مركز عمران للدراسات الاستراتيجية - Displaying items by tag: مسار الأستانة

انتهت الجولة الخامسة من اجتماعات اللجنة الدستورية السورية في 29 كانون الثاني/ يناير الماضي دون أي تقدّم، على غرار الجولات الأربع السابقة التي بدأت قبل أكثر من عام.

وعلى غرار كل المسارات السياسية ذات الصلة بالقضية السورية التي طرحتها جهات إقليمية ودولية وأممية، سواء في القاهرة أو فيينا أو جنيف أو أستانة أو سوتشي وغيرها، لم يكتف المسيّر لأعمال هذ الاجتماعات، المبعوث الأممي لسورية جير بيدرسن بأن يُعلن فشلها، بل بث روح التشاؤم حول صلاحية كل هذا المسار، حين أعلن في إحاطته التي تقدّم بها إلى مجلس الأمن في 9 شباط/ فبراير الجاري، أن الاجتماع كان “فرصة ضائعة” و”خيبة أمل”، وأن هناك حاجة “إلى مسار سياسي أوسع” وأنه لن يتحرك أي مسار دون “دبلوماسية دولية بناءة بشأن سورية”.

إذاً، بعد خمسة اجتماعات، وسنة وثلاثة أشهر، مازالت أعمال اللجنة الدستورية تراوح في مربعها الأول، ووفد النظام، ليس فقط وفق رأي المعارضة السورية، بل وفق المبعوث الأممي أيضاً والمراقبين الدوليين، يُعطّل ويرفض ويُماطل، ويدور في حلقات مفرغة ويُفرغ الجلسات من مضمونها، ويلعب على الوقت، ويتحايل في التفاصيل، ويُطبّق حرفياً سياسة النظام الدبلوماسية التي أعلن عنها قبل سنوات وزير الخارجية، والمبنية على إغراق المجتمع الدولي بالتفاصيل الهامشية لإبعاد أي حل سياسي لا يُناسبه.

منذ البداية، كُتب وقيل الكثير حول التشاؤم الذي أحاط تشكيل وضمانات عمل اللجنة الدستورية وجدواها، ولم يُعوّل السوريون كثيرًا عليها، لا لكونها جزءًا من مسار يمكن الولوج من خلاله إلى بقية السلال الأممية التي وضعها المبعوث الأممي السابق ستيفان دي مستورا، بل لأنها لا تُشكِّل الحل بالنسبة للقضية السورية المستعصية، بوجود نظام قادر على جعله حلاً مستحيلاً بأساليبه الملتوية الهادفة لتعطيل كل شيء.

منذ تأسيسها إلى الآن، لم تُناقش اللجنة الدستورية مادة دستورية واحدة، ولم تتفق على سطر واحد، وظلّت تطرح المبادئ ما حول الدستورية، والتعريفات والمصطلحات، والمبادئ الوطنية والقانونية التي لا خلاف عليها لدى أي شعب، ومعاني الانتماء إلى الوطن، بخطوات حرص النظام السوري على أن تسير بطيئة مُملة عبثية، ولم تتطرق إلى البنود محل الخلاف الأساسية، وظلّت “تؤصل” و”تُحضّر” و”تستعد” و”تدرس” و”تُمهّد” للدخول إلى العملية الدستورية، وفق تعابير حرفية منتقاة صرّحت بها شخصيات في وفود الأطراف الثلاثة المشاركة، النظام والمعارضة والمجتمع المدني.

في الجولة الخامسة الأخيرة، رفض النظام اقتراحات تقدّم بها وفد المعارضة حول المسائل الإجرائية، تفي في تسريع وتفعيل عمل اللجنة، كما رفض اقتراحات أخرى تقدّم بها المبعوث الأممي في نفس السياق، فغادر المجتمعون كما قدموا، خاليِّ الوفاض.

رفض وفد النظام هذا ليس عبثياً، ولا طارئاً، بل نابع من “استراتيجية” و”تكتيك” واضحين يسير وفقهما، ويخطط لهما منذ البداية، منذ أستانا وسوتشي وما قبلهما من المشاريع التي يدعمها حلفاؤه، وروسيا بشكل خاص، والتي تضمن له تمرير ما يريد، مستنداً إلى “برود” دولي أو “عدم اكتراث” أو مصالح مختلفة للأطراف ذات الصلة.

أما الاستراتيجية؛ فهي التي أعلنها رأس النظام في مقابلات إعلامية عدة، عنوانها الأساس “لا لأي شيء”، حيث أعلن رفضه لأي خطوة أو حل سياسي مستقبلي في سورية لا يكون الطرف الرابح فيه، أو لا يحافظ على نظامه، وأعلن “لاءاته الأربع، التي تمثلت بـ “لا للقرار 2254” الذي يُشكّل المرجعية لعملية التفاوض السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة والعمود الفقري للحل السياسي وفق كل الدول التي لها علاقة بالقضية السورية، والذي ينص على “دعم عملية سياسية بقيادة سورية تيسرها الأمم المتحدة، وتقيم في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر، حكمًا ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدد جدولًا زمنيًا وعملية لصياغة دستور جديد، ويدعم القرار إجراء انتخابات حرة ونزيهة تجرى، عملًا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرًا تحت إشراف الأمم المتحدة”.

و”لا لاتفاق جنيف” حين قال “مسار جنيف قد فشل، لأنه كان يهدف إلى إسقاط الحكومة عبر هيئة مؤقتة”، و”لا” للجنة الدستورية، التي قال إنه “لا علاقة لها بموضوع الانتخابات”، ولا “لكل شيء” حين قال إن وفد النظام مدعوم من قبل حكومته ولا يمثلها حين قال “الحكومة السورية ليست جزءًا من هذه المفاوضات ولا من هذا النقاش… وهؤلاء أشخاص (وفد النظام في اللجنة الدستورية) من نفس جو الحكومة السورية السياسي، ولكن هذا لا يعني أننا نحن كحكومة نفاوض”، وحين قال “الشعب السوري لا يفكر بالدستور، ولا أحد يتحدث عنه، اهتماماتهم تتعلق بالإصلاحات التي ينبغي علينا القيام بها والسياسات التي نحن بحاجة لتغييرها لضمان تلبية احتياجاتهم”.

أما التكتيك؛ فهو نابع من صلب استراتيجية النظام، ويتعلق باقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في سورية وفق الدستور الذي وضعه النظام نفسه عام 2012، والذي يحدد موعداً لها بين 16 نيسان/ أبريل و16 أيار/ مايو 2021، والتي ستجري في ظل قبضة أمنية حديدية، وحالة حرب وفوضى تعم سورية، ووضع إنساني مأساوي، ووجود ملايين من السوريين اللاجئين والنازحين، والأسد المرشح الوحيد فيها، أو شبه الوحيد في حال قدّم النظام شخصيات خلّبية لذر الرماد في العيون – والعد التنازلي هذا يقتضي تمييع كل شيء، وخاصة عمل اللجنة الدستورية، التي ستضع دستوراً يقود لانتخابات نزيهة وشفافة ومراقبة دولياً، إذا لا يمكن للنظام أن يقبل بها تحت أي ظرف لأن ذلك يعني فناءه.

يراهن النظام على بقاءة على مواد دستور 2012، التي تمنح الرئيس صلاحيات استثنائية تتوّجه حاكماً شمولياً مُطلقاً لسورية، فمنح الأسد نفسه في الدستور صلاحيات واسعة جداً، حيث يتولى تسمية رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء ونوابهم ولا يحتاج لثقة مجلس النواب في ذلك، ويضع السياسة العامة للدولة ويشرف على تنفيذها، ويُعلن الحرب ويعقد الصلح، ويُعلن حالة الطوارئ ويلغيها، ويعيّن رؤساء البعثات الدبلوماسية، ويقود الجيش والقوات المسلحة، ويُعيّن الموظفين المدنيين والعسكريين “كلهم” وينهي خدماتهم، ويحل مجلس النواب، ويتولى السلطة التشريعية بدلاً عن مجلس النواب، ويقترح تغيير الدستور، ويبرّء نفسه من أي جريمة يمكن أن يرتكبها خلال حكمه، ومتى شاء يمكن له أن يعيّن ويفصل أعضاء المحكمة الدستورية العليا التي يمكن لها أن تُحاكمه وتُحاسبه، ويجمع عملياً بيده كل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، التي من المفروض أن تكون مستقلة.

هذه هي خلاصة الدستور الذي يتمسك به الأسد ولا يريد أن يُغيّره، ويوجّه وفد النظام في اللجنة الدستورية لتعطيل أي تقدّم في عمل اللجنة كي لا يتغير، وليدخل الانتخابات المقبلة ويفوز بدورة رئاسية رابعة، ويجثم على صدور السوريين سبع عجاف أخرى، يحكمهم خلالها بالنار والحديد والقبضة الأمنية كما حكمهم هو وأبوه خلال خمسة عقود.

تحاول روسيا التمهيد للانتخابات الرئاسية المقبلة في سورية، بما يتوافق مع مصلحة الأسد، فتحاول تصوير الوضع السوري بالمستقر، وتسعى لمصالحات مؤقتة في الجنوب وغيره، ولا تعترف بفشل اللجنة الدستورية، يساندها في ذلك انشغال الرئيس الأمريكي الجديد باستلام الملفات من سلفه، وتوجّه النظام ليُفرّق بين المهاجر واللاجئ، لتضمن عدم إشراك ملايين اللاجئين والنازحين في أية انتخابات حتى لو كانت صورية وشكلية.

تقول روسيا إنها تريد من دمشق أن تسهم في العملية الدستورية، وأن تشرع في عملية إصلاح داخل البلاد، وتُسرِّب لبعض الأطراف بأنها تسعى إلى إقناع دمشق بإجراء إصلاحات مقابل لعب دور الوسيط لرفع العقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة، كلام لا انعكاس له على الأرض، والرهان على خلافات بين موسكو ودمشق، أو بوادر خلافات ستبدأ قريبًا، ربما فيه من المبالغة الشيء الكثير، لأن الروس – كغيرهم – يُدركون أن تغيير الدستور، أو نقل صلاحيات الرئيس لهيئة حكم انتقالي، أو إجراء انتخابات مراقبة دولياً، يعني بالضرورة المُطلقة زوال الأسد، وخسارة حليف لا يتكرر، هان عليه تسليم مفاتيح سورية إلى قيصر الكرملين.

