تعد قضية النازحين في محافظة إدلب من القضايا الشائكة ذات البعد الإنساني والاجتماعي والسياسي، وهم الذين تبلغ نسبتهم 41% من السكان الحاليين في المحافظة، ويتوطن نصفهم تقريباً في مخيمات منتشرة على طول الشريط الحدودي مع تركيا يربو عددها على 280 مخيم، وتمثل المخيمات العشوائية القسم الأكبر منها بنسبة تقارب 86.4%([1]). في حين تمثل النسبة الباقية مجموعة من المخيمات المخططة ومخيمات الاستقبال والمراكز الجماعية. وعلى امتداد الأعوام الماضية بدأت الكثير من هذه المخيمات تنحو تدريجياً نحو الاستقرار والاستدامة بعد أن تحولت الكثير من الخيم إلى أبنية اسمنتية وتحولت المدن إلى ما يشبه القرى الكبيرة بمسميات أصبحت معروفة من قبل جميع سكان هذه المناطق. أضف إلى ذلك الكثافة السكانية المرتفعة ضمن هذه المخيمات بفئاتها العمرية المتنوعة، ولتشكل مجتمعات جديدة خلقتها ظروف الحرب واضطرار الأهالي للإقامة داخلها.
تعيش محافظة إدلب اليوم حالة من الهدوء النسبي على وقع نتائج الاتفاق الذي جمع كل من أنقرة وموسكو لإنهاء الحراك العسكري عليها. وقد عدً هذا الاتفاق وفقاً للمراقبين بمثابة تسوية سلمية مؤقتة لملف المحافظة يختبر من خلالها بنك الأهداف الأمنية المتفق عليه بين كل من روسيا وإيران وتركيا وفقاً لتفاهمات معينة فيما بينها. ومجنباً بالتالي المحافظة معركة عسكرية كبيرة كانت تهدد في حال وقوعها بكارثة إنسانية يمكن أن تتسبب بأعداد كبيرة من القتلى والجرحى من المقيمين والنازحين، فضلاً عن موجات نزوح جديدة ستعد الأكبر منذ اندلاع النزاع في سورية بداية عام 2011.
وعليه تحاول هذه الورقة قراءة واقع ومصير النازحين داخل محافظة إدلب في ظل المتغيرات العسكرية على الأراضي السورية بعد سيطرة نظام الأسد على الجنوب السوري والغوطة الشرقية التي أدرجت سابقاً ضمن ما يسمى مناطق خفض التصعيد، وما تبع ذلك من عودتها لسيطرة النظام نتيجة للتوافقات بين الفواعل الإقليمين والدوليين ذوي الصلة، وليطرح ذلك تساؤلاً عن مصير محافظة إدلب المندرجة حالياً ضمن مناطق خفض التصعيد. وذلك سعياً لمعرفة أثر التطورات العسكرية المحتملة على مستقبل النازحين فيها، وسط تعقيد وتشابك مصالح اللاعبين الدوليين والإقليمين فيها.
لم تهدأ الحملة العسكرية على محافظة إدلب من قبل النظام وحلفائه منذ خروجها عن سيطرته، وشهدت العديد من بلداتها حملات قصف جوي ومدفعي واشتباكات على أطرافها([2]). وبهدف تخفيض حدة التصعيد ووقف إطلاق النار قامت كل من تركيا وروسيا وإيران بالاتفاق على إدراج المحافظة ضمن مناطق خفض التصعيد في اجتماع الاستانة السادس في 15 أيلول من عام 2017. حيث تم تقاسم الأدوار والنفوذ بين هذه الدول لتطبيق ذلك، إلا أن القصور الذي شاب بعض نقاط الاتفاقية وخاصة ما تعلق منه بالملف الأمني، منح الفرصة للنظام والمليشيات الموالية له لاقتحام مناطق جنوب شرق المحافظة في كانون الأول/ديسمبر من عام 2018. ليسيطر على مساحة تقدر بـ 17.5%([3]).
