للمزيد: https://bit.ly/48WyxWp
• تحاول "قسد" عبر إعلانها العقد الاجتماعي وتعديلاته وقانون الأحزاب السياسية كسب غطاء قانوني لسلطة الأمر الواقع التي تفرضها بالقوة على سكان منطقة شمال وشرق سورية، ولكن هذه النصوص تعاني من مشاكل شرعية وبنيوية وتطبيقية تفقدها قيمتها، في ظل هيمنة فكرية وسياسية وأمنية واضحة من قبل كوادر "حزب الاتحاد الديمقراطي".
• تفيد خارطة الفواعل السياسية أن جل حراكها يسير باتجاهين لا ثالث لهما: إما القبول بالانضمام إلى “الإدارة الذاتية" والرضى بقيادة وهيمنة "حزب الاتحاد الديمقراطي"، في استنساخ لتجربة حزب البعث في سورية من خلال "الجبهة الوطنية التقدمية" مع تحصيل بعض الأدوار الهامشية، أو التصنيف كمعارضة والتعرض للتضييق والمحاصرة.
• تخضع آلية صنع القرار والموقف السياسي داخل الإدارة لتوازنات تفرضها أجندات وإملاءات من قيادة "حزب الاتحاد الديمقراطي"، المتأثرة عضوياً بمحددات "حزب العمال الكردستاني"، مع الإقرار بوجود بعض المؤثرات الداخلية والخارجية على هذه القرارات.
• تنطلق محددات "الإدارة الذاتية" في تقاربها مع النظام من ضرورة تحصيل مكاسب تشرعن سلطة الأمر الواقع، وللبحث عن خيارات أخرى لمواجهة التهديدات التركية، كما أنها تنفتح على بعض الأطراف المعارضة في محاولة لتأطير مساحات عمل مشتركة تخفف من خسائرها، جراء عدم وجودها في الأطر الرسمية للمعارضة السورية.
• أثّرت عملية "نبع السلام" بشكل واضح على سلوك "قسد" السياسي إذ انفتحت على روسيا والنظام بشكل أكبر، كما كان للعملية أثر في تغليب "التيار اليميني" في حزب الاتحاد الديمقراطي والمرتبط بحزب العمال بشكل ملحوظ، على "التيار الإصلاحي" الذي حاول التقارب أكثر مع الغرب، كما أن دخول روسيا بشكل فاعل في الشرق السوري بعد عام 2019 أعطى الإدارة ورقة سياسية جديدة للتفاوض، لكنه اضطرها كذلك لتقديم تنازلات سياسية وأمنية، مع احتفاظها بهامش مناورة سياسية في علاقتها مع روسيا والدول الغربية.
• إضافة إلى الفجوات والمعوقات البنيوية داخل "قسد"؛ فإن مشروعها بشكل عام مرتبط باتجاهات الملف السوري المستقبلية، ففي حال تعزيز سيطرة المركز على الأطراف، ستحاول الإدارة تحصيل مكاسب بسيطة من النظام وداعميه. فيما يشكّل خيار تحريك الملف السوري فرصة لها لتقديم نفسها كشريك جديد، لكنه لن يلقى القبول الإقليمي والمحلي. بينما يرجح سيناريو بقاء الجمود كما هو عليه، وبالتالي استمرار سعي الإدارة لتكريس لامركزية الأمر الواقع.
تسيطر "الإدارة الذاتية" لـشمال شرق سورية منذ عام 2013 على مساحة واسعة من الجغرافية السورية، تربط معها مجموعات سكانية كبيرة، تتميز بالتنوع الإثني والديني والاجتماعي، ونظراً لما تمتلكه من تأثير مباشر على ديناميات الحكم المحلي الذي يتخذ شكلاً "فدرالياً"؛ فإن هذه الدراسة تحاول فهم واقع هذه الإدارة، وتلمّس اتجاهاتها المستقبلية، وذلك من مدخل الأداء السياسي لهذه الإدارة متمثلة في "مجلس سوريا الديمقراطية"، وأيضاً "قوات سوريا الديمقراطية"، ومعرفة عوامل استمرارها أو عدم استمرارها، في ظل تبدلات المصالح الدولية في سورية على وجه العموم ومنطقة شمال شرق سورية على وجه الخصوص.
تتمثّل إشكالية هذه الدراسة في تفكيك وتحليل المقولات والأداء السياسي لـ “لإدارة الذاتية"، وبيان مدى اتساقها مع رؤية الإدارة المعلنة، والمتمثلة بأنها "مظلة سياسية انعكاساً لإدارة التنوع فيها"، بينما تحاول فرض مشروعٍ سياسيٍّ ليكون "نموذجاً بديلاً" عن النظام السياسي الراهن، وذلك من خلال قياس مؤشرات الفاعلية الأداء السياسي، عبر رصد البيانات، وتحليل التصريحات الرسمية، وفهم بوصلة الاجتماعات والفعاليات، للتمكن من تكوين مقاربة تفضي إلى فهم واقع هذا المؤشر وسيناريوهاته المستقبلية.
تتبع هذه الدراسة منهج دراسة الحالة، فتفرد في فصلها الأول تفصيلاً حول المحددات القانونية الناظمة للحياة السياسية، وبيان حجم تحكّم الإدارة الذاتية "التي يشكّل حزب الاتحاد الديمقراطي عصبها الرئيس" في رسم هذه المحددات وأطرها العامة، سواء في العقد الاجتماعي المطروح، أو من خلال قانون الأحزاب الذي أعلنته الإدارة. بينما يستعرض الفصل الثاني سمات الحياة الحزبية في "الإدارة الذاتية"، ويقيس نوعياً مؤشر الحريات السياسية فيه، باعتبار ذلك تطبيقاً عملياً للمحددات القانونية أعلاه، وبالتالي تلمّس الفجوات ما بين النظرية والتطبيق.
أما الفصل الثالث فتحاول الدراسة فيه توضيح آليات صنع القرار السياسي ومؤسساته، وأبرز شخوصه، والعوامل المؤثرة فيه، وفهم أدوات "حزب الاتحاد الديمقراطي" للتحكّم في هذا القرار. ويوضّح الفصل الرابع الفلسفة والرؤية السياسية للإدارة، من خلال معايير عدة، كالحوار الكردي-الكردي، والموقف من النظام والتفاوض معه، ناهيك عن موقفها من الفواعل المحلية والخارجية. وقد تمت قراءة مؤشرات الأداء السياسي لـ “لإدارة الذاتية" خلال الفترة التي تلت إعلان وقف إطلاق النار عام 2019، من خلال محددات أساسية عدة هي: البيانات الرسمية، والتصريحات الصحفية لقادة الإدارة الذاتية، والنشاط الدبلوماسي سواء العلاقات مع القوى الدولية، أو مع القوى المحلية، بالانطلاق من عملية "نبع السلام" كنقطة تحول لما أحدثته من تغيرات جديدة في توازنات القوى شرق سورية، مدخلةً قوى جديدة بشكل فاعل إلى مناطق الشرق السوري.
وفي الفصل الأخير تحاول الدراسة بيان الاتجاهات المحتملة لمستقبل هذه الإدارة، في ظل الجمود السياسي والتمترس الجغرافي الذي يعانيه المشهد السوري منذ وقف إطلاق النار غير المعلن في عام 2020.
يعود تأسيس "الإدارة الذاتية" إلى 13 آب /أغسطس عام 2013، حين أعلن "حزب الاتحاد الديمقراطي pyd" خلال مؤتمر صحفي بمدينة القامشلي، حضرته آسيا عبد الله الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي، عن انتهاء المرحلة الأولى لمشروع الإدارة الذاتية، وتم إطلاق هيئات تنفيذية في مختلف مناطق سيطرة الحزب. مطلع 2014 تم الإعلان عن أول حكومة محلية في مقاطعة الجزيرة مؤلفة من عدد من الوزراء ينتمون إلى مكونات سياسية واجتماعية عدة(1)، وفي نهاية عام 2023 تم الإعلان عن عقد اجتماعي جديد تم من خلاله تغيير اسم "الإدارة الذاتية" إلى "الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال شرق سوريا"(2)، ومع انطلاق العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش ودعم التحالف الدولي لـ "وحدات حماية الشعب" الجناح العسكري لـ "حزب الاتحاد الديمقراطي"، تم الإعلان في 11 تشرين الأول/أكتوبر عام 2015 عن إطلاق تحالف عسكري تحت مسمى "قوات سوريا الديمقراطية/قسد" ضم إلى جانب وحدات حماية الشعب قوات عشائرية عربية، مثل "الصناديد" التابعة لقبيلة شمر(3)، وقوات "سوتورو" السريانية(4)، وكتائب أخرى.
في 10 كانون الأول/ديسمبر عام 2015 تم الإعلان عن تشكيل "مجلس سوريا الديمقراطية/مسد" وهو الجناح السياسي لـ “قسد"، وبذلك اكتملت ثلاثة أركان للمشروع الجديد تمثلت بـ: هيئة تنفيذية هي "الإدارة الذاتية"، قوات عسكرية "قسد"، ممثل سياسي "مسد". ويشكل كوادر "حزب الاتحاد الديمقراطي" الفاعل الأساسي في الأجسام الثلاثة.
وقد عملت "الإدارة الذاتية" على فرض نفوذها الإداري والأمني والاجتماعي والعسكري والسياسي في منطقة شمال شرق سورية، إذ شكلت قوات الأمن الداخلي "الأسايش" لحفظ الأمن، وقسمت المقاطعات وشكلت هيئات حكم تشريعية، وأطلقت نظام الكانتونات والكومينات لضمان الوصول إلى كل القرى والأحياء، كما تم تفعيل رئاسة تنفيذية مشتركة وهيئات تنفيذية على شكل وزارات، مثل: هيئة العلاقات الخارجية، هيئة الدفاع والحماية الذاتية، هيئة الداخلية، هيئة العدل، هيئة التربية والتعليم، هيئة الزراعة.
يحتاج "الإدارة الذاتية" إلى قواعد ونواظم قانونية كضرورة لضبط علاقة مؤسساتها بالمجتمع الذي تحكمه، وبهذا الإطار أصدرت عقداً اجتماعياً وقانوناً ناظماً للحياة الحزبية.
عملت "الإدارة الذاتية" على إضفاء شرعية دستورية لسلطتها التي فرضتها على منطقة شمال شرق سورية وعفرين كأمر واقع، من خلال إعلان وثيقة عقد اجتماعي. فقد أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي أن مجلس مقاطعة الجزيرة صادق بتاريخ 6 كانون الثاني/ يناير 2014 على ميثاق العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية، والذي كان بمثابة إعلان دستوري يتضمن: ديباجة، وتسع أبواب، تلاها إصدار 4 ملاحق إضافية(5).
تناولت مواد العقد الاجتماعي تعريفات للسلطة والمؤسسات التشريعية والنظام التعددي، ثم هيكلية "الإدارة الذاتية الديمقراطية" التي تشمل المجالس التشريعية ووحدات حماية الشعب والهيئات التنفيذية والقضائية والمحكمة الدستورية العليا، كما تناول موضوع الحريات والحقوق والواجبات، وحرية الإعلام وتشكيل الأحزاب السياسية، وقدم شرحاً عن المجلس التنفيذي والمجلس القضائي، والمفوضية العليا للانتخابات، والمحكمة الدستورية العليا، والمناهج التعليمية.
وصدرت أربعة ملاحق للعقد الاجتماعي، تضمن الأول الصادر عام 2014، تعديلات على هيكلية المجلس القضائي لمقاطعة الجزيرة، وعدّل الثاني الصادر عام 2014 المادة 54 لاشتراط أن يكون "الحاكم مشتركاً بين الجنسين"، وفي الملحق الثالث الصادر عام 2016 عدّلت بعض المواد المتعلقة بالهيكلية التنظيمية للمجلس التنفيذي لمقاطعة الجزيرة، وتضمّن الملحق الأخير الصادر عام 2018 تعديل المادتين 55 و58 من العقد الاجتماعي المتعلقتين بالحاكمية المشتركة لإقليم الجزيرة.
وبتاريخ 12 كانون الأول/ديسمبر2023 أصدرت "الإدارة الذاتية" النسخة المعدلة من العقد الاجتماعي الذي تضمن ديباجة وأربعة أبواب، وقد تمثّلت أبرز التعديلات في تغيير اسم "الإدارة الذاتية" إلى "الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا"، وتعديل تسمية "المجلس العام" إلى "مجلس شعوب شمال وشرق سوريا"، والتأكيد على اعتماد "النظام الديمقراطي البيئي المجتمعي"، مع استمرار مبدأ الرئاسات المشتركة، والإشارة إلى أن الإدارة جزء من جمهورية سورية "الديمقراطية"، كما تضمن العقد تغييرات طالت هيكلية البلديات في جميع المناطق، وتحويل هيئة البلديات إلى تجمّع واتحاد البلديات، وأقر استحداث مؤسسة رقابة ومجلس جامعات، وإنشاء مكتب مدفوعات مركزي، ومحكمة حماية العقد الاجتماعي التي تعد بمقام محكمة دستورية(6).
وبغض النظر عن المغالطات المفاهيمية حول العقد الاجتماعي المطروح؛ فإنه يعدّ بمثابة القانون الأعلى/الدستور، وعليه ستحاول الدراسة تتبع معايير المصداقية والقابلية للتنفيذ، من خلال أربع ركائز رئيسة وهي: شرعية هذا العقد، وأدوات إنتاجه، وفلسفته، ومستلزمات تنفيذه.
فيما يخص ركيزة الشرعية، وعلى الرغم من محاولة "قسد" إظهار هذا العقد على أنه مصدر شرعيتها الدستوري؛ إلا أن غياب مؤشرات التمثيل السياسي والقبول المجتمعي تجعل العقد بمثابة قواعد حكم سلطة أمر واقع، تهدف من خلاله إلى شرعنة وجودها الطارئ الذي استحوذت عليه بالتغلّب والقوة، دون أية مراعاة لآليات التوافق والتمثيل، سواء التوافق المجتمعي أو الانتخابات التمثيلية(7).
أما الركيزة الثانية المتمثلة بـأدوات إنتاج هذا العقد، فعلى الرغم من توفير إطار شكلاني يدل على مناقشات سبقت إنتاج هذا العقد؛ إلا أنها شهدت غياب التنسيق والحوار مع أهم الفاعلين السياسيين المحليين في منطقة شمال شرق سورية، مما يجعله عقداً من منظور "حزب الاتحاد الديمقراطي"، إذ تشير الوقائع إلى أن اللجنة مكونة من ممثلي أحزاب ومنظمات مدنية محسوبة على "حزب الاتحاد الديمقراطي" أو الأحزاب الموالية له، بينما غاب الممثلون الحقيقيون لمنظمات المجتمع المدني وبقية الأحزاب السياسية في المنطقة.
وفيما يرتبط بركيزة الفلسفة، تؤكد نصوص هذا العقد على مضمون فلسفة "حزب العمال الكردستاني" و"الاتحاد الديمقراطي" التي رسمها عبد الله أوجلان، ما يثبت أنه انعكاسٌ لثقافة سياسية حزبية، وليس إطاراً ثقافياً للمنطقة بكل مكوناتها وتنوعاتها، إذ أكد العقد على مبدأ "الأمة الديمقراطية"، وهو مدخل فكري رئيس لكوادر حزب العمال والاتحاد الديمقراطي للسيطرة على جميع مؤسسات الدولة، وفرض هذه الأفكار بالقوة على المجتمع، وتحويلها إلى إيديولوجيا رسمية، كما تدل المضامين القانونية لمواد هذا العقد على إشارات سياسية غير متفق عليها داخل مناطق سيطرة الإدارة وخارجها، كترسيخ فكرة الفدرالية بشكل عام، ووفق مفهوم "الإدارة الذاتية" للفدرالية بشكل خاص، عبر إطلاق اسم "إقليم شمال وشرق سورية"، إضافة للإشارة إلى اتخاذ علم ونشيد خاص، وقوى عسكرية خاصة، ومجالس تشريعية كذلك، كما تعد نصوص هذا العقد التفافاً واضحاً على العملية السياسية والمستندات القانونية الناظمة لها، كالقرار الدولي 2254 الذي أنتج لجنة دستورية بإشراف أممي، مهمتها كتابة دستور سوري جديد.
وأخيراً ما يتعلق بركيزة قابلية التنفيذ، فبالإضافة إلى غياب آليات تشكيل وتعيين مسؤوليها، والتي تعد مؤشراً دالاً على تحكّم الحزب في هذه الأدوات، وبالتالي مركزة القوة بيد الحزب؛ فإن غياب البنية المؤسسية والرقابة المستقلة والقضاء المستقل هي مؤشرات دالة على عدم القدرة على تحويل نصوص هذا العقد إلى واقع، وكل الإيحاءات والإشارات حول التنوع والتعددية والديمقراطية ستبقى صيغاً شكلانية، طالما استمر غياب أداوت إدارة التنوّع، وأدوات إدارة الاختلاف، وأدوات توزيع القوة بين مكونات هذه المظلة السياسية. إذ تؤكد المقاربات المحلية أن كوادر "حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني" يفرضون ما يريدون بالقوة على جميع المؤسسات والمجالس التشريعية والسياسية(8)، كما برزت مشاكل تعيين قادة "الإدارة الذاتية"، وحكام الأقاليم والمقاطعات وتشكيلات المجالس المدنية، بسبب تعيينهم دون انتخابات مباشرة ودون اشتراط الكفاءة، إنما وفقاً لمدى قربهم وولائهم لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي"(9).
أصدرت المجالس التشريعية بمناطق الإدارة الذاتية في 26 نيسان/ أبريل العام 2014، قانوناً ينظم عمل الأحزاب الكردية في مناطق سيطرتها، قوبل بمعارضة من أحزاب وشخصيات كردية، ويقضي القانون بوجوب حصول أي حزب سياسي كردي في سورية على ترخيص رسمي من المجالس لمباشرة عمله بالمقاطعات (الكانتونات) الثلاث التابعة "للإدارة الذاتية"، وهي: عفرين وعين عرب/كوباني والجزيرة، وفقاً للتقسيم المفروض من "حزب الاتحاد الديمقراطي" أواخر ديسمبر/كانون الأول عام 2013(10).
وتعمل الإدارة على تطوير قانون الأحزاب بين الحين والآخر، إذ بدأت في شهر كانون الأول/ديسمبر عام 2021 بصياغة قانون لتنظيم الحياة السياسية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، وذكرت أن المجلس العام التابع لها عقدَ اجتماعاً هو الأول من نوعه مع لجنة كتابة مسودة قانون الأحزاب السياسية(11)، وكانت إدارة إقليم الجزيرة التابعة "للإدارة الذاتية" قد أصدرت قانوناً خاصاً بترخيص الأحزاب السياسية في الإقليم بتاريخ 12/5/2018، تضمن 41 مادة، توضح شروط تأسيس الأحزاب وترخيصها، إضافة إلى وجود أربع مواد في نهاية القانون حول المخالفات والعقوبات لكل من لا يلتزم بالترخيص أو يخالف أحد شروطه(12).
ولا بد من الوقوف على المثالب القانونية لهذا القانون، المتمثلة في شرعية الجهة التي أصدرت القانون، ومراحل صياغة القانون وإقراره. فمن جهة شرعية الجهة مصدرة القانون، سواء اللجنة التي شكلها المجلس العام لكل المقاطعات، أو القانون الذي أصدره إقليم الجزيرة وحده، لا تعد هذه الجهات شرعية، لأنها لم تأت عبر انتخابات عامة، وإنما بالتعيين من قبل "حزب الاتحاد الديمقراطي"، ووفق العقد الاجتماعي تتكون مجالس الشعب لكل الوحدات الإدارية من أفراد يمثلون هذه الوحدة بما نسبته 60 بالمئة، و40 بالمئة من ممثلي المؤسسات والمنظمات (المحسوبة على الاتحاد الديمقراطي) حتى لو حصلت الانتخابات، الأمر الذي يضمن ل"حزب الاتحاد الديمقراطي" السيطرة على هذه المجالس، من أصغر وحدة إدارية وصولاً إلى المجلس العام. أما عن مراحل إقرار هذا القانون، فقد جاء نتيجة مشاورات من لجنة مكلفة من قِبل المجلس العام دون النظر والتشارك مع بقية الأطراف، كما أن لجنة تنفيذ القانون والموافقة على تشكيل الأحزاب مؤلفة من 6 أشخاص ممثلين عن: هيئات مكاتب العدل، والداخلية، والعمل، ومجالس الشعب، والرئاسة المشتركة، ومفوضية الانتخابات (13)، وهم محسوبون على سلطة الإدارة التي يتحكم فيها "حزب الاتحاد الديمقراطي"، وتعتبر هذه المؤشرات كافية لاعتبار الحزب متحكماً بمصادر وقنوات سن التشريع.
وبقراءة هذه التشريعات يمكن تلمّس ملاحظات قانونية عدة، أهمها: أن الحديث عن إصدار قانون أحزاب مرتبط بأن تكون هناك دولة وسلطة، ومؤسسات تشريعية على الأراضي السورية كافة، وهي مهمة الدولة بحكم وظيفتها التشريعية، وليست مهمة حزب أو ميليشيا عسكرية، كما أن القانون يجب أن يشمل الأراضي السورية كافة، وليس كانتوناً بحد ذاته. إضافة لثغرات قانونية تتعلق بالتنظير دون أي فاعلية على الأرض، كما أن الأحزاب يجب ألا تقوم على أساس ديني أو مذهبي أو مناطقي أو قبلي، أو على أساس التمييز بالعرق أو الجنس أو اللون أو الدين، وهذا غير متوفر عند مُصدري هذا القانون. إلى ذلك يجب ألا ينطوي نشاط الحزب على إقامة ميليشيات أو تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية، بل أن يبتعد عن استخدام العنف بكل أشكاله، وهذا ما لا ينطبق على "حزب الاتحاد الديمقراطي". إضافة إلى مسألة إعلان أهداف الحزب ومصدر تمويله، وهي مسألة غابت عن القانون، لأن واضعيه ينتمون إلى حزب لديه أجندات ومصادر تمويل غير معلومة، مما يجعلنا أمام تجربة مستنسخة عن إصدار نظام البعث لقانون الأحزاب، وتشكيل الجبهة الوطنية من الأحزاب التي يرضى عنها (14).
يبدو أن "قسد" استغلت هذا القانون ليكون وسيلة للضغط على الأحزاب، حتى المرخصة منها، فهي تعمل على التضيق عليها، وتكثر التعديات على الأحزاب السياسية في المنطقة من قبل الإدارة الذاتية وأذرعها العسكرية، وكمثال على ذلك: فقد أصدرت الإدارة قراراً يقضي بوقف نشاطات "الحزب الجمهوري الكردستاني" العامل ضمن مناطقها، وإغلاق المكاتب التابعة للحزب كافة، بذريعة ارتكابه مخالفات (15).
قبل التعديل الأخير للعقد الاجتماعي لم تكن هناك مؤسسة تمثل المحكمة الدستورية عند "الإدارة الذاتية"، للإشراف على مراقبة تنفيذ بنود العقد الاجتماعي وحمايته، وكان الأمر متروكاً للمؤسسات القضائية الموجودة في كل منطقة، علماً أن القضاء في مناطق الإدارة يمتلك نسبة فاعلية متدنية، إذ تحولت مؤسسات القضاء إلى دوائر تسيير معاملات أكثر منها دوائر عدلية دستورية، لما تعانيه المؤسسة القضائية من مشكلات في البنية والتمثيل، إضافة إلى سيطرة كوادر حزب العمال عليها. كما أن العقد الاجتماعي بات أقرب إلى النظرية دون تطبيق فعلي على الأرض، بسبب المركزية التي يفرضها "حزب الاتحاد الديمقراطي" على مختلف السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في مناطق سيطرة الإدارة (16).
تحاول "قسد" عبر إعلانها العقد الاجتماعي وتعديلاته، وقانون الأحزاب السياسية، كسب غطاء قانوني لسلطة الأمر الواقع التي تفرضها بالقوة على سكان منطقة شمال وشرق سورية، ولكن هذه النصوص تعاني من مشاكل شرعية وبنيوية وتطبيقية تفقدها قيمتها، في ظل هيمنة فكرية وسياسية وأمنية واضحة من قبل كوادر "حزب الاتحاد الديمقراطي"، تتجلى في مركزيتهم في عمليات إقرار القانون وتنفيذه وتفسيره، في ظل استمرار غياب أي قنوات قضائية أو رقابية مستقلة.
تنشط في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية تحالفات حزبية، كل تحالف مكون من عدد من الأحزاب يغلب عليها الطابع القومي الكردي، وهي أربع تحالفات رئيسة: أحزاب الوحدة الوطنية، حركة المجتمع المدني تف دم، المجلس الوطني الكردي، التحالف الوطني الكردي.
