في تاريخ 16 تشرين الأول/أكتوبر الفائت أعلنت قوات "سورية الديمقراطية" تحريرها مدينة الرقة بالكامل من تنظيم الدولة، بعد ما يقارب 120 يوماً على القتال، الإعلان الذي أثار عدة هواجس وتساؤلات بما احتواه من رفع لصورة عبد الله أوجلان في ساحة الرقة الرئيسية، وما تلاها من زيارة لوزير الدولة السعودية لشؤون الخليج العربي، ثامر السبهان، والحديث عن إمكانية إطلاق عملية إعادة إعمار للمدينة. الأمر الذي أثار حفيظة العديد من الأطراف وعلى رأسها تركيا ذات الحساسية من حزب العمال الكردستاني والذي يشكل العمود الفقري لـ "قسد"، وأيضاً بالنسبة للنظام السوري وحلفائه اللذين أطلقوا تصريحاتٍ تشدد على عزمهم استعادة السيطرة على الرقة، مما يجعل مصير المدينة من حيث إعادة إعمارها وعودة أهلها النازحين نتيجة المعارك معلقاً بطبيعة الجهة التي ستؤول إليها إدارة المدينة في النهاية. الأمر الذي يرتبط بالتوافقات الأمريكية الروسية الراعيتان للطرفين المتصارعين على المدينة، وقدرتهما على إنتاج صيغة حكم مرضية بالنسبة لحليفهما المشترك تركيا. ويزيد من تعقيد المشهد في المدينة ارتباط مآلاتها بمستقبل مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي "PYD" في سورية بعد انحساره إلى الشمال الشرقي فقط وإحباط تركيا وروسيا احتمالات تمدده إلى الشمال الغربي وربط الكانتونات الكردية الثلاثة. وعليه تسعى هذه الورقة التحليلية إلى تفكيك المشهد السياسي والعسكري في الرقة بعد تنظيم الدولة، من خلال فهم مصالح الأطراف المتدافعة للاستئثار والسيطرة على المدينة، من فاعليين محليين وداعميهم الدوليين والإقليمين، إضافة لاستشراف مآلات إدارتها واحتمالات إطلاق عملية إعادة إعمار فيها.
يبدو أن طرفي الصراع في الرقة(داعش، قسد) كانا الأقل خسارةً بموجب الاتفاق الذي عقداه في نهاية المطاف، والذي قضى بخروج 4000 من مقاتلي تنظيم الدولة المحليين من المدينة إلى باقي مناطق سيطرة التنظيم، وهو ما كشفه تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية([1])"BBC"، حيث بلغت تكلفة تحرير الرقة من تنظيم الدولة مقتل 1172 مدنياً على الأقل بغارات التحالف، بمن فيهم 276 طفلاً و203 نساء، ولقي 161 آخرون (بينهم 37 طفلاً و10 نساء) مصرعهم جراء انفجار ألغام أثناء محاولتهم الفرار من المدينة، علاوة على مئات المصابين بجروح متفاوتة الخطورة، في حين بلغ عدد مسلحي "داعش" الذين تمت تصفيتهم جراء عملية تحرير المدينة (1371 مقاتلاً) وهو رقم يكاد لا يزيد عن حصيلة القتلى بين المدنيين، بينما خسرت قوات "سوريا الديمقراطية" 655 من مقاتليها، حسب معطيات رسمية([2])، في حين بلغت نسبة التدمير في المدينة 80% بحسب تقديرات الأمم المتحدة وشهادات أبناء المدينة([3]).
