ملخص تنفيذي
- في حزيران 2025، تم الإعلان عن اتفاق بين القيادتين السورية والتركية لدمج الشمال السوري بمنظومة الحوكمة الوطنية للدولة السورية، اتفاق كان مدفوعاً باعتبارات سياسية أكثر منها تقنية كتوطيد السيادة وضمان الوحدة؛
- في سياق الدمج، جاءت التعيينات على مستوى محافظة حلب لتراعي التوازنات القائمة في الشمال السوري، في حين كانت أكثر اعتماداً على كوادر هيئة تحرير الشام المنحلة، وحكومة الإنقاذ سابقاً وحلفائهما أو ما يعرف بــ "الأخوة/ الحلفاء" في الشمال السوري على مستوى المناطق والشعب الخدمية؛
- أُنجزت عملية الدمج وحققت أهدافها بحسب القائمين عليها، مع توحيد المرجعيات الإدارية والقانونية والمالية، واتساق الهياكل التنظيمية والتقسيمات الإدارية مع تلك المعتمدة لدى الدولة السورية، لكن معطيات أخرى تفيد بأن هنالك فجوات وثغرات رافقت عملية الدمج على أكثر من مستوى؛
- لإنجاح عمليات دمج منظومات الحوكمة المحلية بالإطار الوطني، لا بد من غطاء سياسي وانخراط إيجابي للدول المعنية بالتنسيق مع الدولة السورية، على أن يتم الدمج وفق مقاربة متوازنة برؤية تقنية لإعادة تأسيس منظومة حوكمة لسورية، توازن بين اعتبارات الكفاءة الإدارية والقدرة على توفير الخدمات الأساسية واحترام الهويات المجتمعية، ولا ضير بالتدرج في الدمج بحسب أولوية القطاعات وتوافر القدرات، مع التأكيد على توافر الكوادر البشرية اللازمة لإتمام العملية، وإلا فإن المخاطر عالية لإعادة إنتاج المركزية الإقصائية والهياكل الزبائنية.
مقدمة
منذ عام 2016، بدأت تتشكل منظومة حوكمة هجينة في مناطق العمليات العسكرية التركية الثلاث (درع الفرات 2016-2017، غصن الزيتون 2018، نبع السلام 2019)، لعل أهم سماتها الإشراف الخارجي للولايات التركية الثلاث؛ كلس، غازي عنتاب، وهاتاي على المجالس المحلية المنتشرة في منطقتي عمليات "درع الفرات" و"غصن الزيتون" بواسطة منسقين أتراك، وتشتت محلي ممزوج بضعف مؤسساتي في ظل محدودية التكامل بين المجالس المحلية القائمة في المنطقة.
في كانون الثاني 2024، سقط نظام الأسد ليعقبه العمل على دمج الشمال السوري في منظومة الحوكمة الوطنية للدولة السورية، وما تطلبه الأمر من عقد لقاءات على مستوى عالي بين المسؤولين السوريين والأتراك، وأخرى مع القائمين على المجالس المحلية والمديريات الخدمية في الشمال السوري. بالمحصلة، تم الكشف في نهاية شهر حزيران 2025 عن ملامح خطة عامة للدمج تنتهي بشهر تموز 2025، بموجبها يتوقف عمل المنسقين الأتراك، وتؤول مسؤولية إدارة الوحدات الإدارية والمديريات الخدمية إلى محافظة حلب والوزارات السورية باستثناء ملفي الأمن والصحة، اللذان ستتم إدارتهما لمرحلة مؤقتة ووفق ترتيبات مشتركة مع الجانب التركي.
على الرغم من انتهاء عملية الدمج بحسب رئيس لجنة دمج الريف بالمدينة، إلا أن هنالك تساؤلات عدة تطرح بخصوص خطة الدمج والتحديات التي واجهتها، نظراً لأهمية انعكاساتها على فاعلية منظومة الحوكمة الوطنية في مواجهة استحقاقات إعادة بناء الدولة السورية واستقرار المجتمع السوري، كذلك على مسار العملية التفاوضية لدمج منظومة الحوكمة لشمال شرق في منظومة الدولة السورية. وعليه، تحاول هذه الورقة التطرق إلى خطة الدمج والاعتبارات الموجبة لها، وملامحها العامة والتحديات التي واجهتها، في محاولة لاستنباط الدروس المفيدة بما يصب في إعادة بناء الدولة وتمكين مؤسساتها واستقرار المجتمع السوري، وذلك بالاعتماد على عدد من المقابلات التي أجريت خلال شهر تموز 2025 مع عدد من العاملين في الإدارة المحلية في الشمال السوري.
