تبرز قضية المياه كإحدى أهم جوانب المعاناة الإنسانية للسكان المدنيين في خضم الثورة السورية. بعد أن اسُتخدمت المياه كوسيلة لتحقيق المكاسب العسكرية والسياسية والاقتصادية، وأصبحت متلازمة إلى حد كبير مع تغيرات السيطرة العسكرية ومناطق النفوذ. مما أثر بشكل حاد على توافر ها في غالبية المدن والأرياف، وحمل العديد من التداعيات السلبية على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للسكان. وتحاول هذه الورقة التحليلية تسليط الضوء على هذا الجانب الإنساني الهام بهدف الحفاظ على الأمن المائي في جميع المناطق السورية واستمرار ديموميته.
تشكل المياه أحد أهم مقومات استمرارية الحياة والمورد الأكثر تأثيراً في حياة السكان في جميع مناطق سورية. إلا أنه ومنذ بداية عام 2011 بدأت تبرز قضية المياه كإحدى أهم التحديات المرتبطة بالمعاناة الإنسانية للسكان المدنيين. وذلك بعد أن استخدمت أطراف الصراع المياه كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية. كما أصبح هذا المورد متلازماً إلى حد كبير مع تغيرات السيطرة العسكرية ومناطق النفوذ لهذه الأطراف، مما أثر بشكل حاد على توافر المياه في غالبية المدن والأرياف السورية نتيجة لتدهور البنية التحتية للمياه وفقدان وتضرر أكثر من نصف القدرة على الإنتاج الكلي للمياه. وقد حمل هذا الوضع الجديد العديد من التداعيات السلبية على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للسكان داخل المدن والأرياف.
وانطلاقاً من ذلك تبرز إشكالية هذه الورقة في الإحاطة بواقع السيطرة العسكرية على الموارد والمرافق المائية في ظل الصراع الدائر في سورية مع قلة الدراسات المتخصصة والمتكاملة في هذا الصدد، وتتركز أهدافها الأساسية في تسليط الضوء على واقع ممارسات القوى العسكرية تجاه الموارد المائية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، والمعاناة التي يتكبدها السكان جراء حرمانهم من المياه وصعوبة الوصول إليها، وتحليل المنظور المستقبلي لهذه القوى في السيطرة على الموارد والمرافق المائية ودراسة التداعيات المستقبلية لعسكرة المياه على واقع الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للسكان.
وتخلص الورقة إلى أن تنوع القوى العسكرية وتوزعها على امتداد الأرض السورية إلى جانب سيولة المشهد العسكري يحمل معه العديد من التحديات في ظل تبادل السيطرة بين هذه القوى، والقدرة على التحكم بالموارد المائية في المناطق الخاضعة لها، ومدى إدراكها لأهمية المورد المائي كعامل للاستقرار وتوطيد السلطة في مناطق سيطرتها وفقاً لأجندتها المستقبلية. وسيلقي كل ذلك بثقله على الموارد المائية من خلال الاستنزاف الكبير لها، نتيجة افتقاد هذه القوى القدرة على إدارة وتنمية الموارد المائية في هذه المرحلة الانتقالية للحفاظ على الأمن المائي واستمرار ديموميته. مع ما سيحمله كل ذلك من زيادة معاناة السكان نتيجة نقص المياه وتلوثها وصعوبة الحصول عليها.
تواترت التقارير التي تؤشر للواقع المائي المتردي في سورية ومستقبل مواردها المائية المهددة، في ظل تصاعد الأعمال العسكرية والتدمير الممنهج للبنية التحتية، وما تبعها من محاولة الأطراف العسكرية السيطرة على هذه الموارد لفرض نفوذها وتحقيق بعض المكاسب على حساب المعاناة الإنسانية للأفراد في مناطق سيطرتها، وهو ما يمثل أحد الأوجه الخفية لهذا الصراع.
ووفقاً للمعطيات التي حملتها هذه التقارير تضاءلت قدرة السكان في الحفاظ على النفاذ المستدام إلى كميات كافية من المياه بجودة مقبولة، وازدادت معدلات التلوث بشكل كبير، رافعة بذلك حالة الفقر المائي لدى الأفراد بسبب استمرار التناقص في حصة الفرد من الموارد المائية المتاحة، ومنذرة بأزمة مائية قادمة ستشكل تهديداً فعلياً للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للسكان في ظل تفاقم الظروف المعيشية للأفراد وارتفاع أسعار مياه الشرب في العديد من المدن والأرياف.
إن تنوع القوى العسكرية وتوزعها على امتداد الأرض السورية والسيولة المستمرة للمشهد العسكري يحمل معه العديد من التحديات الحالية والمستقبلية للأمن المائي. في ظل تبادل السيطرة بين هذه القوى، والقدرة على التحكم بالموارد المائية في المناطق الخاضعة لها، ومدى إدراكها لأهمية المورد المائي كعامل للاستقرار وتوطيد السلطة وفقاً لأجندتها الحالية والمستقبلية، ومدى قدرتها كذلك على إدارة وتنمية هذا المورد في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة للحفاظ على الأمن المائي.
إن التفاوت في كمية ونوعية الموارد المائية والتوزعات السكانية المتباينة بين المناطق السورية المختلفة عبر العقود الماضية نتيجة للعديد من العوامل البيئية والسياسية أسهمت إلى حد كبير في اندلاع الثورة السورية ([1])، وقد أدى طول أمد الصراع وعدم وجود أفق واضح لنهايته إلى سعي القوى المتحاربة على الأرض للسيطرة على أكبر قدر ممكن من هذه الموارد وتسخيرها لتحقيق أهدافها، رغم كل التبعات التي يمكن أن تخلفه هذه السيطرة من تدهور الأمن المائي نتيجة تدمير البنية التحتية لشبكات المياه والسدود، ومحطات الطاقة التي تستخدم في تشغيل مرافق المياه في العديد من المدن والأرياف.
تشمل الموارد المائية التقليدية في سورية الموارد المائية السطحية التي تتكون من مجموعة من المجاري المائية أي الأنهار الداخلية والخارجية وموارد المياه الجوفية، إضافة إلى الموارد المائية غير التقليدية التي تشمل مياه الصرف الصحي والزراعي والصناعي ومياه التحلية. وتوصف الموارد المائية في سورية بالقليلة والمحدودة، وقد صنفت سورية في مجموعة البلاد الفقيرة بالماء منذ عام 2000، حيث تحدد العوامل الطبيعية والجغرافية والسياسية حجم هذه الموارد.
الشكل (1) يبين توزع الأحواض المائية في سورية مع حجم توافر المياه في هذه الأحواض
المصدر: محمد العبدالله، 2015، الأمن المائي في سورية: دراسة تحليلية لواقع الموارد المائية المتاحة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، تركيا.
ويبلغ عدد الأحواض المائية الرئيسية التي تختزنها الأراضي السورية سبعة أحواض مائية هي حوض الفرات وحلب، وحوض دجلة والخابور، وحوض الساحل، وحوض البادية، وحوض العاصي، وحوض بردى والأعوج، وحوض اليرموك. كما يوجد عدد من السدود الكبيرة والمتوسطة ضمن هذه الأحواض ومن أهمها سد الفرات وتشرين والبعث والوحدة والرستن وقطينة وتلدو ومحردة ويبين الشكل (1) توزع هذه الأحواض والسدود ضمن أراضي سورية وحجم المياه المتاحة في هذه الأحواض حتى نهاية عام 2011. حيث يقدر مجموع كمية الموارد المائية في سورية ما بين (18.209-16.375) مليار م3/سنة من المياه.
وتمثل السيطرة على الموارد المائية هدفاً استراتيجياً للقوى العسكرية المتصارعة في سورية، حيث يمنح التحكم في إمدادات المياه سيطرة استراتيجية لهذه القوى على المدن والأرياف.
في سعيها لتحقيق ما أطلق عليه " مشروع الاتحاد الفيدرالي " تسعى قوات سورية الديمقراطية في استراتيجيتها المستقبلية للسيطرة على الموارد المائية من يد تنظيم الدولة وقوى المقاومة الوطنية بوجود دعم دولي. وإذا ما تحقق لها ذلك فإن الاتحاد الفيدرالي سيكون واقعاً ضمن أغنى ثلاث أحواض مائية في سورية والمتمثلة بكل من أحواض الفرات ودجلة والعاصي، والتي تحتوي على أهم الأنهار والسدود والبحيرات والمياه الجوفية في سورية. وقد عقدت الهيئات التابعة للإدارة الذاتية اجتماعات مع خبراء في الموارد المائية لدراسة أوضاع المياه في مقاطعة الجزيرة ووضع تصور مستقبلي لها ([2]). ويبين الشكل (2) مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية حتى تاريخ 15 تموز لعام 2016.
عمد تنظيم الدولة منذ ظهوره على الساحة السورية إلى الاستخدام الاستراتيجي للموارد الطبيعية كجزء أساسي من استراتيجيته التوسعية واستئصال كل من يرفض أفكاره المتطرفة في سعيه لإقامة “دولة الخلافة". وبدى هذا واضحاً في حجم الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها التنظيم في سبيل السيطرة على مرافق المياه واستخدامها كسلاح لتعزيز أهدافه السياسية والعسكرية والاقتصادية، فسعى جاهداً للسيطرة على السدود وخزانات المياه الضخمة ذات الأهمية الاستراتيجية في حوضي الفرات ودجلة. وكان من أهمها سد الفرات وتشرين والبعث، لأنه وجد في ذلك منفذاً له لتعظيم نفوذه وإلحاق الضرر بمناطق أكبر دون الحاجة إلى الاحتلال العسكري المباشر([3]). ويبين الشكل (2) مناطق سيطرة تنظيم الدولة حتى تاريخ 15 تموز لعام 2016.
الشكل (2) خارطة توزع أماكن نفوذ القوى العسكرية في سورية
المصدر: مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، وحدة المعلومات، 15-07-2016
يدرك نظام الأسد في رؤيته المستقبلية أهمية الحفاظ على المناطق الحيوية ذات الموارد الطبيعية في حال عدم تمكنه من السيطرة على كامل الأرض السورية. وقد تجسد هذا بشكل واضح في مشروعه بتحديد مناطق النفوذ الأكثر أولوية لديه تحت مسمى " سورية المفيدة " والذي لا يزيد عن 25% من مجمل مساحة البلد كما يوضحه الشكل (3)، والذي تدعمه كل من روسيا وإيران للإبقاء على موطئ قدم لهما في سورية بعد انتهاء الصراع ([4]). وتعتبر هذه المنطقة قلب سورية الحيوي استراتيجياً فضلاً عن كونها الأكثر كثافة ديمغرافياً ([5]).
الشكل (3) يبين مشروع سورية المفيدة
المصدر: مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، وحدة المعلومات، 15-07-2016
وبعد توالي خسائر النظام العسكرية واستنزافه على مدار الأعوام الماضية يحاول النظام جاهداً الحفاظ على مشروعه المستقبلي وتجسيده على أرض الواقع والذي يعد الملاذ الأخير له ولمناصريه بعد أن تلاشى أمله باستعادة السيطرة على كامل مساحة البلد([6]). ووفقاً للتصور المقترح لسورية المفيدة فسيكون حوضي العاصي والساحل وجزء من حوض بردى في المجال الحيوي بحيث يضمن النظام موارد مائية كافية تفي باحتياجاته المستقبلية. إلى جانب استفادته من كونه المنفذ الوحيد على البحر الأبيض المتوسط لما سيمنحه من ميزة استراتيجية كبيرة للاستفادة من الموارد الطبيعية الوفيرة في منطقة الساحل وسهل الغاب.
بدى واضحاً في الصراع السوري وجود العديد من الأمثلة التي تعكس سعي القوى العسكرية المختلفة لاستخدام الموارد المائية كسلاح ضد بعضها البعض خلال الأعوام الخمس الماضية على أكثر من جبهة قتال. ويعد سلاح المياه وسيلة فاعلة من وجهة نظر هذه القوى للتوسع والاحتفاظ بالسيطرة في مناطق الصراع، كما أصبح قطع مياه الشرب وسيلة إضافية في الحصار ومصدر دخل لبعض القوى العسكرية، وسوقاً جديدة تحولت فيها مياه الشرب إلى سلعة باهظة الثمن، مع ما يلحقه ذلك من الأذى للمدنيين، إضافة إلى تحول هذه القضية إلى وسيلة ابتزاز في حالات عدة.
إلى جانب ذلك يشكّل تواجد معظم الموارد المائية السطحية في الأرياف بتحويلها إلى خطوط تماس بين القوى العسكرية المتصارعة، الأمر الذي يضع المدن بشكل دائم في خطر تأمين المياه لسكانها الذين تضاعف عددهم مع ارتفاع وتيرة الصراع وازدياد عدد النازحين.