شهدت المحافظة خلال الأعوام الماضية استقبال موجات كبيرة من النازحين من شتى بقاع الجغرافية السورية بعد تحررها من قبضة النظام السوري، ومشَّكِلة مقصداً اجتذب مئات الآلاف من النازحين إليها فيما بعد، متضمنة حملات التهجير القسري التي اتبعها نظام الأسد على مدار هذه الأعوام لنقل معارضيه من مناطقهم الأصلية لتوطينهم فيها. حيث استقر قسم منهم في مدنها وبلداتها وداخل المخيمات؛ بينما فضَّل البعض الآخر منهم العبور إلى الأراضي التركية. وقد أدى قيام تركيا بإغلاق حدودها في وجه تدفق النازحين إليها مؤخراً إلى ارتفاع الكثافة السكانية فيها بشكل كبير مفاقماً بالتالي من تردي الوضع الإنساني والاجتماعي للسكان، وعدم القدرة على تلبية احتياجاتهم ومتطلباتهم، في ظل تفشي البطالة بشكل مرتفع وانعدام سبل العيش لدى نسبة كبيرة من النازحين ووقوعهم تحت خط الفقر المدقع، أضف إلى ذلك المشكلات المرتبطة بانهيار البنية التحتية والوضع الصحي المتردي وغياب المأوى وارتفاع الأسعار والظروف الأمنية الخطرة. وليخلق هذا بالتالي أزمة إنسانية كبيرة تتفاقم تبعاتها وتأثيراتها السلبية يوماً بعد يوم على النازحين أنفسهم وعلى السكان المحليين في مناطق نزوحهم.
وفقاً للعديد من التقارير والإحصاءات الميدانية، بلغ عدد السكان في محافظة إدلب وريف حلب الغربي وريف حماة الشمالي في شهر آب من عام 2018 ما يقارب من (3.867.663) نسمة. يمثل السكان المقيمين فيها نسبة 58% أي ما يقارب (2.226.736) نسمة، في حين بلغ عدد السكان النازحين (1.621.077) نسمة وما نسبته 41%. كذلك يشكل عدد السكان القاطنين في مخيمات النزوح (791.640) نسمة وما نسبته 20% من العدد الكلي لسكان المحافظة([4]). ويقيمون في المخيمات المنتشرة في مناطق المحافظة القريبة من الحدود التركية، والتي تفتقد غالبيتها لأدنى مقومات العيش الكريم، ويقاسي سكانها مرارة العيش وعوز الحاجة وقسوة الفقر والمرض والجهل. ولتمثل هذه المخيمات الوجه الأبرز لمعاناة النازحين داخلياً، فسكانها هم من النازحين الأشد فقراً ومن بين الفئات الاجتماعية الأشد ضعفاً من النساء وكبار السن والأطفال، والذين يشكلون بمفردهم نصف عدد سكان هذه المخيمات. أضف إلى ذلك أن النسبة الأكبر من هذه المخيمات هي من المخيمات العشوائية التي تشكل نسبة تزيد عن 86% منها كما ذكرنا سابقاً، والتي بناها النازحون بأنفسهم، والتي لا يتم لحظها غالباً من قبل المنظمات الإغاثية نظراً لكثرة عددها وانتشارها العشوائي واكتظاظها الكبير بالسكان مُشَّكِلة مستوطنات واسعة الامتداد يزداد أعداد النازحين فيها يوماً بعد آخر([5]).
لم يعد يخفى على المتابع لمجريات النزاع في سورية الظروف الإنسانية الصعبة التي يقاسيها سكان هذه المخيمات بمختلف جوانبها الصحية والاجتماعية والتعليمية والمعيشية والنفسية التي أفرزت وستفرز العديد من التداعيات السلبية عليهم. فقد شكلَّ طول أمد وجودهم في هذه المخيمات وأعدادهم المرتفعة والمتزايدة عاملاً أثقل كاهل المنظمات الإغاثية والإنسانية عن تلبية الاحتياجات المتنوعة لهذه الكتلة البشرية الضخمة، إلى جانب انتشار حالات الفساد في العديد من هذه المخيمات والعراقيل المرتبطة بإيصال المساعدات إليها مع تنوع الفصائل العسكرية المسيطرة على مناطق هذه المخيمات خلال الأعوام الماضية، وغياب إدارة مركزية موحدة معترف بها للإشراف عليها. أضف إلى ذلك غياب أي رؤية مستقبلية لمصير النازحين داخل وخارج المخيمات من قبل الجهات الدولية والمحلية. وما سيشكله ذلك من تحدي مستقبلي في توطينهم وتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي لهم بعد أن أضحت عودتهم إلى مناطقهم الأصلية مثار تخوف وريبة من قبل غالبيتهم على مصيرهم، بعد أن بسط النظام وحلفائه سيطرتهم عليها وهم في غالبيتهم من المحسوبين على الفئات المعارضة للنظام في شقيها العسكري والسياسي.