من نافل القول أن السوريين الذين دفعوا مئات ألوف الضحايا من أجل تغيير النظام، لن يقبلوا العيش من جديد تحت سقف دستور شمولي أمني امبراطوري، أو في ظل قوانين ومحاكم استثنائية وسياسات تمييزية طائفية، أو في بلد يُحكم بالحديد والنار.

لكن، لابد من حلول مبتكرة، تعتمد على مسارات أخرى مدعومة دولياً كما قال بيدرسن، أو مسارات ضاغطة مُلزمة تٌفعّل عمل اللجنة الدستورية وتعيد هيكلتها وبرنامجها وجدولها الزمني، أو مسارات سياسية أخرى تعمل عليها المعارضة وتحشد لها دولياً، ودون ذلك، سيكون أمام السوريين أيام مقبلة ليست سهلة أبدًا، ولا تدعو لأي مستوى من مستويات التفاؤل.

 

المصدر: السورية نت

التصنيف مقالات الرأي

الملخص التنفيذي

  • استطاعت موسكو أن تلغي "منطق السيطرة" من حسابات المعارضة ومكّنت نظام الأسد عسكرياً في معظم مناطق ما عرف بـ"سورية المفيدة".
  • ازداد تبلور مناطق سيطرة دولية واسعة تجعل "عنصر السيادة" الذي يبحث عنه النظام ومن خلفه الروس عنصراً بعيد المنال، فالتموضع الصلب والانخراط المتزايد للفواعل الدولية والإقليمية في سورية جعل أي مكتسب سياسي بعيداً بسبب تضارب الرؤى والتوجهات ما بين هذه الفواعل.
  • لم يستطع مسار الأستانة إنجاز اتفاقات خفض التصعيد بمفرده وعبر الاستناد على الحركية الأمنية فقط، على الرغم من مساهمته في تحجيم أدوار الصراع الوطني. ولم يفلح أيضاً في تحجيم حدود تأثير ونفوذ تلك الدول التي إن توافقت أمنياً في البداية لكنها أظهرت تباينات سياسية واضحة في أهدافها. كما لم يُقلل من خيارات المعارضة المسلحة بل ازدادت نتيجة توسع نفوذ تركيا التي اتكأت على الأستانة كإطار مرجعي لانخراطها الأخير في الشمال.
  • تُشكل الجبهة الجنوبية بما تحويه من تطورات محتملة اختباراً جدياً للترتيب العسكري العام في سورية. فبالإضافة إلى تعاظم أسباب "تحجيم طهران" وإبعادها عن هذه المنطقة، يُتوقع ظهور متغير في الجنوب مرتبط بتطور نوعي شهدته تفاعلات تلك الجبهة ألا وهو العبث الإيراني الأخير في معادلات أمن الإقليم وجرها لإرهاصات حرب كبرى مع إسرائيل. وبذات الوقت تتزايد التطورات العسكرية الدافعة لتجهيز عمل عسكري مرتقب من قبل فصائل المعارضة من أجل تغيير موازين القوى وإعادة ترتيب الأوراق خاصة مع تقدم قوات الأسد في الغوطة الشرقية وتوقع تحركه بعدها نحو درعا.
  • يمكن اعتبار منطقة شرق النهر منطقة تتصلب فيها التموضعات الأمريكية وتتعزز فيها مؤشرات استمرار المناوشات الروسية. إذ عملت واشنطن مؤخراً على تعزيز قدراتها العسكرية في عشرة مواقع بالمدفعية الثقيلة والمروحيات والمقاتلات والمدرعات تمهيداً لمواجهات محتملة على عدة جبهات أهمها دير الزور ومنطقة التنف شرقي سورية. بالمقابل لا تزال موسكو تنوي الاستمرار في تمكين سلطة الأسد على كامل الأراضي السورية ويستوجب هذا منها الاستمرار في المناوشات التي تهدف تجاوز اتفاق "شرق وغرب النهر" وجر الـPYD لمفاوضات مع النظام لإعادة ترتيب التفاهم على المنطقة وفق منطق "سيادة الدولة". والثابت من خلال هذه المناوشات هو استمرار فرضية الحرب الباردة بين الروس والأمريكان.
  • يُتوقع أن تحتوي معادلات فرضية وضرورة إعادة الترتيب على المعطيات التالية: استدامة التواجد الأمريكي في سورية وبقاء امتلاكها لعنصر تعطيل الحركية الروسية؛ واستمرار اختبار ضبط النفس في الجنوب السوري؛ وضوح طبيعة التموضع التركي في معادلة علاقتها مع واشنطن وموسكو؛ توفير أطر أمنية جديدة تستوعب هذا العدد الكبير من القواعد العسكرية الأجنبية في سورية. وأمام هذا الافتراض يكون المشهد السوري قد اقترب من تجاوز "الصراع المحلي" ونقله كلياً للمستوى الإقليمي والدولي والذي وإن كان مرتباً أولياً بتفاهمات واتفاقات أمنية، إلا أنها شديدة القلق ولم تعد صالحة لضبط التحولات الجديدة.

مدخل

يشهد الميدان السياسي والعسكري في سورية منذ مطلع عام 2018 جملة من المتغيرات والتحولات الطارئة بشكل يجعله مرشحاً لجولات ومستويات صراع متزايدة. ويعود ذلك بشكل أساس إلى تنامي النفوذ الدولي والإقليمي واحتمالية تزايد انخراطها في صراعات عابرة للصراع المحلي. فبعد أن ظنّ الروس أن باستطاعتهم التسيّد المطلق وإعادة الهندسة السياسية والعسكرية بما يتفق مع استراتيجية الكرملين، وجدت موسكو نفسها أمام ملف سِمَتُه الرئيسية السيولة المتنامية. كما لا تستند عملية إدارته فقط على المشتركات الأمنية وإنما ترتبط بالتوافق السياسي وهو ما يزال غائباً كقاعدة عمل بين الفواعل. لقد أدى ذلك الأمر أن يكون ضبط المشهد عملية عابرة لمنطق المكاسب ومتوافقة مع إدراك جذر الصراع وأسبابه في سورية. وطالما تغيب عن أجندة موسكو الحلول غير الصفرية ستبقى أسيرة لنهج العرقلة الإقليمية والدولية والذي بات أغلب الفواعل يتبعونه. ومن جهة أخرى تساهم خارطة التفاعلات العسكرية الدولية في وضع المشهد العام أمام جملة من الصراعات المؤجلة والتي لم تستطع المقاربات السابقة من تذليل أسبابها، مما يعزز من احتمالية أن تساهم في بعثرة الترتيبات التي جهدت موسكو في تحقيقها في سورية عبر تدخلها([1]).

وفي ذات الوقت الذي استطاعت موسكو أن تلغي "منطق السيطرة" من حسابات المعارضة ومكّنت نظام الأسد عسكرياً في معظم مناطق ما عرف بـ"سورية المفيدة". وباتت تتبلور في الجغرافية العسكرية مناطق سيطرة دولية واسعة تجعل "عنصر السيادة" الذي يبحث عنه النظام ومن خلفه الروس عنصراً بعيد المنال كونه المدخل الرئيس لإعلان "إنهاء الأزمة" وعودة "التمكين الكامل". وبمعنى أخر لا يمكن للصراع المتعدد الأوجه في سورية أن ينتهي لصالح الروس ونظام الأسد بمجرد تحجيم قوة المعارضة العسكرية، فاختلالات النظام العسكرية قبيل التدخل الروسي؛ ومنطق "إدارة الأزمة"؛ وتنامي مهددات دول الجوار، ساهم في تموضع صلب وانخراط فعال للفواعل الدولية والإقليمية في سورية. ويُنذر هذا التطور بجعل أي مكتسب سياسي بعيد المنال طالما أن تضارب الرؤى والتوجهات ما بين هذه الفواعل هو سيد الموقف.

 تحاول هذه الورقة التحليلية أن تتكئ على معالم ومؤشرات المشهد العسكري الراهن لتبحث في طبيعة التحولات الناشئة وتختبر مقولة "انتهاء الصراع العسكري" بمعناه العابر للصراع الوطني. كما تهدف الورقة إلى قياس آثار تلك التحولات على مدى التماسك الهندسي الروسي من جهة، وعلى الأطر العامة الناظمة "للملف السوري" ببعديه العسكري والسياسي من جهة ثانية، وعلى الترتيبات العسكرية ومدى قدرتها على استيعاب تلك التحولات من جهة ثالثة.

اتفاقات خفض التصعيد: ما بين التآكل والثبات الشكلي

في شهر آيار من عام 2017 أعلنت وزارة الخارجية الروسية عن اتفاق "خفض التصعيد" في سورية الذي يقضي بإقامة أربع مناطق آمنة بسورية، وتشمل وفق الإعلان أكبر منطقة لخفض التصعيد -محافظة إدلب وأحياء مجاورة في محافظات حماة وحلب واللاذقية. وتقع المناطق الثلاث الأخرى شمال محافظة حمص والغوطة الشرقية شرقي العاصمة دمشق، وفي جنوب سورية على الحدود مع الأردن، إلا أنه والملاحظ وفق بوصلة الحركة العسكرية الروسية (والمبينة بالشكل المجاور) أن هذه الاتفاقات كانت تكتيكاً والتفافاً مدروساً حتى يتسنى للروس والنظام من زيادة مساحات السيطرة في مناطق التأثير الجيوسياسي في سورية والتي عرفت بـ “سورية المفيدة" وذلك عبر تغليب أداتي الضربات الجوية وآليات الحصار وما سيتبعه من إفراغ لجيوب ومناطق المعارضة.

من جهة أخرى وفيما يتعلق بالوصول لاتفاقات خفض التصعيد فإنه وبعد قرابة العام وبالاستناد على الحركية الأمنية الناظمة لتلك المناطق يمكن تصدير النتائج التالية:

أولاً: عدم استطاعة الأستانة -كإطار ناظم-لإنجاز معظم هذه الاتفاقات.  ففي حين تم بلورة خرائط منطقة إدلب وترتيبات التفاعل التركي فيها في إطار الدول الضامنة، إلا أن باقي المناطق يتطلب دخول دول ليست من ضمن الدول الضامنة لإنجازها، كمصر ولا سيما فيما يتعلق بشمال حمص والغوطة الشرقية. وكانت تلك المناطقتين آنذاك ضرورة روسية لكي تدفع بمساقاتها السياسية بناء على هذا التثبيت الميداني بهدف بلورة إطار سياسي ناظم للعملية السياسية يخفف التكلفة السياسية للتدخل العسكري من جهة ويخطف من مسار جنيف وظائفه السياسية وإعادة تعريفها بما يتفق مع الرؤية الروسية. المثال الثاني يتمثل في الأردن والولايات المتحدة فيما يرتبط بترتيبات الجبهة الجنوبية والتي لاتزال تلقى معارضة أمريكية واضحة حيال حدود تواجد الميليشيات الإيرانية في هذه الجبهة. كما لا تزال أيضاً تشهد عبثاً إيرانياً مقصوداً في المعادلات الأمنية في تلك الجبهة مما يرجح انفجار هذا الترتيب الأولي.