أعلن يوم 21 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2014 عن تأسيس "الإدارة الذاتية"، المشكلة من تحالف بين حركة المجتمع الديمقراطي وأحزاب سياسية وعشائر وتجمعات مدنية، وتم الإعلان يوم 18 آيار/مايو 2020 عن تحالف أحزاب "الوحدة الوطنية الكردية"، على رأسها "حزب الاتحاد الديمقراطي"، وتضم أكثر من 25 حزباً، موضحة في الجدول أدناه (17).
يعد تحالف أحزاب "الوحدة الوطنية" الممثل الرسمي للتحالف السياسي الذي يضم جميع مؤيدي مشروع "الإدارة الذاتية"، ويقوده "حزب الاتحاد الديمقراطي"، في تجربة قريبة إلى حد كبير من تجربة "الجبهة الوطنية التقدمية" التي يقودها "حزب البعث العربي الاشتراكي" عند النظام السوري، مع أدوار هامشية للأحزاب الأخرى، ومركزية قرار واضحة لحزب الاتحاد وقيادات حزب العمال، إذ تحصل هذه الأحزاب وفق مقاربات محلية على بعض المناصب في المؤسسات الخدمية، ولكن دون فعل حقيقي، وقد تحصل كذلك على بعض الدعم المالي، سواء للحزب أو لشخصيات بعينها بقصد "شراء الولاء" (18).
تأسست الحركة يوم 3 نيسان/أبريل عام 2011، وكانت تتألف من أربع كيانات رئيسة هي: مجلس شعب غربي كردستان، حزب الاتحاد الديمقراطي، اتحاد ستار، منظمة عوائل الشهداء. وكانت تمثل الواجهة السياسية لنشاط "الإدارة الذاتية" حتى تشكيل "مجلس سوريا الديمقراطي"، ثم توسعت لتضم 9 كيانات موضحة في الجدول أدناه (19).
تعد "حركة المجتمع الديمقراطي" أول واجهة سياسية لـ"حزب الاتحاد الديمقراطي" بعد تأسيس "الإدارة الذاتية"، وكانت كردية بالكامل، ولكن مع دخول مزيد من التحالفات والأحزاب السياسية تحت مظلة الإدارة أعلنت الحركة عام 2020 أنها تحولت إلى حركة مدنية تبتعد عن العمل السياسي، ويعد ذلك مؤشراً وازناً على محاولة "حزب الاتحاد الديمقراطي" التفاعل والسيطرة على المجال المدني.
تأسس يوم 26 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2011 ويضم أحزاب كردية سورية عدة، كان معظمها نشطاً قبل الثورة السورية، وللمجلس ممثلون في الائتلاف الوطني السوري وهيئة التفاوض السورية واللجنة الدستورية، وينخرط في تحالف سياسي إلى جانب تيار الغد والمنظمة الآثورية الديمقراطية تحت مسمى "جبهة الحرية والسلام"، ولكن تبدلت أسماء كثيرة من الأحزاب المشاركة فيه وتعرض لانشقاقات، ويوضح الجدول أدناه مكونات المجلس الوطني الكردي (20).
يمتلك المجلس الوطني الكردي شرعية دولية، باعتباره مشاركاً في هيئة التفاوض واللجنة الدستورية، فيما تحاول "الإدارة الذاتية" تحصيل الشرعية من فرض سيطرتها على الأرض، وسط استمرار فشل الحوار بين المجلس الوطني والإدارة. مما يجعل الحياة السياسية في منطقة سيطرة الإدارة لوناً واحداً يرفض أي محاولة معارضة، ورغم أن معظم أحزاب المجلس لديها مكاتب في مدن محافظة الحسكة، لكنها تتعرض لمضايقات متكررة من أجهزة "قسد" الأمنية، ويعلن المجلس الوطني الكردي صراحة عدم اعترافه بسلطة "الإدارة الذاتية" وتشريعاتها، وأصدر بيانات عدة تعارضها، كما أنه انخرط في حوار معها برعاية أميركية في إقليم كردستان العراق، ولكنه وصل إلى طريق مسدود.
تأسس عام 2016 من مجموعة أحزاب تركت المجلس الوطني الكردي، ويضم خمسة أحزاب رئيسة، موضحة في الشكل أدناه (21).
يحاول التحالف من خلال بياناته الرسمية أخذ موقف مختلف قليلاً عن "الإدارة الذاتية" و"المجلس الوطني الكردي"، ولكن لا يمكن قياس وزنه وتأثيره السياسي نتيجة عدم توفر البيانات الكافية، إذ يعلن صراحة رفضه لما حصل في رأس العين وعفرين، ويصف الوجود التركي بـ"الاحتلال"، وفي الوقت نفسه يوجه انتقادات "للإدارة الذاتية" بخصوص بعض الأمور الخدمية، ولكنه لا يناصبها العداء كما يفعل المجلس الوطني الكردي (22).
1. المنظمة الآثورية الديمقراطية: نشطت قبل الثورة كتيار معارض للنظام السوري بين أبناء المكون السرياني والآشوري في سورية، وتشارك المنظمة حالياً في الائتلاف الوطني السوري وهيئة التفاوض السورية واللجنة الدستورية، كما تعد أحد مكونات جبهة الحرية والسلام، ولديها مواقف تنتقد سياسات "الإدارة الذاتية" (23).
2. حزب الاتحاد السرياني: حزب سوري تأسس عام 2005، ينشط بين أبناء المكون السرياني في سورية، وهو مقرب من "حزب الاتحاد الديمقراطي"، أعلن بداية الثورة معارضته لنظام الأسد، يتزعمه بسام سعيد إسحاق، ويعد الحليف الأساسي لـ "لاتحاد الديمقراطي"، ومنخرط في "الإدارة الذاتية"، وله ممثلون في أجسام عدة، كعضوية الهيئة الرئاسية في "مسد" ويشغلها ايشوع كورية، وللحزب جناح عسكري ضمن "قسد" يسمى "السوتورو"(24).
3. الحزب الديمقراطي التقدمي: يعتبر نفسه أقدم حزب كردي في سورية، وكان يحظى بشعبية جيدة في الشارع الكردي، لكنه شهد انقسامات وخلافات بعد وفاة حميد حاج درويش الأمين العام للحزب (25).
4. حزب سوريا المستقبل: تأسس في مدينة الرقة عام 2018، يعتبر جزء من المنظومة السياسية التي تدعم مشروع "الإدارة الذاتية" وقوات قسد، ويتبنى رؤية سياسية تدعو إلى أن تكون سورية دولة "ديمقراطية تعددية لا مركزية"(26).
شهدت السنوات الماضية ولادة عدد من الأحزاب العربية، أبرزها: "حزب المحافظين" المدعوم من قبيلة شمر وقوات الصناديد، وهناك أحزاب وتجمعات سياسية في المنطقة محسوبة على النظام السوري أو روسيا، يتبين موقفها عبر البيانات التي تصدرها في كل مناسبة، ولكن تبقى فاعليتها أقل بكثير من "الإدارة الذاتية"، التي تمتلك علاقات دولية وإقليمية، وخاصة بعد معارك "قسد" مع داعش.
من خلال دراسة وضع الأحزاب والتحالفات السياسية في مناطق سيطرة قسد يبدو أن الحركات الحزبية بين خيارين لا ثالث لهما: إما القبول بالانضمام إلى "الإدارة الذاتية"، والرضى بقيادة وهيمنة "حزب الاتحاد الديمقراطي" في استنساخ لتجربة حزب البعث في سورية من خلال "الجبهة الوطنية التقدمية"، مع تحصيل بعض المكاسب المتمثلة بمقاعد هامشية في مؤسسات الإدارة وبعض الدعم المادي، أو التصنيف كمعارضة والتعرض للتضييق، وعدم إمكانية العمل بحرية، والتعرض للانتهاكات بشكل مستمر.
رغم وجود قانون للأحزاب وعقد اجتماعي تؤكد مواده على "الحريات السياسية واحترام حقوق الإنسان"، إلا أن الأحزاب السياسية لاقت صعوبات في عملها السياسي، ووصل الأمر إلى تحذير سلطة الرئاسة المشتركة لهيئة الداخلية في مقاطعة الجزيرة بداية شهر آذار/مارس 2017 الأحزاب غير المرخصة لمراجعة لجنة "شؤون الأحزاب السياسية" الإشكالية، مهددة بإغلاق المكاتب والإحالة إلى القضاء أصولاً(27)، إذ يتجلى هدف الإدارة من هكذا سياسات في أمرين: الأول سياسة الحظر والتضييق والضغط على الأحزاب المناوئة، أما الثاني فيتمثّل في تحصيل الاعتراف بشرعية سلطتها من هذه الأحزاب، وبالتالي الدخول في ديناميات الحياة السياسية وفق قواعد سلطة الأمر الواقع(28).
تقول "قسد" إنها تضمن حرية التعبير، ولديها قوانين تنظم الحياة السياسية والإعلام، لكن تُتهم الإدارة القائمة بالتسلط والتضييق على الحريات السياسية، فقد شهدت المنطقة عشرات الاعتداءات على مقرات الأحزاب المعارضة لسياسة الإدارة الذاتية ومنتسبي هذه الأحزاب، نذكر منها:
1. الاعتداء على مقر تابع لـ "المجلس الوطني الكردي" في بلدة عامودا ليومين على التوالي، في منتصف شهر كانون الأول/ ديسمبر لعام 2020(29).
2. هجوم مجهولين على مكتب "حزب الوحدة الديمقراطي الكردي (يكيتي)"، أحد مكونات المجلس الوطني الكردي، في مدينة عين العرب/كوباني شمال شرقي محافظة حلب، منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر لعام 2020، في اعتداء هو الرابع من نوعه على مكاتب تابعة للأحزاب الكردية شمال شرقي سورية، إضافة إلى اعتداء مماثل شهده مقر الحزب في مدينة الحسكة، ويُتهم عناصر يتبعون لما يسمى "الشبيبة الثورية" التابعة لحزب العمال بتنفيذ هذه الهجمات، فيما تتنصل "قسد" من المسؤولية(30).
3. وثقت مؤسسات حقوقية وصحفية عشرات الاعتقالات والاعتداءات على صحفيين ومؤسسات إعلامية، إضافة إلى قيام "قسد" بقمع التظاهرات الرافضة لسياسية الإدارة، واعتقال المشاركين، وإطلاق النار على المظاهرات في بعض الأحيان كما حصل في مدينة الشدادي في شهر آيار/مايو 2021(31)..
4. شهدت مدن أخرى مظاهرات ضد "الإدارة الذاتية"، منها المظاهرة الطلابية التي نظمتها مجموعة طلاب بمدينة الدرباسية، في 20 كانون الثاني/يناير عام 2021، أمام مركز الأسايش وحزب الاتحاد الديمقراطي تنديداً باعتقال عددٍ من المدرّسين الكُرد، وقوبلت بالضرب والإهانة من قبل عناصر الأسايش، واعتقال عدد من الطلاب (32).
وقد وثقت منظمات حقوقية سورية ودولية انتهاكات الإدارة للحريات وحقوق الإنسان في تقارير عدة، فقد ورد في تقارير اللجنة الأممية المستقلة للتحقيق في سورية توثيق دوري لانتهاكات قسد بحق المدنيين والحريات السياسية (33)، ومنها ما ورد من توثيق في التقارير الدورية التي تصدرها الشبكة السورية لحقوق الإنسان (34)، وتقارير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، الذي أصدر عدداً من التقارير التي يوثق فيها انتهاكات قسد بحق المدنيين والناشطين (35).
ترسم "الإدارة الذاتية" إطاراً عاماً يوحي بالتعددية وهوامش الحركة والعمل السياسي (36)، إلا أنه هامش ضيق، ولا يضمن تحقيق مؤشر الفاعلية للقوى السياسية المعارضة في هذا المجال، ولا سيما المجلس الوطني الكردي، وتوحي حالة الديكورية والتحكّم في مفاصل الحياة السياسية من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي على أنه يستنسخ تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي في حكم الدولة والمجتمع من جهة، وفي تعامله مع باقي القوى السياسية من جهة أخرى.
يضاف إلى ذلك التضييق على النشاط السياسي والإعلامي للجهات السياسية المعارضة تضييقاً ممنهجاً، تثبته تعاملات قسد مع المظاهرات والاعتصامات المعارضة لسياستها، إضافة إلى المنظمات الأخرى غير المنضوية في إطارها العام، مما يدل على أنها تحكم المنطقة بفكر شمولي (37).
يضمن "حزب الاتحاد الديمقراطي" عبر "الإدارة الذاتية" تحكمه بديناميات الحياة كافة، وبالفعل السياسي، سواء عبر المستندات الناظمة للحياة السياسية، أو عبر آليات تنفيذ هذه القوانين، والتضييق على كل الأصوات المناوئة، في سلوك مشابه لما فعله حزب البعث لبسط سيطرته على الحياة السياسية في سورية.
بعد استعراض القوانين الناظمة التي أسست لتحكم وسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي في الحياة السياسية داخل مناطق سيطرته، نحاول فهم المخرجات السياسية والمواقف التي تصدر عن "الإدارة الذاتية"، من خلال فهم كيفية صنع القرار، والعوامل المؤثرة في صنع القرار السياسي.
يمكن القول نظرياً إن آلية صنع القرار في "مجلس سوريا الديمقراطية" وبقية مؤسسات الإدارة الذاتية، تتبع للمكاتب السياسية والرئاسات المشتركة، ويطلع عليها المجلس العام المكون من ممثلي المناطق والأحزاب والشخصيات، وذلك بالاستناد إلى مبدأ التشاركية والتوافق، ولكن تدل المعلومات على استفراد قيادات حزب الاتحاد الديمقراطي بالقرار حتى دون علم بقية الأطراف، في كثير من الأحيان، فمثلاً: تم الإعلان عن وثيقة تفاهم بين "مسد" وهيئة التنسيق، ولكن نشرت أحزاب عدة توضيحاً ذكرت فيه أن التفاهم الذي جرى مع هيئة التنسيق كان بقرار فردي من "حزب الاتحاد الديمقراطي"، دون استشارتهم أو مشاركتهم(38).
الأمر الذي يشير إلى أن القرار يُتخذ أساساً ضمن دائرة ضيقة، وبإشراف مباشر من قيادات الحزب، وهذا التصرف يبعث على الاحتجاج أو التحفظ عند بعض الأطراف المنضوية تحت إطار مسد (39)، ويبرر هذا التفرّد من وجهة نظر الإدارة وفق مقاربات محلية نتيجة تمتع "حزب الاتحاد الديمقراطي" بصلاحيات واسعة داخل "مسد"، فهو من يتخذ القرارات المصيرية ويرسم سياسات المجلس، مع أدوار أخرى لبعض الشخصيات في المجلس.
وهذا يحيلنا إلى البحث عن آلية صنع القرار داخل بنية "حزب الاتحاد الديمقراطي"، إذ يتحكم "حزب العمال الكردستاني" بالقرار بشكل واضح، ورغم ذلك يمكن ملاحظة وجود تيارين؛ الأول: التيار التقليدي اليساري الاشتراكي، الذي يرى أولوية تمتين العلاقة مع النظام وإيران وروسيا على أنها الأكثر واقعية لإمكانية تحصيل مكاسب سياسية مرضية من هذه الأطراف، رغم وجود بعض الفروقات والاختلافات حول ذلك، ويمثل هذا التيار بشكل واضح: محمود رش، فوزة يوسف، آلدار خليل، بدران جيا كرد. والثاني: التيار الغربي، ويرى أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي هم الحليف الأقوى الممكن الاعتماد عليه، وتحصيل دور سياسي مهم في المنطقة عبرهم، ويمثل هذا التيار: إلهام أحمد، مظلوم عبدي (40)..
شهدت المرحلة التي سبقت عملية "نبع السلام" عام 2019 صراعاً بين التيارين، إذ حاول كل طرف جر الثقل السياسي لصالحه، لتميل الكفة لصالح التيار الأول بعد العملية، نتيجة تخلي الإدارة الأميركية عن حماية قسد، وموافقتها على إنشاء تركيا منطقة عازلة داخل مناطق سيطرة قسد، فأصبح التيار الأول صاحب الصوت الأعلى، وراجع كل من مظلوم عبدي وإلهام أحمد مواقفهما وأصبحا يبديان مرونة أكثر تجاه رأي التيار الأول (41). رغم ذلك تعرضت الإدارة لانتقادات من قيادة حزب العمال بخصوص ملفات عدة، أبرزها الحوار الكردي-الكردي، ما يؤشر إلى براغماتية من نوع ما تتمتع بها قيادة مسد (42).
أما نفوذ حزب العمال الكردستاني داخل مؤسسات الإدارة فيمكن تلمّسه عبر النظر إلى بنية المؤسسات، ومن خلال التصريحات الرسمية، ففي بنية هذه المؤسسات يتبوأ مراكز صنع القرار في معظم المؤسسات إما كوادر كانت قد خضعت لدورات في قنديل، أو أنها تتبع لكوادر حزبية موجودة وتتدخل في كل تفصيل، وجميع المكاتب والهيئات تخضع للضغط والتحكم من قبل قيادات أمنية من كوادر حزب العمال، تشكل ما يشبه حكومة الظل في هذه المؤسسات (43).
ومن خلال التصريحات الرسمية، التي تحدث عنها قيادات الإدارة التي تقول إن العلاقة العضوية مع حزب العمال هي نتيجة تلاقي المصالح المشتركة، ولمشاركة كوادر الحزب في الدفاع عن المنطقة خلال هجمات تنظيم داعش، وكان مظلوم عبدي قد اعترف بوجود مئات المقاتلين والكوادر من حزب العمال ضمن تشكيلات الإدارة للتدريب والاستشارة (44)، فيما يتفق عدد من المتابعين والناشطين من أبناء المنطقة أن "حزب الاتحاد الديمقراطي" وهياكله العسكرية والمدنية يشكل الجناح السوري من حزب العمال الكردستاني، وكل تلك الهياكل والأطر التنظيمية والسياسية والمسلحة تعبيرات شكلية، بينما القرار الفعلي بيد قيادة حزب العمال في قنديل(45).
محددات القرار السياسي: عوامل داخلية وخارجية
رغم المركزية التي تبدو واضحة في سياسات "حزب الاتحاد الديمقراطي" المتحكم الفعلي بـ"مجلس سوريا الديمقراطي/ مسد" إلا أننا يمكن أن نتلّمس عوامل مؤثرة واضحة على الأداء السياسي، منها ما هو داخلي يتمثل في موقف مكونات "مسد" نفسها من أحزاب ومكونات اجتماعية، أو خارجي متعلق بتبدلات الموقف الدولي من القضة السورية.
فيما يتعلق بالعوامل الداخلية المؤثرة، يمكن حصرها بالعوامل التالية (46):
1. موقف "حزب العمال الكردستاني" وقياداته من مختلف القضايا، إذ يؤثر الحزب في قرارات "الإدارة الذاتية" ومواقفها السياسية من تركيا أو إقليم كردستان العراق، انطلاقاً من موقف الحزب نفسه.
2. مواقف مكونات "مسد" من بعض القضايا، كالتعاطي مع حكومة النظام مثلاً، والتي تقابلها بعض المكونات خاصة في دير الزور والرقة بالرفض لسيطرة النظام والميلشيات الداعمة له خصوصاً الإيرانية.
3. الأخذ بعين الاعتبار التوازنات العشائرية، إذ يتم مراعاة مصالح بعض وجهاء وشيوخ العشائر.
أما بالنسبة للعوامل الخارجية المؤثرة على صنع القرار داخل الإدارة، فتتشكل في ثلاثة مستويات:
1. التغيرات الإقليمية والدولية تجاه النظام السوري وحلفائه.
2. موقف الشركاء الدوليين الداعمين لـ “قسد" ومؤسسات الإدارة الذاتية.
3. التهديدات التركية والمتغيرات في السياسة التركية فيما يتعلق بالشأن السوري.
يتأثر "حزب الاتحاد الديمقراطي" ببعض العوامل الداخلية والخارجية مع الحفاظ على مركزية القرار، ومدى تناسبه مع أفكار وأيدولوجيات الحزب، دون أن يعير بالاً لتخوفات أو آراء المكونات الشعبية في مناطق سيطرة "قسد"، وما حصل في دير الزور من انتفاضة مطلبية دليل مهم على تجاهل هذه المطالب، واتهام المنتفضين بالتبعية لأجندات للنظام(47). وشهدت مدينة القامشلي ومدن عدة في الجزيرة السورية احتجاجات استمرت أكثر من أسبوعين، رفضاً لقرار رفع أسعار المحروقات، ورغم ذلك لم تستجب "قسد" و"الإدارة الذاتية"، واكتفت ببيانات حول تفهمها للمطالب دون تراجع عن القرار، مما اضطر القائمين على الاحتجاجات لإعلان وقفها (48).
يبدو أن أبرز عوامل التأثير على القرار السياسي الخارجي هي مصالح وتوجيهات القوى المشغّلة مثل الولايات المتحدة، أو من يقدمون الدعم أو الرعاية مثل نظام الأسد وإيران، وبذلك يمكن القول: إن "الإدارة الذاتية" تتمتع بالقدرة على التوفيق بين المتناقضات إلى الآن (49).
يمكن الاستنتاج من خلال هذه المؤشرات أن آلية صنع القرار والموقف السياسي داخل الإدارة تخضع لتوازنات، تفرضها أجندات وإملاءات من قيادة "حزب الاتحاد الديمقراطي"، الخاضعة بدورها لحسابات "حزب العمال الكردستاني"، مع الإقرار بوجود بعض المؤثرات الداخلية والعوامل الخارجية على هذه القرارات، وعدم قدرة الإدارة على احتواء تلك المؤثرات يدل على فشلها في أن تكون مظلة سياسية ممثلة لجميع مكونات وأحزاب المنطقة.
من خلال رصد أهم البيانات والتصريحات السياسية، والاجتماعات مع الأطراف المحلية والدولية التي حصلت عقب إعلان وقف إطلاق النار نهاية 2019 حتى نهاية شهر حزيران/ يونيو 2023، تم رصد أكثر من 120 مخرجاً، توزعت بين: بيان رسمي، وتصريح صحفي، واجتماعات محلية أو دولية.
ويمكن تحليل هذه المخرجات وفق ثلاثة معايير: العدد والمضمون والمستهدفين. من حيث نوع المخرجات: يظهر من خلال توزع القيم في الشكل أن الإدارة بمختلف مؤسساتها ومسؤوليتها اعتمدت بشكل كبير على التصريحات الإعلامية، ما يدل على تفاعلها وتواصلها المتزايد مع مختلف وسائل الإعلام، مستفيدة من الاهتمام الإعلامي بها خلال معاركها مع تنظيم "داعش"، فيما جاءت الاجتماعات الدولية (50) ثانياً، ما يدلل على قوة ونشاط مكتب العلاقات الخارجية لديهم، وكذلك الاجتماعات مع المكونات السورية.
ومن حيث المضمون: تدل النتائج على نهج سياسي واضح للإدارة، من خلال التصريحات والاجتماعات، فقد كثفت الإدارة من الحديث عن علاقتها مع الجانب الروسي بشكل ملحوظ في بيانتها وتصريحاتها، وذلك نتيجة دخول موسكو كفاعل جديد في الشرق السوري بعد عملية "نبع السلام"، لا سيما في رعايتها المفاوضات بين "قسد" والنظام، كما أظهرت النتائج تكثيفاً ملحوظاً في البيانات والتصريحات حول العلاقة مع نظام الأسد والمطالبة بالتوصل لشراكة في إدارة وحماية المنطقة، كما لم تخلُ من انتقادات لاستراتيجية النظام في التعامل مع القضية الكردية، وكذلك محاولة التطبيع مع تركيا، فيما صدرت بيانات وتصريحات عدة من "الإدارة الذاتية" تدين الهجمات التركية، وتطالب المجتمع الدولي بالتدخل لحماية مناطق سيطرتها من الهجمات التركية، ولوحظ من خلال البيانات ميلها إلى التقارب مع الدول العربية.
فيما يتعلق بمعيار المستهدفين: فإن الاجتماعات التي عقدتها الإدارة بلغت أكثر من 30 اجتماعاً داخل وخارج سورية، مع مكونات وأحزاب سورية، بهدف التوصل لصيغ تفاهم، سواء مع مكونات حزبية وعشائرية في منطقة الشرق السوري، أو أحزاب سياسية خارج سورية في دمشق أو خارج البلاد، ويعزى ذلك إلى تعثرها المستمر في الدخول إلى هيئة التفاوض السورية والمشاركة في اللجنة الدستورية، كما أنها عقدت لقاءات دولية متنوعة مع ممثلي خارجيات دول أوربية عدة، إضافة إلى الولايات المتحدة وروسيا.
