مركز عمران للدراسات الاستراتيجية - Displaying items by tag: الاحتلال الروسي لسورية

تواصل القوات الروسية استهداف كل من يقاتل "تنظيم الدولة" سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فقد استهدف قصفها الجوي مقار لقوات الجيش الحر في بداية القصف وغيره من الفصائل التي قاتلت التنظيم من بداية 2014 دونما دعم أو دفع من أي جهة إيماناً بأن الإرهاب دخيل على سورية، وما يستدعي الانتباه استهداف الطيران الروسي المتعمد لبنى الإدارة المحلية التي أفرزتها الثورة في المناطق التي خرجت عن سيطرة قوات الأسد منذ عام 2012 لسد الفراغ الإداري والخدمي الناجم عن تغيب النظام لمؤسسات الدولة عن تلك المناطق، كما حصل مؤخراً في القصف الروسي الذي استهدف المجلس المحلي في ريف حلب. وقد تمكنت المجالس المحلية عقب مرور ما يزيد عن الثلاث سنوات على انطلاقتها من ترسيخ نفسها بحسب القدرات والموارد المتاحة لها كهياكل حوكمة محلية ذات دور مركزي في إدارة شؤون مجتمعاتها مستندة في ذلك على شرعية تمثيلها للسكان.

ولعل ما يفسر استهداف الطيران الروسي للمجالس خشية صانع القرار الروسي من نجاح مشروع المجالس في ترسيخ سلطة بديلة متكاملة ذات شرعية، وتمتلك من المقومات ما يمكنها من الاستمرارية والتعامل بمرونة مع متطلبات المرحلة القائمة والانتقالية، وبالتالي نفي الطرح الذي تتمسك به موسكو والمتمحور حول بقاء نظام الأسد كخيار وحيد ضامن للاستقرار وبأنه الأقدر على محاربة الإرهاب وضمان الأمن المجتمعي. وضمن ما سبق يفهم الحرص الروسي على وقف انهيار نظام الأسد وإبقائه قائماً وإعادة إنتاجه وتسويقه إقليمياً ودولياً من خلال الدعم العسكري والسياسي الذي توفره له ومحاربة أي بديل له.

وتجد مخاوف صانع القرار الروسي ما يدعمها، فقد أثبتت المجالس قدرتها على توفير متطلبات الاستقرار لمجتمعاتها وفق الموارد المتاحة لديها وهو ما يمكن ملاحظته من خلال الأدوار التي تقوم بها حالياً في ظل تنامي الصراع والتي تشمل توفير الخدمات الحياتية الأساسية كالمياه والكهرباء والنظافة، ولعب دور تنموي لمجتمعاتها سواءً عن طريق إقامة دورات تأهيل ودعم التعليم أو من خلال إقامة مشاريع تنموية لا سيما في القطاع الزراعي، كذلك تقوم المجالس بلعب دور سياسي لا يمكن إغفاله باعتبارها هيئات برلمانية مصغرة يمارس المواطنون من خلالها حقهم في إدارة شؤونهم من خلال حق الانتخاب والترشيح والمحاسبة. كذلك تعتبر المجالس المحلية أحد أبرز الديناميكات التي تهيئ لطرح سياسي متماسك تبنى عليه المرحلة الانتقالية، حيث أنها تستطيع من إعادة بناء الدولة وتحقيق الأمن المجتمعي ومحاربة الإرهاب وتوفير الخدمات وتحقيق العدالة الانتقالية لقدرتها على التعامل بمرونة مع ملفات المرحلة الانتقالية، ومما يؤكد على ما سبق حضور المجالس في عدة مقاربات سياسية للحل طرحت من قبل عدة جهات ومراكز بحثية لم تلقَ القبول الكافي لترجمتها للواقع.

ولعل ما يزيد من مخاطر القصف الروسي على استمرارية مشروع المجالس قصور المقاربة السياسية في التعاطي مع الشأن السوري سواءً من قبل المبعوثين الدوليين الذين طرحوا عناوين للحل السياسي متناسين أصل المشكلة ومرددين لحجج مثل "وحدة المعارضة"، وأيضاً من قبل داعمي الثورة الذين اهتموا بتقوية هياكل المقاومة الوطنية العسكرية لمقاومة النظام والاحتلال الإيراني والروسي وخطر تنظيم داعش في حين لم يتم التركيز من قبلهم على توفير الدعم الفعلي الواجب لتقوية هياكل الحوكمة المحلية التي  تؤسس لاستقرار الحياة المدنية من خلال ما تقوم به من أدوار بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني والهيئات المحلية.