ثانياً: غياب الفاعل الوطني عسكرياً لصالح الإقليمي والدولي وتداعياته العابرة للأستانة. فبالاستناد على طبيعة الانخراط الروسي بعد الأستانة عسكرياً، يتمثل التكتيك الروسي في تخفيف وتثبيت حدود التدخل الإقليمي عبر تكريس مفهوم الضامنين، فكان بحاجة لدور تركي يدفع الأخير لربط توجهاته في الملف السوري من بوابة التفاهم البيني على حساب تفاهم أنقرة مع واشنطن. ويساهم ذلك أيضاً في ضبط المشهد في الشمال السوري الذي يكتنفه العديد من العناصر المعقدة (كفواعل متنوعة وقدرات عسكرية نوعية وكثافات سكانية). كما كان بذات الحاجة وأكثر فيما يتعلق بترتيب علاقته مع طهران والتي تستوجب من الروس الاستثمار بمواردها البشرية في سورية. وبذات الوقت توفر الاتفاقيات لموسكو انخراطاً ايجابياً في هذه المعادلات بما لا يزمن الصراع ويجعله مفتوحاً كديدن طهران في كافة سلوكياتها. إلا أن هذا التكتيك المستند على مبدأ التفاهم الأمني الثلاثي خطوة بخطوة، وبرغم مساهمته في تحجيم أدوار الصراع الوطني –كما أعلنها بوتين في خطاب النصر في حميميم آواخر العام المنصرم-فقد عظّم من حدود تأثير ونفوذ تلك الدول والتي إن توافقت أولياً أمنياً إلا أنها ستظهر تباينات واختلافات سياسية واضحة. أنظر الخريطة (1) والتي تدلل على تنامي النفوذ والسيطرة الدولية.

خريطة رقم (1): مواقع السيطرة والنفوذ المحلي والدولي والإقليمي حتى 15آذار 2018

ثالثاً: احتفاظ المعارضة بمروحة خيارات نتيجة توسع نفوذ تركيا التي اتكأت على الأستانة كإطار مرجعي لانخراطها الأخير في الشمال السوري. فبعد نجاح تركيا بالتعاون مع الجيش السوري الحر في بسط نفوذها على منطقة درع الفرات وجعلها منطقة آمنة، تعمل -عبر بوابة تذليل المهددات الأمنية المشتركة وبالتوافق والترتيب القلق مع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية-على توسيع المساحات الآمنة. وتقوم بذلك عبر الانخراط الصلب في منطقة عفرين أو عبر البدء بترتيب المشهد العسكري والأمني في إدلب من خلال نقاط وقواعد مراقبة وسياسة مخلخلة في صفوف هيئة تحرير الشام. ومن المؤشرات التي تدعم هذه الاستراتيجية ما شهدته الساحة من اقتتال بين هيئة تحرير الشام وهيئة تحرير سورية. كما يدلل هذا بشكل واضح على تزايد مكاسب أنقرة سياسياً وبالتالي معها أيضاً تحسن خيارات المعارضة الفاعلة في تلك المناطق سواء من زاوية ابتعاد معارك الحسم مع النظام أو من خلال تطبيق نماذج حكم مستقرة وشفافة ورشيدة. وسينعكس هذا بطبيعة الحال على أي إطار سياسي ينظم علاقة المركز مع الأطراف في سورية.

الجبهة الجنوبية: الاختبار الأكثر جدية لأي ترتيب عسكري قادم

رغم عدم اعتراض الولايات المتحدة الأمريكية على ترتيبات الأستانة كمقاربة روسية إلا أنه يمكن تفهم واشنطن لتلك المقاربة من بوابة التأييد لتفاهم شرق النهر وغربه والذي لم يعارضه منطق الأستانة بشكل عام. ولكن عند شمول المنطقة الجنوبية ضمن خطة خفض التصعيد، احتاجت موسكو ظهور ضامن أمريكي لتحقيق هذا الاتفاق الذي لايزال يلقى معارضة من "إسرائيل" بحكم هواجسها الأمنية حيال التوغلات الإيرانية في حدودها الشمالية من جهة وبحكم تطلعات الروس والإيرانيين بالاستحواذ على تلك المنطقة من جهة ثانية.

وبالإضافة إلى أسباب تحجيم طهران وإبعادها عن هذه المنطقة، يتوقع ظهور متغير في الجنوب يُسهم في إعادة تشكيل وترتيب المشهد العسكري في سورية. ويرتبط ذلك بتطور نوعي شهدته تفاعلات تلك الجبهة التي مورس فيها ضبط دولي وإقليمي شديد القلق، ألا وهو العبث الإيراني الأخير في معادلات أمن المنطقة وجره لإرهاصات حرب كبرى مع إسرائيل. ويظهر ذلك خصوصاً بعدما اخترقت طائراتها من دون طيار لأجواء فلسطين المحتلة والرد المباشر من قبل الطائرات الإسرائيلية والتي تعاملت معها منظومة الدفاع الجوي للنظام وأسقطت إحدى تلك الطائرات. ويعتبر ذلك حدثاً نوعياً لم تشهده طبيعة الاختراقات والتدخلات الإسرائيلية التي كانت مداخلها عابرة للأزمة المحلية لصالح جعل غايات هذا التدخل متعلقة بتحجيم النفوذ الإيراني في الجنوب السوري وضرب تحركات التسليح الخاصة بحزب الله. وللعلم يذكر أن عدد الضربات الإسرائيلية منذ بدء الثورة وحتى تاريخ إعداد هذه الورقة قد بلغ 79 ضربة([2]).

إذاً أضحى حديث "التوسع والتأثير الإيراني المتزايد في سورية وخاصة تواجد الميليشيات الإيرانية القريبة من الحدود الإسرائيلية السورية" أولوية بالغة الأهمية على جدول أعمال معظم الزيارات والرسائل المتبادلة بين تل أبيب وواشنطن. وقد ازدادت وتيرة هذه الاتصالات في المطالبة بتفعيل الاستراتيجية الأميركية بخصوص إيران المعلنة من قبل ترامب نهاية عام 2017 والقاضية بزيادة الضغط على إيران والحرس الثوري بسبب زعزعتها للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. وتواردت المعلومات من المخابرات الأميركية والصور الفضائية عن إقامة قاعدة جديدة للحرس الثوري وقوات القدس في سورية صالحة لنشر صواريخ متوسطة وقليلة المدى، ناهيك عن وجود أنباء عن إقامة مصنع للصواريخ في جنوب لبنان. وعلى الرغم من تزايد المؤشرات الدافعة باتجاه حرب كبرى تريدها طهران بالدرجة الأولى إلا أن ملامحها الكبرى لا تزال مرتبطة بتفاهمات روسية أمريكية قد تفضي إلى ترتيب عسكري جديد سيكون عنوانه الأبرز دفع موسكو لممارسة الضغط على طهران لتغيير استراتيجيتها وهو أمرٌ بالغ الصعوبة روسياً بحكم العلاقة المصلحية التي تجمعها مع إيران في سورية، وبحكم إدراكها لطبيعة التوغل الإيراني في سورية.

من جهة أخرى، يُتوقع أن يشهد الجنوب السوري تطورات عسكرية خلال المرحلة المقبلة، في ظل ما تشهده من تجهيزات لعمل عسكري مرتقب من قبل فصائل المعارضة. إذ تؤكد التصريحات العسكرية لقادة الجبهة الجنوبية عن احتمالية عن تجهيز الفصائل لعمل عسكري بعد أن أصبح الجميع على قناعة مطلقة بالحاجة لتحرك يُغير موازين القوى ويُعيد ترتيب أوراق المنطقة، وخاصة مع تقدم قوات الأسد في الغوطة الشرقية، وتوقع تحرك النظام بعدها نحو درعا.([3]) كما يرتبط الجنوب بمدلولات التعزيزات الأمريكية في "قاعدة التنف" وإرسال الجيش الأمريكي 200 جندي إليها ارتباطاً وثيقاً خاصة أنها تأتي في إطار يتوقع أنها ضمن عمليات عسكرية يخطط لها في الجنوب السوري ضد الميليشيات الإيرانية، مع احتمالية امتداد هذه العمليات إلى منطقة البادية. وتُنبئ هذه التطورات بإمكانية فتح معارك بنسبة معقولة وهو أمر قد يزيد من اشتعال المشهد العسكري.

شرق النهر: ما بين التصلب الأمريكي والمناوشات الروسية

تقوم الإدارة الأمريكية (التي تشهد تبدلات متسارعة في مراكز صنع القرار فيها) بإعادة نشر قواتها في شرق سورية وذلك لتحقيق عدة أهداف منها التصدي للنفوذ الإيراني والاستمرار في محاربة تنظيم الدولة، ودعم قوات سورية الديمقراطية شرق النهر([4]).

كما عملت واشنطن مؤخراً على تعزيز قدراتها العسكرية في عشرة مواقع (هي قاعدتيها الجويتين وثمان نقاط لوحدات حماية الشعب تمتد من عين دادا غربا إلى رميلان شرقاً) تماهياً مع تصريحات البنتاغون "الحازمة" بأن عمليات التحالف الدولي التي تحمل اسم "العزم الصلب" مستمرة. وكان من المقرر أن تُنشر قوة حرس الحدود على طول الحدود السورية التركية في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية شرق نهر الفرات، وعلى الضفة الشرقية للنهر وصولاً إلى مدخل النهر إلى العراق وفي منفذ البوكمال الحدودي لإقامة نقاط تفتيش ونشر فرق مكافحة العبوات التي خلفها تنظيم "الدولة" في المناطق التي خسرها، ومهام أخرى. ووفقاً لعدة تقارير، فإن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "مايك بومبيو" (المرشح لوزارة الخارجية بعد تيرلسون) يعمل على تعزيز القواعد الأمريكية شمالي سوريا والعراق بالمدفعية الثقيلة والمروحيات والمقاتلات والمدرعات، وذلك تمهيداً لمواجهات محتملة على عدة جبهات وهي([5]):

  1. دير الزور: حيث تعمل القوات الأمريكية على تعزيز قدرات قوات سوريا الديمقراطية، وتمكينها من تشكيل حائط صد أمام قوات النظام وميلشيا "حزب الله" ومنعهم ن التقدم باتجاه الحدود السورية-العراقية.
  2. الحدود السورية العراقية في إقليم الأنبار: حيث تعمل القوات الخاصة الأمريكية على تشكيل تحالف من عشائر المنطقة، حيث لا يوجد مقاتلون أكراد يمكن الاعتماد عليهم في تلك المناطق.
  3. منطقة التنف شرقي سوريا: حيث تتمركز وحدة من القوات الخاصة الأمريكية ووحدة مهام خاصة تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لمنع النظام وحلفائه من تشكيل قوة في تلك المنطقة الاستراتيجية. وقد تم تنفيذ عمليات نوعية ضد عناصر من الميلشيات الموالية للنظام، والتي حاولت الاقتراب من القوات الأمريكية فتم استهدافها وقتل خمس من عناصرها على الفور.