ومن خلال تحليل نصوص البيانات الرسمية والتصريحات الصحفية، يمكننا استخلاص مواقف الإدارة السياسية خلال الفترة المذكورة من قضايا عدة، أهمها: الموقف من الفاعلين المحليين، الموقف من النظام والمفاوضات معه، الموقف من الحوار الكردي-الكردي، الموقف من العملية السياسية السورية، إضافة إلى الموقف من الفاعليين الدوليين، كالموقف من تركيا وروسيا والولايات المتحدة والدول العربية.
يمكن قياس هذا الموقف من خلال الرؤية السياسية للإدارة، وموقفها من النظام والتفاوض معه، وموقفها من المعارضة، وموقفها من الحوار الكردي-الكردي.
تكرر الإدارة ومؤسساتها أنها تتخذ من نظرية "الأمة الديمقراطية" لزعيم "حزب العمال الكردستاني" المسجون في تركيا عبد الله أوجلان مرجعاً لرؤاها السياسية كافة، والتي تستند إلى "اللامركزية ومبادئ المساواة والتعددية"، دون أن تدعي أنها تسعي لإقامة دولة قومية كردية في سورية (51). وبناء عليه تدّعي الإدارة أن رؤيتها السياسية المعلنة تعكس رؤية أبناء المنطقة نحو شكل سورية المستقبلية، ومنها ما أعلنته كمبادرة للحل في سورية في نيسان الماضي (52)، وهي رؤية ذات طابع يساري في بيئة متعددة الاتجاهات الثقافية والسياسية.
خلال عام 2023 ظهرت مناسبات عدة حاولت "قسد" استغلالها لإظهار بعض التغييرات في خطابها وعلاقاتها السياسية، انطلاقاً من كارثة الزلزال يوم 6 شباط/فبراير الذي ضرب تركيا والشمال السوري، حيث أبدت استعدادها لتقديم المساعدة، وبدأت بجمع تبرعات، وحاولت إظهار نفسها للسوريين على أنها طرف مرن ومبادر للتعاون مع مختلف الأطراف السورية، في محاولة لإحراج النظام والمعارضة(53)، وللسبب نفسه بادرت إلى إعلان استعدادها استقبال اللاجئين السوريين من لبنان(54)، كذلك حاولت استغلال التطبيع العربي مع نظام الأسد وإعادته للجامعة العربية، وأصدرت تصريحات وبيانات عدة، ويندرج ذلك التغيير في خطاب الإدارة كله ضمن تكتيك سياسي تحاول الإدارة تصديره مستغلة بعض المناسبات، دون أن يكون متأتياً عن مراجعات ناتجة عن تراكم وإرادة حقيقة في الإصلاح والتغيير.
وكانت "الإدارة الذاتية" قد أعلنت في 18 نيسان 2023 عن مبادرة تهدف إلى "التوصل إلى حل سلمي وديمقراطي للأزمة السورية"، داعية النظام السوري إلى "إظهار موقف مسؤول، واتخاذ إجراءات عاجلة تساهم في إنجاح هذه المبادرة". وفي بيان لها، أعربت "الإدارة الذاتية" عن استعدادها للقاء جميع الأطراف السورية "للحوار معها من أجل التشاور والتباحث لتقديم مبادرات وإيجاد حل للأزمة السورية"، ووفق بيان "الإدارة الذاتية"، نصت المبادرة على 9 نقاط، هي: " وحدة الأراضي السورية، مشاركة جميع فئات المجتمع، والاعتراف بالحقوق المشروعة لسائر المكونات، تطبيق تجربة النظام الديمقراطي المعمول به في مناطق شمال شرقي سوريا في بقية المناطق، توزيع الثروات والموارد الاقتصادية بشكل عادل بين كل المناطق السورية، استقبال النازحين والمهجرين في مناطق شمال شرقي سورية، استمرار جهود مكافحة الإرهاب، وقف التدخل التركي في الشؤون السورية، مطالبة الدول العربية بلعب دور إيجابي وفعال لإيجاد حل مشترك، طرح المبادرة على قاعدة وطنية، دعوة الجميع للمشاركة والإسهام في المبادرة"(55) .
تتحدث قسد بشكل متواصل في بياناتها عن حرصها على مراعاة حقوق جميع المكونات ومحاولة التقارب معها، خاصة العشائر العربية، إذ عقدت اجتماعات عدة مع وجهاء وشيوخ عشائر مؤكدة على شراكاتها السياسية معهم، ولكن انتفاضة العشائر في دير الزور في شهر أيلول عام 2023 أظهرت الفرق الكبير بين النظرية والتطبيق على الأرض، فقد رفضت "قسد" المطالبات العشائرية بتحسين ظروف المنطقة الأمنية والاقتصادية، وإعادة هيكلة مجلسي دير الزور المدني والعسكري ليكونا ممثلين لمصالح أبناء عشائر المنطقة، وليس تبعاً لمقياس الولاء لـ"قسد"، ناهيك عن التعامل مع الحراك العشائري باستخدام القوة والاعتقالات.
تدل المؤشرات على محاولة فرض رؤية "حزب الاتحاد الديمقراطي" على "الإدارة الذاتية"، مما يجعل هذه الرؤية محل اغتراب من قبل بعض مكونات الإدارة والحواضن الاجتماعية في المنطقة التي تسيطر عليها.
كانت وما تزال قضية التمثيل السياسي للكرد السوريين محل تنافس وخلاف مستمر في الوسط الكردي نفسه، تمظهر هذا التنافس ما بين "حركة المجتمع الديمقراطي/ تف دم" التي يتزعمها الاتحاد الديمقراطي، وبين أحزاب المجلس الوطني الكردي، وعلى الرغم من بدء هذه الحوارات في "هولير/أربيل 1 و2" 2012 و 2013، إلا أنها تعثرت كما لم تطبق مخرجات اجتماعاتها، ثم جاءت دعوة قيادة "قوات سوريا الديمقراطية" في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2019 للحوار بين الأطراف الكردية، والتي ترافقت مع دفعٍ أمريكي واضحٍ، مما يؤكد أن الرغبة في الحوار دافعها خارجي يهدف للوصول إلى صيغة توافق معقّدة؛ تتمكن عبرها من "التمكين المحلي"، و"التفاعل أكثر" مع المعارضة السورية و"تهدئة" الجانب التركي(56).
سبقت الجلسات إجراءات تعزيز ثقة، تمثلت في السماح بإعادة افتتاح مكاتب أحزاب المجلس الوطني الكردي في مناطق سيطرة الإدارة، وانطلقت أولى جلسات الحوار بين "أحزاب الوحدة الوطنية" المكونة للإدارة الذاتية و"المجلس الوطني الكردي"، في شهر نيسان/أبريل 2020 برعاية أميركية، تلتها جولتان، واستمرت المفاوضات حتى نهاية 2020، إذ تم الاتفاق على الرؤية السياسية المتمثلة بـ "سورية دولة ذات سيادة، يكون نظام حكمها اتحادياً فيدرالياً يضمن حقوق جميع المكونات"، واعتبار "الكُرد قومية ذات وحدة جغرافية سياسية متكاملة في حل قضيتهم القومية"، والاتفاق على تأسيس (المرجعية الكردية العليا) بنسبة 40% لكل طرف و20% لبقية الأحزاب والمستقلين. لكن الجولة الثالثة أظهرت نقاط الاختلاف بين الطرفين في نقاش ملفات: عودة بيشمركة روج(57)، المشاركة في الإدارة الذاتية، فك الارتباط بحزب العمال الكردستاني، المناهج التعليمية (58).
ويبدو أن سبب تعثر المحادثات يعود إلى رفض الشراكة الكاملة إدارياً ومالياً وعسكرياً، ورفض فك الارتباط مع حزب العمال وإخراج كوادره الأجنبية من المنطقة، كما أن الإدارة اشترطت لعودة قوات بيشمركة روج أن تكون تحت قيادتها وضمن مؤسستها العسكرية بمعزل عن المجلس الوطني الكردي، إضافة لمطالبة أحزاب المجلس بإصدار موقف واضح من الصدام العسكري بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال في إقليم كردستان العراق، وطلب الانسحاب من الائتلاف(59).
يمكن تصنيف أسباب فشل جلسات الحوار الكردي-الكردي ضمن سببين رئيسين:
1. ذاتي: نتيجة إصرار قيادة "قسد" على أنها المظلة الشرعية التي يجب على مختلف القوى الكردية الانضمام لها، إضافة إلى رفض مناقشة تعديل "الإدارة الذاتية"، أو شكل القوات الأمنية، في سلوك يشبه ما حاول نظام حزب البعث فرضه على القوى السياسية السورية بالانضمام إلى "الجبهة الوطنية التقدمية". كما أن مشكلات الصراع على السلطة وعلاقة الأحزاب الكردية بالحاضنة الشعبية، وأطماع بعض قيادات الأحزاب بالحصول على مكاسب اقتصادية من "قسد"؛ كانت سبباً في امتلاكها زمام المبادرة وقوة الموقف خلال جلسات الحوار.
2. خارجي: كارتباط كل من "قسد" والمجلس الوطني الكردي بحليف خارجي، الأمر الذي وسّع مساحة الاختلاف من كونه اختلافاً كردياً-كردياً إلى خلاف الحلفاء أنفسهم، مما أدى إلى إخفاق المحادثات، فقد رفضت "قسد" طلب التبرؤ من حزب "العمال الكردستاني"، وفي ظل انعدام الرغبة لإنجاح الحوار من قبل "قسد"، جاءت جلسات الحوار الأخيرة فقط استجابة للضغوط الأميركية دون تقديم أي تنازلات.
أعلن نظام الأسد مطلع شهر شباط/فبراير من عام 2020 موافقته على بدء مفاوضات جدية مع "مسد" بعد جهود ووساطات روسية. ومن خلال تحليل الخطابات طالبت "مسد" بإعادة النظر في قانون الإدارة المحلية للمشاركة في إدارة المنطقة، على أن تكون "قسد" جزءاً من منظومة جيش النظام، معلنة رفضها لمساري "سوتشي" و"أستانا"(60).
إلا أن هذه المفاوضات لم تستمر طويلاً، فقد أعلنت رئيسة مجلس "مسد" إلهام أحمد، في 19 كانون الأول/ديسمبر عام 2021، عن فشل المفاوضات التي ترعاها روسيا مع نظام الأسد، وقالت: "لم يتم التوصل إلى أي نتيجة في الحوارات السابقة مع النظام السوري في دمشق" وأضافت: "روسيا فشلت ولم تستطع لعب دور "الضامن" في الحوار مع النظام السوري"(61).
تشهد المفاوضات بين "مسد" والنظام حالات تقارب وتباعد، حسب الظروف والتطورات الإقليمية والمحلية، وبالأخص تلك المرتبطة بالتهديدات التركية، فمع كل مرة تهدد فيها تركيا بشن عملية جديدة شرق سورية؛ تشهد هذه المفاوضات تقارباً ولقاءات، حيث انطلقت جولة مفاوضات جديدة بين الطرفين في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 بين "قسد" والنظام السوري برعاية روسية، وكان وفد "مسد" برئاسة بدران جيا كرد نائب الرئاسة المشتركة في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، لكن النظام رفض مجدداً الاعتراف بـ"الإدارة الذاتية" و"قسد" دستورياً بأي شكل من الأشكال، لأن الاعتراف سيؤدي إلى تقويض سلطته المركزية في البلاد، فأعلنت "الإدارة الذاتية" فشل هذه المفاوضات. وكان النظام قد دعا إلى تسليم المنطقة له من دون أي شروط، ورفض بشكل قطعي القبول بمقترحات وفد "مسد" التي تعلقت بشرعنة "الإدارة الذاتية" وقوات "قسد" والآسايش(62).
تعمل "مسد" جاهدة للتقارب مع النظام، وتبدي رغبتها في ذلك، إلا أن مطالب الطرفين متباعدة، وقد أعلنت قيادة "مسد" في أكثر من تصريح لها رغبتها بالحوار والتفاهمات بشأن المنطقة، وانخراط "قسد" في جيش النظام، وتهدف من ذلك لشرعنة وجودها (63). ويبدو أن المحدد الأساسي في رغبة "الإدارة الذاتية" في التفاهم مع النظام تأتي كمحاولة لتجنّب الضغوط التركية، وكرد فعل على رفض إدخالها في المفاوضات السياسية الأممية ضمن وفد المعارضة، لكن رغم ذلك لم تتمكن "قسد" من تحقيق إنجاز واضح نتيجة إصرار النظام على "شروط تعجيزية".
بعد عدم تمكنها من الانضمام إلى مؤسسات المعارضة الرسمية، مثل هيئة التفاوض واللجنة الدستورية، اتجهت "الإدارة الذاتية" إلى البحث عن إطار جديد للعمل مع المعارضة السورية، وعملت على ذلك بجدية، وعقدت اجتماعات ولقاءات عدة داخل سورية، وفي فيينا وستوكهولم خلال عامي 2021 و2022، لكنها لم تجنِ ثماراً مهمة منها، لأن معظم من شارك في الاجتماعات من أطراف سياسية سورية؛ كان يخرج بنتيجة أن "مسد" تحاول فرض نفسها كطرف مهيمن لا كشريك، وترفض التنازل عن أي مكسب أو منصب سيادي (64). ويبدو أن الإدارة لم تنجح دبلوماسياً في تحقيق مكاسب سياسية بسبب أداء فريق عملها الذي تعثّر على مدار هذه السنوات، وما يزال يصر على قيادتها دون أي تغييرات جذرية قد تأتي بشخصيات تحظى بقبول إقليمي ودولي، ويمكن التفاوض معها (65).
إذاً تنطلق محددات الإدارة الذاتية في تقاربها مع النظام من ضرورة تحصيل مكاسب تشرعن سلطة الأمر الواقع، وللبحث عن خيارات أخرى لمواجهة التهديدات التركية، كما أنها تنفتح على بعض الأطراف المعارضة في محاولة لتأطير مساحات عمل مشتركة تخفف من خسائرها، جراء عدم وجودها في الأطر الرسمية للمعارضة السورية، أما فيما يتعلق بقضية الحوار مع المجلس الوطني الكردي فيبقى خارج اهتمامات الإدارة، ولا تستكمل جلسات هذا الحوار إلا بضغط غربي، وتكون جلساته غالباً صورية دون نتائج ملموسة، كما تبرز أمام الإدارة تحديات الشرعية المحلية والسياسية، وارتباطها بحزب العمال الذي يمنعها من فتح أي شراكة حقيقية.
تبيّن الفقرات أدناه طبيعة مواقف الإدارة الذاتية تجاه مختلف الفاعلين الدوليين، سواء كحلفاء أو خصوم أو دول أخرى.
طرحت "مسد" مرات عدة، استعدادها لإيجاد صيغة تفاهم مع تركيا، دون أن تتطرق للمشكلة الجوهرية المتمثلة بعلاقتها مع حزب العمال الكردستاني، وهو ما يجعل أنقرة ترفض الأمر بشكل قاطع، وتتعامل مع قيادات "قسد" و"الإدارة الذاتية" على أنهم جزء من حزب العمال المصنف على قوائم الإرهاب عندها، ولذلك عوّلت "مسد" على التغيرات الداخلية في السياسية التركية، وبدا ذلك في اهتمامها بالانتخابات التركية 2023، وأبدت دعمها لتحالف حزب الشعب وتحالف اليسار الأخضر، ونظمت مسيرات شعبية عدة لدعمهم في مناطق الشرق السوري، وتخوّفت من فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان(66).
وحول الضربات التركية لمواقع قوات "قسد" وقيادتها، كررت "مسد" إدانتها هذه الضربات، والطلب المتكرر من التحالف الدولي وروسيا وغيرها من الدول ذات النفوذ بالمنطقة العمل لوقفها، ومنع أي عملية عسكرية تركية في شمال سورية (67)، مع أخذ التهديدات التركية الدائمة على محمل الجد (68). وتؤكد المعطيات أن الإدارة لا تملك هوامش مناورة، بالتحديد بعد العملية العسكرية التركية "نبع السلام" 2019، فقد خسرت جزءاً من فاعليتها نتيجة الاتفاقيات التركية-الأمريكية والتركية-الروسية (69)، إذ استثمرت تركيا كل جهدها في سورية على تقليص قدرات "الإدارة الذاتية" العسكرية والسياسية والاقتصادية، وهذا واضح من استمرار سياسة استهداف كوادر "قسد"، من دون أي اعتراض أمريكي أو روسي، وكذلك زيادة فرض القيود على النشاط السياسي لـ"الإدارة الذاتية" في دول الاتحاد الأوروبي(70).
تدير قسد علاقتها مع موسكو وفق محددات عدة: فمن جهة أولى تنظر إلى موسكو كوسيط للعلاقة مع النظام، وقوة معادلة يمكن الاستفادة منها في التخفيف من التهديدات التركية المتكررة، ومن جهة ثانية فوجود القوات الروسية في منطقة الجزيرة السورية يتطلب إبقاءها في مناطق سيطرة النظام (71)، إذ تعتقد قسد أن روسيا لم تقم بدورها المطلوب للضغط على النظام لإنجاح المحادثات، وأن كلاً من روسيا والنظام يحاولان استخدام التهديدات التركية لدفع قسد للتنازل.
وقد شهدت علاقات "قسد" بروسيا شدّاً وجذباً، نتيجة عدم التزام موسكو بنقاط المراقبة في بلدتي عين عيسى وتل تمر، وعدم ضغطها على تركيا لإيقاف هجماتها عبر الطائرات المسيّرة التي تكرّرت مراراً. إلا أن دائرة الاختلاف المركزية تتحدد أكثر في الضغط الروسي على "قسد" لتسليم نقاط الحدود مع تركيا إلى النظام بشكل كامل، وانسحاب "قسد" إلى جنوب الطريق الدولي"M4"، وهذا ما ترفضه "قسد" جملة وتفصيلاً(72)، رغم إدراكها أن الوجود الروسي يشكّل ضامناً لعدم دخول الأتراك إلى مناطق نفوذها.
تتركز اجتماعات الوفود الغربية التي جاءت إلى مناطق الإدارة شرق سورية على موضوع محاربة الإرهاب، ووضع مخيم الهول، وقد استفادت الإدارة بشكل كبير من وضع المخيم وخاصة الرعايا الأجانب، إذ استقبلت منذ عام 2020 عشرات الوفود من مختلف دول العالم لمناقشة مستقبل المخيم وقاطنيه، ومخاطر وجود مقاتلي التنظيم وعائلاتهم على استقرار المنطقة (73). كما ركّزت الإدارة عبر مكتب العلاقات الخارجية وما يقوم به من زيارات لدول أوروبا والولايات المتحدة أيضاً على موضوع محاربة الإرهاب واستخدامه كفزاعة لضمان استمرار الدعم الغربي لها ولمؤسساتها، وعلى الرغم من نهاية العمليات العسكرية المباشرة ضد داعش، إلا أن قسد تطالب باستمرار بضرورة بقاء قوات التحالف الدولي على الأرض في المنطقة (74).
وتركز قسد في حراكها الدبلوماسي مع الوفود القادمة إلى سورية وخلال لقاءاتها في الخارج على موضوعين آخرين؛ أولهما: أن على تلك الدول إعادة تقييم علاقتها مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، أو هيئة التفاوض السورية من خلال شرعية تمثيل المكونات السياسية المعارضة(75)، ثانيهما: مطالبة "مسد" بشكل دائم بمزيد من الضغط الغربي لوضع حد للتهديدات التركية، وحماية مناطق الإدارة من أي عملية عسكرية تركية محتملة. لكن الحرب الأوكرانية أثرت بشكل واضح على تعامل الدول الغربية، فقد اضطرت لتقديم تنازلات لتركيا من أجل الموافقة على انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو(76).
أما عن علاقة الإدارة مع الولايات المتحدة فتتسم بأنها علاقة استراتيجية، تهدف من خلالها واشنطن إلى ضمان عدم عودة تنظيم "داعش"، إضافة إلى حرمان النظام وروسيا من الاستفادة من ثروات الشرق السوري، إلى حين التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية.
وبالتالي يتجلى موقف الإدارة الذاتية من الفاعلين الدوليين في محددات عدة، أهمها: الإبقاء على علاقة متوازنة مع كل من الولايات المتحدة وروسيا، تحكمها الحاجة للطرفين لحماية مناطق سيطرتها، مع الإبقاء على نظرية الشراكة في محاربة الارهاب، وتسعى للانفتاح على دول إقليمية عدة لمحاولة أخذها أداوراً مستقبلية تعوضها عن عدم مشاركتها في مؤسسات المعارضة الرسمية، ولكنها تواجه تحديات أبزرها الرفض التركي لأخذها أي دور محلي، أو حتى فتح علاقات إقليمية أو دولية.
يمكن تفصيل وقياس مؤشر الفاعلية السياسية وفق مستويات عدة، هي:
1. مؤشر الشرعية: على الرغم من محاولة "الإدارة الذاتية" إنتاج نصوص تشريعية لتحكم مؤسساتها، وإظهار شرعيتها في المناطق التي تسيطر عليها، إلا أن هذه النصوص تفتقد الشرعية بسبب طريقة صياغتها وإقرارها، وتعاني من مشاكل بنيوية في النصوص، إضافة لرفضها من قبل المجتمع نتيجة اعتمادها على فلسفة بعيدة عن طبيعة المنطقة، وفوق كل هذا بقيت النصوص حبراً على ورق دون تطبيق، نتيجة المركزية التي يفرضها "حزب الاتحاد الديمقراطي" ومن خلفه حزب العمال على مختلف المؤسسات السياسية والخدمية والأمنية.
2. الأداء السياسي: كان لعملية "نبع السلام" تأثير كبير في تغليب التيار اليميني داخل حزب الاتحاد الديمقراطي، ما عزّز استفراد شخصيات بعينها في صناعة القرار والموقف السياسي، مع استمرار تدخّل حزب العمال الكردستاني في مختلف الملفات السياسية والأمنية، ولكن بالوقت نفسه أفرزت "نبع السلام" حاجة قسد لتقديم بعض التنازلات لكسب أصدقاء جدد.
3. العلاقة مع القوى المحلية: لم تفلح جهود "مسد" في الدخول في هيئة التفاوض واللجنة الدستورية بسبب الرفض التركي، فانتهجت سياسة الانفتاح على مختلف القوى السياسية السورية داخل وخارج البلاد، ولكن إصرار قيادات حزب الاتحاد الديمقراطي على احتكار مركزية القرار، دون تقديم تنازلات جوهرية واضحة، وعدم فتح مجالات التشاركية الفعلية مع باقي القوى؛ أدى لإفشال معظم جلسات الحوار والتواصل، كما في إفشال جلسات الحوار مع المجلس الوطني الكردي.
4. العلاقات الدولية: يبدو أن سلوك "قسد" تغيّر نوعاً ما بعد "نبع السلام"، فقد استمرت في تعزيز علاقتها مع الغرب، وفي الوقت نفسه سعت أيضًا إلى التعاون والتحالف مع روسيا والنظام السوري مما دفعها لتقديم بعض التنازلات، ومع ذلك لم تنجح في تحقيق اختراق واضح، بسبب التطورات الدولية والمحلية، بما في ذلك تطور العلاقات الروسية التركية، وظروف الحرب في أوكرانيا التي دفعت الغرب إلى مراعاة المصالح التركية.
الاتجاهات المستقبلية لمشروع الإدارة الذاتية
يرتبط مستقبل الإدارة الذاتية بعوامل بنيوية، باتت تمتلك جزءها الأكبر من خلال سياسة التحكّم والضبط والمركزية التي تفرضها، إلا أن ذلك لا يعني أن البنية بشكلها العام لم تعد عرضة لانتكاسات تهدد المشروع وفق تسويق الإدارة له باعتباره مظلة سياسية، خاصة التحديات المرتبطة بملف تمثيل المكونات، وملف الحريات السياسية، وملف الحياة المدنية والسياسية.
كما يرتبط مستقبل هذه الإدارة أيضاً بمسيرة الحل السياسي السوري واتجاهاته المستقبلية، والتي تتراوح بين البقاء في حالة الجمود والتمترس الجغرافي، أو احتمالية عودة سيطرة النظام إلى مناطق شمال شرق سورية، أو إنجاز مقاربة جديدة للحل السياسي، كما هي موضحة أدناه:
تعتبر إعادة سيطرة المركز على الأطراف كافة احتمالاً له مؤشراته وعوائقه، من المؤشرات الداعمة له زيادة رقعة سيطرة النظام مع مرور الزمن والمتغيرات الدولية، وزيادة التعاون الإقليمي معه وازدياد عمليات التطبيع، أما عن معيقاته فتتمثل في الوجود الأميركي بالمنطقة وما يحدثه من معادلات أمنية، إضافة إلى عدم امتلاك النظام للأسباب المادية للقيام بعمل عسكري نتيجة ما يعانيه من أزمات اقتصادية وأمنية.