تجنبت قوى المقاومة الوطنية استخدام المياه كسلاح في وجه القوى العسكرية الأخرى، إلا أن الهجمة الشرسة لنظام الأسد وحلفائه ألجأت هذه القوى إلى استخدام هذا المورد للتخفيف من المعاناة الإنسانية للسكان في بعض المناطق. ففي وادي بردى في ريف دمشق اضطرت قوى المقاومة الوطنية في شهر حزيران من عام 2015 إلى استخدام المياه كسلاح لمواجهة قوات نظام الأسد، من خلال قيامها بتهديد النظام بتفجير نبع الفيجة لوقف عملياته بعد قيامه باستهداف المنطقة بمئات البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية التي أحدثت دماراً هائلاً وأدت إلى تخلخلات طبقية تسببت في تحويل مجرى خروج المياه من الينابيع إلى مجارٍ أخرى في طبقات الأرض بدل أن تجري باتجاه حوض مياه نبع الفيجة. كما قامت هذه القوى بمساومة النظام على سماحها بضخ مياه عين الفيجة إلى مدينة دمشق مقابل التوصل إلى هدنة مؤقتة معه تضمن تطبيق جملة من المطالب الإنسانية للسكان تمثلت بشكل رئيسي في إيقاف كافة أنواع القصف واستهداف المدنيين على الحواجز، والإفراج الفوري عن كافة النساء المعتقلات وإدخال المواد الغذائية والطبية والمحروقات للمنطقة ([7]).
اتبع نظام الأسد في قمعه للثورة السورية سياسة الأرض المحروقة، وكان تركيزه منصباً على تدمير البنية التحتية في المدن الخارجة عن سيطرته، وتنوعت ممارسات قوات النظام في استخدام المياه لإلحاق أكبر ضرر ممكن لسكان هذه المدن.
في مدينة حلب، التي تعد أبز الأمثلة على استخدام مياه الشرب كسلاح في ظل الصراع الدائر حالياً، تحولت أزمة المياه إلى معاناة تلازم كل من تبقى من سكان هذه المدينة، فبعد سيطرة تنظيم الدولة على محطتي الخفسة والبابيري الواقعتان في الريف الشرقي لمدينة حلب في شهر شباط من عام 2014 امتنعت مؤسسة الكهرباء التابعة لنظام الأسد عن تزويد المحطتين بالكهرباء مما أدى إلى توقفهما عن العمل ([8])، ثم عادتا للعمل على خلفية إجراء مفاوضات مع نظام الأسد من جهة النصرة ومنظمة الهلال الأحمر وبعض أهالي مدينة حلب من جهة أخرى. ويعد استمرار تدفق المياه النظيفة أمراً منقذاً لحياة سكان المدينة، وضرورة لمنع انتشار الأمراض التي تنقلها المياه.
وفي محافظة درعا قامت الأجهزة الرسمية التابعة لنظام الأسد بحرمان السكان والأراضي الزراعية من المياه القادمة من جبل العرب، بعد أن قام النظام ببناء سدود تجميعية وسطحية في محافظة السويداء. وأدت هذه الإجراءات إلى جفاف العديد من السدود التجميعية ومنها سد درعا الشرقي أكبر سدود المنطقة التي تصل سعته الاستيعابية إلى 15 مليون م3 ويغذي مساحات شاسعة من المنطقة الشرقية لمدينة درعا تبلغ تقريباً 10000 دونم ([9])، وهو ما ينذر بتدهور الغطاء النباتي وتصحر المنطقة. بعد أن كانت هذه السدود توفر مياه الري لمئات الهكتارات من الأراضي الزراعية وتربية الماشية ([10]).
في محافظة دمشق قام النظام بقطع مياه الشرب عن مخيم اليرموك بتاريخ 9 أيلول 2014. كما قام النظام في مدينة دمشق بتحويل مياه الصرف الصحي إلى حي جوبر المحاصر كوسيلة عقاب جماعي لأهالي الحي بهدف نشر الأمراض والأوبئة ولإغراق الأقبية التي يتحصن فيها المدنيين ([11]).
استغلت جبهة فتح الشام طيلة سنوات الصراع الماضية قدرتها على قطع مياه الشرب عن مدينة حلب كوسيلة لتحقيق مكاسب ميدانية ومادية كبيرة عن طريق الوقود الفائض الذي تم إرساله لتشغيل محطات التوليد وإعادة ضخ مياه الشرب.
وفي عام 2014 وبعد سيطرتها على عدد من الأحياء في مدينة حلب، أصدرت الإدارة العامة للخدمات التابعة لجبهة فتح الشام والهيئة الشرعية لفصائل قوى المقاومة الوطنية في أوائل شهر نيسان في عام 2014 قراراً يقضي بوقف عمل مضخة سليمان الحلبي مما أدى إلى انقطاع المياه عن كافة أحياء مدينة حلب سواء الواقعة تحت سيطرة هذه القوى أو الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد. كذلك قامت الهيئة في نهاية شهر نيسان في نفس العام بقطع التيار الكهربائي عن مدينة حلب بالكامل وأعلنت مطالبها المتضمنة توقف قوات النظام عن القصف اليومي بالبراميل والصواريخ على الأحياء السكنية في المناطق المحررة مقابل قيام الهيئة بالعمل على إعادة خدمة التيار الكهربائي. وكانت هذه الخطوة بعد أن قام النظام بقصف شبكات المياه ومحطة الكهرباء التي تغذي محطة المياه مما أدى إلى توقف ضخ المياه إلى المنازل وحرمان المدنيين من حقهم فيها، وزيادة معاناتهم في الحصول عليها نتيجة التحكم الكبير بأسعارها مع غياب الرقابة عليها، مما اضطرهم للانتظار في طوابير أمام آبار المياه غير المعقمة وصنابير مياه المساجد. كما لا يختلف حال المدنيين في مناطق سيطرة النظام عن حال نظرائهم في المناطق المحررة، بفعل تسلط لجان الدفاع الوطنّي على آبار المياه، واستخدامها لمصالهم الشخصية، إلى جانب المعاملة السيئة للمدنيين وإهانتهم من قبل ميليشيات النظام ([12]).
يعد تنظيم الدولة القوة العسكرية الوحيدة التي لجأت إلى الاستخدام الاستراتيجي للمياه كسلاح، فقد تمكَّن التنظيم بعد سيطرته على سد الفرات من حجز أكبر مستودع مائي ومنحه فرصة للسيطرة على المياه والكهرباء وتحقيق بعض المكاسب المادية، واستخدام السد كسلاح حرب ضد أعدائه عبر التهديد بإغراق المدن والمناطق المطلة على نهر الفرات عبر تحَّكُمِه بتدفق المياه وتسميمها، إلى جانب استخدام السد كذلك في التحصن وتخزين الأسلحة، أو حتى إحداث شلل في حياة المواطنين من خلال قدرته على التحكم في مياه السد عبر بناء السدود على النهر للاحتفاظ بالمياه وتجفيف مناطق معينة، وبهذه الطريقة يخفض من تزويد المياه للقرى والتجمعات السكنية. ومن جانب آخر يقوم التنظيم بإغراق بعض المناطق بإبعاد ساكنيها لمناطق أخرى وتدمير سبل عيشهم ([13]). وبالتالي مثلت هذه السيطرة سلاحاً تكتيكياً رئيسياً للتنظيم داخل سورية، لقناعته بعدم إمكانية قصفه من قبل أعدائه وعدم التسبب بكارثة إنسانية تتمثل في غمر مياهه لمدينتي الرقة ودير الزور إذا ما تم تدمير السد ([14]). لكن بالمقابل يوجد تخوف كبير من قبل المراقبين لمجريات الصراع بقيام التنظيم بتفجير السد إذا ما شعر بالخطر.
أعلنت قوات سورية الديمقراطية بتاريخ 26 كانون الأول لعام 2015 سيطرتها على سد تشرين الواقع على نهر الفرات في ريف حلب الشرقي، وذلك بعد مواجهات عنيفة مع تنظيم الدولة. حيث قامت هذه القوات بإغلاق عنفات السد مما أدى إلى ارتفاع منسوب المياه، مهدداً بإغراق أكثر من 470 قرية على ضفاف نهر الفرات ([15]). وتزامن ظهور هذه المشكلة مع فرار مهندسي السد اللذين يديرون عمله بعد الاشتباكات العنيفة للسيطرة عليه. ومنع عودتهم بعد توقف الاشتباكات من قبل قوات سورية الديمقراطية بحجة تسليم السد لهيئة الطاقة في "مقاطعة كوباني"، لتبقى مهمة هذه القوات محصورة بتأمين حماية السد ([16]).
يدفع المواطن السوري خلال سنوات الصراع الدائر في سورية الثمن الأكبر ضريبة تشبثه بأرضه حرماناً واعتقالاً ونزوحاً وقتلاً وتهجيراً. فالكثير من السكان تعايش مع واقع الصراع والقصف والدمار والخوف وفقدان أدنى مقومات الحياة، إلا أن صمودهم تجاه فقدان المياه أمر لا يمكن تحمله إذا ما طالت فترة انقطاعه.
يجدر القول هنا بإن استخدام سلاح قطع المياه المباشر وغير المباشر عن السكان في المدن كأسلوب من أساليب الحرب يرقى إلى جريمة حرب وهو عمل إجرامي غير مقبول يهدد حياة المدنيين، كما أن مسؤولية احترام حقوق المدنيين تقع على عاتق جميع أطراف الصراع )[17](.
وفي هذا الصدد صرحت ممثلة اليونيسيف في سورية أن جميع أطراف النزاع في سورية استخدمت المياه كسلاح في الحرب، مما أدى إلى حرمان الملايين من المدنيين من الحصول على المياه النقية للشرب والاستخدام المنزلي. وأشارت الممثلة أن الأساليب التي اتبعتها هذه الأطراف شملت القيام بقطع المياه من المصدر، والغارات الجوية والهجمات البرية على مرافق المياه وإعاقة وصول العاملين المدنيين للحفاظ على وإصلاح وتشغيل المرافق. وقد وثقت اليونيسيف مثل هذه الأساليب في كل من حلب ودمشق ودرعا وحماة. وفي عام 2015 وحده واجه أكثر من خمسة ملايين سوري نقصاً حاداً في المياه مهدداً للحياة بسبب اتباع هذه الأساليب ([18]). حيث يقدر أن نسبة 70% من السكان في سورية لا يحصلون على مياه الشرب الآمنة بشكل منتظم ([19]) كما أدى تعطل محطات معالجة المياه إلى زيادة ملحوظة في الأمراض التي تنقلها المياه الملوثة مثل التيفوئيد خاصة في المنطقة الشرقية لصعوبة تزويد هذه المناطق بالمواد الكيمائية اللازمة لتعقيم هذه المياه ([20]).
من جهتها قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن شبكة المياه في سورية معرضة لخطر الانهيار مع استمرار الصراع، وهو ما يزيد من خطر انتشار الأوبئة الصحية مثل التيفوئيد والكوليرا. وأضافت اللجنة أن إمدادات المياه تنقطع لأيام في المرة الواحدة عن الملايين في حلب ودمشق، وهو أسلوب تستخدمه كل الأطراف المتحاربة لممارسة السيطرة في المدن المقسمة([21]).
وفي الجنوب السوري يعاني المزارعون نقصاً شديداً في مياه الري، إضافة لعشرات المدن والقرى التي تعاني العطش، خاصة في ريف درعا الشرقي، بسبب سرقة وتخريب المضخات وانقطاع التغذية الكهربائية المتواصل، وأدى غياب الحراسة لمناطق الضخ إلى خروج الكثير من هذه المضخات عن الخدمة والتي كانت تقوم بنقل المياه من ينابيع زيزون وتل شهاب لبعض قرى ومدن محافظتي درعا والسويداء ([22]).
إن المتتبع لواقع الموارد المائية السورية عبر العقود الماضية يلحظ بوادر لحدوث فجوة مائية بسبب الاستنزاف والتلوث الكبير للموارد المائية الذي شهدته سورية خلال هذه العقود، وقد ازداد هذا الأمر سوءاً مع بداية عام 2011، بسبب التدمير الممنهج لهذه الموارد من قبل قوات النظام واستغلال القوى العسكرية الأخرى لهذه الموارد كسلاح ضد بعضها. فبعد مرور خمس سنوات من الصراع تأثرت البنية التحتية للمياه في البلاد بشكل كبير، حيث يقدر أن نصف إجمالي الطاقة الإنتاجية قد ضاع أو تلف ([23]). إضافة إلى الآثار المحتملة على كل من السكان والتنمية المستدامة وعمليات إعادة الإعمار. تشير بيانات البنك الدولي أن الخسائر في قطاع المياه هي الأعلى حيث بلغت 121 مليون دولار ([24])، كما أدى الصراع إلى مقتل وفرار العديد من العاملين في قطاع المياه والصرف الصحي. وبات ما يقرب من ثلثي السوريين يحصلون على المياه من مصادر تتراوح درجة خطورتها بين المتوسطة والعالية ([25]). وانخفض معدل توفر المياه من 75 لتر لكل شخص يومياً إلى 25 لتر ([26]). وتقدر وزارة الموارد المائية الخسائر الناجمة عن الصراع حتى الآن بنحو 74 مليار ليرة سورية ([27]).