بالمقابل لا تزال موسكو تنوي الاستمرار في تمكين سلطة الأسد على كامل الأراضي السورية ولا سيما في منطقة شرق النهر الغنية بالموارد النفطية والمائية والزراعية. ويستوجب هذا منها الاستمرار في المناوشات التي تهدف تجاوز اتفاق شرق وغرب النهر من جهة، وضرورة جر الـPYD لمفاوضات مع النظام لإعادة ترتيب التفاهم على المنطقة وفق منطق "السيادة السورية"([6]). إذ حاولت موسكو والنظام التخطيط لهجوم 7 شباط (فبراير) الفاشل ضد قوات سوريا الديموقراطية ومعهم جنود أميركيين في شرق سورية، والذي ردت واشنطن عليه بالدفاع عن قواتها وإسقاط مئتي قتيل من شركة «فاغنر» الروسية. وفي مطلع الشهر المنصرم، أعلن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة أنه شن ضربات جوية على قوات موالية للنظام السوري في الريف الشرقي لدير الزور بين قريتي خشام والطابية، شرق نهر الفرات، حيث توجد مواقع نفطية مهمة على مسافة نحو ثمانية كيلومترات شرق نهر الفرات، الخط الفاصل لمنع الاشتباك، بعد "هجوم دون مسوغ" على قيادة قوات سوريا الديمقراطية. وأدت تلك العمليات إلى مقتل أكثر من مائة مقاتل من قوات النظام.

والثابت من خلال هذه المناوشات هو استمرار فرضية الحرب الباردة بين الروس والأمريكان بغض النظر عن الحجة والادعاء، فموسكو التي تسيّدت المشهد العسكري، يشكل التواجد الأمريكي عثرة في طريق هندستها للحل السياسي([7]). وفي ظل تفاهمات هشة تنظم العلاقة بين الأميركيين والروس في سورية، فإن من الصعب التنبؤ بمآلات التنافس على ورقة النفط والمعابر الحدودية وغيرها في سورية. لكن موسكو في كل الأحوال لا تبدي ارتياحاً للسيطرة الأميركية غير المباشرة على حوالي 80% من احتياطيات النفط السورية وفق بعض التقديرات، وهذا يجعل المشهد العسكري لا يزال مرشحاً لمتغيرات جديدة.

انخراط روسي متنامي ومكسبٌ لم يكتمل بعد

أعلن بوتين نهاية عام 2017 من قاعدة حميميم في طرطوس "نصره" على "أقوى الجماعات الإرهابية العالمية". وأمر ببدء سحب القوات الروسية إلى قواعدها الدائمة في روسيا، مع الاحتفاظ بقاعدة حميميم الجوية الروسية في اللاذقية وعلى منشأة بحرية في طرطوس "بشكل دائم". إلا أنه وبحكم انتفاء عناصر السيولة في المشهد السوري الذي يتم التعاطي معه بإغفال الأسباب المولدة للصراع، فإن هذا الانسحاب يُشكل حالة دعائية أكثر منها واقعية، وذلك وفقاً للمؤشرات أدناه:

أولاً: الاستمرار في الانخراط العسكري وبكثافة عالية. إذ يُدلل الانخراط الكثيف والنوعي للسلاح الروسي في سورية على أن الأمر لا يتعلق فقط باستعراض فائض القوة وتجريب تلك الأسلحة في الميدان السوري بغية جلب عقود بيع لتلك الأسلحة([8])، وإنما يدلل بشكل واضح أيضاً على عدم قدرة موسكو على تثبيت المشهد الميداني. وهذا تطلب منها زيادة مستوى الانخراط كما كان واضحاً في طلعاتها الجوية في الجبهات الشمالية ولاسيما في ريف حماه وإدلب والغوطة الشرقية كما هو موضح في الجداول أدناه:

ثانياً: التدخل المتزايد في بُنية "الجيش النظامي". لقد بَدت ملامح السيطرة الروسية على مفاصل النظام وقواته، أكثر وضوحاً في الشهور الأخيرة، بعد تدخلهم في إعادة هيكلة وزارة الدفاع وقيادة الأركان، وبعض الأجهزة الأمنية. وفي حين تبدو بعض التحركات الروسية مدفوعة بما يوصف بمكافحة "قضايا الفساد" لمعالجة الهدر الكبير في مخصصات القوات المسلحة السورية، فإن بعضاً آخر منها لا يبدو مفهوماً إلا في سياق تثبيت شبكة من الضباط السوريين الموالين لروسيا في أبرز المواقع العسكرية والأمنية الحساسة. ولعل الهدف الأبرز وراء هذا الانخراط هو ما نجم إبان حركية التدخل الروسي عبر افتقاد هذا الجيش لأهم عناصر التماسك والحفاظ على المكاسب وتلاشي آليات "المبادأة الاستراتيجية"، وبمعنى آخر تنامي الارتكاسات البنيوية داخل هذا الجيش وهو ما يجعل تكلفة التدخل الروسي سياسياً وعسكرياً في ارتفاع مستمر([9]).

رابعاً: رسوخ الحل الصفري في المخيال الروسي. على الرغم من نجاح موسكو بحرف اتجاه العملية السياسية في سورية من كونها عملية انتقال سياسي حقيقي إلى ترتيبات سياسية شكلية، إلا أن تعثر مسار سوتشي نسبياً كمسار أريد له أن يكون حوار سورياً يُفضي حلاً سياسياً يكون انعكاساً للمفهوم الصفري، وتحول هذا المسار الذي هوَّل له الروس إلى لجنة دستورية مقترحة أعادهم إلى مطلب الحسم العسكري. ويتضح ذلك خاصة بعد ظهور "اللاورقة" التي اعتمدتها الدول الخمسة قبيل المؤتمر، وهي وإن اتفقت مع الطرح الروسي في ترتيب خطوات العملية (كدستور وانتخابات) إلا أنها حرمت موسكو من السيادة المطلقة عبر ربط أي مخرج سياسي بدور فعّال للأمم المتحدة([10]). كما يدل هذا الأمر على أن الترتيب العسكري للمشهد السوري لم يكن بالقدر الكافي الذي يؤمِّن لموسكو التحكُّم المطلق بالمشهد السياسي، مما دفعها للعودة مجدداً لتثبيت الحل الصفري ميدانياً. ويُشير هذا أيضاً بشكل واضح إلى ملامح عودة روسية عابرة للاتفاقات وخاضعة لمعيار بسط السيادة. ويعتري ذلك الكثير من المدخلات التي يجعل تلك العودة تورطاً وانخراطاً متزايداً. انظر الجدول أدناه والذي يوضح حجم الغارات الروسية المنفذة على الأحياء المدنية في المحافظات منذ تدخلها. ويوضح الجدول أن الزخم في مطلع هذا العام هو الأشد بالنسبة للأعوام السابقة.

عمليات إعادة الترتيب والفواتير المحتملة

تؤكد معطيات المشهد العسكري على تبلور طموحات إقليمية ودولية ناشئة (انظر الجدول أدناه الذي يبين انتشار القواعد الأجنبية في سورية) تجعل هذا المشهد يدخل في مرحلة إعادة تشكل وترتيب جديد سواء بالاتكاء على فكرة ومفهوم الدول الضامنة أو عبر ترسيم جديد لحدود النفوذ الدولي. وسينعكس هذا الترتيب الجديد حُكماً (سلباً أو إيجاباً) على العملية السياسية التي دخلت مرحلة من السيولة المغرقة منذ جنيف 8 وما تبعها من تطورات ميدانية (عملية غصن الزيتون، محاولات إعادة ترسيم حدود منطقة إدلب، معركة "الإبادة" في الغوطة الشرقية، العبث الإيراني في الجنوب السوري)، وما رافقها أيضاً من هشاشة في بنى الفواعل السورية سواء المعارضة التي باتت جسماً مائياً يصعب ضبط توجهاته أو النظام الذي يجد نفسه غير قادر على رفق السيطرة العسكرية بسيطرة سياسية واجتماعية (كما يتخيل) وغير مؤهل لمواجهة استحقاقات مرحلة البناء وإعادة الإعمار.

 وفقاً لهذه المعطيات يمكن الاستدلال على تنامي فرضية وضرورة إعادة الترتيب، ويُتوقع أن تحتوي معادلاتها على المعطيات التالية:

  • استدامة التواجد الأمريكي في سورية وبقاء امتلاكها لعنصر تعطيل الحركية الروسية وهو ما سيفرض -بعد عدة محاولات روسية فاشلة في تحجيمه-مرحلة تطبيع وتكيُّف من قبل موسكو مع هذا المعطى ومحاولة جعله ذو آثار أمنية أكثر منها سياسية.
  • استمرار اختبار ضبط النفس في الجنوب السوري، وهو ما يتطلب تعاملات دولية حذرة وقلقة. وسيرتبط استقرارها المؤجل بمدى نجاح المجتمع الدولي في تنفيذ مهمته الصعبة في ضبط إيران التي استطاعت خلال سني الصراع من احتلال سورية أفقياً بشكل أتاح لها امتلاك عنصر العطالة.
  • وضوح طبيعة التموضع التركي في معادلة علاقتها مع واشنطن وموسكو، فتركيا التي بلغت مهدداتها الأمنية مبلغاً جعل الخيارات الصلبة هي المدخل الأكثر حسماً لتنامي تلك المهددات، ستكون ذات تأثير واضح في الشمال السوري خاصة بعد شبه اكتمال تحقيقها لأهداف غصن الزينون واستحواذها شبه المكتمل على الأجزاء الشمالية.
  • استمرار الثلاثي (موسكو وطهران والنظام) في منوال عمليات "بسط السيطرة" في مناطق دمشق ومحيطها وحمص وحماه وريف اللاذقية، وهو أمرٌ سيرتبط كثيراً بمدى ثبات التنافس الأمريكي الروسي وعدم تدحرجه لمربعات أكثر حدية، ويتعلق إلى حد ما بمدى تقبُّل بنى هذا الثلاثي لمعارك الاستنزاف.
  • توفير أطر أمنية جديدة تستوعب هذا العدد الكبير من القواعد العسكرية الأجنبية في سورية. ويمكن لهذه الأطر أن تكون وفق الجبهات، لعل أبرزها نموذج لمنطقة غرب النهر في الشمال ويستوجب ترتيباً روسياً أمريكياً تركياً، ونموذج للجنوب السوري والبادية السورية ويستوجب ترتيبات أمريكية روسية بالدرجة الأولى وقد تطول بحكم التضارب المتنامي.