وفي هذا الاتجاه المحتمل، تعمل "الإدارة الذاتية" على خطوات تقارب ملحوظ خلال الفترة الماضية مع النظام وروسيا، محاولة تحصيل اعتراف من النظام والروس بسلطتها المحلية، وذلك عبر الحصول على حلول وسط من خلال الروس مثل منح حصة نفطية وإدارية، ودمج قوات قسد بالجيش، وهذا ما يمثل الحد الأدنى لمطالب "قسد" وأقصى ما يمكن أن يقدمه النظام. وعند نقاش مستقبل "الإدارة الذاتية" ومؤسساتها السياسية والعسكرية والخدمية، وعلاقاتها مع الغرب، يبدو أن هذا السيناريو بعيد المنال حالياً، نتيجة رفض النظام تقديم تنازلات جوهرية تفقده المركزية، إضافة إلى رفض تركيا منح الإدارة أي امتيازات تعزز سلطتها.
إن بقاء النظام في المركز ضعيفاً، وتعزيز قوة سلطات الأمر الواقع في مختلف مناطق السيطرة السورية، قد يؤدي إلى استمرار لامركزية الأمر الواقع. وفي هذا السياق قامت الإدارة بعدة خطوات تشكل مؤشرات داعمة لوجودها في حال استمرار هذا السيناريو كخطوات تعديل العقد الاجتماعي، وإعادة الهيكلة الجديدة، وطرح رؤى تنطلق من سلطة الأمر الواقع التي فرضتها. إلا أن أبرز معيقات هذه الخطوات تتمثل في تركيا وعدم قبولها بخطوات من جانب واحد كفرض لامركزية غير متناظرة، إضافة لرفض هذا الاحتمال من قبل روسيا والنظام.
وبالتالي يمكن للإدارة ومؤسساتها السعي للحفاظ على الوضع القائم دون تغييرات ميدانية أو سياسية، وتكريس سلطة الأمر الواقع في منطقة سيطرتها، مع إدخال بعض الشخصيات المقبولة محلياً ودولياً في قيادات الصف الأول، وهذا ما حصل فعلياً بتشكيلة "مسد" الجديدة، إضافة إلى تقديم تنازلات شكلية لصالح بعض المناطق مثل دير الزور، والحفاظ على علاقة متوازنة مع الروس والأمريكان، مع الحفاظ على الوضع الراهن حتى ظهور متغيرات جديدة، وهذا الخيار الأقرب للترجيح على المدى المنظور.
مع احتمال تحريك الملف السوري والضغط للوصول إلى حل سياسي سوري عام، ومع فشل تطبيق مخرجات القرار الدولي 2254، يمكن أن يتم طرح مقاربات جديدة منها خيار اللامركزية، وهو سيناريو تجهزت له قسد مسبقاً، من دعاماته: أن تستغل "مسد" الدعم الغربي لها في ملف محاربة الإرهاب، وحالة الجمود غير المستدامة، وخطر عودة انتشار الإرهاب والتطرف، إضافة إلى زيادة النفوذ الإيراني بعد حرب غزة، والتصعيد التركي ضد مناطق قسد، للدفع نحو تحريك الملف سياسياً.
لكن القدرة على اعتبار "قسد" شريكة في ذلك، يتطلب منها إبداء مرونة أكبر في التفاوض وقدرة أعلى على مواجهة خطر المليشيات الإيرانية، واتخاذ مواقف أقل عدائية مع تركيا وفصائل المعارضة السورية، مع إتاحة فرصة لإنجاح الحوار الكردي-الكردي، وإبداء مؤشرات حول القبول بإعادة هيكلة مؤسسات الإدارة، ومناقشة مستقبل قواتها العسكرية. لكن آليات صنع القرار في "مسد"، ومؤشرات أدائها السابقة، تجعل من هذا السيناريو مستبعداً، نتيجة رفض قادة "مسد" إعلان فك الارتباط بحزب العمال، وانخراط هؤلاء القادة بتنفيذ الأجندة السياسية التي يفرضها الحزب من قنديل، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع تركيا وإقليم كردستان العراق وإيران.
كما تجهد "الإدارة الذاتية" بالإبقاء على الوضع القائم، مستغلة التنافس الدولي وتضارب المصالح الإقليمية في منطقة شمال شرق سورية، ولكن مركزيتها المطلقة وتبعيتها الأيديولوجية بدأت تسبب لها أزمات متراكمة، وخاصة ما ظهر مؤخراً من انتفاضة عشائرية ضدها في دير الزور، من الممكن أن تتكرر في مختلف مناطق سيطرتها، ويرتبط مستقبل هذه الإدارة بالمتغيرات السياسية، التي ربما تحمل توافقات دولية وإقليمية من شأنها الإجهاز على مشروع الإدارة برمته أو تحجيمه.
([1]) بدر ملا رشيد، "المظلة الكردية المفقودة في سورية.. بين التناحر على السلطة والاتفاقيات الهشة"، مركز عمران للدراسات، 20/3/2019، تمت المشاهدة: 12/9/2023، الرابط: https://bit.ly/3Qeccwa
([2]) العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال شرق سورية، موقع الإدارة الذاتية، 12/1/2023، الرابط: https://aanesgov.org/ar/?p=9221
([3]) قوات محلية تتبع لقبيلة شمر العربية تنتشر في محافظة الحسكة قرب معبر اليعربية الحدودي مع العراق، أعلن عن تأسيسها عام 2013 وانضمت لـ "قوات سوريا الديمقراطية" عند تأسيسها، للمزيد: https://bit.ly/3MfiLxi
([4]) قوات محلية من المكون السرياني تتبع لحزب الاتحاد السرياني تنشط في القامشلي والحسكة منذ عام 2012، انضمت إلى "قسد" عند تأسيسها، للمزيد: https://bit.ly/3FxZvaw
([5]) ميثاق العقد الاجتماعي، الموقع الرسمي لحزب الاتحاد الديمقراطي pyd، 6/1/2014، تم الاطلاع بتاريخ:14/8/2023: https://bit.ly/495UnrS
([6]) العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال شرق سورية، موقع الإدارة الذاتية، 12/1/2023، الرابط: https://aanesgov.org/ar/?p=9221
([7]) بدر ملا رشيد، "قراءة في العقد الاجتماعي لفيدرالية الشمال"، مركز عمران للدراسات، 16/8/2016ـ تم الاطلاع 14/12/2023، https://bit.ly/3NstJ3e
([8]) مقابلات تم اجراؤها مع عدد من نشطاء الحسكة ودير الزور بعد إعلان العقد الاجتماعي الجديد بتاريخ 25/12/2023.
([9]) ملاحظات تم استخلاصها من ورشة عمل لمناقشة الأداء السياسي للإدارة الذاتية عقدها مركز عمران في مدينة ماردين بتاريخ 19/9/2023.
([10]) حزب كردي يصدر قانوناً للأحزاب الكردية بسورية، الجزيرة نت، 28/4/2014، تمت المشاهدة: 15/9/2023 https://bit.ly/3QtlplJ
([11]) العمل على صياغة قانون لتنظيم الحياة السياسية شمال شرق سورية، راديو بيسان، 22/12/2021، تمت المشاهدة: 10/9/2023، https://bit.ly/3QdTIMx
([12]) انظر النص الكامل المنشور على صفحة "مجلس العدالة الاجتماعية في الجزيرة" بتاريخ: 19/7/2018، الرابط: https://bit.ly/4aTM82P
([13]) انظر المادة 7 من نص قانون الأحزاب الذي أقره مجلس مقاطعة الجزيرة المنشور على صفحة "مجلس العدالة الاجتماعية في الجزيرة" بتاريخ: 19/7/2018، الرابط: https://bit.ly/4aTM82P
([14]) مقابلة مع المحامي والخبير القانوني إبراهيم ملكي، أجريت بتاريخ 6/12/2023
([15]) توقيف عمل الحزب الجمهوري الكردستاني في مناطق الإدارة الذاتية لمخالفته قانون الأحزاب، ادار نيوز، 15/10/2022، تمت المشاهدة: 9/9/2023، https://bit.ly/3QvqRo0
([16]) ساشا العلو، "الإدارة الذاتية: مدخل قضائي في فهم النموذج والتجربة"، مركز عمران للدراسات، 29/4/2021، تمت المشاهدة: 11/9/2023، https://bit.ly/40e3t1Q
([17]) نشوء الحركة السياسية الكردية في سورية وتطورها، مركز آسو للاستشارات، 7/2020، تمت المشاهدة: 23/9/2023، https://bit.ly/3Shpf2z
([18]) مقابلة مع سليمان، وهو اسم مستعار لناشط سياسي كردي يقيم في مناطق سيطرة الإدارة، طلب عدم التصريح عن اسمه لأسباب أمنية. أجريت عبر برنامج الواتس آب بتاريخ: 25/8/2023
([19]) المرجع نفسه.
([20]) مقابلة مع عبد الله كدو عضو الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني السوري ممثلاً عن المجلس الوطني الكردي، أجريت في مدينة اسطنبول بتاريخ: 13/8/2023.
([21]) لمزيد من المعلومات حول التحالف ومواقفه السياسية يمكن مراجعة صفحتهم على فيسبوك: https://bit.ly/472Fdlk
([22]) المرجع السابق https://bit.ly/472Fdlk
([23]) سلام حسن، "المنظمة الآثورية تهاجم "قسد" وتحذّر من التغيير الديمغرافي في سورية"، العربي الجديد، 23/1/2022، تم الاطلاع 11/12/2023 https://bit.ly/3TkQutE
([24]) جورج خابور، "حزب "الاتحاد السرياني" الأداة الطيعة بيد (PYD)"، عين المدينة، 24/10/2018، تم الاطلاع 11/12/2023 https://bit.ly/3NlMrtc
([25]) انشقاق جديد يعصف بأحد أكبر الأحزاب الكردية السوريةـ تلفزيون سوريا، 8/12/2023، https://www.syria.tv/243685
([26]) لمعرفة المزيد عن حزب سوريا المستقبل يمكن مراجعة الموقع الرسمي للحزب : https://bit.ly/3UVOV6k
([27]) "الإدارة الذاتية" تتجه إلى حظر الأحزاب الكردية المناهضة لها، عنب بلدي، 13/3/2017، تمت المشاهدة 25/9/2023، https://bit.ly/3Q9A1p4
([28]) عدنان أحمد، "قسد" تعتقل ناشطين وقياديين من المجلس الوطني الكردي في شمال وشمال شرقيّ سورية"، العربي الجديد، 18/7/2021، تمت المشاهدة: 25/9/2023، https://bit.ly/3tK633k
([29]) جلال بكور وعمار الحلبي، "سورية: اعتداء جديد على المجلس الوطني الكردي وأكبر أحزابه يثمن الإجراءات ضد العمال الكردستاني"، العربي الجديد، 15/12/2020، تمت المشاهدة: 27/9/2023، https://bit.ly/3s8h6D6
([30]) عبد الله البشير، "اعتداء جديد يطال مقراً لحزب "يكيتي" الكردي شمالي سورية"، العربي الجديد، 16/12/2020، تمت المشاهدة: 26/9/2023، https://bit.ly/3Se5bxX
([31]) هل ترضخ "قسد" لأصوات المتظاهرين أم تمضي في المواجهة؟، شبكة بلدي،19/5/2021، تمت المشاهدة: 26/9/2023، https://bit.ly/3QdtlGe
([32]) مظاهرة طلابية في الدرباسية قوبلت بالضرب والاعتقالات، يكيتي ميديا،20/1/2021، تمت المشاهدة: 26/9/2023، https://bit.ly/45KGcFG
([33]) تقرير اللجنة الأممية المستقلة للتحقيق المقدم للدورة العادية الـ 52 لمجلس حقوق الإنسان، 1/3/2023، من ص 21 إلى 24 من التقرير، https://bit.ly/3vE8llx
([34]) لا بديل عن العودة… انتهاكات قوات الإدارة الذاتية الكردية في محافظة الحسكة، الشبكة السورية لحقوق الإنسان،27/10/2025، https://bit.ly/3SeSBOF
([35]) قسد تقوّض النشاط المدني شمال شرقي سورية، المرصد الأورو متوسطي لحقوق الإنسان، 29/3/2020، https://bit.ly/49cxBxV
([36]) مقابلة عبر المسنجر مع د. فريد سعدون ناشط سياسي وأكاديمي يقيم في مناطق سيطرة الإدارة، أجريت بتاريخ: 10/9/2023
([37]) مقابلة مع سليمان، وهو اسم مستعار لناشط سياسي كردي يقيم في مناطق سيطرة الإدارة، طلب عدم التصريح عن اسمه لأسباب أمنية، أجريت عبر برنامج الواتس آب بتاريخ: 25/8/2023
([38]) عماد كركص وسلام حسن، "سورية: ملاحظات كردية على وثيقة التفاهم بين "مسد" وهيئة التنسيق"، العربي الجديد، 29/6/2023، تمت المشاهدة: 15/10/2023، https://bit.ly/499SHxG
([39]) مقابلة عبر المسنجر مع د. فريد سعدون ناشط سياسي وأكاديمي من القامشلي، أجريت بتاريخ: 10/9/2023
([40]) مقابلة مع عضو سابق في مكتب العلاقات الخارجية لـ "مسد"، أجريت عبر الهاتف بتاريخ: 9/8/2023
([41]) المرجع نفسه.
([42]) فلاديمير فان ويلجنبرج، "استراتيجيات قوات سوريا الديمقراطية في شرق سوريا"، المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية،10/11/2020، تمت المشاهدة: 2/10/2023: https://bit.ly/3tTXOSb
([43]) مقابلات عدة أجراها الباحث مع ناشطين وإعلاميين موجودين في القامشلي والرقة، ولكن لن يتم التصريح بالأسماء لأسباب أمنية.
([44]) قوات سوريا الديمقراطية تسعى إلى إيجاد طريق نحو استقرار دائم في شمال شرق سوريا، مجموعة الأزمات الدولية، تم النشر: 25/11/2020، تمت المشاهدة: 15/10/2023، https://bit.ly/3tP4H7y
([45) مقابلة مع عبد الله كدو عضو الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني السوري ممثلاً عن المجلس الوطني الكردي، أجريت في مدينة اسطنبول بتاريخ: 13/9/2023.
([46]) مقابلة مع سليمان، وهو اسم مستعار لناشط سياسي كردي يقيم في مناطق سيطرة الإدارة، طلب عدم التصريح عن اسمه لأسباب أمنية، أجريت عبر برنامج الواتس آب بتاريخ: 25/8/2023
([47]) حصل حراك شعبي عشائري في دير الزور نهاية شهر آب 2023، بعد اعتقال قسد لقيادة مجلس دير الزور العسكري، وقد تطور هذا الحراك من مظاهرات وقطع طرق إلى اشتباكات مسلحة، توسع نطاقها حتى شمل معظم مناطق سيطرة قسد في محافظة دير الزور، حاولت قسد السيطرة عليها عبر هجوم عسكري موسع تمكنت خلاله من إعادة سيطرتها على مواقع عدة، ولكن لم تنته الهجمات على حواجز قسد حتى بداية 2024، مع محاولة أطراف محلية وإقليمية استغلال الحراك لتحقيق مصالحها، وعلى رأسها إيران، للمزيد انظر: سامر الأحمد، "في مدلولات تصعيد قسد ضد مجلس دير الزور العسكري"، السورية نت، 30/8/2023، https://bit.ly/48AcMfA
([48]) صفحة "اعتصام حتى إلغاء القرار" على موقع فيس بوك، 1/10/2023، تمت المشاهدة: 1/10/2023، https://bit.ly/3FvjIxJ
([49]) مقابلة مع عبد القادر عاكوب ناشط سياسي ينحدر من مدينة القامشلي، أجريت بتاريخ: 19/9/2023
([50]) الاجتماعات الدولية تشمل الوفود الأجنبية التي زارت مناطق سيطرة الإدارة، أو زيارات مسؤولي الإدارة للدول.
([51]) فلاديمير فان ويلجنبرج، "استراتيجيات قوات سوريا الديمقراطية في شرق سورية"، المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية،10/11/2020، تمت المشاهدة: 2/10/2023: https://bit.ly/3tTXOSb
([52]) الإدارة الذاتية تدعو لتوسط عربي وأممي بحل مع الحكومة السورية، موقع رووداو، 18/4/2023، تمت المشاهدة: 2/10/2023: https://bit.ly/45MynPY
([53]) تداعيات زلزال شباط 2023 على المشهد السوري، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ص47، 31/3/2023، تم الاطلاع 1/12/2023، https://bit.ly/46Yt9RO
([54]) الإدارة الذاتية تتحرك لإعادة اللاجئين السوريين من لبنان، العربية نت، 20/6/2023، تم الاطلاع 10/12/2023، https://bit.ly/4ajtzoD
([55]) "الإدارة الذاتية" تعلن عن مبادرة لحل الأزمة السورية"، تلفزيون سوريا، 18/4/2023، تمت المشاهدة: 3/10/2023، https://bit.ly/3MeJque
([56]) بدر ملا رشيد، "رسائلٌ إيجابية بين الأطراف الكُردية.. تمنياتٌ مثقلة بالتحديات"، مركز عمران للدراسات، 10/3/2020، تمت المشاهدة: 3/10/2023 https://bit.ly/46J1Co5
([57]) هي قوات كردية تضم مقاتلين سوريين يقيمون في إقليم كردستان العراق، يتبعون سياسياً للمجلس الوطني الكردي، للمزيد يمكن مراجعة تقرير عبادة كوجان، أكراد سوريون تدربوا في كردستان العراق ويسعون للعودة، عنب بلدي، 12/6/2016، تمت المشاهدة: 25/10/2023، https://bit.ly/3SaPPKR
([58]) عبد الرحيم تخوبي، "الحوار الكردي-الكردي في سورية.. المجريات والدوافع والمصير"، مركز جسور للدراسات، 16/10/2023، تمت المشاهدة: 5/10/2023، https://bit.ly/3Q3hpa8
([59]) مقابلة مع عبد الله كدو عضو الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني السوري ممثلاً عن المجلس الوطني الكردي، أجريت في مدينة اسطنبول بتاريخ: 13/8/2023.
([60]) بشار خليل، "موسكو توافق على لعب دور الوسيط لإجراء مفاوضات جدية بين "مسد" ودمشق"، آرتا إف إم، 10/2/2020، تمت المشاهدة: 6/10/2023، https://bit.ly/3Sdhk6g
([61]) وسام سليم، "رئيسة "مسد" تعلن فشل المفاوضات مع النظام السوري"، العربي الجديد، 18/12/2021، تمت المشاهدة:6/10/2023، https://bit.ly/476NrbZ
([62]) مصادر كردية: المفاوضات بين "قسد" والنظام" توقفت بشكل نهائي و"باءت بالفشل"، شبكة شام، 19/6/2023، تمت المشاهدة: 7/10/2023، https://bit.ly/3Q9MHwa
([63]) "مسد" بشأن الاجتماع التشاوري العربي: نحن مع أي تسويات تعيد لسورية الاستقرار، شبكة رووداو، 15/4/2023، تمت المشاهدة: 8/10/2023، https://bit.ly/3FsBYIh
([64]) مقابلتان مع شخصيتين شاركا في مؤتمرات خارج سورية وفي الرقة مع "مسد “رفضا الكشف عن هويتهما.
([65]) مقابلة عبر المسنجر مع د. فريد سعدون ناشط سياسي وأكاديمي من القامشلي، أجريت بتاريخ: 10/9/2023
([66]) محمد عيسى، "عضو بـ"مسد": فوز أردوغان يهدد الإدارة الذاتية بـالتفكك"، شبكة رووداو، 15/5/2023، تم الاطلاع 15/9/2023 https://bit.ly/3Rs5BPc
([67]) عدنان أحمد، "مسد تطالب التحالف الدولي بمنع أي عملية عسكرية تركية شمالي سورية"، العربي الجديد، 26/5/2022، تمت المشاهدة: 9/10/2023، https://bit.ly/3SdIJFt
([68]) "مسد" تأخذ التهديدات التركية بجدية.. و4 محاور للعملية، المدن، 1/11/2021، تمت المشاهدة: 9/10/2023، https://bit.ly/3FBiVeA
([69]) اتفاق تركي أميركي بتعليق عملية "نبع السلام" وانسحاب الأكراد، الجزيرة نت، 17/10/2019، https://bit.ly/48RCD2S ، اتفاق روسيا وتركيا على إبعاد المقاتلين الأكراد عن الحدود السورية التركية، وكالة رويترز، 23/10/2019، https://bit.ly/3UGamIz
([70]) ياروسلاو لوكوف، "قمة الناتو: تركيا تطلب من فنلندا والسويد تسليم "إرهابيين" بعد الموافقة على انضمام البلدين للناتو"، موقع بي بي سي عربي، 29/6/2023، تمت المشاهدة: 15/10/2023، https://bit.ly/3s9dkJB
([71]) الاستراتيجيات المؤثرة على تطورات شرق سوريا، مركز الإمارات للسياسات، 20/11/2021، تمت المشاهدة: 20/10/2023: https://bit.ly/495HaiN
([72]) شفان إبراهيم، "قسد بين روسيا وأميركا والحوار الكردي – الكردي"، العربي الجديد، 19/9/2021، تمت المشاهدة: 10/10/2023، https://bit.ly/3MhhgP9
([73]) للمزيد حول الأوضاع في مخيم الهول ومخاطر عودة التنظيم يمكن مراجعة تقرير واشنطن بوست: https://bit.ly/476hAsi
([74]) قوات سوريا الديمقراطية تسعى إلى إيجاد طريق نحو استقرار دائم في شمال شرق سوريا، مجموعة الأزمات الدولية، 25/11/2020، تمت المشاهدة: 15/10/2023، https://bit.ly/3tP4H7y
([75]) إلهام أحمد: على المجتمع الدولي إعادة النظر بمنح الشرعية للائتلاف السوري المعارض بعد تقارب دمشق وأنقرة، موقع الإدارة الذاتية، 18/1/2023، تمت المشاهدة: 15/10/2023، https://bit.ly/40969xE
([76]) ياروسلاو لوكوف، "قمة الناتو: تركيا تطلب من فنلندا والسويد تسليم "إرهابيين" بعد الموافقة على انضمام البلدين للناتو"، موقع بي بي سي عربي، 29/6/2023، تمت المشاهدة: 15/10/2023، https://bit.ly/3s9dkJB
ملخص عام
يستعرض هذا التقرير أهم الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية في سورية خلال شهر آب، حيث انفجرت الأوضاع الأمنية في دير الزور على خلفية حل "مجلس دير الزور العسكري" واعتقال قيادييه على يد "قوات سوريا الديمقراطية"، لتندلع اشتباكات عنيفة بين قسد والعشائر العربية التي طالبت بتأسيس إدارة محلية حقيقية تمثل أبناء المنطقة. وفي الجنوب تصاعد الحراك الشعبي ليشمل محافظة السويداء بأكملها بمشاركة واسعة من أهالي المحافظة والمرجعية الدينية مطالبين بالانتقال السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254 بعد فشل النظام بتحقيق المطالب الشعبية طيلة اثنتي عشرة سنة.
كما يبيّن التقرير في قسمه الاقتصادي عدم جدوى محاولات النظام لتدارك الأزمة الاقتصادية الخانقة عبر زيادة رواتب العاملين إذ تجاوز ارتفاع أسعار السلع الأساسية ضعفي زيادة الرواتب، ليرتفع متوسط تكاليف المعيشة لعائلة مكونة من 5 أفراد في سورية إلى أكثر من 10.3 ملايين ليرة، وتواجه سورية عجزاً بنحو مليوني طن من القمح لسد احتياجات البلاد خلال عام 2023.