وإضافة إلى ما سبق تواجه المجالس المحلية تحديات تؤثر سلباً على تطوير أدائها واستقرارها كتأطير العلاقة بينها وبين فصائل المقاومة الوطنية وتنمية مواردها الذاتية للتقليل من الاعتماد على الجهات المانحة ذات الدعم غير المستقر والمسيس أحياناً، وترسيخ مفاهيم الحكم الرشيد في ممارستها من خلال التأكيد على سيادة القانون والشفافية ومحاربة الفساد والتخطيط الاستراتيجي الأقدر على التعامل بكفاءة مع جذور المشكلة وليس مع نتائجها كما هو قائم، إضافة إلى تحقيق تكاملية إدارية على مستوى المحافظة الواحدة وبين المحافظات وبالتعاون مع مؤسسات المعارضة الرسمية، وبذلك يتم التأسيس لسلطة متكاملة قادرة على أن تواجه استحقاقات التحالف الثلاثي القائم بين النظام وإيران وروسيا لإجهاض الثورة.

وفي النهاية هي رسالة موجهة للمعارضة وفصائل المقاومة الوطنية والدول الداعمة للثورة بضرورة اتخاذ التدابير لحماية المجالس المحلية من الهجمة الأخيرة التي تتعرض لها من قبل روسيا وإيران وتمكينها بشكل أكبر من القيام بمهامها لخدمة السوريين في تشكيل البديل الإداري وتطوير آليات الحكم الديمقراطي المحلي على أسس جديدة تليق بتضحيات السوريين وتعيد الشعور بامتلاك السوريين لقرارهم الوطني وإدارة مواردهم ومقدراتهم ومؤسساتهم.

نشر على موقع السورية نت: http://goo.gl/qXMm8d

التصنيف مقالات الرأي
السبت, 17 تشرين1/أكتوير 2015 22:02

التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية

ملخص: تحاول هذه الورقة قراءة فعل التدخل العسكري الروسي المباشر، مبينة ماهيته ومدلولاته وغاياته وحدوده التي يمكن استنباطها من تقييم الواقع السياسي على مستوى المشهد المحلي والإقليمي والدولي، متلمسة في جزئها الأخير ارتدادات هذا التدخل  على الساحة السورية التي غدت المحدد الأساس لاستقرار أي نظام سياسي إقليمي، ثم لتنتقل بعد ذلك لتبيان فرص قوى المقاومة الوطنية السورية وتحدياتها والتي تتقاطع بشكل كبير مع فرص وتحديات الفواعل الإقليمية.

لا يزال الملف السوري يشهد ظهور متغيرات جديدة نتيجة أداء الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين على الصعيد السياسي والعسكري، والتي لطالما أحدثت انتقالاً نوعياً في مستوى وحِدة الصراع من جهة، وتغييراً في اتجاهات وسياقات الانفراج من جهة أخرى. ولقد أصبح لهذه المتغيرات أثر عابر للجغرافية السورية وممتد ليشمل خارطة الإقليم ويغدو مسبباً أساسياً في تغيير التموضعات والتحالفات الإقليمية.

ورغم اتساق الفعل الروسي الأخير مع مواقف موسكو من أحداث الثورة السورية والتي اتخذت من الجغرافية السورية مسرحاً يعيد "الألق السوفياتي" في المنطقة بعد خسارات متراكمة تكبدتها في المشرق العربي منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، إلا أنه فعلٌ جديد على النهج الخارجي لروسيا في المشرق العربي، حيث لم تشهد هذه المنطقة تدخلاً روسياً مباشراً قط، ولطالما اعتمد الاتحاد الروسي على الفيتو، والدعم العسكري لأنظمة حليفة لضمان مصالحه الجيوسياسية والجيواقتصادية في المنطقة. تحاول هذه الورقة تشريح التصعيد الروسي الأخير وماهيته ومدلولاته التي يمكن استنباطها من تقييم الواقع السياسي على مستوى المشهد المحلي والإقليمي والدولي، بالإضافة إلى تحديد غاياته وحدوده، متلمسة في جزئها الأخير ارتدادات هذا التدخل على الساحة السورية التي غدت المحدد الأساس لاستقرار أي نظام سياسي إقليمي، ثم لتنتقل بعد ذلك لتبيان فرص قوى المقاومة الوطنية السورية وتحدياتها والتي تتقاطع بشكل كبير مع فرص وتحديات الفواعل الإقليمية. 