في حين يُنظر إلى التفاهم الذي توصلت إليه كل من أنقرة وموسكو يوم 17 أيلول/سبتمبر الجاري بكونه مجرد اتفاق مرحلي ولا يمكن اعتبار بنوده إلا حلاً مؤقتاً بانتظار التفاهم الجديد أو النهائي بين أنقرة وموسكو([6])، إلا أنه أسهم في تفادي اندلاع معركة كبرى على محافظة إدلب. والتي وصفها الكثير من المراقبين بأنها لو وقعت لكانت من بين أكثر المعارك تأثيراً على الوضع الإنساني في سياق النزاع السوري على مدار الأعوام السبع الماضية، نظراً لما تحمله هذه المعركة من دلالة رمزية لهذه المحافظة التي تحتضن في ثناياها العدد الأكبر من المهجرين قسرياً والنازحين داخلياً عبر هذه الأعوام من مختلف بقاع الجغرافيا السورية([7]). وهم الذين ركبوا موجة النزوح لأكثر من مرة إلى أن استقر بهم المطاف في هذه البقعة من الأرض السورية مبتغين الحفاظ على أرواحهم وعائلاتهم بعد أن اختبروا أهوال الحرب وقسوة الحياة في مناطق سيطرة النظام. لذا فإن تسليط الضوء على واقع ومصير النازحين يعد من الأهمية بمكان بغية وضع تصور لما يمكن أن تؤول إليه أوضاعهم وفقاً للتطورات المستقبلية المحتملة التي يمكن رسمها بناءً على المعطيات المتغيرة المرتبطة بمصير المحافظة.
على مدار الأعوام الماضية لم يسلم النازحون في محافظة إدلب داخل وخارج مخيمات النزوح من استهداف قوات النظام وحلفاؤه لهم بالقصف الجوي والمدفعي والطائرات المسيرة التي أودت بحياة مئات المدنيين ضمن هذه المخيمات([8]). ولتشكل هذه الهجمات دليلاً إضافياً على المجزرة التي يرتكبها النظام وحلفاؤه بحق المدنيين العزل، على الرغم من النداءات المتكررة التي أطلقتها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بعدم استهداف هذه المخيمات واحترام الطبيعة المدنية والإنسانية لسكانها. لذا كان هناك تخوفاً من سكان هذه المخيمات فيما لو تمكنت قوات النظام من دخول المحافظة لكانت التكلفة مرتفعة للغاية على المستوى الإنساني، لأنها لن تتوانى عن استعمال سياسة الأرض المحروقة كما فعلت في مناطق أخرى سابقاً. وستعمد إلى استهداف هذه المخيمات، سيما وأنها تعد الحاضنة الشعبية للكثير من المعارضين للنظام السوري. من خلال قيامها بحملات اعتقال واسعة وملاحقات أمنية ضمنها وزج الذكور المتواجدين داخلها للالتحاق بها، وغيرها من الممارسات اللاإنسانية.