في ضوء التوقعات الآنية والمنظورة حول التغيرات التي ستشهدها سورية في هيكل السكان والاقتصاد في السنوات القليلة القادمة، وما سيترتب عليها من زيادة الطلب على الموارد المائية اللازمة لعملية إعادة الإعمار والتنمية، فإن السؤال الذي سَيُطرح من قبل الجهات التي سيعهد إليها بهذه المهمة يتركز حول مدى كفاية مواردنا المائية من حيث الكم والنوع لتلبية الاحتياجات المطلوبة لها، ويبقى الجواب على هذا السؤال رهناً للتطورات الجارية على الأرض. فمع استمرار الصراع سيزداد حجم الاستنزاف الكبير لهذه الموارد، وسيزداد حجم الدمار الذي سيلحق ببنيتها التحتية، إضافة إلى زيادة حجم التلوث الكبير الذي سيصيبها، وما سيترتب على ذلك من تكاليف اقتصادية كبيرة ستمثل إحدى أبرز التحديات التي ستواجه الشعب السوري في المرحلة القادمة. وسيتطلب ذلك مستقبلاً المزيد من تنسيق الجهود بين القيادة العسكرية، وبين جهود بناء السلام المحلي من قبل القيادة السياسية، فيما يتعلق بالقضايا ذات البعد البيئي، والتي تعد إدارة الموارد المائية أحد مفاصلها الرئيسية.
إضافة إلى ما سبق فإن فقدان المياه يمثل أحد الأسباب الرئيسية لنزوح عدد كبير من السكان إلى مناطق بعيدة عن الصراع في وقت قصير. الأمر الذي سيترتب عليه العديد من الآثار والانعكاسات المستقبلية السلبية على كمية ونوعية الموارد المائية المتاحة.
وقد ظهر هذا التأثير بشكل خاص في موارد المياه الجوفية، والتي تشير الكثير من التقارير الداخلية إلى وجود استنزاف كبير لها من خلال الحفر العشوائي للآبار في غالبية المناطق السورية، إضافة أيضاً إلى التلوث الحاصل في العديد من مصادر المياه السطحية والجوفية ومرد ذلك إلى غياب الرقابة اللازمة للحد من هذه الأعمال، وعدم القدرة في ذات الوقت على تأمين المتطلبات اللازمة للسكان من المياه. إضافة إلى أن الهجمات والهجمات المضادة لأطراف الصراع دمرت العديد من مرافق معالجة مياه الصرف الصحي، مما أدى إلى تلوث مياه الشرب. ورغم صدور العديد من الإرشادات الصحية المتعلقة بضرورة غلي المياه الآتية من الصنابير والآبار إلا أن ارتفاع أسعار الوقود في العديد من المناطق حال دون تمكن الأهالي من القيام بذلك.
على الرغم من هذه المؤشرات التي تنذر بالخطر، فإن القوى العسكرية على الأرض تعيش حالة الإنكار للمنعكسات السلبية لهذه الأزمة، ولم تتخذ التدابير اللازمة للاستجابة لتداعياتها السلبية. وينصب تركيزها على دعم جبهات القتال، فيما تترك إدارة وصيانة الموارد المائية لمجموعة قليلة من الوكالات الدولية وأصحاب الاختصاص المقيمين في الداخل وسيقود أي تعطل في تزويد السكان بالمياه أو تلوثها إلى حركة نزوح كبيرة للسكان داخل سورية أو إلى دول الجوار.
ووفقاً لما تقدم فلا بد من وضع المياه كأولوية لدى منظمات الأمم المتحدة بالنسبة للشرب والصرف الصحي والري، وأن الفشل في عمل هذا سوف يضع سورية في خطر المأساة الوشيكة والتي يمكن أن تكون أكبر في نطاقها من قدرة السكان على تحمل تبعاتها. ولا بد أن يكون لحماية الموارد المائية أولوية لدى القائمين على الشأن المائي عبر السعي إلى حماية نوعية الموارد المائية من التلوث. ذلك أن هذه الموارد تعد من أهم الموارد الطبيعية في سورية والتي ستتحكم بتوزيع السكان وأنشطتهم الاقتصادية في المستقبل، وهي بذلك تعد من أهم مرتكزات الأمن الغذائي والأمن الوطني. وسيدعو ذلك إلى ضرورة تقدير قيمة هذه الموارد عند إعداد المشاريع ووضع الخطط الخاصة بعمليات التنمية وإعادة الإعمار، إلى جانب السعي الدائم إلى تحقيق الفاعلية المطلوبة في إدارة هذه الموارد لتنميتها والمحافظة عليها من النفاد، وتحقيق المتطلبات اللازمة للأمن المائي. وتمثل ندرة هذه الموارد وتزايد الطلب عليها في سورية تحدياً مهماً، والتي أدت سياسات نظام الأسد على مر العقود الماضية إلى تدهورها واستنزافها بشكل كبير، مع ما يتطلبه ذلك من ضرورة التقييم المستمر لهذه الموارد من حيث مصادرها وتوزيعها وتقييم الطلب عليها وتحديد التغيرات الحاصلة فيها في ظل الظروف الحالية.
بعد مرور ست أعوام على الصراع الدائر في سورية يجد الملايين من سكان هذا البلد أنهم قد تركوا تحت القصف الممنهج من قبل قوات النظام وحلفائه، وانتهاكات تنظيم الدولة وقوات سورية الديمقراطية مع عدم وجود وازع أخلاقي يردع أياً منهم عن استخدام هذا المورد الطبيعي الأكثر حيوية لتحقيق أهدافها. وعلى الرغم من إدراك هذه الفصائل أن استخدام المياه كسلاح تكتيكي من قبلها قد تسبب في احراز بعض الخسائر العسكرية للأطراف الأخرى الداخلة في الصراع، إلا أنها تدرك تماماً أن استخدام المياه كسلاح عسكري تكتيكي عديم الفائدة نسبياً ولكن يمكن اعتباره أداة فاعلة للسيطرة السياسية وفقاً لأجندتها المستقبلية، مع تجاهلها للآثار السلبية التي سببها الاستخدام العسكري للمياه على حياة المدنيين واستقرارهم الاقتصادي والاجتماعي نتيجة تعرضهم للأخطار الناجمة عن نقص المياه وتلوثها.
إن العواقب الإنسانية المترتبة عن النقص في إمداد المياه وتلوثها نتيجة استخدامها كسلاح من المحتمل أن تدوم تأثيراتها لفترة طويلة في المستقبل مهما كانت نتيجة الصراع الدائر حالياً. ويمكننا تلمس آثار ذلك بشكل واضح في المعاناة التي سببها نقص المياه في مناطق الصراع من ارتفاع أعداد السكان النازحين والمهجرين من مناطقهم إلى مناطق أخرى. إضافة إلى زيادة تفشي الأمراض المنقولة عبر المياه الملوثة والنقص في مياه الصرف الصحي ومستلزمات النظافة في غالبية مخيمات النزوح.
في ظل ما سبق فإن الفشل في الاستجابة لأزمة المياه الحالية سوف تزيد من زعزعة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة. وبالتالي لا بد من تكاتف جهود جميع الفاعلين في القضية السورية ووضع المياه كأولوية بالنسبة لكل من الشرب والصرف الصحي والري، وأن عدم القدرة على تحقيق متطلبات ذلك سوف يضع سورية في خطر المأساة الوشيكة والتي يمكن أن تكون أكبر في نطاق تداعياتها السلبية من قدرة السكان على تحمل هذه التداعيات وتبعاتها المستقبلية.
([1]) تعامل نظام الأسد على مر العقود الماضية مع الموارد المائية باعتبارها قضية أمن قومي محاطة بـثقافة السرية، وكان أي نقاش حاسم في هذا الشأن غير مقبول. وظل يعمل قطاع المياه السوري في حقيقتين. من جهة هناك الرواية الرسمية التي تصور سورية على أنها شحيحة المياه بشكل طبيعي وتعمل بنشاط على تحديث قطاع المياه لديها، ومن ناحية أخرى، هناك واقع على الأرض يتمثل بنظام إدارة مياه غير فعال وفاسد مكَّن من استغلال موارد المياه والأراضي على نطاق واسع وأحدث المزيد من الفقر والحرمان والهجرة الداخلية وسط المجتمعات الريفية.
([2]) هيئة الري والزراعة في مقاطعة الجزيرة، تاريخ 12-5-2016: https://goo.gl/QO7zJB
([3]) Tobias von Lossow, Water as Weapon: IS on the Euphrates and Tigris, German Institute for International and Security Affairs, January 2016.
([4]) مفهوم سورية المفيدة وتطبيقاته، قناة الجزيرة الفضائية، برنامج الواقع العربي، 29-9-2015: http://goo.gl/RUqO9s
([5])"سوريا المفيدة" آخر الأوراق الروسية لإنقاذ الأسد، تقرير خاص، 01-10-2015، الخليج أونلاين: http://goo.gl/xxm8Dh
([6]) عدنان عبد الرزاق، الأسد يكرس سورية المفيدة، 30-05-2016، موقع العربي الجديد الإلكتروني: https://goo.gl/2O5BN3
([7]) وادي بردى: النظام يصعد .. والمعارضة تذكر بشروطها لتزويد دمشق بالمياه، 21-6-2015، جريدة المدن الإلكترونية: http://goo.gl/ASP4Eb
([8]) وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة " يونيسيف"، يعد مرفق معالجة المياه في الخفسة أحد أهم المرافق في سورية، حيث تنتج المحطة ما معدله 400 مليون لتر من مياه الشرب يومياً. حيث تقوم المحطة بسحب المياه من نهر الفرات، الذي يعتبر المصدر الوحيد لمياه الشرب لأكثر من مليوني شخص لكامل مدينة حلب والمناطق الشرقية من المحافظة.
([9])دقّ ناقوس الخطر. جفاف سد مدينة درعا يهدد حياة الناس وزراعتهم، 15-04-2014، موقع أورينت نت: http://o-t.tv/_9
([10])النظام السوري يعاقب درعا بمنع المياه عنها، 17-05-2016، الجزيرة نت، http://goo.gl/poEedu
([11])نظام الأسد ينتقم من حي جوبر المحاصر بإغراقه بمياه الصرف الصحي، الهيئة السورية للإعلام، 22-05-2016: https://goo.gl/a5Vndq
([12]) جبهة فتح الشام هي المسؤولة عن قطع المياه عن مدينة حلب، تقرير صادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان بتاريخ14-5-2014: http://goo.gl/G22DgE
([13]) Matthias von heın, Islamic state using water as a weapon, 3/3/2016: deutsche welle: http://goo.gl/KIG6bB
([14])كيف يستخدم تنظيم «الدولة الإسلامية» المياه كسلاح في العراق وسوريا؟، 8 فبراير ,2016، موقع ساسة بوست: http://goo.gl/3BuZ1x
([15]) محمد خالد، 31/12/2015، سد تشرين في خطر: داعش أم سورية الديموقراطية، جريدة المدن الإلكترونية. http://goo.gl/RZAv20
([16]) يشير تقرير خاص لجريدة عنب بلدي بعنوان: سد تشرين.. الإنجاز الأكبر لـ “سوريا الديمقراطية” منذ تأسيسها، أشار ت فيه إلى أن مياه نهر الفرات غمرت 7 قرى في ريف حلب الشرقي عقب سيطرة قوات سورية الديمقراطية على سد تشرين في منطقة منبج وتوقف عنفاته عن العمل. وفي بيان لها حول الموضوع وجهت وزارة الطاقة والثروة المعدنية في الحكومة السورية المؤقتة بتاريخ 30 كانون الأول، نداءً إلى هيئة الأمم المتحدة والهلال والصليب الأحمر وجميع المنظمات والدول الفاعلة في الملف السوري لاتخاذ إجراءات فورية لتحييد سد تشرين الكهرمائي عن أي عمل عسكري في محيطه. وطالب البيان كذلك ببذل جميع الجهود للسماح بإعادة الكادر الفني العامل في السد سابقًا لإدارته وتشغيله من حيث تمرير المياه وتوليد الكهرباء، وأكدت الوزارة أنها تواصلت مع الحكومة التركية لإيقاف المياه عن السد إلى حين عودته للخدمة: http://goo.gl/IHeglU
([17]) يوجد عدد من الاتفاقيات التي تصنف استخدام المياه كسلاح باعتبارها جريمة حرب. ومن أهمها البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقيات جنيف المتعلق بحماية ضحايا النازعات المسلحة غير الدولية (المادة 49) والذي ينص على أن " تجويع المدنيين كأسلوب للقتال محرم. ووفقاً لذلك يحظر مهاجمة أو تدمير أو إزالة أو تعطيل أي مواد لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب والإمدادات وأعمال الري ". ويتعين على الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف تقديم الأشخاص للمحاكمة أو تسليمهم ممن يزعم بأنهم ارتكبوا الانتهاكات المشار إليها في هذا البروتوكول. كما تحدّد الفقرة 1 من المادة 11 من شرعة حقوق الإنسان، " أنّ للإنسان الحقَّ في تأمين مستوىً معيشيٍّ كافٍ يضمن له الكرامة الإنسانية والحياة، ومن ضمنها الماء. وأنّ الحقّ في الماء هو حقٌّ لا يمكن فصله عن الحقّ في أعلى مستوىً من الصحّة الجسمي ".
([18])ممثلة اليونيسف: جميع الأطراف استخدمت المياه كسلاح بالحرب السورية، مقابلة إذاعية على راديو روزانة بتاريخ 9-3-2016 : http://rozana.fm/ar/node/18267
([19]) خطة الاستجابة الإنسانية في سورية لعام 2016، والخطة الإقليمية للاجئين والصمود 2016-2017، مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
([20]) Nouar Shamout, Syria Faces an Imminent Food and Water Crisis, 24 June 2014, chatham house, the Royal Institute of International Affairs, UK.