خطة الدمج: السياسة أولاً
تهيمن الاعتبارات السياسية (كتوطيد السيادة وضمان الوحدة) على أجندة الحكومة السورية فيما يتعلق بملف دمج الشمال السوري بمنظومة الحوكمة الوطنية للدولة السورية، توجه يجد صداه لدى تركيا ذات الدور المركزي في إدارة ملف الشمال السوري. ولا يلغي ما سبق قضايا موجبة للدمج تتصل بمصالح السكان وأمورهم الحياتية.
ورثت القيادة السورية الجديدة إرث النظام البائد ومشاكل سورية الممتدة لعقود، فمؤسسات الدولة مهترئة وتقاوم الانهيار، والاقتصاد في حالة حرجة يتطلب فيها إنعاشاً عاجلاً، والحكومة المركزية ليست الجهة الوحيدة في إدارة وتوفير الأمن والخدمات والاقتصاد على كل الجغرافية السورية، إلى جانب تواجد جهات محلية وخارجية تنازع الحكومة في دمشق سيادتها بأشكال عدة. للتعامل مع هذه التحديات، لجأت القيادة السورية إلى مقاربة يمكن توصيفها بــ"إستراتيجية قوة السلام وعمليات الاحتواء"([1])، ولا ضير في ذلك من الاتكاء على قوة الحلفاء والتفاوض مع أطراف في المعادلة الداخلية، لاستكمال بناء مؤسسات الدولة وضمان وحدتها وتعزيز سيادتها.
يُلقي ما سبق الضوء على مساعي القيادة السورية لدمج الشمال السوري في منظومة الحوكمة للدولة السورية، ذلك ما أشار إليه مصدر مسؤول في محافظة حلب في تصريح لموقع الجزيرة، فالدمج مقدمة لتفكيك النفوذ المتعدد في الشمال السوري، لتعزيز موقف الدولة في ملفات أخرى كشرق الفرات.([2]) بجانب آخر، يمكن تلمس هذه المقاربة بالمفاوضات الشاقة التي تجريها القيادة السورية مع الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا وقوات قسد، وما تمخض عنها من اتفاقين إطارين؛ الأول على المستوى الوطني بتاريخ آذار 2025، والثاني محلي في نيسان 2025 الناظم لحي الشيخ مقصود في مدينة حلب.
تجد مساعي القيادة السورية دعماً من قبل الحلفاء وفي مقدمتهم تركيا، التي تسترشد بأربعة ركائز أساسية تشكل بمجموعها إطاراً عاماً لسياستها تجاه سورية عقب سقوط نظام الأسد، اثنتان منهما ترتبطان بمنظورها للدولة السورية:([3])
- بناء الدولة وتأسيس سلطة مركزية لتعزيز الاستقرار السياسي: عبر إصلاح القطاع الأمني ونزع سلاح الفصائل ودمجها في جيش وطني موحد لمنع التشرذم. كذلك من خلال دعم بناء مؤسسات الدولة، وإنشاء قيادة مركزية قادرة على الحفاظ على سلامة ووحدة الأراضي السورية؛
- بناء سورية موحدة: مع ضمان عدم تحدي أي مجموعة مسلحة لسيادة الدولة، إلى جانب تعزيز جهود المصالحة الوطنية لمعالجة الانقسامات الطائفية والعرقية، وإعادة دمج المناطق التي تسيطر عليها المعارضة تحت سلطة مركزية.