وأشارت المعطيات الواردة من داخل هذه المخيمات إلى وجود حالة من الترقب والتخوف الكبير لدى السكان مع اقتراب قوات النظام والمليشيات المساندة له من المحافظة للسيطرة عليها. مما كان سيفرض على النسبة الأكبر من النازحين والقاطنين في هذه المخيمات ركوب موجة نزوح جديدة، يشاركهم فيها السكان المقيمين الذين سيشكلون كتلة جديدة من النازحين. إلا أن هذه الموجة لو حصلت لكانت أصعب من سابقاتها على النازحين القدامى الذين عانى الكثير منهم من تجربة النزوح لأكثر من مرة نظراً لانعدام مقاصد النزوح المتاحة أمامهم وانسداد أفق الحركة لديهم باتجاهاتها المختلفة، وما سيحمله ذلك من مخاطر عليهم في حال تم المجازفة بالتوجه إليها. وفيما يلي توضيح لأبرز هذه الاتجاهات المحتملة:
تعد منطقة درع الفرات وعفرين من بين الوجهات الأهم التي كان من المتوقع أن يقصدها العدد الأكبر من النازحين. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد، إلى أي مدى ستكون هذه المناطق قادرة على استقبال هذه الموجات الكبيرة من النازحين داخل وخارج المخيمات والتي تقدر بأكثر من مليوني نازح كما يبين الشكل. وهي المناطق التي كانت مقصداً للنازحين بعد وقوعها تحت إشراف الجانب التركي منذ عام 2016، واحتوائها على العديد من النازحين داخل وخارج المخيمات الذين يتجاوز عددهم 400000 نازح تقريباً. ناهيك عن ظروفها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تحتاج الكثير من الوقت والجهد والكلفة المادية لتحسينها من أجل تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والأمني لسكانها بعد تحريرها من تنظيم داعش وتنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD). أضف إلى ذلك أن استقبال هذه الموجة الكبيرة من النازحين سيفاقم من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية للسكان والنازحين الموجودين داخلها. ناهيك عن وجود توجه لدى الحكومة التركية لتسهيل عودة اللاجئين السوريين لديها إلى هذه المناطق. لذا فإن هذه الموجة الكبيرة من النازحين كانت ستتسبب في أزمة إنسانية كبيرة من حيث عدم القدرة على تأمين المأوى والمستلزمات الأساسية لهذا العدد الكبير منهم وهم في غالبيتهم من الأطفال والنساء وكبار السن([9]).
الشكل رقم 1: يبين أعداد النازحين في محافظة إدلب ومقاصد النزوح المحتملة
المصدر: صُممت الخريطة بواسطة مركز عمران وتم الاستناد على الأرقام الصادرة عن منسقو الاستجابة في الشمال السوري.
2. التوجه نحو دخول الأراضي التركية
تعد محافظة إدلب إحدى المناطق الحيوية الهامة لتركيا لتوضعها على حدودها، وتفرض أنقرة في الوقت الحاضر إجراءات مشددة للدخول إلى أراضيها على جانب حدودها مع سورية، وهي التي تستضيف ما يقارب من أربعة ملايين لاجئ سوري لديها وفق الأرقام غير الرسمية. مما يجعل من احتمالية عبور هذا العدد الكبير من النازحين إلى الأراضي التركية أمراً مستبعداً في الوقت الحاضر بناءً على المعطيات الحالية في تركيا لعدم استقبال المزيد من اللاجئين السوريين. في وقت تتعرض فيه الحكومة التركية لضغوط داخلية وأوروبية للحد من تدفق اللاجئين اليها، ومعاناة أنقرة من تحديات اقتصادية هي الأكبر على الاطلاق منذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في عام 2002([10]). إلى جانب وجود تخوف لدى أنقرة من أن يتم ممارسة ضغوط عليها لفتح حدودها أمام النازحين استجابة للحالة الإنسانية التي ستحدث على حدودها لو تم اندلاع هذه المعركة. ومن جانب آخر فإن توجه النازحين للخروج من سورية يتعارض مع جهود موسكو التي تسعى جاهدة لعودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم من دول الجوار، والذي قد يمثلَّ أحد عوامل التوافق بين البلدين لوقف هذه المعركة. لذا تسعى أنقرة جاهدة لمنع انفجار موجة نزوح وتهجير جديدة لسكان هذه المحافظة.