([21])الصليب الأحمر يحذر من انتشار أوبئة في سورية بسبب مشكلة المياه، إذاعة الحرة، 03-09-2015:http://goo.gl/JICPbl
([22])ينابيع المياه بجنوب سوريا تذهب هدرا.. وإسرائيل المستفيدة، عربي 21، 30-03-2016: http://goo.gl/SpR28t
([23])Syria: Water used as weapon of war, 02-9-2015, The International Committee of the Red Cross https://www.icrc.org/en/document/syria-water-used-weapon-war
([24])The Importance of Planning Syria’s Eventual Reconstruction, May 24, 2016, The World Bank: http://goo.gl/KhwFnS
([25]) الموجز الاقتصادي الفصلي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا: الآثار الاقتصادية للحرب والسلام، العدد (6)، يناير 2016، البنك الدولي.
([26]) - Running dry: Water and sanitation crisis threatens Syrian children، unicef: http://goo.gl/GKjfVS
([27]) يصعب تحديد قيمتها الفعلية بالدولار بدقّة لكونها قيمة تراكمية في ظل الارتفاع المتواصل لسعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية، إلا أن القيمة بالتأكيد تتجاوز النصف مليار دولار.
مقدمة
تعتبر تجربة تنظيم القاعدة في سورية، من خلال فرعه المتمثل بجبهة النصرة، التجربة الأهمّ والأكثر فرادة ضمن تجارب القاعدة في البلدان الأخرى، لتوفرها على عدد وعتاد ومساحة نفوذ وعلاقات بالمجتمع المحلي أكبر مما حظيت به فروع القاعدة الأخرى، عدا عن التحولات الحركية والخطابية التي مرّت بها.
وإن كانت جبهة النصرة تأسست في البداية على يد جهاديين أتوا من العراق (من ضمنهم الجولاني نفسه) بدعم من "دولة العراق الإسلامية"، وأنشأوا قاعدة محلية بنسبة متزايدة من المهاجرين متعددي الميول والمرجعيات ومستويات التشدد ما بين تنظيم القاعدة ودولة العراق أو الجهادية المحلية الأقل أدلجة، فإن الشقاق الكبير الذي حصل في 9 نيسان 2013م، وتوجه جبهة النصرة إلى شرعية تمثيل تنظيم القاعدة الأم، وثّق من التقارب وتزايد التماهي ما بين خطاب النصرة والتنظيم الأم، والذي تفرضه الحاجة المشتركة قبل التبعية التنظيمية، وهو ما ظهر سريعاً من خلال كلمات قادة تنظيم القاعدة وجبهة النصرة على السواء، وتزايد وصول قياديين من الأفغان العرب إلى سورية للتأثير الأكبر في النصرة، وإن كانت الجبهة حافظت إلى حد ما على استقلاليتها وخصوصيتها التنظيمية.
ومن حيث الأهمية في تمتين هذه العلاقة، لا تقل تأثيراً التحولاتُ والتحديات التي مرّ بها تنظيم القاعدة الأم، سواء في مواجهته للتحالف الدولي والطائرات بدون طيار، أو في مواجهة تنظيم داعش الذي نافسه على عرش الجهاد المعولم في الإعلام والسياسية العالمية وفي معظم مناطق تواجده.
ترصد هذه الورقة تحولات خطاب تنظيم القاعدة في سورية، على مستوى القيادة الأم أو جبهة النصرة وأنصارهم، على مدى الأشهر الماضية، في محاولة لقياس التغيير الذي يعبّر عنه هذا الخطاب، إن كان مرحلياً أو استراتيجياً أو براغماتياً محضاً.
أولاً: من أحادية الأيديولوجي إلى ازدواجية السياسي
مرّ خطاب جبهة النصرة منذ نشأته في سورية بمراحل من التطور والتعدد والتحولات. ولم تكن بيانات جبهة النصرة الأولى تذكر تنظيم القاعدة، وإنما تكتفي بالتوقيع باسم "من إخوانكم مجاهدي الشام في ساحات الجهاد"، إلى أن أعلن الجولاني بيعته لأيمن الظواهري، وركّزت جبهة النصرة بعدها على طباعة رايات باسم "تنظيم القاعدة في بلاد الشام"، كما أصبح التأكيد على الانتماء لتنظيم القاعدة هو الرأسمال الرمزي المعتبر للنصرة في مواجهة خصومها، وإظهار التفوق عليهم في الشرعية الجهادية والدينية.
وليس المقصود بالخطاب هنا البيانات المكتوبة، بقدر ما هو مجمل المنتج الرمزي الذي تعبّر به الحركة عن نفسها، سواء بالكتابات الرسمية أو كتابات القادة والمنظّرين أو الأنصار، وكذلك المنتج الصوتي والمرئي الذي يقدّم أيديولوجية التنظيم وأهدافه ورسائله لأنصاره وخصومه وللفضاء العام.
ومع الإقرار بضرورة دراسة تطور خطاب التنظيم في سورية منذ نشأته، إلا أن هذه الورقة تناقش تحولات خطاب التنظيم (سواء القاعدة الأم أو جبهة النصرة) منذ مؤتمر الرياض (كانون أول 2015م)، وتزعم الورقة أنها مرحلة نضج لخطاب التنظيم كحركة سياسية، وقدرته على إدارة معركته الإعلامية، بما حملت هذه المرحلة من ازدواجية بين الخطاب والخطة، مقارنة بما حملته المراحل السابقة من تعددية في خطاب التنظيم نفسه تصل حد التناقض والاصطدام.
ولا شكّ أن الخلاف ما بين تنظيم (داعش) وجبهة النصرة في (9/4/2013م)، فجّر الخلاف الأكبر والأكثر دموية في تاريخ التيار الجهادي العالمي، ولكن حرب السيطرة على المنطقة الشرقية-التي خاضها تنظيم داعش (شباط-تموز 2014م) في مواجهة الفصائل الثورية وفرع جبهة النصرة في دير الزور بقيادة "أبو مارية القحطاني" ذي الموقف الأكثر تشدداً ضد داعش- قد فجّرت خلافات المواقف داخل جبهة النصرة نفسها، حيث ظهرت انتقادات واسعة في صفوف منظرين وقياديين من جبهة النصرة ضد موقف القحطاني المتشدد من التنظيم وقتاله الطويل ضده حتى سقوط دير الزور بيد داعش. وقدّم بعض أمراء جبهة النصرة الحماية لتنظيم داعش في مناطقهم خلال حرب الفصائل الثورية الموسعة ضده (بداية 2014م) وحتى بعد ذلك (مثلاً: أبو مالك التلي، أمير جبهة النصرة في القلمون الشرقي)، في مقابل تلميح تيار القحطاني لتخاذل الفصائل عن نجدته، وتصاعد حدة موقفه من منظري التيار السلفي الجهادي الذين كانت مواقفهم ناعمة تجاه تنظيم داعش (مثلاً: أبو محمد المقدسي).
وقد ظهر خلاف التيارات داخل جبهة النصرة في مواقف مفصلية عديدة مثل ميثاق الشرف الثوري رغم الموقف الرسمي. وقد فاقم تحول جبهة النصرة بعد سقوط دير الزور لخطة إقامة الإمارة وإقصاء تيار القحطاني من ظهور هذه الخلافات إلى العلن، وهو الإقصاء الذي طال عزل بعض مؤسسي جبهة النصرة ممن كان لهم موقف أقلّ حدة تجاه الفصائل الثورية (مثلاً: صالح الحموي)، ولكن هذا الافتراق في المواقف تقلص في المرحلة الأخيرة، وبدا من الملحوظ أن مواقف جبهة النصرة ومنظّريها شبه موحدة بشكل كبير، إضافة إلى عودة القحطاني إلى اللجنة الشرعية ومجلس شورى جبهة النصرة (آذار 2016م).
في مقابل توحد الموقف المعلن للجماعة إعلامياً في مرحلة الدراسة (كانون أول 2015م -أيار 2016م)، فإن تكرار حوادث اصطدام جبهة النصرة مع الفصائل الثورية ومحاولات قمع المظاهرات الشعبية في الشمال السوري، رغم محاولات التقارب مع الخطاب الثوري الذي أظهره زعيم جبهة النصرة في كلماته الأخيرة، قد أكد وجود مسافة براغماتية ما بين الخطاب المعلن للجبهة وما بين الأيديولوجيا التعبوية وسلوكه واستراتيجيته على أرض الواقع.
وقد ظهرت هذه الازدواجية (أو الازدواجيات) في مراحل سابقة، ما بين الخطاب المعلن والأيديولوجيا التعبوية والخيارات العملية، خاصة في مرحلة "حملة الإمارة"، حيث أعلنت جبهة النصرة قتال عدة فصائل من الجيش الحر في ريف إدلب وحماة وحلب بدعوى أنها فصائل "مفسدة" أو "باغية"، بينا أشارت شهادات عدة إلى أن القتال تمّ بفتاوى تقول بـ "ردّة" هذه الفصائل.
ولذلك فإن تحليل خطاب تنظيم القاعدة في سورية، لا ينبغي أن يتعامل مع هذا الخطاب باعتباره يطابق الأيديولوجيا أو الاستراتيجية المتبعة للتنظيم، بقدر ما أن عليه فهم سياقاتها والبحث في مساحة الأيديولوجي والسياسي في أي من الخطابات المعلنة، وطبيعة الجمهور المقصود به (موضوع الخطاب) والرسائل الضمنية أو الصريحة التي يريد إيصالها.
ثانياً: هيمنة الخطاب الثوري
كان عام 2013م مرحلة هيمنة خطاب السلفية الجهادية في سورية، أو ما ندعوه "هيمنة الخطاب الأقصى" على الفضاء العام، والذي امتدّ حتى إلى المجاميع الثورية التي لا تصنف ضمن التيار السلفي الجهادي أو الجهادي المعولم.
وقد تراجع حضور هذا الخطاب وتأثيره على الحواضن الثورية مع الوقت، وبتأثير أحداث مفصلية، كان أهمّها:
• الصدام مع تنظيم داعش بداية 2014م.
• حملة الإمارة (تموز 2014-شباط 2015م) والتي قام فيها تنظيما جبهة النصرة وجند الأقصى بالهجوم على عدد من فصائل الجيش الحر في ريف حماة وإدلب وحلب، وتمكنت النصرة بذلك من الهيمنة المكانية على مناطق قرب الشريط الحدودي التركي، ومن إضعاف الجيش الحر في الشمال السوري، والحصول على مخزون أسلحة من مستودعات الأسلحة التي فككتها.
• تصاعد حدة الخطاب التخويني والتكفيري من رموز الجبهة ضد فصائل الثورة، خاصة مقالات رضوان نموس (أبو فراس السوري)، ومقابلات الجولاني المرئية، خاصة في "المؤتمر الصحفي " بعد مؤتمر الرياض، والذي قال فيه إنه لا وجود للجيش الحر.
استكمل الخطاب الثوري تصاعده واستعادَ هيمنته على الفضاء العام عبر مراحل عدة، كان أبرزها المعارك العنيفة ضد النظام منذ التدخل الروسي (30 أيلول 2015م)، والتي تحملت فصائل الجيش الحر العبء الأكبر فيها، خاصة في ريف حماة الشمالي والساحل، ثم تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات بمشاركة الفصائل (10/12/2015م)، والتي تم تناولها في الخطاب الجهادي (مع الهدنة المؤقتة التي دخلتها الفصائل) كمظاهر للتنازل والمؤامرات والعمالة. وكان أبرز مظهر لهيمنة الخطاب الثوري هو موجة المظاهرات الشعبية الحاشدة في المناطق المحررة فيما بعد إقرار الهدنة وفي ذكرى الثورة السورية (آذار 2016). ورسّخت صدامات عدة هذه الهيمنة والتمايز ما بين الخطاب الثوري والجهادي، خاصة قمع مظاهرات مدينة إدلب والتعدي على علم الثورة السورية فيها (7/3/2016م)، والهجوم على الفرقة 13 في معرة النعمان (13/3/2016م).
وأظهرت هذه الأحداث الأخيرة، سواء في الفضاء الافتراضي أو في الشارع الشعبي، حجم الاحتقان المتراكم والذي يولد ردود أفعال متزايدة، ما بين أنصار الخطاب/المشروع الثوري والخطاب/المشروع الجهادي، مع وجود مساحة من التداخل بين التصنيفين لدى فئات من الفاعلين تتقلص مع زيادة الاستقطاب.
وبعد ردات الفعل الواسعة على مقابلة الجولاني التي قال فيها إنه "لا وجود للجيش الحر" والاحتقان الذي ظهر من خلال اصطدامات متتابعة كان أبرزها اصطدام جبهة النصرة خلال أسبوع واحد بالتمثيلات الثورية المدنية (مظاهرات إدلب) والعسكرية (الفرقة 13)، وخاصة بعد الاحتقان الكبير في تناول مؤتمر الرياض والخطوات التي انبثقت عنه (الهيئة العليا للتفاوض، المشاركة في جنيف، الهدنة المؤقتة...الخ)، طرأ تحول ظاهر في خطاب جبهة النصرة لاستدراك ما حصل.