وعلى الرغم من حجم الدمار الهائل في الرقة؛ إلا أن قوات حزب "الاتحاد الديمقراطي" العمود الفقري لـ"قسد" أقامت احتفالاً بالنصر على أنقاض دوار النعيم وسط الرقة، غطت فيه أعلامها الحزبية وصورة ضخمة لعبدالله أوجلان الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني على أعلام "سورية الديمقراطية" والفصائل العربية المنضوية تحت لوائها([4])، في إشارة واضحة بأن الرقة ستكون جزءاً من مشروع الفيدرالية التي يسعى حزب "الاتحاد الديمقراطي" لتحقيقها في سورية، بشكل يتوافق مع تصريحات قيادة "سوريا الديمقراطية" إبان انطلاق معركة تحرير المدينة، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الأتراك، مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية لإدانة رفع صورة أوجلان في الرقة معتبرةً إياه "شخصية غير جديرة بالاحترام" وشددت على أن الرقة هي مكسب لجميع السوريين([5])، الإدانة التي بدت وكأنها رسالة بأن تحالف الولايات المتحدة مع قوة يشكل عمادها حزب تصنفه هي إرهابياً (العمال الكردستاني) بات يثقل كاهلها، ويؤثر بشكل أعمق على علاقاتها مع تركيا الشريك الناتوي، الأمر الذي يعزز احتمالات تكرار سيناريو كركوك في الرقة وغيرها من المناطق العربية الواقعة تحت سيطرة قوات "سوريا الديمقراطية"، وخصوصاً بعد سقوط البوكمال آخر معاقل التنظيم في سورية.
ما إن انتهت العمليات العسكرية في مدينة الرقة حتى بدء الحديث عن إمكانيةٍ لإطلاق عملية إعادة إعمارها، وهي العملية التي عُقد مؤتمر روما لبحثها في سبتمبر/ أيلول أي قبل شهر من تحرير المدينة، حيث أعلنت العديد من الدول الأوروبية استعدادها للتبرع بمبالغ مالية للمشاركة في إعادة إعمار المدينة، وكان على رأسها بريطانيا التي أعلنت عن نيتها التبرع بمبلغ 13 مليون دولار، وألمانيا 10 مليون يورو، فرنسا 15 مليون يورو، هولندا 1.5 مليون لإزالة الألغام و2 مليون من الاتحاد الأوروبي لذات السبب([6])، ثم جاءت زيارة الوزير السعودي ثامر السبهان برفقة ممثل الرئيس الأمريكي في التحالف الدولي ضد "داعش"، بريت مكغورك، إلى المدينة لتزيد من احتمالات دعم السعودية المادي لإطلاق عملية إعادة الإعمار، وهي العملية التي يبدو أنها أبعد ما تكون عن الواقع من قبل الدول المشاركة في التحالف الدولي المسؤول عن جزء كبير من دمار المدينة، وأقرب ما تكون لفرصة مناسبة لإرسال رسائل سياسية والضغط على تركيا وموسكو من جهة ثانية، وهناك عدة عوامل ترجح صوابية هذه القراءة لما يشاع حول إعادة إعمار الرقة، وأبرز تلك العوامل:
ووفقاً للعوامل السابقة فإن إطلاق عملية إعادة إعمار للرقة في الوقت الحالي يبدو شبه مستحيلٍ، ومع إدراك الدول المعلنة لذلك يتبدى سؤالٌ؛ إذاً لماذا هذا الإعلان أساساً؟ وماهي دوافع الدول المعلنة من التلويح بهذه الورقة ضمن هذا الظرف بالذات، فبالإضافة لمسؤوليتها عن الدمار الحاصل في الرقة، تتجلى مجموعة دوافع للدول العازمة على الاشتراك في عملية إعادة الإعمار من إعلانها هذا، ولعل أبرز تلك الدوافع المشتركة بين الدول المعلنة:
بعد نجاح تركيا في قطع الطريق على مشروع حزب "الاتحاد الديمقراطي" في وصل الكانتونات الكردية في الشمال السوري، يبدو أن الحزب تحول باتجاه توسيع سيطرته شرق الفرات كخيار بديل لفيدراليته المنشودة، والتي تشكل مدينة الرقة جائزتها الكبرى، فهي المدينة الأكبر بين المدن الواقعة تحت سيطرته، وفي إطار هذا السعي للتمدد وقضم المزيد من الأراضي العربية الغنية بالموارد في شرق سورية، لم يعد من الممكن للـ PYD"" الاستمرار في حالة التخادم مع النظام وإيران، لذا يبدو أن الحزب اختار الجانب الأمريكي كحليف وحيد، ودخل في مواجهة مباشرة مع النظام وحلفاؤه من المليشيات الإيرانية والقوات الروسية على ضفاف الفرات في دير الزور، والتي أصبح يسابق النظام فيها للسيطرة على الموارد النفطية.