وأمام هذا الافتراض المستند على هذه المعطيات، يكون المشهد السوري قد اقترب من تجاوز "الصراع المحلي" ونقله كلياً للمستوى الإقليمي والدولي والذي وإن كان مرتباً أولياً بتفاهمات واتفاقات أمنية، إلا أنها شديدة القلق ولم تعد صالحة لضبط التحولات الجديدة. فبات هذا المشهد بحاجة لترتيب آخر وهذا ما سيؤثر حكماً على طبيعة المخرج السياسي العام من جهة، وأداور الفواعل المحلية وحدودها من جهة ثانية، وسيجد هذا المشهد نفسه أمام المعطيات التالية:

  • أدوار دولية متعاظمة في مرحلة ما بعد الصراع، واستحقاقاته المتعددة.
  • عدم قدرة تماسك النظم المركزية كأطر سياسية للدولة، وتبلور مفاهيم الحكم المحلي أو الذاتي.
  • هشاشة مستدامة في معادلات الاستقرار، التكيف مع مفهوم الدولة الفاشلة.

ختاماً

  بعد إمعان موسكو بترتيب وهندسة المشهد العسكري في سورية منذ أخرجت حلب الشرقية من معادلات الصراع وساهمت في بلورة مفهوم الدول الضامنة، ولايزال معيار الاختبار لمدى تماسك هذا الترتيب يشهد قلقاً متزايداً لم يفلح حتى الآن في ضبط المشهد العسكري وتخفيف عناصر السيولة التي تعتريه. فمن جهة أولى ورغم استطاعتها –بالتوافق مع عوامل أخرى- من إخراج الصراع من دوائره الوطنية وخلق مقاربات عسكرية جديدة خففت من قدرة قوى المعارضة المسلحة إعادة تبنيها لنهج السيطرة والاستحواذ، إلا أن الصراع الدولي بات أكثر وضوحاً ولايزال في مراحل ما قبل الترتيب النهائي لحدود التأثير والنفوذ، ومرجحاً لحقبة زمنية طويلة تتبلور فيها مظاهر الحرب الباردة على الأراضي السورية بشكل أكبر واحتمالية تحولها لصدامات مباشرة. ومن جهة ثانية عادت عوامل الاستعصاء لتظهر بقوة في أتون حركة العملية السياسية رغم نجاح موسكو في إعادة تعريف عناصرها الأولية بما يتفق مع مخيالها السياسي. ولم تستطع موسكو الاستفراد في هذا المجال وخطف مسار جنيف لصالح الأستانة أو سوتشي، بل تنامت مؤشرات عودة فعالية المجتمع الدولي عبر التأكيد على الدور الأممي كناظم رئيسي لهذا الحقل. كما يرتبط قياس "مؤشرات" انخفاض التكلفة السياسية والعسكرية للتدخل الروسي في سورية عبر تتبع مقدرة النظام وحلفائه على إرفاق السيطرة العسكرية بمفاهيم السيادة وتضمينها آليات عودة الحياة، باعتبارها الهدف المعلن وراء التدخل.


([1]) منذ 30 أيلول/سبتمبر 2015 (تاريخ بدء التدخل العسكري الروسي) تركزت معظم الضربات الجوية الروسية على مواقع المعارضة السورية بغية إخراجها من دوائر التأثير والفاعلية، كما عملت موسكو على إنشاء منطقة عدم تجوال في الأجواء السورية وإجبار طيران التحالف الدولي من التنسيق المباشر مع القوات الروسية قبل تنفيذ أي غارة، وذلك عبر نصب جهاز يعرف بـ Richag-AV الذي يتمتع بقدرة عالية على اعتراض الاتصالات والإشارات التي قد تُرسل إلى الصواريخ الذكية ومنها الباتريوت الأمريكي؛ كما قامت موسكو بإرساء سفينة حربية بالمياه السورية بالقرب من اللاذقية تحوي على مئات الصواريخ s300 العابرة للقارات ووفرت كمية كبيرة من الذخيرة والمستشارين والتقنيين لقوات النظام، وناهيك عن حماية وتثبيت المصالح المختلفة لدى روسيا بدءاً من الوجود العسكري وصولاً إلى الصفقات التجارية أو الدعم التقني لمشاريع غاز ونفط في البادية السورية، فقد حقق تدخلها تمكيناً عسكرياً للنظام في معظم مناطق (سورية المفيدة) وحصنت دفاعاته بالخط الساحلي من الشمال الى الجنوب.

([2])  موزعة على الشكل التالي (2012: 1، 2013: 6، 2014: 7، 2015: 16، 2016: 19، 2017: 26، 2018: 4)، آخر تلك الضربات كان فجر السبت 2018/2/10 على مطار "تي فور" إذ استهدفت الطائرات الإسرائيلية 6 أهداف إيرانية فقط، دون التعرض لأي من الاهداف داخل المطار سواء العائدة للنظام وهما "السرب 19 سوخوي24" و"السرب 827 سوخوي22م4" أو أي قطعة تتبع لقيادة اللواء الجوي "70" أو الدفاعات الجوية للنظام داخل المطار أو الأهداف التي تتواجد فيها بعض القوات الجوية الروسية. وحسب المصدر فإن الأهداف التي تعرضت للضربات الجوية الإسرائيلية: (-أربع عربات لإطلاق وقيادة -الطائرات المسيرة الإيرانية التي تمركزت في مطار "تي فور" في نهايات السنة الماضية 2017--المبنى الخاص بتواجد العناصر الإيرانية التي تعمل على هذه الطائرات-هنكار مبيت الطائرات المسيرة الإيرانية شمال شرق المطار-مستودع خاص بالقطع الفنية العائدة لهذه الطائرات المسيرة الإيرانية. للمزيد انظر: بالتفصيل.. الغارة الإسرائيلية استهدفت 6 مقرات إيرانية قبل إسقاط الطائرة، موقع زمان الوصل، تاريخ: 11/2/2018، الرابط: https://goo.gl/vWKAFE

([3])  ولعل العنصر الأكثر بروزاً في استراتيجية هذا التحرك يتمثل في معارك الطرق الرئيسية، إذ يخضع نحو 50% من مدينة درعا لسيطرة المعارضة، وكانت أحكمت سيطرتها على حي المنشية بمعظمه، لتنتقل المعارك إلى أطراف حي سجنة المجاور، خلال الأشهر التي سبقت اتفاق “تخفيف التوتر”، تموز 2017. وسيتركز العمل المرتقب على مناطق مختلفة من أوتوستراد درعا-دمشق، ساعية تلك الفصائل لحصار النظام في مدينة درعا، ثم التوجه نحو بلدة خربة غزالة، الواقعة تحت سيطرة النظام، ثم وصلها مع داعل والريف الغربي للمحافظة، وسط استعدادات للنظام الذي بدأت منذ السبت 10 من آذار، بتعزيز نقاطه الحدودية مع المعارضة داخل المدينة، وتحديداً في أحياء: شمال الخط، السحاري، المطار، الكاشف، السبيل، القصور. ويتوقع أن تمتد محاور العمل العسكري تمتد على طول أوتوستراد درعا-دمشق، من منطقة اللجاة باتجاه الوردات على أطراف بلدة محجة، من الجهة المقابلة للأوتوستراد، إضافة إلى منطقة البقعة على أطراف بلدة إزرع، والنجيح المتاخمة له، على أطراف اللجاة.

([4]) إجراء انتخابات برعاية أمريكية، وتوفير الدعم للسلطة المحلية من خلال تدريب الموظفين الحكوميين ودعم مشاريع إعادة الإعمار وتحسين قطاعات الخدمات العامة وإصلاح البنى التحتية، إنشاء جيش جديد قوامه 30 ألف مقاتل قوامه وحدات "قسد" التي تتشكل من الأكراد والعرب والسريان والتركمان الذين دربتهم الولايات المتحدة لشن العمليات الخاصة، وتكليفهم بمهام حفظ الحدود برعاية عسكرية أمريكية.

([5])  الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه سوريا تثير مخاوف إقليمية، موقع نور سورية /المرصد الاستراتيجي، تاريخ 18/2/2018، الرابط: https://goo.gl/FQht1A

([6])  للمزيد انظر: تطورات العلاقة بين الإدارة الذاتية والنظام وروسيا خلال عامي 2016 – 2017، ورقة بحثية صادرة عن مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، تاريخ 22/1/2018، الرابط: https://goo.gl/MGJNYR

([7]) قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إن الوجود العسكري الأميركي في سوريا يمثل تحديا جديا في طريق التسوية السلمية للأزمة السورية والحفاظ على وحدة البلاد، للمزيد أنظر: هل بدأت روسيا وأميركا معركة شد الحبل بسوريا؟ موقع الجززيرة، تاريخ 8/2/2018، الرابط: https://goo.gl/FppXtC

([8])  14 ألف تجربة مختلفة لأنواع السلاح الروسي تمت في سوريا بعد التدخل العسكري لموسكو في سبتمبر 2015، فقد نفّذ هذا السلاح خلال سنتين 30 ألف طلعة جوية، شملت 90 ألف هجوم على الأرض، وخلال هذه الطلعات جربت مقاتلات (سوخوي 35) ومروحيات (مي-35) القتالية الحديثة، بدعم من منظومة الدفاع الجوي، واستخدمت لأول مرة طائرات (مي-8) و(مي-24) و(مي-28 أتس)، و(كا-25 التمساح)، وفي يونيو (حزيران) 2017، ظهرت مركبة الدعم الناري من طراز (BMPT-72)، لأول مرة خارج روسيا، وتحديدًا في قاعدة حميميم الروسية بسوريا، وكذلك جربت موسكو  منظومة دفاعها الجوي (إس-400 ترايمف)، ومنظومة (كراسوخا 4) المحملة على شاحنة كبيرة، كما سجلت طائرتا (أورلان وفوربوست)، دون طيار الروسية، أولى طلعاتهما الجوية القتالية في سوريا.