ثالثاً: التنافس على الثورة
من جهةٍ أولى أسهم صعود الخطاب الثوري وتراجع شعبية وتأثير الخطاب الجهادي في تنامي شعبية فصائل الجيش السوري الحر، ودعم موقفها السياسي وتوسع قاعدتها الشعبية، بالتوازي مع الاصطفاف السياسي والعسكري لهذه الفصائل. ولكن من جهة مقابلة، فإن هذا التصاعد واجه -في الوقت نفسه-موجة من التشكيك بمبدئيته لدى الجهاديين إزاء موافقة الفصائل على الدخول في العملية السياسية واتفاق وقف الأعمال العدائية المؤقت، وهو ما كان فرصة للتيار الجهادي لتصعيد اتهاماته للفصائل. وبقدر ما أنّ توافق الفصائل على مرجعية سياسية وقدرتها على الاصطفاف السياسي والعسكري يحدّ من نفوذ جبهة النصرة، فإنّ أي عملية سياسية تعني بالضرورة عزل جبهة النصرة عن هذه الفصائل والمشروع الثوري، وهو ما تعتبره الجبهة أشبه بتهديد وجودي حيث يحتمل انتقال هذه الفصائل إلى القتال ضد جبهة النصرة ضمن اتفاقية دولية، حسب الخطاب الجهادي، خاصة مع استثناء جبهة النصرة من وقف الأعمال العدائية والرخصة الدولية لدى روسيا ونظام الأسد باستمرار قصفها دوناً عن الفصائل الموافقة على الهدنة.
وقد شهدت الساحة السورية وفرة في مبادرات توحيد الفصائل فيما بعد مؤتمر الرياض، لعلّ أبرزها كان "مبادرة طلبة العلم" والتي طرحها عدد من المشايخ بعضهم أقرب للتيار الجهادي وبعضهم من فصائل ثورية، وطرحت تشكيل حكومة للفصائل في الداخل، ولم تنجح المبادرة، وتحفّظت عليها جبهة النصرة.
دعا زعيم الجبهة أبو محمد الجولاني قادة فصائل جيش الفتح لمبادرة بديلة، تتلخص بدمج فصائل جيش الفتح ضمن راية وقائد واحد، وإعلان عدم تبعية التشكيل لأي مرجعية في الخارج (وهذا كان بديل النصرة عن فك الارتباط بالقاعدة)، ولم تنجح هذه المبادرة أيضاً بسبب رفض حركة أحرار الشام بشكل رئيس.
ولكن طرح هذه المبادرات بحدّ ذاته من قبل داعمي التيار الجهادي ومن قبل زعيم جبهة النصرة نفسه، يظهر الشعور بالتهديد الذي أحست به النصرة بعد توافق معظم الفصائل الثورية على مرجعية سياسية تمثلت بالهيئة العليا للتفاوض، واللجوء إلى طرح مشاريع تقوّض المرجعية السياسية للهيئة العليا من جهة، وتمنع انعزال جبهة النصرة عن الفصائل المحلية دون فكّ ارتباطها بالقاعدة أو تخليها عن مشروعها الخاص من جهة مقابلة.
ولكن جبهة النصرة قررت التوجه مباشرة إلى الحاضنة الثورية بخطاب مختلف، بعد فشل التوافق مع قيادات الفصائل، ولئن ظهر هذا الخطاب في حسابات قادة الجبهة ومنظريها وأنصارها، وحتى في كلمات المقاتلين و "الاستشهاديين" في الإصدارات العسكرية، فقد حضر ضمن محطات رئيسية:
1. كلمة الجولاني
جاءت كلمة الجولاني حول مشروع الهدنة، والتي نُشرت كرسالة صوتية في 26/2/2016م، ليلة بدء سريان الهدنة المؤقتة، لتحدد الخطوط العامة لهذا الخطاب القادم، والذي يوازن ما بين المحدّدين السابقين (تصاعد الخطاب الثوري، التشكيك بالموافقين على الهدنة والعملية السياسية).
هيمنت الصيغة الأدبية العاطفية على الكلمة مع كثير من الاقتباسات الشعرية الحماسية وهتافات مظاهرات الثورة وتكرار مديح "أهل الشام". وكان واضحاً من خلال التركيز على مصطلحات كانت غائبة بل شبه محارَبة من قبل الخطاب الجهادي سابقاً (الثورة السورية، الحرية، الكرامة، هتافات مظاهرات...الخ)، حرص قائد جبهة النصرة على التناغم مع الخطاب الثوري المهيمن ولو ظاهرياً، والتأكيد بأن جبهة النصرة تُمثل الثورة الشعبية وجزءٌ منها، وليست منفصلة عنها بانتمائها لتنظيم القاعدة، وإنما تعمل ضمن السياق الثوري والشعبي. واتسم رأي الجولاني حول الهدنة والفصائل بالتخوين الصريح وأن الهدنة وأدٌ للثورة ومُضادة لشعاراتها وأهدافها، كما دعى بشكل ضمني عناصر الفصائل للانشقاق عن قادتهم.
" وقد أعلنتم قراركم من أول يوم خرجتم فيه على الطاغية فقلتم حينها (الموت ولا المذلة)، وأنتم أهل لتصديقها".
ولعلّ أحد أهداف الكلمة ومفارقاتها، هو القناعة بتراجع تأثير الخطاب الجهادي التقليدي في الحشد والتعبئة، والتحول لاستخدام مفردات الخطاب الثوري الموجه خاصة للمقاتلين ضمن الفصائل الثورية (الأقلّ تأثراً بالخطاب الجهادي)، واستغلال ظرف الهدنة، بدعوتهم لترك الفصائل التي انخرطت في العملية السياسية والانضمام لمشروع القاعدة من خلال خطاب الثورة نفسه، أي أن تنظيم القاعدة دخل في التنافس على الرأسمال الرمزي للثورة السورية وشرعية تمثيلها.
ولكن هذا التحول الخطابي في كلمة الجولاني نحو التصالح مع الفضاء الرمزي للثورة السورية وتبنّيه، والذي امتدّ بشكل واضح وسريع إلى حسابات قياديي النصرة ومنظّريها في الفضاء الافتراضي، تبعه بوقت قصير الهجوم على مظاهرات مدينة إدلب وتمزيق علم الثورة فيها، ثم الهجوم على الفرقة 13 والاستيلاء على مستودعات سلاحها وجمعيات الإغاثة المقربة منها في معرة النعمان، وهو ما أظهر عدم انعكاس هذا التحول الخطابي على استراتيجية جبهة النصرة على الأرض.
وقد دفعت ردة الفعل على قمع جبهة النصرة مظاهرات مدينة إدلب، إلى إظهار الجبهة مرونة أكبر في تعاطيها مع الحراك المدني، ومشاركة عناصرها وأنصارها في المظاهرات الشعبية في أكثر من منطقة، إلا أنها مشاركة لم تخلٌ من اصطدامات أخرى ومن إظهار التمايز في الشعارات والرايات أيضاً، فيما عدا حادثة يتيمة رفع فيها أحد عناصر النصرة علم الثورة في مظاهرة بريف حلب. وفي المحصلة لم تنجح جبهة النصرة بعد هذه الاصطدامات المتتالية والحرص المكرّس على التمايز لدى أنصارها في أن تكسر الفجوة بينها وبين الحراك الثوري المدني، بقدر ما تعمّق الشرخ أكثر.
2. معايدة الثوار
في 17/3/2016م، ليلة ذكرى بداية الثورة السورية (18/3/2011)، أصدرت جبهة النصرة بيان تهنئة بذكرى الثورة السورية موقعاً باسم الجولاني، بعنوان: "رسالة إلى أهلنا في ذكرى الثورة".
"نبارك لأهل الشام وأمة الإسلام مرور خمسة أعوام على ثورتهم المباركة وجهادهم المبارك، سُطّرت فيها أروع أنواع التضحية والفداء والعزيمة والعطاء".
واختتمت بالتأكيد على انتماء الجبهة للثورة والشعب السوري:"نحن من أهل الشام والشام منّا، ولا يفرقنا عنها وعن أهلها إلا الموت إن شاء الله، ونجدد العهد على إكمال المسير حتى آخر رمق إن شاء الله".
وهذه هي المرة الأولى لكسر الفجوة ما بين الجبهة وبين الحواضن الشعبية منذ نشأتها قبل قرابة أربع سنين ونصف، كحلقة أخرى ضمن موجة التحول الخطابي الثوري الذي أظهرته جبهة النصرة، ومحاولة لكسب مقاتلين جدد من الفصائل الثورية، وعزل الفصائل المنخرطة ضمن العملية السياسية عبر شرعية تمثيل الثورة.
3. ورثة المجد
في 18/3/2016م أصدرت المنارة البيضاء (المؤسسة الإعلامية التابعة لجبهة النصرة) الفيلم الوثائقي "ورثة المجد 2"، (وكانت قد أصدرت فيلم ورثة المجد 1 في رمضان السابق)، بمناسبة ذكرى الثورة السورية، وليحمل رسائل تؤكد على الخطاب الجديد، وتتضمن رسائل ذكية ومدروسة بعناية.
يعمل إعلام جبهة النصرة باستمرار على إعادة إنتاج صورة الجبهة ومشروعها، ومَوضَعَتِهِ ضمن سياقات أعمّ من تصنيفات خصومه، سواء خصومه المحليين أو الدوليين. وقد تناول الفيلم الوثائقي "ورثة المجد 1" قصة بدء الإسلام وانتشاره والقادة العسكريين الكبار في التاريخ الإسلامي وحركات مقاومة الاستعمار في البلاد الإسلامية في القرن العشرين وصولاً للجهاد الأفغاني والشيشاني ورموز إسلامية وجهادية حديثة (عز الدين القسام، سيد قطب، عبد الله عزام)،وعرض مشاهد من تدريب كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس التي كفّرها عدد من مرجعيات تنظيم القاعدة والتيار السلفي الجهادي، ليختتم بكلمات زعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن. وهي رسالة لموضعة الجبهة ضمن سياق إسلامي عامّ، خارج الحلقة المغلقة للتيار السلفي الجهادي والجهادي المعولم، عدا طبعاً عن تقنيات الصورة والإخراج الحديثة، والاستخدام –الذي تكرر في إصدارات عسكرية ووثائقية لاحقة- لأناشيد كانت ذائعة (بتوجه صانعيها وجمهورهم) بين التيارات الأقرب للإخوان المسلمين (حماس) أكثر مما هي بين التيار الجهادي.
أما "ورثة المجد 2"، فقد تقصّد موْضَعة الجبهة ضمن سياقين أكثر راهنية، حيث استضاف الفيلم لأول مرة متحدثين من خارج جبهة النصرة، ومن خارج تنظيم القاعدة نفسه، كالأستاذ الجامعي السوري (د.سمير الشيخ علي)، وضمّ كلمات مأخوذة من مقابلات مع نعوم تشومسكي، ومقابلات تلفزيونية لمعارضين عرب.
وأظهر الفيلم للمرة الأول صور بعض القياديين في التنظيم:
• عبد الرحمن عطون (أبو عبد الله الشامي): القيادي وعضو مجلس الشورى في جبهة النصرة والذي تحدّث عن دور النظام العالمي في دعم الثورات المضادة ومحاربة الربيع العربي لتكريس موقع جبهة النصرة كممثل للثورات الشعبية.
• أحمد سلامة مبروك (أبو الفرج المصري): من رموز جماعة الجهاد المصرية، ورفيق أيمن الظواهري، والذي سبق أن سُجن أكثر من مرة في مصر، وأُفرج عنه أواخر عام 2012م، لينضمّ بعدها للنصرة.
• مالك حسين زينبية (أبو مالك التلي)، أمير جبهة النصرة في منطقة القلمون الغربي، والذي عُرف لدوره بمعارك القلمون الغربي وأحداث عرسال والجنود اللبنانيين المختطفين. واشتهر بموقفه الحيادي من تنظيم الدولة حتى بعد الحرب الموسعة عليه من قبل الفصائل الثورية (بداية 2014م) والتي شارك فيها فرع جبهة النصرة في دير الزور على مدى خمسة أشهر (شباط-تموز 2014م)، قبل أن تتوتر هذه العلاقات ويوجه نداء تحذير للتنظيم (تشرين الثاني 2015م)، ثم قيادته حملة ضد التنظيم أواخر آذار 2016م.
ابتدأ الفيلم بالحديث عن النظام العالمي المهيمن، والذي يعتمد على ذراع اقتصادي (صندوق النقد) وسياسي (الأمم المتحدة) وعسكري (مجلس الأمن). واستعان بمقابلات المنظر الأمريكي اليساري المعروف نعوم تشومسكي، لتأكيد هدف القاعدة المتمثل بكسر النظام العالمي، وموضعة القاعدة ضمن حركات الرفض ورد الفعل على عنف النظام العالمي ومنظومة العولمة (دون أن ينفوا نظرتهم للتنظيم كحركة إرهابية)، وهي السردية التي يتبناها عدد من المفكرين الغربيين، لعلّ أبرزهم الفيلسوف الفرنسي جان بودريارد الذي اعتبر أن تنظيم القاعدة عنف مضادّ لعنف العولمة، وكذلك الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، وهي الرواية التي تتقاطع مع حركات اليسار بمعارضتها للنظام العالمي وتتحدى التفسيرات الثقافوية الجامدة حول التيار الجهادي. وقد لا تكون هذه هي الفكرة المُتبنّاه أو ذات الأولوية لدى جبهة النصرة بالضرورة، ولا هي العقيدة التعبوية المستخدمة في المعسكرات، ولا تعني إرادة تقاطع مع أيديولوجيات يسارية أخرى، بقدر ما هي رسالة أراد صانع الفيلم أن يوصلها ليكسر الجمود التصنيفي حول الجبهة وأيديولوجيتها لدى الخصوم.