جاءت تصريحات وزير الخارجية التركي لتعبر عن هذا التوجه، حيث دعا إلى ضرورة احتكار جهاز الدولة الشرعي للسلاح واستخدام القوة، كذلك دعوته فصائل الجيش الوطني للانضمام إلى الجيش السوري للحيلولة دون حدوث فوضى.([4]) توجه تم تعزيزه باتفاق تركيا مع القيادة السورية في حزيران 2025 على دمج الشمال السوري بمنظومة الحوكمة الوطنية. بجانب آخر، خلَف تعدد المنظومات الحوكمية مشاكل للسكان المحليين تتصل بالملكيات والوثائق الرسمية، وعقب سقوط نظام الأسد، لم تعترف الحكومة المركزية في دمشق بالوثائق الرسمية الصادرة عن المجالس المحلية في الشمال السوري لأسباب متعددة، الأمر الذي دفع العديد من المحامين في الشمال السوري للاحتجاج ضد ما اعتبروه تمييزاً وتجاهلاً لمعاناة نحو مليوني شخص يعيشون في هذه المنطقة. ([5])
تشير المعطيات المتاحة إلى لقاءات غير معلنة تمت على مستوى عالي بين القيادتين التركية والسورية، برز خلالها توافق سياسي على ضرورة الدمج والإسراع به تحقيقاً للمصالح المشتركة آنفة الذكر. تم تعيين معاون محافظ حلب للشؤون الدينية والأوقاف الأستاذ أحمد ياسين في بداية شهر آذار 2025 كرئيس للجنة دمج الريف بالمدينة،)[6]( ليعقد بدوره سلسلة من اللقاءات مع الجانب التركي لصياغة الإطار العام لخطة الدمج، أي القطاعات المراد دمجها وتلك التي تتطلب ترتيبات خاصة. بالمقابل، تشير مصادر محلية إلى القيادي في هيئة تحرير الشام المنحلة عبد الرحمن إبراهيم سلامة،([7]) باعتباره المرجعية الحقيقية للجنة الدمج بحكم منصبه كنائب محافظ حلب، مشرف على مناطق إعزاز، الباب، جرابلس، منبج، عفرين، وما يعزز هذا الاستنتاج توصيفه أحياناً كمفوض رئاسي مسؤول عن متابعة عملية الدمج.([8])
تم العمل على الدمج مع استكمال التعيينات على مستوى إدارات المناطق، باعتبارهم المسؤولين عن متابعة العملية،([9]) تعيينات جاءت على مراحل، فعلى سبيل المثال، تم تعيين مسؤولي مناطق جبل سمعان وعفرين والسفيرة والأتارب في نيسان 2025، تبعها في أيار تعيين مسؤولي منطقتي جرابلس ومنبج، وفي آب 2025 تم تعيين مدير منطقة لدير حافر رغم أنها ما تزال خارج سيطرة الحكومة السورية. حين جاءت التعيينات على مستوى المحافظة (المحافظ، النواب، المعاونين) لتراعي التوازنات القائمة في الشمال السوري،([10]) كانت أكثر اعتماداً على كوادر هيئة تحرير الشام المنحلة، وحكومة الإنقاذ سابقاً وحلفائهما أو ما يعرف بــ "الأخوة" في الشمال السوري على مستوى المناطق،([11]) كذلك على مستوى رؤساء الشعب الخدمية.([12])
في حزيران 2025، تم الإعلان عن اتفاق مع الجانب التركي، بموجبه تم إنهاء عمل المنسقين الأتراك([13]) والعمل على دمج الوحدات الإدارية والمديريات الخدمية القائمة في ريف حلب الشمالي ضمن هيكلية مؤسسات الدولة، وفقاً للمرجعية القانونية والإدارية للدولة السورية، وذلك في مهلة نهايتها شهر تموز 2025، في حين تم الإبقاء على تنسيق مؤقت مع الجانب التركي لإدارة ملفي الصحة والأمن،([14])نظراً لحساسية كلا الملفين لدى أنقرة، سيما الأمني في ظل بقاء قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على مقربة من حدودها، وربما تخفيفاً للعبء على الحكومة السورية، التي ما تزال مواردها وقدراتها متواضعة مقارنة بحجم الملفات والتحديات التي تواجهها، بما يلقي بظلاله أساساً على خطة الدمج والأهداف المناطة بها والتي تتضمن: 1) تبسيط الإجراءات للمواطنين وتحسين تقديم الخدمات لهم، 2) ترسيخ الوجود القانوني والمؤسساتي للدولة السورية في الشمال وتعزيز الانتماء لها، 3) تمكين الحكومة من تنفيذ خطط إعادة الإعمار وضمان حقوق المواطنين.