نقمة واحتجاج: نتاج مجتمعي لسياسات النظام
أعلنت لجنة الاتصال العربية بعد اجتماعها في القاهرة عن نيتها استئناف اجتماعات اللجنة الدستورية في نهاية العام ولكن في العاصمة العُمانية مسقط([1])، مع عدم صدور أي قرار رسمي للجنة الدستورية المُعارضة بخصوص تغيير مكان انعقاد الجلسات، ويأتي قرار اللجنة ضمن مساعي إنشاء مسار عربي لتحريك القضية السورية تقوده عدة دول عربية وتسعى للتعامل مع المهددات الأمنية المتعلقة بتبعات "الأزمة" على الأمن الإقليمي المتمثلة بتجارة الكبتاغون والانتشار الإيراني والمليشيات العابرة للحدود، وهو ما بدى جلياً في دعوة لجنة الاتصال الوزارية العربية إلى تكثيف التعاون بين سورية والدول المعنية والأمم المتحدة لمواصلة التصدي للتهديد الأمني الخطير من قبل تنظيم «داعش»،
في المقابل، قلّل بشار الأسد، في مقابلة تلفزيونية، من أهمية المبادرات العربية وشدد على أن العلاقات السياسية ليست كافية مالم تقترن بتقديم الدعم "للدولة السورية" لاستعادة قوتها ولتتمكن من الوفاء بالتزاماتها فيما يتعلق بمكافحة تجارة المخدرات التي أصبحت مصدر قلق للإقليم بأكمله، وتهيئة بيئة مناسبة لاستقبال اللاجئين. لم يقدم بشار الأسد أية إشارة للدول العربية حول إمكانية تقديم تنازلات من شأنها التحرك قدماً نحو الحل في سورية، حيث أصر على تكرار سردية التآمر الخارجي وصوابية نهجه الأمني في التعاطي مع المطالب الشعبية، مما يوضح أن غاية النظام للانفتاح على تلك البلدان كان اقتصادية بالدرجة الأولى بحكم تعاظم أزماته المالية والاقتصادية.
وفي إطار محاولاته لامتصاص حالة الغضب الشعبي الناجم عن تردي الوضع المعيشي في المحافظات الواقعة تحت سيطرته، أصدر الأسد مرسوماً يقضي بتغيير محافظ طرطوس الذي تعرض للضرب من قبل بعض الأهالي الغاضبين في بلدة دوير رسلان نهاية شهر تموز خلال لقاء جمعه مع أعضاء من مجلس البلدة ومجموعة من المواطنين([2]). إلا أن المحافظ الجديد، العميد المتقاعد "فراس أحمد الحامد" كان أحد أبرز قادة الأفرع الأمنية التابعة للنظام، ومدرج على لائحة العقوبات الغربية نظراً إلى دوره في دعم نظام الأسد والمشاركة في انتهاكات واسعة النطاق بحق الشعب السوري، الأمر الذي يدل على استمرار النظام في سياسية "تبديل الأدوار" والالتفاف على المطالب الشعبية في تعاطيه مع الأزمات المحلية المستمرة.
وفي ذات السياق وتأكيداً على فشل سياسات الأسد، يشهد جنوب سورية وتحديداً محافظة السويداء حراكاً اجتماعياً هو الأكبر منذ سنوات، إذ شكَّل الدافع الاقتصادي أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الاحتجاجات. ولكن دينامياته الراهنة تختلف من حيث اتساع نطاقه جغرافياً ليشمل 48 نقطة، ومشاركة المراجع الدينية إضافة إلى جزء من عشائر البدو، وذلك بعد محاولة نظام الأسد سابقاً صنع أدوات زعزعة داخلية في المدينة تشمل مستويين أحدهما إحداث فتنة بين أهالي السويداء والعشائر كما حدث في عام 2021، وثانيهما صناعة عصابات محلية تُسهم في الزعزعة الأمنية التي تُفضي إلى تصدير السويداء كمدينة تشهد اضطراباً أمنياً وتحتاج إلى تدخل "الدولة" كضامن للسلم المحلي هناك، وأيضاً ساهمت تلك العصابات بصناعة وتجارة الكبتاغون وإيصاله إلى الحدود الأردنية.
يتجه المشهد في السويداء نحو عدة سيناريوهات تتراوح بين أن يتبنى النظام لفكرة "اللا مبادرة" وتجاهل الحراك وذلك في حال اقتصر داخل مدينة السويداء ولم يمتد إلى مناطق سيطرة النظام الأخرى وبالتالي يُراهن النظام على الوقت لكسر إرادة المحتجين، أو أن يعمل النظام على تنشيط العصابات المحلية في المدينة عبر استفزاز الأهالي أو اغتيال بعض رموز الحراك وخاصة إذا أصبح هذا الحراك معطلاً لخطوط تهريب الكبتاغون.
وفي سياق "الدبلوماسية الروتينية" تسلَّم رئيس الائتلاف رسالة من وزيرة الخارجية الفرنسية تضمنت تأكيداً على الموقف الفرنسي من وجوب الانتقال السياسي في سورية وأن محاسبة مجرمي الحرب من الأولويات الفرنسية في الملف السوري، وأما من جانب الهيكلية الداخلية لمؤسسات المعارضة؛ فقد تمت إعادة انتخاب بدر الدين جاموس رئيساً لهيئة التفاوض السورية لدورة ثانية.
أحداث أمنية تقلق خرائط النفوذ
تصاعدت الأحداث الأمنية في مناطق متعددة من سورية. ففي شمال غرب شهد محور جبل الزاوية في ريف إدلب الجنوبي اشتباكات عنيفة مستمرة بين فصائل "الفتح المبين" وقوات نظام الأسد منذ عدة أيام، إذ اندلعت الاشتباكات بعد سيطرة الفصائل العسكرية على قرية "الملاجة" عقب عملية برّية بدأت بتفجير نفق حفره مقاتلو المعارضة من مناطق سيطرتهم إلى أسفل التجمع الرئيسي لقوات النظام في القرية، قبل أن يبدأ اقتحام النقاط والسيطرة عليها ثم الانسحاب مع الاحتفاظ ببعض النقاط الاستراتيجية، بالتزامن مع ذلك شنت الطائرات الروسية غارات جوية لمساندة قوات النظام في محاولاتٍ لاسترجاع النقاط التي خسرتها. وأسفرت الاشتباكات عن سقوط عشرات القتلى من قوات النظام حتى الآن، كما سقط 7 قتلى من مقاتلي المعارضة خلال ثلاثة أيام من الاشتباكات.
وفي شرق سورية، تصاعدت وتيرة الاقتتال بطريقة متسارعة على خلفية عزل "قوات سوريا الديمقراطية" لقائد مجلس دير الزور العسكري "أحمد الخبيل" واعتقاله مع قياديين أخرين بعد دعوتهم لاجتماع قرب مدينة الحسكة. وتطورت الأحداث بعد توجه قسد لانتهاج سياسة أمنية لاحتواء ردود الفعل([3]) التي نتجت بعد دعوات للانتفاض على قوات قسد والمطالبة بالإفراج عن قادة المجلس المحتجزين. إذ اندلعت اشتباكات عنيفة في بلدات العزبة والحصين في ريف دير الزور الشمالي وتم قطع الطرقات ما دفع عناصر قسد لترك الحواجز العسكرية والتحصن في مقراتهم.
ساهم استخدام قسد للعنف في وجه المحتجين بدفع عشائر أخرى للدخول على خط المواجهات ومنها عشيرة العكيدات([4])، الأمر الذي أدى لتوسع رقعة الاشتباكات لتشمل معظم ريف دير الزور الشرقي مطالبة بمعالجة مظالم أهالي دير الزور وإبعاد قيادات حزب العمال الكردستاني عن المنطقة. في حين تصر قسد على المضي قدماً في حملة "تعزيز الأمن" لملاحقة خلايا تابعة لتنظيم داعش ونظام الأسد ومجموعات "خارجة عن القانون". تعتبر هذه الأحداث الأمنية المستمرة والمتصاعدة اختباراً حقيقياً لمستقبل قوات سوريا الديمقراطية ومشروع "الإدارة الذاتية شمال وشرق سوريا"، وخرائط النفوذ والسيطرة في المنطقة.
من جهة أخرى، شهدت مناطق سيطرة النظام خروقات أمنية في مناطق كانت محصنة إلى حد بعيد لا سيما دمشق وريفها. حيث شهدت مدينة المعضمية انفجاراً لسيارة مفخخة بعبوة ناسفة، كما شهدت محافظة القنيطرة تفجيراً استهدف ضابطتين للنظام، وذلك بعد تفجيرات عدة شهدتها دمشق وريفها ومحافظات أخرى منذ شهر أيار، الأمر الذي يوضح ضعف القدرات الأمنية للنظام الذي يزداد اعتماده على الميليشيات غير النظامية من جهة، وتنامي نشاط تنظيم داعش الذي تبنى تفجيراً استهدف منطقة السيدة زينب من جهة أخرى.
وكثابت مستمر، تستمر الضربات الجوية الإسرائيلية في استهداف مواقع متفرقة لقوات النظام والميليشيات المرتبطة بإيران، وخاصةً مواقع ومستودعات الأسلحة، ومراكز تطوير الأسلحة لا سيما الصاروخية والمسيرات، والمطارات التي تستخدمها إيران لنقل الأسلحة.
أزمات اقتصادية تزيد من معدلات السخط والهجرة
أقرّ بشار الأسد مرسوماً تشريعياً ينص على زيادة الرواتب والأجور بنسبة 100% للعاملين في القطاع العام من المدنيين والعسكريين اعتباراً من شهر أيلول 2023 وبعد أيام ألحق الزيادة بمنحة مالية بنسبة 50% من الأجور لعدد من الفئات، كما رفع أسعار الوقود، وخفض الدعم عن مياه الشرب، بنسبة تصل بحدها اﻷدنى إلى 400% على خلفية قرار رفع تعرفة المتر المكعب للمياه، ورفع أسعار شرائح الكهرباء فوق 1500 كيلو واط بنسبة 20% والاسمنت بنسبة 100%، ومنذ إعلان الزيادة والشارع السوري يعيش صدمة حيث شهدت الأسواق موجة ارتفاعات طالت معظم السلع والخدمات بنسب فاقت الـ 300%، ليرتفع متوسط تكاليف المعيشة لعائلة مكونة من 5 أفراد في سورية إلى أكثر من 10.3 ملايين ليرة سورية بحسب مؤشر "جريدة قاسيون" بعدما كان في شهر تموز الماضي 6.5 ملايين ليرة في الوقت الذي لم يتجاوز فيه متوسط الرواتب بعد الزيادة الـ200 ألف ليرة، وعمد النظام إلى تغطية زيادة الرواتب من خلال إلغاء الدعم عن المشتقات النفطية والمياه والكهرباء حيث بلغت الوفورات من رفع الدعم 5 ترليون و400 مليار ليرة سنوياً. وتسببت تلك السياسات في هبوط مستمر لقيمة الليرة فاقت الـ 15 ألف ليرة أمام الدولار في حين سعّر المركزي سعر صرف دولار الحوالات عند 10900 ليرة وانخفضت القوة الشرائية للمواطن بالشكل الذي جعل الزيادة على الرواتب بدون جدوى، وهو ما يزيد من فقر السكان ومعاناتهم في تحصيل سُبل العيش، كما يشير إلى عدم نجاعة الإدارة الاقتصادية التي تتعامل مع الأزمة بحلول غير مجدية.
وعلى صعيد آخر ستضطر حكومة النظام إلى استيراد نحو مليوني طن من القمح لسد احتياجات البلاد فالكميات المسوقة من القمح خلال الموسم الحالي لن تتجاوز 800 ألف طن كحد أقصى، علماً أن الحاجة تقدر بحدود 3 ملايين طن، وأعلنت المؤسسة السورية للحبوب عن مناقصة لشراء 200 ألف طن من القمح الطري تقدمت لها شركات روسية.
وفي سياق تعزيز التقارب مع المملكة العربية السعودية، وبعد انقطاع للاستثمارات في سورية منذ العام 2011، منحت حكومة النظام رخصة لشركتين تعود ملكيتهما لمستثمرين سعوديين للاستثمار في قطاعات الفوسفات والأسمدة والإسمنت في سورية. بالمقابل فقد ضيقت المملكة مرور الشاحنات السورية عبر معبر نصيب وصولاً إلى الأراضي السعودية بعد طلبها مواصفات معينة للشاحنات القادمة من مناطق سيطرة النظام وهو ما تسبب بتوقف مئات الشاحنات والبرادات المحمّلة بالخضار والفواكه والبضائع المختلفة في معبر نصيب.
وفي مؤشر بالغ الأهمية وله دلالات اقتصادية، فقد تنامى معدل هجرة التجارة، لاسيما تجار حلب ودمشق، كما حلّ مع أكبر خمسة صاغة في دمشق من ضمنهم باشورة وسعيد منصور والجزماتي، الذين نقلوا كافة مخزونهم من الذهب والمقدر بحوالي 300 كيلو (ما يقدر بـ 1 بالمئة من إجمالي احتياطي البلاد من الذهب) إلى الخارج.
وبذات أدوات معالجة الأزمة التي يتبعها النظام رفعت "الإدارة الذاتية" في شمال شرقي سورية رواتب الموظفين العاملين لديها من مدنيين وعسكريين بنسبة 100 في المئة ليصبح الحد الأدنى للرواتب مليوناً و40 ألف ليرة سوريّة، وبلغ الحد الأعلى 8 ملايين و222 ألف ليرة سورية، وضاعفت أيضاً أسعار المازوت المخصص للتدفئة، وخصصت 300 لتر من مادة المازوت للتدفئة لكل منزل خلال الشتاء المقبل. وحول مشاريع التعافي المبكر التي يجري تنفيذها في شمال وشرق سورية، تم إنجاز 90% من مشروع طريق “عمبارة” الذي يربط مدينة القامشلي بالطريق الدولي M4، وبلغت ميزانية تعبيد الطرقات ضمن الخطة السنوية للمشاريع الاستثمارية لعام 2023 نحو 794,633 دولاراً.
وفي إطار الضبط والتحكم الاقتصادي، فقد أصدرت الإدارة قانونين، الأول “تنظيم أعمال الصرافة والحوالات” الذي حدد الحد الأدنى لرأسمال شركات ومكاتب الصرافة العاملة بـ500 ألف دولار لشركات الصرافة، و50 ألف دولار أمريكي كرأسمال لمكاتب الصرافة ، والثاني "تنظيم تجارة المعادن الثمينة وتصنيعها"، تضمَّن إجراءات الترخيص ومزاولة المهن المتعلقة بهذه التجارة، وعدم جواز مزاولة تجارة أو صناعة المعادن الثمينة والأحجار الكريمة إلا بعد الحصول على الترخيص من مديرية المعادن الثمينة في “مكتب النقد والمدفوعات المركزي”، كما صادقت الإدارة على مسودة قانون مكافحة غسيل الأموال والمؤلف من 66 بنداً .
أما في مناطق شمال غرب سورية، فقد رفعت المديرية العامة للمشتقات النفطية في "حكومة الإنقاذ" أسعار البنزين والغاز المنزلي، بعد مرور أكثر من أسبوعين على انقطاع مادة البنزين في المناطق الخاضعة لـسيطرتها.
ولتشجيع الاستثمار عقدت "الحكومة السورية المؤقتة" الاجتماع التمهيدي مع الفعاليات المحلية لعقد مؤتمر الاستثمار في المناطق المحررة والذي يهدف إلى تحقيق الارتقاء والنهوض بالبيئة الاستثمارية في الشمال السوري، وتم توقيع مذكرة تفاهم بين وزارة المالية والاقتصاد في الحكومة المؤقتة ومركز الدراسات والأبحاث في جامعة حلب ونقابة الاقتصاديّين ومؤسسة "IDEA 2020"، تضمنت سبل التعاون المثمر بين الأطراف الأربعة ضمن قطاع الاستثمار من خلال تبادل المعرفة والخبرات، وتحديد الأدوار والمسؤوليات، والتحضير لعقد المؤتمر الاستثماري الأول في الشمال السوري بغية تحقيق الأهداف المشتركة والارتقاء بالبيئة الاستثماريّة.
من جهة ثانية، لا تزال أزمة الكهرباء في مناطق ريف حلب تتفاعل على المستوى الشعبي حيث أثار رفع شركة “Ak Energy” لتوريد وتوزيع الكهرباء، أسعار الكهرباء، غضب الأهالي في ريف حلب، ما أدى لاحتجاجات وحالة توتر أمني أمام مقر الشركة في اعزاز([5]). ورفعت المجالس المحلية في الباب وقباسين وبزاعة ومارع دعاوى قضائية ضد شركتي الكهرباء بخصوص الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، وعدم الالتزام بالتسعيرة المحددة من قبل المجالس، وعلى إثر هذه الأزمة أعلنت المجالس المحلية عن رغبتها في استجرار عقود جديدة لتزويد المدن الثلاث بالطاقة الكهربائية كحل بديل عن المزود الحالي.
ومن بين أبرز المشاريع في إطار "التعافي المبكر " في ريف حلب وإدلب كان إنشاء 38 شقة سكنية في مخيم "الخيرات 5" بــكفرلوسين من قبل المنظمات والمجالس المحلية وبمتابعة من مديرية شؤون المخيمات، وقشط الزفت القديم في الطريق الواصل بين بلدة كفر كرمين ومدينة الأتارب تمهيداً لتعبيده، والبدء بمشروع تأهيل وتوسعة طريق الدانا الزراعي، بطول 1750 متراً وعرض 24 متراً. كما أجرت المؤسسة العامة للاتصالات توسعة وتمديد شبكة فرعية للهاتف الأرضي والإنترنت في شارع الثلاثين في مدينة إدلب، وتم البدء بتجهيز طريق عفرين كفرجنة البالغ 9500 متر بين المجلس المحلي في عفرين والتحالف العملياتي (الدفاع المدني السوري وسامز والمنتدى السوري) تمهيداً لتعبيده ويعتبر طريقاً حيوياً يربط بين عفرين واعزاز، وتوسعة الطريق العام في بلدة حزانو تمهيداً لتعبيده ضمن مشروع توسعة طريق إدلب - باب الهوى، وأطلقت منظمة "يداً بيد للإغاثة والتنمية" مشروع سكني "الأمل 2" في منطقة جرابلس، يتكون من 60 شقة سكنية لإيواء المهجرين.
([1]) تضم لجنة الاتصال العربية كلاً من مصر، والسعودية، الأردن، العراق، ولبنان
([2])تعرض محافظ طرطوس المعزول نهاية شهر تموز للضرب على يد أهالي في بلدة دوير رسلان، وذلك خلال لقاء جمعه مع أعضاء من مجلس البلدة المنحل ومجموعة من المواطنين الغاضبين، في أعقاب قرار وزير الإدارة المحلية في حكومة النظام حل المجلس البلدي إثر تجاوزات خلال انتخابات المجالس، الأمر الذي رفضه الأعضاء المنتخبون للمجلس المنحل وبعض الأهالي
([3]) أولى ردود الفعل على احتجاز قيادة "مجلس دير الزور العسكري" جاءت نتيجة دعوات من شقيق "أحمد الخبيل" وقيادات من المجلس لعناصره وأبناء عشيرة البكير، التي ينتمي لها الخبيل، والعشائر الأخرى للتمرد على قرار حل المجلس وعزل قيادته
([4]) تعد العكيدات أكبر تحالف عشائري في المنطقة ولها تاريخ من الخلافات مع أحمد الخبيل" أبو خولة" قائد مجلس دير الزور العسكري
([5]) رفعت شركة “Ak Energy” أسعار الكهرباء ذات الاستخدام المنزلي من 3.2 ليرة تركية، إلى 4.5 ليرة للكيلو واط الواحد، والكهرباء التجارية إلى 5.75، بعدما كانت أربع ليرات تركية.
مع بداية عام 2021 صرحت رئيسة "الهيئة التنفيذية لمجلس سوريا الديمقراطية إلهام أحمد بأن "هدف الإدارة الذاتية خلال العام الحالي يتمثل في إقامة مشروع مشترك مع المعارضة السورية وكافة أطراف الحل بهدف جعل مناطق شمال وشرق سوريا مركزاً للديمقراطية المشتركة في البلاد"([1])، وتأتي هذه التصريحات بعد تحولات كبيرة شهدتها المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية خلال السنوات الماضية.
بعد توقف العملية العسكرية التركية في المناطق الممتدة بين تل أبيض ورأس العين نتيجة اتفاقات تركية ثنائية مع كلٍ من الولايات المتحدة الامريكية وروسيا في الربع الأخير من 2019. لم تعد "الإدارة الذاتية" هي الفاعل المحلي الوحيد على جغرافية شرق الفرات. ما دفعها لإعادة ترتيب أوراقها بغية تحسين موقعها على الخارطة السياسية السورية. لكن مساعيها تلك تصطدم بجملة من العراقيل التي تحد من قدرتها على تمكين سلطتها محلياً والحصول على شرعية سياسية تمكنها من الدخول الى مسار العملية السياسية والتفاوضية كفاعل رئيسي في المشهد السوري.
ويظهر تاريخ الثوى السياسة الفاعلية "الإدارة الذاتية" قابليتها لإعادة التشكيل بصيغ مختلفة ضمن هياكل جديدة تمنحها قدرة أكبر على المناورة في المساحات الجديدة والتفاعل مع الأحداث المتغيرة، ابتداءً من انفرادها بالسيطرة على المناطق ذات الغالبية الكردية وإعلانها لمجلس شعب غرب كردستان في كانتونات منفصلة، ومروراً بتوسعها في مناطق شاسعة شرق الفرات بدعم من التحالف الدولي وطرح مشروع فيدرالية شمال شرق سوريا، تلاها تشكيل "الإدارة الذاتية الديمقراطية" في كامل الجغرافية المسيطرة عليها، وانتهاءً بحديثها عن مظلة سياسية تجمعها مع أطياف المعارضة السورية([2]). تحاول هذه الورقة فهم دوافع "الإدارة الذاتية" للانخراط في مظلة سياسية جديدة في هذا التوقيت، والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية التي تدفعها نحو هذا الطرح. إضافة لبيان مدى إمكانية نجاحها في تحقيق الأهداف المبتغاة منها.
ساهمت مجموعة من العوامل في تشكيل رؤية لدى الإدارة حول عدم قدرتها على إدارة المنطقة بشكل منفرد، وحاجتها إلى مظلة جديدة لتوسيع مشاركة المكونات السياسية والشعبية في إدارة منطقة شرق الفرات. ونذكر منها:
اتسم المشهد السياسي الكردي على مدى عقود بشيوع حالة من عدم التوافق بين مكوناته الرئيسية، ولم تفلح العديد من المبادرات الداخلية والإقليمية في الدفع نحو إنجاز توافقات توحد عمل الأطراف الكردية. لكن جملة المتغيرات المحلية والضغوط الدولية المباشرة -لا سيما بعد القضاء على آخر معاقل تنظيم الدولة في شرق الفرات- دفعت قيادة " قوات سوريا الديمقراطية" إلى إطلاق مبادرة للحوار بين الأطراف الكردية الرئيسية لحل المسائل العالقة وتشكيل جبهة كردية موحدة تحظى بشرعية على الصعيد الوطني الكردي.
وقد أدت جولات الحوار هذه إلى إعادة فتح مكاتب المجلس الوطني الكردي في المنطقة والسماح لكوادرها بالحركة وإقامة الفعاليات الحزبية والندوات السياسية، إضافة إلى الاتفاق على بعض المسائل المتعلقة برؤية سياسية موحدة للحل السياسي وشكل الحكم والمحاصصة الإدارية ([3]). إلا أن القضايا الإشكالية الكبيرة، وعلى رأسها التجنيد الإجباري، والعلاقة مع حزب العمال الكردستاني وتحكمه في مفاصل "الإدارة الذاتية"، ودخول البيشمركة السورية "بيشمركة روج" المتمركزة في كردستان العراق، والملف التعليمي، والإشكاليات المتعلقة بالعقد الاجتماعي، لا تزال عالقة وتشكل عقبة كبيرة أمام وحدة الصف الكردي.
ضمن مساعي احتواء المكونات المحلية كان أحد مخرجات مؤتمر أبناء الجزيرة والفرات الذي أقامته الإدارة بتاريخ 25/11/2020م، "العمل على الحوار مع المعارضة الوطنية السورية المؤمنة بالحل السياسي، والحفاظ على السلم الأهلي والأمن المجتمعي، وترسيخ مفهوم المواطنة والعمل على عودة المهجرين، والتحضير لانتخابات محلية في مناطق سيطرتها" ([4]).
وتعد قضية إشراك المكونات المحلية في الإدارة من النقاط الإشكالية التي تواجه الإدارة منذ تأسيسها، حيث ترى معظم المجتمعات المحلية أن مشاركة المكونات الشعبية في مؤسسات الإدارة، فضلاً عن صناعة القرار، هي مشاركة شكلية منزوعة الصلاحية، وأن أعضاء حزب العمال الكردستاني "الكادرو" هم رجال الظل الممسكين بمفاصل الإدارة) [5](. ويٌعتبر هذا الملف تحدياً حقيقياً للإدارة لتشابكه مع ملفات مصيرية، كفك ارتباطها مع حزب العمال الكردستاني وإخراج العناصر الأجنبية من سورية وهو أمرٌ – بحكم حركية الإدارة-لا يعدو عن كونه مناورة وحركة استيعاب تكتيكية تستطيع الإدارة من خلالها إرسال مجموعة رسائل متعلقة ببناء الثقة مع مختلف المكونات العرقية والدينية في المنطقة، وتخفيف الاحتجاجات الشعبية المستمرة لا سيما في دير الزور، والتي تهدد استقرار الإدارة وتؤثر سلباً على الصورة التي تصدرها للعالم كسلطة شعبية تعددية تمثل جميع مكونات المنطقة.