بالمقابل تغيرت لهجة النظام وحليفه الإيراني المهادنة للأكراد على خلفية هذا التصعيد في دير الزور والرقة، بين تصريحات وليد المعلم حول إمكانية التفاوض مع الأكراد حول حكم ذاتي([11])، وبين تصريحات بشار الأسد الرافضة للتخلي عن السلطة المركزية ولو بشكل مؤقت([12])، كما سبق تصريحات الأسد بأيام زيارة الأمين القطري المساعد لحزب البعث، هلال هلال، لريف الرقة الجنوبي الواقع تحت سيطرة النظام؛ أطلق فيها تصريحات عن عزم النظام استعادة كامل الرقة([13]). فيما جاءت تصريحات الحليفين الإيراني والروسي أكثر شدة، حيث أعلن مستشار المرشد الإيراني، علي أكبر ولايتي، من بيروت عزم قوات النظام على التقدم إلى الرقة قريباً، كما صرحت القناة المركزية لقاعدة حميميم الروسية بأن الحل العسكري هو الخيار الوحيد للتعامل مع المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد([14]).
ويبدو أن سلوك حزب "الاتحاد الديمقراطي" ساهم في جعله إحدى نقاط التقارب الروسي التركي الإيراني في سورية، هذا بالإضافة إلى عدائه للقوى الثورية السورية وانعدام حاضنته الشعبية خارج المناطق الكردية ومنها الرقة، باعتباره يحمل مشروعاً خاصاً تجلت إحدى ملامحه برفع صورة عبد الله أوجلان في دوار النعيم بالرقة، في إشارة واضحة لهيمنة مليشيا الحزب على باقي المكونات الديكورية لقوات "سوريا الديمقراطية". الأمر الذي يجعل استمرار سيطرة حزب "الاتحاد الديمقراطي" على المناطق العربية التي حازها بدعم التحالف الدولي أمراً صعباً، ومسألة استعادة النظام وحلفائه لها قد تكون مسألة وقتٍ ورهنٌ بأمرين، هما: ترتيب أولويات النظام وحلفاؤه العسكرية، مقابل صفقة أمريكية روسية تركية يكون الحزب ضحيتها.
عند الحديث عن أي استشراف لمآلات الوضع في الرقة، لابد وأن يؤخذ بعين الاعتبار المؤشر العراقي وما حدث في كركوك وباقي المناطق العراقية المتنازع عليها بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، وذلك لما له من أهمية كبرى في فهم آلية تفكير الولايات المتحدة الأمريكية وباقي شركائها في التحالف الدولي في تعاطيهم مع مطالب الكرد في المنطقة. ففي الحالة العراقية هناك فيدرالية كردية ناجزة تمتلك كل مقومات الانفصال وضعت كامل طاقاتها في خدمة الولايات المتحدة في "حرب الإرهاب"، وبالرغم من ذلك لم تمنحها الولايات المتحدة أي مكاسب فيما يخص مشروعها للاستفتاء على الانفصال أو على الأقل تمددها نحو المناطق غير الكردية وضمها للإقليم، وبدلاً من ذلك تركتهم بعد انتهاء حرب التنظيم لقمةً سائغةً للحشد الشعبي المدعوم من إيران، فإذا كان هذا الحال مع حكومة الإقليم الرسمية!، فكيف ستتعاطى الولايات المتحدة مع مليشيا تتبع حزباً تصنفه هي بنفسها إرهابي كوحدات "الحماية الكردية" في سورية؟، خصوصاً في ظل ضعف تأييدها في الشارع الكردي المنقسم بينها وبين المجلس الوطني الكردي، ناهيك عن انعدام أي حاضنة لها في المناطق غير الكردية الواقعة تحت سيطرتها، واعتبارها طرفاً معادياً من قبل الأطراف الإقليمية والمحلية المنخرطة في الصراع السوري، وعلى رأسها موسكو.
