات تحليل وتقييم المعلومات بالإضافة إلى عمليات التوجيه واستثمار المعلومات.
4. قسم العمليات الميدانية: مثل المراقبة والحماية والاتصال، وتنفيذ عمليات خاصة في الاقتحامات والاعتقالات بناء على مذكرات قضائية.
5. قسم مكافحة الإرهاب: يختص بجمع المعلومات عن الأنشطة والحركات الإرهابية والتخريبية والتصدي لها.
6. قسم مكافحة الجاسوسية: يعمل على منع عمليات تسريب المعلومات والاختراق لمؤسسات الدولة للحفاظ على الأمن الوطني.
7. قسم الشؤون الإدارية والإمداد: يتبع له مكاتب التنفيذ والمتابعة وتقييم الأداء وبرامج التطوير والتأهيل.
ثانياً: هيئة المخابرات الخارجية
تكون مهمة هذه الهيئة حماية وصيانة مصالح البلد في الخارج وإدارة المحطات الاستخباراتية الخارجية، وتتألف من الأقسام التالية:
1. قسم المعلومات: مهمته جمع وتحليل المعلومات التي تطلبها القيادة السياسية بالإضافة إلى توجيه العناصر ووضع الخطط والمهام وفق متطلبات ورؤى الاستراتيجية الأمنية العامة.
2. قسم المحطات الخارجية: مهمته توجيه المحطات بالخطط والأوامر ومتابعة التنفيذ ومراقبته.
3. قسم العمليات الخارجية: مراقبة المجموعات والحركات الإرهابية أو التخريبية العابرة للحدود التي قد يمتد عملها إلى الداخل، أو تضر بمصالح القطر في الخارج.
4. قسم الاستخبارات العملياتية: مهمته جمع واستثمار المعلومات وتوجيهها وتدريب ضباط الاستخبارات.
5. القسم الفني: مهمته الدعم اللوجستي الفني للعمليات الخارجية وحماية المحطات ومؤسسات الدولة في الخارج من الاختراق وعمليات التنصت أو التهديد الالكتروني.
6. قسم الإمداد والدعم اللوجستي.
خاتمة
يُشكل التوافق السياسي على أهمية الإصلاح الأمني وظيفياً وبنيوياً مستنداً رئيسياً لإنجاح العملية الانتقالية والوصول إلى دولة المؤسسات والقانون. لذا يُعد التباحث الوطني في سبل وآليات وأشكال الانتقال بعيداً عن تجاذبات السياسية وأكثر التصاقاً بالمهددات الأمنية المتعلقة بالوطن والمواطن، خطوة وطنية بالغة الضرورة، بحيث تعمل على مراعاة الشروط المحلياتية خاصة فيما يتعلق باحتمالات الانهيار التام للدولة، واستراتيجية الخروج من الفشل الدولتي، بالإضافة إلى استيعابها لمتطلبات الأمن الإقليمي، عبر إعلاء أهداف وأولويات ترسيخ الاستقرار المحلي والإقليمي، وتعزيز سبل التعاون والتنسيق سواء مع المكون المدني أو الأجهزة المعنية في دول الجوار.
وللانتقال من حالة "الانتفاخ السرطاني" للأجهزة الحالية والوصول إلى قطاع أمني وطني متماسك عبر عملية تغيير سلسة، فإنه يتطلب اتخاذ جملة من الإجراءات المدنية والعسكرية والأمنية، التي تنطلق من ضرورات الارتباط العضوي بحركية الإصلاح العام واتجاهاته الوطنية وعلى كافة المستويات، الأمر الذي من شأنه المساهمة في التوصل لحل سياسي حقيقي. وبهذا المعنى فإن المباحثات والمفاوضات الجارية في جنيف التي لاتزال تناقش القضايا غير الرئيسة بحكم قواعد التوافق الأولي بين الفاعلين الروسي والأمريكي، لا تنذر بالتأسيس لمرحلة انتقالية تضمن تغييراً حقيقياً على المستوى السياسي والدستوري والاجتماعي، وهو ما من شأنه أن يبقي عجلة الإصلاح متعثرة، فالعمل الجدي من قبل المجتمع الدولي على مناقشة القضايا المركزية وعدم تنحيتها ودفعها إلى الأمام سيُساهم في تهيئة العناصر الأساسية للاستقرار المجتمعي والوطني.
ومما لا شك فيه أن أسئلة التغيير الأمني (منهجاً ووظيفة وبُنية) من أهم الأسئلة التي تنتظر إجابات موضوعية تُراعي الظروف الناشئة وجملة المتغيرات المتسارعة التي عصفت بالجغرافية السورية، كما أن العملية بحد ذاتها هي عملية معقدة لن تصلح معها – وفق الواقع السوري الخاص – نظريات الإصلاح الجاهزة أو الأطروحات المغيِبة لطبيعة وأهمية الأمن الوطني من جهة، أو المتجاوزة لضرورات التماسك وعدم الانهيار من جهة ثانية، وتتطلب تلك جهداً وطنياً احترافياً متسقاً مع متطلبات البنية الأمنية المحلية والإقليمية والدولية، والساعية لبناء قطاع أمني متماسك.