مع زيادة الفواعل المؤثرين في المشهد السياسي والميداني شرق الفرات، ازدادت التحديات التي تواجه الإدارة، وتدفعها نحو الانخراط في مظلة سياسية جديدة تضمن الحفاظ على مكتسباتها، والتغلب على التهديدات الخارجية، إضافة إلى مشاركتها في رسم مستقبل سورية بشكل عام.
تشكل العمليات العسكرية التركية تهديداً وجودياً لمشروع "الإدارة الذاتية"، فمنذ توقف عملية نبع السلام في مناطق تل أبيض ورأس العين، لم تستقر جبهة عين عيسى، العاصمة الإدارية وعقدة طرق المواصلات التي تربط شرق المنطقة بغربها، والتي تراوحت بين التصعيد والتهدئة المؤقتة. الأمر الذي شكل ضغطاً كبيراً على "السلطات المحلية"، تسبب في إيقاف متكرر لأعمالها الإدارية خلال فترات التصعيد. وتسعى تركيا عبر المناوشات العسكرية إلى إبقاء "الإدارة الذاتية" في حالة عدم استقرار، وإبعاد وحدات حماية الشعب YPG -والتي تصنفها كمنظمة إرهابية-عن حدودها لاعتبارات الأمن القومي التركي، وتؤكد أنها لن تقبل بمنطقة حكم ذاتي تسيطر عليها قوى مقربة من حزب العمال الكردستاني.
حاولت الإدارة إيصال رسائل إيجابية إلى تركيا، كان آخرها من مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية، الذي أبدى استعداده لإجراء محادثات سلام مع تركيا دون شروط مسبقة. إضافة إلى حديثه عن انسحاب تدريجي لعناصر حزب العمال الكردستاني من شمال شرق سورية ([6])، الأمر الذي لا تنظر إليه تركيا بجدية.
وترى الإدارة أن انفتاحها السياسي على المعارضة السورية بشكل عام قد يساهم في بناء علاقات جديدة مع تركيا دون الحاجة لتقديم تنازلات كبيرة لإبعاد إمكانية اندلاع حرب أخرى في المنطقة.
حصرت الولايات المتحدة أهداف وجودها على الأراضي السورية بمنع عودة تنظيم الدولة الى المنطقة، والتعامل مع التهديد الإيراني في سورية، إضافة إلى الدفع باتجاه الحل السياسي وفق مخرجات بيان جنيف وقرار مجلس الأمن 2254. كما تسعى لمنع استفادة تلك الأطراف الثلاثة (تنظيم الدولة، المليشيات المدعومة إيرانياً، نظام الأسد) من ثروات المنطقة. إلا أن تحقيق جملة هذه الأهداف يحتاج إلى شكل مقبول من الاستقرار في المنطقة وفي سبيل ذلك تواصل الولايات المتحدة الضغط على "الإدارة الذاتية" لتوسيع مشاركة المكونات المحلية، والبدء في حوار مع المعارضة السورية، والتضيق على نظام الأسد للقبول بالحل السياسي. وقد تسعى الإدارة للاستفادة من توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة-التي تضم شخصيات داعمة للإدارة ومتعاطفة معها- في الحصول على دعم للمظلة السياسية المنشودة.
مع دخول قواتها شرق الفرات بعد الانسحاب الأمريكي، لم تدَّخر روسيا جهداً في محاولة التوسع وإنشاء نقاط عسكرية على كامل مساحة شرق الفرات، وساهمت باتفاقات ثنائية مع تركيا وقوات سوريا الديمقراطية في تعزيز تواجد قوات النظام في عدة مواقع في الرقة والحسكة. كما استغلت التهديدات التركية -بعمليات عسكرية جديدة -في الضغط على الإدارة للوصول إلى اتفاق مع نظام الأسد وإعادة سيطرته على المناطق المهددة بالاجتياح، لكن عدم قبول النظام بنمط الحكم الذاتي الذي تطرحه الإدارة، وإصراره على سيطرة كاملة تشمل عودة جميع مؤسسات النظام وأجهزته الأمنية منع هذا النوع من الاتفاق.
من هنا يبدو أن الإدارة ترى أن انضمامها إلى مظلة سياسية، تحظى باعتراف دولي، قد ينهي مسلسل الضغوط الروسية الرامية إلى عودة نظام الأسد وبسط نفوذه على مدن ومحافظات شرق الفرات. أو من شأنه زيادة امتلاك الإدارة لأوراق قوة تفاوضية تستثمرها في مفاوضاتها مع الروس والنظام.
تسير محاولات التشكل السياسي الجديد في شرق الفرات نحو عدة سيناريوهات مفتوحة على عدة خيارات ستسعى “الإدارة الذاتية" لتبنيها وتحسين تموضعها وتخفيف الخسائر المحتملة؛ وهذه السيناريوهات هي
ويعني هذا السيناريو انجاز التوافق مع المجلس الوطني الكردي والدخول في مسار للمفاوضات مع المعارضة لا سيما الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة. فالإدارة تتطلع لحل الإشكاليات الأمنية مع الجيش الوطني، ووضع حد للعمليات العسكرية على مناطق شرق الفرات التي تهدد استقرارها، إضافة إلى حاجتها لاعتراف وشرعية تؤهلها للمشاركة في مفاوضات الحل النهائي. ومن جهة أخرى فقد يكون للائتلاف وقوى المعارضة الأخرى دور مستقبلي في تعبيد طريق المفاوضات بين تركيا والإدارة. كما أن إعادة ربط مناطق شرق الفرات مع غربها وانجاز جبهة موحدة للمعارضة السورية سيعزز قوة المعارضة على حساب نظام الأسد.
لكن هذا السيناريو يعتريه جملة من الصعوبات على المدى القريب بسبب العقبات الكبيرة في طريق تحقيقه. فقد تواجه الإدارة تحديات بنيوية في محاولة فك الارتباط مع حزب العمال الكردستاني، نتيجة الدور الجوهري الذي يلعبه كوادر الحزب في المنطقة وتغلغلهم في معظم قطاعات ومؤسسات "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية".
إضافة إلى انعكاس تدهور العلاقات بين حزب العمال الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني في إقليم كردستان العراق على سير عملية الحوار بين حزب الاتحاد الديمقراطي(PYD) والمجلس الوطني الكردي في سورية.
كما يتطلب تحقيق مثل هذا السيناريو خطوات جدية من قوى المعارضة الوطنية تتمثل في العمل على وثيقة سياسية جديدة، تتبنى شكل من أشكال اللامركزية التي تمنع عودة الاستبداد، وتراعي خصوصية ومخاوف مختلف مكونات الشعب السوري. إضافة إلى تسوية الخلافات الناتجة عن العمليات العسكرية في عفرين ورأس العين، والعمل على بناء جسور الثقة بين المجتمعات المحلية في شرق الفرات وغربه، الأمر الذي يحتاج لمزيد من الوقت والجهد.
إذ سيساهم سيناريو التجميد العام الذي يعتري المشهد الميداني والسياسي السوري في تجميد الوضع الحالي في شرق الفرات واستمرار المناوشات في نقاط التماس مع استمرار الوجود الأمريكي الذي قد يمنع أي عملية عسكرية تركية كبيرة. إضافة إلى اعتماد الإدارة خيار التوسعة الشكلية في تمثيل المكونات داخل الإدارة دون أن يؤثر على مركزيتها وتحكمها بمفاصل السلطة.
رغم أن هذا السيناريو يتوافق مع دوافع الإدارة ويتماهى مع الشكل الراهن للمشهد العام، إلا أن تكلفته عالية خاصة مع الإدراك التام لغايات أنقرة الرئيسية في المشهد السوري والذي يتمثل بتخفيف كافة مسببات القلق الأمني لها والمتأتي من الإدارة، وهو ما يبقي رغم تجميد الصراع بعض الخواصر القلقة التي ستحاول كافة الأطراف استغلالها.
حيث تعززت مؤشرات التلاقي بين "الإدارة الذاتية" مع منصتي موسكو والقاهرة وشخصيات معارضة مستقلة غير مقربة من تركيا. وهذا هو السيناريو الأرجح لحركية الإدارة وفق المعطيات الحالية، حيث تسعى الإدارة من خلال هذه المظلة إلى المشاركة في مسار المفاوضات والهيئة الدستورية بدعم من دول عربية وإقليمية. إضافة إلى استمرار جولات الحوار الكردي دون جدوى سياسية، من خلال تمييع مطالب المجلس الوطني الكردي -ومن خلفه قوى المعارضة الرئيسية-وإغراقها بالتفاصيل دون الوصول إلى نتائج ملموسة تتطلب تقديم تنازلات حقيقية يبدو أن الإدارة غير مستعدة لتقديمها بعد.
ختاماً
برزت حاجة " الإدارة الذاتية" لمظلة سياسية جديدة مع تراكم التحديات التي واجهتها منذ سيطرتها على منطقة شرق الفرات ولاحقاً مع تزاحم اللاعبين في المشهد الميداني بعد الانسحاب الجزئي للقوات الأمريكية والعملية العسكرية التركية "نبع السلام" في تشرين الأول/أكتوبر2019، فضلاً عن التحدي الأبرز المتمثل في سعيها للحصول على الشرعية السياسية والاعتراف الدولي. إلى جانب دوافع داخلية شكلية، وخارجية تتمحور حول تحسين موقعها التفاوضي مع روسيا والنظام السوري من جهة، وإرسال تطمينات إلى أنقرة بخصوص مستقبل العلاقة معها من جهة أخرى، إضافة إلى عدم التعارض مع أهداف واشنطن في الملف السوري. ويبقى مستقبل التشكيل السياسي الجديد مفتوحاً على عدة سيناريوهات تبعاً لحركية الإدارة وتفاعل المؤثرين في المشهد السوري بشكل عام.
([1]) "إلهام أحمد: مشروع مشترك يتمثل في جعل مناطق شمال وشرق سوريا مركز الديمقراطية المشتركة"، مجلس سوريا الديمقراطية، https://cutt.ly/Kl7vgxB .
([2])2012: عن مجلس الشعب غربي كردستان، 2014: الإعلان عن الإدارة الذاتية الديمقراطية (مقاطعات: الجزيرة، كوباني، عفرين)، 2015: فيدرالية روج أفا – شمال سوريا، 2016: الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا، 2018: الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا (شملت الرقة ودير الزور).
([3]) عبد الحليم سليمان: "أكراد سوريا يتوصلون إلى تفاهم أولي في ما بينهم برعاية أميركية"، independent، https://cutt.ly/Il7nu8X .
([4]) "توصيات "مسد" في بيانه الختامي لـ مؤتمر "أبناء الجزيرة والفرات"، موقع تلفزيون سوريا، 25/11/2020، https://cutt.ly/4l7mU4x .
([5]) ”The SDF Seeks a Path toward Durable Stability in North East Syria”, Crisis Group, 25\11\2020, https://cutt.ly/yl7m6FV .
([6]) “مظلوم عبدي” يعترف بوجود عناصر من “PKK” في سوريا”، جسر، 27/11/2020، https://cutt.ly/tl7OsKd .
عقد مركز عمران للدراسات الاستراتيجية ندوة افتراضية بعنوان "تشريح الجمود السوري" وذلك في 03 حزيران/ يونيو 2020، هدفت الجلسة إلى تسليط الضوء على الجهود الجارية لحل "الجمود السوري" عبر جهودات المجتمع الدولي لإنهاء الجمود السياسي الحالي.
عُقدت الجلسة بمشاركة السفير د. ألكسندر أكسينوك (نادي فالداي ، RIAC) والدكتور كونستانتين تروفتسيف (معهد الدراسات الشرقية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم) في تحليلهم وتصوراتهم للأحداث الأخيرة في سورية ، بما في ذلك اتفاق خفض التصعيد في إدلب، قسد، علاقات النظام ، اندلاع كوفيد 19 ، الصعوبات الاقتصادية والسياسية التي يواجهها نظام الأسد.
الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، بدر ملا رشيد قال لـ”السورية.نت” إن تفعيل الحركة التجارية على طريق “M4” جاء بعد محادثات جرت بين تركيا وروسيا لفتح الطريق، وهو ما صرحت به شخصية روسية عسكرية من مطار القامشلي قبل عدة أيام.
وأضاف الباحث: “ترافق تصريح الشخصية الروسية مع إعلان رئيس مجلس بلدة تل تمر الواقعة تحت سيطرة قوات قسد بإن الطريق سيتم تفعيله من جديد بتاريخ يوم أمس، أمام المدنيين والسيارات الخاصة، بمرافقة دوريات روسية”.
موضحاً الباحث بدر ملا رشيد أن عملية إعادة تفعيل الطريق تأتي لأسباب عدة بالأخص من جهة موسكو.
ومن بين الأسباب، بحسب رأيه هي “سعي موسكو لجعل الطريق الدولي سالكاً بمعظمه، سواءً كان شرق الفرات أو غرب مدينة حلب، وما يمثله الأمر من بسط سيطرتها وسيطرة النظام بشكلٍ آخر على شبكة الطرق السورية الدولية”.
مضيفاً: “يكمن السبب الآخر في توجه روسيا لبسط نفوذها في المنطقة بشكلٍ أكبر، بعد حدوث محاولات للولايات المتحدة للقيام بإعادة إنتشار جديدة فيها، كما تقوم موسكو عبر القيام بدور الضامن سواءً كان في فترة الحرب أو فترة المهادنة بزيادة اعتماد الإدارة الذاتية وقوات قسد عليها في عموم مناطق شرق الفرات، وبالأخص مناطق شرق القامشلي حيث يخف التواجد الأمريكي”.
رابط المصدر: https://bit.ly/2XD9Mfj
تعيش منطقة شرق الفرات حراكاً سياسياً وعسكرياً ينذر باحتمالات تغيير في خارطة الفاعلين وتموضعهم، بما يؤثر على معادلات المستقبل السياسي والأمني للمنطقة، ففي الوقت الذي لا تزال الخطوط العريضة لهذا الحراك غير مستقرة إلا أن مسارها بدأ بعد عملية " نبع السلام " التي بدأت بإعلان انسحاب الولايات المتحدة من سورية ليتم التراجع عن القرار لاحقاً بعد حدوث تغيرات جذرية في خارطة السيطرة والنفوذ في المنطقة، حيث تم انتشار القوات الروسية ووحداتٍ من الجيش السوري في المناطق المتاخمة لحدود " نبع السلام" بالإضافة لمعظم الحدود السورية – التركية في محيط مدينة كوباني/ عين العرب، وليبقى شرق مدينة القامشلي نزولاً إلى دير الزور منطقة نفوذ أمريكية لم تعد صافيةً كما ذي قبل مع حدوث انتشار روسي فيها.
ومع تنامي الهدوء على جبهات القتال، أطلق " قائد قوات قسد" نداءً للأحزاب الكُردية للجلوس إلى طاولة الحوار والوصول إلى اتفاق سياسي بين المجلس الوطني الكُردي، وحزب الاتحاد الديمقراطي، الأمر الذي أنتج تفاعلات سياسية وعسكرية جديدة، ويمكن تقسيمها إلى سياقين: الأول عسكري –أمني ويخص التحركات التي تقوم بها واشنطن وموسكو في المنطقة، والسياق الثاني سياسي وينقسم لاتجاهين رئيسين الأول هو محاولة روسيا خلق توافق كامل بين الإدارة الذاتية والنظام، والثاني يتمحور حول الحوارات الكُردية البينية التي يتم رعايتها من قبل قوات التحالف والولايات المتحدة.
تحاول روسيا لعب دور المحفز والميسر للحوارات والتفاوضات ما بين النظام والإدارة الذاتية حول كيفية إدارة المنطقة شمال شرق سورية، سواء قبل قرار الانسحاب الأمريكي أو بعده، وفي حين كانت روسيا تدفع بجدية لعقد اتفاق بين الطرفين قبل إعلان انسحاب أمريكا -ومع تراجع الأخيرة عنه- طرأ تغير في طريقة إدارة موسكو لملف المفاوضات بين النظام والإدارة الذاتية ليكوَن ضغطاً على الإدارة الذاتية، مع خسارة الأخيرة للكثير من سيطرتها المباشرة بين " تل أبيض امتدادا لرأس العين"، بالإضافة لما فقدته من كونها كانت الطرف المتفرد بالسيطرة على مناطق أوسع: الرقة، منبج، كوباني، وجزء مهم من محافظة الحسكة. هذا الانحسار الحاصل الإدارة الذاتية دفع بروسيا لتغير موقفها من الإدارة ومن كيفية إدارة ملفها سواءٍ كان فيما يخص المفاوضات مع النظام، أو الضغط عليها عبر تهديداتٍ مباشرة إبان انتهاء عملية "نبع السلام"، وهو ما يعني بشكلٍ آخر أيضاً إحداث ضغطٍ على الولايات المتحدة.
من جهة أخرى، تحاول موسكو التفاعل في شرق الفرات بالمعنى الامني والعسكري حيث تتواصل مع عشائر المنطقة في محاولة تشكيل فصيل عسكري جديد في المناطق الواقعة بالريف الجنوبي لمدينة القامشلي والتي تتصل بالمدينة من جهة أحيائها الجنوبية([1])، وهو ما سُيحدث في حال نجاح موسكو في هذه الخطوة في تشكيل خرق يحدث للمرة الأولى في المنطقة عبر إيجاد فصيل عسكري مدعوم من قبلها يستطيع إزعاج الدوريات الأمريكية، وتشكيل تهديد لما تبقى من مشروع الإدارة الذاتية، ويتناسق الهدف الروسي سواءً من الضغط على الولايات المتحدة أو الإدارة الذاتية، مع مثيله على كافة الأراضي السورية عبر جعل موسكو الطرف الأجنبي الأقوى نفوذاً على امتداد الساحة السورية، وإعادة سيطرة "النظام" على كافة الجغرافية السورية.
تنشط روسيا في ملف التواصل وتنظيم عشائر المنطقة بشكلٍ متزايد كان آخرها اجتماع بين ضباط من القوات الروسية مع وجهاء وشيوخ من العشائر في ريف الحسكة، بالإضافة إلى زيارات عدة قام بها ضباط النظام وضباط روس لشيخ عشيرة "حرب"، محمود منصور العاكوب في مدينة القامشلي بتاريخ 19 /4/2020 ، وجاءت الزيارة لمناقشة تشكيل قوة عسكرية من العشائر بعد فشل المحاولة الروسية في تجنيد عناصر من ضمن " قسد"، وترد معلومات بإن القوة المُراد إنشائها ستضم " من 500 إلى 1000 عنصرًا، وقدمت روسيا ضماناتٍ أولية لقادة العشائر المرشحين لتشكيل هذا الفصيل، تمثلت بعدم اشتباك مقاتلي التشكيل الجديد مع أي طرف خارج المحافظة أو الانخراط بأي معارك إلا بالحالات الاضطرارية".([2])
بالعموم، منح قرار انسحاب واشنطن المفاجئ من سورية عام 2019 جائزة مجانية لموسكو، ومن ورائها إيران والنظام، إلا إن التراجع الذي حصل أدى لتأجيل وتقليل سقف التوقعات والرغبة الروسية، فيما يخص إعادة بسط السيطرة على كامل الأراضي السورية، وشبكات الطرق الدولية، والتحكم بمخزون سورية من النفط، والغاز والقمح فيما يخص السيطرة على شمال شرق سورية. أما استراتيجياً فيمكن الاستنتاج أن بقاء واشنطن في المنطقة سيدفع بروسيا دوماً للانخراط في محاولات زيادة فرصها فيها، سواءً كان عبر رفع سوية النفوذ المباشر في مناطق شرق القامشلي وجنوبها، أو لدفع واشنطن لتقبل أكثر بصيغ الحل النهائي التي تحاول روسيا فرضه عبر السلاح والتدمير، وجلب واشنطن للجلوس على طاولة المفاوضات سواءً لأجل ملفاتٍ جزئية أو فيما يخص صيغة الحل الشاملة.
وتعتبر خطوة التشكيل التي تسعى إليها موسكو الخطوة الأولى من نوعها لموسكو في سورية، حيث تحاول هذه المرة خلق فصيل خارج المنظومة العسكرية المعتادة، ولا يمكن التخمين بمدى فرص نجاحها، حيث أن العشائر التي تفكر روسيا بالاعتماد عليها مقسمة إلى عدة توجهات، جزءٌ هام منها يقف مع النظام، وجزءٌ مع المعارضة، لكن تأثيرها خفّ بشكلٍ كبير مع حدوث عمليات نزوحٍ لها خلال سنوات الصراع باتجاهين فمنها من اتجه إلى ريف حلب وبقي نشيطاً ضمن الفصائل المقاتلة هناك إلى الآن، ومنها من توجه إلى تركيا. كما إن المنطقة الجغرافية التي يُراد أن ينشط فيها الفصيل تشكل البقعة التي تتمتع الإدارة الذاتية فيها بالسيطرة الأقوى، وتتشابه هذه الخطوة بما حاولت إيران القيام به في المنطقة وبشكلٍ كثيف قبل اغتيال قائد " فيلق القدس قاسم سليماني " على يد الولايات المتحدة الأمريكية، إلا إنه عملية اغتيال سليماني، وزيادة الضغط على إيران في سورية ولبنان والعراق قد أدى لفشل هذا التوجه على الأقل في الوقت الحالي.
وإلى جانب تحركاتها للتغلغل في ريف الحسكة عسكرياً عبر العشائر، استقدمت موسكو في نهاية آذار 2020 وبداية نيسان 2020، عشرات الجنود إضافة إلى عربات عسكرية، وأرسلت قبل نحو أسبوعين قافلة عسكرية ضمت أكثر من 50 شاحنة عسكرية ودبابة وناقلة جنود خرجت من مدينة عين عيسى بريف الرقة، وتوجهت إلى بلدة تل تمر بريف الحسكة، ومنها إلى مدينة القامشلي عبر الطريق الدولي "M4"، كما عززت قواتها من تواجدها حول مطار القامشلي عبر استقدام مجموعاتٍ جديدة من الجنود. ([3])
من جهتها تحاول الولايات المتحدة الأمريكية العودة للمنطقة عبر محاولة الانتشار من جديد في ريف مدينة كوباني/ عين العرب، بالإضافة إلى قيامها بفتح "باب التجنيد للأهالي المحليين بمنطقة الشدادي جنوبي الحسكة ودير الزور، بهدف تشكيل فصائل محلية تعمل بأمرة القوات الأمريكية، حيث عرضت واشنطن راتباً شهرياً للمجندين الجدد يصل لـ350 دولاراً أمريكياً، كما تتوارد أنباء عن بلوغ عدد المنتسبين للقوات الجديدة، ما يقارب 800 عنصراً، يتم تقسيمها على 3 مجموعات، ويتوقع أن يكون هناك هدفان من هذا التشكيل، الأول تشكيل حراسة محلية لآبار النفط مرتبطة بشكلٍ مباشر مع القوات الأمريكية، والثاني غلق الأبواب أمام محاولات إيران وروسيا التوسع في المنطقة.([4])
تشهد منطقة شمال شرق سورية عملية سياسية مدفوعة بدعوة سابقة من " قائد قوات سوريا الديمقراطية"، ورعاية أمريكية مباشرة لجولة حوارات ومفاوضات بين حزب الاتحاد الديمقراطيPYD والمجلس الوطني الكُردي، ووصلت عملية التفاوض بين الطرفين لإجراء حوارات مباشرة يقدر عددها حتى الآن بأربعة حوارات، تم عقدها في إحدى القواعد الأمريكية في محافظة الحسكة، وجاءت عملية التفاوض المباشرة بعد عدة خطواتٍ تم أخذها بالأخص من قبل "الإدارة الذاتية "، وكان منها بيانٌ صدر عن " قسد" حول مصير شخصياتٍ من المجلس الوطني الكُردي تم خطفها وغيبت حيث قامت " قوات سوريا الديمقراطية" بنشر بيانٍ يتطرق لمصير عشرة أسماء قدّمها المجلس الكُردي، وفي حين أن البيان اتسم بتشتيت المسؤولية حول مصير المختطفين والمغيبين، إلا أن البعض اعتبره بادرةً يمكن البناء عليها. بالإضافة إلى إعادة أملاك بعضٍ من قادة المجلس الوطني الكُردي لأصحابها، والسماح لأحزاب المجلس الوطني الكُردي بالعودة لممارسة العمل السياسي "دون قيود".