في توصيف الفعل الروسي الجديد ودوافعه

تختلف التحليلات السياسية في توصيف التدخل الروسي سواءً على صعيد تحديد ماهيته أو اتجاهاته أو على صعيد مشروعيته القانونية، وهذا الاختلاف يولد مفاهيم متناقضة يصعب من خلالها تحديد الملامح التكتيكية والاستراتيجية، وذلك عائد للمنهج التحليلي المتبع والمتسق مع اصطفاف المحللين سياسياً وفق رؤيتهم لتعريف القضية السورية ومستويات الصراع فيها، إلا أنه ووفقاً لقواعد المدرسة الواقعية في التحليل السياسي يمكن توصيف الولوج العسكري الروسي المباشر بجملة من التعريفات وفق الآتي:

•    هو خطوة فرضتها الضرورة الناشئة من اللحظة السياسية والعسكرية الحرجة في الملف السوري، حيث تبدت ملامح الخسارة الاستراتيجية للأدوات الخارجية الروسية واحتمالية تزايد فرص تعاظم هذه الخسارة أمام تنامي عدة عوامل يمكن ذكر أهمها بالآتي:

•    تزايد الإنجازات العسكرية لقوى المقاومة في مقابل عجز متدحرج لقوى النظام السوري وميليشياته، الأمر الذي اقترب من قلب الموازين العسكرية في الجغرافية السورية ويهدد مشروع الحفاظ على ما بات يعرف بـ "سورية المفيدة"، لذا كان ضرورياً، وفق الاعتقاد الروسي، التدخل المباشر وضبط السيولة العسكرية وتقويضها وذلك لصد الأفعال المهددة للمصالح الجيواستراتيجية الروسية.

•    تزايد التنافسية الإقليمية في السيطرة على محددات اللعبة في الملف السوري بحكم الهامشية الناجمة عن السياسة الأمريكية المترددة وغير المكترثة لجملة الصراعات الناجمة باستثناء "الحرب ضد الإرهاب"، وهنا تعتقد موسكو أن هذا التدخل سيصد طموحات بعض الدول الإقليمية (كالسعودية وقطر وتركيا) وسيجبر الفاعل الإيراني - الذي استطرد بالاستحواذ على إدارة ملفات النظام الاقتصادية والعسكرية وحتى التفاوضية-  على صياغة سياسته وفق قواعد التعاون والبناء المشترك، ناهيك عن أن هذا التدخل سيحفز بعض الدول الداعمة للثورة المضادة بالاصطفاف خلف الدب الروسي ويهيئ  الفرصة لبلورة محور إقليمي بقيادة موسكو.

•    إنّ قُرب انهيار "الأسد" مع استمرار فشل جهود موسكو في خلق بديل له، يحتم على روسيا ضرورة الدفع باتجاه استمرار الأزمة وتعطيل ظروف عمل المسارات السياسية، الأمر الذي أوجب تدخلاً عسكرياً من شأنه إحداث تغيير في قواعد التعاطي السياسي والعسكري مع الملف السوري.

•    هو عنوان عودة نوعية جديدة للفاعل الروسي إلى المنطقة، يعمل من خلالها على ملء الشواغر الناجمة عن محددات استراتيجية أوباما القائمة على مبدأ الإدارة من خلف وعدم الانخراط المباشر في ملفات الشرق الأوسط، تؤسس هذه العودة لمرحلة تحسين الشروط الروسية في المنطقة بعد سلسلة الخسارات الاستراتيجية التي منيت بها بعد ثورات الربيع العربي وبعد القضية الأوكرانية بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الروسية التي لا تزال آخذة بالتعاظم، لذا فإن انتهاج مبدأ إدارة (الأزمة بالأزمة) ربما يحقق للفاعل الروسي فرصاً تهيئ  له انفراجات استراتيجية، كما أنه يعمل على احتساب الشروط الروسية في جل الصيغ الأمنية  والاستراتيجية في المنطقة .

 تساهم العودة الروسية هذه على المدى المنظور بداية تشكل أفق وملامح عامة جديدة ترجئ أي حسم في مسارات التفاعل ضمن الإقليم، ويمكن ذكر أهم هذه الملامح كما في الآتي:

•    معادلة أمنية تضمن التوازن الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وحلفائها مع الاتحاد الروسي وحلفائه "الجدد" من جهة أخرى.