قبيل توجه قواته إلى محافظة إدلب، بدأ النظام يروج لفكرة المصالحات والممرات الإنسانية ومراكز إيواء النازحين، وهو نفس السيناريو الذي عمل عليه سابقاً في الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي ودرعا تحت إشراف روسيا. ومع استمرار زخم قدوم معركة إدلب بدأت آلة إعلام النظام تروج لقيامه بتجهيز مراكز إيواء لاستقبال النازحين من محافظة إدلب في حال توجههم إلى مناطقه عبر فتح الممرات الإنسانية([11]). وهو الطرح الذي تبناه مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية ستيفان دي ميستورا مؤخراً، من أجل إجلاء السكان المدنيين قبيل هجوم وشيك يعد له النظام وحلفاؤه([12]). ولا تختلف تصريحات المبعوث الدولي كثيراً عن روسيا وافتتاحها ما يسمى "المعبر الإنساني في أبو الظهور" وهو مشاركة حقيقية في عمليات التهجير القسري التي تمارسها روسيا وقوات النظام في مختلف أرجاء سورية. إلا أن هذا الطرح لم يلقَ قبولاً لدى نسبة كبيرة من السكان المقيمين والنازحين، لعدم ثقتهم بمصيرهم ضمن هذه المراكز التي تعد أشبه بمراكز أو معسكرات اعتقال كبيرة، وتخوفهم من ردود فعل انتقامية من مقاتلي ومؤيدي النظام السوري. هذه الحقيقة التي تجسدت بشكل حقيقي في مراكز الإيواء التي أقامها النظام للنازحين من الغوطة الشرقية والتي تحولت لمراكز اعتقال للنازحين داخلها بعد أن فرض النظام عليها حصاراً مطبقاً مانعاً الدخول والخروج إليها إلا بموافقات رسمية من قبله وبعد أن جرَّدَ الداخلين إليها من بطاقاتهم الشخصية بهدف إجراء عملية التدقيق الأمني عليها. إلى جانب كون هذه المراكز غير مهيأة لاستقبال المدنيين بسبب نقص التجهيزات والمستلزمات المعيشية ضمنها التي لا تفي والأعداد الكبيرة للمقيمين داخلها([13]). ومن جانب آخر فإن مصير العديد من الشباب ممن هم في سن الخدمة العسكرية ضمن هذه المراكز يبقى مجهولاً في ظل وجود إشاعات تفيد بقيام النظام بتجنيدهم إجبارياً ضمن قواته أو اعتقالهم في فروعه الأمنية([14]).
يبقى مستقبل النازحون داخل وخارج مخيمات النزوح في محافظة إدلب رهناً للاتفاقات الدولية والإقليمية والتي غالباً ما تخضع لتفاهمات بين الفواعل الرئيسية في الملف السوري. وقد أرسى التفاهم الروسي التركي الأخير حول مصير المحافظة جواً من الاستقرار النسبي للسكان في مرحلته الأولى. وما سيتبع ذلك من مراحل قادمة ستعمل فيها أنقرة على التفرغ لضبط المحافظة أمنياً وعسكرياً، في حين من المتوقع أن يكون هناك ترتيبات وتوافقات مع الفواعل المحلية لكيفية إدارة المحافظة على غرار ما هو حاصل في منطقة درع الفرات. أو قد يتم الاتفاق على سيناريو يتضمن عودة مؤسسات الدولة السورية لتقلد الجانب الإداري في هذه المحافظة وبقاء الجانب الأمني بيد أنقرة وفقاً لصيغ إدارة مشتركة بين الجانبين.
لذا فمع استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه في محافظة إدلب ووجود حالة من الاستقرار النسبي في مناطق مخيمات النزوح، يبدو من الأهمية بمكان قيام الجهات ذات الصلة بالنظر في مستقبل هذه المخيمات وآليات التعاطي معها من مختلف الجوانب. وهذا الدور يقع جزء كبير منه على الحكومة التركية لوضع تصور مستقبلي حول ذلك بالتعاون ما بين الأطراف الدولية والمحلية ذات الصلة. ومن المفترض أن يتضمن هذا التصور جملة من التساؤلات حيال النازحين داخل وخارج المخيمات، والتي يمكن حصرها بما يلي:
سترسم الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها من التساؤلات الأخرى ذات الصلة صورة أكثر وضوحاً عن مستقبل النازحين داخل وخارج المخيمات، وما يتطلبه ذلك من وضع آليات للتعامل مع هذا الملف الشائك.