أما الرسالة الأكثر إلحاحاً وتركيزاً في الفيلم، فقد كانت سردية الثورة السورية التي تم استعراض بدايتها ومراحلها بدءاً من الانتفاضة الشعبية إلى المظاهرات الحاشدة إلى التوجه نحو السلاح. ويستعرض الفيلم عمليات مبكرة لجبهة النصرة وفي جبهات مختلفة، وتتقدم بالشريط الزمني حتى العام الراهن. وقد كان القصد موضعة جبهة النصرة ضمن السياق الثوري المحلي وسيرورة الثورة السورية الخاصة، دون نفي البُعد العالمي والانتماء لتنظيم القاعدة، لأن الفيلم استضاف متحدثين من القياديين المهاجرين داخل سورية (أبو الفرج المصري)، ومن قيادات تنظيم القاعدة اليمني (خالد باطرفي)، وهي سياسة دمج الأبعاد التي اعتمدتها جبهة النصرة في بدايتها، ولكن مع تأكيد مركز على الانتماء للسياق الثوري، وشرعية جبهة النصرة في تمثيل الثورة السورية، وعدم انحصارها ضمن السياق الجهادي المعولم بمصطلحاته أو أنصاره.
رابعاً: الافتراق المحتوم
لم تنجح مبادرة الجولاني (اندماج جيش الفتح) في كسر الاحتقان المتراكم ما بين جبهة النصرة والفصائل الثورية حتى المصنفة كإسلامية منها (أحرار الشام)، أو في ضمّ هذه الفصائل لمشروع يقوّض احتمالية انعزالية مشروع الجبهة عن مشروع الفصائل الثورية المحلية. ورغم الخطاب الثوري المرن فقد تكررت الصدامات التالية:
أولاً: بين جبهة النصرة والفعاليات الثورية المدنية ضمن المظاهرات الشعبية التي نشطت خلال آذار 2016م بعد سريان الهدنة ومع الاحتفال بذكرى الثورة السورية، كما حصل في مدينة إدلب (وعدة مناطق في ريف إدلب الغربي ذات النفوذ العالي لجبهة النصرة) حيث تم قمع مظاهرة شعبية وأصدر جيش الفتح قراراً بمنع رفع علم الثورة السورية داخل المدينة.
ثانياً: ما حصل بين جبهة النصرة والفصائل الثورية بعد هجومها على الفرقة 13 في معرة النعمان (13/3/2016م)، حيث تعتبر معرة النعمان ومظاهراتها (وكذلك الأتارب وكفرنبل وغيرها) أحد الحواضن الرئيسة للخطاب الثوري الأكثر قُرباً للجيش الحر والمصادم للتيار السلفي الجهادي والجهادي المعولم (ما يسمى في التداول الشعبي: إخوة المنهج)، ما أعاد التذكير بحملة الإمارة، وشجّع المخاوف بين الفصائل الثورية من تجدد الحملة وهجوم الجبهة عليها لتفكيكها، وما أنتج ردة فعل قوية في الفضاء العام.
ثالثاً: تأسيس "جيش الفسطاط" (15/3/2016) في الغوطة الشرقية، كخصم لجيش الإسلام كما كان واضحاً منذ البداية، وكما تأكد في مشاركته العنيفة ضد جيش الإسلام منذ بداية أحداث الغوطة الشرقية الأخيرة (28/4/2016م)، وبتصعيد كبير في خطاب التخوين والتكفير ضد الجيش، كما أظهرت كلمات شرعيي جبهة النصرة في الغوطة الشرقية، أو كلمات قادتها وأنصارها بشكل عام.
وقد زادت هذه الحوادث من مسافة الشرخ بين جبهة النصرة والفصائل والحواضن الثورية، وتنامى شعور هذه الفصائل بالتهديد المتفاقم والخشية من هجوم الجبهة عليها، وهو ما زاد من التقارب فيما بينها، وقد يؤدي لتحالفات عسكرية مؤسسية أكثر تماسكاً فيما بينها ضمن الفترة القادمة.
وقد أظهرت هذه الصداماتُ براغماتية المرونة المرحلية لخطاب جبهة النصرة، وأنها لم تعكس تطوراً فكرياً أو تحولاً استراتيجياً في سياسة الجبهة مع المجتمع المحلي والفصائل الثورية أو مع مشروع "الإمارة". وقد كانت المفارقة أن الجبهة تحاول تمثيل الثورة في الإعلام، بينما تصطدم بتمثيلات الثورة المدنية والعسكرية على الأرض.
هذا إضافة إلى ما أظهرته هذه الصدامات من صعوبة إلغاء التمايز الرمزي عن الفضاء الثوري بشكل سريع، وهو التمايز الذي حاول منظرو الجبهة تكريسه لدى عناصرهم خلال سنوات، بالتركيز على تمثيل الشريعة والجهاد والعالمية في مقابل تمثيل الفصائل الأخرى لمشاريع مضادة لهذه الأهداف، إضافة إلى كون هذا التمايز أحد عوامل الجذب والتعبئة وترسيخ الانتماء لدى هؤلاء العناصر، لما يمنحه من سايكولوجيا التفوق.
خامساً: التحول للنفير
مع عدم تحقيق الخطاب الثوري الذي تبنته الجبهة خطوات تقارب مع الفصائل والحواضن الثورية، وعدم نجاح الرهان على كسب مقاتلي هذه الفصائل عبر مهاجمة الهدنة، وذلك بسبب سياسات الجبهة نفسها واصطدامها معهم، ودون أن يؤثر ذلك على التحالف الميداني بين جبهة النصرة والفصائل الثورية في جبهات القتال ضد النظام (خاصة ريف حلب الجنوبي)، فقد تحول تنظيم القاعدة لخطوة أخرى، دون أن تغيب معالم الخطاب الثوري تماماً عن شعاراتها، بعدما تمّ كسر "تابو" المصطلحات الثورية عملياً بكلمة الجولاني.
1. حملة انفرْ
في (20/4/2016) أعلن الشيخ السعودي عبد الله المحيسني، وهو داعية مقرب من جبهة النصرة ويحظى بشعبية ضمن التيار الجهادي، عن إطلاق "حملة انفرْ" برعاية "مركز دعاة الجهاد" الذي يرأسه، بهدف دعوة الشباب للالتحاق بالجهاد، وكان شعار الحملة:
"قطع المجاهدون آلاف الكيلومترات لينصروا إخوانهم المستضعفين في الشام، فأين أنت يا ابن الشام؟"
وهو خطاب يستعيد -وإن بشكل أخف- أدبيات التنظيمات الجهادية المعولمة في سورية، الذي يرى "المهاجر" أعلى رصيداً من حيث الرأسمال الرمزي والشرعية الجهادية، مقارنةً بأبناء البلد "الأنصار"، والذي استخدم من قبل هذه التنظيمات كـ "خطاب سلطة" في مواجهة المجتمع المحلي، لإثبات أحقية المهاجر بتمثيل الجهاد وبالتالي بالحكم.
أقيمت مهرجانات خطابية في المناطق المحررة والمخيمات الحدودية، إضافة إلى حملات إعلامية كبيرة تدعو للانضمام للمعسكرات التدريبية للحملة والتي ستوزّع المتطوعين على الفصائل. ومن الطبيعي أن تحظى الفصائل الأقرب للتيار الجهادي (وفي مقدمتها جبهة النصرة) بنسبة أكبر من المتطوعين، بحكم توجهات مركز دعاة الجهاد نفسه. ولكن تواضع الأعداد المنضمة للحملة مقارنة بحجم الضخ الإعلامي، وتدنّي المستوى العمري بينهم كما أظهرت الصور، لا يجعل للحملة تأثيراً حقيقياً على قوة وعدد جبهة النصرة أو غيرها، ولكنه يُعيد إحياء مفهوم "النفير" ودعوة "شباب المسلمين" للتطوع للجهاد، بعد مرحلة طويلة من انخفاض عدد "المهاجرين الجدد" إلى سورية، عدا عن توجه النسبة الأكبر منهم إلى تنظيم داعش منذ إعلانه، وشبه استقرار المقاتلين المحليين ضمن فصائلهم. وقد أتت استجابةُ أو استكمالُ الحملة من مكان مختلف.
2. كلمة الظواهري: انفروا للشام
في (8 أيار 2016م) نشرت مؤسسة السحاب كلمة صوتية لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري بعنوان "انفروا للشام"، لتظهر أكثر لأنصار القاعدة وجمهورها التماهي ما بين التنظيم الأم وجبهة النصرة، في الخطاب والاستراتيجية، مع تصعيد أكبر، أو عودة بالأحرى، للسقف الجهادي التقليدي وشعاراته.
ولئن كانت كلمة أسامة بن لادن الأخيرة عن ثورات الربيع العربي في بدايتها قد أثارت جدلاً بين الباحثين، بالنظر إلى مديح تنظيم القاعدة لمظاهرات سلمية تنادي بالتغيير الديمقراطي، فإن نهج تنظيم القاعدة لم يختلف جذرياً وقتها، رغم أن قادة التنظيم مروا بمرحلة من القلق بسبب تزعزع نظريتهم حول استحالة التغيير السلمي بعد سقوط نظامي مصر وتونس، ومحاولة التكيف الأيديولوجي (الخطابي بالأحرى) مع مطالبات التغيير السلمية عبر محاولة رفض فكرة التصادم بين خطابي "القاعدة" والربيع، وتوجيه الأخير نحو أهداف "القاعدة" بإقامة دولة إسلامية.
ولم تكن تلك مرحلة وفاة تنظيم القاعدة كما استعجل البعض، وعلى النقيض من ذلك فقد كانت موجة الثورة المضادة وقمعُ الأنظمة الديكتاتورية للحركات الشعبية أحد مسببات ازدهار أيديولوجيا القاعدة وتنظيمها في المشرق العربي، ولذلك فإن الإشادة المبكرة بالربيع العربي تندرج ضمن خطاب التضامن والصورة الحسنة، بينما الإشادة بالثورة السورية في كلمة الظواهري الأخيرة عن الثورة السورية باعتبارها تمثل "الجهاد الصحيح" ونعي الثورات الأخرى فهي تندرج ضمن خطة وخطاب مشروع التيار الجهادي المعولم.
لم يعد أيمن الظواهري هنا متضامناً عن بُعد مع انتفاضات شعبية غير مؤدلجة، بقدر ما أصبح أيضاً ضمن المتنافسين على تمثيل الثورة السورية، ويطلق أحكامه حول الصواب والخيانة فيها، بناء على تحول خطاب النصرة نحو تبني مفردات من الخطاب الثوري وتأكيدها على تمثيل الثورة السورية. ولكن كلمة الظواهري وعاطفته المعلنة تجاه الثورة السورية تأتي في سياق مشروع الجهاد العالمي وأهدافه، لا لتأكيد محلية المشروع كما حرص الجولاني في جميع مقابلاته أن يقول.
وكما تبنّت كلمة الظواهري خطاباً مطعماً بمفردات الثورة السورية وهتافات مظاهراتها، أسوةً بخطاب جبهة النصرة الجديد، فإنها تبنّت –مثلها أيضاً- تخوين المنخرطين ضمن العملية السياسية أو من أرادوها دولة "وطنية"، وهو ما يشمل جميع الفصائل الثورية. ولكن الكلمة تمثل تصعيداً خطابياً (بعد مرونة خطابات النصرة الأخيرة) أو عودةً بالأحرى إلى السقف الجهادي التقليدي في تكفير الدول (خاصة السعودية التي تكرر ذكرها) وتخوين التيارات الأخرى، وتأكيد عالمية مشروع الجهاد.
كررّت كلمة الظواهري الحديث بإيجابية ومديح عن الثورة السورية التي يراها بأنها: “الثورة الشعبية الوحيدة بين ثورات الربيع العربي التي انتهجت الطريق الصحيح، طريق الدعوة والجهاد لإقامة الشريعة وتحكيمها، والسعي لإقامة الخلافة الراشدة، لا خلافة إبراهيم البدري"
وأكد على فضل "مجاهدي الشام" عدة مرات وهم الذين " ثبتوا ولم تزحزحهم الخدع والأكاذيب"، والتي يقصد بها خاصة العملية السياسية التي شاركت بها الفصائل الثورية بعد مؤتمر الرياض، حيث تعتبر السعودية عدواً تاريخياً بالنسبة لتنظيم القاعدة، وتتكرر مهاجمتها في خطاب قائد التنظيم أضعاف تكرار ذكر إيران:
"إن واجبنا اليوم هو أن ندافع عن الجهاد في الشام ضد المؤامرات التي تحاكُ له، والتي تتولّى كبرها ربيبة بريطانيا وتابعة أمريكيا، دولة آل سعود وذيولها من دول المنطقة".