الدمج تم، ولكن
وفقاً للمعطيات المتاحة، يقتضي الإطار العام للدمج توحيد المرجعيات الإدارية والقانونية والمالية، واتساق الهياكل التنظيمية والتقسيمات الإدارية مع تلك المعتمدة لدى الدولة السورية، بينما أحيلت للوزارات والهيئات الحكومية إنجاز خططها التفصيلية للدمج. لعل ذلك يفسر تباين حركية الدمج بين قطاع وآخر بحسب رؤية مؤسسات الدولة وقدراتها، وبينما يشير رئيس لجنة الدمج في محافظة حلب إلى إتمام عملية الدمج، وأن ما تبقى مجرد قضايا فنية وعملياتية متروكة للمتابعة، يعتقد عاملون في الإدارة المحلية في الشمال السوري خلاف ذلك، فالدمج وإن تم كما يقال، إلا أن هنالك إشكاليات رافقته، وتحديات تعترضه لا يستهان بها، من شأن استمرارها تقويض الأهداف المناطة بالدمج. لعل تباين الرأي بين الطرفين مرده تباين النظرة للدمج، بين من يركز على الصورة الكلية وبين من يهتم بالتفاصيل الفنية والعملياتية.
تفيد المعطيات المتاحة بعدم توافر خطة للدمج عند تعيين رئيس لجنة دمج الريف بالمدينة، إذ تمت صياغتها وتطويرها عقب سلسلة من اللقاءات مع الجانب التركي ومسؤولي المجالس المحلية والمديريات الخدمية في الشمال السوري، ومع اكتمالها تمت المباشرة بها وإنجازها من خلال توحيد المرجعيات الإدارية والمالية والقانونية، كذلك إعادة تنظيم الهياكل المؤسساتية والتقسيمات الإدارية وفق ما هو معتمد في الدولة السورية. بالمقابل تفيد معطيات بأن الدمج كان أقرب للعشوائية وبلا خطة تقنية مفصلة: "عقدت لجنة الدمج لقاء مع المجالس المحلية في منطقة الباب، وكان الحديث عن دمج مديريات المجالس مع نظيرتها في حلب بعد أسبوع، في حين لم يكن هنالك رؤية بخصوص دمج مديرية الشؤون الإدارية ليتم إلغائها، بحكم أنها "بدعة إدارية" وليس لها نظير في المجالس البلدية. كان الأمر أقرب إلى أوامر وتوجيهات شفوية دونما إجراءات مكتوبة، وبدون دراسة فعلية لواقع المديريات المراد دمجها ومتطلباتها".([16])يعزز ما سبق غياب التفاصيل التقنية في مثال إعادة تنظيم مديريات النقل في الشمال السوري وربطها مع مديرية النقل في حلب، فالقواعد الإجرائية والآليات التنظيمية ما تزال متباينة بين الشمال السوري وحلب ومناطق حكومة الإنقاذ سابقاً.([17]) كذلك من الانتقادات الموجهة للخطة، عدم الوضوح في مرجعية المجالس البلدية والشعب الخدمية في الشمال السوري، ومؤشر ذلك التنافس بين مدراء المناطق بما لديهم من صلاحيات واسعة، وبين المحافظة والمديريات المركزية التابعة للوزارات، إلى جانب مركزية مسؤولي المناطق في عملية الدمج بما يتجاوز ما هو قائم ومعتمد في القانون 107 الناظم للإدارة المحلية. ([18])
بخصوص الكوادر البشرية العاملة في الشمال السوري، والمقدر عددهم بما لا يقل عن 30 ألف موظف في القطاعات الشرطية والخدمية والإدارية، أشارت تصريحات رئيس لجنة الدمج باعتماد مبدأ "عدم الإقصاء"، امتثالاً لتوجيهات على مستوى عال من القيادة السورية بضرورة إتمام ملف الدمج دون احتجاجات أو ردات فعل قوية من قبل المجتمعات المحلية. في سبيل ذلك أتاحت لجنة الدمج خيارات للعاملين في الشمال السوري من قبيل؛ نقل المركز الوظيفي، والإحالة للتقاعد لمن بلغ سنه، وتقييم الموظفين مع إعادة توزيعهم قطاعياً وجغرافياً بحسب كفاءاتهم والحاجة إليهم، كذلك الطلب من المجالس المحلية الاستغناء عن "الموظفين الأشباح"([19]) عند رفع قوائم العاملين لديها لصرف رواتبهم، مع الإشارة إلى المحافظة على الرواتب المعتمدة كما هي بالليرة التركية دونما تعديل حالياً. بالمقابل، صحيح بأنه لم يتم الاستغناء عن أحد من الموظفين لغاية الآن، إلا أن هنالك إشكاليات عدة رافقت إدارة هذا الملف، بما انعكس سلباً على أداء المجالس البلدية والمديريات في الشمال السوري، منها:
- تغليب مبدأ الولاء (الأخوة) على الكفاءة في شغر العديد من المراكز الوظيفية، يفتقرون للخبرات الإدارية والقانونية لإدارة الملفات الخدمية والإدارية كما في ملف شركة الكهرباء في درع الفرات؛
- عدم وضوح عملية تقييم الموظفين المعلن عنها، سواء لجهة المعايير أو التوقيت اللازم لإتمام عملية التقييم بشكل موضوعي؛
- غياب دراسة للاحتياج الفعلي للكوادر البشرية على صعيد الشمال السوري، حيث أدى السماح غير المدروس لنقل المركز الوظيفي إلى حدوث عجز في الكوادر في بعض المديريات في عفرين.