إذاً وقياساً على النموذج العراقي فمن المستبعد بعد انتهاء عمليات التحالف ضد "تنظيم الدولة" في سورية أن يكون هناك غطاء أمريكي أو أوروبي لتحقيق مشروع الـ PYD المنشود، أما فيما يخص الوضع الداخلي السوري فهناك أيضاً العديد من العوامل التي تحول دون استمرار سيطرة قوات "سوريا الديمقراطية" على مدينة الرقة، ولعل أبرزها:
لا تقتصر أهمية تحرير الرقة على أنه شكّلَ بداية النهاية الفعلية لتنظيم الدولة بسقوط "عاصمته"، وإنما تمتد أهميته لتشمل تحديد مصير طموحات حزب "الاتحاد الديمقراطي" (PYD) في سورية، فعلى الرغم من تعدد الأطراف ذات المصالح في المدينة وضبابية المستقبل حول الجهة التي ستؤول إليها إدارتها؛ إلا أن المعطيات التي تمت مناقشتها سالفاً تشير بوضوح إلى أن صورة عبد الله أوجلان لن تبقى طويلاً في ساحة المدينة.
([1]) تركيا “مصدومة” لموقف أمريكا من اتفاق على انسحاب الدولة الإسلامية من الرقة، المرصد السوري لحقوق الإنسان، 15/11/2017، متوافر على الرابط: https://goo.gl/twQ1we
([2]) الرقة.. ركام وأنقاض وخسائر هائلة بين المدنيين جراء غارات التحالف، موقع روسيا اليوم الإلكتروني، 23/10/2017، متوافر على الرابط: https://goo.gl/zW3QNM
([3]) حجم الدمار في الرقة يترك وقع الصاعقة على نازحين تفقدوها، موقع صحيفة الحياة، 22/10/2017، متوافر على الرابط: https://goo.gl/yV2pGC
([4]) واشنطن تدين رفع صورة أوجلان في الرقة، موقع صحيفة عنب بلدي، 21/10/2017، متوافر على الرابط: https://goo.gl/cSjaGa
([5]) الرقة: أزمة رفع صورة أوجلان تتفاعل بين أنقرة وواشنطن، موقع جريدة المدن، 21/10/2017، متوافر على الرابط: https://goo.gl/9CGAC8
([6]) زحمة “تبرعات” لإعمار الرقة. الاستقرار بدأ أم بيع أوهام؟، موقع جريدة عنب بلدي، 29/10/2017، متوافر على الرابط: https://goo.gl/2WZmqk
([7]) السعودية تشترط استبعاد إيران للمشاركة بإعادة إعمار سوريا، موقع صحيفة العرب، 13/10/2017، متوافر على الرابط: https://goo.gl/xyyTBi
([8]) زحمة “تبرعات” لإعمار الرقة. الاستقرار بدأ أم بيع أوهام؟، مرجع سبق ذكره.
([9]) ما بعد دمار الرقة: هل من سبيل للعودة؟، موقع القدس العربي، 21/10/2017، متوافر على الرابط: https://goo.gl/3RCuwn
([10]) نائب رئيس الشيشان يصل القامشلي، صحيفة عنب بلدي، 19/10/2017، متوافر على الرابط التالي: https://goo.gl/ecJGxs
([11]) النظام السوري مستعد لمفاوضة الأكراد على الحكم الذاتي، موقع الجزيرة نت، 27/9/2017، متوافر على الرابط: https://goo.gl/S8zBoQ
([12]) زوار دمشق نقلا عن بشار الأسد: لا تفاوض مع الأكراد على إدارة مناطق بصورة مستقلة، ولن تكون هناك كردستان أخرى في سوريا، المرصد السوري لحقوق الإنسان، 4/11/2017، متوافر على الرابط: https://goo.gl/dQ7jaq
([13]) هلال هلال: الرقة ستعود لسيطرتنا، موقع جريدة عنب بلدي، 21/10/2017، متوافر على الرابط: https://goo.gl/NDzekR
([14]) تصادم النظام و"قسد" يقترب... والرقة ساحة المواجهة، موقع صحيفة العربي الجديد، 6/11/2017، متوافر على الرابط: https://goo.gl/7f4Jr3
([16]) واشنطن تعلن مراجعة دعمها لجماعات مسلحة في سوريا، موقع الجزيرة نت، 28/11/2017. متوافر على الرابط التالي: https://goo.gl/4HHvkv
([17])أهالي الرقة ممنوعون من العودة: دواعٍ أمنية أم مخططات سياسية؟، موقع صحيفة العربي الجديد، 28/10/2017، متوافر على الرابط: https://goo.gl/bAMEXY