مع التوصل إلى تفاهم أولي بين أنقرة وموسكو على محافظة إدلب، يؤجل فصل جديد من فصول المأساة الإنسانية على بقعة جغرافية أخرى من الأرض السورية، إلا أن هذا الفصل كان من المتوقع أن يكون الأكثر إيلاماً في حال وقوعه مخلفاً أزمة إنسانية غير مسبوقة، نظراً لتكدس ما يقارب من أربعة ملايين نسمة في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة التي تعد آخر معاقل المعارضة السورية. غير أن الوجه الأكثر إيلاماً في هذه الأزمة هم الأفراد النازحين داخل وخارج المخيمات، وهم من الفئات الاجتماعية الهشة من النساء والأطفال وكبار السن الذي اضطرتهم ظروف الحرب عبر الأعوام الماضية للنزوح من مدنهم وقراهم من مختلف بقاع الجغرافية السورية قاصدين هذه البقعة هرباً من بطش الآلة العسكرية للنظام وحلفائه.
لذا فإن التحديات الإنسانية كانت ستمثل الوجه الأبرز لهذه المعركة في حال وقوعها، وهو ما يفرض على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي تحمل مسؤولياتهم اتجاه النازحين، وقيامهم بوضع الخطط الإغاثية للتخفيف من حجم المعاناة الإنسانية لهم. مع ما يتطلبه ذلك من فاعلية مدنية تعمل على تحييد المدنيين بوجود قوات فصل أو منظمات دولية لحمايتهم، أو بالدفع باتجاه تشكيل مناطق محايدة منزوعة السلاح يشرف عليها – أمنياً وإدارياً – فعاليات محلية للتخفيف من حدة موجات النزوح الداخلي للسكان المدنيين باتجاه مناطق بعيدة في حال اندلاع أي مواجهات عسكرية، والعمل على تأمين مستلزماتهم المعيشية بالتعاون والتنسيق مع المنظمات الإغاثية.
رغم الغموض الذي لا يزال يحيط بمصير محافظة إدلب وعدم حسمه بشكلٍ نهائي، ستبقى قضية النازحين فيها من التحديات الكبيرة في حاضرها ومستقبلها، مع ما يتطلبه ذلك من الإسراع في وضع حلول مستدامة لهذه القضية وتحديد مصير هذه الكتلة البشرية الضخمة داخل وخارج مخيمات النزوح. والتي يبدوا أن استمرارها بالشكل الحالي لم يعد مقبولاً لا من الناحية الإنسانية ولا من الناحية الأخلاقية، بعد أن تردى الوضع الإنساني فيها إلى مستوى لا يمكن تصوره، ناهيك عن الإفرازات الاجتماعية السلبية ضمن هذه المخيمات والتي تتطلب لحظها من جميع الجهات ذات الصلة والتنبيه إلى تداعياتها السلبية على حاضر ومستقبل السكان أنفسهم وعلى مناطق تواجد هذه المخيمات. وذلك في ظل وجود بيئة أمنية غير مستقرة يمكن أن تسَّهِل من عملية استقطاب الأفراد داخل وخارج هذه المخيمات من قبل بعض التنظيمات التي لا تزال فلولها منتشرة في هذه المناطق مستغلة الظروف المادية القاسية لهم وغياب أفق واضح يحدد مصيرهم.
([1]) Humanitarian Response, CCCM Cluster: IDP Sites Integrated Monitoring Matrix (ISIMM), July, 2018: https://goo.gl/LukmBf
([2]) تقع محافظة إدلب في أقصى الشمال الغربي لسورية المحاذي للحدود التركية، وتحيط بها محافظة حلب شرقاً ومن الجنوب محافظة حماة ومحافظة اللاذقية من الغرب. وتبلغ مساحة المحافظة 6100 كم2، وتقسم المحافظة إلى خمس مناطق إدارية وهي مركز المحافظة (مدينة إدلب)، ومعرة النعمان، وجسر الشغور، وأريحا وحارم. وبلغ عدد سكان المحافظة عند تاريخ 31-12-2010 (2.071) مليون نسمة بحسب سجلات الأحوال المدنية. وقدر عدد السكان المقيمين بنحو (1.535) مليون نسمة. وكانت محافظة إدلب من أولى المحافظات التي شهدت مظاهرات ضد حكومة نظام الأسد وخرجت عن سيطرتها في آذار من عام 2015.
([3]) عمار قحف، فرص الاحتواء والسيطرة على إدلب في مسارات الأزمة السورية، 24-05-2018، مركز الجزيرة للدراسات. م
([4]) منسقو الاستجابة في شمال سورية، 12-08-2018.