بالانتقال للجانب المالي، يعتقد القائمون على عملية الدمج بأن الملف قد تمت تسويته وفق قاعدة المتاح، حيث تم بداية استعادة الارتباط المالي بين الهياكل الحوكمية في الشمال السوري مع مؤسسات الدولة السورية، كذلك جرد واستلام الأصول العائدة للمجالس المحلية وتحويلها للمديريات المركزية، إلى جانب تحويل كتل الرواتب المستحقة للعاملين في المجالس المحلية في نهاية شهر تموز 2025، مع تغطية جزء من الموارد المالية المطلوبة لإتمام عملية الدمج مؤقتاً من قبل صندوق الرئاسة، إلى جانب إطلاق حملات تفتيش طالت ملفات الفساد داخل المجالس والعاملين فيها. بالمقابل، يبدو بأن الملف المالي قد تمت إدارته في بعض جوانبه بطريقة اعتباطية، بعيداً عن الشفافية بشكل أثر سلباً على قدرات البلديات على توفير الخدمات. استخدمت تهم الفساد المسبقة وغير المثبتة كمبرر لإقصاء كوارد واستبدالهم بآخرين،([20]) كما تم جرد الأصول في بعض المناطق وتوزيعها على كوادر محددين دونما محاضر استلام وتسليم، وفي حين كان للمجالس المحلية إيراداتها التي تمكنها من توفير الخدمات لمجتمعاتها، باتت اليوم الإيرادات تحول للمركز وما يعاد تحويله لا يغطي ربع نفقات المجلس البلدي.([21])
يؤخذ على عملية الدمج تباينها في الاستجابة للديناميات المجتمعية في الشمال السوري، ففي حين تم تعيين رؤساء بلديات في منطقة عفرين من المكون الكردي ومن العاملين أساساً في المجالس المحلية هنالك، لاعتبارات ربما تتصل بالعملية التفاوضية مع الإدارة الذاتية ومراعاة للتوازنات المحلية وتودداً للمانحين، تم تجاوز ذلك في منطقة الباب، حيث استحوذ تيار هيئة تحرير الشام المنحلة وحلفائها على رئاسة معظم البلديات، كما تم إقصاء المكون التركماني من التعيينات الإدارية في بلدة الراعي، وهو ما استدعى احتجاجاً من قبل المجلس التركماني السوري.([22]) لكن للجنة الدمج رأيها في هذه المسألة، فما تم من تعينات خلال عملية الدمج أساسه الكفاءة والاحتياج، بعيداً عن أي منطق للمحاصصة أو اعتبارات سياسية.