أما بالنسبة لسلاح البحرية، فقد استخدمت أحد أكثر السفن الحربية الروسية تقدمًا، وهي فرقاطة من نوع (بايرن كلاس 21631)، ووقعت تجربة هذا النوع من السفن الحربية في بحر قزوين، وحسب المعهد البولندي فقد «شاركت البحرية الروسية بأساطيلها المختلفة (المتوسط، الشمال، المحيط الهادئ، والبحر الأسود، والبلطيق)، وجرّبت للمرة الأولى حاملة الطائرات (أدميرال كوزنيتسوف) وغواصات (كيلو كلاس) وفرقاطات وسفن حربية. ومن خلال السفن الحربية الجديدة، جرّبت البحرية الروسية صاروخ (كاليبر) (إس إس إن 27) ومداه 2600 كليومتر، وأطلقت الغواصات صواريخ لتجربتها في الميدان السوري».

وجربت في سورية مقاتلات جديدة حديثة من طراز (سو- 35) و(سو- 34)، بالإضافة إلى (سو- 24) و(سو – 25) المزودة بمنظومات حديثة تعمل على زيارة مدى فعالية استخدام الأسلحة غير الموجهة، واختبرت روسيا صواريخ (كاليبر) المجنحة التي أطلقت من منصات إطلاق مختلفة بما في ذلك من غواصات (فارشافيانكا)، وكما أسلفنا أرسلت طائرات من الجيل الخامس المتطور (سو-57).

للمزيد انظر: ميرفت عوف: "وسط صمت دولي... كيف تحولت سوريا إلى حقل تجارب للأسلحة الروسية؟، موقع ساسة بوست، تاريخ:7/3/2018، الرابط: https://goo.gl/h2SZDX

([9])  رائد صالحاني:" الأركان والدفاع مع الروس... وحافظ مخلوف إلى الواجهة مجدداً"، موقع المدن، تاريخ 19/1/2018، الرابط: https://goo.gl/Dzuexx

([10]) ورقة غير رسمية بشأن إحياء العملية السياسية في جنيف بشأن سورية”، كان هذا عنوان الورقة التي نتجت عن اجتماع باريس 23/1/2018 للدول الخمس: الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، السعودية، الأردن، وجرى تسريب مقصود للورقة صبيحة يوم 26/1/2018 ختام جولة فيينا للمفاوضات.

للمزيد انظر: ورقة الدول الخمس، تقدير موقف صادر عن موقع تطورات جنيف، تاريخ 12/2/2018، الرابط: https://goo.gl/vzSsjo

التصنيف أوراق بحثية

ينتقل الحراك (الدبلوماسي – السياسي) الروسي للاستثمار السياسي لمسار الأستانة الذي فرض مجموعة من العناصر الجديدة على المعادلة السورية والتي تشكل مناطق خفض التصعيد -وفق مقاربات ما دون سياسية -العنصر الأكثر بروزاً. إذ يعول الروس على تغيير ملامح المرجعية الناظمة للعملية السياسية، وذلك عبر تصدير "رعايتها السياسية" لعدة خطوات سياسية خارج إطار مسار جنيف "كالدستور والحوار الوطني والإصلاحات الحكومية"، وقد شكل مؤتمر "سوتشي" الذي دعت له وزارة الخارجية "جميع الأطراف السورية" نقطة انطلاق لعملية الاستثمار تلك. وعلى الرغم من ظهور مؤشرات تدلل على احتمالية تأجيله أو عدم عقده بالأساس، إلا أن ذلك لا ينفي أهمية تفكيك الإطار العام لهذه المقاربات، وهذا ما سيعمل تقدير الموقف هذا على تحليله ومناقشة تعاطي الفعاليات الروسي حياله وتبين مآلاته  في ظل خارطة السياسات الإقليمية والدولية، ثم العمل على تصدير ملامح المقاربة الوطنية الأكثر ملائمة للتعاطي مع تلك الهندسة الروسية.

تسويقٌ روسي

تباينت أراء الفعاليات الإعلامية والبحثية الروسية حول جهودات موسكو الأخيرة في الملف السوري (كمناقشة الدستور ومؤتمر الحوار السوري في سوتشي). فقد رددت وسوقت الصحف الروسية الرسمية تصريحات المسؤولون الروس المعنيون بالملف السوري والتي عكست بمجموعها عناصر الخطاب الروسي والذي يستند على الادعاءات التالية([1]):

  1. ضرورة نقاش مشروعي الدستور وتشكيل "حكومة وحدة وطنية"؛ كخطوتي تثمير للجهد والانتصار العسكري -السياسي الروسي.
  2. تسليط الضوء على مؤتمر" الحوار السوري" كمنتج هام لآخر مراحل "الحرب" السورية ونقطة تحول في تفكير الأطراف الصلبة واقتناعها بضرورة الحل.
  3. "تقهقهر" الولايات المتحدة الأمريكية في سورية وعدم جدوى تدخلها، مقابل ما أحدثه التدخل الروسي من "إنجازات هامة".

إلا أنه وفي الأونة الأخيرة ظهرت ملامح التشكيك بجدوى المؤتمر في بعض الفعاليات البحثية الروسية، مركزة على عدة عناصر من شأنها عدم إنضاج المناخ السياسي العام بما يتفق مع الرؤية الروسية، وهي([2]):

  1. وجود معارضة تركية لانفتاح موسكو على حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني والذي تبلور بدعوته لمؤتمر "سوتشي".
  2. تعويم فواعل جديدة تعمل في كنف "الحكومة السورية" ولا يعارضونها؛ في ظل رفض المعارضة "الصلبة" الانخراط في أي فعالية عائمة.
  3. عدم القدرة على مناقشة الدستور وفق المسار الروسي؛ خاصة أنه عندما يتعلق الأمر بالأطراف السورية التي لا تنجز أي خطوات بناء ثقة (كدخول المساعدة وإخراج المعتقلين وفك الحصار)؛
  4. ارتباط أهداف المبادرات الروسية بسعيها لإنقاذ الأسد؛ أكثر من ارتباطها بنجاح المحادثات وإنجاز اتفاق سياسي.

وفي ذات الإطار المتخوف من ادعاء سلاسة التشكيل الروسي لأطر الحل السياسي في سورية، توقعت صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا بتاريخ 4\11 \2017 ظهور مفاجئات وعراقيل أمريكية تحد من عمليات التشكل تلك وذلك بعد استناد تلك الصحيفة على الأنباء التي تتحدث عن فوج من القبعات الخضر الأمريكية([3])، والذي يستطيع (وفقاً للصحيفة) قلب الأحداث رأساً على عقب ويمكن أن يحدث "مفاجئات غير سارة" للغاية([4]).

كما عبر ممثلي وزارة الدفاع عن وجهة نظرهم في هذا الخصوص حيث حصروا مهمة القوات الروسية في سورية في "محاربة الإرهاب" وأن الحكومة الروسية غير معنية بمصير بشار الأسد الذي يحدده الشعب السوري لذلك كان سعي الوزارة لإقامة هذا الحوار داخل المجتمع السوري([5]).

الجدير بالذكر في هذا السياق، بدء ظهور مؤشرات أولية نوعية ضمن الرأي العام الروسي، فقد نشرت صحيفة "سفابودنيا بريسا" بتاريخ 1/11/2017 استطلاعاً للرأي العام حول موقف المواطنين الروس من "الحرب في سورية"، نفذه مركز "نيفادا" للدراسات، وتوصل إلى أن 49% يطالبون بوقف هذه الحرب و30% يرون بضرورة استمرارها والباقي لم يبد رأيه، وهذا –وفقاً للصحيفة- "فإن الشعب الروسي في بداية الحرب اندفع وراء صواريخ الكاليبر وهي تضرب معاقل الإرهابيين أما الآن وبعد إطالة أمد الحرب فقد انخفضت المصلحة العامة بها، عدا أن أهداف الحرب لم تعد واضحة"([6]).

تعكس تلك المواقف الروسية المحلية ملامح "انزياح أولي" في القراءة الروسية غير الرسمية لطبيعة الملف السوري وتعقيداته وفواعله، خاصة بعدما تكشف تأخر استراتيجية الخروج والانزلاق في معادلات المنطقة والإقليم الذي تعصفه مجموعة من المتغيرات والتطورات الحدية والتي تجعل كل منتجات هذا التدخل منتجات قلقة تفتقد عناصر الاستدامة للبناء عليها سياسياً، كما تعكس تباينات الرؤى التكتيكية بين مؤسستي الدفاع والخارجية الروسية اختلاف تقدير الجدوى السياسية، إذ ترى الأولى ضرورة أن تكون "حميميم" كإدارة وجغرافية هي المحرك الأساس للخطوات السياسية، بينما يحكم وزارة الخارجية محددات عدة من بينها هواجس "الضامنين" السياسية وإنجاز تلك الخطوات يغض النظر عن الجغرافية، ولعل هذا ما يفسر انتقال مقر مؤتمر الحوار السوري من "حميميم" في سورية إلى "سوتشي" الروسية.

عناصر مضطربة

الثابت في سياق التدخل الروسي أن موسكو لا تنفك عن الدفع السياسي باتجاه بلورة مسارات سياسية "تجد طريقاً لتضمينها في حركية العملية السياسية" وتخفف من تكلفة تدخلها وتسهل من استراتيجية الخروج، إلا أن مخرج هذا الدفع لا يزال منسجماً مع فكرة تثبيت نظام الحكم واجراء تغييرات واصلاحات شكلية ومن داخله، وبالتالي العمل وفق مبدأ خطوة بخطوة ومراعاة العوامل التالية:

  • عدم تبلور ملامح التسوية الكبرى مع الولايات المتحدة التي تبدو "غير مهتمة بالملف السوري بمعناه السياسي؛ وبالتالي لا يخرج الدفع الروسي هنا عن أنه ملء للفراغات الناشئة، وجذب للفاعل الأمريكي إلى تسوية تتحكم موسكو بأغلب مفاصلها؛
  • إدراك موسكو لثابتين يتعلقان بالنظام، الأول: عدم قابلية تحمل بنيته لأي تغيير حقيقي؛ والثاني عدم نجاعة تزمين خفض التوتر من زاوية عدم قدرة النظام على الحفاظ على المكتسبات العسكرية، وبالتالي العمل على أولوية الاستعجال في الخطوات السياسية اللازمة وانجازها شكلاً على الأقل؛
  • ضرورة أن يتوافق المخرج السياسي مع الهواجس الإيرانية بحكم العلاقة الوظيفية التي تضبط علاقات موسكو بطهران في سورية لا سيما فيما يرتبط بالشق الميداني، وبذات الوقت ينبغي له أن يحتوي عنصر جذب لأنقرة تجاه موسكو التي لا تزال تتطلع لعلاقات أمثل مع الولايات المتحدة.
  • بقاء فكرة "توحيد المعارضة" تفرض نفسها على الفواعل الإقليمية، لا سيما تلك غير المتفقة مع التوجه والسياسة الروسية، واستمرار العمل على تخفيف وزنها السياسي والتفاوضي من قبل موسكو لصالح تضمين هذه المعارضة لكل حزب وتجمع ناشئ في سورية؛ لكي يبقى السقف السياسي هشاً وغير محدد بأطر صلبة.