•    تأخير الحسم في مسارات جيبولتيك الطاقة في المنطقة تلك المسارات المرتبطة ارتباطاً عضوياً بمستقبل القضية السورية، إذ تدرك روسيا جيداً أهمية موقع سوريا كونها مكاناً محتملاً لمرور شبكة أنابيب النفط والغاز إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا وهو ما يهدد هيمنتها على تصدير الغاز للقارة الأوروبية (تتجاوز حصة الغاز الروسي من إجمالي الواردات الأوروبية 64 في المئة). لذا نراها اليوم تندفع للاستثمار في قطاع الطاقة السوري لأنها تفضل أن يكون لها حصة في تطوير هذا القطاع بدلاً من أن تتنافس معه في المستقبل.

•    مراعاة تغييب الحركات الإسلامية بكل تدرجاتها من أي مشاريع للتغيير السياسي في المنطقة عبر تثبيت حوامل الثورة المضادة وتدعيم مفاهيم وكوادر الدولة "العميقة".

•    تثبيت أولوية مكافحة الإرهاب على حساب قضايا التغيير السياسي، وذلك عبر الاستمرار في الاستثمار والتوظيف السياسي غير المباشر للجماعات العابرة للحدود. 

أما من الناحية القانونية فتم النظر إلى التدخل الروسي بوجهتي نظر، الأولى باعتباره شرعياً وهذا مستمد من الوضع القانوني للنظام في القانون الدولي وأنه كيان له سيادة يحق له طلب التدخل العسكري من أية دولة أو جهة، أما الثانية فتعتبره احتلالاً بحكم أنه وجود أجنبي مسلح، يقوم بعمليات عسكرية مباشرة تستهدف البنية والجغرافية السورية، وانطلاقاً من ضرورة تحديد الوضع القانوني لهذا التدخل فإن الواقع السياسي في سوريا أفرز شرعية سياسية بديلة عن النظام ومعترفاً بها من قبل أكثر من  مئة دولة، ناهيك عن أن الأمم المتحدة ومنظماتها تتعاطى مع الطرفين بكافة قراراتها مما يدلل على أن الشرعية السياسية بالعموم وعلى أقل تقدير يمكن وصفها بأنه يعتريها الكثير من اللغط والخطأ، والقاعدة القانونية الكفيلة بمنع الشطط في هذه القضية هي ضرورة موافقة وتكليف مجلس الأمن، أما دون ذلك فهو عدوان واحتلال، وهو بحكم الواقع كذلك خاصةً إذا ما ربطنا هذا التدخل وتوافقه مع إعلاناته الرسمية وأنه موجه لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية  نجد أن السلوك التنفيذي لهذا التدخل لا يطال هذا التنظيم بل على العكس تماماً فهو يهيئ له الفرص بالتمدد عبر ضرب الخصم المشترك لكليهما وهو قوى المقاومة الوطنية ولتغليب كفة النظام وحلفائه على حساب الطرف الآخر وهذا نسف لقواعد إدارة الأزمة، التي تلزم الجميع بعدم التدخل المباشر إلا عبر المظلة الدولية.

اختبار المواقف شرط لفهم حدود التدخل

رغم إخطار العاصمة الروسية لجميع الفاعلين الدوليين بطبيعة تدخلها العسكري في الملف السوري، إلا أن ذلك لا يؤكد أو ينفي بشكل قاطع ماهية دور الفواعل الدولية في هذا التدخل، ومما لا شك فيه فإن تحديد طبيعة الأدوار سيشكل إطاراً أساسياً لفهم طبيعة وعمق هذا التدخل إذ سيشكل سلوك الفواعل الإقليمية والدولية اختباراً وظيفياً لكافة الأسئلة المتعلقة بسيناريوهي التنسيق أو المزاحمة، وانطلاقاً من ذلك ينبغي تثبيت عدة معطيات يساهم مجموعها في رسم الموقف الدولي مستثنين في هذا الصدد التصريحات الرسمية والإعلامية وذلك لعدم اتساقها مع سلوك جل الفاعلين خاصة فيما يتعلق بالملف السوري بحكم طبيعته المعقدة والمتشابكة، وأهم هذه المعطيات هي:  

1.    سعي موسكو الحثيث لتفعيل "محور إقليمي" متمثل في روسيا-إيران-العراق- نظام الأسد وهذا ما يتطلب جهوداً روسية غير متعارضة مع الاستراتيجية الأمريكية على الأقل في الجغرافية العراقية وانسجاماً مع آليات التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في الجغرافية السورية، الأمر الذي يحتم على الروس تحديد خارطة أهداف مشتركة  وهذا مرده لأمرين الأول  هو عدم قدرتهم الحالية على إعلان التنافس الواضح مع الفاعل الأمريكي في ظل عدم نضوج واكتمال هذا المحور، والأمر الثاني عائدٌ لخصوصية العراق بالنسبة لواشنطن، لذا فإن روسيا ستعمل على تضخيم هذا المحور على حساب تفاهمات جزئية مع أمريكا كطبيعة تدخلها في الملف السوري.