في هذا الصدد رحبت الإدارة الذاتية بمبادرة " قسد" حول المعتقلين والمختطفين لديها "مبادرة قائد قوات سوريا الديمقراطية([5])"، وأشارت في بيانها إلى أن " المعتقلات التابعة للإدارة الذاتية مفتوحة أمام كل من يتابع هذا الملف، وأكدت استعدادها للتعاون مع القائمين على هذه المبادرة للكشف عن مصير المفقودين في مناطقها"، وتوازياً مع تقدّم المفاوضات قامت الإدارة الذاتية برفع حظر كانت فرضته سابقاً على ممتلكات تعود إلى أعضاء قياديين في المجلس الوطني الكُردي([6])، كما تحاول مجموعات غير حزبية أيضاً الدفع باتجاه الوصول لاتفاق سياسي كالاجتماع الذي عقدته مجموعة من المثقفين الأكراد، من أبناء مدينة عين العرب/ كوباني، "بمظلوم عبدي"، الذي خرج بعد الاجتماع بتصريحٍ أشار فيه إلى سير عملية التفاوض بشكل جيد، مع وجود دعم من "الأطراف الكردية والشعب، والقوى الكردستانية".
وتزداد الحركية السياسية في شرق الفرات مع وجود دفع وتنظيم أمريكي لعملية التفاوض والتي زادت درجة انخراطها مؤخراً مع لقاء المبعوث الأمريكي إلى شمال وشرق سورية، وليام روباك، ومساعدته إيميلي برانديت، مع وفد من التحالف الوطني الكردي في سورية لمناقشة خطوات وحدة الصف الكردي، وأشار روباك خلال الاجتماع إلى أن "المفاوضات تسير بشكل جيد باتجاه التفاهم([7])"، وفي اليوم نفسه التقى "روباك" مع وفدٍ آخر من عدة أحزابٍ سياسية، لتستمر لقاءات الوفد الأمريكي مع مجموعاتٍ من الأحزاب في المنطقة، وكان آخرها بتاريخ 30/04/2020، مع 14 حزبٍ من الأحزاب المنضوية ضمن الإدارة الذاتية([8]).
ومع انتشار الأجواء الإيجابية تستمر الأطراف المنخرطة بالمفاوضات بإطلاق تصريحاتٍ تفاؤلية حولها، لكن مع الإشارة إلى أنها لا تزال في بداياتها، بالأخص من جهة المجلس الوطني الكُردي الذي نفت شخصيات قيادية منه أن تكون الحوارات قد تطرقت حتى الأن إلى توزيع الحصص و المناصب، بل إنها خطوات عملية و نقاشية([9])، وأنهم للآن بصدد مناقشة الرؤية السياسية المشتركة على امل تقدم الحوارات باستمرار، مؤكدين على أنها حوارات تهدف بالدرجة الأساس إلى "وحدة الصف و الموقف الكردي و تحقيق الشراكة الحقيقية في الموقف السياسي و العمل الإداري و العسكري".
في ظل هذا الحراك الجديد في المنطقة ومع ظهور نوايا من الطرفين للوصول إلى صيغة توافقية إلا أن هناك جملة من الإشكالات العالقة التي ستكون على طاولة النقاشات في حال استمرار الحوارات ومنها: ([10])
"تستمر "الإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية " بالتفاوض مع نظام دمشق بشكلٍ منفرد، وصدرت تصريحات من الشخصية القيادية في "مسد/ مجلس سوريا الديمقراطية"، "إلهام أحمد"، إن دمشق وافقت بوساطة روسية على البدء بمفاوضات سياسية، وإمكانية تشكيل "لجنة عليا" مهمتها مناقشة قانون الإدارة المحلية في سورية، والهيكلية الإدارية للإدارة الذاتية" لشمال شرقي سورية"، وهذا ما يضع عملية التفاوض مع المجلس الوطني الكُردي كتحصيل حاصل، ففي حال عدم، أو حتى اتفاق الطرفين الكرديين فإن "الإدارة الذاتية" تقوم لوحدها بعملية تفاوضية مستمرة مع النظام في دمشق" ويمكن القول بإن هذه الإشكالية توقفت في الوقت الحالي، كون إن عملية التفاوض بين النظام والإدارة الذاتية قد انهارت بعد رفض النظام قبول شروط الإدارة الذاتية والتي كان أهمها يتمحور حول منحها حكماً ذاتياً أو إدارة موسعة أكثر مما يمنحه القانون 107 وهو ما كان يقدمه النظام، والشرط الثاني كان يخص مصير قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب، حيث تطالب الإدارة الذاتية بالإبقاء على كتلتها العسكرية متماسكة مع جعل مهامها العسكرية محصورةً بشكلٍ رئيسي في مناطق سيطرتها، وهو ما يرفضه النظام عبر طرحه لدمجها مع "جيشه"، مع إمكانية منح سلطات أوسع لجهاز الأمن العام "الأسايش" في المنطقة. ويمكن ربط هذه النقاط بمصير المفاوضات بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي، فإذا ما فشلت، فسيعود ملف الحوار مع النظام للتداول، لكن من واقعٍ أضعف بالنسبة للإدارة الذاتية في حال إذا ما استمرت سوية بقية الأحداث العسكرية والسياسية على ما هي عليه.
بالإضافة لجملة الاستقراءات السابقة مع تحديثها، يبرز في العملية الحوارية الحالية جملة من الإشكاليات والمعوقات بالإضافة إلى جملة من العوامل الميسرة، ويمكن تبيانها بـ:
أولاً: الموقف التركي كعامل رئيسي في سيناريوهات المستقبل؛ تبقى المساحة الهامة ضمن خارطة المواقف الإقليمية من أيّة عملية تفاوضٍ كُرديةٍ بينية للموقف التركي ، فأنقرة التي ترى أن "الإدارة الذاتية" أحد المهددات التي تقف على رأس الهرم اتجاه أمنها القومي، لن تتقبل أيّة صيغة اتفاق ترى بأنها ستؤدي لتثبيت سيطرة "حزب الاتحاد الديمقراطي"، وتمكينه على نطاقٍ وطني، كما أن لها تأثيرٌ مباشر على دور الفصائل العسكرية، والجيش الوطني الحر، وهم كانوا رأس الحربة في ثلاثة عملياتٍ عسكرية اتجاه "الإدارة الذاتية"، لذا سيتوقف مصير أيّة عملية تفاوضية على مدى إمكانية إقناع واشنطن لتركيا بجدواها، خصوصاً في ظل انهيار، أو هشاشة اتفاقيات أنقرة-موسكو، ويستمر هذا العامل في لعب دورٍ حيوي في مصير عملية الحوارات بين الطرفين، ويمكن استقراء " قبول متردد" من تركيا لهذه الحوارات، بناءً على الزيارات التي أجراها وفد العلاقات الخارجية للمجلس الوطني الكُردي سواءً لأربيل أو لأنقرة وعودته منها والاستمرار بالعملية الحوارية، مع تقبل المجلس الوطني الكُردي لخطوات الإدارة الذاتية لبناء الثقة على إنها خطوات إيجابية ويمكن البناء عليها والاستمرار في الحوارات؛
ثانياً: "خفايا" التوسع الروسي في المنطقة؛ استطاعت موسكو عقب عملية " نبع السلام" الدخول لشرق الفرات لأول مرة منذ تدخلها في سورية نهاية العام 2015، وهذا الانتشار والتوسع الروسي في المنطقة جاء على حساب الولايات المتحدة، وتحول لأداة ضغط من قبل روسيا على الإدارة الذاتية، التي تلقت تهديداتٍ عديدة من موسكو عقب عملية " نبع السلام" مثل دعوة المسؤولين الروس للإدارة الذاتية للالتزام بمخرجات الاتفاق التركي الروسي([11])، كما تمت إعادة إتهام الإدارة الذاتية بأنها طرف يحاول الانفصال، ويُضاف لهذه الاستفادة الروسية من الواقع الجديد توجهها لتشكيل قوة عسكرية عشائرية تكون أداتها في زيادة الأرق للقوات الأمريكية؛
ثالثاً: "غايات" العامل الأمريكي؛ يعتبر التدخل الأمريكي المباشر في عملية الحوار أهم متغير طارئ على تاريخ حوارات المجلس الوطني الكُردي مع حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، ولا يمكن تخمين ما إذا كانت هذه الاندفاعات الأمريكية لإيجاد صيغة توافق بين الطرفين هي محاولة أخيرة قبل إجراء حركة انسحاب جديدة من المنطقة، خصوصاً مع توجه واشنطن لبناء " قوة عسكرية جديدة في منطقة دير الزور"، وفي حال غياب رغبة أمريكية بالانسحاب من المنطقة، فسيكون عامل التيسير الأمريكي للحوارات عاملاً فاعلاً في الوصول والحفاظ على أي اتفاق؛ مع العلم أن ملامح تبني واشنطن لمقاربة إعادة التشكل هي سياسة أمريكية واضحة في الفترة الماضية؛
رابعاً: إشكالية دور الشركاء الآخرين: مع زيادة دور " قسد " كمُيسر ودافع للحوارات بين الطرفين الكُرديين، للآن لا يزال دور الأطراف العسكرية من المكونات الأخرى ضمن " قسد" غائباً، كالفصائل المسيحية العربية ضمنها، كما يُلحظ تراجع وغياب لدور الأحزاب السياسية من المكونات الأخرى ضمن "مجلس سوريا الديمقراطية". وسيفقد هذا المسار في حال إطالته الصورة التي حاولت قسد ووحدات حماية الشعب بنائها خلال 5 سنوات من تشكيلها، والتي تمحورت حول كونها قوات تمثل كافة مكونات المنطقة وللابتعاد عن الصورة النمطية عن وحدات حماية الشعب وموضوع "تمثيلها لمشروع كُردي ". وفي هذا السياق، يشكل التمثيل العربي العددي ضمن " قسد " ما يقارب 50% أو أكثر، وبنسبة مقاربة ضمن القوات الأمنية " الأسايش"، وخلال معظم المفاوضات الكردية البينية يغيب بحث دور هذه المكونات وتحويلها لتمثيل نوعي وليس صوري.
يشير سير الأحداث في شمال شرق سورية إلى فاعلية مسارين أحدهما تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، ويتمثل بالوصول لصيغة توافقٍ كردية، تؤدي لتغيير وتعديل الطرف المسيطر على الواجهة السياسية للإدارة الذاتية، مع خطواتٍ تحاول الولايات المتحدة عبرها أعادة التموضع والانتشار والنفوذ مع التحالف الدولي في مناطق شرق الفرت التي انسحبت منها سابقاً، أما المسار الثاني فتقوده روسيا وينشط باتجاهين الأول منع عودة الولايات المتحدة إلى النقاط التي انسحبت منها نهاية العام الماضي بالإضافة إلى محاولة تشكيل طرف عسكري يرتبط بها بشكلٍ مباشر ويشكل ضغطاً على واشنطن في المناطق التي أبقت على قواتها فيها.
على صعيد ملف الحوارات الكُردية البينية، لاتزال معظم العقبات السابقة للوصول لصيغة توافقٍ كُردية موجودة، مع بعض الاختلافات في طبيعة البعض منها، مثل انخراط قوات سوريا الديمقراطية والتي تحسب على حزب الاتحاد الديمقراطي ومنظوماته، ضمن عملية التفاوض والحوار بين المجلس الوطني الكُردي وحزب الاتحاد، كما تظهر إشكاليات جديدة تتعلق بشكلٍ خاص بمستقبل المكون العربي ضمن " قسد" و " مسد "، ضمن العملية التفاوضية الكُردية، ويعد الفارق الأبرز في هذه المفاوضات هو الفاعل الأمريكي المنخرط فيها بشكلٍ مباشر منذ بدايتها في محاولة منه للبحث عن صيغة توافق محلية ترضي الأطراف الإقليمية، وتحقق في النهاية توافقاً سياسياً محلياً ولربما خارجياً في مرحلةٍ ما لاحقاً ضمن الوفود المفاوضة في جنيف.
([1]) أمريكا تراقب.. مساران تعمل عليهما روسيا في ريف الحسكة: عنب بلدي، التاريخ: 23/04/2020، الرابط: https://bit.ly/3dDWKV4
([3]) ماذا وراء التوترات بين “الإدارة الذاتية” والنظام في القامشلي: عنب بلدي، التاريخ: 26/04/2020، الرابط: https://bit.ly/35v1nOB
([4]) فصيل عربي جديد بقيادة القوات الأمريكية شمال شرقي سوريا، وكالة ستيب، التاريخ: 22/ 04/2020، الرابط: https://bit.ly/3djxzav
([5]) الإدارة الذاتية ترحب بمبادرة مسد حول المعتقلين والمختطفين، آرتا أف إم، التاريخ: 06/04/2020، الرابط: https://bit.ly/3b6hHq6
([6]) واشنطن تبشّر بمصالحة سياسية «كردية» في سوريا، الآخبار، التاريخ: 27/04/2020، الرابط: https://bit.ly/3c2Z0ox
([7]) بعد اجتماعه مع 8 أحزاب لبحث التقارب الكوردي.. المبعوث الأميركي بسوريا: المفاوضات تسير بخطوات جيدة،: موقع روداو، التاريخ: 27/04/2020، الرابط: https://bit.ly/2KY9vh5، وتكون وفد الأحزاب التي تواجدت في الإجتماع هي: صالح كدو سكرتير حزب اليسار الديمقراطي الكوردي في سوريا، محي الدين شيخ آلي سكرتير حزب الوحدة الديمقراطي الكوردي في سوريا، نصر الدين إبراهيم سكرتير الحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا (البارتي)، فوزي شنكالي سكرتيرحزب الوفاق الديمقراطي الكوردي في سوريا، أمجد عثمان عضو الهيئة التنفيذية لحركة الإصلاح. والوفد الثاني ضم كل من: أحمد سليمان، عضو المكتب السياسي للحزب التقدمي، ومحمد موسى، سكرتير حزب اليسار، وجمال شيخ باقي، سكرتير الحزب الديمقراطي الكوردي السوري
([8]) وفد أميركي يبحث مع مسؤولي الأحزاب الكوردية السورية توحيد الصف، روداو، التاريخ: 29/04/2020، الرابط: https://bit.ly/3c4EUu7
([9]) بشار أمين يكشف تفاصيل النقاشات مع PYD برعاية أمريكية، صفحة مجلس محلية الشهيد نصر الدين برهك، التاريخ: 28/04، 2020، الرابط: https://bit.ly/2KXRsYe
([11]) روسيا تهدد بالانسحاب من الاتفاق مع تركيا إذا لم تنسحب قسد من شمال سوريا، المصدر: وكالة قاسيون، التاريخ: 23/10/2019، الرابط: https://bit.ly/2WstKJi
وسط القلق العالمي المتزايد على وقع تفشي جائحة "كورونا المستجد" (كوفيد 19) وما رافقها من آثار وتهديدات على عدة مستويات؛ أعلن نظام الأسد في 23آذار/مارس عن وصول الفايروس إلى سورية رسمياً، بعد التصريح عن إصابات وأولى الوفيات، مقابل إجراءات احترازية في محاولة احتوائه؛ لتتحول بذلك التخوفات إلى واقع يفتح الباب واسعاً أمام تحليلات آثار هذا الفايروس وتداعياته المتوقعة على عدة قطاعات ومستويات في البلد المُنهك. وعليه تحاول هذه الورقة تقديم قراءة تحليلية في الانعكاسات المحتملة على الملف السوري، خاصة في المستوى العسكري والجبهات المتعددة ضمن مناطق النفوذ الثلاث (معارضة، نظام، قسد)، إضافة إلى الآثار المحتملة على طبيعة التواجد الأجنبي في البلاد، مقابل العملية السياسية وآفاقها المتوقعة وسط المناخ الذي يفرضه الفايروس من البوابة الإنسانية وقابلياته للاستثمار السياسي.
تبدو فرضية تجميد الجبهات وتقويض العمليات العسكرية التقليدية نتيجة انتشار الفايروس منطقية حتى الآن، على الأقل في الفترة الحالية، والمتمثلة بالمواجهة الأولى مع الوباء والارتباك في احتوائه ومعالجة آثاره المتعددة، خاصة مع التخوف من تفشيه داخل القطع العسكرية والمليشيات ومجاميع الفصائل، إضافة إلى عدم القدرة على فتح معارك كبرى، تلك التي من الممكن أن تؤدي إلى عدد كبير من الجرحى يزيد الضغط على القطاع الطبي المشلول أساساً في مناطق المعارضة، والعاجز في مناطق النظام، إضافة إلى ما قد يترتب على تلك المعارك من نفقات وميزانيات سيضطر النظام إلى حرفها باتجاه قطاعات أخرى.
ناهيك عن محاولات موسكو والنظام تجنب أي قصف جوي تقليدي يُخرجُ المزيد من النقاط الطبية والمستوصفات والمشافي عن الخدمة أو يستهدف البنى التحتية الرئيسية، وذلك لا يبدو خوفاً على المدنيين أو حرصاً على القطاع الطبي في تلك المناطق، وإنما تجنباً لحرج حقيقي أمام المجتمع الدولي في ظل جائحة تهدد الإنسانية، خاصة في الوقت الذي يسعى فيه النظام وحلفاؤه إلى استغلال هذا الظرف الإنساني لإحداث خرق في جدار العقوبات الاقتصادية (الأوروبية-الأمريكية)، إضافة إلى محاولات الإفادة منها كمدخل للتطبيع والمساعدات وإعادة العلاقات العلنية مع بعض الدول العربية-الخليجية، أو فتح قنوات تواصل جديدة عبرها باتجاه قوى مختلفة، قد تكون غربية.
وضمن إطار الإجراءات الاحترازية في مواجهة تفشي المرض؛ أصدرت القيادة العامة لجيش الأسد أمرين إداريين ينهيان الاحتفاظ والاستدعاء للضباط الاحتياطيين المحتفظ بهم والملتحقين من الاحتياط المدني، اعتباراً من 7 نيسان المقبل، لكن بشروط تحددها مدة الخدمة، إضافة إلى تسريح بعض دورات الاحتفاظ ([1])، فيما بدا تخوفاً من تفشي الفايروس داخل القطع العسكرية للجيش. مقابل موسكو التي اتخذت إجراءات احترازية صارمة داخل قاعدتها العسكرية في حميميم، إضافة إلى ضبط احتكاك جنودها بالضباط السوريين والسكان. في حين لا تتوافر معلومات دقيقة حول المليشيات الإيرانية، والتي سجّلت بحسب تقارير أعلى نسب إصابات داخل سورية، سوى نقل بعضهم إلى نقاط طبية في العراق للعلاج، عبر المعبر الوحيد الذي لم يغلق (البوكمال)، إضافة إلى عزل بعض مناطق نفوذهم كحيّ "السيدة زينب" في جنوب العاصمة دمشق، بينما اكتفى حزب الله في التصريح على لسان أمينه العام أنه "يقوم بفحص مقاتليه قبل إرسالهم إلى سورية حرصاً على عدم نقل العدوى إليها، وفحصهم أثناء عودتهم لضمان عدم نقلها إلى لبنان" ([2]). بما يشير إلى عدم تأثر تواجد الحزب بالفايروس والاكتفاء بالإجراءات الاحترازية، حتى الآن.
كل تلك الإجراءات، وما قد يلحق بها من قرارات أخرى على وقع تفشي الجائحة في البلاد، تشير، حتى الآن، إلى قدرة الفايروس على فرض هدنته الخاصة والحدّ والتقويض من العمليات العسكرية التقليدية، ولكن وفي الوقت نفسه لا يعني أبداً نهايتها أو تجميدها، بل قد تتخذ مبدئياً أشكالاً مختلفة تتراجع فيها المعارك الميدانية التقليدية لصالح تزايد النشاط الأمني واتخاذ تكتيكات جديدة تتناسب وتحقيق مصالح كل طرف.
فعلى الرغم من انحسار قصف النظام وحلفائه لمناطق المعارضة، إلا أن الخروقات للاتفاق الروسي-التركي استمرت من طرف النظام، عبر قصف صاروخي استهدف أرياف مدينة إدلب بتاريخ 31 آذار/مارس و 1نيسان/أبريل([3])، بالإضافة إلى فتح النظام معارك محدودة على جبهات أخرى كالسويداء، حيث يخوض الفيلق الخامس اشتباكات متقطعة مع فصائل محليّة "رجال الكرامة"([4])، مقابل ملاحظة زيادة وتيرة الاغتيالات في درعا بين صفوف قياديين في المعارضة السورية، ممن وقعوا على اتفاقيات التسوية([5])، الاغتيالات التي يُرجّح أن النظام يقف وراءها بشكل مباشر، خاصة أنها تأتي في سياق توترات عاشتها المحافظة خلال شهر آذار، أدت إلى اقتحام قوات النظام مدن وبلدات عدة في أرياف درعا، ماتسبب بمقتل وجرح عدد من الطرفين وتهجير 21 من مقاتلي المعارضة إلى الشمال السوري.
ويقابل اغتيالات الجنوب، ارتفاع معدلات التفجيرات عبر السيارات المفخخة والاغتيالات التي طالت قياديين في "الجيش الوطني" ضمن مناطق "درع الفرات" و"غصن الزيتون"([6])، إضافة إلى إدلب خلال الأسبوع الفائت([7])، وعلى الرغم من تعدد الجهات التي قد تقف وراء اغتيالات الشمال، كغرفة عمليات "غضب الزيتون" التابعة لـ(PYD)، إضافة لخلايا "داعش" في المنطقة وبعض المجموعات المتشددة، إلا أن النظام وخلاياه يعتبرون أحد أبرز المتهمين بتلك العمليات، بينما تبنّت "قسد" اغتيال أحد القيادين في "الجيش الوطني"، ضمن محيط بلدة عين عيسى في ريف الرقة إثر استهدافه بصاروخ حراري بتاريخ 30 آذار/مارس، وادعائها أن ذلك جاء "رداً على محاولات تقدم للجيشين الوطني والتركي"([8])، واللافت أن هذا التوتر في محيط البلدة سبقهُ بأسبوع وصول تعزيزات للنظام إلى محيطها.
بالمقابل، يُلحظ نشاط متزايد ولافت لتنظيم الدولة الإسلامية في ظل انتشار الفايروس، والذي وصفه التنظيم بـ "أسوأ كوابيس الصليبيين"، وذلك ضمن افتتاحية حول فايروس "كورونا" في طبعة 19 آذار/مارس من نشرة "النبأ" التابعة له، معتبراً أنهُ "سيُضعف من قدرات أعداء التنظيم وسيعيق إرسالهم للجنود لمحاربة المجاهدين، داعياً أنصاره إلى زيادة نشاطهم خاصة باتجاه تحرير الأسرى وتكثيف الهجمات التي تزيد من ضعف أعداء التنظيم ([9])".
وقد كثّف التنظيم من عملياته باتجاه قوات "قسد" والنظام السوري على حد سواء، حيث أعلن عبر وكالة أعماق 29 آذار/مارس عن أسرّ عناصر من "وحدات الحماية" في ريف الحسكة وإعدامهم، كما تم تنفيذ سلسلة تفجيرات في مدينة الطبقة بريف الرقة، لم يتبناها التنظيم، ما دفع البعض لتوجيه الاتهام للنظام السوري في إطار محاولاته لتهيئة بيئة من الفلتان الأمني. وبالتزامن مع عمليات تنظيم الدولة في ريف الحسكة، أعلنت صفحات محليّة في دير الزور عن فقدان الاتصال مع مجموعة من المليشيات الإيرانية في بادية البوكمال إثر قيامها بجولة تفقدية، كما نشر التنظيم إصداراً جديداً حول عملياته العسكرية التي يقوم بها في البادية السورية، وتحديداً في قرى منطقة السخنة التابعة لريف حمص الشمالي، في محاولة منه لإيصال رسالة بأنه ما زال موجوداً، ويظهر التسجيل مهاجمة شاحنات وأرتال عسكرية لقوات النظام ، إلى جانب عمليات إعدام لمقاتلين قال التنظيم إنهم من عناصر النظام أو "لواء القدس" المدعوم إيرانياً([10]).