([5]) أوضاع معيشية مأساوية للنازحين في إدلب، موقع ديارنا، 10-09-2018: https://goo.gl/LG6ARL
([6]) قراءة ميدانية في التفاهم الروسي – التركي: هدنة بانتظار حل، جريدة الشرق الأوسط، 22-09-2018: https://goo.gl/awzWWa
([7]) التكلفة الإنسانية للهجوم على إدلب.. هل تدخل في الحساب؟، هيئة الإذاعة والتلفزيون التركية، 31-08-2018: https://goo.gl/kncCEt
([8]) قصف يوقع مجزرة في مخيم للنازحين جنوبي إدلب، جريدة عنب بلدي، 20-03-2018: https://goo.gl/i2tzie
([9]) يونيسف: الهجوم على إدلب يضع مليون طفل سوري في خطر، وكالة رويترز للأنباء، 31-08-2018: https://goo.gl/nPiBcG
([10]) علي باكير، لماذا تعارض تركيا عملية إدلب؟، 06-09-2018، جريدة القبس الإلكتروني: https://goo.gl/U92icU
([11]) ساعات ما قبل معركة إدلب... افتتاح معبر أبو الضهور يوم الخميس لخروج المدنيين، وكالة سبوتنيك، 15-08-2018: https://goo.gl/AvWoBx
([12]) دي مستورا يعرض الذهاب إلى إدلب لتأمين ممر إنساني، جريدة الحياة، 30-08-2018: https://goo.gl/LvgLHM
([13]) الأمم المتحدة: "وضع مأسوي" في مراكز إيواء نازحي الغوطة الشرقية، إذاعة مونت كارلو الدولية، 21-03-2018، https://goo.gl/d9Hiuw
([14]) مراكز إيواء نازحي الغوطة .. “احتجاز مؤقت”، جريدة عنب بلدي، 28-03-2018: https://goo.gl/Fsc3sj
يضاف إلى تحديات محافظة إدلب المتعددة تحدياً اقتصادياً وإدارياً ناجماً عن العدد الكبير للمهجرين قسرياً والنازحين من مختلف مناطق سورية والذي يقدر ب 1000000– 1200000 نسمة وذلك وفقاً للتقرير الصادر عن (ERCC)([1])، أي قرابة عدد سكان المحافظة 2010، ويتقاسم هذا التحدي عشرات المنظمات الدولية والمحلية والمجالس والإدارات المحلية، إلا أن تنامي العوامل المعيقة لاستقلالية عمل الفعاليات المحلية ( كالعسكرة مثلاً) ساهم في تعزيز شروط التبعية للمنظمات الإغاثية بشكل كبير، وحدّ من قدرتها على وضع سياسة تنمية اقتصادية محلية يمكن النهوض من خلالها بالواقع الاقتصادي للمحافظة، مما أسهم في ازدياد نسب الفقر والبطالة والتخلف، وبالتالي تزايد احتمالات التعثر الحتمي في التعامل مع هذا التحدي.