2.    تدلل الاهتمامات العسكرية لكل من الروس والأمريكان على عدم التعارض، فاهتمام روسيا وفق سير الأحداث العسكرية ومواقع الضربات وتركيز جنوده يشير إلى جزء من "سورية المفيدة"، ويتضمن أيضاً في طياته التحكم بالخط المحتمل لأنابيب الغاز والنفط باتجاه البحر الأبيض المتوسط. وبذات الأمر فهو لا يركز على المنطقة الجنوبية وذلك مرده لعدة أمور أهمها التخوف من التعارض مع المحددات الأمنية لـ "إسرائيل" أو أن هناك اتفاقاً وتثبيتاً لقواعد الاشتباك فيها، وبالعموم ستختبر الولايات المتحدة الأمريكية هذا التدخل وتعمل على تصحيح انحرافاته عبر سياسات غض النظر عن دفوعات الفاعلين الإقليمين المؤيدين لقوى المعارضة في دعمهم بأسلحة أكثر تطوراً من خلال "غرف العمليات" أو عبر جره للغرق بالساحة السورية التي مهد التدخل الروسي لعوامل استنساخ التجربة الأفغانية وإفرازاتها الحادة، إلا أن هذا لا يمنع من الناحية التقنية والفنية تنسيق مجال الطلعات الجوية لمنع أي تعارض محتمل ما بين عمليات التحالف الدولي والعمليات الروسية.

3.    فيما يتعلق بالفاعل التركي فإن احتياجه للطاقة ومراعاته لعوامل أخرى مرتبطة بتحولات المشهد التركي الداخلي ستجعل نسب زيادة تدخله وتعارضه مع الروس أقل ونسب حصول تفاهمات بينية قائمة على عدم التعارض مع فكرة المنطقة الخالية من تنظيم الدولة، إلا أن ذلك لا يعني عدم مراقبته بحذر لتطورات المشهد مع احتمالية تنشيط تدخله عند ظهور مهددين أمنيين وهما اعتماد الروس على حزب الـ pyd كقوة برية يساندها الطيران الروسي بالإضافة إلى تغيير كفة التوازن في مناطق الشمال لصالح إما تنظيم الدولة أو لصالح قوى النظام.

4.    أما إيران التي عادت عملياً إلى الكرسي الخلفي في عملية قيادة وإدارة ملفات النظام فإنها ستبحث عن سبل تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع الروس وهذا لا يعني الاتفاق سياسياً على كل النقاط إلا أنه يهدف مرحلياً لتوحيد وتناغم الجهود العسكرية فهي ستبقى مركزة على الحدود اللبنانية ومناطق في القلمون الشرقي بالإضافة إلى غرب دمشق وذلك لحماية نفوذها في لبنان المتمثل في حزب الله وطرق إمداده وحمايته. وسيشكل التدخل الروسي الذي سيخفف الضغط العسكري عليها دفعاً لطهران لتقوية جبهاتها بالعراق، كما سيضمن هذا التدخل سلبيات الانفتاح الإيراني مع المجتمع الدولي بعد الاتفاق النووي حيث أنه لم تعد موسكو من تدير ملفات طهران الدولية.

5.    ربما تشكل ادعائية موسكو بأن تدخلها العسكري في سورية سيرافقه ضغط على الأسد للخروج من المشهد السياسي إبان المرحلة الانتقالية أو بعدها، عاملاً مطمئناً نوعاً ما للفاعل السعودي، إلا أن سلوك موسكو العسكري والسياسي في المنطقة يحفز الفاعل المصري ودولاً إقليمية أخرى على دعم ومباركة هذا  الأداء فهو من شأنه أن يوجه ضربة موجعة للقوى الإسلامية "الخصم السياسي الاستراتيجي" من جهة وسيوفر المناخات الملائمة لنمو الثورات المضادة وبالتالي ضمان استمرار مصالحهما الأمنية والاستراتيجية، وهذا السلوك يتعارض بمفرزاته مع أمن السعودية التي ترى أن نمو محور كهذا من شأنه زيادة فاعلية إيران التي لازالت تعبث بالمجال الحيوي للمملكة وعليه ستنتهج الرياض أيضاً سياسة الحذر والترقب وتصحيح أية انحرافات عبر زيادة الدعم العسكري كماً ونوعاً.