خاتمة
يظهر استعراض مسار عملية دمج الشمال السوري دروساً مستفادة يمكن البناء عليها، وثغرات يتوجب العمل على تلافيها راهناً، وتجنبها في مسارات الدمج المستقبلية لمنظومات الحوكمة في سورية، وتوصيات واجب العمل عليها، يمكن إيجازها بما يلي:
- يتطلب دمج منظومات الحوكمة المحلية مجدداً في الإطار الوطني توافر غطاء سياسي، كذلك انخراط إيجابي للدول الراعية أو المؤثرة على منظومات الحوكمة المحلية في مفاوضات الدمج، ولا ضير من توليها مهام محددة في إدارة بعض الملفات، وتوفيرها الدعم اللازم لملفات أخرى بالتنسيق مع مؤسسات الدولة السورية؛
- تتيح عملية دمج منظومات الحوكمة المحلية مجدداً في الإطار الوطني، فرصة للسوريين لتبني مقاربة متوازنة مدعمة برؤية تقنية لإعادة تأسيس منظومة حوكمة لسورية، متماسكة ومتكاملة على المستويين الوطني والمحلي، قادرة على تحقيق التوازن بين اعتبارات الكفاءة الإدارية والقدرة على توفير الخدمات الأساسية واحترام الهويات المجتمعية، وهو ما يتطلب حوارات واسعة حول قضايا التمثيل والمساءلة والمشاركة في صنع السياسات، وكيفية توزيع الصلاحيات والموارد بين المستويات المركزية والمحلية (الحوكمة متعددة المستويات)؛
- التريث في تنفيذ عمليات الدمج الكلي لمنظومات الحوكمة المحلية في الإطار الوطني، والتدرج في الدمج بحسب أولوية القطاعات وتوافر القدرات، إذ أن التسرع في تنفيذ العملية وقطف ثمارها دونما رؤية ولا ضوابط ولا ضمانات، من شأنه أن يعود بنتائج عكسية على أداء واستقرار منظومة الحوكمة الوطنية وفعاليتها، لا سيما إذا ما أعيد إنتاج المركزية الإقصائية والهياكل الزبائنية؛
- يتطلب دمج منظومات الحوكمة المحلية مجدداً في الإطار الوطني، توافر الكوادر البشرية اللازمة لإتمام عملية الدمج، لذلك لا بد من الحفاظ على الكوادر البشرية المؤهلة العاملين في الهياكل الحوكمية المحلية في أماكنهم لفترة انتقالية لخبرتهم المتراكمة، ولا مانع من اتباع عملية لتقييمهم وإعادة توزيعه جغرافياً وقطاعياً بناء على معايير محددة وموضوعية معلنة، تجنباً لحدوث فجوات في عمل منظومة الحوكمة المحلية.
([1])عبد الرحمن الحاج، 4 استراتيجيات حاسمة يحكم بها الشرع، الجزيرة نت، 10 أيار 2025، https://shorturl.at/Q5kgE
([2])أحمد العكلة، تفاصيل الاتفاق السوري التركي بشأن شمال حلب، الجزيرة نت، 21 حزيران 2025. https://shorturl.at/0Fzqq
([3]) SETA SECURITY RADAR: TÜRKİYE’S GEOPOLITICAL LANDSCAPE IN 2025. Murat Yeşiltaş ve Kutluhan Görücü. Türkiye and The new Syria: Building stability After the fall of Assad.. 62-65 Pages. Jan 2025. https://shorturl.at/9Idde
([4])فيدان: الفصائل في سوريا يجب أن تجتمع تحت سقف جيش واحد، وكالة الأناضول، 27 كانون الثاني 2025، شوهد بتاريخ آذار 2025. https://shorturl.at/hPaBV
([5])رفض وثائق المجالس المحلية.. قرار يشعل أزمة قانونية في الشمال السوري، سوريا 360، 14.03.2025. https://shorturl.at/kYfLB
([6]) حديث معاون محافظ حلب ورئيس لجنة دمج الريف بالمدينة أحمد ياسين لإذاعة دمشق، شام إف أم، تاريخ التصفح 14 تموز 2025. https://shorturl.at/ADHba
([7])عبد الرحمن سلامة المعروف بأبو إبراهيم سلامة، قيادي في هيئة تحرير الشام المنحلة، من مواليد عندان عام 1979.
([8])حديث معاون محافظ حلب ورئيس لجنة دمج الريف بالمدينة أحمد ياسين لإذاعة دمشق، مرجع سابق.
([9]) مقابلة مع أحد العاملين في الإدارة المحلية في الشمال السوري، تموز 2025.
([10]) تم تعيين عزام غريب (قائد الجبهة الشامية، من سراقب) محافظاً لحلب، وتعيين نواب ومعاونين له بلغ عددهم 14 من خلفيات متنوعة، عُرف منهم؛ علي حنورة، فواز هلال، عبد الرحمن سلامة، عزام خانجي، فراس المصري، أحمد ياسين، ملهم العكيدي، حازم لطفي، بركات اليوسف، عبد الرحمن ددم، محمود شحادة.