أرغم التدفق الهائل للمهجرين والنازحين المجالس والقوى المحلية العاملة في المحافظة على الاعتذار في 7/ 12/ 2016 عن استقبال المزيد حتى إشعار آخر إلى حين استيعاب الأعداد الحالية، وبسبب حجم المسؤولية الكبيرة والضاغطة على المحافظة لم تجد الفعاليات الإدارية المحلية سوى المنظمات الدولية والمحلية لمساعدتها في حل أزمة المهجرين وتوصلت لنموذج (إسعافي) في إدارة المهجرين من خلال "الهيئة العامة لإدارة المهجرين" التي كان لها دور في تخفيف العشوائية والفساد الحاصل في توزيع المساعدات وضبط احتياجات المخيمات وتقديمها للمنظمات([2]). إلا أن تردي الواقع الاقتصادي والإداري في المحافظة ساهم في تنامي المؤشرات التي تنذر باتساع حجم التحدي وازدياد صعوبات المعالجة، نذكر منها:
يعتري حركية الفاعلية لكوادر محافظة إدلب ومؤسساتها المحلية العديد من العراقيل التي تحدد من خياراتها، ومرد ذلك يعود أولاً إلى التعارض في أجندات الجهات المسيطرة على المحافظة، وثانياً لتشتت الإدارات والهيئات المدنية التي لاتزال تفتقر لرؤية استراتيجية موحدة تمكنها امتصاص صدمة النزوح وابتداع أدوات إدارة سياسية واقتصادية واجتماعية تتواءم مع الوضع غير المستقر للمحافظة، وثالثاً للاعتمادية المفرطة على المنظمات الدولية والمحلية في تقديم المساعدات للسكان ومخيمات المهجرين والمجالس المحلية ما أدى لظهور ما يعرف بـ" المرض الهولندي" الذي يعبر عن ركون الإدارة للإيرادات الريعية دون إيلاء اهتمام لقطاعات الإنتاج، فأضحى الجو العام هو تخديم تلك المنظمات بالأرقام والبيانات والشكوى العامة في قلة الدعم المالي. والابتعاد عن تخديم القطاعات الفعالة في المحافظة وأهمها الزارعة، الأمر الذي ساهم في ارتفاع في معدلات التضخم والفقر والبطالة بالإضافة إلى ظهور اقتصاد موازي مؤسس من قبل تجار استغلوا حالة الفوضى واللانظام لتحقيق أرباح عالية على ظهر المواطن والمهجر.
لا يزال ينتظر من الجهات المدنية الفاعلة لا سيما مجلس المحافظة والمدينة تبني عدة سياسات تساهم في تعزيز قدرة المحافظة على مواجهة التحديات الناجمة عن ازدياد منسوب المهجرين والنازحين، تبدأ بإعادة هيكلة الوظائف العامة المعنية بالجانب الخدمي والتنموي والتعليمي في المحافظة – بعد الدفع على تنحية الأثر العسكري قدر المستطاع-وفق الاقتراحات التالية:
رغم السيولة الأمنية والخدمية في المحافظة، إلا أن تزايد التحديات الناجمة عن تنامي الكثافة السكانية جراء سياسات التهجير وحركية النزوح المحلي تستوجب على الفعاليات المحلية الإدارية لا سيما المجالس المحلية من اتباع استراتيجية إعادة هيكلة الوظائف العامة وفق المقترحات أعلاه وربطها في خطط عامة تراعي البعد التنموي والاقتصادي في المحافظة.
([1]) استقبلت ادلب في غضون فترة قصيرة المهجرين قسرًا من داريا ومعظمية الشام وقدسيا والهامة وخان الشيح والتل ومضايا والزبداني وحلب الشرقية، فضلًا عن تواجد للنازحين فيها من حماة وحمص واللاذقية ودير الزور والرقة. انظر الخارطة الصادرة عن مركز تنسيق الاستجابة للحالات الطارئة (Emergency Response Coordination center) الصادر بتاريخ 13/1/2017 https://goo.gl/vlEqRf
([2]) حيث عملت الهيئة على تقسيم المحافظة إلى قطاعات ضمن كل قطاع عدد معين من المخيمات بحيث يكون لكل قطاع مدير ولكل مخيم إدارة خاصة به تعمل على إحصاء أعداد المهجرين واحتياجاتهم المختلفة داخل المخيم من سلع وخدمات تشمل الصرف الصحي والتعليم والصحة والطعام...إلخ، وترفع هذه الحاجيات إلى إدارة القطاع الذي بدوره يوصلها للهيئة العامة حيث تجتمع لديه لوازم ونواقص المخيمات في قطاعات المحافظة كافة، فيتم توجيه المنظمات الإغاثية حسب تلك المعلومات.
([3]) تقييم الاحتياجات متعدد القطاعات في محافظة إدلب التي تعده منظمة إحسان للتنمية والإغاثة/ قسم المراقبة والتقييم والمسائلة كانون الثاني 2017-تقرير غير منشور.
([4]) على سبيل المثال يمكن لحظ انتكاسة هذا القطاع من خلال تراجع انتاج القمح من 189 ألف طنًا إلى 40 ألف طنًا بسبب غلاء الوقود إذ بلغ سعر لتر المازوت حوالي 250 -300 ليرة سورية للمكرر في إدلب أما الآتي من مناطق النظام فبلغ سعر اللتر 400 ليرة سورية.