تشكل هذه المعطيات المستقاة من فهم المحددات الجيوسياسية والأمنية لأهم الفاعلين نسفاً جزئياً لأي سيناريو قائم على التنسيق مع تغليب عام لسيناريو المزاحمة عبر التدخل لإصلاح الاختلالات المحدثة، فالثقة السياسية ما بين جل الفواعل لايزال يعتريها الكثير من الغموض والعائد على كثرة الملفات المفتوحة في المنطقة وطبيعة سلوك الدول فيها، إذ ستسمر صفة القلق وعدم الاستقرار في المنطقة مع ترشيح ظهور متغيرات طارئة تساهم إما في تصحيح الاختلالات أو تزيد من تعقيد المشهد وحدية مستويات الصراع فيه. 

نحو المزيد من أسباب الحريق والتشظي

يرتجي التدخل العسكري الروسي المباشر تحقيق غايات عسكرية وسياسية تسهم في مجموعها في إعادة ترتيب المشهد العام كما ذكرنا سلفاً وفق الشروط الروسية، لكن ستنذر نتائج تنفيذ الرؤية الروسية بالاتجاه نحو المزيد من تعقيد المشهد وارتفاع مستوى حديته، إذ سيؤدي هذا التدخل إلى توفير الظروف لتنامي عدة معطيات ستجعل المشهد السوري ينحدر باتجاه الأفغنة القابلة للتدحرج لتغدو سمة المنطقة ككل، نذكر منها:

أولاً: تعقيدات عسكرية، يرغب الفعل العسكري الروسي على المستوى المحلي بقلب المعادلة العسكرية لصالح نظام الأسد لإعادة تمكينه، وذلك بعد أن أتم عمليات تحضيراته اللوجيستي واختباره لردّة فعل الفصائل الثورية وجهوزيتها وأماكن تموْضعها، حيث ينوي  تحضير مسرح العمليات لتسهيل التوغل البري لقوى النظام وحلفائه( )، إلا أن ذلك سيصطدم باللامركزية العسكرية لقوى المقاومة الوطنية التي أضحت بعد ثلاث سنوات من العمل العسكري تسم بقدر كاف من المرونة والتغيير والقدرة على المبادأة وذلك وفق أنساق غير متشابهة رغم اتفاقهم بالعقيدة العسكرية هذا من جهة ومن جهة أخرى فتدلل تجارب الحشد الشعبي في العراق وعمليات الانسحاب الأخيرة لقوى النظام على مستوى القدرة التعبوية المنخفض المستمر وبالتالي فإن المشكلة المتنامية في هذه القوى ستجعل من هذه العمليات الروسية تخفق من تحويل هذه القوى من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، وهذا من شأنه أن يجعل الجغرافية السورية تحتضن أرقاماً إضافية في عدد الوفيات ويعقد الملف الإنساني من جهة، وتضيف إلى مستويات الصراع نوعاً آخر  وهو الصراع المباشر مع المصالح الروسية من جهة أخرى داخل الحدود السورية أو خارجها.

وللاطلاع على خارطة العمليات الجوية الروسية في الجغرافية السورية انظر الشكل رقم (1).

التدخل الروسي

الشكل رقم (1): خارطة العمليات الجوية الروسية في الجغرافية السورية (2)

ثانياً: تقهقر مداخل الحل السياسي، بالتزامن مع الحشد العسكري تبذل الدبلوماسية الروسية بعد فشل منتدياتها جهوداً حثيثة للتسويق لخطة "تحول سياسي" تقوم على إمكانية تشكيل حكومة سورية موسعة بإدارة النظام تضم أطرافاً من المعارضة "الناعمة" وتكليفها بترتيب انتخابات بلدية ونيابية ورئاسية بالتتابع، وهو طرح ترفضه جملة وتفصيلاً قوى الثورة بمختلف أطيافها، الأمر الذي سيعزز -على المدى المنظور- معطى "موت الحل السياسي"،  هذا الحل الذي ترفضه موسكو قبل دمشق فإدارة بوتين لاتزال تعالج ملفاتها الخارجية أثناء مزاحمتها للولايات المتحدة على تعزيز شروط الحل الصفري خاصة إذا كان الطرف الآخر في معادلات الحل إسلامياً مهما كان توجهه.