وتزامن ذلك مع محاولات الاستعصاء والهروب التي نفذها عناصر التنظيم في سجن "الصناعة" ضمن حي غويران بمحافظة الحسكة، وهروب عدد منهم، وسط تصريحات متضاربة من قيادات "قسد" حول هذا الهروب، مقابل تصريحات المتحدث باسم التحالف، الكولونيل مايلز كاجينز، والتي خففت بشكل أو بآخر من وقع الحادثة، فيما يبدو أن قسد تسعى لتضخيمها، حيث اعتبر كاجينز أن "السجن لا يضم أي أعضاء بارزين في تنظيم داعش"[11]) )، الأمر الذي قد يشير إلى مبالغة قوات سورية الديمقراطية في موضوع أسرى تنظيم الدولة وإثارة الموضوع بهذا التوقيت بالذات، وذلك ربما لتمرير المحاكم العلنيّة التي تدفع بها الإدارة الذاتية لمحاكمة عناصر تنظيم الدولة الذين ترفض دولهم استقبالهم، إضافة إلى استغلالها كورقة سياسية-أمنية لتحصيل المزيد من الدعم الغربي في إطار مكافحة الإرهاب. والأهم من ذلك، أنها تعكس أيضاً تخوف "قسد" من الانكفاء الذي يقوم به التحالف في العراق واحتمالية امتداده إلى سورية عبر تخفيض عدد الجنود أو إعادة انتشار محتمل شرق الفرات، خاصة وأن "قسد" اتبعت سلوك الاستثمار والتلويح بعودة "داعش" عدة مرات، ليس آخرها مع بدء العملية العسكرية التركية "نبع السلام" وإعلان ترامب سحب القوات الأمريكية شرق الفرات، حين أعلنت عن هروب سجناء من تنظيم الدولة، نتيجة القصف التركي الذي استهدف مواقع السجون، ليأتي بعدها تصريح ترامب في تاريخ 14/10/2019 ويتهم فيه قوات سورية الديمقراطية "بتسهيل هروب السجناء، لابتزاز القوات الأمريكية والتحالف الدولي"([12]).
كما رافق نشاط التنظيم المتزايد في أرياف محافظات (الرقة، دير الزور، الحسكة)، رصد عبور عدد كبير من عناصر التنظيم الحدود السورية باتجاه الأراضي العراقية، ما دفع الحشد الشعبي في الجانب العراقي إلى جانب وحدات من الجيش العراقي "اللواء 44" و"51" وعدة قطع عسكرية، وبإسناد من طيران الجيش ومقاتلة الدروع في "الحشد الشعبي"، للاستنفار وإطلاق عملية عسكرية جديدة ضد عناصر تنظيم الدولة تحت اسم "ربيع الانتصارات الكبرى"، بحسب بيان صادر عن الحشد الشعبي بتاريخ 30 آذار/مارس، وتزامنت العملية مع هروب عناصر التنظيم من سجن الحسكة، إضافة إلى عودة تحليق طيران التحالف في السماء السورية([13]).
ويبدو أن تنظيم الدولة ينظر إلى آثار الفايروس كظروف ملائمة لإعادة تكثيف نشاطه العسكري وهجماته على عدة جبهات، الأمر الذي سيرتب ضغطاً مضاعفاً على قوات "قسد" في مناطق نفوذ الإدارة الذاتية، كما سيشكل بالنسبة لها مجال استثمار جديد لتحصيل المزيد من الدعم الغربي في مواجهة "داعش". وعلى الجانب الآخر قد يشكل نشاط "داعش" استنزافاً لقوت النظام والمليشيات الإيرانية المتواجدة في ريف دير الزور الشرقي وبادية حمص، كما أن نشاط خلايا التنظيم قد يطال مناطق نفوذ المعارضة السورية عبر الاغتيالات والتفجيرات، الأمر الذي قد يعطي فرصة جديدة لهيئة "تحرير الشام" لتصدير نفسها كقوة محلية قادرة على ضبط الأوضاع الأمنية، والتي ستمثل لها بوابة للتنسيق مع قوى إقليمية ودولية، خاصة وأن مناطق المعارضة السورية قد لا تقتصر على نشاطات تنظيم الدولة، وإنما قد تفسح أيضاً المجال لبعض المجموعات المتشددة التي ستجد في الظروف الحالية والارتباك الأمني والعسكري فرصة ملائمة لتنفيذ عملياتها باتجاه عرقلة الاتفاق التركي-الروسي، أو باتجاه تصفية حسابات مع فصائل محددة في إطار الصراع على النفوذ، إضافة لاحتمالية زيادة نشاط خلايا النظام الأمنية، عبر التفجيرات والاغتيالات لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة.
على مستوى مختلف، يبدو أن فايروس "كورونا" فرض على بعض الدول سياسات عسكرية انكفائية، خاصة تلك المنتشرة قواعدها حول العالم، أو يمكن القول إنه سرّع من قرارات دول أخرى بالانسحاب من تلك القواعد وإعادة التموضع والانتشار، وفي إطار مناقشة آثاره على التواجد الأجنبي في سورية، يبدو من المفيد الدخول عبر بوابة العراق، فقد أعلنت الحكومة الفرنسية عن انسحاب قواتها من العراق 25 آذار/مارس، وذلك ضمن اتفاق مسبق مع الحكومة العراقية، في الوقت الذي قام فيه التحالف الدولي بتسليم 3 قواعد عسكرية (القائم، القيارة، كي1) من أصل 8 للقوات العراقية، والانكفاء باتجاه إقليم كردستان (قاعدة حرير) والأنبار(قاعدة عين الأسد)، وبدأ التحالف بسحب قواته التدريبية من العراق، في 20 من آذار الحالي، بعد تعليق برنامج التدريب، في إطار الإجراءات الوقائية لمنع تفشي "كورونا المستجد"، كما انسحب نحو 300 جندي من قوات التحالف منتصف آذار الحالي من قاعدة القائم([14]).
وعلى الرغم من كون بعض تلك القرارات ليست جديدة، ولا يمكن فصلها عن سياق التوتر الأخير بين الولايات المتحدة وإيران وإعادة التحالف الدولي لتموضعه في العراق، خاصة على خلفية الاستهداف الأمريكي لقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، والذي ترتب عليه بدفع من إيران، قرار البرلمان العراقي 5 كانون الثاني 2020 بضرورة خروج القوات الأجنبية من العراق، لكن وفي ذات الوقت لا يمكن إنكار دور "كورونا" في التسريع من تلك العمليات، خاصة بالنسبة للأوروبيين الذين باتوا ينظرون إلى العراق كساحة صراع ثنائية بين طهران وواشنطن، لا مكان لهم فيها، فيبدو أن كورونا شكّل فرصة مناسبة لتسريع عمليات الانسحاب وتعليق برامج التدريب.
وبينما يساهم الفايروس بتشكيل بيئة طاردة للقوات الأجنبية المتواجدة في العراق، يبدو أن إيران لن تفوت الفرصة في تخصيب تلك البيئة، خاصة باتجاه التواجد الأكثر تأريقاً لها، والمتمثل بالقواعد الأمريكية، وذلك عبر رفع وتيرة التهديد الأمني تجاه تلك القواعد من خلال التفجيرات أو الاستهدافات عبر مليشيات محليّة، في محاولة لتحفيزها وتسريع عملية الانكفاء، وهذا ما يتقاطع مع ما نشرته صحيفة "واشنطن بوست" عن مسؤول أمريكي رفيع لم تسمه، حول توافر معلومات استخباراتية عن هجمات قد تستهدف قواعدها من قبل إيران، عبر مجموعات محليّة تعفي طهران من التورط المباشر، كمليشيا حزب الله العراقي([15])، إذ يبدو أن تفشي الجائحة في إيران لا يمنعها من استثمار المناخ الذي فرضته في دول نشاطها. ولكن وفي الوقت الذي ينسحب فيه التحالف الدولي من بعض القواعد؛ تعمل القوات الأمريكية على تعزيز مواقعها الحالية في العراق، عبر استقدام بطاريتي باتريوت تم نشر أحدها في قاعدة عين الأسد، والأخرى في أربيل، ويتم الحديث عن استقدام بطاريتين إضافيتين من دولة الكويت إلى الأراضي العراقية، ويبدو أن الإجراءات الأمريكية في تعزيز تلك القواعد تتناسب طرداً وحجم التهديد المتوقع لها ([16]).
وبمقاربة أثر الفايروس على القواعد الأجنبية في الظرف العراقي، إلى الحالة السورية التي تضم عدداً من القواعد الأجنبية، يبدو أن الظرف أيضاً قابل للاستثمار لتهديد تلك القواعد، وتشجيعها على الانكفاء، فعلى الرغم من عزلة القاعدة الأمريكية في التنف، بحكم بعدها عن مراكز المدن والاحتكاك، إلا أن هذا لا يعني أنها محصنة بشكل كامل ضد الفايروس، وكذلك باقي القواعد المتواجدة في شرق الفرات، والتي قد تشهد عمليات أو هجمات محتملة من قبل مليشيات محليّة، عملت إيران على إعدادها من فترة طويلة تحت اسم المقاومة الشعبية والتي ترفع شعارات ضد الوجود الأمريكي في سورية. إضافة إلى احتمالية تأثر باقي التواجد الأجنبي (فرنسي، بريطاني) وبرامجه على وقع زيادة تفشي المرض في سورية أو داخل تلك الدول، وما سيترتب عليه من إجراءات.
أما في غرب الفرات، حيث التواجد التركي وانتشار نقاط المراقبة، والتي تعتبر أيضاً شبه معزولة وتم رفع الجاهزية الطبية فيها، فإن الأخطار الأمنية عليها لا تبدو معدومة، فعلى الرغم من قرب تلك القواعد والنقاط من الأراضي التركية وتوافر طرق الإمداد والنقل السريع، والذي قد يخفف من أخطار تفشي الفايروس، إلا أن الظرف الحالي أيضاً يبدو مناسباً للعديد من الأطراف لرفع مستوى التهديد الأمني المحتمل لتلك النقاط، سواء عبر قوات النظام والمليشيات الداعمة لها، أو حتى بعض الفصائل الجهادية التي ترى في فتح الطريق الدولي m4 وتسيير الدوريات المشتركة تهديداً لنفوذها، خاصة وأن مختلف الجهات التي من الممكن أن تهدد نقاط المراقبة أو الدوريات التركية في هذه الظروف، تدرك وقع تفشي المرض في الداخل التركي، وانعكاس أي استهداف للجنود في هذه الفترة وما قد يسببه من حرج للحكومة التركية وتأزيم في الوضع الداخلي.
أما بالنسبة لإيران وميلشياتها أو القوات الروسية والمرتزقة المرافقة لها من الشركات الأمنية الخاصة، فمن المستبعد حتى الآن أن يؤثر الفايروس وتفشيه على تواجدها العسكري في سورية، إلا في حدوده الدنيا، المتمثلة بإعادة الانتشار والتموضع واتخاذ تدابير وإجراءات احترازية، وذلك على اعتبار أن طهران تعتمد على مجموعات مرتزقة، أغلبهم من غير الإيرانيين، وبالتالي لن تكون سلامتهم أولوية بالنسبة لطهران، وهذا ما حدث حتى على المستوى المدني في إيران، حيث أفادت التقارير الواردة من المدن الإيرانية عن سياسية عنصرية عالية في المستشفيات الإيرانية، والتي رفضت استقبال الأفغان والباكستانيين وغيرهم من الجنسيات المقيمين على الأراضي الإيرانية، وجعلت الأولوية للإيرانيين، لذلك فمن المحتمل ألا يتأثر النشاط الإيراني في سورية حتى الآن، بل وعلى العكس فقد تلجأ إيران إلى محاولات استثمار المناخ السياسي والعسكري قدر الإمكان لزيادة نشاطاتها العسكرية، ولعل الضربات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت مطار الشعيرات في حمص تعد مؤشراً على استمرار تلك النشاطات([17]).
ناهيك عن أن موسكو وطهران تشتركان بعدم تأثر السياسة الخارجية بالمعادلة الداخلية، بمعنى أن هذين النظامين ومعهما الصين والنظام السوري لا يعانون من التهديد الذي تشكله الحسابات الداخلية وارتفاع نسب تفشي المرض وزيادة عدد الوفيات على الحكومات والنظام السياسي، كما هو الحال في الديمقراطيات الغربية، وذلك بحكم طبيعة تلك الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، والتي وعلى الرغم من انتظامها بذات الإجراءات الموحدة التي يتخذها العالم في مواجهة الفايروس؛ إلا أنها وبالوقت نفسه تنظر إليه كمجال استثمار سياسي وعسكري واقتصادي، سواء عبر تسهيل المساعدات للنظام السوري من مدخل "كورونا" والسعي لمحاولات رفع العقوبات الأوروبية-الأمريكية، أو استثماره كبوابة للتطبيع مع دول المنطقة وفتح قنوات تواصل جديدة، إضافة إلى كونه فرصة لمضايقة التواجد الأجنبي بأدوات مختلفة ومحاولة الدفع في التسريع بقرارات الانسحاب.
أما عن مدى قدرتهم في تحقيق ذلك والنجاح به، فهذا مالا يمكن التنبؤ به، إذا يتعلق بعدة عوامل على رأسها توسع خريطة انتشار المرض وسرعة تفشيه وزيادة مستويات تهديداته، وما سيبنى من استراتيجيات مضادة للدول في مواجهته، خاصة تلك المتعلقة بقواعدها المتواجدة في سورية.
في الوقت الذي قد تتراجع فيه النشاطات العسكرية خطوة بشكلها التقليديّ، أو تتخذ تكتيكات وأشكال جديدة تتناسب والمناخ الذي فرضه "كورونا المستجد"؛ تبدو الظروف ملائمة لفتح المجال السياسي ومحاولة تجميد الأوضاع وتثبيت وقف إطلاق النار من قبل الفاعلين الرئيسين في الملف السوري.
فقد عقد مجلس الأمن الدولي الاثنين 30 آذار/مارس، جلسة عن بعد عبر تقنية الفيديو، بحثت جوانب عدة أبرزها مكافحة انتشار فايروس "كورونا"، وسُبل تفعيل العملية السياسية وسير اتفاق إدلب، حيث توافق أعضاء المجلس على ضمان وقف العمليات القتالية في سورية، وتحقيق الهدوء اللازم لمكافحة الفايروس، ولم تستخدم أي من الدول الخمس دائمة العضوية، حق النقض (الفيتو)، ضد القرارات الصادرة عن المجلس، في موقف نادر الحدوث خاصة فيما يتعلق بالملف السوري ([18]).
كما شهد اليوم الأخير من شهر آذار/ مارس اتصالات متبادلة بين زعماء الدول الفاعلة في الملف السوري بخصوص سورية، حيث جمع اتصال ثنائي الرئيسين أردوغان وبوتين للحديث حول إدلب وتنفيذ الاتفاقات الروسي-التركية المتفق عليها في قمة موسكو 5 آذار/ مارس 2020، بحسب بيان صادر عن الكرملين والرئاسة التركية، وجاء هذا الاتصال بعد يوم واحد من اتصال ثنائي جمع دونالد ترامب وأردوغان، تناولا فيه سبل التصدي لجائحة "كورونا المستجد"، وخاصة في الدول التي تشهد صراعات مثل سورية وليبيا ([19]).
بالمقابل، دعا الاتحاد الأوروبي إلى وقف إطلاق النار في كامل الأراضي السورية، بما يسهم في التصدي للجائحة، ونقلت وكالة "فرانس برس" عن متحدث باسم المفوضية الأوروبية، الأحد29 آذار/مارس، أن "وقف إطلاق النار الذي أُقر حديثاً في إدلب لا يزال هشاً، وينبغي الحفاظ عليه وأن يشمل كامل سورية، "داعياً إلى القيام بمبادرة واسعة النطاق من أجل الإفراج عن المعتقلين في سجون النظام السوري، الدعوة التي سبقها مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية، غير بيدرسون، ببيان مماثل، طالب فيه "بإطلاق سراح المعتقلين في سجون النظام السوري بشكل واسع، منعاً لتفشي الفايروس، وأكد ضرورة وصول المنظمات الإنسانية بشكل فوري إلى جميع أماكن الاحتجاز، واتخاذ خطوات عاجلة لضمان الرعاية الطبية الكافية وتدابير الحماية في جميع السجون" ([20]).
وضمن هذا السياق يمكن فهم وتفسير دعوات المبعوث الأممي إلى سورية، غير بيدرسون، حول الدفع لتفعيل المسار السياسي، المتمثل باللجنة الدستورية المُعطلة، وإعلانه أن النظام والمعارضة توصلا إلى اتفاق على جدول أعمال اللجنة والجولة المقبلة، إذ يبدو أن بيدرسون يحاول تحقيق أي إنجاز وتقدم ملموس في ملف اللجنة الدستورية، مستغلاً المناخ الحالي الذي تفرضه الجائحة وما قد يؤمنه من غطاء دولي داعم، ولكن وبالوقت نفسه قد تعطي تلك الدعوات والاجتماعات مجالاً جديداً للنظام للمناورة وكسب الوقت، خاصة وأن أي اجتماعات محتملة للجنة لن تعقد فيزيائياً في الفترة الحالية نتيجة الإجراءات الاحترازية في مواجهة تفشي الفايروس، لذلك فمن المتوقع ألا تسفر الجولة الجديدة، في حال عقدها، عن أي نتائج جديّة، قياساً بالجولات السابقة، خاصة مع تمسك النظام بشروطه حول "الثوابت الوطنية" وسعيه المستمر للتعطيل والتمييع.
أخيراً، وضمن ما يفرضه فايروس "كورونا" من ارتباك على جميع اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين في الملف السوري، يبدو أن العمليات العسكرية ستتراجع خطوة حذرة إلى الخلف بمعاركها التقليدية، بالنسبة للاعبين الأصلاء ووكلائهم المحليين، مع احتماليات توسع الهوامش لتنظيم الدولة وبعض المجموعات المتشددة، مقابل منح المزيد من الوقت وإفساح المجال لمناورات سياسية جديدة بين الأطراف المختلفة، وتهيئة المناخ السياسي لإعادة تفعيل واستئناف المفاوضات التي من المحتمل أن تكون بثلاثة اتجاهات، الأول: والمتمثل بتفعيل المفاوضات بين النظام والمعارضة عبر الدفع في اللجنة الدستورية، والضغط على الطرفين في هذا الإطار. الثاني: والذي قد يتمثل بإعادة إحياء قنوات المفاوضات بين "قسد" والنظام، خاصة مع ارتباك وتوجس "قسد" من إعادة انتشار وتموضع محتمل لقوات التحالف في شرق الفرات، أما الثالث فقد يتجلى في محاولات النظام وحلفائه لاستثمار هذا المناخ، والسعي لفتح ثغرة في جدار العقوبات الأمريكية-الأوروبية، سواء عبر غض الطرف عن مساعدات خليجية قد تقدم للنظام، أو عدم فرملة التطبيع العربي تجاهه، بالمقابل فإن فتح وتفعيل تلك المسارات أو أحدها، لا يعني أبداً إحراز خطوات متقدمة فيها، بقدر ما يعني أنها استجابة لواقع فرضه "كورونا"، وإعادة ترتيب الأوراق والأولويات، والتي يبدو أنها ستبقى مرهونة بمدى انتشار الفايروس وما سيرافقه من آثار وتهديدات، ومدى تأثيره في الخطط الخاصة لكل دولة واستراتيجياتها الخارجية تجاه سورية.
([1]) القيادة العامة للجيش: إنهاء الاحتفاظ والاستدعاء للضباط الاحتياطيين، الموقع الرسمي لوكالة الأنباء السورية "سانا"، 29/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/SR50k
[2])) نصر الله: المعركة مع كورونا في أولها ويجب وقف الحرب على اليمن، الموقع الإلكتروني لقناة الميادين، 28/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/muGUt
([3]) قوات النظام تخرق هدنة إدلب مجدداً...الفصائل ترد، الموقع الإلكتروني لصحيفة عنب بلدي، 1/4/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/uqbV9
([4]) بعد اشتباكات فصائل السويداء مع الفيلق الخامس..."رجال الكرامة تصعد ضد روسيا"، موقع الدرر الشامية، 2/4/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/PJwhz
[5])) تصعيد جديد...4 عمليات اغتيال في درعا خلال 24 ساعة، أورينت نت، 26/3/2020، متوافر على الرابط التالي: https://cutt.us/CQSgk
[6])) 3 قتلى في تفجير عند مدخل اعزاز بحلب، الموقع الإلكتروني لصحيفة المدن، 19/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/fnsDG
[7])) انفجاران يستهدفان ريف حلب في أقل من 24 ساعة، وعودة محاولات الاغتيال إلى إدلب، الموقع الإلكتروني لصحيفة عنب بلدي، 25/3/2020، متوافر على الروابط التالية: https://cutt.us/EEyzE، https://cutt.us/PY048
[8])) قسد تتصدى لهجمات الفصائل المسلحة...تقتل اثنين وتدمر آلية عسكرية، موقع ولاتي نيوز، 30/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/lWyDU
([9]) للاطلاع أكثر على افتتاحية تنظيم الدولة في نشرة النبأ حول فايروس كورونا، راجع الرابط التالي: https://cutt.us/8Krtu
([10]) السخنة "أم القرى" التي يحاول تنظيم الدولة توسيع نفوذه منها، الموقع الإلكتروني لصحيفة عنب بلدي، 3/4/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/lkKtY
([11]) الحشد الشعبي يطلق عملية عسكرية بعد دخول مسلحين من سورية، صحيفة عنب بلدي، 30/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/QXisl
[12])) ترامب يتهم قسد بإطلاق عناصر داعش لعودة التدخل الأمريكي، الموقع الإلكتروني بروكار برس، 14/10/2019، متوافر على الرابط: https://cutt.us/D4jxu
[13])) مرجع سبق ذكره، متوافر على الرابط: https://cutt.us/QXisl
[14])) وسط تهديدات بهجمات...التحالف الدولي يخلي قاعدة ثالثة في العراق، الموقع الإلكتروني لصحيفة عنب بلدي، 30/3/2020/ متوافر على الرابط: https://cutt.us/OQi1x
([16]) أمريكا تعزز قواعد في العراق بـ"باتريوت"...وتنسحب من أخرى، 31/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/6lyuZ
([17]) غارات إسرائيلية على الشعيرات..استهدفت غرفة عمليات إيرانية، جريدة المُدن، 31/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/7r7uc
[18])) بسبب كورونا...إجماع نادر في مجلس الأمن حول الملف السوري، السورية نت، 31/3/2020، متوافر على الرابط: https://cutt.us/pFj46
([19]) خلال 24 ساعة اتصالات بين زعماء أبرز 3 دول مؤثرة في سورية، السورية نت، 1/4/2020، متوافر على الرابط التالي: https://cutt.us/DpH4w
[20])) الاتحاد الأوروبي يدعو إلى هدنة في كامل سورية وإطلاق سراح المعتقلين، الموقع الإلكتروني لصحيفة عنب بلدي، 30/3/2020، متوافر على الرابط التالي: https://cutt.us/uH5NE
في تصريحه لصحيفة القدس العربي، رأى الباحث في مركز عمران، بدر ملا رشيد، أن المناورات الروسية ـ الإيرانية ـ السورية بالصواريخ غرب نهر الفرات والمتزامنة مع افتتاح معبر القائم بالبوكمال على الحدود بين العراق وسورية. ماهي إلا رسائل لقوات التحالف الدولي ولقوات سوريا الديمقراطية مفادها وجود الإمكانيات العسكرية لدى النظام وحلفائه لتمكين سيطرتهم العسكرية على المنطقة، وهي بمثابة إعلان لـ«قسد» بوجود دول تمتلك من القدرات العسكرية التي لا تمتلكها هي، في حال حدوث أية مواجهة عسكرية.
للمزيد انقر رابط المصدر: http://bit.ly/2AFLZ3u
قدَّم الباحث بدر ملا رشيد من مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، تصريحاً لعنب بلدي بتاريخ 11 أغسطس2019، حيث ربط الباحث بين الوجود الأمريكي ومصير المنطقة، واعتبر أنه في حال انسحاب القوات الأمريكية ستنحسر سيطرة “الوحدات” وسيعود النظام السوري للسيطرة على بعض المناطق في دير الزور والرقة وجزء من الطبقة.
وأضاف ملا رشيد، في حديثه إلى عنب بلدي، أن ذلك قد يؤدي إلى ظهور تنظيمات كتنظيم “الدولة الإسلامية” أو تنظيم أكثر تطرفًا، إضافة إلى عودة ظهور الفصائل المقاتلة التي قد تكون تابعة للمجالس العسكرية في الرقة أو دير الزور.
أما في حال تفعيل الاتفاق التركي- الأمريكي، فالمنطقة أمام عدة سيناريوهات، بحسب ملا رشيد، أهمها إنهاء وجود “الوحدات”، وليس بالضرورة إنهاء “قسد”، عبر تشكيل مجالس عسكرية محلية في المدن يمكن التعاون معها مستقبلًا كجزء من المنظومة الخارجة عن سيطرة النظام وروسيا.
وكانت “قسد” بدأت منذ بداية العام الحالي تشكيل مجالس عسكرية في كل من تل أبيض وكوباني والطبقة والرقة، ويتألف كل مجلس من قيادات محلية وقادة للألوية وقادة للأفواج إلى جانب مسؤولي المكاتب العسكرية بالمنطقة، ومن بين أهداف هذه المجالس توحيد جميع القوات العسكرية والأمنية تحت مظلتها.
المصدر عنب بلدي: http://bit.ly/2HfkJw8