ولا يقتصر الظواهري على الشأن المحلي في سورية، بقدر ما يعطي للتيار الجهادي فيه مهمة إقليمية مؤجلة:"المشكلة الكبرى للنظام العالمي ومجرميه، ولحكامنا وأنظمتهم المرتدة، أن مجاهدي الشام يقفون على حدود فلسطين، ويهددون ما يسمونه إسرائيل.
وبعد هذه المقدمات يصل الظواهري للنتيجة أو واجب التيار الجهادي العالمي إزاء "الشام":
"واجبنا اليوم أن ندعم الجهاد في الشام بكلّ ما نستطيع، وأن ننفر لنصرته خفافاً وثقالاً... حتى يقوم فيه كيان إسلامي مجاهد راشد".
وخطاب الظواهري عن الثورة السورية بهذا التخصيص وتحديد الأهداف حسب سقف التنظيم وأهدافه، هو محاولة استدخال للثورة ضمن مشروع القاعدة، أكثر مما هو تصالح حقيقي مع الثورة الشعبية، على النقيض من ذلك، فإن الكلام باسم الثورة محاولة كسب لشرعية مساعدة على الاصطدام مع عموم تمثيلات الثورة التي تخالف توجهات تنظيم القاعدة.
تناول الظواهري بالقسم الأكبر من الكلمة قضية فك ارتباط جبهة النصرة بالقاعدة ونظرته لوحدة المجاهدين، بعد القول إن " مسألة الوحدة اليوم هي قضية الحياة أو الموت لكم"، وللتأكيد على ذلك "لقد قلناها مراراً وتكراراً إن أهل الشام -وفي القلب منهم مجاهدوهم البواسل الميامين- إذا أقاموا حكومتهم المسلمة، واختاروا لهم إماماً، فإن ما يختارونه هو اختيارنا". أما صفات هذه الحكومة فإنها “تنشر العدل وتبسط الشورى وتعيد الحقوق وتنصر المستضعفين وتحيي الجهاد فتحرر البلاد وتسعى لتحرير الأقصى وإعادة الخلافة على منهاج النبوة"، وعند تحقيق هذه الحكومة: “لن يكون الانتماء التنظيمي يوماً ما عقبة في وجه هذه الآمال العظيمة".
وهي صياغة ملتبسة متعددة المعاني لا تشير صراحة إلى فك ارتباط جبهة النصرة بالقاعدة فيما لو اجتمع أهل الشام على حكومة راشدة، هذا طبعاً مع تحديد شروط هذه الحكومة الراشدة ضمنياً بكونها تتبنى أيديولوجياً تنظيم القاعدة، واتهام من يطالب النصرة بفكّ ارتباطها بالقاعدة بكونه جزءاً من مؤامرة وهذا يشمل جميع الفصائل الثورية (حتى إسلامية التوجه منها كأحرار الشام).
ولذلك لا يجب فهم كلام الظواهري عن التوحد أو التلميح لفك الارتباط أو مديح "مجاهدي الشام"، باعتباره تنازلاً أو مرونة مع الفصائل الأخرى كما أشارت بعض التحليلات، بقدر ما هو تأكيد على الافتراق المحتوم ما بين المشروع الثوري ومشروع التيار الجهادي، ودعوة (أو تمهيد) لجبهة النصرة للمضيّ في مشروع إقامة الإمارة في الشمال السوري، وتمهيد لصدامات أكبر مع خصوم التيار الجهادي المحليين.
إن عنوان الكلمة الصريح "انفروا للشام"، واعتبار أي طرح تتبناه الفصائل الثورية بالعموم كخيانة أو كفر، وتأكيد افتراق مشروع التيار الجهادي عنهم، مع الاستشهاد ذي الدلالة بكلمات زعيم الطالبان الراحل الملا عمر حول حمايته لأسامة بن لادن، يؤكد على استراتيجية التنظيم الأم الذي بات يعتبر أن مركز ثقله يقع في سورية (أو في الشمال السوري تحديداً حيث مركز ثقل ونفوذ جبهة النصرة بين المناطق السورية).
يأتي هذا الطرح بعد مرحلة من الانتكاسات التي أصيب بها تنظيم القاعدة خلال السنوات السابقة، بعد خروج تنظيم القاعدة من أفغانستان منذ عدة سنوات بضغط من الطالبان، وبعد إضعاف فرع اليمن (قاعدة الجهاد في جزيرة العرب) بشكل كبير باغتيال معظم رموزه في السنتين الماضيتين وبخروجه السريع من المكلا مؤخراً، وبعد هيمنة تنظيم داعش على الفضاء الجهادي المعولم، وبعد انتقال عدد كبير من قيادات خراسان إلى سورية خلال الفترة السابقة.
ولكن محدودية وحساسية الموقع الجغرافي لجبهة النصرة، وتركيز التحالف الدولي عملياته في المنطقة، عدا عن زخم التركيز الدولي على سورية، وتزايد الخصوم الداخليين للقاعدة بين الفصائل والمجتمعات المحلية، يجعل التفكير صعباً باتخاذ الشمال السوري كمركز دائم لقيادة التنظيم، ومحفوفاً بمراقبة دولية مكثفة لا يمكن أن تسمح بقيام كيان لتنظيم القاعدة على مدى طويل، ولا يحظى هذا الكيان بعمق جغرافي كافٍ للاختباء وإعادة الانتشار (كالعراق وأفغانستان ولبيبا واليمن)، ولا بقاعدة شعبية أيضاً، مع تزايد الشرخ ما بين جبهة النصرة والحواضن الثورية، وهو ما يشكك بالتحليلات التي تذهب إلى أن الظواهري وقيادة التنظيم انتقلت إلى سورية.
3. حمزة بن لادن
بعد يوم واحد فقط من كلمة أيمن الظواهري، وبرسائل مشابهة، نشرت مؤسسة السحاب كلمة حمزة بن أسامة بن لادن، نجل زعيم تنظيم القاعدة السابق، بعنوان "ما القدس إلا عروس مهرها دمنا". وكان التركيز على الموضوع السوري واضحاً في الكلمة رغم أن موضوعها حول فلسطين، ويعلّل ذلك حمزة بن لادن بالقول عن تحرير القدس، داعياً كالظواهري إلى "توحيد صفوف المجاهدين في الشام" في سبيل هذا الهدف:
"خير الميادين المهيأة لهذه المهمة هي ميدان الشام المبارك ويجب أن نتذكر أن الطريق لتحرير فلسطين اليوم أقرب بكثير مما كان عليه قبل الثورة السورية المباركة، فعلى الأمة أن تصب اهتمامها بالجهاد في الشام". ومن الواضح أن الكلمة تمثل دعوة أخرى لأنصار التيار الجهادي للتوجه نحو سورية، تأكيداً لدعوة أيمن الظواهري نفسه، ولحملات "النفير".
4. أبو عبد الله الشامي
في 25/5/2016م نشرت مؤسسة المنارة البيضاء كلمة مصورة للقيادي والشرعي في جبهة النصرة "عبد الرحيم عطون" (أبو عبد الله الشامي)، بعنوان "ماضون في نصرتكم".
ويعتبر الظهور الثاني للشامي بعد فيلم "ورثة المجد 2" بهدف ترويج الجبهة لرموز جديدة للأنصار والجمهور، وإن لم تكن جديدة بالنسبة لعناصر الجبهة، حيث يعتبر الشامي أكثر الشرعيين تأثيراً ضمن اللجنة الشرعية ومجلس الشورى لجبهة النصرة، حتى حين تمت تسمية سامي العريدي كشرعي عام للجبهة، عدا عن كونه من الأقلية السورية فيها حسب الأسماء المتداولة لأعضاء اللجنة (أبو سليمان المهاجر: أسترالي الجنسية مصري الأصل، أبو مارية القحطاني: عراقي، سامي العريدي: أردني، أبو عبد الله الشامي: سوري).
وتستخدم الكلمة مفردات ثورية (الحرية، الكرامة...الخ)، في إطار التركيز على التقارب الخطابي مع الحاضنة الثورية الذي بدأه الجولاني، إضافة إلى الحديث عن دور الولايات المتحدة الأمريكية في الثورة السورية، والذي يراه الشامي داعماً لنظام الأسد، ويعمل على "تصنيف قوى المجاهدين ومحاولة التَّفريق بينهم؛ فقد صنفت جبهة النصرة على قائمة الإرهاب كونها العنصر الفاعل في مواجهة نظام الأسد"، حيث تبعت ذلك بالاستهداف العسكري لجبهة النصرة، والذي استهدف عدة اجتماعات لقادة الصف الأول من جبهة النصرة في الفترة الأخيرة، وكان آخرها اجتماع قياديين للجبهة في مطار أبو الضهور وهم الذين نعاهم الشامي.
ويرسل الشامي تهديداً للولايات المتحدة عبر كلمات مثل "ذنب لا يُغفر" و "طلب الثأر" نتيجة سياستها في سورية:
"أمريكا باستهدافها لهذه القوة المجاهدة، قد وضعت نفسها أمام غضب شعبي متمثِّل بغضب الشعب المسلم في الشام، ويُمدُّه غضب أمةٍ إسلاميةٍ كاملة ترى جرائم بشار صباح مساء، وعلى كامل رقعة سورية. وسيبقى هذا الشعب المسلم الصابر المصابر المجاهد المرابط يطلب ثأره ممن زاد في معاناته ودافع عن جلاده".
ورغم تكرار الجولاني في معظم مقابلاته محلية الإطار العسكري لنشاط جبهة النصرة، وأنه لن يستهدف دولاً أخرى، فإن تهديد الولايات المتحدة يأتي كتأكيد لانتماء جبهة النصرة لمشروع الجهاد العالمي، وفي السياق العام لتركيز قادة تنظيم القاعدة على أهمية "الجهاد في الشام" في كلماتهم الأخيرة، لإظهار تقارب أكبر ما بين التنظيم الأم والفرع الشامي الذي أضحى أقوى مراكزه، بالنظر إلى تفكك وتراجع قوة فروع القاعدة فالأخرى، وانتقال عدد كبير من قيادات القاعدة من أفغانستان أو إيران (حيث كانوا محتجزين) إلى الفرع الشامي.
ولعلّ تهديد الشامي لا يعكس نية فعلية لتنفيذ هجمات ضد الولايات المتحدة، بقدر ما يندرج ضمن خطاب رفع المعنويات وأيديولوجيا الحشد والتعبئة لعناصر الجبهة والقاعدة بالعموم، من خلال شخصية قيادية سورية محلية، فهو يجمع ما بين السياقين في الآن نفسه.
خاتمة
تستلزم القراءة الصحيحة لخطاب تنظيم القاعدة في سورية إدراك مستوياته وسياقاته ورسائله، وعدم المطابقة ما بين الخطاب المعلن والأيديولوجيا التعبوية والقناعات الحقيقية والاستراتيجية العملية، فهو خطاب سياسي أكثر مما هو خطاب أيديولوجي بحت، خاصة بالنسبة للخطاب الموجه للعموم في المرحلة الأخيرة.
وقد أظهرت جبهة النصرة منذ مشروع الهدنة براغماتية تجاه استخدام المفردات الثورية وحاولت عبر التقارب الخطابي مع الحاضنة الثورية للتنافس على شرعية تمثيل الثورة، في مواجهتها للعملية السياسية التي أفرزها مؤتمر الرياض وتوافق الفصائل على مرجعية سياسية، مع هيمنة الخطاب الثوري وعودة شعارات الجيش الحر للفضاء العام، وبدلاً من مصادمة المشروع الثوري، فإن خطاب الجبهة أراد تسويق مشروعه من خلال هذا الخطاب الثوري الجديد.
ولكن الانتماء الظاهر إلى تنظيم القاعدة وعُقدة التمايز عن الفصائل الثورية التي ترسخت لدى عناصر الجبهة خلال أربع سنوات، إضافة لمشروع جبهة النصرة نفسه، وشعورها بالتهديد من دخول الفصائل ضمن عملية سياسية دولية، دفع للاصطدام بتمثيلات الثورة المدنية والعسكرية، كما ظهر بقمع المظاهرات الشعبية التي ترفع علم الثورة وبالهجوم على الفرقة 13، حيث لم يفد خطاب التقارب مع الثورة في دمج جبهة النصرة ضمن شعارات الثورة ومظاهراتها، ولكن على النقيض من ذلك حاولت جبهة النصرة أن تصوّر مشروعها باعتباره مشروع الثورة الحقيقي، كقوة مساعدة ضد المنافسين الثوريين.
ولم ينجح خطاب النصرة الموجه للحاضنة الثورية والمنافس على شرعية تمثيل الثورة، في إقناع عناصر الفصائل الثورية بأن فصائلهم وقعت بخيانة لاشتراكها في العملية السياسية والهدنة المؤقتة، ولا في كسب مقاتلين جدد من هذه الفصائل، وهو ما تلاه تحوّل مكثف لإظهار مزيد من التماهي ما بين النصرة وتنظيم القاعدة الأم، كمحاولة لكسب متطوعين جدد من "المهاجرين"، من خلال العودة للسقف التقليدي للخطاب السلفي الجهادي وإرسال دعوات النفير إلى الشام وتأكيد شرعية تمثيل الجهاد العالمي.