وعلى الرغم من رفض المعارضة في الأستانة لمشروع الدستور الذي طرحته موسكو بالجولة الأولى من الأستانة، ورفضها أيضاً للذهاب إلى مؤتمر سوتشي للحوار السوري، إلا أن هذا الرفض يتطلب أيضاً انسجاماً مع مواقف الدول الداعمة، وهو ما لا يتعارض رسمياً مع الجهودات الروسية وبالتالي فإن توافر عنصر "الضمانات" سيكون سيد الموقف في توقع سيناريو ومآلات هذا المؤتمر؛ فأنقرة الضامن الرئيس للمعارضة في المناطق الشمالية التي تحكمها محددات خاصة بأمنها القومي وبات مدخلها الرئيسي لرسم سياساتها، لا ترى ضيراً من مشاركة المعارضة باستثناء حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي تعده تركيا امتداداً لحزب العمال الكردستاني المصنف وفق اللوائح التركية كحزب إرهابي، وهذا ما تنتظر أنقرة من موسكو كضمان لعدم حضور هذا الحزب، أنقرة التي لا تزال تدفع باتجاه تحسين علاقتها مع موسكو كمعادل موضوعي لأي تدهور محتمل في العلاقة مع واشنطن، ولعل أحد أهم أسباب إزالة خبر المؤتمر هي لأسباب تتعلق بإعادة دراسة قائمة التكتلات والأحزاب السياسية الكردية المدعوة، إلا أنها تنتظر ضمانات أكثر وضوحاً وحسماً لهذه النقطة.

من جهتها المملكة العربية السعودية الداعم الرئيسي للهيئة العليا للمفاوضات فقد تفاعلت بإيجابية مع نتائج مؤتمر فينيا (30/11/ 2015) والذي حاول الروس والأمريكان الاتفاق على ملامح تحسين الحركة السياسية عبر عدة نقط لعل أبرزها دفع الرياض لتيسير وتسهيل تشكيل وفد معارض موحد للمفاوضات، إلا أن سياق الحركية الروسية اللاحقة وتعميق تناغهما مع القوى التابعة لإيران في سورية وسعيها لتضمين الوفد الموحد عدة منصات "معارضة" إشكالية، ساهم في زيادة هواجس المملكة في عدم لحظ جهوداتها وهواجسها السياسية، وهذا ما يتعزز في هذه الأثناء عبر الحديث عن تحضيرات لمؤتمر الرياض 2، ويضاف إلى ذلك طبيعة المدعون لمؤتمر سوتشي لا سيما أولئك الذين تم دعوتهم من مناطق سيطرة النظام والتي تدين بمعظمها بالولاء السياسي لطهران، وهو ما لا ينسجم مع توجهات الحركة السعودية  المتصاعدة باتجاه إلى تكثيف أدوات فاعليتها في صد وتحجيم نفوذ ايران.

يشكل أعلاه ملامح التعثر لمؤتمر سوتشي وانتقاله ليكون عنواناً لخطوة روسية ستبقى متوقعة، إلا أنها باتت مرتبطة حالياً بمرحلة تفاوضات مع الأطراف الإقليمية المعنية، ومتعلقة بمدى مقاومة المجتمع الدولي لهذه الخطوة الروسية التي ستسحب تدريجياً مرجعية جنيف، هذا المجتمع الذي وإن تماهى بحكم التدخل العسكري مع المخرجات الروسية، إلا أنه يدرك أن الأمر بنهايته رهين التقارب الروسي الأمريكي، وهذا ما لم تتعزز مؤشراته العابرة للشروط الأمنية السورية المحلياتية بعد.

فرصةٌ تنتظر

مع تنامي واقعي "التغيير العسكري وتخفيض التصعيد" و" سيولة العملية التفاوضية"، فقدت المؤسسات الرسمية المعارضة السورية للعديد من أدوات تحسين التموضع كاحتكار التمثيل السياسي والفاعلية العسكرية، وباتت معظم خياراتها ذات اتجاه وحيد ويتمثل في الانخراط في أي فعالية سياسية و"التماهي" مع كافة المبادرات وفق منطق ملء الشواغر والمناورة على الهوامش، إلا أن تباعد سياسات وفدي المعارضة في (الأستانة وجنيف) جعل أي إمكانية لتثمير سياسي ما يعتريه العديد من العوامل الموضوعية المعيقة لتحويل هذا التثمير إلى معطى سياسي ذو أثر.

ومع اعلان الدعوة الروسية لمؤتمر سوتشي الذي وضع المعارضة السورية أمام تحدٍ بالغ الصعوبة، تنامى وبشكل واضح الزخم الشعبي والثوري الرافض لهكذا مسارات، وهو ما دفع المجال العام للدفع باتجاه محورين، الأول استثمار هذا الزخم لمناهضة مؤتمر "سوتشي"، والثاني: تدارس المحاولة الوطنية لتحويل ردات الفعل لفرص العودة والبناء الاستراتيجي.

وانطلاقاً من ذلك وفي ظل "الانزياح" الاقليمي والدولي باتجاه عدم معارضة الروس، والعمل على التوافق مع سياساتهم وفق مبدأ الحلول الجزئية وما دون السياسية، وفي ظل ما كرسته الجغرافية العسكرية من لجم مؤقت للصراع العسكري، فإن المطلوب وطنياً أمران، الأول: تكتيكي؛ ويتعلق بكافة الأدوات التي تظهر "اللاوزن السياسي والاجتماعي" لكافة المدعوون الذين قبلوا وأكدوا الحضور، أما الثاني فهو استراتيجي؛ ويعتمد على تحويل هذا الكمون الشعبي الثوري لفرصة يتبلور من خلالها تفاعل سياسي واجتماعي جديد، تفاعل لا يلغي الأجسام الراهنة بقدر ما يأطر سلوكها ويكسبها كافة عناصر الديمومة السياسية والفاعلية الوطنية، وذلك عبر العمل على أربعة مسارات:

  1. صياغة تلك القوى الشعبية والثورية لوثيقة مرجعية (محددات ناظمة لعمل القوى السياسية والعسكرية والمدنية)؛
  2. إعادة بناء الشرعية التمثيلية؛ وفق آلية من القاعدة لرأس الهرم، وفي كافة المجالات الإدارية والسياسية والعسكرية؛
  3. إعادة بناء الهياكل الرسمية؛ بما يجعلها رافضة لتكريس أي عطالة، وقادرة على تنفيذ السياسات والاستراتيجيات العامة؛
  4. تطوير الوظائف السياسية والاجتماعية والحقوقية والإعلامية، وزيادة التشابك ما بين منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية...إلخ.

وكخاتمة، يمكن القول أنه وعلى الرغم من تزايد مؤشرات عرقلة عملية التشكل الروسي للخطوات السياسية المستثمرة لمسار الأستانة كمسار للتفاهمات الأمنية وضبط الجغرافية العسكرية، سواء تلك المؤشرات المرتبطة بعنصر "الاستعجال" أو المتعلقة بتغليف أولوية تثبيت الأستانة بخطوات ما دون سياسية، أو حتى تلك التي تنتظر مؤشرات طمأنة للفواعل الإقليمية والدولية، ناهيك عن عدم وضوح الموقف الأمريكي وجملة المتغيرات متوقعة الظهور في المنطقة، فإن فرصة ضبط ثنائية "البنية والوظيفة" لمؤسسات المعارضة الرسمية لن تنتظر كثيراً وهو ما ينذر – في حال عدم استغلالها – بالعديدات من التداعيات والانتكاسات.


([1]) كرئيس الوفد الروسي في أستانا "ألكسندر لافرتييف" المتعلقة حول مشاركة المعارضة حيث قال:" إن وافقت المعارضة فمرحب بها وان لم توافق فلن ينتظرها أحد في المؤتمر" في دلالة على رسالة روسية مفادها المضي أماماً بخصوص عقد هذا "الحوار"، وتصريحات لافروف في مؤتمره الصحفي في 3/11/2017 بأن هذا المؤتمر "المحاولة الأولى لتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 والمتضمن مساعدة الشعب السوري في إقامة حوار متعدد الأطراف".

([2]) كتصريحات الخبير والمحلل الروسي رئيس قسم الصراعات في الشرق الأوسط ومدير المجلس الروسي للشؤون الدولية ومدير معهد التنمية المبتكرة أنطون مادراسوف، للمزيد انظر أماليا زاتاي: " حوار بالإكراه يجمع السوريين في سوتشي "، صحيفة غازيتا الروسية تاريخ 4/11/2017، ترجمة وحدة المعلومات في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، الرابط الالكتروني: https://goo.gl/TBUzWu

([3])  في مؤتمر صحفي لرئيس العمليات الخاصة ضد الإرهاب في سوريا والعراق الجنرال جيمس جيرارد أن عديد القوات الأميركية في سورية 4000 مقاتل وقد انتشرت هذه الأنباء بسرعة وسط المحللين والإعلاميين، إذ أن المعروف رسميا" أن عدد القوات الأميركية هو 503 مقاتل. وفي توضيح لذلك تحدث الناطق باسم البنتاغون لصحيفة ميليتاري تايمز أن الجنرال قد أخطأ قليلا والعدد هو حوالي ال 4000 مقاتل وهم من القوات الخاصة الأميركية،

وبالمقارنة، فإن تعداد الفوج 75 وحدات خاصة يقارب 3.6 ألف مقاتل وللذكرى فإن لهذا الفوج أدوارا" متميزة في تاريخه فهو الذي تواجد في غرينادا عام 1983، وهو الذي غير الحكومة البنمية وأخذ 2000 أسيرا عدا عن 18000 قطعة سلاح مختلف وفي سجله عملية فاشلة في مقديشو، ويؤكد الروس أن فوجا" كاملاً من الوحدات الخاصة يعمل في سورية، وهذا يؤكد وجود القبعات الخضراء وليس مجرد عناصر حراسة وهي قوات من المارينز وأخصائيين من مختلف صنوف القوات الأميركية الجوية والبحرية منوهين إلى هذا الفوج هو من قام بقتل أسامة بن لادن.