ثالثاً: ازدياد فرص تمدد الخطاب الجهادي العابر للحدود، بغض النظر عن طبيعة المعرفة الأمريكية بنوعية وحدود التدخل العسكري، فستتكفل الفوضى والعبثية التي تتسم بها عموم الجغرافية السورية بتعزيز سبل المواجهة الباردة بين الفاعل الأمريكي والروسي على أقل تقدير إلى انتهاء واشنطن من استحقاقاتها الإنتخابية، وهذه السياسات الغريبة عن طبيعة الملف السوري من شأنها ترجيح كفة خطابات الجماعات الجهادية العابرة للمحلي خاصة في ظل عدم تدخل أي من حلفاء قوى المقاومة الوطنية لمنع عملية التدمير ولصد محاولة الالتفاف على قضية المجتمع السوري الأساسية لصالح معادلات أمنية إقليمية ودولية تتشابك فيها الأبعاد الجيوبوليتكية بما فيها المتعلقة بخطوط الطاقة والمصالح الاقتصادية.

رابعاً: السيولة على مستوى المنطقة، ستشهد عملية إدارة الأزمة تحولات في وظائف غرف القيادة وتنذر عمليات التنسيق الفنية بين الفاعلين المتوقع حدوثها بأن تجعل الساحتين السورية والعراقية ملعباً جيوسياسياً واحداً وهذا وحده كفيل بتزمين الملفات التي يرشح أن تسيل لتضم دولاَ محيطة أخرى خاصة في ظل استمرار تجاهل القائمين على إدارة تلك الأزمات لمنطلقات الحل الذي لا مهرب منه وهو تمكين قوى المجتمع ومشاركتها في رسم وصنع السياسة العامة في كلا البلدين.   

الدور الوطني المطلوب

مما لا شك فيه أن التدخل نظرياً يضمن زيادة فرص انتقال الأسد كورقة تفاوض من إيران إلى روسيا وهذا من شأنه أن يخلق مداخل سياسية جديدة قد تسهم سلباً أو إيجاباً في مآل الملف السوري ومرتبطة بمدى استمرار التماسك الاستراتيجي بين الروس والإيرانيين من جهة، وبمدى التوافق بين السلوك الروسي والمصالح الأمنية للفواعل الإقليمية، وهذا ما يجعل قوى المقاومة الوطنية أمام مروحة فرص وتحديات تستوجب العمل على عدة مستويات وفق الآتي:

المستوى السياسي

•    العمل على الرصد الدائم لمسار وتطورات الأحداث واستكشاف مجالات التفاوض الجديدة ورسم حدودها وآلياتها والعمل على ترسيخ الشروط الثورية قبل الولوج بها

•    استثمار المعطيات الدولية والإقليمية في إعادة خلق الظروف المواتية لإعادة تصدير الثورة وتنشيط فاعلياتها كسبيل وحيد للخلاص من النظام الحاكم مع مراعاة دمجها بمنطق فكر الدولة الذي يتيح هوامش حركة سياسية وعسكرية ويحقق امتلاكاً لبعض وظائف الدولة التي

ستشكل مكسباً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وله أثر بالغ في العملية التفاوضية، بالإضافة إلى ضرورة وضع أجندة دبلوماسية محكمة بغرض عدة أهداف، أهمها:

•    دفع المنظمات العربية والدولية والإسلامية الرسمية وغيرها على اعتبار التدخل الروسي "عدواناً واحتلالاً " يجب تبني سبل صده، نظراً للمخاطر الأمنية التي سترافق استمرار هذا التدخل.

•    دفع الدول العربية عامة ودول الخليج خاصة لاعتبار حزب الله والميلشيات الطائفية الأجنبية الأخرى المؤيدة للأسد جهات إرهابية.

•    تعزيز فرص إقامة المنطقة الآمنة في الشمال السوري.

•    التواصل مع منظمات حقوق الإنسان العربية والدولية وتقديم البيانات والمذكرات والوثائق اللازمة في قضيتي اللاجئين والاحتلال الروسي.