ولا يعني التحوّل الخطابي تحولاً استراتيجياً بالضرورة، بقدر ما أن انزياح هذا الخطاب المتغير باستمرار نحو مفردات ثورية محلية أو جهادية عالمية، وزخم الكلمات والإصدارات التي أصدرها تنظيم القاعدة حول سورية في الأشهر الأخيرة موضوع الدراسة، يوحي بوجود اختلافات داخلية تعصف بالتنظيم، وحالة من التوتر والتخبط إزاء خيارات التعامل مع الواقع، فكما أن الانزياح الثوري في خطاب الجولاني لم ينعكس على تقارب مع الفصائل والحواضن الثورية، فإن الانزياح نحو الجهاد العالمي مؤخراً لا يعني بالضرورة إلغاء إمكانية فك الارتباط بتنظيم القاعدة، رغم أن النصرة أصبحت مركز ثقل التنظيم الأكبر (وشبه الوحيد) ورغم انتقال عدد كبير من قادة التنظيم الأم إلى جبهة النصرة، كما لا يعني تهديد شرعي جبهة النصرة (أبو عبد الله الشامي) للولايات المتحدة بأن الجبهة تخطط فعلاً لعمليات عسكرية خارج سورية.
وتقف جبهة النصرة على مفترق طرق صعب، ما بين التحولات السياسية الدولية من جهة والتي أصبحت أقرب لدعم موقف نظام الأسد وقوات سوريا الديمقراطية وإضعاف الثورة السورية بالعموم سياسياً وعسكرياً، والاستقطاب المتزايد ما بين جبهة النصرة من جهة، والفصائل والحواضن الثورية من جهة ثانية، والخلافات الداخلية فيما بين المؤيدين للاندماج في المشروع المحلي والداعمين للتماهي مع تنظيم القاعدة الأم من جهة ثالثة. وأمام هذه التحديات الموضوعية والذاتية لا يمكن أن تكفي تحولات خطابية مؤقتة في علاج مشكلة تتعلق بجذور المشروع واستراتيجيته العامة.
ضمن برنامجها "نبض سوري" استضافت قناة الجسر الفضائية نائب المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور سنان حتاحت، جاء ذلك خلال حلقة حملت عنوان: "تنظيم الدولة يجتاح دير الزور وتظاهرات في معرة النعمان تندد بالنصرة". وزعت الحلقة على أربعة محاور جاءت على النسق التالي:
1) تقدم تنظيم الدولة في دير الزور. 2) محادثات جنيف 25 كانون الثاني. 3) مظاهرات معرة النعمان ضد النصرة. 4) رفع العقوبات عن إيران.
يذكر أن الحلقة من إعداد آلاء الحاج، وبيان العثمان ومن تقديم خالد الصالح، وإياس غالب الرشيد.
وظفت المظلومية قديماً ومن قبل العديد من الفئات كأداة ضغط سياسي واجتماعي للحصول على ميزات ترفع أصحابها فوق القانون والأعراف، ولمنحهم مكانة خاصة غير قابلة لمساس، فعلى سبيل المثال لا الحصر شرعن إهمال آل أمية ومن بعدهم تجاهل آل عباس المشروع الشيعي السياسي، وكذلك أسس اليهود دولتهم في فلسطين مستغلين الاضطهاد التي تعرضوا له في أوروبا، ليتكرر مؤخراً نفس السيناريو إلى حد كبير مع تنظيم الدولة الذي يوظف مظلومية السنة في العراق والمشرق عموماً في تسويق "الخلافة الإسلامية". وعلى الرغم من فاعلية المظلومية في حشد الرأي العام وتجييش مئات آلاف الأنصار، إلّا أنها شرّعت في جميع الحالات دون استثناء للإقصاء والظلم، وخلقت تباعاً مجموعة مظلوميات جديدة مؤسسةً لدخول مجتمعاتها في دوامة سلبية لا تلبث أن تقضي على الجميع غرقاً. ويلحظ اليوم أن موجة الثورات المضادة التي لحقت بالربيع العربي ونال جلها حكومات مكونها الرئيسي إسلامي، نشوء مناخ مناسب ومشجع لوقوع الحركات الإسلامية ضحية توظيف مظلوميتها وانصراف أفرادها عن إعادة ترتيب بيتهم الداخلي والدعوة إلى مشاريع وطنية تحميهم وغيرهم من سياط الدكتاتورية وتسلطها.
يكمن المحظور الأول للمظلومية في فئويتها، فهي سردية تروي مأساة الفئة المستهدفة، وتحكي آلامهم وما تعرضوا له من قمع وإجرام وتهميش، وغالباً ما ترتفع أصوات أصحابها مدافعين عنها عند أي نقد يوجه لها. ويتدرج المقتنعون بها في تصعيد نبرتهم المطالبة برد مظالمهم حتى تغدو مسلمة "فوق دستورية" أو حقيقة كونية "مقدسة" لا تقبل النقاش بل ويعاقب من يشكك بها. وبعيداً عن صوابية الدعوة أو مصداقية المعلومات المؤسسة للمظلومية ينتهي المطاف دائماً في منح أصحابها ميزات لا ينعم بها غيرهم، ممهدة بشكل طبيعي للفئة المظلومة في الوقوع بالمحظور الثاني.
إن التشريع القانوني أو الدستوري الذي يمكّن لفئة دون غيرها في المجتمع أو السياسة دون الاستناد على قاعدة مساواة وعدل شاملة غالباً ما يؤسس للإقصاء أولاً وللدكتاتورية لاحقاً. فالمظلومية لا تقبل المشاركة، وهي حكر لمن اكتوى بلظاها، فإن حظي أصحابها بالحكم اقصوا من "تنعم" و"أعرض" عن مساندتهم في محنتهم. فلا مكان حين ذاك للمختلف عنهم بينهم، ولا يجزيه أي عمل عن اللحاق بركبهم، فهو مستخدم ومستأجر بأحسن الأحوال. ولأن سنة الكون تنص "أن لكل فعل ردة فعل مساو له في القوة وعكسه في الاتجاه"، تتشكل مظلوميات مضادة تطالب كل منها على حدة أو مجتمعةً بحقوقها ورد مظالمها. وكإجراء طبيعي غالباً ما تلجأ الفئة المظلومة سابقاً إلى تعزيز ما حصلت عليه طوعاً بالإكراه، مؤسسةً لدكتاتورية جديدة ومتجددة تمكنهم إلى حين قبل أن تنقلب عليهم وبالاً ومحنة.
أمّا المحظور الثالث فهو الوقوع ضحية نظريات المؤامرة، حيث تشبه الميزات التي يطالب بها أهل المظلومية تلك التي تفرض على الدولة من القوى الخارجية لحماية الأقليات التي تتبع لها، ويسهل في هذا السياق تحديد القواسم المشتركة بينهما، ولعل أهمها على الإطلاق التمييز وتشكل الخوف الوجودي. حيث أنها تسهم في بناء هوية المستفيدين منها حول المظلومية فقط، وتقطع السبيل عليهم في إيجاد المشترك بينهم وبين محيطهم المختلف. فعلى الرغم من جاذبية القيم والصفات المشتركة وقدرتها على تذليل الفروقات بين أفراد المجتمع الأوسع، إلا أنها تجرّد أهل المظلومية من "حقوقهم" وتحولهم إلى أشخاص عاديين متساويين، وغالباً ما يواجه الباحث عنها بعنف، مقاطعةً وعقاباً على تمرده، ودرساً لأخوته، وتحذيراً للغير. ويترافق مع زيادة الميزات وتقدم الزمان، تنامي الشكوك والارتياب بنيّات المحيط، وقد يكون أغلبها في محلها، إلّا إنها تشجع في ذات الوقت على انتشار نظريات المؤامرة وتُصرف الجهود على محاربة الآخر وصده بدلاً عن النماء الذاتي والتطور الفعّال.
تمتلك الحركات الإسلامية في المشرق رصيداً يكفل لها المطالبة بمظلوميتها، فلقد عانى أفرادها من التضييق والاضطهاد والتهميش وكل ما يؤهلهم للإحساس بالظلم فضلاً عن غيرهم، وإذ منعهم اتكاؤهم على قاعدة شعبية واسعة من تبني سردية المظلومية علناً، إلّا أنهم يمارسونها بوعي أو دون وعي منهم. ولقد كشفت تجارب حكم الجماعات الإسلامية جنوحها للوقوع في المحظورات السابقة، وبحكم عدم اتساقها مع نسق المنظومة الدولية الليبرالية كان من السهل الإيقاع بها أو الانقلاب عليها. وبما أن مناط التكليف الإلهي يقتضي أولاً عمارة الأرض للكل لا لفئة دون غيرها، وثانياً إنفاذ مقاصد الشريعة من قسط وعدل ومساواة، ينبغي على الجماعات الإسلامية تطبيق ما يطالبون به الليبراليين من إرهاف الحس الوطني وتقديم النفع العام. فلم يكن ليكتب لتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا النجاح لولا تبنيها هذا الفهم الرفيع، ولم يكن ليقع في كبوته الأخيرة إلّا لغفلته عن ضرورة الاستمرار في منهجه الأول.
المصدر موقع السورية نت:https://goo.gl/N1mmAa
أحدث هجوم تنظيم الدولة الأخير على مناطق الثوار في ريف حلب الشمالي والسيطرة على عقدة صوران وعدة قرى حولها خلال تقدم جيش الفتح على مواقع النظام في إدلب، أوسع موجة ردود أفعال ضد التنظيم وتدعو لقتاله، نظريّاً على مستوى المواقف المعلنة من قبل المنظّرين الجهاديين، أو ميدانيّاً على مستوى ردة فعل الفصائل الثورية والجهادية. وبات التنظيم في هذا الهجوم في أقرب مواقعه لمدينة اعزاز ومعبر باب السلامة الحدودي، ما دفع لقدوم مؤازرات ضخمة من فصائل حلب وإدلب لمنع تقدمه ومحاولة استعادة المناطق التي احتلّها، ولكن تأخير الحسم والتقدم دفع التنظيم للتثبيت في مواقعه حوالي صوران ومحاولة التقدم من خلال الخواصر الرخوة في سعيه للسيطرة على مدرسة المشاة ذات الأهمية الرمزية والاستراتيجية. ومع عدم امتلاك الفصائل الثورية لخطة استراتيجية طويلة الأمد لمواجهة التنظيم، أو للتنسيق ضمن غرفة علميات مشابهة لجيش الفتح، أو اعتبار الجبهة مع التنظيم معركة مفتوحة وذات أولوية، فإن الاكتفاء بردود الفعل والمؤازرات المؤقتة يبدو من صالح التنظيم ومن صالح النظام معاً، حيث يستغل الطرفان تشتت جبهات فصائل الثورة في حلب واستنزافها الطويل.
يحلّل تحديات المقاومة المدنية المسلحة والعلاقة الجدلية مع السكان وبين الفصائل، ويتكهّن سيناريوهات العام المقبل.
طالما كان موقف جبهة النصرة لغزاً في كونها ذات منهجٍ قاعدي بعيد عن روح الثورة السورية في حين أن سلوكها المبدئي أظهر تفهماً لنسق الحاضنة الاجتماعية التي تتواجد فيها. ويبدو أن الأحداث الأخيرة حسمت القول في ميلها ونياتها. وتناقش هذه الورقة الخيارات المتعددة لجبهة النصرة والأثمان المترتبة على ذلك.
ليس ثمة اختلاف في أن أهداف التحالف ضبابية وأن النتيجة النهائية لهذا الجهد مفتوحة لاحتمالات متعددة. فما هي الأدوار المتوقع أن يلعبها الفرقاء المختلفون ليجنوا أكبر قدر من المنافع ويحموا أنفسهم من عواقب لم تكن بالحسبان.
يركز التحالف الدولي حالياً على تحقيق أهداف تضمن تعطيل قدرات تنظيم "الدولة" والنصرة ومجموعات أخرى، ووقف التمويل وتنفيذ عمليات منع تدفق المقاتلين أو عودتهم إلى أوطانهم. ويثير التأطير الدولي المنقوص للقضية السورية قلقاً وطنياً كونه يتجاهل قضية التحرر ويتعامل مع التطورات الشاذة في المشهد السوري دون معالجة أسبابها المتمثلة بعنف وطائفية النظام وحلفائه. إن غياب الاستراتيجية الواضحة من قبل التحالف الدولي حيال الصراع في سوريا سيجعله مرشحاً لمزيد من المتغيرات التي تفضي إلى صعوبة القدرة على التعامل مع انعكاساته الإقليمية. وتتراوح المآلات المتوقعة بين نموذج عراقي، وتشكل مناطق نفوذ مستقطبة إقليمياً، وخيار تمكين نظام الأسد.
يفكك تقدير الموقف هذا المشهد العراقي الأخير، مشيراً إلى أن سياسات بغداد الطائفية كانت دافعاً أساساً في الحراك الثوري الأخير مما لا يمكن اختزاله في مسألة إرهابٍ وتطرف، فهو في حقيقته استمرارٌ لفعلٍ ثوريٍّ ضد مسلك حكومة المالكي التمييزي الرافض لمطالب شعبية منذ عامين. كما يتناول هذا التقدير بعض المواقف الإقليمية والدولية، التي تتراوح بين مواقف متأنية ومتخوفة ومتدخلة، ويسرد عدة نتائج تتعلق بالمشهد الداخلي العراقي والتدخلات الإيرانية وانعكاساتها على منطقة المشرق العربي.