([11])من أصل 9 مدراء، 8 منهم أعضاء سابقين في هيئة تحرير الشام المنحلة وحكومة الإنقاذ سابقاً، أو من تشكيلات تعتبر حليفة للهيئة لا سيما من أحرار الشام، وبحكم دورهم كمشرفين مباشرين على عملية الدمج، تم منحهم صلاحيات واسعة من قبل نائب محافظ حلب عبد الرحمن سلامة.
([12])م تحويل المديريات الخدمية في المجالس المحلية إلى شعب تتبع للمديريات المركزية في حلب، وتم إقالة المدراء السابقين وتعيين آخرين من كوادر الهيئة والاخوة كرؤساء للشعب كما حدث في منطقة الباب. مقابلة مع أحد العاملين في الإدارة المحلية في الشمال السوري، تموز 2025.
([13]) مسؤول تركي مكلف بالإشراف والتنسيق بين الحكومة التركية والجهات المحلية في المناطق التي تسيطر عليها فصائل الجيش الوطني السوري والقوات التركية، ويتولى المنسق التركي الإشراف على عمل المجالس المحلية والبلديات، بما يشمل دعم الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والبلديات والنقل، بالتنسيق مع المؤسسات التركية. ويشرف على توجيه الدعم المالي والفني من المؤسسات التركية (مثل الهلال الأحمر، إدارة الطوارئ التركية "أفاد"، وزارة التعليم والصحة التركية) إلى المجالس المحلية والمؤسسات المدنية السورية، ويتعاون مع القوات العسكرية والأمنية المحلية.
([14]) أبقيت تركيا على دعمها للمشافي الكبيرة في المنطقة، في حين تم تأسيس مناطق صحية في الشمال السوري لتولي مسؤولية تغطية والإشراف على المراكز الصحية التي كانت تتبع للمجالس المحلية، هذا وتقدر تكلفة هذه المراكز شهرياً بــ 70 ألف دولار أمريكي. لقاء مع معاون محافظ حلب الأستاذ أحمد ياسين. حلب. 28 تموز 2025.
([15]) في آب 2025، تم تعيين مدير لمنطقة دير حافر رغم أنها خارج سيطرة الحكومة السورية، بينما لم يتم تعيين مسؤول منطقة بعد في عين العرب "كوباني" الخاضعة لسيطرة قوات قسد. قد يكون ما سبق مؤشر على المناطق التي سوف تتولى الحكومة السورية إدارتها في المستقبل القريب كنتيجة للتفاوض مع قسد.
([16]) مقابلة مع أحد العاملين في الإدارة المحلية في الشمال السوري من منطقة الباب، تموز 2025.
([17]) هنالك قضايا قانونية ما تزال معلقة جراء هذا التباين، كقضايا السيارات المسروقة وقضايا الحجز والأحكام القضائية. مقابلة مع مستشار قانوني في وزارة النقل. تموز 2025.
([18])يتولى مدراء المناطق الإشراف المباشر على البلديات والشعب الخدمية، ويتم منعهم من التواصل مباشرة مع هياكل محافظة حلب أو المديريات المركزية إلا عن طريق مدراء المناطق. مقابلة مع أحد العاملين في الإدارة المحلية في منطقة درع الفرات. تموز 2025.
([19]) الموظفين الذين يتقاضون راتباً شهرياً بدون عمل أو بذل مجهود.
([20]) استخدمت تهم الفساد المسبقة كوسيلة للضغط علينا لتركب مناصبنا، ودائماً ما كانوا يصفونا "بالفاسدين والمرتشين"، علماً أنهم أعادوا للخدمة وأبقوا في أماكن أخرى على عدد من المعروفين لدى العامة بفسادهم. مقابلة مع مصدر محلي في كل من منطقتي الباب وعفرين. تموز 2025.
([21])مقابلة مع مسؤول في إحدى بلديات درع الفرات. تموز 2025.
([22])بيان حول إقصاء المكون التركماني من التعيينات الإدارية، الصفحة الرسمية للمجلس التركماني السوري على Facebook. تاريخ الزيارة 31 تموز 2025, https://shorturl.at/37RFn