•    تشكيل مجموعة عمل بالتعاون مع سفراء الائتلاف والجاليات السورية لتنظيم حملة في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية لشرح قضيتي الغزو الإيراني والروسي وقضية اللاجئين

•    فرصة تاريخية لتكاتف الجهود المحلية كافة، وتوحيد الجهود السياسية والعسكرية، وإيجاد مشروع سياسي – عسكري – إداري قادر على قيادة المرحلة

•    ضرورة الإدراك أن توافر الشروط الموضوعية للتنازل تعزز خيارات رفع سوية وسقف المطالب أكثر، فهذه الشروط لن تتسم بالديمومة وستبقى أسيرة الملف السوري الذي لم تستقر به المتغيرات لتغدو آخر المطاف.

مستوى الاستراتيجية العسكرية

على المستوى التكتيكي فإن إتباع نهج "الالتصاق بالعدو" في هذه المرحلة يعد الخيار الأكثر نجاعة في مثل هذه المواجهات، فكلما قصرت المسافة الفاصلة بين قوى المقاومة الوطنية وقوات النظام والمليشيات الأجنبية الحليفة له فتثبيت قواعد الاشتباكات ضمن مسافات قصيرة مع التمتع بمرونة التنقل على طول خطوط التماس سيصعب من مهام تحوّل سلاح المدفعية والطيران، أما على المستوى الاستراتيجي فيمكن اتباع عدة استراتيجيات يمكن ذكر أهمها:

•     تبني سياسة "الكمون الاستراتيجي": والذي يتمثل في امتصاص الضربات المبدئية، واستيعاب عنصر المفاجأة من خلال رصد التحركات واستقراء نمط العمليات المعادية، وتجنب استدراجها في مواجهات غير متكافئة في هذه ا لفترة الحاسمة.

•     تنفيذ استراتيجية "إعادة التموضع": لتشتيت إحداثيات غرفة العمليات المشتركة ببغداد، وذلك من خلال عدة صيغ أبرزها: "الانتشار الكيفي"، وتجنب التجمعات، وشن حرب العصابات، وتنفيذ العمليات الخاصة، والمبادرة إلى "إعادة التشكيل".

•     إنشاء "غرفة عمليات سورية مشتركة": حيث تمثل عملية إغلاق غرفة العمليات المشتركة في الأردن "الموك" فرصة سانحة لإنشاء غرفة عمليات سورية تعزز مفاهيم الأمن الوطني، وتمنح فصائل المعارضة ما تحتاجه من شخصية اعتبارية في المعادلة الإقليمية، وذلك

من خلال تبني استراتيجيات "إدارة الأزمة"، واتباع وسائل احترافية لتبادل المعلومات، ورسم الخطط، وتقدير الموارد المطلوبة، وتوظيف مصادر القوة الكامنة بمختلف أبعادها، ووضع ذلك في إطار قالب تطبيقي يستوعب التحولات الإقليمية والدولية وآليات توظيفها في إفشال خطة التدخل الخارجي.

•    إعداد خطة للمحافظة على "المكتسبات الاستراتيجية": عبر تحديد الأولويات، وتنفيذ عمليات الإخلاء، وتنسيق خطط الكر والفر، وإعادة التشكل في إطار المحافظة على البؤر الاستراتيجية التي اكتسبتها المعارضة، ومن ثم التوسع في مناطق "الخاصرة الرخوة" التي لا تصل إليها ميليشيات المرتزقة ولا تطالها عمليات القصف الجوي.
                                  

وفقاً لما ورد أعلاه فإن التدخل الروسي في الملف السوري قد عجل فشل كافة المسارات السياسية الباحثة عن حلول ومخارج للأزمة السورية وأطال عمرها الزمني، الأمر الذي يوجب عموماً وعلى قوى المقاومة الوطنية كافة الاستمرار في بلورة برنامجها وآلياتها الوطنية القادرة على إدارة المرحلة بكل متطلباتها السياسية والتفاوضية والعسكرية.

(1) «مسرح العمليات للقوات الأرضية بدأ يتهيّأ لدخول قوات جديدة إلى جانب القوات السورية، وهي تشمل نحو 7 آلاف مقاتل موزَّعين على النحو الآتي: قوات الحيدريين العراقيين (ألفا مقاتل)، قوات الفاطميين الأفغان (ألفا مقاتل)، قوات من الحرس الثوري الإيراني (ألفا مقاتل) وقوات النخبة في «حزب الله» (ألف مقاتل)».

(2) انظر الخارطة بالجودة العالية عبر الرابط التالي: http://goo.gl/XiC9YL

التصنيف أوراق بحثية