([4])  فلاديمير شيرباكوف: " الولايات المتحدة تلقي في سوريا فوج وحدات خاصة وسوريا وموسكو تتوقع مفاجئات"، نيزافسيمايا غازيتا  4/11/2017 ، ترجمة وحدة المعلومات في مركز عمرا للدراسات الاستراتيجية  https://goo.gl/GgzBuq

([5]) أماليا زاتاي: " حوار بالإكراه يجمع السوريين في سوتشي "، مرجع سابق.

([6]) انتون تشابلين:" أميركا ستغادر سوريا خاسرة وروسيا تعد خطتها لتغيير النظام" صحيفة سفابودنايا بريسا، تاريخ 1/11/2017، ترجمة وحدة المعلومات في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، الرابط الالكتروني: https://goo.gl/qbkymq

 

التصنيف تقدير الموقف
الخميس, 14 أيلول/سبتمبر 2017 01:20

مقاربة معركة "إدلب وتحدياتها الوطنية"

لا يزال مسار "الأستانة" -بعد معركة حلب الشرقية-ماضياً في إعادة هندسة المشهد العسكري عبر فكرة الضامنين وتجميد مناطق خفض التصعيد وتوزيع النفوذ المباشر على مناطق سورية. كما يدفع هذا المسار باتجاه الضبط العسكري مع غموض في آليات تحويل ذلك إلى صفقة سياسية تنظُم عمل المرحلة الانتقالية. فبعد اتفاقيات التهدئة ومناطق خفض التصعيد، عمل على تعزيز هذه الاتفاقات بتفاهمات أمنية مع دول الجوار لـ"تذليل" المهددات الأمنية؛ وبترتيبات داخلية مع الفواعل المحلية للدفع باتجاه من حيثيات محلياتية كإدارة المعابر ونوع الهيئات المدنية والإدارية وتوزيع نقاط مرور إنسانية، وانتشار جديد للقوى العسكرية، وهذا ما دفع به المسار في الجنوب السوري وفي ريف حمص الشمالي وفي الغوطة الشرقية و"يرتجي" أن تتحول لمناطق استقرار نسبي.  ووفقاً لهذه الصيرورة يتركز حالياً اهتمام هذا المسار على جبهة إدلب، التي لا تزال تشهد تحديات جمة ناجمة عن كونها محط تهجير محلي وفق اتفاقات هدن عدة؛ واقتتال محلي أفرز تحولات بنيوية وانشقاقات وتحالفات جديدة وبروز هيئة تحرير الشام كقوة رئيسية تنحو باتجاه التحكم الإداري بعدما أحكمت السيطرة على معبر الهوى. وعليه يطمح التنبيه الاستراتيجي هذا لتبيان ما هو شكل السيناريو العسكري الذي سيدفع باتجاهه اجتماع الأستانة حيال معركة إدلب؟ ومنوهاً لطبيعة الاستحقاقات والتحديات الوطنية المتوقعة وسبل مواجهتها.

مقاربة المناطق الثلاثة

تعددت المؤشرات الدالة على نية أنقرة تعزيز ولوجها في الجبهة الشمالية ضمن سياق مسار الأستانة الذي أمن لها منصة مهمة لتعزيز قواعد التوافق مع الفاعل الروسي كمعادل لعلاقتها المتأرجحة مع واشنطن في سورية ولا سيما بعد الاتكاء الأمريكي الكامل على قوات PYD من جهة ولعدم اهتمامها بمناطق غرب النهر لصالح شرقه ومعارك الرقة ودير الزور من جهة أخرى، وتسارعت تلك المؤشرات بعد تنامي "قوة " هيئة تحرير الشام وامتلاكها لمفاصل حيوية في هذه الجبهة لا سيما على المستوى الإداري والاقتصادي، وبدء ظهور التصدع في بنى حلفائها المحليين، وهذا ما يُسرّع من سيناريوهات المواجهة مع الهيئة. وفي هذا السياق بدأت تتشكل حالياً العناصر الأولية لهذه المعركة والتي تقوم – وفقاً للعديد من التصريحات والمعلومات –على أدوار عسكرية واضحة لأنقرة وموسكو (الأكثر فاعلية في هذه المنطقة)؛ تفاهم أمني مع طهران والذي بدت ملامحه بالتشكل عبر مقاربة "إدلب مقابل ريف دمشق الجنوبي" ذو الحيوية الهامة لطهران لتشكيل طوق سيطرة يمتد من داريا إلى منطقة السيدة زينب؛ المواجهة العسكرية المباشرة مع هيئة تحرير الشام؛ بالإضافة لأدوار عسكرية محلية منسجمة مع حركية المعركة.

وعليه؛ تبدو الملامح الأكثر توقعاً لتلك المعركة بأن تقوم على مقاربة المناطق الثلاث، وهي جميعها مناطق تسيطر عليها قوى المعارضة وهيئة تحرير الشام (انظر الخريطة أدناه)، وتهدف لحصر هيئة تحرير الشام في المنطقة الوسطى بين المنطقة (1 و3)، وهذه المناطق مُبينة بالآتي:

  • المنطقة 1/ شرق سكة القطار خط حلب-دمشق: وهي منطقة منزوعة السلاح، تحت "حماية روسية" تُقاتل فيه هيئة تحرير الشام من طرف القوات الروسية، ويُطلب من المسلحين من الفصائل الأخرى مغادرتها، وتُدار من طرف المجالس المحلية للمعارضة بشكل قريب من نمط الإدارة الذاتية المحاطة بمعابر حدودية مع المناطق المجاورة لها مع المنطقة 2 غرباً أو مع مناطق سيطرة الميليشيات الإيرانية شرقاً. وتمتد من جنوب حلب حتى شمال حماه.
  • المنطقة 2 / ما بين السكة والأتوستراد: وهي منطقة يتوقع أن تنحصر فيها هيئة تحرير الشام وتقاتل فيها من طرف تحالف روسي وتركي مع السماح لنزوح المدنيين سواء باتجاه المنطقة 1 أو 3، وبالتالي دفعها إما لمواجهة عسكرية وجودية أو تفاهم يفضي لحلها وإنهاء تشكيلها السياسي والإداري والعسكري.
  • المنطقة 3 /غرب الأتوستراد – طريق حلب-دمشق: وهي منطقة تفيد المؤشرات والتفاهمات الدولية بأنها من ضمن النفوذ التركي بحيث يشن الجيش التركي هجوماً ميدانياً للسيطرة على هذا القطاع بالتعاون مع فصائل عسكرية محلية معارضة. وتمتد من الحدود التركية حتى أوتوستراد حلب -دمشق الدولي، وهذا يتطلب هيكلة عسكرية جديدة تحوي الفصائل المسلحة المنخرطة في قتال الهيئة أو إيجاد تفاهمات تقضي بإخلاء مقاتلي الهيئة من هذه المنطقة. وستدفع انقرة في معارك هذه المنطقة باتجاه تحجيم حزب الـ PYD وصد محاولاته في تحقيق الاتصال الجغرافي بين “الكنتونات" الثلاثة.

 

خريطة رقم (1)

تحديات المحافظة واستحقاقاتها

من المرجح أن تصطدم آلية تنفيذ هذه المقاربة بعدة عراقيل تمتد من مرحلة ما قبل التنفيذ حتى لما بعده، ووفقاً لهذه المقاربة المتوقعة، وبحكم تقلص هوامش القرار الوطني، فإنه ستتزايد تحديات المحافظة والتي يمكن شملها في ثلاث حزم، سيشكل حسن التعاطي معها فرصة لتعزيز تموضع المحافظة كمنطقة معارضة مدنية مدعمة بمنظومة عسكرية وطنية، وهي:

أولا: التحديات الإنسانية: تدلل المعلومات الواردة في الجدول أدناه إلى حجم المعاناة الإنسانية المتوقعة جراء تلك المعركة وهو ما يتطلب فاعلية مدنية تعمل على تحييد المدنيين سواء بمطالبة تواجد قوات أو منظمات دولية، أو بالدفع باتجاه مناطق محايدة وهي مناطق منزوعة السلاح يشرف عليها – أمنياً وإدارياً – فعاليات محلية. وفي حال تم اتخاذ قرار باستخدام الحل الصفري مع هيئة تحرير الشام في المنطقة 2 فسينجم عنه نزوح داخلي تجاه المناطق الأخرى.

 

جدول رقم (1)

ثانياً: تحديات الإدارة المحلية: تهدد هذه المقاربة ما تم إنجازه ضمن مجال الحكم والإدارة المحلية، وهو ما يفرض ضرورة ضمان (حماية ونقل) كوادر المجالس المحلية والنقاط الطبية والجهات الخدمية مع كافة معداتهم، بالإضافة لسياسات الاستجابة والفاعلية وتحييد المجالس المحلية عن الآلة العسكرية وحمايتهم من الاستهداف الروسي، وتحصينهم لتكون الجهة الوحيدة المخولة بإدارة الشؤون العامة في المناطق الثلاث وضمان تنقل كوادرهم عبر المعابر الروسية.

ثالثاً: تحديات عسكرية: وتتمثل في أمران، الأول: تحول معارك المنطقة لمعركة استنزاف طويلة، وهو أمر تعززه الخصائص القتالية النوعية لهيئة فتح الشام وما ستلجأ إليه من تكتيكات وأساليب مواجهة واختراق اللجوء للانشقاق لضمان اختراق صف المعارضة، والثاني: عدم انضباط الميليشيات المدعومة من إيران ومحاولتها تعطيل أي اتفاق، والتي تتمركز بدورها في ريف حلب الجنوبي وعلى طول امتداد طريق خناصر وصولاً إلى ريف حماه الشرقي.

مما لا شك فيه سيركز اجتماع " الأستانة 6" على سيناريو معركة إدلب والتي تدل المؤشرات على أنه قد يكون أقرب لسيناريو المناطق الثلاثة أعلاه، تلك المقاربة التي ستفرض مجموعة من التحديات العسكرية والإدارية والإنسانية، تزيد من أعباء وتحديات المحافظة إلا أن حسن التعاطي معها سيشكل فرصةً لتعزيز هوية المحافظة المدنية /المعارضة والمدعمة بمنظومة عسكرية وطنية.

التصنيف أوراق بحثية